الكتاب: مباحث في علوم القرآن المؤلف: صبحي الصالح الناشر: دار العلم للملايين الطبعة: الطبعة الرابعة والعشرون كانون الثاني/ يناير 2000 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح صبحي الصالح الكتاب: مباحث في علوم القرآن المؤلف: صبحي الصالح الناشر: دار العلم للملايين الطبعة: الطبعة الرابعة والعشرون كانون الثاني/ يناير 2000 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمات : مقدمة المؤلف في الطبعة الجديدة : ظهر هذا الكتاب -بطبعته الأولى- عام 1985، ووجد في القراء سلسلة من المحاضرات الجامعية تعالج أدق المباحث القرآنية بأسلوب علمي بسيط يرضي أذواق الطلاب والباحثين ولا يستعصي فهمه على أوساط المتعلمين، لم يكن عجبا أن تقبلته المكتبات الإسلامية والمعاهد العلمية: الدينية والأدبية، بقبول حسن، وأن عملت على نشره بدافع ديني، أو باعث علمي، أو استجابة لكلا الأمرين على سواء. وإني، بيني وبين نفسي، لأعرف أن الكتاب -في هاتيك الطبعة الأولى- لم يكن يزيد على دروس جامعية لممت شتاتها مما ألقيته خلال عامين على طلاب "شهادة علوم اللغة العربية" في كلية الآداب بجامعة دمشق، ولم يكن لي مطمع في هذه الدروس النظرية أوسع من أن تكون في أيدي أولئك الطلاب مفاتيح الدروس العلمية في التفسير. من أجل ذلك صرحت في تقديمي الموجز للطبعة الأولى بأني توخيت في عرض هذه "المباحث" السهولة والإيجاز، ولم أقصد إلى الاستقصاء والاستيعاب، كما صرحت بأني لم أقم بأكثر من محاولة لتبسيط العلوم الكثيرة المتعلقة بالقرآن, وتقريبها إلى أذهان الباحثين من طلاب الثقافة العربية الإسلامية. أما هذه الطبعة فيكاد كل بحث فيها يكون جديدًا، إن لم يكن فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ألحق به من زيادات ففي صوغ بعض عبارته بأسلوب منقح أكثر أناقة وإشراقا، فقد نهجت في تبويب هذه "المباحث" نهجا أرجو أن يجده القارئ طريفا مبتكرا، إذ جعلتها على أربعة أبواب تترادف هي وفصولها -على رسلها- ترادفا متسلسلا منطقيا، وتتدرج خلال تعاقبها كل مسألة قرآنية لا يسع جهلها أحدا من العرب والمسلمين. أفردت الباب الأول، بفصوله الثلاثة، للقرآن والوحي، فأسهبت في تفسير ظاهرة الوحي لأنها توطئة طبيعية بين يدي هذه الدراسة القرآنية، كما أسهبت في وصف تنجيم القرآن وأسراره، وأنا حريص الحرص كله على التفرقة بين الأعماق والسطحيات في تدرج التعاليم. وانتقلت في الباب الثاني إلى تاريخ القرآن، فوصفت -في فصوله الثلاثة- جمع القرآن وكتابته، ورددت هنا على كثير من شبهات المستشرقين و"المستعجمين". وناقشت موضوع الأحرف السبعة كما نطقت بها أصح الوثائق التاريخية، وأظنني في بحث هذه الأحرف أثرت قضايا إسلامية خطيرة جديرة بأن يطلع عليها علماء الإسلام ليبلوا خيرها وشرها، وأرجو ألا يكون فيها إلا خير. وحين عرضت، في أحد فصول هذا الباب، لما طرأ على المصاحف العثمانية من وجوه التجويد، والتحسين، أضفت بعض التحقيقات الجديدة التي انتهيت إليها في نشأة الرسم القرآني وتطوره، وربما كانت هذه الزيادات مفيدة للذين يشتغلون بتطور الخط العربي، ويعملون على إصلاح رسمه. ولم يكن البابان السابقان -على ما ألحق بهما من إضافات في هذه الطبعة- شديدي التفصيل لدى المقارنة بالباب الثالث الذي قصرته، بفصوله الثمانية، على "علوم الكتاب"، إذ إن هذا الباب وحده استغرق أكثر من نصف الكتاب, وكان لزاما أن يجيء الأمر على هذا النحو، لأني سميت كتابي "مباحث في علوم القرآن"، فلم يكن بد من أن تدور فصوله حول العلوم القرآنية الصميمة بروح في البحث جديد. وقد امتاز هذا الثالث بكثير من التحقيقات الطريفة، والزيادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الشافية الكافية، التي سيقدرها حق قدرها كل من تيسر له أن يقرأ الكتاب في أولى طبعاته: أهمها أني ألقيت فيه الضوء قويا ساطعا على معضلة الناسخ والمنسوخ، ولم أكن تعرضت لهذه المعضلة قط حين ظهر الكتاب لأول مرة. وإني أدعو العلماء في مختلف بقاع العالم الإسلامي إلى قراءة هذا البحث خاصة بإمعان شديد، لما أرجوه من الخير الكثير في وعيه وتفهم مراميه، أو لما أرحب به من نقد علمي مخلص لبعض ما جاء فيه. وأدعو العلماء كذلك إلى قراءة فصلي "أسباب النزول" و"المكي والمدني"، لأستوثق من صواب متجهي أو أتعرف على مواطن خطئي وسهوي, ولا سيما حين أتحدث في أولهما عن المبالغات أو المغالطات التي وقع فيها المصنفون في أسباب النزول؛ وأميل إلى إنكار "السببية" الحقيقية فيما لبعض الآيات من سبب عام؛ وأجنح إلى الجمع بين السبب التاريخي والسياق الأدبي, بالكشف عن التناسب بين الآيات والترابط بين السور، وتعدية الآيات إلى غير أسبابها، وتخطي الزمان والمكان في رسم "النماذج" الإنسانية متجاوزة كل سبب من أسباب النزول، وحين أتقصى، في الفصل الآخر، المراحل القرآنية الست التي تشمل -في كل من مكة والمدينة- ثلاث فترات: ابتدائية ومتوسطة وختامية، متميزة فيها كل فترة عن الأخرى بما أثارت من موضوعات، وما صورت من مشاهد، وما حكت من قصص، وما سرى في ألفاظها وفواصلها من التنغيم والإيقاع. وكان يسعني أن أسلك "التفسير" في عداد هذا الباب الثالث؛ إذ كانت مسائل هذا العلم- منذ عصر التدوين- أُمَّ المسائل القرآنية، إلا أنني آثرت إفراده بباب اعتناء به وإعظامًا لشأنه، وضممت إليه أقرب البحوث شبها به وهو "الإعجاز" فإني لا أكاد أتصور تفسيرا للقرآن جديرا أن يؤخذ به إلا أن يكون الجانب البياني بارزا فيه لاستجلاء مواطن السحر المعجز في كتاب الله. وأوشك أن أنادي بوجوب الاشتغال بالتفسير البياني في جميع الكليات الشرعية, العالية والثانوية، في العالم الإسلامي كله، وأخص بالذكر كليات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الأزهر الشريف ومعاهده في مصر، وكليتي الشريعة بجامعتي دمشق وبغداد، لأن الجانب الفقهي الذي تعنى به تلك الصروح العلمية، صانها الله من عبث الأيام، لا ينبغي أن يعدو على الجانب الأدبي، فما عرف التأدب بأدب القرآن إلا متمما للتفقه بأحكامه في جميع العصور الإسلامية، ولا معدل عن أن يظل كل منهما يكمل الآخر في عصرنا الأدبي الحديث!. ولعل هذا هو الذي حملني على أن أقصر الباب الرابع الأخير- في هذه الطبعة- على التفسير والإعجاز، فتتبعت نشأة التفسير وتطوره، وأوضحت كيف يتيسر تفسير القرآن بالقرآن، وربط هذا كله بمفهومنا الفني الحديث للإعجاز محاولا بث الحياة في مصطلحات البلاغة القديمة لدى تصور التشبيه والاستعارة والكناية وأنواع المجاز، ورددت سحر القرآن -بالمقام الأول- إلى إيقاعه الداخلي، وخصصت هذا الإيقاع بفصل جديد ربما وجده القارئ موجزًا وتمنى أن لو كان أكثر إسهابا، ولكنه في نظري كاف لتكوين فكرة صالحة عن استجماع القرآن كل مزايا النثر والشعر بأسلوب فذ عجاب!. والله أسأل أن يجعل كل حرف كتبته، وكل سطر سطرته، وكل فكرة دعوت إليها في هذه "المباحث" خالصة لوجهه الكريم. بيروت غرة جمادى الأولى 1385 صبحي الصالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 مقدمة الكتاب : حين أصدرت كتابي هذا في طبعته الأولى لم أزعم أني فصلت فيه القول في جميع العلوم التي لها بالقرآن صلة من قريب أو بعيد، فإن آفاق الدراسة القرآنية واسعة متشعبة ورحيبة، وإن ألوف المجلدات لا تفي بمعشار ما قيل وما يمكن أن يقال في هذه العلوم؛ إنما حاولت بهذا الكتاب تبسيط طائفة من أمهات المسائل القرآنية قبستها غالبا من آثار علمائنا الأبرار القدامى، غير متجاهل أطرف ما جاء به بعض الأتقياء من المعاصرين، وما أبرح في هذه الطبعة الرابعة -رغم الزيادات الكثيرة التي أضفتها- أقر بأني تناولت أمهات المسائل ولم أفصل القول في شيء منها تفصيلا. ولقد يكون عسيرا على الباحث العصري في شئون الإسلام والقرآن أن يرجع إلى الكتب القديمة ليعثر على شيء من طلبته في تأويل آية، أو تحرير فكرة, أو تحليل أدبي لمقطع من كتاب الله, لما في جل تلك الكتب من روايات متضاربة وآراء يكثر التعارض بينها في تأويل الآية الواحدة. ويخيل إلينا أن هذا التضارب -وإن كان حتما لا مفر منه في الشروح الإنسانية- هو في كتبنا أصل الداء وشر البلاء، فلابد لنا في كل آية منوجه نختاره وتفسير نرضاه, دون أن نجزم حقا بأننا وقفنا حتما على المراد من كلام الله. وما من شك في أن القرآن قد ملك على سلفنا الصالح مشاعرهم، واستأثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بعنايتهم التي لم يحط بمثلها كتاب من قبل ولا من بعد، وأنهم درسوا كل شيء يتعلق به حتى بددوا أوقاتههم أحيانا با نظنه لا يخدم أغراضه في شيء. وربما كان لزاما علينا -إزاء هذه العناية التي لا نعرف لها نظيرا- أن نقنع بالنتائج التي انتهى إليها سلفنا الصالحون، ونسلم بكل ما جاء في تصانيفهم تسليما. ولو اكتفينا بذلك لما وسعنا أن نكشف الناقب عن وجه القرآن الساحر الجذاب، فإن منهج الدراسة القديمة لا يكافئ ما ينبغي لكتاب الله من تفحص كل جانب من جوانبه التي قامت حولها المدارس والمذاهب والآراء. وأن نعرف للقدامى فضلهم الكبير، ونقل: إننا عالة عليهم في هذ البحوث، ما نزيد على التفقه بآثارهم، والاستضاءة بأنوارهم، لا يغضض من قيمة عرفاننا هذا ما نأخذه من مآخذ شكلية على منهجهم القديم: ذلك بأن طريقتهم من الوجهة التاريخية لا تضاهى دقة وعمقا وأمانة، ولكن المنهح التاريخي غلب على أبحاثهم القرآنية، فلم يفسح المجال دائما لتصوير الجانب الأدبي الفني الذي يسد الفجوات ويملأ الثغرات حين يكتم التاريخ بعض الحقائق الكبرى. إن في تعريفهم لعلوم القرآن لما يبرز المعنى التاريخي في منهجهم واضحا قويا: فهذه العلوم -في نظرهم- عبارة عن مجموعة من المسائل يبحث فيها عن أحوال القرآن الكريم من حيث نزوله وأداؤه، وكتابته وجمعه، وترتيبه في المصاحف، وتفسير ألفاظه، وبيان خصائصه، وأغراضه: وفي أبحاثهم التفصيلية لمفردات هذا التعريف يشتد أثر المنهج التاريخي بروزا ووضوحا، فقد وافونا في نزول القرآن بمراحله كلها ابتداء ووسطا وختامًا، وصوروا لنا طريقة نزوله تصويرا دقيقا في الليل والنهار، والحر والبرد، والسلم والحرب، وكادوا لا يغفلون جزئية من الجزئيات الصغيرة في هذا المجال، ولم يعيهم أن يتقصوا النوازل القرآنية المنجمة على حسب الوقائع الفردية والاجتماعية؛ ولم نجد نظائر لمباحثهم في تحري جمع القرآن وحفظه واستنساخه في المصاحف وتحسين رسمه، وفي الاستيثاق من متواتر أحرفه السبعة، ومتواتر قراءاته فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ثبت لديهم من وجوهها القطعية اليقينية، ودلت طريقتهم التي اتبعوها في تمحيص الروايات وتحقيق النصوص في هذا كله على أنهم كانوا أقدر الباحثين على التحاكم إلى التاريخ الصحيح. لكن انطوت مزيتهم الكبرى هذه على عيب شكلي بسيط: فإن استمساكهم بالمنهج التاريخي لم يترك لهم أحيانا الفرص الكافية لإيفاء الناحية الأدبية في القرآن ما هي خليقة به من العناية: جمعوا في "أسباب النزول" بين السبب التاريخي والسياق الأدبي في ثلة من المواطن ولكنهم لم يحسنوا دائمًا الجمع بين هذين الأمرين في سائر المواطن الأخرى، حتى بات الباحث يتساءل مرارا: لم وضعت هذه الآية إلى جنب تلك؟ ولم قفي هذا الموضوع بذاك رغم الفاصل الزمني البعيد؟ ثم لا يجد لديهم جوابا شافيا عن ذلك، على كثرة ما رووه في هذا وصنفوه. لذلك لن نكتفي في بحث "أسباب النزول" بعرض أنماط من مقاييسهم الدقيقة التي وضعوها لترجيح الروايات المنبئة عن تلك الأسباب، بل سنضم إلى ذلك ما وشت به عبارات مبثوثة هنا وهناك -في تفاسير المحققين منهم- من رعاية لنظم القرآن وحسن السياق، فنسهب في الاستشهاد ببعض المقاطع القرآنية التي أقصى فيها المفسرون فكرة الزمان لمراعاة التناسق الفني، حتى بدا كل نص في القرآن محكم البناء، متلاحم الأجزاء، آخذا بعضه بأعناق بعض؛ فبهدا نعرف عن كل آية: أمكملة لما قبلها أم مستقلة؟ وما وجه مناسبتها لما قبلها؟ إن جاءت على سبيل الاستئناف؟ وإننا لنحمد لعلمائنا الأبرار القدامى انتباههم إلى تعدية الآيات إلى غير أسبابها, وقولهم بتعميم الصياغة ولو وقعت الآيات على سبب خاص، غير أننا نرى أن عيونهم قد أخطأت أحيانا ما رسمه القرآن من "نماذج" إنسانية تتخطى الزمان والمكان، وتتجاوز المناسبات والأسباب، فعلينا إذن -خدمة للجانب الفني في القرآن- أن نملأ ذلك الفراغ بما نرجو أن يلهمنا الله التقاطه من الصور الشاخصة والمشاهد المتكررة في عالم الأحياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وما نحسب باحثا يرتاب في أن علماءنا القدامى قد محصوا ما يتعلق بالمكي والمدني كل التمحيص, وأن بعض المحققين منهم -في طائفة من أبحاثهم- مهدوا بين أيدينا القول بتقسيم النوازل المكية ثم المدنية إلى مراحل ثلاث: ابتدائية ومتوسطة وختامية، إلا أنهم شغلوا بمتابعة جزئيات تلك المراحل أكثر مما احتفلوا بإبراز ما انطوت عليه كل مرحلة من عقائد وأحكام, وما سرى في ألفاظها وفواصلها من إيقاع وما غلب على صورها ومشاهدها من أساليب، فسنحاول بدراستنا هذه أن نتقرى في القرآن نفسه كل هاتيك الملامح فيما سوف يجده القارئ بنفسه في فصل "المكي والمدني" ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الطالب الذي يود لو يطلع على "نماذج" من التحليل البياني لبعض السور القرآنية سوف يجد في هذا المبحث ذاته طلبته في عشرين سورة مفسرة موضوعاتها وأساليبها على حسب تعاقبها في النزول، واقعة موقعها التاريخي من مراحل التنزيل. وما نحسب أن التوفيق حالف طائفة من القدامى غلت أعجب الغلو في بحث "الناسخ والمنسوخ" فإنهم فيه أكثروا من الخلط بين المفهومات، والتبس على كثير منهم ما ينسبه الله إلى نفسه بما عسى أن ينسبه البشر إليه أو إلى أنفسهم فلم يفرقوا بين النسخ والتخصيص، وبين النسخ والبداء، وبين النسخ والإنساء، وبين نسخ الأحكام ونسخ الأخبار, ولسوف يحملنا غلوهم وخلطهم على أن نتعالى بكلام الله المتواتر المعجز عن أقاويلهم الغريبة التي تعارض منطق الأشياء. وإن إعجابنا الشديد بكثير مما تناول به سلفنا قضية الإعجاز لن يمنعنا من أن نجري في مفهوم هذه القضية شيئًا من التعديل، لنسمو بدرس الأسلوب القرآني من أفق المصطلحات البلاغية الضيق إلى أفق الفن الأدبي الرفيع: ففي بحث الإعجاز سنفهم الصور البيانية فهما موحيا فيه نداوة الفن وظل الأدب الظليل، وسنتلقى بمشاعرنا كلها موسيقى القرآن الداخلية التي فيها من النثر تعبيره الدقيق، وفيها من الشعر إيقاعه الرخي المنساب! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وبعد، فتلك مباحث في علوم القرآن لا ننمي إليها السعة والشمول، ولا ندعي لها التفصيل والاستيعاب، إنما هي طائفة من المسائل المهمة التي نرجو ألا يجهلها أو يتجاهلها عربي ينطق بالضاد أو مسلم يهتف بهذا الدين الحنيف، وها نحن أولاء نتركها بين أيدي القراء سائلين الله أن يشوقهم بها إلى تلاوة كتابه، فتدبر أحكامه، فالعمل بتعاليمه، لعل التاريخ يعيد نفسه، ولعلنا نرجع بهذا الكتاب كما كنا خير أمة أخرجت للناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الباب الأول: القرآن والوحي الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها ... الباب الأول: القرآن الوحي الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها لقد اختار الله لوحيه أسماء جديدة مخالفة لما سمى العرب به كلامهم جملة وتفصيلا1. وروعيت في تلك الألقاب أسرار التسمية وموارد الاشتقاق. واشتهر منها لقبان: الكتاب والقرآن. وفي تسميته بالكتاب إشارة إلى جمعه في السطور، لأن الكتابة جمع للحروف ورسم للألفاظ؛ كما أن في تسميته بالقرآن إيماءة إلى حفظه في الصدور، لأن القرآن مصدر القراءة، وفي القراءة استذكار، فهذا الوحي العربي المبين قد كتب له من العناية به ما كفل صيانته في حرز حريز، وما جعله بنجوة من خوض العابثين وتلاعب المحرفين: إذ لم ينقل كجميع الكتب بالكتابة وحدها ولا بالحفظ وحده، بل وافقت كتابته تواتر إسناده، ووافق إسناده المتواتر نقل الأمين الدقيق. ومع أن كلتا التسميتين ترتد إلى أصل آرامي، إذ وردت الكتابة في الآرامية بمعنى رسم الحروف، وجاءت القراءة فيها بمعنى التلاوة، بدت تسمية هذ الوحي بالكتاب وبالقرآن طبيعية جدًا، لامتياز الوحي المحمدي في مراحله كلها بهذه العناية المزدوجة في صيانة نصوصه وحفظ تعاليمه ومنقوشة في السطور، مجموعة من الصدور.   1 هكذا لاحظ الجاحظ: ذكره السيوطي في الإتقان 1/ 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 على أن الذي غلب استعماله من بين هاتين التسميتين هو لفظ القرآن بالمدلول المصدري, حتى بات علما شخصيا لهذا الكتاب الكريم. فكان جديرًا بنا -قبل أن نخوض في ظاهرة الوحي وتقصي هذه المباحث القرآنية- أن نبادر إلى معرفة الأصل الاشتقاقي للفظ القرآن الذي يحكي ألفاظا أخر تماثله في اللغات السامية، وإلى الوقوف على المدلولات اللغوية لأهم الأسماء الأخرى التي اختيرت للقرآن وأطلقت عليه، سواء أتشابهت أم لم تتشابه بين الساميات والعربية. لقد ذهب العلماء في لفظ "القرآن" مذاهب، فهو عند بعضهم مهموز وعند بعضهم الآخر غير مهموز. فممن رأى أنه بغير همز الشافعي والفراء1. والأشعري2. أ- يقول الشافعي: إن لفظ القرآن المعرف بأن ليس مشتقا ولا مهموزًا، بل ارتجل ووضع علما على الكلام المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم. فالقرآن عند الشافعي: "لم يؤخذ من قرأت، ولو أخذت من قرأت لكان كل ما قرئ قرانًا، ولكنه اسم للقرآن, مثل التوراة والإنجيل"3. ب- ويقول الفراء: إنه مشتق من القرائن, جمع قرينة، لأن آياته يشبه بعضها بعضا فكأن بعضها قرينة على بعض، وواضح أن النون في "قرائن" أصلية4. جـ- يقول الأشعري وأقوام يتابعونه على رأيه: إنه مشتق من "قرن الشيء بالشيء" إذا ضمه إليه، لأن السور والآيات تقرن فيه ويضم بعضها   1 الفراء هو أحد نحاة الكوفة وأئمتها المشهورين في اللغة, واسمه يحيى بن زياد الديلمي، ويكنى أبا زكريا، له كتاب في معاني القرآن، توفي سنة 207 "انظر طبقات الزبيدي 143 إلى 146 ووفيات الأعيان 2/ 228". 2 هو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي تنسب إليه الطائفة الأشعرية، وكتبه مشهورة في الرد على المتبتدعة والجهمية والخوارج والرافضة، توفي سنة 324 "انظر وفيات الأعيان 1/ 326". 3 تاريخ بغداد للخطيب 2/ 62. 4 الإتقان 1/ 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إلى بعض1. والقول بعدم الهمز في هذ الآراء الثلاثة كاف للحكم ببعدها عن قواعد الاشتقاق وموارد اللغة. وممن رأى أن لفظ "القرآن" مهموز: الزجاج2 واللحياني3 وجماعة. أ- يقول الزجاج: إن لفظ "القرآن" مهموز على وزن فعلان، مشتق من القرء بمعنى الجمع، ومنه قرأ الماء في الحوض إذا جمعه؛ لأنه جمع ثمرات الكتب السابقة4. ب- ويقول اللحياني: إنه مصدر مهموز بوزن الغفران، مشتق من قرأ بمعنى تلا، سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر5. والأخير أقوى الآراء وأرجحها، فالقرآن في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 6. والعرب في الجاهلية حين عرفوا لفظ "قرأ" استخدمواه بمعنى غير معنى التلاوة، فكانوا يقولون: هذه الناقة لم تقرأ سلى قط, يقصدون أنها لم تحمل ملقوحا ولم تلد ولدًا، ومنه قول عمرو بن كلثوم: هجان اللون لم تقرأ جنينا7 أما قرأ بمعنى "تلا" فقد أخذها العرب من أصل آرامي وتداولوها،   1 البرهان 1/ 278. 2 الزجاج: هو إبراهيم بن السري، ويكنى أبا إسحاق، صاحب كتاب "معاني القرآن" توفي سنة 311 "انظر إنباه الرواة 1/ 163". 3 اللحياني: هو أبو الحسن علي بن حازم، اللغوي المشهور المتوفى سنة 215، وقد فاد ابن سيده من كتبه في تأليف "المخصص". 4 البرهان 1/ 278. 5 الإتقان 1/ 87. 6 ويرى بعض المفسرين أن منه أيضا قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي: القراءة. 7 لسان العرب 1/ 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فمن المعروف كما يقول برجشتراسر G.Bergstraesser أن اللغات الآرامية والحبشية والفارسية تركت في العربية آثارا لا تنكر، لأنها كانت لغات الأقوام المتمدينة والمجاورة للعرب في القرون السابقة للهجرة. وما لنا نستغرب هذا ولا نصدقه ونحن نعلم أن لهجات الآرمية المختلفة كانت تسود كل بلاد فلسطين وسورية وبين النهرين وبعض العراق؟ ونعلم أيضا أن جوار العرب لليهود الذين كانت لغتهم الدينية الآرمية عجل في انتشار كثير من الألفاظ الدينية الآرامية؟ وقد أشار إلى هذا المستشرق كرنكو Krenkow في بحثه عن لفظ "كتاب" في "دائرة المعارف الإسلامية"1، كما نقل المستشرق بلاشير Blachere طائفة من الكلمات الدينية الآرامية والسريانية والعبرية مؤكدا استعمال العرب لها من أثر الجوار مع اليهود وسواهم من أصحاب الملل2. ونذكر من تلك الألفاظ "قرأ، كتب، كتاب، تفسير, تلميذ، فرقان، قيوم، زنديق". ومهما يكن من شيء، فإن تداول العرب قبل الإسلام للفظ "قرأ" الآرامي الأصل بمعنى "تلا" كان كافيا لتعريبه واستعمال الإسلام له في تسمية كتابه الكريم. ومن أسماء القرآن "الفرقان". قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 3. ولفظ الفرقان في الأصل آرامي، تفيد مادته معنى التفرقة، كأن في التسمية إشعارا بتفرقة هذا الكتاب بين الحق والباطل. ومنها الذكر {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} 4 "وهو عربي خالص،   1 Krenkow , Eneyelopedie de l'Islam "art.Kitab" II, 1104. 2 Blachere, Le coran, Introduction,5. 3 سورة الفرقان 1. 4 سورة الأنبياء 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ومعناه الشرف، ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} 1. ومنها التنزيل {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2، وهو عربي خالص كذلك يشعر بأنه وحي يوحى، ويتنزل على قلب الرسول الكريم. وهذه الأسماء هي الشائعة المشهورة، غير أن بعضهم بالغ في تعداد ألقاب القرآن، حتى ذكر منها الذركشي خمسة وخمسين نقلا عن القاضي شيذلة3، ولا ريب أنه خلط فيها بين التسمية والوصف، فمن أسماء القرآن مثلا "العلي" لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} 4، ومنها "المجيد" لقوله تعالى: {ربَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} 5، ومنها "العزيز" لقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز} 6، ومنها العربي، لقوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 7، وقد بلغ بعض العلماء8 بأسماء القرآن نيفا وتسعين. والقرآن -بأي اسم سميته- هو الكلام المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته، وتعريف القرآن على هذا الوجه متفق عليه بين الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية.   1 سورة الأنبياء 10. 2 سورة الشعراء 192. 3 شيذلة هو الفقيه الشافعي، أبو المعالي, عزيزي "بفتح العين" بن عبد الله، مؤلف "البرهان في مشكلات القرآن" توفي سنة 494 "ترجمته في وفيات الأعيان" 1/ 318 وشذارت الذهب 3/ 401". 4 سورة الزخرف4 "وانظر البرهان 1/ 274". 5 سورة البروج 21 "وانظر البرهان 1/ 276". 6 سورة فصلت 41 "وانظر البرهان 1/ 276". 7 سورة الزمر 28 "وانظر البرهان 1/ 275". 8 هو الحرالي، كما في البرهان 1/ 273. وينسب الحرالي إلى قرية من أعمال مرسية تسمى حرالة "بالراء المضعفة"، وهو علي بن أحمد بن الحسن التجيبي، ويكنى أبا الحسن توفي سنة 647 "النجوم الزاهرة 6/ 317 وشذرات الذهب 5/ 189". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الفصل الثاني: ظاهرة الوحي لم يكن محمد بدعا من المرسلين ولا كان أول نبي خاطب الناس باسم الوحي، وحدثهم بحديث السماء، فمن لدن نوح تتابع أفراد مصطفون أخيار ينطقون عن الله ولا ينطقون عن الهوى، ولم يكن الوحي الذي أيدهم به الله مخالفا الوحي الذي أيد به محمدًا، بل كانت ظاهرة الوحي متماثلة عند الجميع، لأن مصدرها واحد، وغايتها واحدة1، كما قال الله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 2. وواضح أن الأنبياء الذين صرحت الآية بأسمائهم إنما خصوا لأنهم كانوا أشهر أنبياء بني إسرائيل, وكانت أخبارهم مشهورة بين أهل الكتاب المجاورين لرسول الله عليه الصلاة والسلام في الحجاز وما حوله3. لذلك حرص القرآن على تسمية ما نزل على قلب محمد وحيا، ليشابه مدلول الوحي بين جميع النبيين تشابه اللفظ الدال عليه، فقال:   1 تفسير الطبري 6/ 20. 2 النساء 63، 164. 3 الوحي المحمدي 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1 وقال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 2، وقال: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} 3؛ ثم أنكر على العقلاء توهمهم، أن في الوحي عجبا عجابا فقال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} 4.هل كان للمنطق أن يقضي بأن اشتراك الناس في البشرية يمنع اختصاص الله واحدا منهم بما شاء من العلم والحكمة والإيمان؟ وهل كان للمنطق أن يعد هذا الاختصاص أعجوبة حتى تفكه الناس باستغراب ما فيه من نكر، ورأى فيه أهل الكفر ما يشبه عمل السحر؟ إن الوحي الذي لا ينبيغ أن يتعجب منه لا بد أن يكون إدراكه سهلا ميسرا خاليا من التعقيد، فما حقيقة هذا الوحي في نظر الدين؟ وما مدى التشابه بين ظاهرته عند محمد وعند سائر النبيين؟ حين سمى الدين هذا الضرب من الإعلام الخفي السريع "وحيا" لم يبتعد عن المعنى اللغوي الأصلي لمادة الوحي والإيحاء: فمنه الإلهام الفطري للإنسان، كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 5 وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} 6 ومنه الإلهام الغريزي للحيوان كالذي في قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} 7،   1 أوائل سورة النجم. 2 يونس، الآية 10. 3 الأعراف 7. 4 يونس 2. وقارن بتفسير المنار 11/ 143. 5 القصص 7. 6 المائدة 111. 7 النحل 68. وقارن بأساس البلاغة 2/ 496. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 سومنه الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء، كما في قوله عن زكرياء: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 1، والمعروف في تفسيرها أن زكريا أشار إليهم إشارة وحية سريعة ولم يتكلم. ومنه الإيماء بالجوارح، وعليه قال الشاعر: نظرت إليها نظرة فتحيرت ... دقائق فكري في بديع صفاتها فأوحى إليها الطرف أني أحبها ... فأثر ذاك الوحي في وجناتها2 وعبر القرآن بالوحي عن وسواس الشيطان وتزيينه خواطر الشر للإنسان، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 3، وقال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 4، مثلما عبر بالوحي أيضا عما يلقيه الله إلى الملائكة من أمره ليفعلوه من فورهم، كقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 5. أما تعبيره بالوحي عما يكلف الله الملك حمله إلى النبي من آيات كتبه المنزلة فهو شديد الصلة بتعبيره بالوحي إلى النبي نفسه، وما بين مدلولي التعبير من اختلاف لا يعدو الوظيفة التي يتحملها ملك الوحي بالنقل الأمين، ويتحملها النبي بالوعي والحفظ والتبليغ. من ذلك قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 6: إذ المراد أن الله أوحى إلى عبده جبريل ملك الوحي الأمين، ما أوحاه جبريل إلى محمد خاتم النبيين، ومدلول الوحي إذن في هذه الآية كمدلول التنزيل الصريح في الآية الأخرى في قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 7.   1 مريم 11. 2 قارن بمفردات الراغب الأصفهاني. 3 الأنعام 112. 4 الأنعام 121. 5 الأنفال 12. 6 النجم 10. 7 الشعراء 192- 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بيد أن القرآن -لدى مراعاته المعنى اللغوي الأصلي لمادة الإيحاء حين سمى وسيلته في الإعلام الخفي السريع "وحيا"- لم يقصر ظاهرة هذا الاتصال الغيبي الحفي بين الله وأصفايئه على تنزيل الكتب السماوية بواسطة ملك الوحين بل أشار في آية واحدة إلى صورة ثلاث من صور الوحي: إحداها إلقاء المعنى في قلب النبي أو نفثه في روعه، والثانية تكليم النبي من وراء حجاب كما نادى الله موسى من وراء الشجرة وسمع نداءه؛ والثالثة هي التي متى أطلقت انصرفت إلى ما يفهمه المتدين عادة من لفظة "الإيحاء" حين يلقي ملك الوحي المرسل من الله إلى نبي من الأنبياء ما كلف إلقاءه إليه سواء أنزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية؛ فبهذا نطقت الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 1. كانت إذن لهذا الإعلام الخفي السريع المسمى "بالوحي" صورة خاصة تختلف في نظر القرآن عما قد يشبهها من مظاهر الخفاء والسرعة في ألفاظ الإعلام المستعملة قديما وحديثا. وقد يكون مؤسفا لنا -بعد أن استهوتنا الفكرة القرآنية التي تؤكد اتحاد مفهوم الوحي عند الأنبياء جميعا- أن نقع في قاموس الكتاب المقدس2 على تفسير للوحي يختلف اختلافا جوهريا عن تفسيره الجامع الموحد، إذ الوحي في هذا القاموس "هو حلول روح الله في روح الكتاب الملهمين لإطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب الوحي شيئا من شخصياتهم، فلكل منهم نمطه في التأليف وأسلوبه في التعبير" وإنما أسفنا لاختلاف وجهتي النظر ههنا، لأن الوحي -بتعريفه القاموسي هذا- أضحى أبعد ما يكون عن الصعيد الديني المتصل بالله، الآخذ عن الله، وأقرب ما يكون إلى مدلول الكشف الذي   1 الشورى 51. 2 هو القاموس الذي وضعه بالعربية الدكتور جورج بوست. وطبع في المطبعة الأمريكية ببيروت سنة 1894. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 عرفت البشرية ألوانا صافية منه لدى الشعراء الملهمين والمتصوفين العارفين: وألوانا عكرة كدرة لدى الكهان والعرافين، وأكثرهم من الدجاجلة الكذابين1. نرى لزاما علينا -خشية أن نقع في اللبس من أثر استعمال الكلمات في غير مواضعها- أن نقصي عن ظاهرة الوحي لفظ الكشف الذي كنا فيه، وما يشبهه من ألفاظ الإلهام والحدس الباطني والشعور الداخلي أو "اللاشعور" التي يتغنى بها شبابنا المثقفون محاكاة للأعاجم والمستعجمين، ويحاولون بها أو ببعضها أن يفسروا بسذاجة عجيبة ظاهرة الوحي عند النبيين وعند محمد خاتم النبيين. ما أيسر أن نثبت مدلول الكشف لكل من يدعيه، ثم ننكر عليه مدلول الوحي ولو ظل يدعيه. إنه يخلو من الدلالة النفسية الواضحة المحددة؛ لأنه غالبا ما يكون ثمرة من ثمار الكد والجهد أو أثرا من آثار الرياضة الروحية أو نتيجة للتفكير الطويل، فلا ينشئ في النفس يقينا كاملا ولا شبه كامل، بل يظل أمرا شخصيا ذاتيا لا يتلقى الحقيقة من مصدر أعلى وأسمى. إن كشف العارفين كإلهام الواصلين وجدان تعرفه النفس معرفة دون اليقين1، وتنساق إليه من غير شعور بمصدره الحقيقي، فيدخل فيه ذوق المتذوقين ووجد المتواجدين، بل تدخل فيه أيضا أسطورة آلهة الشعر عند اليونان وأسطورة شياطين الشعر عند العرب الجاهليين!. ولا غرو, فإن الكشف كالإلهام من ألفاظ علم النفس المحدثة التي ما تبرح حتى عند القائلين بها موغلة في الإبهام، لاحتلالها "حاشية اللاشعور"2، وهي حاشية -كما يوحي اسمها- أبعد ما تكون عن حالات الحس والشعور:   1 لذلك لا نتفق مع الإمام محمد عبده حين جعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس في "رسالة التوحيد، ص108 حول إمكان الوحي". 2 الظاهرة القرآنية 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فإذا قيل في إنسان: إنه من أولي الكشف والإلهام لم يسم به ذلك إلى درجة النبوة والوحي، لأن في كل وحي وعيا1، وفي كل نبوة شعورا بمعناها وإدراكا لمغزاها، وإنما يرمى "باللاوعي" من فقد الوعي، ويوصم "باللاشعور" من حرم الشعور! وطبيعة الحقائق الدينية والأخبار الغيبية في ظاهرة الوحي تأبى الخضوع لهذه الأساليب "اللاشعورية" التي تستشف حجاب المجهول بالفراسة الذكية الخفية والحدس الباطني السريع. مثلما تأبى الخضوع لمقاييس الحس الظاهرة التي تخترق حرمات المجهول بالأدلة المنطقية والاستنباط المتروي البطيء2، وإنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين: ذات متكلمة آمرة معطية، وذات مخاطبة مأمورة متلقية. وعلى هذا النمط رسم النبي الكريم فيما صح من حديثه طريقة نزول الوحي على قلبه، فقال: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي, فيفصم عني 3 وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" 4، فكشف النقاب صراحة عن صورتين من الوحي: إحداهما عن طريق إلقاء القول الثقيل على قلبه، ولديه يسمع صوتا متعاقبا متداركا كصوت الجرس المصلصل المجلجل5؛ والثانية عن طريق تمثل جبريل له بصورة إنسان يشاكله في المظهر ولا ينافره، ويطمئنه بالقول ولا يرعبه، وما من شك في أن الصورة الأولى أشد وطأ وأثقل قولا، كما قال الله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 6 حتى كان يصحب الوحي فيها رشح الجبين عرقا، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين: "ولقد رأيته   1 نفسه 139. 2 قارن بالنبأ العظيم 34. 3 يفصم: ينكشف وينجلي. 4 صحيح البخاري، بدء الوحي 1/ 6 والحديث من رواية الحارث بن هشام. 5 انظر في هذا رأي الخطابي الذي ذكره السيوطي في الإتقان 1/ 71. 6 المزمل 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا"1، بل كان وطأة الوحي في هذ الصورة تبلغ أحيانا من الشدة والثقل حدا يجعل "راحلته تبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها"2. أما الصورة الثانية فهي أخف وطأ وألطف وقعا، فلا أصوات تجلجل, ولا جبين يرشح، بل تشابه شكلي بين الملقي والمتلقي، ييسر الأمر في الوقت نفسه على ناقل الوحي الأميل وعلى النبي المصطفى الكريم. وفي كلتا الصورتين يحرص النبي صلوات الله عليه على وعي ما أوحي إليه، إذ قال في الأولى: "فيفصم عني وقد وعيت ما قال"، وفي الثانية "فيكلمني فأعي ما يقول"، فأثبت لنفسه الوعي الكامل لحالته قبل الوحي، وحالته بعد الوحي، وحالته أثناء الوحي، سواء أخفت أم اشتدت وطأة النازل القرآني عليه. وبهذا الوعي الكامل لم يخلط عليه السلام مرة واحدة -طلية العصر القرآني الذي يضم كل مراحل التنزيل -بين شخصيته الإنسانية المأمورة المتلقية وشخصية الوحي الآمرة المتعالية، فهو واع أنه إنسان ضعيف بين يدي الله، يخشى أن يحول الله بينه وبين قلبه، ويبتهل إلى ربه في دعائه المأثور: "اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"؛ بل كان أول عهده بنزول الوحي -مخافة ضياع بعض الآيات من صدره- يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، ويحرك به لسانه وشفتيه ليستذكره ولا ينساه، ويحرص على متابعة جبريل في كل حرف يدارسه إياه3، حتى يسر الله عليه حفظه بتفريقه وتنجيمه4، وأمره بالاطمئنان إلى وعده فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا   1 صحيح البخاري 1/ 71. 2 زاد المعاد "لابن القيم" 1/ 25. 3 قارن بصحيح البخاري 6/ 163 كتاب التفسير و 9/ 153 كتاب التوحيد. 4 النبأ العظيم 25- 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1، ونهاه عن هذه العجلة التي لا مسوغ لها فقال: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 2. ومن يتل الآيات القرآنية التي تصور رسول الله إنسانا ضعيفا بين يدي الله, يستمد منه العون، ويستهديه ويستغفره، ويصدع بما يأمره به وأحيانا يتلقى العتاب الشديد, يجد في أعماق قلبه من الفيض الوجداني ما يحمله على الاقتناع بالفرق الذي لا يتناهى بين صفة الخالق وصفة المخلوق، وبين ذات الخالق وذات المخلوق، وبين أسلوب الخالق وأسلوب المخلوق. إن صورة محمد صلى الله عليه وسلم، في القرآن هي صورة العبد المطيع، الذي يخاف عذاب ربه إن عصاه، فيلتزم حدوده، ويرجو رحمته، ويعترف بعجزه المطلق عن تبديل حرف من كتاب الله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3. وفي معنى هذه الآيات المفرقة بين صفة الخالق وصفة المخلوق، ما يتكرر في القرآن كثيرا من التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم، بشر مثل سائر البشر، ليس عليه إلا البلاغ، ولا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب، ولا يزعم لنفسه صفة ملكية تغاير صفة الإنسان وخلقه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 4، {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} 5،   1 القيامة 16-19. 2 طه 114. 3 يونس 15-16. 4 الكهف 110. 5 الأعراف 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 1. ولتصدير الآيات السابقة بعبارة "قل" مغزى لطيف يفهمه العربي بالسليقة، وهو توجيه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليمه ما ينبغي أن يقول, فهو لا ينطق عن هواه، بل يتبع ما يوحى إليه. ولذلك تكررت عبارة "قل" أكثر من ثلاثمائة مرة في القرآن, ليكون القارئ على ذكر من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، لا دخل له في الوحي، فلا يصوغه بلفظه, ولا يلقيه بكلامه، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء، فهو مخاطب لا متكلم, حاك ما يسمعه، لا معبر عن شي يجول في نفسه. ويزداد الفرق وضوحا بين صفة الله المتكلم منزل الوحي وبين صفة رسوله المخاطب متلقي الوحي, في الآيات التي يعتب الله فيها على نبيه عتابا خفيفا أو شديدا، أو يعلمه فيها بعفوه عنه وغفرانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر: فمن العتاب الخفيف الذي يشوبه عفو الله عن رسوله خطابه له في شأن من أذن لهم بالقعود عن القتال في غزوة تبوك: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 2. ومن المعلوم أن العفو لا يكون إلا عن ذنب، كما أن المغفرة لا تكون إلا بعد ذنب، وقد صرحت الآية بهذا في سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 3. فمن العجيب -بعد هذا القول القرآني الصريح- أن يحاول بعض المفسرين -كالرازي- أن يثبتوا أن لفظ العفو لا يوحي بالذنب, وأن الذي عاتب الله به نبيه إنما كان ارتكابه خلاف الأولى، "وهو -كما يقول السيد رشيد رضا- جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية, وما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته   1 الأنعام 50. 2 التوبة 43. 3 الفتح 1-2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الله تعالى في كتابه تمسكا باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له ولمدلول اللغة أيضا"1. وأما العتاب الشديد فقد نطقت به آيات الفداء في سورة الأنفال، ووجهته عنيفا صادعا، منذرا متوعدا، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور صحابته الذين أشاروا عليه بأخذ الفداء من أسرى بدر، ومؤثرين عرض الحياة الفاني على نصرة الدين، في أول معركة في الإسلام لم يثخنوا قبلها في الأرض، ولم يعظم بعد شأنهم فيها. ولذلك صيغ العتاب صياغة عامة تشعر بتقرير مبدأ في صفات الأنبياء والرسل، فلم يوجه الله خطابه إلى رسوله رأسا، بل استهل الآية بكون منفي تلته عبارة تستعظم هذا الفداء يصدر عن نبي من الأنبياء: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. ويقرب من هذا العتاب الذي لم يوجهه الله -على شدته- رأسا إلى نبيه، وإنما افتتحه بضمير الغيبة يحكي به المشهد ويصور به الواقع, ما أدب الله به محمدا في قصة الأعمى عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه "عندما جاءه وهو يدعو أكابر رجال قريش إلى الإسلام وقد لاح له بارقة رجاء في إيمانهم يتحدثون معه، فإنه صلى الله عليه وسلم علم أن إقباله عليهم ينفرهم ويقطع عليه طريق دعوتهم، وكان يرجو بإيمانهم انتشار الإسلام في جميع العرب، فتولى عنه وتلهى بهذ الفكرة, ولم يكن يعلم قبل إعلام الله تعالى أن سنته في البشر أن يكون أول من يتبع الأنبياء والمصلحين فقراء الأمم وأوساطها، دون أكابر مجرميها المترفين ورؤسائها"3. ففي هذا أنزل الله هذه الآيات من سورة الأعمى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى   1 تفسير المنار 10/ 465. 2 الأنفال, 68 وانظر في هذا على سبيل المثال تفسير سورة الأنفال لمصطفى زيد ص155-159 وتفسير المنار 10/ 83-100. 3 تفسير المنار 10/ 473-474 "وانظر رأي الدكتور محمد عبد الله دراز في جميع هذه التقريعات المؤلمة السابقة في كتابه "النبأ العظيم" ص17-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} 1. وأشد من هذا كله ما يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، من الإنذار والتهديد، في مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} 2. وهذا الإنذار يبلغ القمة، فيستصغر بعده كل تهديد وكل وعيد، حين يقول الله: {لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ 3، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 4. وفي تفسير هذه الآيات يقول الزمخشري: "والمعنى: لو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام. فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول. وهو أن يؤخذ بيده وتضرب عنقه"5. من خلال هذه الآيات المتوعدة المنذرة, وتلك العاتبة المؤدبة، يبدو لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلوقا ضعيفا، بين يدي ربه ذي القدرة القاهرة، والقوة الكبرى, والإرادة التي لا معقب لها, ويبدو لنا أيضا كامل الوعي للفرق بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة؛ وبوعيه الكامل هذا كان عليه السلام يفرق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصة التي كانت يعبر عنها بإلهام من الله: فما يجول في نفسه من خواطر وأفكار كان ذا صفة إنسانية محضة لا يمكن أن تختلط بالكلام الرباني. لذلك نهى عليه السلام أول العهد   1 سورة الأعمى 1-11. 2 الإسراء 74-75. 3 الوتين: نياط القلب، وهو حبل الوريد، إذا قطع مات صاحبه. 4 الحاقة 44-47. 5 الكشاف 4/ 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بنزول الوحي عن تدوين شيء سوى القرآن1 لكي يحفظ للقرآن صفته الربانية، ويحول دون اختلاطه بشيء ليست له هذه الصفة القدسية، بينما كان عند نزول الوحي -ولو آية أو بعض آية- يدعو أحد الكتبة فورًا ليدون ما نزل من القرآن2. ولعل هذا كله لا يبدو في نظر بعض الباحثين شيئا مذكورًا تلقاء ما عرفناه من النهي الصريح عن محاولة النبي تدريب ذاكرته، وأمام ذاك التجاهل القاهر لاختياره وإرادته، إذ لا يسعنا إزاء هذه الحقائق إلا أن نعترف باستقلال ظاهرة الوحي عن ذات النبي استقلالا مطقا، وتفردها عن العوامل النفسية تفردا كاملا، فالنبي لا يملك حتى حق استخدام ذاكرته في حفظ القرآن بل الله يتكفل بتحفيظه إياه، وقانون التذكر نفسه بطل الآن سحره وعفا أثره تجاه إرادة الله3. فكيف لا يعي النبي -بعد هذا كله- الفرق العظيم بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة وهو يرى بنفسه أنه لا يملك من أمر نفسه شيئا؟ ومع أن أقوال النبي أحاديث "توقيفية" تلقى من الوحي مضمونها، جرد الكتبة بأمره كتاب الله منها مهما تبد شديدة الصلة بالآيات التي تفسرها، لأن النبي صاغها بأسلوبه، وبينها بلفظه، وما كان لأسلوبه ولا لأسلوب أحد أن يختلط بأسلوب القرآن المعجز المبين. حتى الأحاديث القدسية -رغم اعتراف العلماء بأن معناها لله أو بأنه، كما يقول أكثرهم، منزل من عند الله- نحيت وفصلت عن القرآن, لما لوحظ من حرص النبي على عدم خلطها بكتاب الله بما كان يستهل به مطالعها من عبارات نبوية يشعر بها سامعيه أنه يصوغ بأسلوبه البشري معنى   1 في صحيح مسلم 8/ 229 عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وقارن بكتابنا: "علوم الحديث ومصطلحه" ص8. 2 البرهان 1/ 232. 3 قارن بالظاهرة القرآنية 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أنزله الله، وشتان بين أسلوب محمد ولو كان أفصح البشر وأسلوب منزل القرآن صاحب القوى والقدر! فكان لزاما على العلماء أن يبالغوا في الحيطة والحذر، ويوجبوا على كل مستشهد بحديث قدسي أن يستهل العبارة بقوله مثلا: "قال رسول الله فيما يرويه عن ربه، أو قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله، أو قال تعالى في "الحديث القدسي"، بهذا التقييد والتحديد. ولسنا الآن بسبيل الحديث عن إعجاز القرآن, فقد عقدنا له فصلا في أواخر هذا الكتاب، وإنما يعنينا التنبيه على وعي النبي نفسه الفرق الذي لا يتناهى بين حديثه وكلام الله. ولئن كانت هذه التفرقة ملحوظة حتى في الأحاديث التوقيفية، والقدسية ليكونن إداركها في آراء الرسول الدنيوية أولى وأجدر، وأوضح وأيسر. ولن نذهب في المقارنة بعيدًا، فإن حادثة "تأبير النخل" أو تلقيحه قريب منا، مشهورة لدينا: مر عليه الصلاة والسلام بقوم على رءوس النخل: فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ " , فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأثنى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئا". فلما أخبرا بقول الرسول تركوا تلقيح النخل، فقال النبي: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل". ويلاحظ أن النووي سلك هذا الحديث في صحيح مسلم في باب "وجوب امتثال ما قاله عليه الصلاة والسلام شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي"1. ومعه رواية أخرى تنتهي بقوله عليه الصلاة والسلام: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" 2. فميز النبي تمييزا قاطعا بين تجربته الإنسانية الدنيوية الظنية التي يحتملها احتمالا ويرجو ألا يؤاخذه صحابته بها، وبين تجربته النبوية الدينية القطعية التي يأمرهم بالأخذ بها كلما   1 انظر صحيح مسلم، بشرح النووي 13/ 116. 2 صحيح مسلم 13, 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 حدثهم عن الله، فهو لا يفتري مثل هذا الحديث من تلقاء نفسه لأنه لا يكذب على الله. وقد أوضح النبي هذه الحقيقة في طائفة من أقواله وأعماله، ففي حديث له يقول: "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب. ولكن ما قلت لكم "قال الله" فلن أكذب على الله" 1، وأكد في حديث آخر أنه لا يطلع على أفئدة المتخاصمين، ولا يعرف ما يجول في نفس من يحتكم إليه ولو كان يعاصره ويساكنه في بلده أو كان أقرب الناس إليه فقال: "إنا أنا بشر, وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار" 2, ومن المعروف أن بني أبيرق عمدوا إلى التضليل في قضية من قضايا السرقة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فدافعوا عن السارق حتى اقتنع الرسول ببراءته ولام قتادة بن النعمان على اتهامه الأبرياء فقال: "يا قتادة، عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير تثبت وبينة"! ثم لم يلبث أن نزل قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 3، فعلم النبي أن بني أبيرق خانوه ولجئوا إلى التضليل، فاستغفر الله مما وجهه إلى قتادة من العتاب والتوبيخ4. وإذا عددنا رسول الله شاهدنا الوحيد على وعيه ظاهرة الوحي إليه، وعددنا اقتناعه الشخصي وسيلتنا الوحيدة لفصل ذاته عن ظاهرة الوحي، فها هو ذا النبي عليه الصلاة والسلام مقتنعا -من خلال ما سبق- بأن التنزيل القرآني مصحوب بانمحاء إرادته الشخصية، وانسلاخه من الطبيعة البشرية، حتى ما بقي له عليه الصلاة والسلام اختيار فيما ينزل إليه أو ينقطع عنه، فقد يتتابع الوحي   1 رواه ابن ماجه في سننه 2/ 777 رقم 2470. 2 باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن. صحيح مسلم 12/ 4. 3 سورة النساء 112, 113. 4 الحديث في سنن الترمذي. وقارن بأسباب النزول للسيوطي 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ويحمى حتى يكثر عليه، وقد يفتر عنه أحوج ما يكون إليه! إن الوحي ينزل على قلبه صلوات الله عليه في كل لحظة: إنه ليأوي إلى فراشه فما يكاد يغفو إغفاءة حتى ينهض ويرفع رأسه مبتسما فقد أوحيت إليه سورة الكوثر الخير الكثير1. وإنه ليكون وادعا في بيته وقد بقي من الليل ثلثه، فتنزل عليه آية التوبة في الثلاثة الذين خلفوا {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 2. إذا الوحي ينزل على قلب النبي في الليل الدامس والنهار الأضحيان، وفي البرد القارس أو لظى الهجير، وفي استجمام الحضر أو أثناء السفر، وفي هدأة السوق أو وطيس الحرب، وحتى في الإسراء إلى المسجد الأقصى، والعروج إلى السموات العلى3. ثم ها هو ذا الوحي ينقطع عن النبي وهو أشد ما يكون إليه شوقا, وله طلبا: فبعد أن نزل عليه جبريل بأوائل سورة العلق {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فتر الوحي ثلاث سنين، فحزن النبي -كما قالت السيدة عائشة- حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: "يا محمد أنت رسول الله حقا"، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه4. وبينا هو ماش ذات يوم إذ سمع صوتا من السماء فرفع بصره، فإذا الملك الذي جاءه بحراء، فرعب منه فرجع إلى زوجته الوفية خديجة يقول: "زملوني"، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ،   1 الإتقان 1/ 38 والرواية في صحيح مسلم عن أنس. 2 التوبة 118. 3 البرهان 1/ 198. 4 البخاري 9/ 30 كتاب التعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فحمي الوحي وتتابع1. واستبشر النبي وتبدل انتظاره الحزين فرحة غامرة، وأيقن أن هذا الوحي الذي استعصى عليه ولم يوافه طوع إرادته مستقل عن ذاته خارج عن فكره، فاستقر في ضميره الواعي أن مصدر هذا الوحي هو الله علام الغيوب. ومن ذا الذي ينسى كيف أبطأ الوحي شهرًا كاملا بعد "حديث الإفك"2 الذي رمى به المنافقون بنت الصديق بالفاحشة، وأثاروا به حولها الفضيحة، حتى عصفت بقلب الرسول الريبة فقال لزوجه أم المؤمنين: "يا عائشة, أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله" , من هذا الذي لا يدرك أن هذا الشهر الذي تصرم على الحادثة من غير أن يتلقى النبي خلاله وحيا كان أثقل عليه من سنين طويلة، بعد أن خاض المنافقون في الصديقة المطهرة خوضا باطلا؟ فما بال النبي الذي كان فريسة للشك والقلق يظل شهرًا كاملًا صامتا ينتظر، واجما يتربص، حتى نزلت آيات النور تبرئ أم المؤمنين؟ وما له لا يسرع إلى التدخل في أمر السماء، فيرتدي مسوح الرهبان، ويهيئ الأسجاع، ويطلق البخور، ويبرئ الصديقة من قذف القاذفين؟. ولقد كان النبي يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا3 لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة قبل البيت، ولكن رب القرآن لم ينزل في هذا التحويل.   1 البخاري 65/ 162. ومن الناس من يظن أن سورة الضحى هي التي نزلت بعد فترة الوحي، وهو خطأ ظاهر. أما سبب نزول "الضحى" كما ورد في الصحيحين فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثا لتهجده، فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت الضحى. وقارن بأسباب النزول السيوطي 140. 2 انظر صحيح البخاري 6/ 101. 3 البخاري 6/ 21 كتاب التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قرآنا رغم تلهف رسوله الكريم إلا بعد قرابة عام ونصف العام1، فلماذا لم يسعف النبي نفسه بوحي عاجل يحقق ما يصبو إليه ويتمناه؟ إنه الوحي ينزل على محمد حين يشاء رب محمد، ويفتر إذ شاء له رب محمد الانقطاع، فما تنفع التعاويذ والأسجاع، ولا تقدم عواطف محمد ولا تؤخر في أمر السماء! أما وإنه لم يك لهذه المفارقة الواضحة بين شخصية النبي وظاهرة الوحي إلا حل "نفساني" واحد على طريقة الماديين من قدامى ومحدثين: فليفترضوا تزود النبي الأمين بشخصيتين إحداهما واعية شاعرة، والأخرى لا واعية ولا شاعرة، أو بعبارة أخرى: ليفترضوا في نفس محمد ازداوج الشعور و"اللاشعور"! فهل لباحث منصف أن يعترف لأصحاب هذا الافتراض بمسكة من عقل أو ذرة من شعور؟ ولقد تحير العرب من قبل في الربط بين الذات الملقية والذات المتلقية، فتخبطوا تخبط شهود الزور، وتبلبلت أذهانهم، وتضاربت آراؤهم، ولم يطمئنوا إلى تفسير يرضي عقولهم السقيمة، وصور الله حيرتهم هذه الصورة المضحكة الساخرة: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} 2 فردوا مصدر القرآن إلى رؤى النائم أو شطحات المجنون، وإلى افتراءات المختلق أو تخرصات الكذوب، وإلى أخيلة الشاعر أو سبحات الأديب. وفي توالي حرف الإضراب "بل" ثلاث مرات تهكم لاذع باضطرابهم وتضاربهم، ألا ساء ما يحكمون. فأما رؤى النائم فتردها بداهة مشاعر النبي المرهفة الواعية، وشخصيته اليقظة الساهرة حتى في ساعات الراحة والرقاد. ولقد رافق هذا الوعي رسول الله منذ اللحظة الأولى التي خاطبه الله فيها بقوله: {اقْرَأْ} حتى نزلت الآية   1وحينئذ نزلت الآية الكريمة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وقارن بأسباب النزول للسيوطي 12, 13. 2 الأنبياء 21. وقارن بالنبأ العظيم 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الأخيرة من القرآن فلحق بالرقيق الأعلى. وعلينا هنا أن نقدر جسامة الخطأ الذي يقع فيه بعض المفسرين وبعض الكتاب المعاصرين عن حسن نية حين يذهبون وراء خيالهم الخصيب فيصورون النبي نائما في غار حراء أول نزول الوحي عليه، مع أن رواية الصحيحين قاطعة في أن الوحي فاجأه وهو يقظ يلتمس الحقيقة ويبحث عن الله، ولذلك رعب وجاء خديجة يرجف فؤاده. ولو وقع له هذا في المنام لزال خوفه ورعبه بعد اليقظة، فلأمر ما قال القرآن: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} ؟! 1. بهذه الحساسية الواعية المرهفة صورت السيدة عائشة بدء الوحي فقالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وفي رواية "فَجَأَهُ الحق", وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: فأخذني فغطني -أي: ضمني وعصرني- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: "زملوني زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي" , فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف, وتعين على نوائب الحق"2.   1 سورة النجم 11, 12. 2 صحيح البخاري، بدء الوحي 1/ 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وجدير بالذكر هنا أن رجفة فؤاده عليه الصلاة والسلام تشير إلى الرعب الذي اعتراه لأن الوحي نزل عليه فجاءة ولم يكن يتوقعه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} 1 وكما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} 2. وليس في رجفة فؤاده أي إيماءة إلى تبرد أطرافه الذي يتبعه عادة شحوب في الوجه واصطكاك في الأسنان، فلقد كان على العكس ترتفع درجة حرارته، فيحمر وجهه وتأخذه البرحاء حتى يتفصد جبينه عرقا ويثقل جسمه -كما رأينا- فيكاد يرض فخذه فخذ الجالس إلى جنبه، والتماسه الدثار من خديجة بقوله: "زملوني" لا يعني أكثر من لجوئه إلى الفراش؛ ليستجم تحت الدثار ويستريح من أثر المشهد الغيبي المخيف، والقول الثقيل العنيف، ولذلك أمره الله بعد رجعة الوحي إثر انقطاعه بالوثوب والنهوض لحمل أعباء الدعوة إلى الله فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} ثم قال بعدها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} . أما حاله عند تلقي الوحي أول مرة فكانت -كحاله بعد ذلك في كل مرة- خير ما يرام كمال وعي، ووفرة نشاط، وقوة أعصاب، فلا مجال قط لاحتمال وسائل تحضيرية يستجمع بها شتات ذهنه، ولا نوبات عصبية تلم به، ولا أعراض مرضية تعتريه3. وربما لم تكن أضعاث الأحلام في نظر العرب سوى شطحات الجنون. فلذلك قالوا: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} 4، وقالوا: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ، ورد الله افتراءهم مسليا نبيه، فقال: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .   1 سورة القصص 86. 2 الشورى 52. 3 قارن بالبنأ العظيم 71, 72. 4 الدخان 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أما افتراءات المختلق أو تخرصات الكذوب فتردها شهادة العرب أنفسهم لمحمد بالصدق والأمانة، والكذب المفترى لا يلبث أن ينكشف، ففي أي شيء كذب النبي؟ في أخبار الغيب أم أخبار الماضي أم أخبار المستقبل المحجوب، وهل كانت ثقافة العرب المحدودة تسمح لهم بأن يكونوا في هذا الصعيد حكما على الكاذبين أو الصادقين. لقد وصف القرآن نشأة الخلق الأولى ومصيره المحتوم، وفصل نعيم الآخرة وعذابها الأليم، وأحصى عدة أبواب جهنم وعدة الملائكة الموكلين بكل باب، وعرض هذا كله على العرب تحت سمع أهل الذكر وبصرهم ممن أوتوا الكتاب، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} 1: فمن أين لمحمد تلك المعارف الغيبية الواسعة في مثل بيئة قومه الأميين الوثنيين؟ هل هبط بها عليهم من كوكب في السماء، أم جاءهم بها من الشعرى والمريخ؟ ألم يصاحبهم قبل البعثة أربعين عاما فهل ضل الآن وغوى؟ ألم يسموه الصادق الأمين؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 2؟ فهل من عجب إذا علمه الله أن يبكتهم فقال: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3. وكأي من خبر ماض قص القرآن به أحسن القصص عن أمم خلت، وصحح به أخطاء وردت في الكتب السابقة تتناول عصمة الأنبياء، وفند به بعض المغالطات التاريخية، وصور محمدًا شاهدًا الأحداث كلها، مراقبا إياها، كأنه يعيش في عصرها بين أصحابها، قص على نبيه قصة نوح ثم قال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ   1 سورة المدثر 3. 2 سورة المؤمنون 69. 3 سورة يونس 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} 1، وفصَّل كثيرًا من أحوال موسى في مدين ثم قال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} 2، ووصف ولادة السيدة مريم ابنها عيسى عليهما السلام وكفالة زكريا لها ثم قال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 3، وأسهب في سرد قصة يوسف وإخوته، ثم قال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 4. وكم من خبر مستقبل كشف القرآن حجابه فتحقق في حياة المشركين ورأوه بأم أعينهم! ألم يستعص أهل مكة على النبي حتى دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم القحط وأكلوا العظام، وجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد5، مصداقا لقوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6؟. وانتصار الروم على الفرس من بعد غلبهم ألم يتم في بعض سنين كما قاله الله: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} 7؟ ألم تلحق المشركين الهزيمة في بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة تصديقا لآية سورة القمر المكية {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} 8 مع أن فكرة التقاء الجمعين لم تكن في مكة واردة أصلا؟ وهل أخلف الله المؤمنين ما   1 سورة هود 49. 2 سورة القصص 44, 45. 3 آل عمران 44. 4 سورة يوسف 102. 5 صحيح البخاري عن ابن مسعود 6/ 114. 6 الدخان 10, 11. 7 الروم 1-3. 8 القمر 45. وقارن بصحيح البخاري 6/ 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وعدهم عام الحديبية من دخول المسجد الحرام، وتبديلهم بعد خوفهم أمنا، وتحليق رءوسهم وتقصيرها قضاء للشعيرة، كما قال الله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} 1؟ ولعل من أعجب العجب أن يضمن الله لنبيه حماية شخصه وعصمته من أذى الناس, مع أن الراغبين في قتله كانوا يحيطون به من أمامه وخلفه، وعن يمينه وشماله، ولكنها إرادة السماء جعلت الرسول على يقين بأن الله حاميه. لقد نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2، فأخرج عليه الصلاة والسلام رأسه من الخيمة وقال لنفر من أصحابه يحرسونه على بابها: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله"! 3. ها هو ذا عليه الصلاة والسلام يوم أحد أقرب ما يكون من العدو بينما كان الموت أقرب إليه من شراك نعله، حتى قال علي كرم الله وجهه: كنا إذا حمي الوطيس احتمينا برسول الله فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه". وها هو ذا في غزوة حنين يركض بغلته إلى جهة العدو، فلما أقبل المشركون وغشوه لم يفر بل نزل عن بغلته كأنما يعرض نفسه لنبالهم وهو يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" 4. وها هو ذا في ذات الرقاع ينزل تحت شجرة ويعلق سيفه فيها، فيجيئه رجل من المشركين فيأخذ السيف فيخترطه ويقول للنبي: أتخافني؟ فيقول: "لا". فيقول الرجل: وما يمنعك مني؟ فيجيب: "الله يمنعني منك. ضع السيف" فلا يملك الرجل إلا أن يضع سيفه5, وتزيد بعض الروايات: أن   1 الفتح 22. 2 سورة المائدة 67. 3 البرهان 1/ 198. 4 رواه الشيخان. وقارن بتفسير الطبري 10/ 73. 5 صحيح مسلم عن جابر 15/ 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الرجل أعلن من فوره إسلامه. أما إنه لا يبت في أخبار الغيب إلا مجازف يعبث أو مؤمن ذو يقين، وما عرف الناس في رسول الله مخايل المجازفين، ولا ملامح المفترين، فلا بد أن يكون من الموقنين الصادقين. بيد أن طائفة من العرب افترضوا أن يكون أحد من البشر قد علم النبي القرآن، فالتمسوا مصدر الوحي خارج الذات المحمدية، ولم يجرءوا -وهم الأميون- على دعوى تعلمه من أحد منهم، فقد أدركوا بالفطرة أن الجاهل لا يعلم الناس شيئا، وإذا هم يهتدون إلى معلم لمحمد، فمن كان ذاك المعلم الكبير، والمرجع العلمي الخطير؟ غلامًا روميًا أعجميا نصرانيًا يشتغل في مكة قينا "حدادا" يصنع السيوف، وكان -على عاميته- ملما بالقراءة والكتابة ولو لم يعلم الكتاب إلا أماني، وربما بدا للنبي أحيانا أن يقف عليه يشاهد صنعته، فما أنسبها فرصة ليقول العرب الأميون: هذا هو معلمه "إنما يعلمه بشر" وما أنسبها فرصة ليرد القرآن على أحلامهم الطائشة هذا الرد البديهي المتوقع، والمؤثر المقنع: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. فلما أسقط في أيديهم، ووجدوا أن لا قبل لهم بتعيين معلم محمد، آثروا أن يرفعوا دعواهم ضد مجهول، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2.وبهذا رسم العرب الأميون المنهج لمن بعدهم من ملاحدة المثقفين لينطلقوا من دعواهم هذه إلى محاولة تعيين الذي أملى على محمد حقائق الدين وفلسفة التاريخ: فرأى قوم أنه راهب اسمه بحيرا من أتباع آريوس في التوحيد لقيه النبي في طفولته في سوق بصرى بالشام خلال رحلته مع عمه أبي طالب، ورأى آخرون أنه ورقة بن نوفل من   1 النحل 103. 2 الفرقان 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 العلماء بالنصرانية ومن أقارب السيدة خديجة لقيه في مكة على أثر نزول الوحي عليه أول مرة. وكل الذي صح في أمر هذين الرجلين أن الرسول لقي أولهما بحيرا وهو ابن تسع سنين، وقيل: ابن اثني عشرة مرة واحدة، وكان معه عمه أبو طالب, وقال هذا الراهب لعمه: سيكون لابن أخيك هذا شأن عظيم؛ وأنه عليه الصلاة والسلام لقي الثاني ورقة عقب إخباره خديجة بما رآه في غار حراء، فقد انطلقت به إلى ورقة، وكان شيخا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يابن عم اسمع من ابن أخيك: فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس -أي: أمين الوحي- الذي نزل الله على موسى. ولم يلبث ورقة أن توفي1. حسبنا -لتفنيد هذين الزعمين- أن نتذكر أن النبي الكريم لم يلق الرجلين سرا في خفاء، بل كان معه في كل مرة رفيق، فقد شهد أبو طالب لقاءه لبحيرا، وشهدت خديجة لقاءه لورقة، فما عسى أن يكون النبي تعلم في هذين اللقاءين من علوم الغيب والتاريخ؟ ولا حاجة بنا إلى تجشيم أنفسنا عناء الرد على مبالغات بعض المستشرقين حول كثرة اليهود والنصارى بمكة، فقد رد عليهم من بينهم باحثون منصفون أكدوا أن من الحمق التهويل في هذا الشأن ما دام الرسول الكريم لم يلق أحبار اليهود ولا رهبان النصارى، ولم يثبت اتصاله بهم. وأهون من هذا كله ما يعرض به الشكاكون المرتابون إلى القوافل التجارية في رحلتي الشتاء والصيف، وما كانت تحمله -بزعمهم- من أخبار الأمم الماضية وقصص الملل الخالية: فما عهدنا تجار العرب يعنون بلقاء الأحبار ومجالسة رجال "اللاهوت"2. أما محمد نفسه فلم يذهب إلى الشام إلا مرتين: أولاهما في طفولته مع عمه كما أسلفنا، والأخرى في تجارة   1 البخاري، بدء الوحي 1/ 7. 2 الوحي المحمدي 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 لخديجة وهو شاب وكان بصحبته ميسرة غلام خديجة، ولم يتجاوز عليه الصلاة والسلام سوى مدينة بصرى في كلتا الرحلتين القصيرتين، فأين يذهب العقلاء بعقولهم؟ وأنى يؤفكون؟ بعد أن وضح النهار لذي عينين، لم يكن بد من أن يسفه القرآن تلك الأحلام الطائشة جميعا، ويقول بلهجة قاطعة حاسمة،: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. أما أخيلة الشاعر أو سبحات الأديب فقد نسبها بعض العرب إلى الرسول الأمين حين راع القرآن الأمين خيالهم بصوره الحية، ومشاهده الشاخصة، وألفاظه الموحية وفواصله الشافية، وألحانه العذاب، فقالوا: شاعر نتربص به ريب المنون، ولا شك أن الفصحاء فيهم عرفوا أن ليس في القرآن شيء من الشعر، وأن أسلوبه يعلو ولا يعلى، وما هو بقول بشر حتى قال قائلهم: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر، وما هو بقول بشر". إلا أن القرآن ظل يتحداهم بمعارضته، ويطاولهم في المعارضة، حتى اضطرهم إلى الهزيمة أمام تحديه، فلم يجدوا ما يشفون به غليلهم إلا أن يقولوا: شعر أو سحر مبين. تحداهم أول الأمر أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهو جميعه كلام الله، ومن أصدق من الله قيلًا؟ فقال لهم في سورة الطور: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .ثم تنازل لهم عن التحدي بجميع القرآن الصادق الذي لا يخالف الواقع في شيء إلى التحدي بعشر سور مثله، ولو كانت مفتريات لا أصل لها ولا سند، فقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ   1 يونس 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فلما عجزوا حتى عن السور العشر المفتريات تنازل إلى تحديهم بسورة واحدة من مثله، فقال في سورة البقرة: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . حتى إذا عجزوا عن معارضة سورة واحدة من سوره -وهم أمة الفصاحة والبلاغة- جلجل صوته في الآفاق، وتحدى أمم العالم قائلا في ثقة ويقين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . بالأسلوب المعجز الساحر مس القرآن إذن قلوب العرب منذ الفترة المكية قبل أن تنزل آياته التشريعية، ونبوءاته الغيبية، ونظرته الكلية الكبرى إلى الكون والحياة والإنسان، ولو أتيح لمعاصري الوحي القرآني أن يطلعوا منه على الجانب العلمي والجانب الفلسفي اللذين أتيح لبعضنا أن يطلعوا عليهما، وكان لهم من الثقافة ما يمكنهم من الحكم على حقائق التاريخ، لأدركوا مثل جميع المنصفين عجز الزمان عن إبطال شيء منه، ولأيقنوا أن علوم الكون ستظل جميعا في خدمته للكشف عن آيات الله في الآفاق والأنفس، كما قال الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} !. وبعد، فقد آثرنا أن نعالج ظاهرة الوحي المعجز بمثل ما عالجها به القرآن من التأثير المقنع، فلجأنا إلى الزاوية النفسية، ودرسنا من خلالها الفرق العظيم بين ذات الخالق وشخصية المخلوق، وبين صنعة الخالق وصنعة المخلوق، وتجنبنا التعقيد والجدل العقيم، وحاولنا ألا نقرب حقائق الغيب العليا بما يعرفه الناس عن التنويم "المغناطيسي" وتسجيل الأصوات على الأشرطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وإذاعتها أو نقلها عن طريق الهاتف واللاسلكي، وظننا أن لا جدوى من هذه الأشياء وأنها ليست هي طريق الإيمان، ونحسب أننا قد انتهينا إلى النتيجة التي توخيناها، فأدرك القارئ معنا أن الرسول الكريم تلقى الوحي بحواسه كلها ومشاعره كلها، واعيا كل الواعي أنه عبد الله ورسوله الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يظل الوحي متجاوبا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه كل يوم شيئا جديدًا، ويرشده ويهديه, ويثبته ويزيده اطمئنانا، ومتجاوبا مع الصحابة يربيهم ويصلح عاداتهم، ويجيب عن وقائعهم، ولا يفاجئهم بتعاليمه وتشريعاته، فكان مظهر هذا التجاوب، نزوله منجما "بحسب الحاجة: خمس آيات، وعشر آيات وأكثر وأقل1. وقد صح نزول عشر آيات في قصة "الإفك"2 جملة، وصح نزول عشر آيات من أول "المؤمنين"3 جملة، وصح نزول {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 4 وحدها -وهي بعض آية- وكذا قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَ ةً} 5 إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أول   1 ويقتصر بعضهم -كما يفهم من روايات شتى- على نزول القرآن نجوما خمس آيات خمس آيات، لتيسير حفظه على المؤمنين في كل جيل: أخرج البيهقي عن خالد بن دينار: قال: قال لنا أبو العالية: "تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل خمسا خمسا". ويقرب من هذا ما أخرجه ابن عساكر من طريق أبي نضرة. بل ينسب إلى علي كرم الله وجهه أنه كان يقول: "أنزل القرآن خمسا خمسا إلا سورة الأنعام، ومن حفظ خمسا خمسا لم ينسه". لكن السيوطي يصف القول الأخير بضعف طريقه، ويرى "أن معناه -إن صح- إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر حتى يحفظه ثم يلقى إليه الباقين, لا إنزاله بهذا القدر خاصة" الإتقان 1/ 73. 2 هذه الآيات العشر في سورة النور 11, 12 وفيها يبرئ الله السيدة عائشة أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق من الإفك المبين والبهتان العظيم. وقصة الإفك مشهورة في كتب السيرة والتفسير. 3 من أول قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} إلى قوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1-11] . 4 سورة النساء 95 وأول الآية: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . 5 سورة التوبة 28 وأول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الآية"1. على هذا المنوال ظل القرآن ينزل نجوما، ليقرأه النبي صلى الله عليه وسلم على مكث ويقرأه الصحابة شيئا بعد شيء، يتدرج مع الأحداث والوقائع والمناسبات الفردية والاجتماعية التي تعاقبت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة وعشرين عاما على الأصح، تبعا للقول بأن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة. أما إقامته بالمدينة فهي عشر سنين اتفاقًا: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين2، وقدر بعضهم مدة نزول القرآن بعشرين سنة، وبعضهم بخمس وعشرين، وبنوا هذا على أن إقامته عليه الصلاة والسلام، بمكة بعد البعثة كانت عشر سنين أو خمس عشرة سنة3. وقد بدأ نزول القرآن -كما قال الشعبي4- "في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات"5. والشعبي يجمع في هذا الرأي بين قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 6 وقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} 7، وهو فهم سديد لا يتضارب مع إخبار الله بإنزال كتابه في ليلة مباركة، وفي شهر رمضان، إذ يكون المراد   1 الإتقات 1/ 73. 2 صحيح البخاري 4/ 57. 3 قارن بين "البرهان 1/ 232" و"الإتقان1/ 68". 4 الشعبي هو عامر بن شراحيل، ويكنى أبا عمرو، أكبر شيوخ أبي حنيفة، وأحد المشهود لهم بالإمامة في الحديث والفقه. روى عن علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت, وجابر بن عبد الله, وغيرهم. وقال: إنه أدرك خمسمائة من الصحابة. وروى عنه الأعمش، وقتادة، وأبو الزناد، وغيرهم. توفي سنة 109. 5 البرهان 1/ 228. 6 سورة القدر 1. 7 سورة الإسراء 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أنه تعالى ابتدأ إنزاله في {لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 1، ووصف هذه الليلة بأنها {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وهي إحدى ليالي رمضان، كما في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 2، ثم استمر نزوله نجوما بعد ذلك، متدرجا مع الوقائع والأحداث. ولسنا نميل إلى الرأي القائل: إن للقرآن تنزلات ثلاثة: الأولى إلى اللوح المحفوظ، والثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والثالث تفريقه منجما بحسب الحوادث، وإن كانت أسانيد هذا الرأي كلها صحيحة3، لأن هذه التنزلات المذكورة من عالم الغيب الذي لا يؤخذ فيه إلا بما تواتر يقينا في الكتاب والسنة، فصحة الأسانيد في هذا القول لا تكفي وحدها لوجوب اعتقاده، فكيف وقد نطق القرآن بخلافه؟! إن كتاب الله لم يصرح إلا بتفريق الوحي وتنجيمه، ومنه يفهم بوضوح أن هذا التدرج كان مثار اعتراض المشركين الذين ألفوا أن تلقى القصيدة جملة واحدة، وسمع بعضهم من اليهود أن التوراة نزلت جملة واحدة، فأخذوا يتساءلون عن نزول القرآن نجوما، وودوا لو ينزل كله مرة واحدة، وقد ذكر الله اعتراضهم في سورة الفرقان ورد عليه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 4. على أن القائلين بتنزيلات القرآن الثلاثة لا يفوتهم -بعد بيان حكمه هذا   1 سورة الدخان 3. 2 سورة البقرة 185. 3 انظر الإتقان 1/ 68. ويظهر أن الجمهور كان يجنح إلى هذا الرأي، فالزركشي في "البرهان 1/ 229" يقول في هذا الرأي: إنه أشهر وأصح، وإليه ذهب الأكثرون" وابن حجر في "فتح الباري" يصفه بالرأي "الصحيح المعتمد" ونحن مع ذلك لم نأخذ به لمخالفته صريح القرآن كما أوضحناه أعلاه. 4 سورة الفرقان 32, 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 التعدد في أماكن النزول1- أن يشيروا إلى أسرار تنزله الثالث الأخير منجما بحسب الوقائع، وهذه الأسرار قد بلغت من الوضوح حدا لا تخفى معه على أحد، "ولولا أن الحكمة الإلهية -كما يقولون- اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الواقع لأهبطه إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا، تشريفا للمنزل عليه"2. ويعنينا من أقوالهم تطلعهم إلى أسرار التدرج في نزول القرآن، فقد أوشكوا عند بلوغ هذه الناحية من البحث ألا يتركوا مجالا لقائل بعدهم، إذ لاحظوا في التدرج الحكمتين اللتين أشرنا إليهما، وهما تجاوب الوحي مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجاوبه مع المؤمنين، وإن كان تعبيرهم عن ذلك يختلف قليلا عن تعبيرنا. ولتجاوب الوحي مع الرسول صلى الله عليه وسلم صورتان: إحداهما تثبيت فؤاده بما يتجدد نزوله من القرآن بعد كل حادثة, والثانية تيسير حفظ القرآن عليه. وقد أشار إلى الصورة الأولى أبو شامة3 في قوله:" فإن قيل: ما السر في نزوله منجما؟ وهلا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله   1 وخلاصة هذه الحكمة "أن في تعدد النزول وأماكنه مبالغة في نفي الشك عن القرآن، وزيادة للإيمان به وباعثا على الثقة فيه، لأن الكلام إذا سجل في سجلات متعددة، وصحت له وجودات كثيرة، كان ذلك أنفى للريب عنه وأدعى إلى تسليم ثبوته، وأدنى إلى وفرة الإيمان به مما لو سجل في سجل واحد أو كان له وجود واحد" "الزرقاني: مناهل العرفان 1/ 39-40". ويذهب أبو شامة في "المرشد الوجيز" مذهبا آخر، في بيان حكمة نزول القرآن جملة إلى السماء، فهو يقول: "فيه تفخيم لأمره وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، ولقد صرفناه إليهم لينزله عليهم" "الإتقان 1/ 469 البرهان 1/ 230". 2 الإتقان 1/ 69, 70، السيوطي يعزو هذا القول إلى أبي شامة، وهو تتمة رأيه المذكور في الحاشية السابقة، ويذكر الزركشي قسما منه في "البرهان 1/ 230" ولكن من غير عزو. 3 أبو شامة هو الفقيه الشافعي عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المقدسي، له "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز"، وشرح على الشاطبية المشهورة في القراءات. توفي سنة 665هـ " شذرات الذهب 5/ 318". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 جوابه فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} يعنون: كما أنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: {كَذَلِكَ} أي: أنزلناه مفرقا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، أشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان1 لكثرة لقياه جبريل"2. ولقد راع القرآن خيال العرب وأخذ أسماعهم بما فيه من أنباء الرسل مع أقوامهم، تتكرر بصورة مختلفة، وأساليب متنوعة، فتزداد حلاوة كلما تكررت، ولا غرض لها في أكثر المواطن التي ذكرت فيها إلا تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين. ونطق القرآن بذلك فقال: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} 3: ففي ذكر قصص الرسل، وتفريقه، وتنوعيه، تقوية لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم وعزاء له على ما يلقاه من أذى قومه، وما كان محمد بدعا من الرسل، فهم جميعا عذبوا وكذبوا واضطهدوا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} 4. وهكذا ما انفك القرآن يتجدد نزوله مهونا على الرسول صلى الله عليه وسلم الشدائد، مسليا له مرة بعد مرة، محببا إليه التأسي بمن قبله من الرسل، يأمره تارة بالصبر أمرًا صريحا فيقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا   1 يشير إلى حديث متفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة" انظر "رياض الصالحين للنووي باب الجود ... في شهر رمضان، ص454". 2 الإتقان 1/ 17 والزركشي لا يعزو هذه العبارة إلى أبي شامة كما فعل في العبارة السابقة "البرهان 1/ 231، وراجع الحاشية 2ص 42" وفي عبارة البرهان اختلاف يسير جدا عما في الإتقان. 3 سورة هود 120. 4 سورة البقرة 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 جَمِيلًا} 1، ويقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 2 وينهاه تارة أخرى عن الحزن نهيا صريحا، كما في قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} 3، وقوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 4. ويعلمه أحيانا أن الكافرين لا يجرحون شخصه في نفسه، ولا يتهمونه بالكذب لذاته، وإنما يعاندون الحق بغيا من عند أنفسهم، لأنهم شرذمة من الجاحدين تتكرر في كل عصر وجيل، كما في قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 5. وفي تفسير هذه الآية يقول الحافظ ابن كثير: "يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أي: قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك علهيم كقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} كما قال تعالى في الآية الأخرى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، و {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم"6. وتكرار نزول هذه الآيات المسلية، المعزية، المرشدة إلى الصبر الجميل والأسوة الحسنة، هو الحكمة المقصودة من إيراد أنباء الرسل وقص قصصهم. ولو استمر اضطهاد المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع عنه الوحي المثبت لقلبه، فلم يتجدد نزول الآيات المسلية له، لشعر عليه الصلاة والسلام بما يشعر به   1 سورة المزمل 10. 2 سورة الأحقاف 35. 3 سورة يس 75. 4 سورة يونس 65. وقد ينهى الله رسوله عن الحزن على الكافرين لجحودهم وعدم إيمانهم، فيقول له: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} كما في سورة الحجر 88 والنحل 126 والنمل 72. 5 الأنعام 33. 6 ابن كثير 2/ 129.ونقل هذه العبارة السيد رشيد رضا في تفسير المنار 7/ 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 البشر في هذه الحالات من استيلاء الحزن على قلبه، واستبداد اليأس بنفسه، والله لم ينهه عن الحزن والحسرات وبخع النفس وضيق الصدر -كما رأينا- إلا لأنه بشر مثل سائر البشر، في طبيعته استعداد لجميع هذه الانفعالات النفسية، وقد انتبه إلى هذا المعنى السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} 1 فقال: "والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنته تعالى في الرسل والأمم، أو هي تذكير بهذه السنة وما تتضمنه من حسن الأسوة إذ لم تكن هذه الآية أول ما نزل في هذا المعنى" ثم زاد هذه الفكرة وضوحا بقوله: "ولولا أن دفع الأسى بالأسى من مقتضى الطبع البشري لما ظهرت حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الليل، فربما يقرأ السورة ولا يعود إليها إلا بعد أيام يفرغ فيها من قراءة ما نزل من سائر السور، فاحتيج إلى تكرار تسليته وأمره بالصبر المرة بعد المرة، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه وسلم، من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره عند تلاوة الآيات الواردة في بيان حال الكفار ومحاجتهم وإنذارهم"2. والصورة الثانية لتجاوب الوحي مع الرسول صلى الله عليه وسلم هي -كما ذكرنا- تيسير حفظ القرآن عليه. ومن العلماء من يرى أن "تثبيت فؤاده" المذكور في آية الفرقان السابقة لا يراد منه إلا جمع القرآن حفظا في قلبه "فإنه عليه الصلاة والسلام كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ففرق عليه لييسر عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظه الجميع إذا نزل جملة"3. وقد أراد ابن فورك4 أن يزيد هذا الأمر تفصيلا وبيانًا   1 سورة الأنعام 34. 2 تفسير المنار 7/ 377-378. 3 البرهان 1/ 231. 4 ابن فورك "بالفاء المضمومة والواو الساكنة والراء المفتوحة والكاف" هو محمد بن الحسن بن فورك، ويكنى أبا بكر. من المتكلمين والأصوليين المشهورين، له في معاني القرآن وأصول الفقه أكثر من مائة كتاب. توفي سنة 604 انظر إنباه الرواة 3/ 110 وشذرات الذهب 3/ 181-182 وابن خلكان 1/ 482. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فقال: "قيل: أنزلت التوراة جملة، لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب -وهو موسى- وأنزل القرآن مفرقا لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أمي"1. وأما تجاوب الوحي مع المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي القرآن منه صور متنوعة، وألوان متباينة تلتقي كلها عند غاية واحدة: وهي رعاية حال المخاطبين، وتلبية حاجاتهم في مجتمعهم الجديد الآخذ في الازدهار، وعدم مفاجأتهم بتشريعات وعادات وأخلاق لا عهد لهم بمثلها. وقد أشار إلى هذا مكي2 في "الناسخ والمنسوخ" حين لاحظ أن نزول القرآن "أدعى إلى قبول إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي، ويوضح ذلك ما أخرجه البخاري3 عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء، "لا تشربو الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو انزل "لا تزنوا" لقالوا: "لا ندع الزنى أبدًا"4. وظاهر كلام السيدة عائشة في قولها هذا أنها جمعت بين تحريم الخمر وتحريم الزنا بالتدريج، فيخيل إلى السامع أن تحريم الزنى لم يتم إلا على مراحل كالخمر، وليس ذلك بصحيح ولا هو مراد بنت الصديق، فإنها رضي الله عنها كانت تعلم أن الزنى حرم دفعة واحدة، في خطوة واحدة   1 الإتقان 1/ 71 نقلا عن البرهان 1/ 231. 2 هو مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار القيسي المقرئ. يكنى أبا محمد، وأصله من القيروان، كثير التأليف في علوم القرآن والعربية، سكن قرطبة ورحل إلى مصر مرتين. وتوفي سنة 437. ينسب إليه السيوطي كتابا في "الناسخ والمنسوخ" منه اقتبس هذه العبارة المذكورة أعلاه، ويذكر له القفطي عددا من المؤلفات منها "انتخاب كتاب الجرجاني في نظم القرآن" انظر إنباه الرواة 3/ 313-319 وشذرات الذهب 3/ 260-261 ووفيات الأعيان 2/ 120-121. 3 صحيح البخاري 6/ 185. 4 الإتقان 1/ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 جازمة، بمثل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 1، وإنما أرادت الصديقة بيان أوائل ما نزل من القرآن، وأن تلك الأوائل ما كانت بمقتضى حكمة الله لتتناول الحلال والحرام، بل تناولت أصول الإيمان بالله واليوم الآخر. فعدم تحريم الزنى في أول ما نزل من الوحي لا يعني أن هذا التحريم تأخر كثيرا: إذ وقع تحريمه في مكة على كل حال، وهو لا يعني تدرج هذا التحريم على مراحل، إذ لم نعلم في كتاب الله ولا سنة رسوله إثبات منفعة للزنى إلى جانب إثمه الكبير كما علمناه في تحريم الخمر والميسر، ولم نر لونا من ألوان الزنى والسفاح يقر في الإسلام بأية صورة، وإنما الذي عرفناه أن الإسلام أمضى أمره بتحريم الزنى بأسلوب صارم ولهجة قاطعة، كما حرم سائر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق. وما من ريب في أن الإسلام فرق بين الأعماق والسطحيات في أنفس الأفراد والمجتمعات، فكل قضية عميقة الجذور في نفس الفرد اتخذت شكل عادة شعورية وكل قضية عميقة الجذور في نفس المجتمع اتخذت شكل تقليد اجتماعي أو عرف دولي، فللإسلام فيها موقف المتمهل المتريث الذي يؤمن بأن البطء مع التنظيم خير من العجلة مع الفوضى! وكل قضية سطحية تنزلق إلى نفس الفرد أو إلى نفس الجماعة فتفسد علها فطرتها الزكية النقية، فهي جريمة في الحياة الإنسانية لا يجوز السكوت عنها، فليقطع الإسلام فيها برأيه، ولتكن حدوده فيها غير قابلة للنقاش، فما يناقش في أمر هذه الحدود إلا الخارج على مقتضى الفطرة، المنسلخ من الكرامة الإنسانية2. وفي ضوء هذه التفرقة بين الأعماق والسطحيات في الأنفس والآفاق, وفي الأفراد والمجتمعات، نظر الإسلام إلى القتل والسرقة والغصب وأكل   1 الإسراء 32. 2 قارن بظلال القرآن 2/ 60-61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 أموال الناس بالباطل ومختلف ضروب الغش في المعاملات نظرته إلى الزنى، فحرمها مرة واحدة تحريما قاطعا لا تساهل فيه. وإذ صح أن التعبير عن التحريم أكثر هذه الأشياء إنما ورد في الكتاب متأخرا، وأن أكثرها وقع تحريمه في المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إليها، فلا يصح القول -على وجه الإطلاق والتعميم- بتدرج التحريم على مراحل في هذه الشئون: فكما حرم الله الزنى في لهجة قاطعة فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} حرم القتل في خطوة جازمة فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1، وحرم السرقة يوم قضت حكمته أن يعبر عن تحريمها في أسلوب صارم فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} 2. وبمثل هذه الصرامة حرم اغتصاب أموال الناس بغير حق فقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3, وكل لون من ألوان الغش في المعاملات إنما جاء تحريمه في الكتاب بهذه الصيغ الجازمة، فإن لم يكن في الكتاب ففي السنة المطهرة. والإسلام مهما يبد حريصا على تدرج التشريع وتنجيم النوازل القرآنية لا يسمح قط بالخلط بين تأخير البيان لوقت الحاجة وبين تدرج التشريع، فلقد أخر الله بيان أحكام كثيرة من حلال وحرام، ومن أوامر ونواه، ولكنه حين أراد بيانها أمضى أمره فيها مرة واحدة, ولم يدع فيها للتدريج مجالًا، وعلم المؤمنين بهذا سرعة الاستجابة للأوامر الدينية وأعدهم به لتحمل التكاليف الشرعية: ففي أول أمرهم كلفهم بالصلاة والصدقة والصيام،   1 النساء 92. 2 المائدة 41. 3 البقرة 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 إلا أن الصلاة كانت في البداية صلاة مطلقة بالغدوة والعشي، فما فرضت عليهم بعددها في اليوم والليلة وركعاتها وأشكالها إلا قبل الهجرة بسنة. وعرف المسلمون في أول أمرهم أنواعا من الصدقة والصيام ولكن مقادير الزكاة وشروط الصيام لم تفرض إلا بعد الهجرة بسنة، فهذا كله من مرانة الإسلام ويسره وسماحته: إذ قال الله: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، فما يريد الله أن يشق على عباده وإنما يأخذهم بالرفق، وينهاهم عن كثرة السؤال لئلا يبدو لهم ما يكرهون من جديد التكاليف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} 3. وإذا سلك هذا كله في باب "تأخير البيان لوقت الحاجة" ولم يكن من التدريج في شيء، فإن انطباق هذا الحكم على السطحيات المنزلقة إلى أنفس الأفراد أو إلى أنفس المجتمعات أولى وأجدر، ومن هنا لم يدع داع إلى التدرج في تحريم الزنى ولا القتل ولا السرقة ولا أكل أموال الناس بالباطل. إنما يكون التدرج في النوازل القرآنية إذن في مثل الخمر والميسر من العادات الشعورية أو الأمراض النفسية، وفي مثل استرقاق الأسرى من التقاليد الاجتماعية والأعراف الدولية. وحسبنا -على سبيل المثال- أن نمر مرورًا خاطفا بالتحريم القرآني المتدرج للعادة الشعورية الخطيرة المسماة "بإدمان المسكرات": فقد نزل في أمرها أول ما نزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 4 فوجه أنظار السكارى إلى أن الحرمة إنما تقوم على غلبة الشر، فمهما يكن في الخمر من منافع   1 الحج 78. 2 البقرة 185. 3 المائدة 104.وقارن بأسباب النزول للواحدي 157. 4 البقرة، وانظر في تفسير المنار 2/ 219 و7/ 49 الحكمة في تحريم الخمر على مراحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 اقتصادية في المتاجرة بها، ومن منافع ظاهرية في حمرة الخد التي توهم الصحة الحسنة، ومن منافع اجتماعية فيما تدفع إليه من السخاء والجود في حالة السكر والعربدة، أو من الشجاعة التي تبلغ أحيانا حد التهور في ساحة الحرب، فإن إثمها أكبر من نفعها، فتلك علة كافية لتحريمها. فكانت الخطوة الأولى تحريكا للمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، ثم تبعتها الخطوة الثانية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 1 فضيق عليهم الفرصة لمزاولة السكر، لأن الصلوات الخمس كانت قد شرعت في أوقات متقاربة لا يكفي ما بينها للإفاقة من نشوة الخمر، حتى إذا أصبحت فرص السكر نادرة بطبيعة الحال حرم الله عليهم الخمر في لهجة قاطعة جازمة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2، فقالوا: انتهينا، وانتهوا حقيقة، وأصبحوا ينتظرون حدود الله في شارب الخمر، ويخجلون أن يصل الأمر بأحد المسلمين إلى أن تقام عليه هذه الحدود. وهكذا تدرج الوحي مع النبي يربيه ويعلمه ويهديه حتى "كان خلقه القرآن" كما تقول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وتدرج في تربية المؤمنين، فلم يزين قلوبهم بحلية الإيمان الصادق، والعبادة الخالصة، والخلق السمح، إلا بعد أن مهد لذلك بتقبيح تقاليدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة شيئا فشيئا، وساعدهم نزوله المنجم على حفظ آياته في الصدور، كما قوي من عزائمهم في الشدائد، فكان دستور حياتهم علما وعملا، وكان المدرسة الصالحة التي جعلت منهم رجالا وأبطالا، ولعل ابن عباس في قوله: "نزله   1 سورة النساء: 42. 2 سورة المائدة 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم"1 عند تفسيره قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} 2 إنما كان يومئ إلى هذا النوع من التربية السامية التي أتاحها للمؤمنين نزول كتابهم منجما بحسب الحاجة، متدرجا مع الوقائع والأحداث. أراد القرآن مثلا -على الصعيد التربوي- أن يحطم العصبية الجاهلية الرعناء، وأن يستبدل التقوى بتفاخرها بالآباء، فمهد لذلك برفع العبيد الأرقاء إلى مقام السادة الأحرار: إن بلالا الحبشي الأسود ليرقى ظهر الكعبة ويؤذن يوم الفتح, فيقول المشركون مستنكرين: "أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟! " فتنزل على قلب النبي آية تضع الموازين القسط للأشخاص والقيم والأشياء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3. وعلى الصعيد الاجتماعي، أراد الإسلام أن يحفظ على هذه الأمة اعتدالها وتوازنها، وأن يجعلها وسطا في عقائدها وأخلاقها، وعباداتها، ومعاملاتها، فمهد لذلك بتصحيح مقاييسها ودعوتها إلى ما يحييها، فلما اتفقت جماعة من الصحابة على "أن يجبوا أنفسهم، ويعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحمًا ولا دسما، ويلبسوا المسوح، ولا يأكوا من الطعام إلا قوتا، ويسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان" أنزل الله لتقويم هذا الانحراف عن دواعي الفطرة قوله الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. ومن عجائب الإيحاء التعبيري في القرآن أن انحراف أولئك الصحابة شبه في الآية بالاعتداء والعدوان!. أما الصعيد النفسي فيكاد القرآن فيه يخاطب كل نفس على حدة، متناولًا   1 أخرجه الطبراني والبزار من وجه، وابن أبي حاتم من وجه آخر "انظر الإتقان 1/ 18 و1/ 71" وستجد في "مبحث أسباب النزول" بيانا مفصلا لهذا كله. 2 سورة الفرقان 33. 3 الحجرات 13.وقارن بأسباب النزول للسيوطي 122. 4 المائدة 87, 88. وقارن بأسباب النزول 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بنظرته الشاملة أسرارها، كلها وخفاياها، وإنما نجتزئ هنا بتنزل قرآني واحد على سبيل المثال، لقد كلف الله الصحابة الأولين، ضروب المشقات وألوانها فتحملوها مختارين، ولكنه في آية واحدة حمل عليهم إصرا كبيرا, وحملهم ما لا طاقة لهم به، حتى جثوا على ركبهم دهشة وذهولًا، حين أنزل قوله الكريم: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1، فعجبوا كيف يحاسبهم الله على ما همت به أنفسهم ولم يعملوه، وأتوا رسول الله يقولون: قد أنزل الله عليك هذه الآية ولانطيقها! وإذا الوحي يتنزل بالتخفيف والتيسير, ويعلن مبدأه السمح الصريح: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ! 2. وبعد.. لئن كان تصوير الوحي لشخص الرسول دليلا وجدانيا على صدقه عليه الصلاة والسلام، لعمري إنه في تدرج نروله برهان منطقي دامغ على أن هذا الكتاب المجيد كلام الله العليم الحكيم، أنزله على رسوله هدى وموعظة وتبيانا لكل شيء.   1 البقرة 284. 2 البقرة 286. وقارن بأسباب النزول 26.وقد ظن السيوطي هنا أن هذه الآية نسخت الآية السابقة، وأما نعد هذا ضربا من تزيد العلماء في باب النسخ، وسنوضح في فصل "الناسخ والمنسوخ" بعض ما أقحمه المفسرون فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الباب الثاني: تاريخ القرآن الفصل الأول: جمع القرآن وكتابته مدخل ... الباب الثاني: تاريخ القرآن الفصل الأول: جمع القرآن وكتابته لجمع القرآن معنيان وردت النصوص بكليهما، ففي قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ورد الجمع بمعنى الحفظ، ومنه جماع القرآن, أي: حفاظه. والمعنى الثاني لجمع القرآن هو كتابته كله مفرق الآيات والسور، أو مرتب الآيات فقط وكل سورة في صحيفة على حدة، أو مرتب الآيات والسور في صحائف مجتمعة تضم السور جميعا وقد رتبت إحداها بعد الأخرى. فأما جمع القرآن بمعنى حفظه واستظهاره في لوح القلب فقد أوتيه رسول الله قبل الجميع، فكان عليه الصلاة والسلام سيد الحفاظ وأول الجماع، وتيسر ذلك لنخبة من صحابته على عهده, ولا بد أن يكون عدد هذه النخبة غير قليل, "فقد قتل منهم -كما قال القرطبي- يوم بئر معونة سبعون وقتل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا العدد"1. ولو أخذنا بظاهر الروايات التي يذكرها البخاري في "صحيحه" لحسبنا أن عدد الحفاظ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد عن السبعة. وهؤلاء السبعة أنفسهم لا تسرد أسماؤهم متعاقبة في رواية واحدة في "الصحيح" وإنما تجمع من ثلاث روايات فيه مع ترك الأسماء المكررة2. ولذلك يطلق المستشرق بلاشير Blachere الحكم   1 الإتقان 122. 2 افتتح السيوطي "الإتقان1/ 121" النوع العشرون في معرفة حفاظه ورواته" هذا الباب بذكر تلك الروايات الثلاث عن البخاري، فالأولى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب". والثانية عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب, ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. والثالثة من طريق ثابت عن أنس قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. "وتراجع أسماء هؤلاء الحافظ في صحيح البخاري في الباب السابع عشر من كتاب مناقب الأنصار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 "بأن الحديث النبوي لا يعرف للقرآن إلا سبعة من الحفاظ"1. ويفوته ما علق به العلماء على هذه الروايات مستبعدين صيغة الحصر، ومؤولين ما جاء فيها تأويلا سائغا مقبولا، و"قال الماوردي2: وكيف يمكن الإحاطة بأنه لم يكمله سوى أربعة3، والصحابة مفترقون في البلاد! وإن لم يكمله سوى أربعة فقد حفظ جميع أجزائه مئون لا يحصون، قال الشيخ: وقد سمى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام4 القراء من الصحابة في أول كتاب القراءات له، فسمى عددا كثيرا"5. والسيوطي في "الإتقان" يذكر بعض هؤلاء القراء بأسمائهم التي وردت في كتاب "القراءات" المنسوب إلى أبي عبيد، فيفهم منه أن أبا عبيد "عد من المهاجرين الخلفاء الأربعة، وطلحة وسعدا، وابن مسعود، وحذيفة،   1 وهؤلاء السبعة: هم عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، أبو الدرداء. انظر: Blachere, Introduction au Coran, p. 28 note 26. ولكن بلاشير في موضع آخر "p.20 note 20" يذكر اسما من أسماء هؤلاء الحفظة لم يكن واردا في روايات البخاري الثلاث، وهو سعيد بن عبيد ويشير إلى أنه كان يلقب بالقارئ. وانظر "الإصابة لابن حجر 2/ 28 رقم 3176". 2 الماوردي هو علي بن حبيب، ويكنى أبا الحسن. شافعي المذهب. له كتاب "الأحكام السلطانية" وكتاب "أدب الدنيا والدين". توفي سنة 450، انظر شذرات الذهب 3/ 285-286. 3 إنما قال "أربعة" لأن كل واحدة من روايات البخاري الثلاث اشتملت على أسماء أربعة من الحفاظ، كما أشرنا إلى ذلك في الحاشية الثانية على الصفحة السابقة، وجاءت رواية أنس فوق هذا بصورة الحصر فكان لا بد أن يستبعد ذلك وأن يؤول تأويلا آخر. 4 هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخزاعي، أبو عبيد، من كبار أئمة الحديث واللغة والفقه. أشهركتبه "الغريب المصنف" ولا يزال مخطوطا، و"الأموال" وقد طبع, توفي سنة 224هـ "تذكرة الحفاظ 2/ 5 تهذيب التهذيب 7/ 315". 5 البرهان 1/ 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وسالمًا، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة1، وعائشة وحفصة، وأم سلمة، ومن الأنصار عبادة بن الصامت، ومعاذا الذي يكنى أبا حليمة، ومجمع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وقد صرح بأن بعضهم إنا كمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم"2. وهؤلاء الذين عدهم القاسم بن سلام من المهاجرين والأنصار وأمهات المؤمنين ليسوا إلا طائفة من الأصحاب الذين جمعوا كتاب الله في صدورهم، وتيسر لهم أن يعرضوه على النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا بذلك تلامذة له وكان شيخا لهم. لكن الذين حفظوا القرآن من الصحابة من غير أن يعرضوه على الرسول لا يحصون عددا، ولا سيما إذا أدخلنا في عدادهم من لم يكمل له الجمع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي مقدمة "طبقات القراء"3 للحافظ الذهبي4 "ما يبين ذلك، وأن هذا العدد هم الذين عرضوه على النبي صلى الله عليه وسلم واتصلت بنا أسانيدهم, وأما من جمعه منهم5 ولم يتصل بنا سندهم فكثير"6. وجماع القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مهما يبلغ عددهم من الكثرة يظل دون تصوير شغفهم بالقرآن الذي كان يملك عليهم قلوبهم، حتى أضحى همهم الأوحد قراءة الكتاب والاستماع إليه. روي الشيخان عن أبي موسى   1 العبادلة الأربعة المشهورون بالإفتاء هم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. 2 الإتقان 1/ 124. 3 ذكر الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم أن في دار الكتب المصرية نسخة مصورة من كتاب "طبقات القراء" رقم 1537 تاريخ, عن نسخة كبريلي رقم 1116 "انظر البرهان 1/ 242 من الحاشية2" والزركشي يسمي هذا الكتاب "معرفة القراء". 4 هو الحافظ شمس الدين الذهبي، واسمه محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، أحد كبار المحدثين في القرن الثامن, وصاحب التآليف الكثيرة في الحديث. توفي سنة 748 "انظر الدرر الكامنة 2/ 298". 5 مادة "الجمع" بمعنى الحفظ درسها المستشرق شفالي وعنى بتتبع شواهدها وأشار إلى أمهات مصادرها في كتابه: Schwally,geschichte des Qorans. t. II, Die Sammlung des Qorans, 6 note 2 "V. Blachere, Intr, cor,. 20, note 20". 6 البرهان 1/ 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين باليل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار" 1. وكانوا -فوق هذا- يتدارسون القرآن ويستظهرونه ليتمكنوا من قراءته في الصلوات المكتوبة ليلا أو نهارًا، سرا أوجهرًا، وفي النوافل التي يتطوعون بها. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يساعدهم على هذا التدارس ويرغبهم فيه ويشجعهم عليه، بل كان عليه الصلاة والسلام يختار أعلمهم بكتاب الله ليفقه إخوانه "فكان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الصحابة يعلمه القرآن, وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا"2. وقد اشتهر بإقراء القرآن من الصحابة سبعة: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري. وقد قرأ علي أبي بن كعب جماعة من الصحابة: منهم أبو هريرة، وابن عباس، وعبد الله بن السائب، وأخذ ابن عباس عن زيد بن ثابت أيضا، وأخذ عنهم خلق من التابعين3: وهكذا كان في العصر النبوي شبه مدرسة لتحفيظ القرآن وتدارسه. ويؤكد ابن الجزري4 "أن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب، أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة". ويستدل على ذلك بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن النبي   1 مناهل العرفان للزرقاني 1/ 313. 2 المصدر السابق 1/ 234. 3 الإتقان 1/ 125 وقد جمع السيوطي هذه المعلومات من "طبقات القراء" للذهبي، وأشار إلى ذلك. 4 هو محمد بن محمد بن محمد، أبو الخير شمس الدين الشهير بابن الجزري، وشيخ القراء في زمانه. من أشهر كتبه "النشر في القراءات العشر" توفي سنة 833هـ "الأعلام 3/ 978". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت له: أي رب: إذن يثلغوا 1 رأسي حتى يدعوه خبزة. فقال: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان" 2 الحديث، ومنه يفهم أن القرآن يقرأ عن ظهر قلب في كل حال، فلا يحتاج جامعه إلى النظر في صحيفة كتبت بالمداد الذي ينطمس ويزول إذا غسل بالماء. وأما جمع القرآن بمعنى كتابته، فقد اتخذ ثلاثة أشكال في ثلاثة عهود في الصدر الأول، أولها عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيها عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وثالثها عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.   1 ثلغ رأسه وفلغه: شدخه. 2 مناهل العرفان للزرقاني 1/ 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 جمع القرآن كتابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 1- جمع القرآن كتابة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتابا للوحي فيهم الخلفاء الأربعة ومعاوية وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وخالد بن الوليد وثابت بن قيس، كان يأمرهم بكتابة كل ما ينزل من القرآن، حتى تظاهر الكتابة جمع القرآن في الصدور1. وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت أنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع"2. وكلمة "الرقاع" في الحديث "وهي جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد" تشعرنا بنوع أدوات الكتابة المتيسرة لكتاب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يكتبون الآيات في اللخاف "جمع لخفة وهي الحجارة الدقاق أو صفائح الحجارة" والعسب "جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض" والأكتاف "جمع   1 استطاع المستشرق بلاشير أن يبلغ بكتبة الوحي أربعين رجلا: "Blachere, Intr, 'Cor. ,p. 12" وقد انتهى إلى ذلك من مقارنته بين ما كتبه شفالي وبهل وكازانوفا، واعتمد الأخير على نصوص وردت في طبقات ابن سعد، وعلى ما كتبه الطبري والنووي وصاحب السيرة الحلبية وغيرهم. وانظر بوجه خاص "Casanova, Mohammed et la fin du monde, 69" 2 الإتقان 1/ 99 والبرهان 1/ 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 كتف وهو عظم البعير أو الشاة يكتبون عليه بعد أن يجف" والأقتاب "جمع قتب وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه" وقطع الأديم أي: "الجلد"1. ومعنى تأليف القرآن من الرقاع "الوارد في حديث زيد" ترتيب السور والآيات وفق إشارة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيفه. "فأما الآيات في كل سورة ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه، ولهذا لا يجوز تعكيسها2" ويستدل على ذلك بما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} 3 قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ "المعنى: لماذا تثبتها بالكتابة أو تتركها مكتوبة وأنت تعلم بأنها منسوخة" قال: "يابن أخي، لا أغير شيئا من مكانه"4، فعثمان لا يجرؤ على تغيير آية من مكانها، ولو ثبت له أنها منسوخة، لأنه يعلم أن ليس له ولا لغيره دخل في ترتيب آيات القرآن بعد أن وقّف جبريل رسول الله على ترتيبها، ووقف رسول الله بدوره كتبة الوحي على ذلك. أخرج أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} , إلى آخرها5. وفي السنة   1 انظر شرح هذه الكلمات في "الإتقان" 1/ 101. 2 هذه عبارة الزركشي في "البرهان 1/ 256" وقد أشار السيوطي إلى هذا الإجماع الذي نقله الزركشي حول ترتيب الآيات التوقيفي، ثم ذكر في هذا الموضوع عبارة لأبي جعفر بن الزبير في "مناسباته" يقول فيها: "ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف بين المسلمين" "انظر الإتقان 1/ 4". والمراد من قول الزركشي"لا يجوز تعكيسها" وجوب التزام هذا الترتيب التوقيفي بين الآيات، بحيث لا يقدم فيها ولا يؤخر، وميل الزركشي إلى هذا الرأي يزداد وضوحا بقوله: "وفسر بعضهم قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} أي: اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم ولا تأخير. وجاء النكير على من قرأه معكوسا" البرهان 1/ 259. 3 البقرة 224. 4 صحيح البخاري 6/ 29 وقارن بالإتقان 1/ 105. 5 الإتقان 1/ 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 كثير من الأحاديث التي تصور رسول الله صلى الله عليه وسلم يملي القرآن على كتاب الوحي، ويوقفهم على ترتيب الآيات1، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورا عديدة بترتيب آياتها في الصلاة أو في خطبة الجمعة بمشهد من الصحابة، فكان ذلك دليلا صريحا على "أن ترتيب آياتها توقيفي، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر"2. وأما ترتيب السور فتوقيفي أيضا، وقد علم في حياته صلى الله عليه وسلم، وهو يشمل السور القرآنية جميعا، ولسنا نملك دليلا على العكس، فلا مسوغ للرأي القائل: إن ترتيب السور اجتهادي من الصحابة، ولا للرأي الآخر الذي يفصل: فمن السور ما كان ترتيبه اجتهاديا، ومنه ما كان توقيفيًا. وإذن، فقول الزركشي: "وترتيب بعضها ليس هو أمرا أوجبه الله، بل أمر راجع إلى اجتهادهم واختيارهم, ولهذا كان لكل مصحف ترتيب"3 لا ينبغي أن يسلم على علاته، لأن اجتهاد الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختيارا شخصيًا لم يحاولوا أن يلزموا به أحدا، ولم يدعوا أن مخالفته محرمة، إذ لم يكتبوا تلك المصاحف للناس وإنما كتبوها لأنفسهم, حتى إذا اجتمعت الأمة على ترتيب عثمان أخذوا به وتركوا مصاحفهم الفردية، ولو أنهم كانوا يعتقدون أن الأمر مفوض إلى اجتهادهم، موكول إلى اختيارهم، لاستمسكوا بترتيب مصاحفهم، ولم يأخذوا بترتيب عثمان. ثم إن الزركشي نفسه يرى أن "الخلاف يرجع إلى اللفظ" بين القائلين بالتوقيف والقائلين بالاجتهاد في ترتيب السور، ويتستدل على ذلك بقول الإمام مالك: "إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم، مع   1 انظر على سبيل المثال صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن الباب الثامن عشر, وكتاب الأحكام الباب السابع والتسعون, ومسند الإمام أحمد 3/ 120 و4/ 381. 2 الإتقان 1/ 105. 3 البرهان 1/ 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه: هل ذاك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي؟ "1. وأما الرأي الذاهب إلى أن الترتيب على قسمين توقيفي واجتهادي فلا يستند القسم الاجتهادي فيه إلى دليل صحيح، وهو على كل حال قسم ضئيل لا يكاد يؤبه له، فإذا قال القاضي أبو محمد بن عطية: "إن كثير من السور كان قد علم ترتيبها في حياته صلى الله عليه وسلم، كالسبع الطول2 والحواميم والمفصل"3، رأي أبوجعفر بن الزبير4 أن القسم التوقيفي لابد أن أني يكون أكبر من هذا، وأن القسم الاجتهادي هو الأقل. ويفهم هذا بوضوح من قوله: "الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منا قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف"5. وهذا القليل الذي يمكن أن يجري فيه الخلاف يعتمد على حديث ضعيف جدا، بل هو حديث لا أصل له، يدور إسناده في كل رواياته على"يزيد الفارسي" الذي رواه عن ابن عباس"6، ويزيد الفارسي هذا "يذكره البخاري في الضعفاء، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن، الثابتة بالتواتر القطعي قراءة وسماعا وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك! فلا علينا إذا قلنا: إنه "حديث   1 البرهان 1/ 257. 2 كذا في "البرهان"- بضم الطاء وفتح الواو- والشائع أنها "السبع الطوال" بكسر الطاء. غير أن الزركشي يقول: الطول بضم الطاء جمع طولى، كالكبر جمع كبرى، قال أبو حيان التوحيدي: وكسر الطاء مرذول "البرهان 1/ 244". 3 البرهان 1/ 257. 4 هو أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي، صاحب كتب الذيل على "الصلة" كان من النحاة الحفاظ. توفي سنة 807 "الدرر الكامنة 1/ 84- 86". 5 البرهان 1/ 258. 6 تعليق العلامة أحمد محمد شاكر على الحديث رقم 399 في مسند الإمام أحمد ج1 ص329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لا أصل له"1، ولا داعي للإطالة بذكر هذا الحديث الباطل، بل نشير إلى أن موضع الشاهد فيه جواب عثمان لابن عباس، معللا قرن براءة بالأنفال من غير البسملة: "وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيها بقصتها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، وظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ... إلخ"2. الرأي الراجح المختار إذن أن تأليف السور على هذا الترتيب الذي نجده اليوم في المصاحف هو -كتأليف الآيات على هذا الترتيب- توقيفي لا مجال فيه للاجتهاد. على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم هذا التوقيف، لم يجد من الدواعي ما يحمله على جمع آيات كل سورة في صحائف عدة، ولا جمع القرآن كله بين دفتي مصحف واحد: لأن القراء ومستظهري القرآن كانوا كثيرين، وكان عليه الصلاة والسلام يترقب توالي نزول الوحي عليه، وإمكان ناسخ لبعض أحكامه3، فالقرآن كله كتب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مجموع في مصحف واحد، فقد أغنى عن ذلك حفظ الصحابة له في صدورهم كما وقفهم عليها الرسول ونبههم إلى مواضعها بتوقيف من الله. قال الزركشي: "وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مصحف لئلا يفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم"4. وأكثر العلماء على أن جمع القرآن على عهد رسول الله لوحظ في كتابته أن تشمل الأحرف السبعة التي أنزل عليها، وسوف نناقش في فصل "الأحرف السبعة". وكان كل ما يكتب يوضع في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسخ الكتاب لأنفسهم نسخة منه، فتعاونت نسخ هؤلاء الكتاب والصحف التي في بيت النبي مع حافظة الصحابة الأميين وغير الأميين، على حفظ القرآن وصيانته، مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5.   1 من التعليق على الحديث نفسه، مسند أحمد ج1 ص330 ويستحسن أن يقرأ جميع هذا التعليق فإنه نفيس، ولا يتسع المقام لذكره. 2 مسند أحمد، طبعة شاكر 1/ 331 "حديث رقم 399" وفي الطبعة القديمة ج1 ص57. 3 الإتقان 11/ 98 والبرهان 1/ 235. 4 البرهان 1/ 262. 5 سورة الحجر 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 2- جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه : لقد كتب القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان مفرق الآيات والسور، وأول من جمعه في مصحف مرتب الآيات -كما رويت محفوظة عن الرسول- هو أبو بكر. قال أبو عبد الله المحاسبي1 في كتاب "فهم السنن": "كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشرًا، فجمعها جامع وربطها بخيط، حتى لا يضيع منها شيء"2. وكان جمع أبي بكر للقرآن بعد موقعة اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة، ففي تلك الموقعة بين المسلمين وأهل الردة من أتباع مسيلمة الكذاب، استشهد سبعون من حفظة القرآن من الصحابة، فهال ذلك عمر بن الخطاب وجاء يقترح على أبي بكر جمع القرآن. وفي ذلك يروي البخاري في صحيحه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر "أي: اشتد" يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر   1 هو الحارث بن أسد المحاسبي، ويكنى أبا عبد الله، من أكابر الصوفية، كان عالما بالأصول والمعاملات، وهو أستاذ أكثر البغداديين في عصره، توفي ببغداد سنة 243 "الأعلام للزركلي 2/ 153". 2 البرهان 1/ 238 والإتقان 1/ 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 يجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن! قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري1 لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر"2. وقد يقع قارئ هذا النص في إشكال منشؤه تصريح زيد بأنه لم يجد أخر سورة التوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، ويزول هذا الإشكال سريعا إذا علم القارئ أن غرض زيد أنه لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة3، وقد كان ذلك كافيا لقبوله إياها، لأن كثيرا من الصحابة كانوا يحفظونها، ولأن زيدا نفسه كان يحفظها، ولكنه أراد -ورعا منه واحتياطًا- أن يشفع الحفظ بالكتابة، وظل ناهجا هذا النهج في سائر القرآن الذي تتبعه فجمعه بأمر   1 وفي رواية: "مع أبي خزيمة الأنصاري الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين" البرهان 1/ 234، لكن الذي في تهذيب التهذيب "3/ 140" أن خزيمة بن ثابت الأنصاري هو ذو الشهادتين، فهو غير أبي خزيمة, وفي البخاري "فضائل القرآن" أن زيدا وجد عند خزيمة هذا آية من سورة الأحزاب، فهل اختلط الأمر على الرواة والمؤرخين؟. 2 صحيح البخاري، كتاب "فضائل القرآن" الباب الثالث والباب الرابع وكتاب "الأحكام"، الباب السابع والثلاثون, وفي مسند أحمد ج1 ص13 "وفي طبعة شاكر 1/ 185 رقم الحديث 76" وقارن بما في "طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص201". 3 الإتقان 1/ 101 وينقل السيوطي هنا عن أبي شامة قوله: "لم أجدها مع غيره، أي: لم أجدها مكتوبة مع غيره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أبي بكر: فكان لا بد لقبول آية أو آيات من شاهدين، هما الحفظ والكتابة، وبهذا فسر ابن حجر المراد من الشاهدين في قول أبي بكر لعمر وزيد: "اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه1" وهو حديث منقطع أخرجه ابن أبي داود2 من طريق هشام بن عروة عن أبيه، لكن رجاله ثقات، وواضح أن تفسير ابن حجر يلاحظ فيه الاكتفاء بشاهد واحد على الكتابة، كالشاهد الواحد على الحفظ، وتفسير الجمهور يقوم على ضرورة شاهدين عدلين على الكتابة، وشاهدين عدلين على الحفظ، فلا يكتفى بشاهد واحد على كل من الأمرين، ويستدل على ذلك بما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان"3، قال السخاوي في "جمال القراء": "المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم4". وكأن شذوذ آخر سورة التوبة عن هذه القاعدة بوجودها عند أبي خزيمة وحده، إنما ورعي فيه تواترها لدى الكثير من الصحابة الذين كانوا يستظهرونها حفظا في الصدور: فهذا الاستظهار المتواتر قام مقام شاهدين بأن آخر تلك السورة كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم."وقول زيد: "لم أجدها إلا مع "أبي" خزيمة" ليس فيه إثبات القرآن بخبر الواحد، لأن زيد كان قد سمعها وعلم موضعها ... وتتبعه الرجال كان للاستظهار لا لاستحداث العلم"5.   1 الإتقان 1/ 100. 2 هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، ويكنى أبا بكر، من كبار حفاظ الحديث، من كتبه: المصاحف، والمسند، والسنن، والتفسير، والقراءات، والناسخ والمنسوخ "الأعلام 4/ 224". 3 الإتقان 1/ 100. 4 الإتقان 1/ 100. 5 البرهان 1/ 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقد تم لأبي بكر جمع القرآن كله خلال سنة واحدة تقريبا، لأن أمره زيدا بجمعه كان بعد واقعة اليمامة، وقد حصل الجمع بين هذه الواقعة ووفاة أبي بكر، وحين نتذكر كيف جمع هذا القرآن من الراقع والعسب واللخاف والأقتاب والجلود في هذه المدة القصيرة، لا يسعنا إلا أن نكبر عزيمة الصحابة الذين بذلوا أنفسهم لله, ولا يسعنا إلا أن نقول مع علي بن أبي طالب: "رحم الله أبا بكر، هو أول من جمع كتاب الله بين اللوحين"1. أما عمر فقد سجل له التاريخ أنه صاحب الفكرة، كما سجل لزيد أنه وضعها موضع التنفيذ. وختام النص الذي رواه البخاري عن زيد ينبئنا بأن الصحف التي جمع فيها القرآن كانت عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم صارت إلى عمر وظلت عنده حتى توفاه الله، ثم صارت إلى حفصة بنت عمر لا إلى الخليفة الجديد عثمان. وقد أثارت "دائرة المعارف الإسلامية" شبهة حول هذا الموضوع، فتساءلت: ألم يكن عثمان أجدر أن تودع هذه الصحف عنده؟ 2 ونجيب: بل حفصة أولى بذلك وأجدر، لأن عمر أوصى بأن تكون الصحف مودعة لديها، وهي زوجة رسول الله أم المؤمنين، فضلا على حظفها القرآن كله في صدرها وتمكنها من القراءة والكتابة، وكان عمر قد جعل أمر الخلافة شورى من بعده، فكيف يسلم إلى عثمان هاتيك الصحف قبل أن يفكر أحد في اختياره للخلافة؟ ويبدو أن تسمية القرآن "بالمصحف" نشأت على عهد أبي بكر، فقد أخرج ابن أشتة3 في كتاب "المصاحف" من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: لما جمعوا القرآن فكتبوه على الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسما، فقال بعضهم: "السفر" قال: ذلك اسم تسمية اليهود، فكرهوا ذلك. وقال بعضهم: "المصحف" فإن الحبشة يسمون مثله "المصحف" فاجتمع رأيهم على أن سموه "المصحف"4. وقد ظفر مصحف أبي بكر بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه، وأكثر العلماء على أن طريقة كتابته اشتملت على الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن، فشابه في هذه الناحية الأخيرة جمع القرآن الأول على عهد الرسول الأمين.   1 البرهان 1/ 239؛ المصاحف لابن أبي داود ص5. 2 انظر Encyclopedie de I.htm'Islam II. P.1130. 3 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن أشتة، ويكنى أبا بكر. نحوي محقق ثقة، اشتغل كثيرا بعلوم القرآن. وكتابه "المحبر" يدل على سعة علمه. توفي سنة 360 "انظر غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 184". 4 الإتقان 1/ 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 3- جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه : روى البخاي في "صحيحه" بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق, فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة, فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. فأرسلت به حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف, وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القراء فاكتبوه بلسان قريش, فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق"1.   1 صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، الباب الثاني والباب الثالث، الإتقان 1/ 102، المصاحف لابن أبي داود 18؛ تفسير الطبري 1/ 20-21، ورواية الطبري تربط في سياق واحد بين عمل أبي بكر وعمل عثمان في جمع المصاحف، وهي من حديث زيد بن ثابت نفسه، بينما هي في صحيح البخاري تنفرد بوصف عمل عثمان، وهي من حديث أنس بن مالك كما رأينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ينبئنا هذا النص الصحيح بخمسة أمور على جانب عظيم من الأهمية: أولا- إن اختلاف المسلمين في قراءة القرآن كان الباعث الأساسي على أمر عثمان باستنساخ صحف حفصة وجمعها في مصاحف. فلا مستند لبلاشير وغيره من المستشرقين في التشكيك بنيات عثمان في جمع القرآن، فمن أين لهم أن هذا الخليفة إنما سعى إلى تحقيق هذا العمل العظيم بدافع من نزعته "الأرستقراطية"، فلم يجمع كتاب الله -بزعمهم- إلا باسم الطبقة "الأرستقراطية" المكية التي كان خير ممثل لها1؟! لا مستند لهم في شيء من هذا إلا خيالهم الخصيب، وظنهم الكاذب.. وإلا فأين الرواية التاريخية الصحيحة التي تثبت دعواهم؟ وهل يفضل عاقل الأخذ بتخرصاتهم على ما أورده رجل كالبخاري ما عرف التاريخ من يضارعه في الثقة والضبط والأمانة؟ ثانيا- إن اللجنة التي كلفت بهذا العمل كانت رباعية2. وإذا استثنينا زيد بن ثابت الذي كان مدنيا من الأنصار، لاحظنا أن الأعضاء الثلاثة الباقين كلهم مكيون من قريش3. وهؤلاء الأربعة جميعا من   1 انظرBlachere p. 57 2 ومن الغريب أن ابن أبي داود، لشدة ولوعه بإيراد الروايات المختلفة في الموضوع الواحد مهما تتضارب، لا يكتفي بذكر هذه اللجنة الرباعية التي سماها البخاري، بل يتطوع بتسمية قوائم بلجان أخرى، منها لجنة ثنائية مؤلفة من زيد بن ثابت وسعيد بن العاص، ومنها لجنة ثنتا عشرية "انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص 22، 24، 25". وكان هذا التضارب مادة صالحة للتعليق والتعقيب لدى المستشرق شفالي "انظر: "Schwally, Die Sammlung des Qorans, ll, 50 Sqq" أما المستشرق بلاشير فلا يكتم استغرابه الشديد من ذكر ابن أبي داود اسم أبي بن كعب في إحدى اللجان مع أن المفروض أنه كان قد توفي قبل سنتين على الأقل. وهذا وهم تاريخي من بلاشير، لأنه يظن أن هذه اللجنة الناسخة للمصاحف إنما تألفت في حدود سنة 30هـ"انظر: Blachere, Intr, au Coran 53 في حين أن ابن حجر يقول: "وكان ذلك -أي: استنساخ المصاحف- في سنة خمس وعشرين. قال: وغفل بعض من أدركناه فزعم أنه كان في حدود سنة ثلاثين, ولم يذكر له مستندًا"الإتقان 1/ 102. 3 وهنا يذهب الخيال الخصيب ببلاشير كل مذهب، فيسرف في وصف الرهط القرشيين الثلاثة "بالأرستقراطية"،كما وصف بها عثمان من قبل- وما ندري أي أرستقراطية يعني في ذلك المجتمع الإسلامي الوليد الذي لا تزال تعاليم الدين فيه غضة! -ويشير بعد ذلك إلى صلات= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ثقات الصحابة وأفاضلهم1. ثالثا- إن اللجنة الرباعية باتخاذها صحف حفصة أساسا لنسخ المصاحف إنما استندت إلى أصل أبي بكر. رابعًا- إن القرآن نزل بلغة قريش، فهي اللغة المفضلة لكتابة النص القرآني عند حدوث الخلاف بين القرشيين الثلاثة وزيد. وسنرى أن هذا لا ينافي كتابة القرآن بطريقة تجمع الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، لأن تلك الكتابة كانت غير معجمة ولا مشكولة، ولأن وجوه القراءات كانت توزع على المصاحف حين لا يحتملها الرسم الواحد. خامسًا- إن عثمان أرسل إلى الآفاق الإسلامية بمصحف مما نسخه هؤلاء الأربعة، ورأى -حسما للنزاع- أن يحرق ما عدا ذلك من الصحف والمصاحف الخاصة. ويبدو أن حذيفة بن اليمان لم يكن وحده فزعا من اختلاف المسلمين في القراءة، فقد كثر الخلاف وساور القلق أنفس الصحابة الكرام, وبلغ ذلك عثمان ففزع بدوره ورأى أن يتدارك الأمر قبل استفحاله. وقد أشار إلى ذلك ابن جرير الطبري في "تفسيره" في الخبر الذي أخرجه من طريق أيوب عن   = المصاهرة بين هؤلاء الرهط وبين عثمان، فجمعت بينهم -بزعمه- المصالح المشتركة، فما كان أحد منهم يتصور أن يتم جمع القرآن واستنساخ المصحف في غير مكة مدينتهم الغالية. ولكي يتم بلاشير نسج هذه القصة الخيالية يجعل ثالثة الأثافي موافقة زيد للمكيين الثلاثة وتملقه لهم، لعلمه أن زيدا كان مدنيا أبعد ما يكون عن النزعة الأرستقراطية "انظر: Blachere Intr, au Coran, 58" وهذا الكلام يكاد -لتهافته وتناقضه- يكذب آخره أوله. فحسبنا هذا التكلف في إشراك زيد المدني في خطة المكيين الثلاثة دليلا على فساد هذا الاستنتاج الذي لا يستند إلى عقل ولا نقل. 1 وقد اعترف كثير من المستشرقين بورع أعضاء اللجنة واحتياطهم في نسخ المصاحف. ونذكر على سبيل المثال قول بلاشير: "لا يسع أحدًا الشك في عمق شعور، أعضاء اللجنة بمسئوليتهم. ولئن فاتهم منهج البحث الذي لم يكن متيسرا لأحد في عصرهم، فلم يفتهم الاحتياط والورع". "Blachere, Inter, au Cor., 61" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أبي قلابة أنه قال: "لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: "أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا. اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما"1. وساعد على هذا الاختلاف أن مصاحف أخرى مشهورة قد عرفت إلى جانب صحف حفصة في الزمن الممتد من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى جمع عثمان الناس على مصحف واحد. وأشهر تلك الصحف اثنان منسوبان إلى اللذين قاما بجمعهما: وهما مصحف ابن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود2. ولعل بعض المصاحف الأخرى التي لم تعرف ولم تشتهر كانت كذلك موجودة، كما يذكر ابن النديم في "الفهرست" وابن أبي داود في "المصاحف" وابن أشتة في "المصاحف" وإن كنا لا نميل إلى المبالغة في   1 تفسير الطبري 1/ 21 وتجد مثل هذا النص في الإتقان 1/ 102-103 نقلا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق أيوب عن أبي قلابة أيضًا. وفي الرواية بعد ذلك: "فاجتمعوا فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا في أي آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانًا، فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة, فيقال له: كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا؟ فيقول:كذا وكذا, فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكان". ويقرب من هذا ما في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص21 والمقنع لأبي عمرو الداني ص8. 2 وصاحبا هذين المصحفين من أجل الصحابة وأعلمهم بكتاب الله، أما أبي فبلغ من فضله وثقة الناس بعلمه أن كان الناس يكتبون عنه وهو يملي عليهم حين جمع القرآن في المصحف على عهد أبي بكر رضي الله عنه "انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود ص9".وأما عبد الله بن مسعود فهو أحد الأربعة الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم في حديثه المشهور: "خذوا القرآن عن أربعة: عبد الله -يعني ابن مسعود- وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل, وأبي بن كعب". انظر البخاري 6/ 186. ويلي هذين المصحفين في الشهرة مصحف أبي موسى الأشعري ثم مصحف المقداد بن عمرو، "انظر طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص114-116". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عددها، لأننا لا نملك مستندا صحيحا يؤكد وجودها في زمن ما1. وجدير بالذكر أن هذه المصاحف لم تصل إلينا، وإنما وردتنا نصوص عن ترتيب السور فيها وبعض أوجه قراءاتها، وما تبرح في كثير من جوانبها بحاجة إلى الفحص والتدقيق2.ولكن قرار عثمان بإحراقها3 كان حكيما بلا ريب لأن بقاءها كان لا بد أن يزيد في أسباب الشقاق، ولا سيما وقد بعد عهد الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وقع عمل عثمان من قلوب الناس موقع القبول والاستحسان4 إلا عبد الله بن مسعود الذي كان له -كما رأينا- مصحف خاص به، فإنه عارض في ذلك في بادئ الأمر، وأبى أن يحرق مصحفه5 ثم ألهمه الله أن يرجع   1 من ذلك ما ينسبه ابن أبي داود في "كتاب المصاحف ص50 وما بعدها" إلى عمر بن الخطاب من القيام بجمع مصحف خاص به. ويحلو للمستشرق شفالي أن يذكر ذلك في دراسته القرآنية: انظر "Schwally, Die Sammlung des Qorans, ll, 27" ولكن المستشرق بلاشير كان أبعد نظرا وأوسع أفقا حين أدرك أن روايات ابن أبي داود في هذا الصدد لا تؤكد نسبة مصحف خاص إلى عمر، وإنما تشير إلى بعض أوجه القراءات الخاصة التي آثر عمر أن يقرأ القرآن عليها. انظر: "Blachere. Introducion au coran, 35". وراجع في الصحفة نفسها الحاشية 37 "not 37". 2 وهنا لا يرى بلاشير بدا من الاعتراف بضرورة الاستناد إلى النصوص الصحيحة إذا أردنا أن نعرف شيئا عن تلك المصاحف. انظر: Balchere, Intr., cor, p.37 3 نطق حديث البخاري -كما رأينا- بإحراقها. ولكن ابن أبي داود يأبى إلا أن يذكر عددا من الروايات المتضاربة في هذا الموضوع، فيتردد بني إحراق الصحف وتمزيقها وقذفها في الماء "انظر كتاب المصاحف ص13، 16، 20". ونحن بلا ريب إنما نأخذ برواية البخاري الصحيحة، فا داعي للتردد، فلقد أحرقت تلك المصاحف، وكفى الله المؤمنين شر بقائها. 4 كتاب المصاحف لابن أبي داود ص12. 5 ويضعون في فيه رضي الله عنه عبارات يعرض فيها يزيد بن ثابت الذي كان في صلب أبيه حين اعتنق ابن مسعود الإسلام "ابن أبي داود ص17" أو كان يلعب مع الصبية حين كان ابن مسعود يحفظ بضعا وسبعين سورة أخذها كلها من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم "انظر طبقات ابن سعد ج2 القسم الثاني ص105 وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص15". ولكننا نستبعد صدور هذه الأقوال عن ابن مسعود، وإن صدرت فهي لا تدل إلا على الانفعال الذي اعتراه حين نحي عن لجنة جمع القرآن ونسخه، ومع ذلك فإن أبي داود نفسه هو الذي ذكر عنه رجوعه إلى رأي عثمان "كتاب المصاحف ص12" فلماذ يتعلق بلاشير بالرواية الأولى ويتجاهل الآخيرة؟ انظر "Blachere; Intr. cor., 37" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 إلى رأي عثمان الذي كان في الحقيقة رأي الأمة كلها1 وهي حينئذ تنشد وحدة الكلمة والقضاء على أسباب النزاع. وقد شرعت اللجنة الرباعية في تنفيذ قرار عثمان سنة خمسة وعشرين2، وإنما أمرهم عثمان أن ينسخوا من صحف حفصة مع أنهم كانوا جماعا لكتاب الله في صدورهم، لتكون مصاحفه مستندة إلى أصل أبي بكر المستند بدوره إلى أصل النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب بين يديه بأمره وتوقيف منه، فسدت بذلك كل ذريعة للتقول والتشكيك. قال أبو عبد الله المحاسبي: " ... تلك المصاحف التي كتب منها القرآن كانت عند الصديق لتكون إمامًا ولم تفارق الصديق في حياته ولا عمر أيامه، ثم كانت عند حفصة لا تمكن منها، ولما احتيج إلى جمع الناس على قراءة واحدة وقع الاختيار عليها في أيام عثمان، فأخذ ذلك الإمام ونسخ في المصاحف ... "3. ولما أعيدت صحف حفصة إليها ظلت عندها حتى توفيت، وقد حاول مروان بن الحكم "ت65" أن يأخذها منها ليحرقها فأبت، حتى إذا توفيت أخذ مروان الصحف وأحرقها، وقال مدافعا عن وجهة نظره: "إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف الإمام، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب"4. وقد اختلف في عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق، فقال أبو   1 كتاب المصاحف لابن أبي داود ص12. 2 الإتقان 1/ 102 وعلى هذا الأساس لا مسوغ لما يتوهمه بلاشير من أن اشتراك سعيد بن العاص في اللجنة كان "فخريا" لا عمليا، لأنه كان واليا على الكوفة في حدود سنة 30، وهي السنة التي يظن بلاشير أن اللجنة بدأت فيها تنفيذ قرار عثمان، وقد أشرنا إلى خطأ هذا الظن. وأخذنا بترجيح ابن حجر. راجع ص79 الحاشية 1 "وانظر Blachere, Intr.cor, 56" 3 البرهان 1/ 239. 4 كتاب المصاحف لابن أبي داود ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 عمرو الداني1 في المقنع: "أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعلها على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية واحدًا: الكوفة والبصرة والشام, وترك واحدًا عنده. وقد قيل: إنه جعله سبع نسخ. وزاد: إلى مكة وإلى اليمن وإلى البحرين. قال: والأول أصح، وعليه الأئمة"2. أما السيوطي فيرى "أن المشهور أنها خمسة"3. وإذا أضفنا إليها المصحف الإمام الذي حبسه لنفسه بالمدينة أصبحت ستة، وكما رددنا الخمسة إلى ستة بإضافة المصحف الإمام نستطيع أن نرد السبعة إلى ستة إذا لم نجعل في عدادها ذلك المصحف المذكور. لذلك نميل إلى الرأي القائل: إن اللجنة استنسخت سبعة مصاحف، فأرسل عثمان بستة منها إلى الآفاق، واحتفظ لنفسه بواحد منها، ويزيدنا ميلا إلى هذا الرأي ما علمناه من تمكن بعض الأفراد من الحصول على نسخ لأنفسهم أخذوها من مصحف عثمان، كما فعل عبد الله بن الزبير وأمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عن الجميع4. ويخيل إلينا أنه ليس من المنطق أن يأذن الخليفة عثمان لبعض الأفراد -مهما يبلغ نفوذهم- بالحصول على نسخ من مصاحفه الرسمية، ثم يضن على الأمصار الإسلامية بنسخ من هذه المصاحف توحد كلمتهم وتقضي على أسباب النزاع بينهم، ولا سيما بعد أن اتضح لنا أن اختلاف المسلمين في قراءة القرآن كان الباعث الأساسي على تفكير عثمان بنسخ كتاب الله في المصاحف. وأيا ما تكن عدة تلك المصاحف على وجه اليقين، فإنها جميعا تماثلت في اشتمالها على القرآن كله: مائة وأربع عشرة سورة خالية من النقط والشكل،   1 هو عثمان بن سعيد, أبو عمر الداني، أحد كبار الأئمة في القراءات، أشهر كتبه "التيسير في القراءات السبع"؛ و"المقنع في رسم القرآن" و"المحكم في نقط المصاحف" توفي سنة 444هـ، "انظر إنباه الرواة 2/ 342-341". 2 قارن البرهان 1/ 240 بالمقنع ص10. 3 الإتقان 1/ 104. 4 كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 81، 83، 85، 86. وانظر Anthur Jeffery Materials for the History of the Qur'an.212, 231, 235, 262. والكتاب المذكور هو مدخل الناشر إلى كتاب المصاحف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ومن أسماء السور والفواصل، اقتداء بأبي بكر، فإن صحفه كانت مجردة من كل ذلك. وفوق هذا، جردت المصاحف العثمانية مما ليس بقرآن من الشروح والتفاسير, فمن الصحابة من كان يكتب في مصحفه ما سمع تفسيره وإيضاحه من النبي صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فقد قرأ ابن مسعود وأثبت في مصحفه "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج": ولا ريب أن تلك الزيادة الأخيرة للتفسير والإيضاح، لأنها مخالفة لسواد المصاحف التي أجمعت عليها الأمة، وقد أوضح ذلك ابن الجزري فقال: "وربما يدخلون التفسير في القراءات إيضاحا وبيانا، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه"1 أي: مع القرآن في المصحف الذي يكتبه لنفسه, كمصحف عائشة. لقد جردت إذن مصاحف عثمان من جميع هذه الزيادات التي لم تتوافر قرآنيتها وإنما كانت من قبيل التفسير أو تفصيل المجمل وإثبات المحذوف، وأهملت منها جميع الروايات الآحادية، وأضحت سورها وآياتها مرتبة على النحو الذي نجده في مصاحفنا اليوم, وخلو المصاحف العثمانية من النقط والشكل جعل رسم بعض الألفاظ القرآنية صالحا لأن يقرأ بأكثر من وجه، كقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فقد قرئ كذلك "فتثبتوا"، وكقوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} فقد قرئ أيضًا: "فتلقى آدم من ربه كلماتٌ"، وإنما صلح الرسم للوجهين في الآيتين المذكورتين لورود دليل قاطع على صحة القراءة بهما، لأن رسول الله قرأ بهما أو لأن أحدًا من الصحابة قرأ بهما بحضوره فأقره ولم يعترض عليه. وورود مثل هذا الدليل على تواتر قراءة ما هو الذي يعين صلاحية الرسم لوجه دون آخر. فإن وجد دليل آحادي لم يبلغ درجة التواتر على قراءة ما لم يؤخذ به, واعتبر   1 الإتقان 1/ 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 شاذًا1 لمخالفته أخبار الثقات، ولو صح الرسم للقراءة به، كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، ففي القراءات الآحادية الشاذة: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ". وغني عن البيان بعد هذا أن كل لفظ قرآني لم يتواتر في قراءته أكثر من وجه كان يكتب برسم واحد فقط، وأن كل ما صح فيه تواتر أكثر من وجه وتعذر رسمه في الخط محتملا لجميع الوجوه، كان لا بد أن يلجئ الناسخين إلى كتابته في بعض المصاحف بوجه، وفي بعضها الآخر بوجه ثانٍ، كقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} فقد تواتر فيه وجه آخر صحيح "وأوصى" بالهمز لا بالتضعيف، ولذلك كتب في بعض المصاحف العثمانية بالتضعيف وفي بعضها الآخر بالهمز2. على أن هذا النوع الأخير قليل جدا، وقد ذكر محصورا في آيات معدودة في أكثر الكتب المؤلفة حول "المصاحف". ولكي يزيد عثمان من إقبال الناس على تلقي القرآن من صدور الرجال واعتمادهم على الحفظ وعدم اتكالهم على النسخ والكتابة، راح يرسل في الأكثر الأغلب مع المصحف الخاص بكل إقليم حافظًا يوافق قراءته، فكان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ البصري3. أما إحراق عثمان للمصاحف الفردية فلم يقدم عليه إلا بعد مشورة وتأييد من الصحابة الكرام، فهذا سويد بن غفلة يقول: "قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا"4.   1 الإتقان 1/ 133. 2 يقول السيوطي في "الإتقان 2/ 289" في هذا الصدد، أما القراءات المختلفة المشهورة بزيادة لا يحتملها الرسم ونحوها، نحو أوصى ووصى, وتجري تحتها ومن تحتها، وسيقولون الله ولله، وما عملت أيديهم وما عملته، فكتابته على نحو قراءته. وكل ذلك وجد في مصاحف الإمام". 3 مناهل العرفان للزرقاني 1/ 396-397. 4 الإتقان 1/ 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وقال علي أيضا: "لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل"1. وإن الباحث ليساءل: أين أصبحت المصاحف العثمانية الآن؟ ولن يظفر بجواب شاف على هذا السؤال، فإن الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور أو المبينة لأعشار القرآن تنفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية، لأن المصاحف العثمانية كانت مجردة من كل هذا. على أن بعض المستشرقين جمعوا الكثير من الروايات التاريخية التي تؤكد رؤية بعض العلماء القدامى للمصاحف أو لسور منها في أمصار إسلامية معينة, وفي طليعة هؤلاء المستشرقين الأستاذ كواترمير Quatremere كما أشار إلى ذلك كل من برجشتراسر وبرتزل في دراستهما لتاريخ النص القرآني2. ثم إن المستشرق كازانوفا اعتمد على دراسة سلفه كواترمير فأعاد النظر فيها واستدرك عليها الكثير، ومنه علمنا أن أحد المصاحف العثمانية كان في مستهل القرن الرابع الهجري معروفا في بعض الأوساط العلمية3، وأن الرحالة المشهور ابن بطوطة رأى بنفسه بعض تلك المصاحف التي يظن أنها عثمانية. أو بعض صحائف منها فقط، في غرناطة ومراكش والبصرة وبعض المدن الأخرى.   1 البرهان 1/ 240، وشبيه بهذا ما في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص12. ولكن، بلاشير يرى أن علي بن أبي طالب لم يقف هذا الموقف المؤيد من إحراق عثمان للمصاحف الفردية، بل كان تأييده له في إعدامه لما جمع من القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مفرقا في الرقاع والأكتاف والأقتاب والعسب. إذ كفى الأمة شر الاختلاف بإزالة تلك الآثار المتفرقة التي يخشى أن تزيد مع الأيام أسباب الشقاق "Blachere,Intr, 63" وغاية بلاشير من ذلك واضحة، وهي التشكيك بموقف علي كرم الله وجهه من صنيع عثمان، وهو بذلك يحمل النصوص ما لا يسعها أن تحمل؛ لأنها تضافرت حتى عند شيعة علي وأنصاره المتحمسين على تلقي عمل عثمان بالرضى والقبول. انظر مقال Mirza Alexandre Kazem. Jurnal Asiatique, Decembre 1843. وقارن بكتاب الدكتور محمد عبد الله دراز بالفرنسية عن القرآن: M. A. Draz, Initiation au Koran, p. 24. 2 انظر Bergestrasser et pretzel. Geschichte des Qoran texts, 7 sqq. 3 انظر Casanova, Mohammed et al fia du monde, p. 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 خلال رحلاته الكثيرة1 غير أن كازانوفا- بعد إيراده تلك المعلومات الدقيقة المفيدة- لا يلبث أن يصرح بارتيابه بقيمتها التاريخية، وإذا هو يأتي بأغرب رأي وأجرئه في عالم الدراسات القرآنية، فما جمع عثمان للمصحف -في نظره- إلا قصة وهمية أحكم نسجها في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان توطئة للمبالغة في شأن التحسينات التي أدخلت على رسم المصاحف في عهد الخليفة المذكور2. وأعجب من هذا كله أن كازانوافا لا يتورع عن المجازفة بإلقاء حكم صبياني لا يوافقه عليه عاقل بين الناس، حتى ولا إخوانه المستشرقون3، فيجعل الحجاج بن يوسف الثقفي أول جامع للقرآن4، وقد صرح بلاشير بعقم هذا الرأي وفساده فقال: "لا يمكننا قط أن نتابع كازانوافا على هذا الزعم الجريء الذي تنقصه النصوص الثابتة"5. هذا، ومن المعروف أن ابن كثير6 -وهو من علماء القرن الثامن الهجري- قد رأى مصحف الشام، فهو يقوب في كتابه "فضائل القرآن": "أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله, وقد كان قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة 518هـ، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي، بجبر محكم، في رق أظنه من جلود الإبل"7. ويبدو كذلك أن ابن الجزري صاحب "النشر في القراءات العشر" وابن فضل   1 Casanova, op,cit.,130-139. 2 Casanova, op,cit.,141 3 انظر على سبيل المثال "Blachere, Intr, cor.,p.92" 4 Casanova, op, cit. P,127 5 وانظر بقية استدلاله على خطأ هذا الرأي في "Blachere, Intr, cor. p.68" 6 ابن كثير هو إسماعيل بن عمر بن كثير، عماد الدين أبو الفداء، حافظ مؤرخ فقيه، له تفسير القرآن، والبداية والنهاية في التاريخ، وكثير من المؤلفات القيمة، توفي سنة 774هـ "الأعلام 1/ 109" وسيرد ذكره في مبحث "التفسير". 7 فضائل القرآن ص 49ط. المنار سنة 1348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الله العمري1 صاحب "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" قد رأيا كلاهما هذا المصحف الشامي نفسه, ويميل بعض الباحثين إلى أن هذا المصحف أمسى زمنا ما في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد، ثم نقل إلى إنجلترا2. بينما يرى آخرون أن هذا المصحف بقي في مسجد دمشق حتى احترق فيه سنة 1310هـ3. والذي نعلمه علم اليقين ويعلمه كل باحث منصف أن كتاب غير القرآن لم يحط بالعناية التي أحيط بها ولم يصل بالتواتر كما وصل، فجاء -كما قال شفالي: "أكمل وأدق مما يتوقعه أي إنسان"4. ولاغرو، فهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.   1هو شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري. مؤرخ حجة، أجل آثاره: "مسالك الأبصارفي ممالك الأمصار" توفي سنة 749 "الأعلام 1/ 85". 2 من أرد مزيد الاطلاع على المصاحف المخطوطة والمكتبات التي تشتمل على شيء منها فعليه بالمجلد العاشر من كتاب شوفان: Chauvin, Bibliographie des ouvrages arabes ou relatifs aux Arabes Liege, t, x. p. 45-56 3 انظر خطط الشام 5/ 279، وقد ذكر لي الزميل الأستاذ الدكتور يوسف العش أن القاضي عبد المحسن الأسطواني أخبره بأنه قد رأى المصحف الشامي قبل احتراقه، وكان محفوظا بالمقصورة وله بيت خشب. 4- انظر Die Sammlung des Qorans, ll,93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الفصل الثاني: المصاحف العثمانية في طور التجويد والتحسين نسخت المصاحف العثمانية خالية من الشكل والنقط, فاحتملت -بكتابتها على هذا النحو- عددا من الوجوه والقراءات التي كان الناس في الأمصار يميزون بينها بالسليقة، فلا يحتاجون لقراءتها سليمة إلى الشكل بالحركات ولا الإعجام بالنقط. وقد ظل الناس -كما يقول أبو أحمد العسكري "ت382"- يقرءون القرآن في مصحف عثمان بضعا وأربعين سنة، حتى خلافة عبد الملك، وحينئذ كثرت التصحيفات وانتشرت في العراق1. وأكبر الظن أنه لا يراد "بالتصحيفات" في هذه العبارة إلا ما كان يقع فيه الناس من اللبس في قراءة بعض كلمات القرآن وحروفه بعد أن اختلطوا بغير العرب، وبدأت العجمة تمس سلامة لغتهم2. وفي خلافة عبد الملك سنة 65 للهجرة خاف بعض رجال الحكم أن يتطرق التحريف إلى النص القرآني إذا ظلت المصاحف غير مشكولة، ولا منقوطة3، ففكروا بإحداث أشكال معينة تساعد على القراءة الصحيحة، وفي هذا المجال يذكر كل من عبيد   1 وفيات الأعيان 1/ 125 "ط. سنة.131 القاهرة" وفيما يتعلق بأبي أحمد العسكري هذا انظر "بغية الوعاة للسيوطي" ص221. وقد خلط بروكلمان بين أبي أحمد العسكري وأبي هلال العسكري "في تاريخ آداب العرب" 1/ 27، ثم انتبه إلى ذلك وصححه في الملحق. 2 المحكم "للداني" 18-19. 3 في المحكم 23 عن أبي بكر بن مجاهد: "أن الشكل والنقط شيء واحد، غير أن فهم القارئ يسرع إلى الشكل أقرب مما يسرع إلى النقط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الله بن زياد "ت67" والحجاج بن يوسف الثقفي "ت95" فأما ابن زياد فينسب إليه أنه أمر رجلا فارسي الأصل بإضافة الألف إلى ألفي كلمة حذفت منها، فكان هذا الكتاب ينسخ "قالت" بدلا من "قلت" وكانت" بدلا من "كنت"1، وأما الحجاج فيقال: إنه أصلح الرسم القرآن في أحد عشر موضعا، فكانت -بعد إصلاحه- أوضح قراءة وأيسر على الفهم2. وإلى مثل هذه التحسينات الإملائية كان يشير عثمان بقوله إن صح: "أجد فيه ملاحن ستصلحها العرب"3، فالملاحن والتصحيفات -في هذا المقام- كلها من هذا القبيل، إنما تتعلق بطريقة الرسم التي لا بد أن ينالها التغيير على اختلاف البيئات والعصور، أما النص القرآني نفسه فلا يتغير فيه شيء لأنه مجموع من صدور العلماء، يأخذه بعضهم عن بعض بالتلقي والمشافهة وطرق التواتر اليقيني. وتحسين الرسم القرآني لم يتم دفعة واحدة، بل ظل يتدرج في التحسن جيلا فجيلا حتى بلغ ذروة الجمال في نهاية القرن الثالث الهجري, ولا يعقل أن يكون أبو الأسود الدؤلي هو وحده واضع أصول نقط القرآن وشكله. وقد اختلف العلماء قديما في أول من نقط القرآن4، وترددت في هذا الموضوع أسماء رجال ثلاثة5: أبو الأسود الدؤلي -وهو الأشهر- ويحيى بن   1 ابن أبي داود، كتاب المصاحف 117 وانظر أيضا: Geschichte des Qorantexsts, 255 2 ابن أبي داود، كتاب المصاحف 117، وفي هذه الصفحة تذكر المواضع الأحد عشر. 3 ابن أبي داود، كتاب المصاحف، ص32. 4 حتى لم يستبعد أبو عمرو الداني أن يكون الصحابة هم الذين ابتدءوا بالنقط ورسم الخموس والشعور: "المحكم2". 5 ويرى السيوطي في الإتقان 2/ 290 أنهم أربعة، بإضافة اسم الحسن البصري إليهم، مع أن الحسن لم يعرف له نشط إيجابي في نقط المصحف، غير أنه كان لا يرى كراهة النقط ولا يتشدد فيه كعلماء الصدر الأول، فقد "أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس بنقط المصاحف" الإتقان 2/ 290 فلعل تساهل الحسن في النقط وعدم كراهته له أن يكونا عمدة الباحث في ذكر الحسن بين أوائل الذين نقطوا المصاحف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 يعمر1، ونصر بن عاصم الليثي2. أما أبو الأسود الدؤلي فقد اشتهر بأنه سبق إلى وضع مسائل في العربية3 بأمرعلي بن أبي طالب، ويبدو أن نقطة القرآن لم يكن إلا امتدادًا لما يظن من سبقه هذا4. ويتناقلون قصة في هذا الموضوع تومئ إلى شدة غيرته على لغة القرآن، فقد سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 5، فقرأها بجر اللام من كلمة "رسوله"، فأفزع هذا اللحن أبا الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله! ثم ذهب إلى زياد وإلي البصرة وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت. وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله6، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث. وهنا جد جده، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسر نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين7"، ويرى بعض العلماء أن أبا الأسود إنما نقط القرآن بأمر عبد الملك بن مروان8. وعسير علينا أن   1 ولد يحيى بن يعمر في البصرة في حدود سنة 45، وقضى شطرًا من حياته في العراق، ثم هاجر إلى خراسان، كان هواه مع علي وشيعته "انظر وفيات الأعيان 2/ 227، ط. سنة 1310" ولعل الحجاج نفاه إلى خراسان بهذ السبب. يقال: إنه روى في حداثته عن ابن عباس وابن عمر، وروى عنه قتادة "ت سنة 188" وقد أصبح ابن يعمر قاضي مرو وفي تلك المدينة توفي سنة 129 "انظر وفيات الأعيان 2/ 226، ط. سنة 1310؛ غاية النهاية في طبقات القراء ص381، بغية الوعاة ص417". وفي سير النبلاء 4/ 251 أن وفاته قبل التسعين. 2 نصر بن عاصم الليثي هو أحد قراء البصرة، أخذ عن أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء، توفي سنة 89هـ "انظر بغية الوعاة 403. طبقات القراء 336". 3 البرهان 1/ 378. 4 ولذلك ينقل الزركشي في "البرهان 1/ 250" عن المبرد قوله: "أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي". ومثله في المحكم؟. 5 سورة التوبة 3. 6 في البرهان 1/ 250-251 "وذكر أبو الفرج: أن زياد بن أبي سفيان أمر أبا الأسود أن ينقط المصحف". 7 الزرقاني، مناهل العرفان 1/ 401. وقارن بالإيضاح لابن الأنباري 16/ 1-17/ 1. 8 الإتقان 2/ 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 يحدد -عن طريق هذه الروايات المختلفة- البواعث التي حملت أبا الأسود على نقط القرآن، فلا نعرف هل اندفع من تلقاء نفسه أم استجاب لأمر لم يفكر فيه من قبل, ولا نعرف كنه العمل الذي قام به، ولكننا لا نرتاب قط في أنه قد اضطلع أول الجميع بعبء جسيم، فهذا هو الحد الأدنى مما نطقت به تلك الأخبار والروايات. أما أنه انفرد وحده بوضع أصول نقط القرآن وشكله فليس منطقيا ولا معقولا، فما ينهض بمثل هذا فرد بل أفراد، ولا يبلغ تمامه جيل بل أجيال، وبحسب أبي الأسود أنه كان حلقة أولى في سلسلة نقط القرآن وتجويد رسمه1. وفي هذه السلسلة حلقة أخرى يميل بعض العلماء إلى عدها كذلك حلقة أولى, حين يرون أن "أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر"2، ولا بد أن يكون ليحيى عمل في نقط القرآن، ولكن لا برهان بين أيدينا على أنه كان حقا أول من نقطه إلا أن يكون المراد أنه أول من نقط المصاحف بمرو. وتبلغ قصة أوليته هذه ذروتها من الإحكام والحبك حين يزعم ابن خلكان أنه كان لابن سرين مصحف منقوط، نقطه يحيى بن يعمر3، ومن المعلوم أن ابن سيرين توفي سنة 110هـ, فقد عرف إذن قبل هذا التاريخ مصحف كامل النقط، تام الشكل، بتلك النقط المعوضة للحركات: وهو أمر خطير جدًا ليس من السهل التسليم به4. وأما نصر بن عاصم الليثي فلا يستبعد أن يكون عمله في نقط القرآن امتدادًا لعمل أستاذيه أبي الأسود وابن يعمر، فإنه أخذ عنهما كما أسلفنا، بيد أن أبا أحمد العسكري -في إحدى رواياته الغريبة- يؤكد أن نصر بن عاصم اضطلع   1 انظر "Geschichte des Qorantexts,261 "ef, Blach, Intr.,p. 80, not 103" 2 المصاحف ص141 وقال بذلك أيضا هارون بن موسى كما في "المحكم5" والبخاري كما في "غاية النهاية 2/ 381". 3 وفيات الأعيان ط. سنة 1310ج2 ص227 "وانظر البرهان 1/ 250". 4 قارن بما يقوله المسشرق بلاشير "Blachere, Intr. cor., 80" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بنقط القرآن حين خاطب الحجاج كتابه وسألهم أن يضعوا علامات على الحروف المتشابهة1. وتكاد هذه الرواية تنطق بأن نصرا كان أول من نقط المصاحف2، ولكنها تظل -مع ذلك- أضعف من أن تفصل في هذا الخلاف برأي يقيني قاطع. ولئن تعذر إطلاق الحكم بأن أبا الأسود أو ابن يعمر أو نصرا كان أول من نقط المصاحف، فلا يتعذر القول بأنهم أسهموا جميعا في تحسين الرسم من وتيسير قراءة القرآن على الناس. ولا ريب بعد هذا أن للحجاج -مهما تختلف آراء الناس فيه، ومهما تك نياته الشخصية- عملا عظيما لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن, والحرص عليه. وكلما امتد الزمان بالناس ازدادت عنايتهم بتيسير الرسم القرآني، وقد اتخذ هذا التيسير أشكالا مختلفة، فكان الخليل3 أول من صنف النقط, ورسمه في كتاب، وذكر علله4، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام5. ولا يكاد أبو حاتم السجستاني6 يؤلف كتابه عن نقط القرآن وشكله حتى يكون رسم المصاحف قد قارب الكمال. حتى إذا كان نهاية القرن الهجري الثالث بلغ الرسم ذروته من الجودة والحسن، وأصبح الناس يتنافسون في اختيار الخطوط الجميلة، وابتكار العلامات المميزة   1 هذه الرواية من كتاب "التصحيف" لأبي أحمد العسكري، وقد نقلها ابن خلكان ج1 ص125 ط. سنة 1310. 2 ويظهر أن هذا هو رأي الجاحظ، ففي البرهان 1/ 251: "وذكر الجاحظ في كتاب "الأمصار" أن نصر بن عاصم أول من نقط المصاحف" وقارن بالمحكم6. 3 هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، ويكنى أبا عبد الرحمن. إمام العربية في زمانه، ومستنبط العروض. توفي سنة 175هـ. 4 المحكم 9. 5 كتاب النقط لأبي عمر الداني ص133 "وانظر الإتقان 2/ 290" وقارن بـ"Geschichte des Qorantexts, 262 "cf, Blach.,Intr. cor,97" 6 هو سهل بن محمد، المعروف بأبي حاتم السجستاني، من كبار اللغويين في عصره. توفي سنة 248، وقد ذكر ابن أبي داود في "كتاب المصاحف" مقتطفات من أقوال أبي حاتم في رسم القرآن, ص144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 "حتى جعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها، على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة"1. وما أكثر العقبات التي كانت تعترض اتجاه الناس نحو تحسين الرسم القرآني! فما برح العلماء حتى أواخر القرن الثالث يختلفون في نقط القرآن. وقد بدأت فكرة كراهة النقط مبكرة جدًّا منذ قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: "جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء"2 ثم كان بين التابعين من كره حتى تطييب المصاحف بالطيب أو وضع أوراق الورد بين صحائفها3، وإذا الإمام مالك رضي الله عنه4 في عصر أتباع التابعين يؤثر التفصيل في هذه المسألة، فيبيح النقط "في المصاحف التي تتعلم فيها العلماء، أما الأمهات فلا"5. وتظل الأوساط المحافظة -مع ذلك- تكره نقط المصاحف، فكان يظهر بين الحين والحين قوم معتدلون يفرقون بين النقط والتعشير، وينبهون الناس إلى أن النقط لا ينافي تجريد القرآن. قال الحليمي6: "تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه، لقوله: "جردوا القرآن". وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا، وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها"7. على أن هذه التفرقة الواضحة بين النقط والتعشير8 لم تكن لتمنع الأوساط   1 الزرقاني، مناهل العرفان 1/ 401. 2 أخرجه أبو عبيد "انظر الإتقان 2/ 290", وقارن بالمحكم 10. 3 كما رووا عن مجاهد: "انظر المحكم 15". 4 هو إمام أهل المدينة، وأمير المؤمنين في الحديث، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ويكنى أبا عبد الله. استغرق تأليفه "الموطأ" أربعين سنة عرضه خلالها على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة. توفي سنة 179هـ. 5 أبو عمرو الداني، النقط، 134؛ الإتقان 2/ 291. 6 هو أبو عبد الله حسين بن الحسن الحليمي الجرجاني. أجل كتبه "المنهاج" توفي سنة 403. 7 الإتقان 2/ 291. 8 التعشير: هو وضع علامة بعد كل عشر آيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 المحافظة حتى في مستهل القرن الخامس الهجري من الإصرار على قراءة القرآن في المصاحف المجردة من الشكل، فلم يكن إحداث تلك العلامات في نظر هؤلاء المتشددين إلا بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ومن الغريب أن بعضهم كانوا -كما يلاحظ الداني- يتساهلون في استعمال بعض النقط عوضا عن الحركات، ولكنهم يأبون إباء شديدًا أن يشكلوا القرآن بالحركات نفسها وإن كان أكثر الناس في عصرهم لا يجدون في ذلك بأسًا1. والداني نفسه كان يعترف بوجود التمييز بين النص القرآني المجرد والحركات التي تزاد عليه للتوضيح، "فلا يستجيز النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا يستجيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة لأنه من أعظم التخليط والتغيير للرسوم, ويرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة والهمزات بالصفرة"2. ثم يأتي على الناس زمان يستحبون فيه نقط المصحف بعد أن كرهوه، وشكله بالحركات بعد أن عارضوه, وكما خافوا أن يصيبه التغيير بالنقط والشكل أصبحوا يخافون أن يلحن الجهال فيه إن لم ينقط ويشكل, فالحرص على نص القرآن كان السبب الأساسي في كراهة النقط تارة واستحبابه أخرى. قال النووي3: "نقط المصحف وشكله مستحب، لأنه صيانة له من اللحن والتحريف"4.   1 الداني، النقط، 134-135. 2 الإتقان 2/ 291 "وانظر الداني، النقط ص133". 3 هو الإمام الحافظ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، من كبار المحدثين. له في علوم الحديث تصانيف كثيرة مشهورة. ومن أشهر كتبه "شرح صحيح مسلم" توفي سنة 676هـ. 4 الإتقان 2/ 291. والزرقاني في "مناهل العرفان 1/ 402" ينقل عبارة النووي هذه بأطول مما ذكرنا، ونحن نثبتها هنا إتماما للفائدة, قال النووي في كتابه "التبيان" ما نصه: "قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه وتصفية. وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه. وقد أمن ذلك لكونه محدثًا، فإنه من المحدثات الحسنة، فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك، والله أعلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ومن المحدثات التي كرهها العلماء أول الأمر ثم انتهوا إلى إباحتها أو استحبابها أخيرا بدعة كتابة العناوين في رأس كل سورة، ووضع رموز فاصلة عند رءوس الآي، وتقسيم القرآن إلى أجزاء, والأجزاء إلى أحزاب، والأحزاب إلى أرباع، والإشارة إلى ذلك كله برسوم خاصة. والرموز المشيرة إلى رءوس الآي سارع الناس إلى تلقيها بالقبول قبل سواها؛ لاحتياجهم إلى معرفة تقسيم الآيات، ولا سيما بعد أن انعقد الاجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي1. وقد تباينت طرائق رمزهم إليها، فقد يذكرون عند رأس كل آية رقم عددها من السورة, وقد يغفلون ذلك. وأحيانا يضعون كلمة عشر أو رأس "العين" حرفها الأول عند نهاية كل عشر آيات من السورة2، أو كلمة خمس أو رأس "الخاء" حرفها الأول عند نهاية كل خمس آيات، ولا يجدون في شيء من ذلك بأسا. أما العناوين، التي كانوا يكتبونها في فواتح السور منوهين فيها بأسمائها وما فيها من الآيات المكية والمدنية، فكانت لا بد أن تثير معارضة عنيفة في الأوساط المحافظة، لأن كثيرا من العلماء بله عامة الناس، كانوا يعتقدون أن هذه الأمور ليست توقيفية، بل للصحابة فيها نصيب غير قليل من الاجتهاد. وإذا كنا لم نسلم بأن ترتيب السور اجتهادي، بل رجحنا أنه كترتيب الآيات توقيفي3، فإننا لا نملك دليلا قويا على أن أسماء السور توقيفية أيضا4، وليس في وسعنا أن ندعي الإجماع على مكية بعض السور ومدنية بعضها الآخر   1 ومع ذلك، اختلف العلماء في عدد الآي, وقد بين الزركشي "البرهان 1/ 251-252" أن سبب هذا الاختلاف "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآي للتوقيف؛ فإذا علم محلها وصل للتمام، فيحسب السامع أنها ليست فاصلة". 2 وفي البرهان 1/ 251: "وأما وضع الأعشار فقيل: إن المأمون العباسي أمر بذلك؛ وقيل: إن الحجاج فعل ذلك". 3 راجع ص69 إلى 71. 4 قال الزركشي في البرهان 1/ 270: "وينبغي البحث عن تعداد الأسامي: هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فلن يعدم الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها وهو بعيد". وانظر الإتقان 1/ 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 بحيث لا يكون في السورة الواحدة إلا قول واحد متفق عليه1: فهذا الاختلاف هو الذي آثار تلك المعارضة العنيفة لكتابة العناوين في فواتح السور. لكن حدة المعارضة ما لبثت أن خفت2، فلم يقنع الناس بكتابة تلك العناوين بل طفقوا يفتنون في تنميقها وتذهيبها حتى أوشك الجهال أن يعتقدوا أنها جزء لا يتجزأ من الوحي القرآني. ولما أباح الناس لأنفسهم كتابة الرموز الفاصلة بين الآيات، ثم تجرءوا حتى على كتابة العناوين في رءوس السور، لم يعد ممكنا منعهم من الذهاب في تجويد المصاحف كل مذهب، وقد بدا لهم أن من تجويدها تجزئتها وتحزيبها، وراحوا يلتمسون على ذلك أدلة من الروايات المأثورة, قال الزركشي: "وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين, كما في الربعات بالمدارس وغيرها". وقد أخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجه عن أوس بن حذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة, وثلاثة عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى "يختم"3. وقد أسهم الخطاطون في تجويد المصاحف وتحسين كتابتها، ويقال: إن الخليفة الوليد "من سنة 86 إلى سنة 96هـ" اختار لكتابة المصاحف خالد بن أبي الهياج الذي كان مشهورًا بجمال خطه وهو الذي خط المحراب في المسجد النبوي بالمدينة4. وقد ظل الخطاطون يكتبون المصاحف بالخط   1 وانظر في "الإتقان 1/ 18-23" الاختلاف حول مكية بعض السور ومدنية بعضها. وسنعرض لهذا البحث في مبحث "المكي والمدني". 2 تجد في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص158 وما بعدها وصفا لموقف المعارضين والمتساهلين في كتابة هذه العناوين والرموز. 3 البرهان 1/ 250 وهكذا شاعت قسمة القرآن إلى ثلاثين جزءًا، وطبعت أحيانًا هذه الأجزاء مستقلة تيسيرا على صغار التلاميذ في المدارس, ثم شاعت قسمة كل جزء إلى جزئين, وقسمة الحزب إلى أربعة أرباع. 4 انظر الفهرست لابن النديم، ص6 ط. فلوجل سنة 1871. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الكوفي حتى أواخر القرن الرابع الهجري1، ثم حل محله خط النسخ الجميل في أوائل القرن الخامس, وفيه جميع النقط والحركات التي ما نزال نستخدمها في الكتابة إلى يومنا هذا2. ويشاء الله أن ينتشر كتابه في الآفاق بوساطة الطباعة, وهذه أيضا مرت -ككتابة القرآن خطا- بأطوار التجويد والتحسين. وقد ظهر القرآن مطبوعا للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة 1530م، ولكن السلطات الكنسية أصدرت أمرًا بإعدامه حال ظهوره. ثم قام هنكلمان Hinkelmann بطبع القرآن في مدينة هانبورغ Hanboutg سنة 1694، ثم تلاه مراكي Marracci بطبعه في بادو Padoue سنة 1698، ولم يكن لأي واحدة من هذه الطبعات الثلاث أثر يذكر في العالم الإسلامي3، ثم ظهرت أول طباعة إسلامية خالصة للقرآن في سانت بترسبورغ بروسيا "Saint- Petersbourg" سنة 1787، وهي التي قام بها مولاي عثمان، وظهر مثلها في قازان4، وإذا بإيران تقدم طبعتين حجريتين إحداهما في طهران سنة 1248هـ-1828م، والأخرى في تبريز سنة 1248هـ-1833م. ويقوم فلوجل Flugel سنة 1834 بطبعته الخاصة للقرآن في ليبزيغ Leipzig فيتلقاها الأوربيون بحماسة منقطعة النظير،   1 فيما يتعلق بأشكال الخطوط التي كتبت بها المصاحف انظر ما كتبه موريتز في دائرة المعارف الإسلامية. Moritz, Encyclopedia de l'Islam, Article Arabie, 394. وفيما يتعلق بتفضيل الخط الكوفي انظر: Geschichte des Qorantexts, 251 sqq, cf. Blach., Intr. ,8 note 112. 2 انظر Blachere, Intr. cor.,133. 3 Blachere, Id., 133. 4 اعتمدنا في دراسة هذه الأطوار في طبع القرآن على ما كتبها المستشرق بلاشير "Blachere, Intr., cor.,133" واقد اعتمد بلاشير بدوره -فيما يتعلق بالطبعات التي ظهرت قبل سنة 1810 -على ما كتبه كل من شنرر وبفنملر. انظر: Schnurrer ch. f. Bibliotheca arabica, nos 367-286 pfannmuller, Handbuch der Islam - Literatur, Berlin, 1925 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بسب إملائها الحديث السهل، ولكنها لا تصيب نجاحًا في العالم الإسلامي, وتظهر في الهند طبعات للقرآن أيضًا، ثم تعنى الآستانة ابتداء من سنة 1877 بهذا الأمر العظيم. ثم كان حدث سعيد على جانب عظيم من الأهمية حين ظهرت في القاهرة طبعة أنيقة جميلة دقيقة لكتاب الله سنة 1342هـ-1923م تحت إشراف مشيخة الأزهر، وبإقرار اللجنة المعينة من قبل الملك فؤاد الأول, وقد كتب هذا المصحف وضبط على ما يوافق رواية حفص لقراءة عاصم، وقد تلقى العالم الإسلامي هذا المصحف بالقبول وأصبحت ملايين النسخ التي تطبع منه سنويا هي وحداها المتداولة، أو تكاد تكون وحدها المتداولة، لإجماع العلماء في مشارق الأرض ومغاربها على الدقة الكاملة في رسمه وكتابته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الفصل الثالث: الأحرف السبعة نجد في الأحاديث الصحيحة المروية من طرق مختلفة ما يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح بنزول القرآن على سبعة أحرف. ومن أوضح هذه الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم, واللفظ للبخاري، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، ثم لببته بردائه أو بردائي, فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت له: كذبت, فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام"، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا نزلت" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف, فاقرءوا ما تيسر منه" 1. ويبدو أن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف مروي عن جمع كبير من الصحابة يتعذر إحصاؤه، ففي مسند الحافظ أبي يعلي2 أن عثمان رضي   1 صحيح البخاري 6/ 185. ويقرب من هذا ما في تفسير الطبري 1/10 ومسند أحمد 1/ 24 "وفي طبعة شاكر ج1ص224 رقم الحديث 158" والبرهان 1/ 211. 2 هو أحمد بن علي بن المثى التميمي الموصلي، الحافظ الثقة، المعروف بأبي يعلى وله مسندان صغير وكبير. توفي بالموصل سنة 307 "الرسالة المستطرفة 53-54". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الله عنه قال يوما وهو على المنبر: "أذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف" لما قام. فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك، فقال عثمان رضي الله عنه: "وأنا أشهد معهم"1. وتوافق هذه الجموع التي لم تحص عددا2 على هذا الموضوع، حمل بعض الأئمة على القول بتواتر الحديث, وفي طليعة هؤلاء أبو عبيد القاسم بن سلام3. وإذا لم يتوافر التواتر في الطبقات المتأخرة، فحسبنا صحة الأحاديث التي ذكرناها مؤكدا لهذه الحقيقة الدينية التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويميل جمهور العلماء إلى أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة4, واختار القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني هذا الرأي وقال: "الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضبطها عنه الأئمة، وأثبتها عثمان والصحابة في المصحف، وأخبروا بصحتها، وإنما حذفوا منها ما لم يثبت متواترًا"5. وعبارة "الأحرف" -وهي جمع حرف- الواردة في الحديث تقع على معان مختلفة، فقد تكون بمعنى القراءة كقول ابن الجزري: "كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر"6. وقد تفيد المعنى والجهة 7 كما يقول أبو جعفر   1 الإتقان 1/ 78. 2 وفي وسعنا أن نكون فكرة عن هذا العدد الذي يتعذر إحصاؤه إذا استقصينا هذه الأسماء التي يصرح بها السيوطي في قوله: "ورد حديث" "نزل القرآن على سبعة أحرف" من رواية جمع من الصحابة, أبي بن كعب, وأنس، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسلمان بن صرد، وابن عباس، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان, وعمر بن الخطاب، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو بن العاص, ومعاذ بن جبل؛ وهشام بن حكيم, وأبي أيوب, فهؤلاء أحد وعشرون صحابيًا" الإتقان 1/ 78. 3 نقل السيوطي عنه أنه نص على تواتر حديث الأحرف السبعة "انظر الإتقان 1/ 78". 4 الإتقان 1/ 85. 5 البرهان 1/ 224. 6 ابن الجزري، طبقات القراء 1/ 292. 7 البرهان 1/ 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 محمد بن سعدان النحوي1، ولكن القول بأن المراد بها القراءات -كما حكي عن الخليل بن أحمد- هو أضعف الأقوال بلا ريب2، ولا سيما إذا توهم القائل أنها ما يسمى بالقراءات السبع3. واختلاف العلماء في تحديد المراد من "الأحرف" المذكورة في الحديث أثار عددا من الأقوال المتضاربة في حقيقة الذي أنزل، فرأى فيه بعضهم خمسة وثلاثين وجها4، وبلغ بها آخرون أربعين5، وأكثرها لا يؤيده نقل صحيح ولا منطق سليم. ومنشأ الخطأ فيها إرادة التعيين على سبيل القطع والجزم مع أنه لم يأت في معناها -كما يقول ابن العربي: "نص ولا أثر, واختلف الناس في تعيينها"6. ولم يكن بد من أن يتساءل العلماء: هل العدد محصور في سبعة أحرف أم المراد التوسعة على القارئ ولم يقصد به الحصر؟ فالذين يستبعدون الحصر هنا يغالون في هجران النصوص البالغة درجة التواتر -كما أسلفنا- مع أن تواردها على عدد "السبعة" لا يعقل أن يكون غير مقصود، ولا سيما إذا لوحظ أن الحديث يتناول قضية ذات علاقة مباشرة بالوحي وطريقة نزوله، وفي مثل هذه الأمور لا يلقي الرسول صلى الله عليه وسلم الخبر غامضًا، ولا يذكر عددا لا مفهوم له، فما نقل عنه علماء الصحابة هذا في شيء له بالاعتقاد صلة. ولكن قوما ممن لا يبالون بالنصوص ولا يتورعون في هجرانها أو إخراجها عن ظاهرها تسرعوا فرأوا "أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد،   1 هو أحد القراء بدأ يقرأ بقراءة حمزة ثم اختار لنفسه قراءة خاصة تنسب إليه. توفي سنة 231 "انظر إنباه الرواة 2/ 140؛ طبقات القراء 2/ 143؛ بغية الوعاة 45". 2 البرهان 1/ 214. 3 الإتقان 1/ 78 ويعلق السيوطي على هذا الرأي الضعيف بقوله: "وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل، مثل {عَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، و {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ", "وانظر أيضا البرهان 1/ 223". 4 البرهان 1/ 212. 5 الإتقان 1/ 78. 6 البرهان 1/ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بل المراد التيسير والتسهيل والسعة, ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين"1، ومن الغريب أن ينسب مثل هذا الرأي إلى القاضي عياض2 وهو الذي لا يفضل على الرواية الصحيحة شيئًا, ولكن السيوطي رد على هذا لقول ردا قويا مؤيدا بالنصوص3. وإذن فلفظ السبعة لا يراد به الكثرة، بل الحصر كما فهمه أكثر العلماء، وهو الذي كان السبب فيما عانوه من محاولة البحث عن هذا العدد المعين "فالأكثر -كما يقول ابن حبان4- على أنه محصور في سبعة"5. بيد أن كثيرا من تلك المحاولات لم يحالفها التوفيق, كما رأينا في قول من جنح إلى أن الأحرف السبعة هي القراءات. ويكاد يقارب هذا القول في الضعف رأي الذين حصروا هذه الأحرف في بعض اللهجات أو اللغات، مع ما بين المفهومين من تغاير دقيق. فأما اللهجات فليست عند بعض العلماء6 من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى، لأن الإظهار والإدغام، والروم والإشمام، والتخفيف والتسهيل، والنقل، والإبدال، صفات متنوعة في أداء اللفظ الواحد، وتنوعها لا يخرجه عن أن يكون لفظا واحدا، ولكننا -مع ذلك- لا نضعف هذا القول بهذا السبب, فإن تنوع صفات الأداء في اللفظ الواحد يوشك أن   1 الإتقان 1/ 78 وانظر محاسن التأويل للقاسمي 1/ 287 والمستشرقون يحلو لهم الضرب على هذا الوتر كثيرا، فعدد "السبعة" له فعل سحري في نفوس الساميين. انظر: Buhl, Encyclopedie de l'Islam. II, 1135 b. Noldede, Geschichte des Qorans, p.50. 2 الإتقان 1/ 87 والقاضي عياض هو عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي, صاحب كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" توفي سنة 544هـ "الأعلام 2/ 749". 3 الإتقان 1/ 78. 4 هو الحافظ محمد بن حبان البسي ويكنى أبا حاتم, من كبار المحدثين، توفي سنة 354 "شذارت الذهب 3/ 16". 5 البرهان 1/ 212. 6 هو ابن الجزري كما في الإتقان 1/ 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 بجعله أكثر من لفظ، وإنما نضعفه بسبب الاقتصادر عليه، إذ حفظت لنا أوجه أخرى من الاختلاف ليست من اللهجات في شيء, كما سنرى بوضوح. وإذا كنا في الاختلاف في اللهجات لا نجد إلا تنوعا في صفات الأداء في اللفظ الواحد، ففي اختلاف اللغات نجد أحيانا تباينا بين لفظ وآخر في موضوع واحد، ولو أمكننا حصر اللغات العربية المختلفة هذا النوع من الاختلاف في سبع لا تزيد ولا تنقص, وقبل منا هذا الحصر في غير تردد، ومن غير شعور بتعسفنا فيه، لكانت هذه اللغات السبع هي الأحرف السبعة من غير ما حاجة إلى الجدل العقيم, ولكن التعسف في الموضوع أوضح من أن يخفى على ذي بصر سواء أكانت لغات العرب هذه هي لغات قريش وهذيل, وتميم, وأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر1، أو كانت لغات قبائل مضر خاصة, وهي هذيل وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وقريش2, لأن في القرآن الكريم ألفاظا من لغات قبائل أخرى غير التي ذكرت على كلا الرأيين، تمثلت كلها في لغة قريش، وبلغ أبو بكر الواسطي3 بتعدادها أربعين لغة في كتابه "الإرشاد في القراءات العشر", فكلمة "اخسئوا" بمعنى اخزوا بلغة عذرة, وكلمة "بئيس" بمعنى شديد بلغة غسان، وكلمة "لا تغلوا" بمعنى لا تزيدوا بلغة لخم, وكلمة "حصرت" بمعنى ضاقت بلغة اليمامة، وكلمة "هلوعا" بمعنى ضجرًا بلغة   1 وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن يحيى ثعلب "البرهان 1/ 217". وقال الأزهري في "التهذيب": إنه المختار, واحتج بقول عثمان حين أمرهم بترتيب المصاحف: "وما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش, فإنه أكثر ما نزل بلسانهم": "البرهان 1/ 218" وقد نبهنا على أن الاختلاف هنا -كما يفهم البعض- يدور حول الكتابة والرسم لا أي شيء آخر "راجع ص80". 2 الإتقان 1/ 80 والزركشي في "البرهان 1/ 219" يورد اعتراضًا على هذا التخصيص على لسان أبي عمر بن عبد البر الذي يقول: "وأنكر آخرون كون كل لغات مضر في القرآن لأنه فيهما شواذ لا يقرأ بها، مثل كشكشة قيسن وعنعنة تميم ... وهذه لغات يرغب بالقرآن عنها". 3 أبو بكر الواسطي هو محمد بن محمد بن سليمان، الحافظ المعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 خثعم، وكلمة "الودق" بمعنى المطر بلغة جرهم1. وقد استبعد ابن عبد البر2، أن يكون معنى سبعة أحرف سبع لغات، "لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض في أول الأمر, لأن ذلك من لغته التي طبع عليها. وأيضا فإن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي, وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته3" وقد يدافع عن ذلك بإرادة الكثرة في عدد السبعة، ولكننا بينا ضعف هذا الرأي في مقام كهذا لا بد أن يكون فيه للعدد مفهوم. وهذه الآراء السابقة كلها -على ضعفها- لا نستغرب ذكر العلماء لها بين تلك المجموعة من الأقوال الشارحة للأحرف السبعة، ولكننا لا نستغرب وحسب بل نستنكر استنكارًا شديدًا جنوح بعض العلماء إلى مفهومات سقيمة ما أنزل الله بها من سلطان, يظنون أنهم يفسرون بها الحديث تفسيرا باطنيا عميقا، ويرون في الأحرف السبعة ما لا يراه الناس. من ذلك أن المراد بهذه الأحرف سبعة علوم: علم الإنشاء والإيجاد، وعلم التوحيد والتنزيه، وعلم صفات الذات وعلم صفات الفعل، وعلم صفات العفو والعذاب, وعلم الحشر والحساب, وعلم النبوات4". ومن ذلك أن المراد سبعة أشياء: "المطلق والمقيد، والعام والخاص، والنص والمؤول, والناسخ والمنسوخ, والمجمل والمفسر, والاستثناء وأقسامه"5. وقد بلغت الجراءة ببعضهم حد الاستشهاد بحديث ضعيف على رأيهم الباطل في هذه الأحرف السبعة، فرفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديثا رواه ابن مسعود قال:   1 الإتقان 1/ 230 ومن أراد أمثلة أخرى فلينظر الإتقان 1/ 227-231 "النوع لسابع والثلاثون فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز". 2 هو يوسف بن عبد الله بن عبد الصمد بن عبد البر النمري القرطبي، صاحب كتاب الاستيعاب توفي سنة 463 "شذرات الذهب 3/ 314". 3 البرهان 1/ 219 وانظر فيما يتعلق بالاستدلال بقرشية عمر وهشام "الإتقان 1/ 82". 4 الإتقان 1/ 83. والزركشي في "البرهان1/ 224-225" يذكر هذه العلوم السبعة مع الشواهد القرآنية عليها، لكننا اكتفينا بعبارة الإتقان طلبا للاختصار. 5 البرهان 1/ 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 "كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه, وأمثال. فأحلوا حلاله, وحرموا حرامه، واعتبروا بأمثاله, وآمنوا بمتشابهه, وقولوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1. قال ابن عبد البر: "وهو حديث عند أهل العلم لا يثبت، وهو مجمع على ضعفه"2. وكل هذا يهون أمام تلك المشكلة الخطيرة التي أثارها بعض أئمة المفسرين عن حسن نية, ففتحوا بها الباب على مصراعيه لشبهات المستشرقين وضعاف الإيمان من المؤمنين، وتتمثل هذه المشكلة في حصر هذا الفريق من العلماء المراد من الأحرف السبعة في "سبعة أوجه من المعاني المتفقة، بالألفاظ المختلفة, نحو أقبل وهلم وتعال, وعجل وأسرع, وأنظر وأخر وأمهل، ونحوه"3. وظاهر لفظ الطبري في تفسيره ربما أفاد هذا، فهو يستشهد بقوله عليه الصلاة والسلام لابن الخطاب: "يا عمر، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة" 4, فكان لا بد أن يتثبت المستشرقون بهذا ليؤكدوا "أن نظرية القراءة بالمعنى كانت بلا ريب أخطر نظرية في الحياة الإسلامية لأنها أسلمت النص القرآني إلى هوى كل شخص، يثبته على ما يهواه"5. وفي هذا حمل للنصوص على غير وجهها الحقيقي، فليست النظرية هنا مما يصح حقا أن يسمى "القراءة بالمعنى"6 كما نفهمه مثلا في رواية   1 البرهان 1/ 216. 2 البرهان 1/ 216. 3 البرهان 1/ 220. 4 الطبري، تفسيره: 1/ 10. 5 Blachere, Intro. cor, 69. وانظر أيضا: Geschichte des Qorans, III, 105. 6 وقد أنكر ابن الجزري في "النشر" القراءة بالمعنى فقال: "أما من يقول بأن بعض الصحابة, كابن مسعودن كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، إنما قال: نظرت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم" انظر محاسن التأويل للقاسمي 1/ 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الحديث بالمعنى، إذ "القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف أو تثقيل أو غيرهما1. فإذا صح أنه عليه الصلاة والسلام وسع على المسلمين في أول الأمر، وراعى التخفيف على العجوز والشيخ الكبير2، وأذن لكل منهم أن يقرأ على حرفه, أي على طريقته في اللغة، لما يجده من المشقة في النطق بغير لغته، فليس معنى هذا أنه كان يأذن لهم بإثبات هذه القراءات وكتابتها على أنها حروف نزل عليها القرآن. وإذن، فما كانت توسعته عليه الصلاة والسلام في هذا النوع من القراءة إلا تخفيفا على بعض الأفراد في حالات خاصة، وأما ما أذن فيه من هذه الحالات بإثباته وأقر كتبة الوحي عليه فهو محفوظ بطريق التواتر في أحرف قليلة معدودة يرفض ما عداها ولو جاء من طريق صحيح آحادي, لأن التواتر شرط في إثبات القرآنية3. فتعميم هذه الحالات الفردية على جميع الأحرف السبعة, كأنها ضرب من القراءة بالمعنى، لا يمكن أن يقتصر عليه في فهم الحديث. وإذا لم يصح الاقتصار على أحد تلك الآراء السابقة فقد بدا لنا أن استقصاء الممكن منها، وهو الذي لا يعارض النقل والعقل، ربما كان أصوب الآراء وأبعدها عن الإفراط والتفريط: فالمراد من هذه الأحرف السبعة -والله أعلم- الأوجه السبعة التي وسع بها على الأمة، فبأي وجه قرأ القارئ منها أصاب. ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم يصرح بهذا كل التصريح حين قال: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته فلم أزل أستعيده حتى انتهى إلى   1 البرهان 1/ 318 وانظر الإتقان 1/ 138. 2 ويشهد لذلك -كما يقول الزركشي- "ما رواه الترمذي عن أبي بن كعب أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: "يا جبريل, إني بعثت إلى أمة أميين, منهم العجوز, والشيخ الكبير، والغلام، والجارية, والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط" فقال: "يا محمد: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف" وقال: حسن صحيح "انظر البرهان 1/ 227". 3 انظر البرهان 2/ 125 معرفة وجوب تواتره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 سبعة أحرف" 1 فاللفظ القرآني الواحد مهما يتعدد أداؤه, وتتنوع قراءته لا يخرج التغاير فيه عن الوجوه السبعة الآتية: الأول: الاختلاف في وجوه الإعراب، سواء أتغير المعنى أم لم يتغير. فمما تغير فيه المعنى مثل قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 2 فقد قرئ: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ"، ومما لم يتغير فيه المعنى مثل قوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} فقد قرئ: "وَلا يُضَارُّ"3. الثاني: الاختلاف في الحروف إما بتغير المعنى دون الصورة، وهو ما يعبر عنه أحيانًا بالاختلاف في النقط, مثل "يعلمون وتعلمون"4 وإما بتغير الصورة دون المعنى، مثل "الصراط والسراط" و"المصيطرون والمسيطرون"5. وقد رسم في المصاحف بالصاد المبدلة من السين التي هي الأصل, فوافقت قراءة الصاد رسم المصحف تحقيقا, وقراءة السين رسم المصحف تقديرًا. والثالث: اختلاف الأسماء في إفرادها وتثنيتها وجمعها وتذكيرها وتأنيثها6، مثل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} 7، فقد   1 صحيح البخاري 6/ 185. 2 سورة البقرة 37 "وانظر الإتقان 1/ 79" ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قرئ: "رَبَّنَا بَاعِدْ" سورة سبأ 19، إحداهما بصيغة الطلب, والأخرى بصيغة الخبر، والثانية قراءة يعقوب, فقد تغير المعنى بالإعراب، والصورة واحدة "انظر إتحاف فضلاء البشر لأحمد الدمياطي ص359". 3 سورة البقرة 282 "وانظر الإتقان 1/ 79" ومنه قوله تعالى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} قرئ: "ويضيق" "بفتح القاف" سورة الشعراء 13. والثانية قراءة يعقوب. "انظر، إتحاف فضلاء البشر ص331". 4 وفي البرهان "1/ 222" أن الإمام مالكا حين سئل عن "يعلمون وتعلمون" قال: "لا أرى باختلافهم بأسا، وقد كان الناس ولهم مصاحف". ومن هذا قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} بالزاي, وقرئ "ننشرها" بالراء, سورة البقرة 259. والأولى قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف "انظر إتحاف فضلاء البشر 162". 5 من قوله تعالى: {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} من سورة الطور 37. 6 الإتقان 1/ 79. 7 سورة المؤمنون 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 قرئ "لأمانتهم" بالإفراد. ومن الواضح أنها رسمت في المصاحف العثمانية "لامنتهم" لخلوها من الألف الساكنة، ومؤدى الوجهين واحد، لأن في الإفراد قصدًا للجنس وفي الجنس معنى الكثرة, ولأن في الجمع استغراقًا للأفراد, وفي الاستغراق معنى الجنسية: فرعاية "الأمانة" كرعاية "الأمانات" تشمل الكل والجزئيات. ولأمر ما جاءت لفظة "العهد" في الآية نفسها مفردة على كلتا القراءتين، وبكلا الحرفين, فما قرئ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَتِهِمْ وَعَهُودِهِمْ رَاعُونَ} , ولا قرئ {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهُودِهِمْ رَاعُونَ} . ومن ذلك أن "البقر" في قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ذكر في حرف قصدا للجنس, فبني فعله للماضي، وذكّر فقرئ: {تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ، وأنث في حرف قصدًا للجماعة، فصيغ صياغة المضارع وأنث: {تَشَابَهَ} بعد حذف إحدى التائين تخفيفا، إذ أصله: "تتشابه"1. الرابع: الاختلاف بإبدال كلمة بكلمة يغلب أن تكون إحداهما مرادفة للأخرى, وإنما تتفاوتان بجريان اللسان بإحداهما لدى قبيلة دون أخرى, كقوله تعالى: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوش} فقد قرئ: "كالصوف المنفوش"2، أو يكون بين الكلمتين المبدلتين تقارب في المخارج يسمح بالتناوب بينهما، ويكاد يشعر بتصاقبهما معنى لتصاقبهما لفظا، كقوله: {طَلْحٍ مَنْضُودٍ} 3 فقد قرئ: "طلع"، ويلاحظ أن مخرج العين والحاء واحد هو الحلق، فهما أختان تتعاقبان. وأما قراءة ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما"4 بدلا من {أَيْدِيَهُمَا} فشاذ, لأنها وردت من طريق آحادي. ومن المؤكد أن   1 البقرة 70. وقارن بالمذكر والمؤنث للمبرد 132/ 1. وراجع كتابنا "دراسات في فقه اللغة 87". 2 سورة القارعة 5 "وانظر البرهان 1/ 215". 3 سورة الواقعة 29 "وانظر البرهان 1/ 251". وكان الإمام مالك يجيز قراءة "فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" بدلا من {فَاسَعَوْا} سورة الجمعة 9 "البرهان 1/ 222" مع أن هذه القراءة لم تبلغ درجة التواتر، فقد انفرد بها عمر، وابن عباس, وابن مسعود, وقرأها الباقون {فَاسَعَوْا} البرهان 1/ 215 حاشية 9. 4 سورة المائدة 38 "وانظر البرهان 1/ 336". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 قراءة هذا الصحابي بها إنما كانت إدراجا على سبيل التفسير. الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير فيما يعرف وجه تقديمه أو تأخيره في لسان العرب العام، أو في نسق التعبير الخاص، كقوله تعالى في شأن المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُون} قرئ: "فَيُقْتَلُونَ وَيَقْتُلُون"1 ففي الحرف الأول يسرع المؤمنون إلى قتل الأعداء، وفي الحرف الثاني كأنما يتلهفون إلى ساحة المعركة تلهفا لعل الله يتخذهم شهداء، فإذا اختلفت صياغة التعبير بالتقديم والتأخير فإن مؤدى الحرفين ما انفك واحدا لم ينله شيء من التغيير. أما قراءة أبي بكر "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ" بدلا من قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} 2 فقراءة آحادية لم تبلغ درجة التواتر، بل شاذة3 خالف بها إجماع الصحابة إن صح أنه قرأ به: ذلك بأن العرب تعرف للموت سكرة وسكرات، ولكنها لا تعرف الحق إلا يقظا صاحيا واعيا. وإنما يسهو الإنسان، أو يزل منه اللسان, فيضع كلمة مكان كلمة وهو لا يدري كما صنع أبو بكر أو كما رووا عنه ونسبوا إليه. السادس: الاختلاف بشيء يسير من الزيادة والنقصان جريا على عادة العرب في حذف أدوات الجر والعطف تارة وإثباتها تارة أخرى. ولذلك لم تحفظ هذه الضروب من الزيادة والنقص إلا في أحرف قليلة محدودة مع التنبيه على شذوذ كل ما لم يحفظه الأئمة الثقات منها: فمن الزيادة قوله تعالى في سورة التوبة: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} قرئ: "مِنْ تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ"، وهما قراءتان متواترتان، وقد وافق كل منهم رسم مصحف الإمام4، فإن زيادتها وافقت رسم المصحف المكي, وحذفها وافق غيره5. ومن   1 سورة التوبة 111 "وانظر الإتقان 1/ 80". 2 سورة ق 19 "وانظر البرهان 1/ 335". 3 ومثلها في الشذوذ: "إِذَا جَاءَ فَتْحُ اللهِ وَالنَّصْرُ" بدلا من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} سورة النصر 1. فليس في مثل هذا حرف من حروف القرآن السبعة. 4 سورة التوبة 100 "وانظر البرهان 1/ 336". 5 الإتقان 1/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 النقصان قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} من سورة البقرة بغير واو، وقد وافقت رسم المصحف الشامي1. وأما قراءة "وَالذَّكَر والأُنْثَى" بدلا من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 2 بنقص لفظتي "ما خلق" وقراءة ابن عباس "وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا" بزيادة "صالحة" وإبدال كلمة "أمام" من كلمة "وراء" فقراءتان آحاديتان لا يثبت. بمثلهما قرآن3. ويشبههما في الآحادية زيادة لفظ "أنثى" في قوله تعالى: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 4 أنثى، وزيادة عبارة "وَكَانَ كَافِرًا" في قوله: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} 5 "وَكَانَ كَافِرًا"، وزيادة عبارة "وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" في قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 6 وصلاة العصر، فهذه الزيادات جميعا أدرجت على سبيل التفسير والإيضاح, ولا سبيل إلى عدها حرفا من الأحرف السبعة ولو أثبتها ابن مسعود في مصحفه الخاص7. السابع: اختلاف اللهجات في الفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والهمز والتسهيل، وكسر حروف المضارعة، وقلب بعض الحروف وإشباع ميم الذكور، وإشمام بعض الحركات. من ذلك قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} 8، وقوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 9 قرئ بإمالة "أتى" و"موسى" و"بلى" نحو الكسر، وقوله تعالى: {خَبِيرًا بَصِيرًا} بترقيق الراءين، و"الصلاة" و"الطلاق"، بتفخيم اللامين.   1 سورة البقرة 116 "وانظر الإتقان 1/ 130". 2 سورة الليل 3 "وانظر أحكام القرآن لابن العربي 2/ 309. 3 سورة الكهف 79 "الإتقان 1/ 132". 4 سورة ص 23. 5 سورة الكهف: 80. 6 سورة البقرة 238. 7 البرهان 1/ 215. 8 سورة طه 9. 9 سورة القيامة 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقوله تعالى: "قَدَ افْلَحَ"1 بترك الهمزة ونقل حركتها من أول الكلمة الثانية إلى آخر الكلمة الأولى. وهو ما يسمى تسهيل الهمزة. وقوله تعالى: "لِقَوْمٍ يِعْلَمُون"، "نَحْنُ نِعْلَم"، "تِسْوَدُّ وُجُوه"، "أَلَمْ إِعْهَد", بكسر حرف المضارعة في جميع هذه الأفعال. وقوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} فالهذليون يقرءون: "عتى عين" بقلب حاء حتى وحين عينا. وقوله تعالى: "عَلَيْهِمُو دَائِرَةُ السَّوْءِ" "وَمِنْهُمُو مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَات" بإشباع ميم جمع الذكور في كلتا الآيتين. وقوله تعالى: {وَغِيضَ الْمَاءُ} بإشمام ضمة الغين مع الكسر. والحق أن هذا الوجه الأخير أهم الأوجه السبعة؛ لأنه يبرز الحكمة الكبرى من إنزال القرآن على سبعة أحرف، ففيه تخفيف وتيسير على هذه الأمة التي تعددت قبائلها فاختلفت بذلك لهجاتها، وتباين أداؤها لبعض الألفاظ، فكان لا بد أن تراعي لهجاتها، وطريقة نطقها، أما لغاتها نفسها فلا موجب لمراعاتها؛ لأن القرآن اصطفى ما شاء بعد أن صهره في لغة قريش التي تمثلت فيها لغات العرب قاطبة2 لا لغات قبائل معينة ينتصر لها بعض العلماء بتعسف لا يؤيده دليل عقلي ولا نقلي. ذلك بأن العرب حين استصفوا لهجة قريش وجعلوها لغتهم الأدبية المشتركة أثروا فيها مثلما تأثروا بها، فصدق على لهجة قريش ما يصدق على اللغات جميعا من قوانين التأثر والتأثير، وهي قوانين لا تكاد تتخلف إذا درسنا اللغة على أنها ظاهرة إنسانية3.   1 سورة المؤمنون1 "وانظر البرهان 1/ 320" ومثله "قُلُ اوحِي" سورة الجن1: "وَإِذَا خَلَوِ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ" سورة البقرة 14. 2 ولذلك عقد البخاري في صحيحه بابا لنزول القرآن بلسان قريش والعرب قرآنا عربيا بلسان عربي مبين. فضائل القرآن 6/ 182. 3 انظر كتابنا "دراسات في فقه اللغة" 109، الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 لكن القرشية -باعتراف من جميع القبائل وبطواعية واختيار من مختلف لهجاتها- كانت أغزرها مادة، وأرقها أسلوبا, وأغناها ثروة، وأقدرها على التعبير الجميل الدقيق الأنيق في أفانين القول المختلفة1, فاصطنعت وحدها في الكتابة والتأليف والشعر والخطابة، حتى كان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته ويتجنب صفاتها الخاصة في بناء الكلمة وتركيب الجملة والنطق بالأحرف, ليتحدث إلى الناس بلغة ألفوها، وتواضعوا عليها بعد أن أسهمت عوامل كثيرة في صقلها وتهذيبها2. لقد صادف الإسلام إذن -حين ظهوره- لغة مثالية مصطفاة جديرة أن تكون أداة التعبير عند خاصة العرب لا عامتهم، فزاد من شمول تلك الوحدة وقوى من أثرها بنزول قرآنه بلسان عربي مبين هو ذلك اللسان المثالي المصطفى. بيد أن هذه الوحدة اللغوية التي صادفها الإسلام حين ظهوره, وقواها قرآنه بعد نزوله، لا تنفي ظاهرة تعدد اللهجات قبل الإسلام وبقاءها بعده، بل من المؤكد أن عامة العرب لم يكونوا إذا عادوا إلى أقاليمهم يتحدثون بتلك اللغة المثالية الموحدة، وإنما يعبرون بلهجاتهم الخاصة، وتظهر على تعابيرهم صفات لهجاتهم, وخصائص ألحانهم3. قال ابن هشام: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"4. وبإزاء هذه الظاهرة التي لا يمكن دفعها، اكتفى القرآن بتحدي خاصة العرب وبلغائهم أن يأتوا بمثله أو بآية من مثله تثبيتا للوحدة اللغوية, بينما لجأ إلى التوسعة في القراءات، ومراعاة اللهجات، في أحرفه القرآنية السبعة التي خفف بها على العامة، ولم يكلفهم النطق بغير اللهجة التي تجري   1 نفسه 59-60. 2 نفسه 60. 3 نفسه 50-51. 4 المزهر 1/ 261/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 بها ألسنتهم في يسر وسهولة"1: وذلك ما لاحظه ابن الجوزي حين قال: "وأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها شرفا لها, وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق". ويفسر ذلك بقوله: "وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم, عربيهم وعجميهم، وكان العرب الذين نزل القرآن بلغتهم: لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر. بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج2". وأهمية هذا الوجه الآخير -أعني اختلاف اللهجات- جعلت بعض العلماء يحصرون الأحرف السبعة في أنواع اللهجات، بينما أغفل آخرون ذكر هذا الوجه إغفالا تامًا، لأنه -على حد قول ابن قتيبة: "ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى، لأنه هذه الصفات المتنوعة في أدائه، لا تخرجه عن أن يكون واحدًا"3. وفي كلا الرأيين مغالاة، فالأوجه الستة السابقة على جانب من الأهمية لا يسمح بإسقاطها والاكتفاء بالوجه السابع. كما أن اختلاف اللهجات في أداء بعض الأصوات أمر واقع بين الصحابة، بل لعله كان أشد أنواع الاختلاف دورانًا على الألسنة. فلا يجوز إغفاله والاكتفاء بأوجه أخرى لا تستقرى بها مختلف ضروب الأداء. وهذا النقص في استقراء الأقدمين للأوجه السبعة قد حملنا على أن نسلك في طريقة استقرائنا لها سبيلا مخالفة لهم جميعا، فلم نختر مذهب أبي الفضل الرازي4 الذي فضله الزرقاني في "مناهله" على مذهب ابن قتيبة وأبي الخير بن الجزري والقاضي أبي بكر بن الطيب   1 دراسات في الفقه واللغة 50. 2 مناهل العرفان للزرقاني 1/ 139 ومن الغريب أن يدافع ابن الجزري عن هذه الفكرة مع أنه لا يذكر اختلاف اللهجات بين الحروف السبعة. مناهل العرفان للرزقاني 1/ 154 وقد رأينا عبارة كهذه منسوبة إلى ابن الجزري في مكان آخر. راجع ص109. 4 هو الإمام الكبير ابن شاذان الرازي المتوفى في حدود سنة 290هـ "النشر 1/ 179". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الباقلاني1، كما لم تختر مذهب واحد من هؤلاء. أما الرازي فلأنه لم يعرض قط في كتابه "اللوائح" إلى وجه الاختلاف في الحروف, نحو "يعلمون وتعلمون" مع أنه لا يندرج تحت واحد من الأوجه الستة الباقية التي ذكرها، ثم إنه جعل اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر وجها خاصا قائما برأسه, مع أنه يندرج تحت وجه الاختلاف في الإعراب. وأما الثلاثة الآخرون فحسبنا لكيلا نسلم بمذاهبهم أنهم جميعا أغفلوا وجه الاختلاف في اللهجات عمليا، وإن دافع عنه بعضهم نظريا. ونحن حين نقول: إن الأوجه السبعة التي استقرأناها، تستقصي كل اختلاف في أداء القرآن، لا نعني وجوب التزام هذه الأوجه السبعة في الكلمة الواحدة، فقد يكون في كل كلمة على حدة وجهان أو أكثر، وقد يكون فيها وجه واحد فقط، وإنما نقصد أن هذه الأوجه السبعة ترد الاختلافات إلى أحد وجوهها المناسبة حين يتحقق وجود الاختلاف2. وإذا كنا نحن قد استطعنا حصر أوجه الاختلاف في سبعة، فقد وقع لنا ذلك اتفاقًا، بعد أن جمعنا آراء الأقدمين ووفقنا بينها، وأما الصحابة الكرام الذين نزل القرآن بأحرفه السبعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يقرؤهم بها, وينبههم إليها، فكان أكثرهم يومئذ أميين لا يقرءون ولا يكتبون، وما كان يتاح لهم أن يحددوا المراد من الأحرف السبعة، وإنما كانوا يعرفون أن أوجه الخلاف لا تخرج عن سبعة في جميع مفردات القرآن, وقد اجتمعت عمليا من مختلف قراءاتهم التي أقرهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى العلم بها إلينا أحرف القرآن السبعة التي لم نعرفها نحن إلا بطريق الاستنباط والاستقراء.   1 انظر مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني، ج1 ص148-160 ففيه يعرض لآراء هؤلاء العلماء الكبار الثلاثة، ثم يقارنها برأي أبي الفضل الرازي ويرجحه ويختاره. وابن الجزري في "النشر والقراءات 1/ 26-28" يفضل رأيه ثم رأى أبي الفضل الرازي وابن قتيبة. وعنه أخذ الزرقاني من غير عزو إليه. 2 انظر البرهان 1/ 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الباب الثالث: علوم القرآن الفصل الأول: لمحة تاريخية عن علوم القرآن كان الصحابة عربا خلصا يتذوقون الأساليب الرفيعة، ويفهمون ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، فإذا أشكل عليهم فهم شيء من القرآن سألوا عنه النبي عليه الصلاة والسلام "كسؤالهم1 لما نزل {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 2 فقالوا: أينالم يظلم نفسه! ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك، واستدل عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3 أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط آتاه الله الكتاب وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيما، فلم تكن الحاجة ماسة إلى وضع تآليف في علوم القرآن في عهد الرسول والصحابة4.   1 البرهان 1/ 14. 2 سورة الأنعام 82. 3 سورة لقمان 13. 4 أما قصة عدي بن حاتم فإنها فردية لا تنطبق على جمهور الصحابة الكرام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "إن وسادتك لعريض" كناية عن الغفلة وإن كان القاضي عياض ينكر هذا ويرى أن المراد "إنك ضخم" أو كما ورد في صحيح البخاري "إنك لعريض القفا". انظر صحيح مسلم بشرح النووي 7/ 201. وإليك القصة كما في صحيح مسلم في "كتاب الصيام": "لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قال له عدي: يا رسول الله, إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن وسادتك لعريض, إنما هو سواد الليل وبياض النهار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وكان أكثر الصحابة أمين, ولم تكن أدوات الكتابة متسيرة لديهم، فكان ذلك حائلا أيضا دون التأليف في هذا العلم. زد على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قد نهاهم أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن, وقال لهم أول العهد بنزول الوحي: "لا تكتبوا عني, ومن كتب عني غير القرآن فليمحه. وحدثوا عني ولا حرج. ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" 1 وكان ذلك مخافة أن يختلط القرآن بما ليس منه. ولقد ظلت علوم القرآن تروى بالتلقين والمشافهة عل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم على عهد الشيخين أبي بكر وعمر. وفي خلافة عثمان بدأ اختلاط العرب بالأعاجم، وأمر عثمان أن يجتمعوا على مصحف إمام وأن تنسخ منه مصاحف للأمصار, وأن يحرق الناس كل ما عداها، وقد رأينا تفصيل ذلك والأسباب الداعية إليه. ويعنينا الآن أن عثمان بنسخ المصاحف قد وضع الأساس لما سمي فيما بعد "بعلم رسم القرآن أو علم الرسم العثماني". وقد اشتهر أيضا أن عليا رضي الله عنه أمر أبا الأسود الدؤلي2 "المتوفى سنة 69" بوضع بعض القواعد للمحافظة على سلامة اللغة العربية. فكان علي بذلك واضع الأساس لعلم إعراب القرآن. وفي وسعنا أن نقول: إن الممهدين لهذا العلم هم: 1- الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير3 من الصحابة. 2 - مجاهد وعطاء بن يسار وعكرمة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم في المدينة من التابعين.   1 رواه مسلم في صحيحه 8/ 229 عن أبي سعيد الخدري، وقارن بكتابنا "علوم الحديث ومصطلحه" 8. 2 انظر ترجمته في إنباه الرواة 1/ 13-23 تهذيب التهذيب 12/ 10-12. 3 راجع الفهرست 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 3- مالك بن أنس من أتباع التابعين, وقد أخذ عن زيد بن أسلم. هؤلاء هم الواضعون لما نسميه علم التفسير، وعلم أسباب النزول, وعلم المكي والمدني، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم القرآن. وفي عصر التدوين كان التفسير قبل كل شيء، لأنه أهم العلوم القرآنية. وممن اشتغلوا فيه وصنفوا: من علماء القرن الثاني: شعبة بن الحجاج1، وسفيان بن عيينة2، ووكيع بن الجراح3. وكانت تفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين. ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ. وتفسيره هو أجل التفاسير، لما اشتمل عليه من روايات صحيحة محررة وإعراب واستنابط وآراء قيمة. ونشأ التفسير بالرأي إلى جانب التفسير بالمأثور، وفسر القرآن كله وجزء منه وسورة وأحيانا آية وآيات خاصة كآيات الأحكام. أما علوم القرآن الأخرى فقد ألف: في القرن الثالث: علي بن المديني 4 شيخ البخاري في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام في الناسخ والمنسوخ, وفي القراءات وفضائل القرآن، ومحمد بن أيوب الضريس "ت294" فيما نزل بمكة وما نزل   1 هو محدث البصرة وأمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي الواسطي، ويكنى أبا بسطام، رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، وسمع أربعمائة من التابعين، وهو حجة عند جميع الأئمة. توفي سنة 160هـ. 2 هو شيخ أهل الحجاز في التفسير والحديث, سفيان بن عيينة الهلالي الكوفي، توفي سنة 198 "انظر تذكرة الحفاظ 1/ 242". 3 هو وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي, ويكنى أبا سفيان الرؤاسي الكوفي، من قيس عيلان. سمع ابن جريج والأعمش والأوزاعي وسفيان الثوري، وروى عنه عبد الله بن المبارك ويحيى بن آدم وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني, ولد سنة 128 وتوفي سنة 197. وفيه يقول أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: الثبت عندنا في العراق وكيع " انظر تاريخ بغداد 13/ 466-481". 4 هو علي بن عبد الله بن جعفر، ويكنى أبا جعفر، وهو سعدي بالولاء، توفي سنة 234 "انظر تذكرة الحفاظ 2/ 15-16 وشذرات الذهب 2/ 81". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 بالمدينة1، ومحمد بن خلف بن المرزبان "ت309": "الحاوي في علوم القرآن"2. وفي القرن الرابع: أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري "ت328" "عجائب علوم القرآن" تكلم فيه على فضائل القرآن, ونزوله على سبعة أحرف. وكتابة المصاحف، وعدد السور والآيات والكلمات3، وأبو الحسن الأشعري "المختزن في علوم القرآن" وهو عظيم جدا4، وأبو بكر السجستاني5 في غريب القرآن، وأبو محمد القصاب محمد بن علي الكرخي "ت نحو 360" "نكت القرآن الدالة على البيان، في أنواع العلوم والأحكام المنبئة عن اختلاف الأنام"6، ومحمد بن علي الأدفوي "ت388"، "الاستغناء7 في علوم القرآن"، في عشرين مجلدا. وفي القرن الخامس: علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي8 "البرهان في علوم القرآن", و"إعراب القرآن". وأبو عمر الداني "ت444" "التيسير في القراءات السبع" و"المحكم في النقط". وفي القرن السادس: أبو القاسم عبد الرحمن المعروف بالسهيلي9 في   1 واسم كتابه "فضائل القرآن" ومنه نسخة ناقصة بالظاهرية. 2 ذكره في الفهرست 214 ويقع في 27 جزءًا. 3 منه نسخة في مكتبة البلدية بالإسكندرية. 4 انظر الديباج 195. 5 هو محمد بن عزيز بن العزيزي السجستاني، توفي سنة 330 "بغية الوعاة 72" قال السيوطي في "الإتقان 1/ 195" عند ذكر كتاب السجستاني المسمى "غريب القرآن": "أقام في تأليفه خمس عشرة سنة يحرره هو وشيخه أبو بكر بن الأنباري". 6 منه نسخة في مراد ملا. 7 هكذا فضلنا قراءة الاسم, وإن كان يمكن قراءته في المخطوط أيضا "الاستفتاء". 8 هو علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي المصري، صاحب كتاب البرهان في علوم القرآن، وكتاب إعراب القرآن. توفي سنة 430 "حسن المحاضرة 2/ 228 إنباه الرواة 2/ 219" وسيرد ذكر كتابه "البرهان" الذي لا يزال مخطوطا. 9 هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيل، ويكنى أبا القاسم، توفي بمراكش سنة 581، وكتابه "مبهمات القرآن" يذكره صاحب كشف الظنون باسم "التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام" وهذا الاسم الواضح يبين الغاية منه، وفي دار الكتب بالقاهرة وفي المكتبة التيمورية نسخ خطية منه. وللسهيلي أيضا كتاب الروض الأنف على سيرة ابن هشام "انظر ترجمته في إنباه الرواة 2/ 162". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 مبهمات القرآن وفي القرن السابع ابن عبد السلام1 في مجاز القرآن. وعلم الدين السخاوي2 في القراءات. ثم نشأت علوم جديدة في القرآن: بدائع القرآن3، حجج القرآن4، أقسام القرآن5، أمثال القرآن6. وكانت طريقتهم استقصاء جزئيات القرآن: لذلك وجب اختصار تلك العلوم في علم جديد موحد سموه "علوم القرآن". وفي تاريخ الشافعي رضي الله عنه في محنته التي اتهم فيها بأنه رئيس حزب العلويين باليمن, سيق مكبلا بالحديد إلى الرشيد في بغداد, فسأله الرشيد: كيف علمك يا شافعي بكتاب الله عز وجل؟ فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به. فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله   1 هو شيخ الإسلام الإمام أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام المشهور بالعز، توفي سنة 660 "طبقات الشافعية 5/ 80-107 شذرات الذهب 5/ 310". 2 هو علي بن محمد بن عبد الصمد المشهور بالسخاوي, توفي سنة 643، وله في القراءات منظومة تعرف بالسخاوية, وتسمى "هداية المرتاب في المتشابه" ولا يريد بالمتشابه ما يقابل المحكم, وإنما إيراد القصة الواحدة في القرآن في صور شتى وفواصل مختلفة، تصرفا في الكلام ليجيء على أساليب متنوعة، انظر ترجمة السخاوي في وفيات الأعيان 1/ 345 وانظر البرهان 1/ 112 النوع الخامس "علم المتشابه". 3 وهو علم يبحث فيه عما ورد في القرآن من أنواع البديع, وقد أفرده بالتصنيف ابن أبي الإصبع، وكتابه مطبوع. "انظر الإتقان 2/ 140-160 النوع الثامن والخمسون". 4 يسمى أيضا علم جدل القرآن، ويراد منه أن كتاب الله نطق بجميع أنوع البراهين والأدلة, ولكن على أساليب العرب لا طرائق المتكلمين، وقد أفرده بالتصنيف نجم الدين الطوفي "سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم" المتوفى سنة 716 كما في "الدرر الكامنة/ 2/ 354 وفيما يتعلق بهذا العلم انظر الإتقان 2/ 229-233 النوع الثامن والستون والبرهان 2/ 24-27 النوع الثالث والثلاثون. 5 انظر الإتقان 2/ 225-228 "النوع السابع والستون" وقد أفرده بالتصنيف العلامة ابن القيم. ومن المتأخرين عبد الحميد الفراهي في كتابه "إمعان في أقسام القرآن". 6 انظر بعض الشواهد على هذا العلم في الإتقان 2/ 222-225 "النوع السادس والستون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قد أنزل كتبا كثيرة، قال الرشيد: قد أحسنت، لكن إنما سألت عن كتاب الله المنزل على ابن عمي محمد صلى الله عليه وسلم. فقال الشافعي، إن علوم القرآن كثيرة, فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه؟ أو عن تقديمه وتأخيره؟ أو عن ناسخه ومنسوخ؟ أو عن أو عن1 ... ويرى بعض الباحثين2 أن اصطلاح "علوم القرآن" - بالمعنى الجامع الشامل- ولم يبدأ ظهوره إلا بكتاب "البرهان في علوم القرآن" لعلي بن إبراهيم بن سعيد المشهور بالحوفي "ت430". ويقع في 30مجلدا، حفظ منها 15 غير مرتبة ولا متعاقبة في نسخة مخطوطة في دار الكتب بالقاهرة برقم 59 تفسير. فقد اشتمل هذا الكتاب على بعض علوم القرآن مع أنه في الظاهر تفسير, ففيه يقول صاحب كشف الظنون: "ذكر فيه الغريب والإعراب والتفسير". وكلننا نبهنا آنفا إلى ظهور كتب عالجت الدراسات القرآنية باسمها الصريح "علوم القرآن"، وكان أسبقها في نظرنا كتاب ابن المرزبان في القرن الثالث. وفي القرن السادس ألف ابن الجوزي "ت597" كتابين: أحدهما "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن"3 والثاني "المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن" وهما مخطوطان في دار الكتب بالقاهرة. وفي القرن السابع صنف علم الدين السخاوي "ت643" كتابه "جمال القراء وكمال الإقراء"4 وأبو شامة "ت665" "المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز".   1 ذكر ذلك الإمام جلال الدين البلقيني في كتابه "مواقع العلوم من مواقع النجوم". انظر مناهل العرفان للزرقاني 1/ 26. 2 نفسه 1/ 26. 3 وفي المكتبة التيمورية مخطوطة غير كاملة من فنون الأفنان برقم 222 تفسير. 4 ويفهم من "كشف الظنون" أن كتاب "جمال القراء وكمال الإقراء" يشتمل على علوم القراءات والتجويد والوقف والابتداء والناسخ والمنسوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وفي القرن الثامن ألف بدر الدين الزركشي "ت794"1 "البرهان في علوم القرآن". وقد نشره الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم وبذل في تحقيقه جهدًا مشكورًا. وفي القرن التاسع كثر التأليف، فصنف جلال الدين البلقيني2 كتابه "مواقع العلوم من مواقع النجوم"3 وصنف محمد بن سليمان الكافيجي "ت879"4 كتابا ذكره السيوطي، ونقل عن مؤلفه أنه قال فيه: "ولم يسبق إليه"5، ولكننا لا نعرف اسم هذا الكتاب. ثم ألف السيوطي "ت911" كتابه "التحبير في علوم التفسير" وأتبعه "بالإتقان في علوم القرآن"6. وفي القرن الأخير أقبل كثير من العلماء على تصنيف الكتب حول القرآن وتاريخه وعلومه، فألف الشيخ طاهر الجزائري "التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن" والشيخ محمد جمال الدين القاسمي "محاسن التأويل" والشيخ محمد   1 هو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، من أعلام المفسرين والأصوليين، ولد سنة 745 وتوفي سنة 794 "انظر ترجمته ومصادرها في مقدمة كتابه "البرهان في علوم القرآن".الذي حققه ونشره الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم, وقد صدر في أربعة أجزاء. 2 هو عبد الرحمن بن رسلان, أبو الفضل جلال الدين البلقيني, برع في الفقه والأصول والعربية والتفسير والمعاني والبيان، وله تعليق على البخاري سماه "الإفهام لما في صحيح البخاري من الإبهام" وولي القضاء بالديار المصرية مرارا إلى أن توفي سنة 824هـ "شذرات الذهب 7/ 166". 3 الإتقان 1/ 3. 4 هو محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود، محيي الدين أبو عبد الله الكافيجي، اشتغل كثيرًا بالكافية في النحو فعرف بها، لازمه السيوطي 14 سنة، وله كتب كثيرة في التفسير والفقه وأصول اللغة والنحو. أما كتابه الذي لم يسمه السيوطي في الإتقان فقد سماه في البغية "التيسير في قواعد التفسير" وقال عنه: وكان يقول: إنه ابتدع هذا العلم ولم يسبق إليه، وذلك لأن الشيخ لم يقف على "البرهان" للزركشي ولا على مواقع العلوم للجلال البلقيني توفي سنة 879 "انظر بغية الوعاة 48". 5 الإتقان 1/ 3 وقال السيوطي فيه: "رأيته تأليفا لطيفا، ومجموعا ظريفا، ذا ترتيب وتقرير". 6 وقد طبع كتاب الإتقان مرارا في القاهرة. والسيوطي بنى أكثر كتابه على "البرهان للزركشي" ونقل عددا من فصوله، مشيرا إلى ذلك تارة، وساكتا عنه تارة أخرى. وانظر ما يقوله السيوطي عن "البرهان" في مقدمة الإتقان 1/ 6-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 عبد العظيم الزرقاني "مناهل العرفان في علوم القرآن" والشيخ محمد علي سلامة "منهج الفرقان في علوم القرآن" والشيخ طنطاوي جوهري، "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" وأديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي "إعجاز القرآن" والأستاذ سيد قطب "التصوير الفني في القرآن" و"في ظلال القرآن"، والأستاذ مالك بن نبي "الظاهرة القرآنية" وهو بحث قيم جدا في مسألة الوحي, والسيد الإمام محمد رشيد رضا, "تفسير القرآن الحكيم" وفيه مباحث كثيرة في علوم القرآن, وأخيرًا الدكتور محمد عبد الله دراز "النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن"1.   1 وظهرت في السنوات الآخيرة أيضا دراسات قرآنية مفيدة يقصد بها التوجيه الديني العام ككتاب "نظرات في القرآن" للأستاذ محمد الغزالي، أو التوجيه الأدبي وإبراز مواطن الجمال في الأسلوب القرآني ككتاب "المنهل الخالد" لزميلنا المفضال الأستاذ محمد المبارك عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الفصل الثاني: علم أسباب النزول قد جعل الله لكل شيء سببا كما جعل لكي شيء قدرًا، فما يبصر مولود نور الحياة إلا بعد أسباب وأطوار، ولا يقع حدث في الوجود إلا إثر مقدمات وإرهاصات، ولا تتغير الأنفس والآفاق إلا عقب سلسلة من التمهيد والإعداد: "سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا! ". ولا شيء كالتاريخ يشهد بصدق هذه السنة وانطباقها على وقائع الحياة: فما يسع مؤرخا ثاقب النظر دقيق الاستنتاج أن يجهل أسباب الحوادث ودوافعها إن أراد الوصول إلى الحقائق التاريخية الثابتة من خلال الوثائق والنصوص. لكن التاريخ لا ينفرد وحده بالحاجة إلى استنباط النتائج من خلال المقدمات، واستبطان الحقائق من مضمون الأسباب, بل العلوم الطبيعية والدراسات الاجتماعية والفنون الأدبية تشارك التاريخ كذلك في تطلعها إلى معرفة الأسباب والمسببات، واستشرافها إلى العلم بالمبادئ والغايات. ولسنا بسبيل الموازنة بين ضروب المعرفة هذه لنكتشف مقدار احتياج كل منها إلى دراسة أسباب الأشياء، وإنما يعنينا منها التنبيه إلى أمسها صلة ببحثنا الديني، وأقربها شبها به ورحما: وهو الفن الأدبي الذي يعول فيه على النص الجميل متلوا مسموعا، أو مقروءا منظورا, فعلى صعيد هذا الفن الأدبي ما نكاد نفهم نصا ما فهما سديدا، أو نتذوقه تذوقا سليما، إلا إذا مهدنا بين يدي دراسته بإزاحة النقاب عن الظروف النفسية والاجتماعية التي دفعت الأديب إلى التفكير فيه، ثم حملته على اختيار ألفاظه وابتداع معانيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ولقد يعتز دارس الأدب بثروته اللغوية وحفظه الشواهد الكثيرة من لسان العرب، ويفتخر بتمرسه بالدراسة الأدبية وتذوقه أساليب البلغاء, حتى إذا عرضت عليه قصيدة من عيون الشعر ليحدد الغرض الذي قيلت فيه، والجو الذي نظمت خلاله، تلعثم وتردد، ثم كبا وتعثر، فزعم أن القصيدة مديح وهي هجاء، أو غزل وهي عتاب, أو دعوة إلى السلم مع أنها تحريض على القتال, أو بها نفس ملحمي وإن أبياتها لتبشر بالسلام. يقرأ الدارس المتذوق مثلا قول سعد بن مالك: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في الـ ... ـنجدات والفرس الوقاح1 فيؤنس في ألفاظ المقطعة يسرا وسهولة, فليس فيها ما يحفزه إلى استفتاء معجم، وإنه ليكاد يستعجل شرح الأبيات وتحليلها إذ يلفت نظره في أولها لفظ "أراهط" فيراه محتملا الرفع على الفاعلية, أو النصب على المفعولية, فهل الأراهط وضعوا الحرب واعتزلوها وآثروا السلامة بعيدا عن ساحات القتال؟ أم الحرب وضعت أولائك الأراهط، وحطتهم، وأذلتهم، حتى استسلموا للعدو وركنوا إلى الدعة والسكون؟ وهل في مطلع المقطعة إذن تأريث لنار الحرب وتهكم بالذين قعدوا عنها وجانبوها؟ فيا بؤس لها، ويا حسرة فيها على القاعدين؟! أفي مطلعها تقبيح للحرب التي تذل الكبرياء، وتخفض الهام؟ فيا بؤسها ما أشده! ويا لسعيرها ما أنكاه! وما أجدرها أن يستبدل بها السلام!. إن حيرة الدارس لا تطول إذا استطاع أن يتقصى الظروف التي نظم فيها سعد بن مالك "حماسيته" هذه، فلسوف يرى في غضون الروايات والأخبار أن سعدا "يعرض هنا بالحارث بن عباد الذي عرف باعتزال الحرب   1 حماسة أبي تمام "شروح المرزوقي" 2/ 500 رقم الحماسية 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ومجانبتها"1، كأنه يدعو خلالها إلى إشعال الحرب وتأريث نارها حتى لا يقيم أحد من الفرسان على الخسف2 والهوان. ولئن كانت معرفة جو القصيدة والظروف التي نظمت خلالها تعين على الفهم السديد، وتسعف بالذوق السليم، وتواكب الشرح الأدبي جنبا إلى جنب، لتكونن معرفة قصة الآية والأسباب التي اقتضت نزولها أعون على دقة الفهم، وأدنى إلى استلهام أرجح التأويل وأصح التفسير. ذلك بأننا من القرآن -إذا أردنا تدبره حقا- تلقاء شيء أسمى من "علم التفسير": فما تحل أقوال المفسرين كل عقدة, وما تزيح كل شبهة, ولا تفصل كل إجمال. ونحن من القرآن أيضا إزاء شيء فوق اللغة وقواعدها وآدابها، فإن ظلال التعبير في القرآن، وإيحاءات المفردات في آياته، وألوان التصاوير في قصصه ولوحاته، لترتبط أوثق الارتباط بالوقائع الحية، والأحداث النواطق، والمشاهد الشواخص، كأن أبطالها ما انفكوا على مسرح الحياة يغدون ويروحون، فأنى للشروح اللغوية الجامدة والاصطلاحات البلاغية الجافة أن تستطلع في الوقائع يقين أخبارها، أو تستبطن من الأحداث خفي أسرارها، وهي أعيا من أن ترجع في الآذان أصداءها الحلوة العذاب؟ ونحن من القرآن -آخر الأمر- أمام شيء فوق التاريخ نفسه، فإن وقفنا على سبب النزول التاريخي لم نكن قد تقصينا كل شيء، فما أكذب التاريخ وما أكذب المؤرخين على لسانه! وكأي في التاريخ من فجوات ينبغي أن تملأ وثغرات لا بد أن تسد أما أسباب النزول -من وجهة النظر الدينية- فليس لنا فيها إلا أن نستوحي الواقع لا صورته, والإنسان لا شبيهه، والحق لا صداه، فهل من عجب إذا حرم العلماء المحققون الإقدام على تفسير الكتاب   1 العقد "لابن عبد ربه" 5/ 220. 2 الخسف: الذل والدنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الله لمن جهل أسباب النزول؟ 1 وهل بالغ الواحدي2 حين قال: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها! "3. وإن التعبير عن سبب النزول بـ"القصة" لينم عن ذوق رفيع، ويكاد يشي هنا بالغاية الفنية إلى جانب الغرض الديني النبيل: فما سبب النزول إلا قصة تستمد من الواقع عرضها وحلها، وعقدتها وحبكتها، وأشخاصها وأحداثها، وتجعل آيات القرآن تتلى في كل زمان ومكان بشغف وولوع، وتطرد السآمة عن جميع القارئين بما توالي عرضه من حكايات أمثالهم وأقاصيص أسلافهم، كأنها حكاياتهم هم إذ يرتلون آيات الله، أو أقاصيصهم هم ساعة يطربون لألحان السماء!. ومن أجل هذا كان جهل الناس بأسباب النزول كثيرًا ما يوقعهم في اللبس والإبهام, فيفهمون الآيات على غير وجهها، ولا يصيبون الحكمة الإلهية من تنزيلها، كما حدث لمروان بن الحكم حين توهم أن قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} 4 وعيد للمؤمنين، فقال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فتكموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه   1 أسباب النزول "للسيوطي" ص2. 2 الواحدي هو علي بن أحمد، ويكنى أبا الحسين، نحوي ومفسر، توفي سنة 427هـ. "إنباه الرواة 1/ 19". 3 أسباب النزول "للواحدي" ص3. وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب". وقال ابن دقيق العيد: "معرفة سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن" انظر الإتقان 1/ 48. ويقارب العبارة الأخيرة قول أبي الفتح القشيري: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا". انظر البرهان 1/ 22. 4 سورة آل عمران 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} 1 فلم يزل الإشكال إلا بمعرفة سبب النزول. ولولا بيان سبب النزول لظل الناس إلى يومنا هذا يبيحون تناول المسكرات وشرب الخمور أخذا بظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 2 فقد حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معديكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بهذه الآية، وخفي عليهما سبب نزولها، فإنه يمنع من ذلك، وهو ما قاله الحسن وغيره: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم، وقد أخبرنا الله أنها رجس! فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 3. ولولا بيان أسباب النزول لأباح الناس لأنفسهم التوجه في الصلاة إلى الناحية التي يرغبون، عملا بالمتبادر من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 4. ولكن الذي يطلع على سبب نزول الآية يستنتج أنها عالجت حال نفر من المؤمنين صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة مظلمة فلم يدروا كيف القبلة، فصلى كل رجل منهم على حاله"5 تبعا لاجتهاده، فلم يضع الله لأحد منهم عمله، وأثابه الرضى عن صلاته ولو لم يتجه إلى الكعبة، لأنه لم يكن له إلى معرفة القبلة سبيل في ظلام الليل البهيم!.   1 صحيح البخاري، كتاب التفسير 6/ 40، تفسير ابن كثير 1/ 436. الإتقان 1/ 48 البرهان 1/ 27. 2 سورة المائدة 93. 3 البرهان 1/ 28 "وقارن بأسباب النزول للواحدي 196، وتفسير ابن كثير 1/ 97, والإتقان 1/ 53". 3 سورة البقرة 115. 5 أسباب النزول "للواحدي" ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وإذ كان بحثنا عن أسباب النزول خاصة، فإننا لن نعرض لما أنزله الله ابتداء غير مبني على سبب من سؤال أو حادثة، كأكثر الآيات المشتملة على قصص الأمم الغابرة مع أنبيائها، أو وصف بعض الوقائع الماضية أو الأخبارية الغيبية المستقبلة، أو تصوير قيام الساعة أو مشاهد القيامة أو أحوال النعيم والعذاب، وهي في القرآن كثيرة أنزلها الله لهداية الخلق إلى الصراط المستقيم، وجعلها مرتبطة بالسياق القرآني سابقة ولاحقة، من غير أن تكون إجابة عن سؤال أو بيانا لحكم شيء وقع. قال السيوطي: "والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} سبب اتخاذه خليلا، فليس ذلك من أسباب النزول كما لا يخفى"1. فبحثنا إذن ينحصر في معرفة "ما نزلت الآية أو الآيات بسببه متضمنة له أو مجيبة عنه أو مبينة لحكمه زمن وقوعه"، وهو ما عبرنا عنه بـ"سبب النزول". وهذا التعريف الذي اصطلحنا عليه يستلزم قسمة ثنائية لآيات القرآن، لبعضها علاقة بأسباب النزول، وليس لبعضها الآخر أية علاقة بهذه الأسباب, فما نقل عن علي وابن مسعود وغيرهما من علماء الصحابة من أنه "لم تنزل آية إلا علم أحدهم فيما نزلت، وفيمن نزلت, وأين نزلت"2 ينبغي ألا تؤخذ بمعناه الحرفي حتى ولو أقسم أحدهم على هذا3، فإما أنهم يريدون به -على   1 الإتقان 1/ 53. 2 الإتقان 1/ 222. 3 وذلك ما نقلوه عنهم حقا، فعلي كرم الله وجهه يقسم -كما رووا عنه- قائلا: "والله ما نزلت آية إلا وأنا أعلم فيم نزلت". ومثله قسم عبد الله بن مسعود، وإن كان ابن مسعود: يقول: "فيمن نزلت"، فاجتمع من قسميهما كليهما العلم بنزول الآيات في الأشخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 طريقة العرب في المبالغة- تأكيد عنايتهم بهذا الكتاب الكريم، وتتبعهم كل أمر يتصل به، وإما أنهم يحسنون الظن بما سمعوه وشهدوه في عهد الرسول الكريم، ويودون لو أخذ الناس عنهم كل ما يعرفون حتى لا يذهب العلم بذهابهم وإن كان محتملا عقلا أن يكون أحدهم فاته أن يعرف بنفسه معرفة شخصية سبب نزول آية ما، ولم يتيسر له أن يعرفها إلا من صحابي آخر، لكنه عد معرفته لها -ولو بالواسطة- علما بها كعلمه بكل ما سمعه بأذنه مباشرة من غير وسيط، وإما أن الرواة تزيدوا في نقل هذا عنهم وعزوه إليهم، فإن في عبارتهم نفسها ضربا من التفاخر بالعلم يصعب علينا تصديق صدوره عنهم وهم الذين ضربت الأمثال بتواضعهم الجم وأدبهم الرفيع في الورع والإحجام عن التفيا في الدين. هذا، وقد عرفنا الصحابة منصرفين إلى تلقي القرآن, مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جل أوقاتهم، كما يملك عليهم كل مشاعرهم, وكان الوحي ينزل على نبيهم في كل لحظة أو يمكن على الأقل أن ينزل في أي لحظة بالآية والآيات بعد الواقعة أو الواقعات، فأنى لأولئك الصحابة الوقت لمتابعة سبب كل آية! وكيف يتيسر للواحد منهم أن يشهد بنفسه نزول كل آية، وأن يكون دائما في المكان أو الزمان اللذين نزلت في نطاقهما الآيات! وإذا اندفع بعضهم إلى حفظ كل ما سمعه أو تقييده، فهل يجب أن يكون كل ما حفظه وعلمه متناولا كل ما يجب أن يحفظ أو يعلم من أسباب النزول؟ 1. إن المنطق السليم ليحكم بأن أحدهم إنما كان يتكلم على معرفته الدقيقة بما تيسر له سماعه بنفسه, ولكننا لا نستبعد أن يكون هو نفسه جاهلا بعض هاتيك الأسباب، مثلما لا نستبعد أن يكون العلماء بالقرآن قد جهلوا الكثير   1 قارن بما ذكرناه في كتابنا "علوم الحديث ومصطلحه ص7" عن صعوبة تقييد الصحابة كل ما حدث به النبي من أحاديث، فإن الموضوعين متشابهان، بل يكادان يرتدان إلى موضوع واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 من هذه الأسباب، وأنه كلما امتد بالناس الزمان ازداد جهلهم بها لبعدهم عن الينبوع الصافي النمير، لذلك كان علماء السلف الصالح يتشددون كثيرا في الروايات المتعلقة بأسباب النزول، وكان تشددهم يتناول أشخاص رواتها وأسانيدها ومتونها. فأما الأشخاص فما كان أشد ورعهم إذ يستفتون في أسباب النزول! هذا محمد بن سرين1 يقول: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: "اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن"2. ولكن هذا الورع لم يكن ليمنعهم من قبول أخبار الصحابة في مثل هذه الموضوعات، وحجتهم في هذا لا تقبل الجدل، فهم يرون "أن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، بل عمدته لنقل والسماع، محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يبعد جدا أن يقول ذلك من تلقاء نفسه"3. ولذلك قرر ابن الصلاح والحاكم وغيرهما في علوم الحديث أن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل إذا أخبر عن آية أنها أنزلت في كذا فإنه حديث مسند، له حكم المرفوع4. وليس من الرواية الصحيحة في هذا المجال قول التابعي إلا إذا اعتضد بمرسل آخر رواه أحد أئمة التفسير الذين ثبت أخذهم عن الصحابة كعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب والضحاك5.   1 هو محمد بن سرين البصري، ويكنى أبا بكر. اشتهر بالحديث وتعبير الرؤيا، وكان إمام عصره في علوم الدين بالبصرة. توفي سنة 110 "تهذيب التهذيب 9/ 214". 2 الإتقان 1/ 52. 3 منهج العرفان، لمحمد علي سلامة، ص39. "انظر الإتقان 1/ ص52". 4 معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا، وربما لم يجزم بعضهم فقال: "أحسب هذه الآية نزلت في كذا" كما أخرجه الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير, ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجهه، الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} "الإتقان 1/ 52". وانظر أيضا "الإتقان 1/ 229". والشراج جمع شرج، وهو مسيل ماء من الحرة إلى السهل. 5 الإتقان 1/ 553. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وبقبول خبر الصحابي الذي شهد التنزيل، والتابعي الذي أخذ عنه الصحابي، فهم أن الغرض من اشتراط صحة الرواية التحقق من وقوع المشاهدة أو السماع للحادثة أو السؤال الذي كان سبب نزول شيء من القرآن. ولعل التحقق من هذه الوقائع جميعا هو الذي حمل العلماء على أن يحصروا الوسيلة لمعرفة سبب النزول في الرواية الصحيحة، مستبعدين فيها كل محاولة شخصية لإبداء الرأي أو الاجتهاد في مثل هذا الموضوع. وإلى هذا أشار الواحدي بقوله: "ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب, وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب"1. ثم عرض الواحدي بعد ذلك صورة من تحرج السلف الصالح في القول بأسباب النزول مخافة الكذب على القرآن بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثم أخذ على العلماء في زمانه تساهلهم في رواية هذه الأسباب، كأنهم لا يلقون بالا إلى الوعيد الذي أنذر الله به كل من افترى على الله كذبا، فقال مستاء متألما: "وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا، ويختلق إفكا وكذبا, ملقيًا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية"2! ولكيلا نسلك في عداد أولئك المخترعين في الدين، الخائضين في الإفك المبين، نعترف -كما ندعو علماء عصرنا- إلى الاعتراف بأننا جميعا مهما نجد في طلاب الروايات الصحيحة التي توصلنا إلى أسباب نزول الكتاب، لن يكون في وسعنا أن نجمع الآيات كافة التي وقع نزولها بعد أسئلة أو أسباب, فذلك يلجئنا إلى وضع تصانيف كثيرة تحيط بهذه المعلومات الدقيقة الواسعة بعد تمحيص كل ما ورد فيها من متون وأسانيد. ولقد تعرضت تصانيف القدامى أنفسهم في أسباب النزول للنقد الشديد، رغم ما اتسم به مؤلفوها من الورع البالغ والحذر العلمي الأمين، فلن يكون نقد ما نقوله اليوم إلا أشد وأقسى، ولن يكون المأخذ علينا إلا أمرَّ وأنكى!   1 أسباب النزول "للواحدي" ص3-4. 2 نفسه ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وحسبك أن السيوطي-بعد أن ذكر الذين أفردوا هذا العلم بالتصنيف1- ما لبث أن عرض بما في كتاب "الواحدي" من "إعواز"2، ثم عرض باختصار الجعبري3 لهذا الكتاب و"حذفه أسانيده من غير أن يزيد عليه شيئا"، وأخبر بعد ذلك بأن شيخ الإسلام أبا الفضل بن حجر4 ألف في أسباب النزول "كتابا مات عنه مسودة، فلم يتيسر للسيوطي أن يقف عليه كاملا" ومع أن عبارته تشي بأنه وقف على شيء منه أو على المسودة كلها التي مات أبو الفضل عنها لم يشر قط إلى إعجابه بصنيعه ورضاه عنه، بل أوشك أن يكون إلى نقده أقرب حين جعل صنيعه وصنائع السابقين كلهم في كفة، وصنيعه هو -أعني السيوطي- في كفة أخرى في "كتابه الحافل الموجز المحرر الذي لم يؤلف مثله في هذا النوع"، وهو المسمى "لباب النقول, في أسباب النزول! "5. وربما لم يكن لافتخار السيوطي بكتابه كبير قيمة في نظرنا، فقد ألفنا في الأعصر المتأخرة هذه النغمة المزهوة الفخور تتردد في مواطن شتى من كتب أولئك العلماء الجماعين، وألفنا بصورة خاصة هذه النغمة غير المحببة في كتب   1 وقد عد السيوطي أقدمهم في هذا الباب علي ابن المديني شيخ البخاري. الإتقان 1/ 48. 2 الإتقان 1/ 48. 3 هو إبراهيم بن عمر بن إبراهيم المشهور بالجعبري, ويلقب ببرهان الدين. له تصانيف قيمة منها "روضة الطرائف، في رسم المصاحف" و"عقود الجمان" وشرح للشاطبية في علوم القراءات يسمى "كنز المعاني" توفي سنة 732 "الدرر الكامنة 1/ 50". 4 هو الإمام الحافظ المؤرخ شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني, واسمه أحمد بن علي، أبو الفضل شهاب الدين. ينسب إلى عسقلان "بفلسطين" وفيها كان مولده. أقبل على حفظ الحديث وألف فيه حتى انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك، من كتبه القيمة المطبوعة "لسان الميزان" و"تهذيب التهذيب" و"الإصابة في تمييز أسماء الصحابة"، و"الدرر الكامنة في أدلة المائة الثامنة"، و"تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة"، و"بلوغ المرام في أدلة الأحكام"، و"طبقات المدلسين" الذي سماه "أهل التقديس" ومن كتبه المخطوطة الجديرة بالنشر "الإحكام لبيان ما في القرآن من أحكام"، و"نزهة الألباب في الألقاب"، و"تحفة أهل الحديث عن شيوخ الحديث"، و"المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس". وتوفي ابن حجر سنة 852هـ. "الأعلام 1/ 173". 5 الإتقان 1/ 48. وقد طبع "لباب النقول" ببولاق سنة 1280هـ، بهامش "تفسير الجلالين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 السيوطي نفسه رحمه الله وغفر له، ولكن يعنينا من لهجة الفخر هذه ما توحي به من إعواز الكتب القديمة حقا، فلولا نقص فيها حال دون وفائها بهذا العلم العظيم لما آنس السيوطي وغيره جراءة على رميها بالضعف والإعواز. وليت ذلك الإعواز كان موطن الضعف الوحيد في هاتيك التصانيف: إنها لتعج حتى بالأخطاء التاريخية, والمغالطات المنطقية، والمبالغات العجيبة، والغرائب النادرة! يقرأ الواحدي مثلا قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، فلا يستنتج منه أنه وعيد عام مطلق للذين يستهينون بالمعابد، ويعطلون الشعائر، وينتهكون الحرمات، ويسعون في خراب بيوت الله، بل يقع في خطأ تاريخي فاحش لو كان متعلقا بشخصه هو لهان أمره, ولكنه يحمله حملا على نص في كتاب الله، وما كان له ولا لغيره أن يحملوا على القرآن خطأ من أخطائهم: فمن عجب أن الواحدي لم يتحرج هنا من أن يذكر رأي قتادة الذي قال: إن الآية نزلت في بختنصر البابلي وأصحابه, فقد غزوا اليهود، وخربوا بيت المقدس، وأعانتهم على ذلك النصارى من الروم2، فيذكر اتحاد النصارى مع بختنصر على تخريب بيت المقدس مع أن حادثة بختنصر هذا وقعت قبل ميلاد المسيح بستمائة وثلاث وثلاثين سنة3. ويغتفر للواحدي هذا الخطأ لأمرين: أما أحدهما فهو أنه لم يكن معدودًا بين المؤرخين, وأما الآخر فهو أنه لم يختر رأي قتادة بل اكتفى بذكره من غير تعليق عليه كأنه لا يرى فيه بأسًا، وإن كان قد ذكر قبله تأويلا وبعده   1 سورة البقرة 114. 2 أسباب النزول للواحدي 24. 3 قارن بتفسير المنار 1/ 431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 تفسيرا، وجاء كلا الأمرين الآخرين محتملا، ففي التأويل الأول قول ابن عباس من رواية الكلبي: "نزلت الآية في طيطوس1 الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوارة, وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف" ولا مانع من هذا التأويل في نظر المؤرخين لأن دخول طيطوس بيت المقدس وتخريبها وقع بعد المسيح بسبعين سنة. وفي التفسير الآخير قول ابن عباس أيضا ولكن من رواية عطاء2: "نزلت في مشركي أهل مكة، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام"، وابن عباس يشير بهذا إلى قصة عمرة الحديبية، وربما بدا هذا التأويل للوهلة الأولى أقرب إلى السياق القرآني والتاريخي، أو ربما بدا على الأقل أكثر احتمالا من حادثة طيطوس, إذ طال على هذه الأمد فلا مناسبة لأن تكون هي المقصودة بالآية، ولكن يعترض على هذا التأويل بأن مشركي العرب عمروا المسجد الحرام في جاهليتهم، وعدوه مناط عزهم وفخرهم، وما سعوا في خرابه قط، فلا تقصدهم الآية إلا في ناحية واحدة: وهي منعهم النبي وأصحابه من دخول مكة في عمرة الحديبية3. وحتى الخطأ الفاحش الذي ارتكبه الواحدي -جهلا بحوادث التاريخ- يمكن التماس العذر له فيه بحمل قوله على أدرينال الروماني الذي سماه اليهود "بختنصر الثاني" وقد جاء بعد المسيح بمائة وثلاثين سنة، وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزينها وجعل فيها الحمامات، وبنى هيكلا للمشتري على أطلال هيكل سليمان، وحرم على اليهود دخول المدينة، وجعل جزاء من   1 وردت في مطبوعة "أسباب النزول ص24" ططلوس، صوابها ما أثبتناه, ومنهم من يسميه "تيتوس" بتاءين بدلا من الطاءين. 2 لا بد أن يلاحظ هنا كيف تضاربت روايتان كلتاهما عن ابن عباس، إلا أن أحداهما من طريق الكلبي والأخرى من طريق عطاء! ومن عجب أن ابن عباس نفسه يرى الآية نازلة تارة في الرومان وتارة في العرب!. 3 ومن هنا رأى الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير المنار 1/ 431 أنه يصح أن تكون الآية في الأمرين على التوزيع, فالذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم مشركو مكة والذين سعوا في خرابها هم مشركو الرومانيين, وفي قرن العملين إشارة إلى تساويهما في القبح!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 يدخلها القتل1. وإن التمسنا للواحدي مثل هذا العذر، فأي عذر لابن جرير الطبري المفسر المؤرخ الذي لم يكتف بذكر حادثة بختنصر كما فعل الواحدي، بل اختارها من بين طائفة من الأقوال كعادته، فصرح قائلا: "وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} النصارى، وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر على ذلك, ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده"؟! 2. ما بال ابن جرير يرجح هذا القول ويختاره وهو المؤرخ الحجة الحافظ؟ ألنا على الصعيد العلمي أن نحمل قوله على بختنصر الثاني دفاعا عنه وتحيزا إليه أم نسلم بالخطأ التاريخي يقع به أكابر العلماء وأوثق الحافظين؟ ولو استعرضنا نظائر هذه الأخطاء التاريخية التي حملت حملا على أسباب النزول, وأنطقت القرآن بما لم ينطق، لطال بنا الاستعراض، وامتد بنا التجوال, وإنما ننتهزها فرصة لنضع أيدينا على السر الكامن وراء هذه الأخطاء، فهو في نظرنا ظن أكثر العلماء أن لا بد لكل آية من سبب نزول حتى في وقائع الأمم الماضية التي دفنت معها أسبابها ونتائجها, وطويت في رموسها مقدماتها وعواقبها، فإن كان لزاما التماس سبب نزول لها فليكن متعلقا بالأحياء على عهد الرسول الكريم، سواء أكانوا من المؤمنين أم من المشركين أم من أهل الكتاب. فبدلا من أن يقال في الآية التي نحن فيها: إن سبب نزولها دخول بختنصر أو طيطوس بيت المقدس لتخريبه، تلقى نظرة فاحصة على السياق القرآني قبلها فيلاحظ أنه كان خطابا لأهل الكتاب عامة ومن على شاكلتهم وأنه بالضرورة   1 تفسير المنار 1/ 431. 2 تفسير الطبري 1/ 397. ومن العجيب أن ابن جرير يستدل على صحة ما ذكره بعبارة طويلة لا مجال لنقلها هنا، فيراجعها القارئ إن شاء 1/ 398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ما يبرح خطابا لهم ولأمثالهم, يستنكر كل حادثة تنتهك فيها حرمات المعابد سواء أوقعت في عهدهم أم في عهد أسلافهم، وسواء أصدرت عنهم أم عن غيرهم، وسواء أوقعت حقا أو سوف تقع أم يمكن أن تقع، فخطابهم بالآية لا يرمي إلى تعيين الأشخاص أو الأمكنة أو الأزمنة، وإنما يتناول وعيدا شديدا لكل من تحدثه نفسه بتخريب المعابد في أي زمان أو مكان! وإيثار مثل هذا التأويل ينقذ المفسر من الخبط الأعمى في أسباب النزول، ويفرد في القرآن سورا وآيات نزلت ابتداء غير مبنية على سبب، وكان المنطق نفسه يقضي بأن تتنزل هكذا ابتداء من غير أسباب، أو كان المنطق يقضي بأن يكون لها سبب عام لا ينبغي أن يعد سببا حقيقيا: كقصة موسى التي تكررت في مواطن مختلفة من القرآن بصور شتى، فإنها نزلت ابتداء غير مبنية على أسباب، ومن أبي إلا أن يلتمس لها أسبابا ردها جميعا إلى سبب واحد عام هو تسلية النبي وتثبيت فؤاده في غمرة الشدائد التي كان يلقاها من قومه الجفاة العتاة، لكن الآيات التي صورت قصة موسى -وقد نزلت في غير زمن صاحبها- يقال: إنها نزلت لتسلية محمد لنزولها في زمانه، ولا يقال: إنها نزلت في موسى وقومه, لأنها تنزلت بعد إسدال الستار على تلك القصة بقرون وأجيال!. فلا معنى للاعتراض إذن بمثل قصة يوسف التي ورد فيها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله, لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ، إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية1، لأن سبب نزول السورة كلها لا آياتها الأولى وحسب أمر صريح يتعلق بالصحابة السائلين أنفسهم، فقد كانوا متعطشين حقا إلى قصص قرآني يكون لهم فيه موعظة وعبرة، وقد رغبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة لا لبس فيها في الاستماع   1 أسباب النزول "للواحدي" ص203 والحديث من رواية الصحابي سعد بن أبي وقاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 لأحسن القصص1، وما في ذلك مكان لعجب، كما لم يكن في سؤال اليهود عن ذي القرنين موضع لعجب، حتى قال قتادة: "إن اليهود سألو نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} 2. لذلك لم نتشدد في عبارتنا الموضحة للقسم القرآني الذي نزل ابتداء غير مبني على سبب، فلم نجعل هذا القسم شاملا كل الوقائع الماضية بل أكثرها، ولا شاملا كل القصص القرآني بل أغلبه، ولا شاملا حتى كل مشاهد القيامة وتصوير الجنة والنار بل جل هاتيك المشاهد والصور3: فلا شيء يمنع أن يكون لبعض هذه النوازل أسباب، ولكن لا مفر للباحث من أن يسلم بقلة احتياجها إلى هذه الأسباب حين يوازن بينها وبين غيرها من القضايا التشريعية والتوجيهية في كل من الميدانين الفردي والاجتماعي، فما أقرب ما يفكر القارئ بسبب النزول إذا وقعت عينه على آية في أحكام العبادات, أو المعاملات، أو الحلال والحرام، أو الغزو والجهاد، أو الأحوال الشخصية, أو الحقوق المدنية, أو المعاهدات الدولية، فما يفهم شيء من هذا إلا إذا ارتبط بسبب نزوله التاريخي، وسلك في نطاقه النفسي أو الاجتماعي الذي كان سر مهبط الوحي فيه. وإذا غضضنا النظر عن بعض هذا الخلط غير المقصود الناشئ من مبالغة المفسرين بإدراج الواقائع الماضية في أسباب النزول, واجهنا عقبات أخرى في صيغ الروايات المتعلقة بهذه الأسباب، فليست عبارة الراوي الصحيحة نصا في   1 يدل على ذلك أيضا أن سعدا يقول في حديثه نفسه بعد ذلك: فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا فأنزل الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} ثم يعلق سعد على هذا بقوله: "كل ذلك ليؤمنوا بالقرآن" انظر أسباب النزول "للواحدي" ص203. 2 سورة الكهف. وقارن بالواحدي 225. 3 من ذلك مثلا أن أبا عالية والضحاك ذكرا في نزول الآية {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} من سورة الواقعة: إن المسلمين نظروا إلى واد مخصب بالطائف، فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} . أسباب النزول للواحدي 301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 بيان سبب النزول في جميع الأحوال، بل فيها النص الواضح, وفيها ما يحتمل السبب وسواه، فإذا صرح الراوي بلفظ السبب فقال: "سبب نزول هذه الآية كذا"، أو أتى بفاء تعقيبية داخلة على مادة نزول الآية بعد سرده حادثة ما أو ذكره سؤالا طرح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "حدث كذا أو سئل عليه الصلاة والسلام عن كذا فنزلت آية كذا" فذلك نص واضح في السببية. وأما إذا اكتفى بقوله "نزلت هذه الآية في كذا" فإن العبارة تحتمل مع السببية شيئا آخر هو ما تضمنته الآية من الأحكام، قال الزركشي في "البرهان": "قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: "نزلت هذه الآية في كذا" فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزوله. وجماعة من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسند كما في قول ابن عمر في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} . وأما الإمام أحمد فلم يدخله في المسند، وكذلك مسلم وغيره، وجعلوا هذا مما يقال بالاستدلال والتأويل, فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع"1, ولذلك لو قال راو: نزلت هذه الآية في كذا وقال آخر: نزلت في غير ذلك، فإن كان اللفظ يحتمل كلا القولين حمل عليهما، ولا تناقض في ذلك، وإلا تعين ما يدل عليه اللفظ ويساعد السياق على فهمه. وأما إذا قال أحد الراويين: "نزلت الآية في كذا" بهذا النص الصريح، فإن المعول عليه ما كان نصا، فهو أولى بالتقديم مما كان محتملا. وقد تتعدد الروايات في سبب نازل واحد من القرآن، وتؤدي تلك الروايات بألفاظ صريحة في إفادة السببية، فللعلماء في مثل هذه الحال مقياس دقيق يرجحون به إحدى تلك الروايات أو يوفقون بينها توفيقا سائغا مقبولا. فإن جاءت روايتان كلتاهما صحيحة, ولم نستطع ترجيح إحداهما جمعنا بينهما وحملنا الأمر على وقوع سببين نزلت الآية بعدهما معا. مثال ذلك ما   1 هذه عبارة الرزكشي في "البرهان" 1/ 31-32، وقد اختصرها السيوطي في الإتقان 1/ 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أخرجه الشيخان -واللفظ للبخاري- عن سهل بن سعد: أن عويمرا أتى عصام بن عدي، وكان سيد بني عجلان، فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاءه عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا, أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك"، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها1. وأخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية2 قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك"! فقال: يا رسول الله، إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة3؟؟! فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} حتى بلغ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 4. فتقارب الزمن بين الحادثين يجعل الجمع بينهما ميسورًا، فقد بدأ أحد هذين الصحابيين سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الموضوع، ثم قفاه الآخر قبل أن يجبيه عليه الصلاة والسلام، ثم أنزل الله آيات الملاعنة في سورة النور إجابة لكلا السائلين، وليس ببعيد -كما يقول الحافظ الخطيب- أن يكون قد "اتفق لهما ذلك في وقت واحد" وحمل الأمر على تعدد السبب هو الظاهر،   1 البخاري 6/ 99. 2 هو هلال بن أمية الخزاعي، أحد الثلاثة الذين خلفوا وضافت عليهم الأرض بما رحبت. ثم تاب الله عليهم. وقارن بالبخاري 6/ 100. 3 وفي رواية أنه قال: "والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد" "البخاري 6/ 101". 4 راجع تفصيل القصة في تفسير ابن كثير 3/ 265. وقارن ذلك بالإتقان 1/ 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وهو أولى بالاعتبار، ولا مانع من تعدد الأسباب"، على حد تعبير ابن حجر1. وإن كانت الروايتان صحيحتين، ولم نستطع ترجيح إحداهما ولا الجمع بينهما لتباعد الزمن بين أحداثهما، حملنا الأمر على تعدد نزول الآية. مثال ذلك: ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: "لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل -والنبي صلى الله عليه وسلم واقف- بخواتم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة، وهن ثلاث آيات2. وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب قال: "لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة، فمثلوا به، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية3. لا يمكننا هنا الجمع بين الروايتين، لتباعد الزمن بين الحادثتين, فإحداهما متعلقة بغزوة أحد، والأخرى بفتح مكة، وبينهما بضع سنين, فلا بد لنا من القول بتعدد نزول الآيات، أول الأمر في غزوة أحد، وبعد ذلك عقب فتح مكة. ومن ذلك ما يرويه البخاري -واللفظ له- عن المسيب "لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال   1 الإتقان 1/ 56. 2 {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . 3 الإتقان 1/ 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 النبي صلى الله عليه وسلم، "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ... } إلى قوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وهذه الآية من سورة التوبة نزلت في المدينة آخر الأمر بالاتفاق, مع أن وفاة أبي طالب كانت في مكة2, ومن ذلك سورة الإخلاص, فقد ورد أنها جواب للمشركين بمكة، وجواب لأهل الكتاب بالمدينة3. ولا مانع من تعدد النزول. قال الزركشي في "البرهان": "وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا عند حدوث سبب خوف نسيانه، كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين: مرة بمكة، وأخرى بالمدينة"4. وإن كانت الروايتان صحيحتين، ويمكننا ترجيح إحداهما لأنها أصح من الأخرى, أو لأن راويها شهد الحادثة دون راوي الأخرى, فلا ريب أن سبب النزول يؤخذ من الراجحة الأصح. مثال ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود, فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح. فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 5. وما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: "قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل.   1 التوبة 113 "وانظر البخاري كتاب التفسير 6/ 69". 2 البرهان 1/ 31. 3 البرهان 1/ 30. 4 البرهان 1/ 29 "فصل فيما نزل مكررًا". 5 هذه عبارة السيوطي في الإتقان 1/ 55 نقلا عن صحيح البخاري، وللبخاري في هذا الصدد رواية أخرى يختلف لفظها اختلافا يسيرا عن التي أوردها السيوطي، "تراجع في كتاب التفسير 6/ 87" وابن كثير يومئ في تفسيره "1/ 60" إلى هذا الحديث برواية أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية1. هنا روايتان: إحداهما عن البخاري فهي صحيحة، والأخرى عن الترمذي وقد صححها أيضا، إلا أن صحيح البخاري يقدم لدى الجمهور على صحيح الترمذي, فالرواية الأولى أرجح من هذا الوجه، ثم إن ابن مسعود في هذه الرواية الراجحة قد حضر القصة وعاينها وما راء كمن سمع، وهذا وجه ثان في ترجيحها، بل هو الوجه الأقوى في الترجيح2. وإذا كنا نأخذ في بيان السببية بالرواية الأرجح الأصح، مع أن ثمة رواية أخرى صحيحة كذلك لكنها مرجوحة، فمن الطبيعي بعد ذلك أن ما صحت فيه إحدى الروايتين دون الأخرى لم يعول فيه إلا على الصحيحة. مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين, فأتته امرأة فقالت: يا محمد, ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنز الله: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 3. وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة، عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها، كانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن جروا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترتعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله: {وَالضُّحَى} وإلى قوله: {فَتَرْضَى} . ورائحة الوضع   1 الإتقان 1/ 55. 2 وفي هذا يقول السيوطي: "وقد رجح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره" وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة" الإتقان 1/ 55. 3 البخاري 6/ 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ظاهرة في الرواية الثانية، فكل ما فيها من اللفظ والمعنى يدعو إلى الدهشة والاستغراب، بينما الرواية الأولى صحيحة، فلا مسوغ لترددنا وتساؤلنا: أيهما تعمل وأيهما تهمل؟ إذ لا مكان للباطل إلى جانب الصحيح، قال ابن حجر: "قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة, لكن كونها سبب نزول لآية غريب، وفي إسناده من لا يعرف، فالمعتمد ما في الصحيح"1. وقد تكون حادثة واحدة سببا في نازلين أو أكثر من القرآن، وهوم ما يعبرون عنه بقولهم: "تعدد النازل والسبب واحد". مثال الحادثة الواحدة تكون سببا في نازلين، ما أخرجه ابن جرير الطبري والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان, فإذا جاء فلا تكلموه". فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين, فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك؟ " , فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} من سورة التوبة. وأخرج الحاكم هذا الحديث بهذا اللفظ وقال: فأنزل الله {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} من سورة المجادلة2. ومثال الحادثة الواحدة تكون سببا في أكثر من نازلين من القرآن ما أخرجه الحاكم والترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر   1 الإتقان 1/ 45 "الروايتان كلتاهما مع تعليق ابن حجر في الصفحة نفسها". 2 الإتقان 1/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} من سورة آل عمران. وأخرج الحاكم أيضا عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله: تذكر الرجال ولا تذكر النساء، فأنزل الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} من سورة الأحزاب، وأنزلت: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الآيات السابقة من سورة آل عمران1. تلك أنماط من مقاييس المفسرين المحققين في ترجيح الروايات المنبئة عن أسباب النزول، وقد تفردت هذه المقايسس -كما رأينا- بدقة المصطلح، وحصافة النقد، ولطف التذوق، وبراعة التخريج، وبذلك كله تيسر لهؤلاء الأئمة الثقات أن يضعوا أيديهم على مفاتيح أسباب النزول بنجوة من غلو الغلاة، وعجلة المتسرعين، وخوضهم فيما لا طائل تحته من أوهام المؤرخين، إذ جعلوا درس القرآن فوق روايات التاريخ، مثلما جعلوه فوق علم التفسير وقواعد اللغة والبيان.   1 الإتقان 1/ 57-58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وفي ضوء هذه الدراسة النقدية الرشيقة رأى أولئك المحققون رأي العين أن نزول الآيات على ما اكتشفوه من الأسباب الفردية الخاصة لا يتعارض مع وضع الآيات في مواضع تناسب سياقها، إذ كان القرآن ينزل على الأسباب منجما تبعا لما تفرق من الوقائع، وكان النبي الكريم يأمر بكتابة الآية أو الآيات مع ما يناسبها من الآي في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها تثبيتا لمفهوم الوحي، ورعاية النظم القرآن وحسن السياق1. وكان في جمعهم بين السبب التاريخي والسياق الأدبي ما لا تدرك العبارة وصفه من رهافة حسهم النقدي والفني, فما أغفلوا حقائق التاريخ في اشتراط الزمان لمعرفة سبب النزول، ولا أغفلوا التناسق الفني حين أقصوا فكرة الزمان لمراعاة السياق، "لأن الزمان -كما يقول الزركشي- إنما يشترط في سبب النزول, ولا يشترط في المناسبة، إذ المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها"2. وما أكثر الآيات التي وضعت في السطور على حسب الحكمة ترتيبا، وحفظت في الصدور على حسب الوقائع تنزيلا!. إن قوله تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 3 قد نزل في رجل من أهل الكتاب يسمى كعب بن الأشرف، كان قدم إلى مكة وشاهد قتلى بدر وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: من أهدى سبيلا؟ المؤمنون أو هم؟ فتملق عواطفهم وقال: بل أنتم أهدى من المؤمنين سبيلا! 4.   1 البرهان 1/ 25-26. 2 البرهان 1/ 26. 3 سورة النساء 51. 4 قارن بتفسير الطبري 5/ 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وبعد أن تتعاقب الآيات في حق هذا الرجل وحق من شاركه في تلك المقالة من أهل الكتاب, يتجه السياق القرآني إلى آية جديدة في مقطع جديد يدور الحديث فيه حول أداء الأمانات إلى أهلها. فيقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 1، وإنما نزلت هذه الآية -كما يقول المفسرون- في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري حاجب الكعبة لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه2، وما دامت هذه الآية قد نزلت في الفتح وتلك نزلت في قصة كعب بن الأشرف عقب بدر، فإن بينهما ست سنين، فلم جعلت هذه إلى جنب تلك؟ ولم قفي هذا الموضوع بذلك رغم الفاصل الزمني البعيد؟!. إن العلماء المحققين ليجدون الرابط المشترك بين هذين المقطعين، فيكادون يستخرجون منهما موضوعا واحدا محكم البناء، متلاحم الأجزاء، آخذا بعضه بأعناق بعض، إذ يرون مثلا أن الذين تملقوا عواطف المشركين وقالوا لهم: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، هم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد أخذت عليهم المواثيق ألا يكتموا تلك الأمانة فخانوها ولم يؤدوها، وكانت حالهم في الخيانة كحال الذين يحملون الأمانات ثم لا يحملونها، وناسب أن يدعوا ويدعى معهم كل إنسان إلى استشعار معنى الأمانة في كل ما كان عنه مسئولا3. لعل المفسرين إذن لم يبالغوا حين قدموا أحيانًا ذكر المناسبة بين الآيات على معرفة سبب نزولها، كلما رأوا هذه المناسبة هي المصححة لنظم الكلام، ولعلهم بلغوا ذروة التحقيق العلمي حين أوجبوا البداءة بذكر سبب النزول   1 سورة النساء 58. 2 تفسير ابن كثير 1/ 515. وقارن بتفسير الطبري 5/ 91-92. 3 قارن بقول الفقيه المالكي أبي بكر بن العربي في تفسيره: "وجه النظم أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم، فانجر الكلام إلى ذكر الأمانات". ذكره الزركشي في البرهان 1/ 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 حين يكون وجه المناسبة متوقفا على معرفة الأسباب، كما في آية "أداء الأمانات إلى أهلها" فلولا التحقق من سببها لتعذر على القارئ العادي التماس وجه تناسبها مع السياق القرآني سابقه ولاحقه. وإن في تساؤل المفسرين -رغم ما جرت به عادتهم من الابتداء بذكر الأسباب- عن الأولى أن يبتدئوا به تقديم المناسبة أم تقديم السبب، لإيحاء أقوى من التصريح بأن ارتباط آي القرآن، وتناسق بعضها مع بعض، واقتران كلماتها وجملها، ومشاهدها وصورها، علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وفسرت في ضوئه أكثر أحكامه وشرائعه. لذلك كان الإمام أبو بكر النيسابوري1 الذي أظهر هذا العلم بغداد يزري على علماء بلده لجهلهم وجوه المناسبة بين الآيات، وكان لا يني يقول إذا قرئت عليه الآية أو السورة، لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه إلى جنب هذه السورة؟ 2. وفي صنيع أبي بكر النيسابوري هذا اتجاه جديد إلى الكشف عن الترابط بين السور إلى جانب الكشف عن التناسب بين الآيات، والحق أن الذي ينبغي التنقيب عنه والاستيثاق من نتائجه هو بالمقام الأول وجه المناسبة بين الآيات، إذ يبحث أول كل شيء عن الآية: أمكملة لما قبلها أم مستقلة؟ ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ولم سيقت هذا السياق؟ أما التماس أوجه الترابط بين السور -على ما فيه من تعسف وتكلف- فهو مبني على أن ترتيب السور توقيفي، ولهذا انتصرنا وعليه عولنا3، إلا أن ترتيب السور التوقيفي لا يستلزم حتما أن يكون بين كل سورة سابقة   1 هو الفقيه الشافعي الحافظ، أبو بكر عبد الله بن محمد، قرأ على المزني, ثم صار إماما للشافعية بالعراق، توفي سنة 324 "شذرات الذهب 2/ 302". 2 البرهان 1/ 36. 3 ارجع إلى ما فصلناه ص69-71 من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وكل سورة لاحقة أواصر قربى، كما أن ترتيب الآيات التوقيفي لا يقتضي عقلا ارتباط إحداها بالأخرى إذا وقعت كل منها على أسباب مختلفة، وإنا يغلب في السورة الواحدة أن تكون ذات موضوع بارز كلي تأتلف عليه جزئياتها كلها في مقاطعها المتلاحقة المترابطة, لكن الوحدة الموضوعية في كل سورة على حدة لا ينبغي أن تكون هي الوحدة الموضوعية عينها في السور كلها مجتمعة. ولم يبلغ المفسرون هذا المبلغ من التكلف، بل اكتفوا بإظهار العلاقة بين ختام السورة السابقة وفاتحة السورة اللاحقة، كأن الترابط بينهما -لولا فصلهما بالبسملة- وقع عن طريق الآيات موقعا جزئيا, لا عن طريق السورتين موقعا شاملا كليا. ومعيار الطبع أو التكلف فيما لمح من ضروب التناسب بين الآيات والسور يرتد في نظرنا إلى درجة التماثل أو التشابه بين الموضوعات، فإن وقع في أمور متحدة مرتطبة أوائلها بأواخرها فهذا تناسب معقول مقبول، وإن وقع على أسباب مختلفة وأمور متنافرة فما هذا من التناسب في شيء. وما أصدق قول القائل: "المناسبة أمر معقول، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول"! 1. وأقل ما يعنيه هذا المعيار الدقيق أن وجه المناسبة بين الآيات أو بين السور يخفى تارة ويظهر أخرى، وأن فرص خفائه تقل بين الآيات وفرص ظهوره تندر بين السور: ذلك بأن الكلام قلما يتم بآية واحدة، فتتعاقب الآيات في الموضوع الواحد تأكيدا وتفسيرا، أو عطفا وبيانا، أو استثناء وحصرًا, أو اعتراضا وتذييلا، حتى تبدو الآيات المتعاقبات كالنظائر والأتراب. من يقرأ قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 2   1 البرهان 1/ 35 وبهذه الروح ألف برهان الدين البقاعي كتابه القيم "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، ومنه نسخ خطية بدار الكتب بالقاهرة. 2 سورة البقرة 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 لا بد أن يتساءل: أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت؟ ثم لا بد له من اكتشاف سر الارتباط في تعريض القرآن بأن سؤال السائلين في غير محله1، كأنه قال لهم عند سؤالهم عن الحكمة في تمام الأهلة ونقصانها: "معلوم أن كل ما يفعله الله فيه حكمة ظاهرة، ومصلحة لعباده, فدعوا السؤال عنه، وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برًا"2. وواضح أننا في آية الأهلة قد اكتشفنا الارتباط بين تركيبين تتابعا في آية واحدة، وقد اضطررنا إلى اكتشاف هذا الارتباط لئلا يبدو آخر الآية منفصلا عن أولها، أفلا نضطر إلى إظهار التناسب بين آيتين تستقل كل منهما عن الأخرى بوحدتها الإيقاعية المسماة بالفاصلة؟ ومن ذا الذي أوجب أن تكون رءوس الآي أمارات انقطاع أو رموز انفصال؟ أنقرأ قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 3 فنرى رفع السماء مفصولا عن خلق الإبل, ونصب الجبال مستقلا عن رفع السماء، وسطح الأرض منقطعا عن نصب الجبال، ولا نلمح بين هذه الآيات كلها وجها جامعا أو رابطا فكريا؟ أليس الحد الأدنى من الارتباط بينها ضربا من التناسق التصويري لمجموعة من المشاهد الكونية المعروضة لنظر الإنسان حيثما كان، وهي تضم في لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات السماء المرفوعة والأرض المسطوحة، والجبال شامخة القمم والجمال بارزة السنام؟! 4. وهل لنا في استجلاء مواطن ارتباطها واتساقها أن نستعير عبارة الزركشي   1 تفسير المنار 2/ 197. 2 البرهان 1/ 41. 3 سورة الغاشية 17-20. 4 قارن بظلال القرآن 30/ 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ونرجع أصداءها متلاقية مع بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن، فنقول كما قال: "جمع بينها على مجرى الإلف والعادة بالنسبة إلى أهل الوبر: فإن كل انتفاعهم في معايشهم من الإبل فتكون عنايتهم مصروفة إليها، ولا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب، وذلك بنزول المطر، وهو سبب تقلب وجوهم في السماء، ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم، وحصن يتحصنون به، ولا شيء في ذلك كالجبال! ثم لا غنى لهم -لتعذر طول مكثهم في منزل- عن التنقل من أرض إلى سواها. فإذا نظر البدوي في خياله وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور"؟! 1. أم نقرأ قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} 2 وقد اكتنفه من جانبيه قوله: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 3 وقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} 4، ثم لا نلمح بينها جميعا أي ارتباط؟ أليس في تسمية الدنيا بالعاجلة هنا إيحاء مقصود بقصر الحياة يتناسق مع استعجال النبي تلقي الوحي وتلقفه إياه بتحريك لسانه، كأن الله يقول له: تدبر ما يوحى إليك, ولا يأخذنك فيه ما يأخذ البشر, من العجلة في حياتهم القصيرة العابرة5؟ صحيح إذن ما ذكره الزمخشري في وجه المناسبة بين قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ   1 البرهان 1/ 45. 2 سورة القيامة 16. 3 سورة القيامة 14-15. 4 سورةا لقيامة 20-21. 5 من حق الزمخشري علينا أن نرد إلى ذوقه الأدبي الرفيع هذا الفهم السديد، فقد قال في تفسير هذه الآيات في كشافه 4/ 165: "كلا" ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة. وإنكار لها عليه، وحث على الأناة والتؤدة. وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله: {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم -لأنكم خلقتم من عجل، وطبعتم عليه- تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 خَيْر} 1 وبين قوله قبل ذلك: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} فإنه علل ذلك بورود الآية الأولى على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليهما، إظهارًا للمنة فيما خلق الله من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارًا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى2. وصحيح أيضا أن التنظير -أي إلحاق النظير بالنظير- وجه أدبي مستساغ من أوجه التناسب بين ذكر قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} 3 وقوله قبل ذلك: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 4، فإن الله أمر رسوله أن يمضي لأمره في تنفيل الغزاة على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون، فشبه كراهتهم تنفيله الغزاة بكراهتهم الخروج معه للقتال5. وما على قارئ القرآن -لتستبين له وجوه التناسب بين الآيات- إلا أن يحتكم إلى ذوقه الأدبي تارة، ومنطقة الفطري تارة أخرى، وحينئذ يقع على ربط عام أو خاص، ذهني أو خارجي, عقلي أو حسي أو خيالي, من غير أن يقوم لهذه الألفاظ في نفسه مدلولات اصطلاحية أو فلسفية، فكثيرا ما يدور التلازم بين الآيات دوران العلة والمعلول، فإن لم تتلاق ويستلزم بعضها بعضا تقابلت تقابل الأضداد، كذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، ووصف الجنة بعد وصف النار، وتوجيه القلوب بعد تحريك العقول، واستخلاص الموعظة بعد سرد الأحكام.   1سورة الأعراف 26. 2 تفسير الكشاف 1/ 59. وقارن بالبرهان 1/ 49. 3 سورة الأنفال 5. 4 سورة الأنفال 4. 5 تفسير الكشاف 1/ 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 واستنادًا إلى هذا المنطق الفطري الذي يقتنص أوجه التناسب بين الآيات برشاقة وخفة، نحسب أن فرص الغموض في استجلاء هذه الوجوه لا تكثر إلا في الروابط بين السور، ولو وقع إلينا كتاب أبي جعفر بن الزبير "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن" لرأينا أنماطا من هذا الغموض، وصورا من هذا الخفاء، وما نظن احتفال المفسرين قليلا بهذا النوع لدقته وحسب، بل لقلة جدواه وكثرة التكلف فيه، فإنهم يقطعون أنفاسهم من شدة اللهاث وهم يلتمسون بين سورتين لفظين يتشابهان، أو آيتين تتناظران، حيثما كان موضوعهما من السورتين في البداية أو الوسط أو الختام. فليزعموا أن افتتاح سورة البقرة بقوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى الصراط في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 1 بفاتحة الكتاب، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب2. وليزعموا أن افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب ما قبلها من قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} 3، وأن افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح مناسب افتتاح سورة الكهف بالتحميد "لأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد"4 وأن سورة الكوثر مقابلة لسورة الماعون، فناسب أن تأتي بعدها، لأن في السابقة وصفا للمنافق بأمور أربعة: البخل، وترك الصلاة, والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر في مقابلة البخل {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة {فَصَلِّ} أي: دم عليها، وفي مقابلة الرياء {لِرَبِّكَ} أي: لرضاه لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون {وَانْحَرْ} وأراد به التصدق بلحم الأضاحي5.   1 سورة الفاتحة 6. 2 قارن بالبرهان 1/ 38. 3 سورة سبأ 54. 4 البرهان 1/ 39. 5 نفسه 1/ 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وأعظم -بعد هذا كله- بتعسف الأخفش حين عد ارتباط سورة {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} بسورة الفيل من باب قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 1 فكما جعل الله عاقبة التقاط موسى حزنا لآل فرعون جعل العاقبة في كيد أصحاب الفيل إيلافا لقريش!! 2. وأيا ما يكن تكلف المتكلفين في إبراز التناسب بين الآيات والسور، فمما لاريب فيه أن المفسرين المحققين جنوا أطيب الثمر لما ضربوا صفحا عن كل تعسف، ووسعهم أن يقتنعوا ويقنعوا الدارسين بأن هذا القرآن الذي نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب متباينة، قد تناسقت الآيات في كل سورة من سوره أكمل تناسق وأوفاه، حتى أغنى تناسقها في مواطن كثيرة عن التماس أسباب نزولها، وعوض انسجامها الفني واقعها التاريخي. ثم بدت السور كلها -بآياتها المتناسقات- مائة وأربع عشرة قلادة طوقت جيد الزمان! ولتجدن القرآن أحرص الكتب على التناسق الفني, ولتجدن علماءنا المحققين أحرص الدارسين على اقتناص أسرار تناسقه: فقد يعوض بوجوه المناسبة بين آياته أسباب نزولها إن لم تعرف، أو عرفت ولم تحفظ, أو حفظت ولم تشتهر، وقد يثبت بهذه الوجوه أسباب نزولها ويزيدها اتصالا, وارتباطا، ويشيع في سياقها كله حركة ونشاطا، وفي هذا كله ألوان من التناسق تتلاقى جميعا في علم المناسبة العظيم. وللقرآن أيضا ألوان من التناسق -من غير طريق التناسب بين الآيات- يعوض بها أسباب النزول إذا لم تذكر، أو يؤكد مدلولاتها بالصورة الشاخصة.   1 سورة القصص 8. 2 البرهان 1/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والمشاهد الحية المتكررة، والأنماط المتشابهة المتكاثرة، إذا كان لها في عهد الوحي سبب معروف، أو واقع مشهود. والعين لا تخطئ هذه الألوان الجديدة المتناسقة في مواضع ثلاثة من القرآن. أما أحدها ففي الآيات التي اتفق العلماء على تعديتها إلى غير أسبابها, وأما الآخر ففي تعميم الصياغة ولو وقعت على سبب خاص، وأما الثالث ففي رسم "نماذج" إنسانية تتخطى الزمان والمكان, وتتجاوز المناسبات والأسباب. إن آيات الظهار -في أوائل سورة المجادلة- نزلت في أوس بن الصامت، فقد ظاهر من امرأته فحرمها على نفسه كظهر أمه, وصرحت الآيات بأن كفارة الظهار تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين, أو إطعام ستين مسكينا، ثم وقعت لسلمة بن صخر واقعة مماثلة, فظاهر من امرأته حتى ينسلخ شهر رمضان, فلما سأل النبي عن شأنه أفتاه بما أنزل الله في أوس, ولم يكن حديث سلمة سبب نزول الآيات ولكن حديث أوس كان سبب نزولها، بيد أن العلماء اتفقوا على تعدية هذه الآيات إلى غير سببها، فقالوا في أوائل تفسيرها على سبيل التجوز: نزلت آيات الظهار في سلمة بن صخر1. وفي حديث الإفك نزل حد القذف في رماة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها،2 وكان رماتها معلومين, ولكن حد القذف تعداهم إلى سواهم، رغم ارتكابهم أقبح قذف وأوقحه لأنهم رموا أم المؤمنين, ومن رمى أم قوم فقد رماهم, حتى جاءت عبارة الآية عامة جمعت في لفظ المحصنات عائشة مع غيرها فقال الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} 3 الآية. والقول بتعدية الآيات إلى غير أسبابها جر الجمهور إلى الأخذ بعموم اللفظ   1 انظر تفسير ابن كثير 4/ 318-322. 2 سورة النور 7-9. 3 سورة النور 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 بدلا من خصوص السبب, فالنص القرآني العام الذي نزل بسبب خاص معين يشمل بنفسه أفراد السبب وغير أفراد السبب, لأن عمومات القرآن لا يعقل أن توجه إلى شخص معين, قال ابن تيمية: "والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه؟ لم يقل أحد: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين, وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ, والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرًا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته"1. هذه مثلا حركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة قد كان لها أثر واضح في توجيه الأحداث التاريخية، فإنها اتخذت مظاهر مختلفة وأشكالا متعددة منذ الهجرة النبوية حتى لحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى, فكان لزاما أن يثير القرآن في كثير من سوره وآياته حملة عنيفة على هذه الحركة وعلى دسائس المنافقين وأراجيفهم، حتى نزلت فيهم سورة تحمل اسمهم الخاص، فدل اسمها على مسماها، وعنوانها على محتواها، وجاء في تلك السورة آيات رسمت للمنافقين أخزى صورة، رمتهم بالبلادة والجمود، ونصبتهم تماثيل صامتة وخشبا مسندة بجوانب الجدران لا تبدي حراكا، وجعلتهم أشد توجسا وجبنا وفزعا من الفئران كلما هجس صوت، أو علت صحية، أو تحرك شيء، رقم ظاهرهم الخداع وأجسامهم الطوال العراض التي تسر الناظرين، وإليك الأصباغ الحية، والملامح الشاخصة، في آية واحدة من تلك الآيات المعجزة الفريدة: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2، فهل يعقل أن يخص القرآن   1 الإتقان 1/ 51. 2 سورة المنافقون 4. وراجع تفسير ابن كثير 4/ 368 وعبارته في تصوير أولئك المنافقين: "وكانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم. قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي: كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 بصياغته العامة هذه نفرا من منافقي الأوس والخزرج كانوا في عصر التنزيل ثم لم يلبثوا أن انقرضوا1؟ وإذا تناول القرآن أولئك النفر تناولا أوليا ووصف أخلاقهم وصفا مطابقا، فهل من مانع عقلي يحجز هذه الآيات ونظائرها عن أن تكون عبرة عامة شاملة، "ونموذجا" خالدا شاخصا لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة في كل طائفة تدعي أنها على دين؟ 2 أولم يوفق بعض المفسرين حين رأوا في تأويل نظائر هذه الآية أنها تعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، ولو خص نزولها بالأوس والخزرج وحدهم كل من ابن عباس وأبي العالية والحسن وقتادة والسدي؟ 3. وفي المعارك الإسلامية الأولى في حياة الرسول الكريم كان على المسلمين أن يحذروا عدوهم الداخلي مثل حذرهم من عدوهم الخارجي أو أشد, فقد نطقت آيات في سورة النساء بأن في عداد المؤمنين من قومهم المتشبهين بهم من لا عمل لهم في المعارك إلا تثبيط الهمم, وتوهين العزائم، وإذاعة الأراجيف لبعثرة الصفوف. أولئك هم المبطئون المتثاقلون كلما دعوا إلى خوض المعركة. أولئك هم الذين يتخلفون ويتلكئون ليعرفوا المصير: أقاتم أسود أم مشرق مضيء! فإذا محص الله المجاهدين المخلصين بمحنة أو بلاء أو درس بليغ فرح القاعدون بقعودهم، وتبجحوا بنعمة الفرار التي أنقذتهم من الهزيمة والقتل والجراح. وإذا أظفر الله المجاهدين بعدوهم، ونصرهم عليهم, سارع أولئك المتخلفون إلى الحسرة والندامة، وودوا لو نفروا مع المجاهدين خفافا وثقالا، ثبات وجميعا، ليكتب لهم من الفوز والغنيمة ما كتب للمرابطين الصابرين، نجد هذا التصوير النفسي الفني كله مكشوفا للأبصار في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ   1 قارن بتفسير المنار 1/ 148-149 في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} الآيات من سورة البقرة. 2 قارن بتفسير ابن كثير 1/ 47 في تأويل الآيات المصورة للمنافقين في سورة البقرة أيضا. 3 تفسير ابن كثير 1/ 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} 1 لكن القرآن -حين اختار لتصوير هذه الحال النفسية تينك الآيتين الموجزتين- ما كان يخص ضعاف الإيمان بأعينهم في معركة بعينها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال بذلك أهل التأويل كمجاهد وقتادة وسواهما2، وإنما كان يرسم -من خلالهما- بريشته الخلاقة المبدعة لوحة شاخصة لنمط من الناس يتكرر في كل زمان ومكان، ويتخطى القرون والأجيال, وقد فهم ابن جريح هذا حين قال في تفسير الآيتين: إنهما في وصف المنافق يبطئ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، ويقول مقالة الشامت كلما أصاب العدو من المسلمين مقتلا، أو يقول مقالة الحسود كلما حقق المسلمون نصرًا3. وإن لنا أن نقيس على هذا ألوانا من الوحي وألوانا, كهذه الصورة التي تطلع بها علينا فاتحة سورة الهمزة, وقد ارتسمت فيها ملامح شخص حقير لئيم ما يني يعيب الناس بلسانه السليط، ويزري عليهم بلفتاته المتهكمة وحركاته الساخرة, ويبخسهم أشياءهم, ويستهين بكراماتهم, ولا يقيم في الحياة وزنا إلا لمال جمعه وعدده، وظنه سيخلده إذا فني كل شيء في الوجود، فلتقل الآيات في مثل هذا الحقير الصغير: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} وليحصر بعض المفسرين نطاق هذه الصورة وليقولوا: "المراد بذلك الأخنس بن شريق"4، ثم ليتصد الزمخشري للقائلين بالتخصيص، وليعلن رأيه بصراحة: ويجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح، وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه"5. وذلك ما لاحظه   1 سورة النساء 72-73. 2 تفسير الطبري 5/ 105. 3 وبهذا أخذ إمام المفسرين الطبري أيضا. انظر تفسيره "5/ 105". 4 تفسير ابن كثير 4/ 548. وصرح الزمخشري ببعض الأسماء الأخرى ولو بصيغة التمريض فقال: "وقيل في أمية بن خلف، وقيل: في الوليد بن المغيرة" الكشاف 4/ 232. 5 الكشاف 4/ 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الإمام الزركشي حين عقد فصلا لخصوص السبب وعموم الصيغة، ثم قال: "وقد يكون السبب خاصا والصيغة عامة، لينبه على أن العبرة بعموم اللفظ"1. ثم استشهد بقول الزمخشري في "الهمزة" على النحو الذي رأيناه. على أن هذه "النماذج" الإنسانية المتكررة في كل جيل، المتشابهة في كل بيئة -وإن ظهرت كالمتخطية لكل زمان ومكان - خضعت أول ما خضعت لمناسبات وأسباب بتناولها أشخاصا معينين تناولا أوليا مباشرًا, ولكن في القرآن أنماطا إنسانية أخرى مهما يجهد المفسرون أنفسهم لتعيين المقصودين بها لا يهتدوا إلى تعيينها سبيلا، إذا وردت في القرآن حقا فوق الزمان والمكان والأشخاص، ونزلت ابتداء -من غير أسباب ولا مقدمات ولا نطاق حاصر ولا محصور- كأنها لوحات فنية تصور الجنس الإنساني وحدة كامة متشابهة أو أفرادا من هذا الجنس تفردت بملامح يحكي بعضها بعضا. ليقل المفسرون ما يحلو لهم في تأويل قول الله تعالى: {إِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} ، فإن أحدا منهم لن يستطيع تعيين شخص مقصود بهذه الصورة الحية الفريدة، وإن أحدا منهم -في نظري- لن يجد فيها أبدع ولا أروع ولا أصدق انطباقا على الواقع النفسي من قولة الكاتب الإسلامي المعاصر المبدع الأستاذ سيد قطب: "الإنسان هكذا حقا: حين يمسه الضر، وتتعطل فيه دفعة الحياة، يتلفت إلى الخلف، ويتذكر القوة الكبرى، ويلجأ عندئذ إليها، فإذا انكشف الضر، وزالت عوائق الحياة انطلقت الحيوية الدافعة في كيانه، وهاجت دواعي الحياة فيه، فلبى دعاءها المستجاب، و"مر" كأن لم يكن بالأمس شيء"! 2.   1 البرهان 1/ 32. 2 التصوير الفني في القرآن 178. الطبعة الثانية. وأنصح القارئ بقراءة فصل "نماذج إنسانية" في هذا الكتاب فإنه يغني عن قراءة مجلدات ضخام في بلاغة العربية والقرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وإن الأنماط الإنسانية المتكررة لتتعدد بتعدد الزوايا النفسية، ففيها الطيب والخبيث، والسامي والحقير، والمؤمن والكفور، والمتأني والعجول، والأمين والخئون، والعدو والصديق، والعالم والجهول. ولا يعدم الباحث في القرآن هذه "النماذج" والأنماط، متناثرة في آياته تناثرها في المجتمعات والبيئات والعصور. ولو أننا في هذا المقام نسوغ لأنفسنا البحث في الجانب الأدبي من القرآن لأفضنا في تصوير هذه الملامح الإنسانية بريشة مغموسة بأصباغ القرآن، عليها منه نداوة، وله فيها ظلال. ولكننا نتحدث عن علم من علوم القرآن نتقصى به أسباب النزول تقصي العلماء، ولا نستروحها به استرواح الأدباء، فأقنعنا فيما لم نعرف له سبب نزول أن قد كان سبب إيحائه الأحياء في كل زمان ومكان لا وقائع أولئك الأحياء؛ والحياة الخالدة الأبدية لا حكاية هذي الحياة!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الفصل الثالث: علم المكي والمدني لبث النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة عمرا ما كان يدري فيه ما الكتاب وما الإيمان، ثم اختاره الله لتبليغ رسالته، فأوحى إليه روحا من أمره، وجعل مبعثه كمبعث الرسل الذين خلوا من قبله في سن الأربعين ليكون أنضج فكرا, وأصدق عزمًا، وأمضى إرادة، وأقوى بأسا، وأوسع تجربة, وأثبت جنانا. ولقد بادر بعض المفسرين إلى القرآن نفسه يستخرجون من نصوصه عمر النبي قبيل البعثة، فلما لم يظفروا إلا بقوله تعالى على لسان نبيه: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} 1 انطلقوا به يجزمون بأن لفظة "العمر" ترادف سن الأربعين على وجه اليقين2. وكم خلطوا بمثل هذا التفسير العجول بين مدلول اللغة وواقع التاريخ!. إن لفظة "العمر" لا تعين وحدها شيئا مما قطعوا به، وليس في مدلولها اللغوي إيماءة إلى مفهوم عددي صريح، ولكنها -بوحي من سياق التركيب في الجملة أو من سياق الواقع في التاريخ -قد ترمي إلى فكرة العدد بضرب من التلويح: فمن قطع من أولئك المفسرين بأن سن الأربعين ترادف في الآية {عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} ، فقد استلهم واقع السيرة المطهرة ثم نزل السياق القرآني على أحكام هذا الواقع تنزيلا..   1 سورة يونس 17. 2 قارن بتفسير الطبري 1/ 671-680 والرواية عن قتادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أما ما أثاره المستشرقون من شبهات حول تفسير الآية فمغالطة عليم أو سفه جهول: فإنهم زعموا أن لا قبل لباحث بتحديد عمر النبي في بدء الوحي1, وعلل بعضهم تعذر هذا التحديد باضطراب الروايات وتناقضها2 بينما فسره بعضهم الآخر بما درج عليه العرب وأكثر الساميين من إضفاء صفة سحرية على رقم الأربعين الذي ينطوي على أعمق الأسرار3. ومغالطتهم -على علم- تتمثل في معرفتهم كذب دعواهم فيما زعموه من اضطراب الروايات، فإن تعدد الروايات لا يستلزم الاضطراب حتما، وإنما يقع التناقض والتضارب إذا تعادلت الروايات وتساوت وتعذر الترجيح بينها كما ذكر نقاد الحديث في مصطلحهم العلمي الدقيق4، فأما إذا رجحت رواية على أخرى فما من فرصة بعد للقول بالتناقض، ولينقل المؤرخون عشرات الروايات في عمر النبي5 فسيظل الرأي الأشهر هو الرأي الأصح كما رجحه المحققون من أهل التفسير6. وجهل المسشرقين أو تجاهلهم يتمثل في حيرتهم الحقيقية أو المصطنعة لدى تحديد الرقم السحري المليء بالأسرار عند العرب والساميين, فهو الأربعون   1 ذهب إليه بلاشير في مستهل ترجمته للقرآن. انظر: Blachere, traduction, t. II, p.1. 2 انظرمقالة الأدب لامنس في الجريدة الأسيوية: Lammens, l'Age de Mahomet et la chronologie de la Sira "Journal asiatique 1911". 3 استند بلاشير -للقول بهذا- إلى مقالتين نشرتا في مجلة ألمانية تصدر في ليبزيغ تدعي: Zeitschrift der Deutschen Morgenl Adischen Gesellschaft. أولهاما في المجلد 61 وكتبه كونيج Konig والأخرى في المجلد 65 وكتبه ريشر Rescher. 4 انظر تدريب الراوي "للسيوطي" 93 وتوضيح الأفكار "للصنعاني" 2/ 47، وقارن بكتابنا "علوم الحديث" ص193. 5 راجع أهم هذه الروايات في "الطبقات الكبرى" لابن سعد 2ق 2/ 82. 6 انظر على سبيل المثال تفسير ابن كثير 2/ 410، وقد بدأ ابن كثير هنا بالرأي المشهور القائل بأن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة أربعون سنة، ثم عقبه برأي لسعيد بن المسيب: أنها ثلاث وثلاثون، ثم قال: والصحيح المشهور الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 تارة، والسبعة أو السبعون تارة أخرى1، وقد فاتهم أن المبالغة في بعض الأرقام -وإن تك في ذاتها حقيقة واقعة- لا تلغي المفهوم العددي في الأحوال كافة، ولا تلازم بين الأمرين حين تنتصر لمفهوم عددي معين أوثق الروايات، أصدق وقائع التاريخ. لا مفر إذن من مجابهة أولئك المستشرقين، مغالطيهم ومتجاهليهم، بأن الله بعث نبيه حقا على رأس الأربعين, من غير استناد إلى تفسير "العمر" في الآية، ومن غير تأثر بعقائد الساميين في هذا الرقم العجيب، بل اعتمادا على ما نطقت به الروايات الصحيحة المشهورة التي كادت تبلغ حد التواتر، إذ استفاضت بين الخاصة والعامة، وتناقلتها الألسنة القديمة والحديثة. وما من ريب في أن إثارة الشبهات حول عمر النبي في بدء الوحي محاولة أولية للتشكيك في منطلق الدعوة الإسلامية بمكة تتلوها محاولات أخرى للغض من قيمة المعلومات المأثورة المتعلقة بمراحل الوحي المتعاقبة في مكة ثم في المدينة, فأنى للباحث أن يتصور كيف كانت تتتابع نوازل القرآن إذا كانت صورة بدء الوحي قد انطبعت في ذهنه غامضة لا تحكي الأصل في شيء؟ وإن في وسعنا الآن -وقد أزحنا عن الظروف الأولى لبدء الوحي كل لبس أو غموض، وفصلنا القول في سن الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل البعثة- أن نتدرج مع التنزيل القرآني مرحلة مرحلة, مطمئنين إلى ما وافانا به أئمتنا المحققون في وصف تلك المراحل ابتداء ووسطا وختاما، مثلما اطمأننا -فيما سبق من فصول هذا الكتاب- إلى ما وافونا به في تحليل ظاهرة الوحي نفسها، وفي تقصي النوازل القرآنية المنجمة على حسب المناسبات الفردية أو الاجتماعية، وفي تحري جمع القرآن وحفظه واستنساخه في المصاحف وتحسين رسمه، وفي الاستيثاق من متواتر أحرفه السبعة، وفي تتبع أسباب نزوله وما صح من وجوه الترابط بين آياته، بما عرف عنهم من ورع بالغ يتناول الأشخاص والمتون والأسانيد، وحاسة نقدية مرهفة تعنى بالتناسق الفني ولا تهمل حقائق التاريخ.   1 ارجع إلى ما فصلناه سابقا حول الأحرف السبعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولعنا لا نرتاب -إذا وضعنا العلوم القرآنية موضع الموازنة- في أن العلم بالمكي والمدني أحوجها إلى تمحيص الروايات، وتحقيق النصوص، والتحاكم إلى التاريخ الصحيح، وهو -على كل حال- أحوج إلى هذا كله من "أسباب النزول"، لأن العلم بتلك الأسباب يتناول ضروبا معينة من الجزئيات المتعلقة بالمناسبات الفردية والاجتماعية, ولا يتناول شيئا من التفصيلات القرآنية الأخرى التي نزلت ابتداء غير مبنية على أسباب1، أما العلم المكي والمدني فلا غنى له عن تناول القرآن كله سورا وآيات: فكل سورة فيه إما مكية أو مدنية، وقد تستثنى من السورة المكية آيات مدنية، ومن السورة المدنية آيات مكية، كما أن كل آية في القرآن معروفة "الهوية" واضحة السيرة, فإذا اختلطت بغير زمرتها أخضعها العلماء الثقات لمقاييسهم النقدية الدقيقة حتى قطعوا أو كادوا يقطعون بأنها تنتمي إلى النوازل المكية أو المدنية. كان العلم بالمكي والمدني إذن خليقا بالعناية البالغة التي أحيط بها، وجديرًا أن يعد بحق منطلق العلماء لاستيفاء البحث في مراحل الدعوة الإسلامية، والتعرف على خطواتها الحكمية المتدرجة مع الأحداث والظروف والتطلع إلى مدى تجاوبها مع البيئة العربية في مكة والمدينة، وفي البادية والحاضرة، والوقوف على أساليبها المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب. ووفاء هذا العلم بتلك المعارف الواسعة جعل بحوثه أشتاتا وألوانا: فهو في آن واحد ترتيب زماني، وتحديد مكاني وتبويب موضوعي, وتعيين شخصي. ويخيل إلينا أن هذه الألوان المتباينة جميعا قد طافت بأذهان العلماء حين ترددوا في تقسيم المكي والمدني على أساس من المكان أو الزمان أو الأشخاص. فمن قال: "المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة" لاحظ المكان، ومن قال: "المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة" راعى أشخاص المخاطبين، ومن آثر الأخذ بالاصطلاح   1 انظر ما أوضحناه في الصفحات الأولى من الفصل السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 المشهور: "المكي ما نزل قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدني ما نزل بعد هذه الهجرة وإن كان نزوله بمكة"، عني بالترتيب الزمني في مراحل الدعوة الإسلامية. ونحن إذا نأخذ بهذا التعريف الأخير لا نكتم القارئ ما نلمحه من تحقق عناصر الزمان والمكان والأشخاص في الاصطلاحات الثلاثة على السواء1، بل نلمح فيها أيضا عنصرًا رابعًا لا يخفى على ذي بصر: وهو عنصر الموضوع. هذه سورة الممتحنة من مطلعها إلى ختامها2 نزلت بالمدينة إذا لاحظنا المكان، وكان نزولها بعد الهجرة إذا اعتبرنا الزمان، ووقعت خطابا لأهل مكة إذا أردنا الأشخاص، واشتملت على توجيه اجتماعي محص قلوب المؤمنين إذا رغبنا بمعرفة موضوعها، لذلك أدرجها العلماء في باب "ما نزل بالمدينة وحكمه مكي"3. وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 4 نزل بمكة إذا التمسنا المكان، ويوم الفتح بعد الهجرة إن تحرينا الزمان، والغاية منه الدعوة إلى التعارف وتذكير الإنسانية بوحدة أصلها إن عينا الموضوع، وهو -إن راعينا الأشخاص- خطاب لأهل مكة والمدينة على السواء، فما سماه العلماء مكيا على الإطلاق، ولا مدنيا على التعيين, بل أدرجوه في باب "ما نزل بمكة وحكمه مدني"5. على أننا لم نتردد في تفضيل التقسيم الزمني للمكي والمدني؛ لأننا نواجه موضوعا وثيق الصلة بالتاريخ, فليس لنا أن نختار في مثله التبويب المكاني   1 انظر هذه الاصطلاحات الثلاثة في البرهان 1/ 187 والإتقان 1/ 13-14. 2 انظر تفصيل قصتها في سيرة الرسول لابن هشام ص16-17. وقد نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين دفع كتابه إلى قريش يخبرها بمسير النبي إلى مكة. 3 البرهان 1/ 195. 4 سورة الحجرات 13. 5 البرهان 1/ 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ما دمنا نرمي إلى تحديد ما نزل بمكة أو بالمدينة ابتداء ووسطا وختاما، فإن هذه الأطوار المتعاقبة تفرض أن يكون اختيار الترتيب الزمني أمرا بديهيا لا مجال للتردد فيه، أما تعيين الأشخاص واستخراج الموضوعات فأمران ثانويان يقعان موقعهما المناسب من الترتيب الزمني المترادف ترادف الوقائع والأحداث. وبهذا المنهج التاريخي الزمني, الذي لا يتغاضى عن الآفاق النفسية والأطوار الاجتماعية، ولا يتجاهل أثر البيئة في الحياة والأحياء, أخذ المحققون من علمائنا وشددوا في مأخذهم به حتى منعوا الجاهل بمراحل الدعوة الإسلامية أن يتصدى لكتاب الله مفسرًا لآياته أو خائضا فيه، قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري1: "من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي"2. ويعنينا من قول أبي القاسم النيسابوري هنا أنه التفت التفاتة صريحة إلى تقسيم القرآن كله إلى ست مراحل زمنية: ثلاث في مكة بداية وتوسطا وختاما، وثلاث بعدها في المدينة بداية وتوسطا وختاما. فما جنح إليه بعض المستشرقين من ترتيب القرآن على أسباب النزول, وتقسيمه إلى مراحل ست أو أربع3 -كما سنرى بعد قليل- لا ضرر فيه لذاته، إذا أباح الخوض في مثله علماؤنا الأعلام, وإنما يتجسد الضرر فيه حين يتجافى هذا الترتيب على الروايات الصحيحة ويأخذ بالرأي المرتجل الفطير. ولو أتممنا عبارة أبي القاسم النيسابوري لألفيناه فيها -بعد التزامه المنهج التاريخي الزمني- لا يلبث أن يلحق بهذا المنهج نفسه جزئيات تبدو في نظرنا   1 هو النحوي المفسر، إمام عصره في القراءات، توفي سنة 406 "بغية الوعاة 227". 2 البرهان 1/ 192، ونقله السيوطي في "الإتقان 1/ 12-13". 3 نشير بهذا إلى محاولة موير ترتيب القرآن إلى ست مراحل: خمس في مكة والسادسة في المدينة، ومحاولة ويل التي قسم بها القرآن إلى أربع مراحل: ثلاث في مكة والرابعة في المدينة، وأخذ بها كل من نولدكه وشفالي وبل ورودويل وبلاشير، وسنفصل أمر هذه المراحل في هذا البحث نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 صغيرة يسيرة، ولكنها في نظره هامة جليلة، إذ يجعل العلم بها فريضة على كل من يعنى بتفسير كتاب الله المجيد: فعلى المفسر المحقق أن يعرف كذلك "ما نزل بمكة في أهل المدينة, وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة1، وما نزل ببيت المقدس, وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا، وما نزل نهارًا، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة, ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرًا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مكي، وبعضهم مدني: هذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى2". ونحن نعترف بأنه ليس في وسعنا أن نعرض هنا تفصيلا لتلك الملابسات كافة، فإن بحث كل منهما على حدة يستغرق مجلدا بأكمله، وهيهات له أن يكون وافيا بالمقصود، شافيا للغليل، فحسبنا -للدالالة على ما عاناه العلماء في تتبع مراحل الوحي- أن نشير إجمالا إلى بعض الروايات التي لم يكتف أصحابها بوصف ما نزل في مكة أو في المدينة، قبل الهجرة أو بعدها، بل بلغت عنايتهم بهذا الكتاب الكريم أقصى ما يبلغه الباحثون من التحري والتدقيق، فلم يفتهم ذكر أبسط التفصيلات وأصغر الجزئيات. لاحظوا مثلا بصورة عامة أن أكثر القرآن نزل نهارا3، ثم استرعى انتباههم أن هذه القاعدة لم تتبع في بعض الحالات الجزئية، فسورة مريم   1 الجحفة: قرية على طريق المدينة، من مكة على أربع مراحل. 2 البرهان 1/ 192. 3 وينسب القول بهذا إلى السيدة عائشة أم المؤمنين "انظر البرهان 1/ 198". أما السيوطي في "الإتقان 1/ 34" فيقول: "أمثلة النهاري كثيرة، قال ابن حبيب: نزل أكثر القرآن نهارًا" فهو ينسب هذا القول إلى ابن حبيب, وهو أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري الذي سبقت الإشارة إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أنزلت ليلا. روى الطبراني1 عن أبي مريم الغساني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ولدت لي الليلة جارية، فقال: "والليلة أنزلت علي سورة مريم، سمها مريم" 2. وأول سورة الفتح نزلت ليلاً، ففي البخاري من حديث عمر: "لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس"، فقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 3. وأول سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} نزل ليلا في غزوة بني المصطلق، وهم حي من خزاعة، والناس يسيرون4. ويوشك أحدنا -إذا جعل الروايات الصحيحة عمدته- أن يستحضر النازل القرآني في أي جزء من الليل كان؛ في وسطه أم أوله أم آخره، وإني لأتمثل هذه اللحظة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح حين نزل عليه -كما في الصحيح- قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 5، ثم أتمثله صلوات الله عليه في خيمة من أدم وقد بات نفر من أصحابه على باب الخيمة يحرسونه، فلما أن كان بعد هزيع من الليل أنزل الله عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 6. وأتمثله أخيرا عند السيدة أم سلمة أم المؤمنين وقد بقي من الليل ثلثه7 حين نزلت عليه آية الثلاثة الذين خلفوا8. ولقد تكون الليلة شاتية، ويكون البرد فيها شديدا، فلا يفوت الراوي أن يصفها لنا إرهاصا لذكر الآيات التي نزلت في هذا الجو المكفهر، فما من   1 الطبراني هو الحافظ المكثر صاحب التصانيف المفيدة، وأشهرها المعاجم الثلاثة، الكبير والصغير والأوسط، توفي سنة 360هـ عن مائة سنة وعشرة أشهر "انظر الرسالة المستطرفة لمحمد بن جعفر الكتاني ص30". 2 الإتقان 1/ 35. 3 صحيح البخاري 6/ 135. 4 البرهان 1/ 198. 5 سورة آل عمران 128 "وانظر الإتقان 1/ 36". 6 سورة المائدة 67. 7 كما في صحيح مسلم عن أنس "الإتقان 1/ 38". 8 سورة التوبة 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 جزئية مهما تكن تافهة في نظرنا الآن إلا وهي على لسان الراوي شيء له قيمته الدينية والاجتماعية، فليصورها تصويرا واقعيا أمينا، ولا ينقصن منها ولا يزيدن عليها: أولئك هم الناس يتفرقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب إلا اثني عشر رجلا فيخاطب عليه الصلاة والسلام الصحابي الجليل حذيفة قائلا: "قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب" فيجيبه حذيفة: والذي بعثك بالحق ما قمت لك إلا حياء.. من البردّ. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 1. ونجد في المقابل أن الآيات النازلة في غزوة تبوك إنما كانت في شدة الحر، وأن رجلا من المنافقين قال يومئذ: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} 2. وإذا كان أكثر القرآن نزل في الحضر فإن تنقل الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة جعله يتلقى الوحي أحيانا في بعض أسفاره, تثبيتا لفؤاده، وتأييدا لجهاده، وكثيرا ما يعبر الرواة عن هذا بمثل قولهم: نزلت الآية أو الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم في "مسير" له. ويغلب عليهم تعيين هذا المسير، وتحديد السفر ومكانه وزمانه: وفي الصحيح عن عمر أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3 نزل عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وفي "دلائل" البيهقي أن خاتمة سورة النحل نزلت بأحد والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على حمزة حين استشهد4.   1 سورة الأحزاب 9؛ والحديث أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "انظر الإتقان 1/ 37". والإمام البيهقي منسوب إلى بيهق، وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخا منها، وللبيهقي كتب كثيرة قيل إنها نحو الألف، وأشهرها السنن الكبرى، ودلائل النبوة، وقد توفي هذا الإمام الكبير سنة 458 "انظر الرسالة المستطرفة ص25-26". 2 سورة التوبة 81 "وانظر الإتقان 1/ 31". 3 سورة المائدة 3 "وانظر الإتقان 1/ 31". 4 الإتقان 1/ 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ولقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم سلسلة من الجهاد المتواصل، فكثر نزول الوحي عليه في مغازيه: ففي بدر عقب الواقعة نزل أول الأنفال1، وفي عمرة الحديبية نزل قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 2، وفي تبوك نزل قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} 3. وقد تتبع السيوطي عددا من الأمثلة الأخرى تراجع في موضعها من "الإتقان"4. وليلة الإسراء والمعراج ليست إلا ليلة في حساب الزمان، ولكنها جزء من الأزل البعيد العميق في علم الله، فمن القرآن آيات نزلت في تلك الليلة القدسية، ولئن صح أن قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 5 نزل ببيت المقدس عندما أسرى الله بعبده ليلا6، فإن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا -كما يقول ابن العربي: "في الفضاء بين السماء والأرض"7 حين رأى محمد من آيات ربه الكبرى ساعة المعراج. وهذا الاستقصاء في تحري ما عسى أن يبدو لبعضهم غير ذي بال لم يكن له في نفوس الرواة والعلماء إلا تفسير واحد: إنه صدق الرواية وإمكان الثقة بها إلى أبعد حد فيما يتعلق بتحديد المكي والمدني في كتاب الله. وعلى هذا الأساس من الدقة والاستقصاء فرق العلماء بين ما يشبه تنزيل   1 الإتقان 1/ 32. 2 سورة البقرة 189 "وانظر الإتقان 1/ 30" ويرى بعضهم أنها نزلت في غزوة الفتح أو في حجة الوداع. 3 سورة الإسراء 76 "وانظر الإتقان 1/ 32". 4 الإتقان 30-34 "النوع الثاني معرفة الحضري والسفري". 5 سورة الزخرف 45. 6 البرهان 1/ 197. 7 الإتقان 1/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 المدينة في السور المكية وما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية1، وغرضهم من التعبير، "بالتشبيه" واضح، فإنهم يلاحظون الطابع العام لكل سورة ثم ما يشبه هذا الطابع شبها قريبا يكاد يلحقه به، فإذا وجدت في سورة هود المكية مثل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} ... 2 فليس من الضروري أن تعتبرها مدنية وإن أشبهت التنزيل المدني. وإذا تلوت في سورة الأنفال المدنية مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 3 فليس لك أن تحكم بأنها مكية ولو كان فيها من التنزيل المكي ظلال وسمات. وكثيرا ما يصرف وجه الشبه القريب بين المكي والمدني الباحثين المتسرعين عن تتبع مرحلة دقيقة خطيرة في تاريخ الدعوة الإسلامية, حين تستدعي ظروف معينة حمل النازل القرآني من مكان إلى مكان، ولكن العلماء الثقات وافونا بذلك كله، فلكل آية في القرآن تاريخها، بل لكل لفظة فيه سيرتها وترجمتها: فمن شيخ المفسرين الطبري علمنا أن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 4 حمل من المدينة إلى مكة5، ومن القرطبي6 علمنا أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا   1 انظر البرهان 1/ 196. 2 في تفسير القرطبي 9/ 110-111 أنها نزلت في رجل من الأنصار يسمى أبا اليسر بن عمرو. وفي "البرهان 1/ 196" أنها نزلت في أبي مقبل الحسين بن عمر بن قيس والمرأة التي اشترت منه التمر، فراودها. والآية في سورة هود 114. 3 سورة الأنفال 32 "وانظر البرهان 1/ 197" ومن ذلك أن بعض العلماء استثنى من سورة الأنفال المدنية أيضا قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} الآية 30 فقالوا: إنها مكية، ولكن السيوطي في "الإتقان 1/ 24" لا يصوب ذلك ويقول: "يرده ما صح عن ابن عباس أن هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة كما أخرجناه في أسباب النزول". 4 سورة البقرة 217. 5 تفسير الطبري 2/ 201-206 وانظر البرهان 1/ 203-204. 6 هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي المشهور بالقرطبي. صاحب "الجامع لأحكام القرآن" توفي سنة 671هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1 حمل مع الآيات من أول سورة براءة من المدينة إلى مكة، ثم قرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم النحر على الناس2. وحين نجد علماءنا يبذلون هذا الجهد المشكور في تحري الروايات وضبطها ليرتبوا السور القرآنية تبعا لتطورات الدعوة وأدق جزئياتها، لا نملك أنفسنا من الدهشة والذهول إذ نسمع المستشرقين يدعون بالويل والثبور على الرواة والروايات، ويرتابون في إمكان ترتيب القرآن اعتمادا على سيرة الرسول3. ومن الغريب حقا أن يظن المسشرقون أن في وسعهم ترتيب القرآن زمنيا وهم يجحدون كل أثر للرواية الصحيحة في هذا الترتيب، ولو كانوا يتشددون في الروايات فلا يقبلون منها إلا المسندة الصحيحة لهان الأمر, فإن علماء الإسلام أنفسهم كانوا -ولا يزالون- يرفضون الأخذ بالروايات الضعيفة في المكي والمدني وغيرهما من الموضوعات التي تلقي الضياء ساطعا على تتبع مراحل الوحي القرآني، وترتيب سوره وآياته، وتدرج تعاليمه، وإرشاداته، على أن بين المستشرقين من حاول أن يبحث هذا الموضوع على صعيد لا يختلف كثيرا عن صعيدنا، كالأستاذ غريم H. Grimme الذي اعتمد على الروايات والأسانيد الإسلامية في ترتيب سور القرآن4. ويؤخذ عليه مع ذلك أمران: أما أحدهما فعدم تمحيصه صحيح تلك الروايات وسقيمها وعجزه كسائر المستشرقين عن هذا التمحيص، ولذلك لم يبال بترتيب القرآن على أساس واه من الأسانيد الضعيفة أحيانا والباطلة أحيانا أخرى. وأما الآخر فهو تخليه عن المنهج الذي اشترطه على نفسه من احترام الروايات ليصدر في نهاية المطاف   1 سورة البقرة 278. 2 تفسير القرطبي 3/ 363-364. 3 انظر على سبيل المثال: Blachere, Intro. Cor., 252 4 انظر منهجه في الاعتماد على الروايات في كتابه: H. Grimme, Mohammed, 2e partie "munster, 1895"; cf. ;Blachere, Intro., 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 - في مواطن مختلفة- عن رأي المستشرق نولدكه في وصف المراحل المتعاقبة على الوحي القرآني1. والواقع أن المستشرق نولدكه Noldeke كان مقتنعا بضرورة ترتيب القرآن زمنيا على غير الطريقة الإسلامية, وقد رسم لنفسه منهجا جديدا تأثر به كثيرون، فأصبح موضوع هذا الترتيب يشغل أذهان المستشرقين جميعا، ويعلقون عليه أخطر النتائج في عالم الدراسات القرآنية. وقد ظهرت في أروبة في منتصف القرن التاسع عشر محاولات لترتيب سور القرآن ودراسة مراحله التاريخية، منها محاولة وليم موير William Muir الذي قسم المراحل القرآنية إلى ست، خمس في مكة وسادستها في المدينة2. واعتمد فيها -إلى حد غير قليل- على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسانيدها بعد دراستها دراسة نقدية حشد لها الكثير من معلوماته التاريخية3، ولكنه وقع -مع ذلك- في أخطاء عديدة وأخذ بروايات واهية، والمقارنة في هذا المجال بينه وبين غريم Grimme ستظل ممكنة ميسورة. ومنها محاولة ويل Weil التي بدأها سنة 1844 ولم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة 1872، ولا يقيم فيها وزنا للروايات والأسانيد الإسلامية4، لذلك كانت في نظر بلاشير "الطريقة الوحيدة المثمرة حقا"5، وكان من قبله   1 انظر بعض مواطن تلاقيه مع نولدكه في Geschichte des Qorans ,73. 2 ويمكن دراسة هذه المحاولة في كتابين من تأليف موير أحدهما: Life of Mahomet "London, 1858- 61"". وقد طبع هذا الكتاب طبعة مزيدة منقحة سنة 1923 في ادنبورغ Edinburgh بإشراف T. H. Weir. والثاني: The Coran, its composition and teaching "London, 1878" 3 Cf, Blach., Intor, cor , 248. 4 وذلك في كتابه: G. weil, Historisch - Kritische Einleitung in der Koran "Bielefeld, 1844" 2e ed, Leipzig, 1872". 5 انظر Blach., Intro, cor., 251 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 في نظر نولدكه نقطة الانطلاق في أجرأ محاولة لترتيب القرآن فبها أخذ، وعلى كثير من أسسها بنى دراسته. وكان ويل Weil قد قسم المراحل القرآنية إلى أربع: ثلاث في مكة ورابعة في المدينة، فتابعه على ذلك نولدكه سنة 1860 عندما ظهر كتابه عن "تاريخ القرآن"1 للمرة الأولى، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة في محتويات كل مرحلة على حدة، ثم تابعه مرة ثانية مع نظائر هذه التعديلات عندما شاركه شفالي Schwally في نشر الكتاب منقحا مزيدًا. وقد تأثر بهذه الطريقة كل من بل2 R.Bell ورودويل Rodwell3 وبلاشير Blachere4 وتظل ترجمته بلاشير للقرآن في نظرنا أدق الترجمات، للروح العلمي الذي يسودها، لا يغض من قيمتها إلا الترتيب الزمني للسور القرآنية بطريقة يعترف بلاشير نفسه بأنها لا تخلو من تعسف في إطلاق الأحكام5 دعا إليه ما يعتقده من أن القرآن وحده نقطة الانطلاق في تعاقب المراحل الإسلامية, وترتيب السور، وتدرج التعاليم، وأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والأخبار التي يرويها الصحابة عنه لا يمكن أن تستقل وحدها بإيضاح شيء سكت عنه القرآن، وإنما تكمل تكميلا ثانويا ما جاء في نص القرآن6. أما نحن فلا نرتاب قط -بعد الذي عرضناه من تشدد علمائنا في استقصاء كل ما يتعلق بالمكي والمدني- في أن الرواية الصحيحة هي الطريقة الوحيدة إلى   1 وهو كتابه المشهور الذي كثيرا ما رجعنا إليه في مباحثنا هذه: Geschichte des Qorans. 2 R. Bell, the Qur'an. Translated with A critical re, Arrangement of the Surahs "Edinburgh, 1937 sq." 3 A. Rodwell, the koran, Translation with the Suras arranged in choronological order , London 1861. 4 Blachere, le corrn, Traduction selon un essai de reclassement des sourates, Paris 1949 -51. 5 انظر Blach., Intro, cor., 254. 6 Id., ibid.,253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ترتيب القرآن أمثل ترتيب زمني وأصلحه وأدقه، والروايات في هذا المجال لم ترد إلا عن الصحابة الذين شاهدوا مكان الوحي وعرفوا زمانه، أو التابعين الذين سمعوا وصف ذلك وتفصيله من الصحابة. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه شيء من هذا القبيل، لأنه عليه الصلاة والسلام -كما يقول القاضي أبو بكر1 في "الانتصار": "لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة"2. ولا ريب أن كثيرا من الصحابة كانوا على علم كامل بالمكي والمدني به استطاعوا أن يستقصوا تلك الجزئيات الدقيقة التي حفلت بها كتب التفسير بالمأثور والمؤلفات الكثيرة في علوم القرآن، وقد أشرنا إلى جملة صالحة منها على سبيل التمثيل والاستشهاد، وفي وسعنا أن نكون فكرة عن غزارة علم الصحابة في هذه الموضوعات من خلال قول ابن مسعود: "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت"3 ولكن ابن مسعود -مهما نصف من سعة علمه- ليس الرجل الوحيد الذي أقسم هذا القسم منفردا به من بين سائر الصحابة، فقد أقسم نحوا من قسمه علي أيضًا، وقد كان بين الصحابة بلا ريب من أتيح له أن يشهد ما شهد هذان الصحابيان الجليلان، وربما رأى بعضهم أكثر مما رأياه، بل نحن لا نستبعد أن يكون بين مجاهيل الصحابة من يكمل برواية تحملها شيئا فات علماء الصحابة ومشاهيرهم4. لذلك لم يكن الاعتماد على الرواية الصحيحة متنافيا مع إعمال الفكر والاجتهاد، ولا سيما في الموضوعات التي لا تكون فيها الرواية نصا صريحا، ولهذا الاجتهاد صور وأشكال متنوعة في مبحث المكي والمدني فقد يقع الاختلاف في مكية بعض السور أو مدنيتها، وفي استثناء آيات مكية من سورة   1 هو القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني. 2 البرهان 1/ 191 "وانظر الإتقان 1/ 14". 3 الإتقان 1/ 14 والحديث أخرجه البخاري. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن أيوب أنه قال: سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع. 4 راجع ما ذكرناه في فصل "علم أسباب النزول" عن علم الصحابة بهذه القضايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مدنية أو آيات مدنية من سورة مكية، وفي ترتيب ما نزل بمكة أو المدينة، وفي الخصائص الأسلوبية أو الموضوعية لكل من المكيي والمدني، ثم لا يفصل في الاختلاف إلا بضروب من الاجتهاد. فإذا زعم النحاس1 أن سورة النساء مكية مستندا إلى أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 2 نزل بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة، تصدى له السيوطي يضعف رأيه قائلا: "وذلك مستند واه، لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية، خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني. ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه. ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: "ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"، ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقًا"3. وإذا كان في كل من المكي والمدني آيات مستثناة، فمن العلماء من اعتمد في استثنائها على الاجتهاد دون النقل4. ولا يعارض هذا ما ورد عن ابن عباس: "كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما شاء"، لأن إلحاق المكي بالمدني أو المدني بالمكي يعرف وجه الحكمة فيه حينئذ عن طريق الاجتهاد: مثاله سورة الإسراء فهي مكية؛ إلا أنهم استثنوا منها {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 5 فرجحوا أنها آية مدنية "نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا، وقالوا: متعنا بآلهتنا حتى نأخذ ما يهدى لها. فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرمنا   1 هو أبو جعفر النحاس، أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي، من أئمة العلم واللغة بمصر، توفي سنة 338. له كتاب قيم في "الناسخ والمنسوخ" "انظر إنباه الرواة 1/ 101" وكتابه المذكور طبع في القاهرة بمطبعة السعادة 1323. 2 سورة النساء 58. 3 الإتقان 1/ 19 وقد عقد السيوطي في الإتقان فصلا لتحرير السور المختلف في مكيتها أو مدنيتها عالج فيه الاختلاف بضرب من الاجتهاد "انظر الإتقان 1/ 18-23". 4 الإتقان 1/ 23. 5 الإسراء 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وادينا كما حرمت مكة, حتى تعرف العرب فضلنا عليهم"1. ويعين العلماء -تبعا للروايات والأسانيد- السور المكية والسور المدنية2 ثم يرتبونها حسب تعاقبها في النزول، وإذا هم يترددون في أول ما نزل وآخره3، ويصل بهم الأمر إلى الاختلاف في سورة الفاتحة التي يرتلها المسلمون في كل ركعة من ركعات الصلاة، فيرى بعضهم أنها مكية وآخرون أنها مدنية4، ويؤثر فريق ثالث القول بنزولها مرتين5، ثم يرجح بعضهم أنها أول ما نزل بمكة، فهي إذن أول ما نزل على الإطلاق6، ويرجح آخرون أن عددا من السور كان أسبق منها في النزول، ففي مثل هذه المواطن يتنافس العلماء في إيراد الحجج والبراهين, وهي حجج إلى الاجتهاد أقرب منها إلى النقل، فهذا عالم كالواحدي يستبعد مثلا أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم خلال بضع عشرة سنة بمكة يؤدي الصلاة من غير الفاتحة7! والواحدي -كما نعلم- لم يقم بدراسته "لأسباب النزول" في كتابه المشهور إلا على الروايات والأسانيد، لكن باب الاجتهاد والاستنباط مفتوح دائما على   1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 9/ 299. 2 وقد نظم الحسن بن الحصار في كتابه "الناسخ والمنسوخ" أبياتا في ذلك يفهم منها أن العلماء اتفقوا على مدنية عشرين سورة هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة, والحشر, والممتحنة، والجمعة، والمنافقون، والطلاق، والتحريم، والنصر. وواختلفوا في اثنتي عشرة سورة تعددت فيها الروايات وهي: الفاتحة، والرعد، والرحمن، والصف، والتغابن, والتطفيف، والقدر، ولم يكن، وإذا زلزلت، والإخلاص، والفلق، والناس. وما سوى ذلك فهو مكي باتفاق "انظر الإتقان 1/ 17-18 وقد أثبت السيوطي هنا الأبيات التي نظمها ابن الحصار" وعلى ذلك يكون عدد السور المكية اثنتين وثمانين سورة, لأن تعداد القرآن كله مائة وأربع عشرة سورة. 3 انظر على سبيل المثال البرهان 1/ 193-194 والزركشي يرد إلى القسم المدني أكثر السور المختلف فيها، فيكون عدد السور المكية عنده خمسا وثمانين، بينما تكون الصور المدنية تسعا وعشرين. 4 قال ابن عباس والضحاك ومقاتل وعطاء: إنها مكية. وقال مجاهد: مدنية "البرهان 1/ 194". 5 البرهان 1/ 29 "فصل فيما نزل مكررًا". 6 الإتقان 1/ 18 وقارن بالبرهان 1/ 207. 7 الواحدي: أسباب النزول ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 مصراعيه حتى عند أصحاب النقل والنص! والمستشرق بلاشير بدلا من أن يرى في تفكير الواحدي هنا محاولة للاجتهاد والاستنباط, يستشعر فيه ضربا من استسلام اليائس الذي انقطع كل رجاء عنده في معالجة الموضوع، فاعترف بجهله ووجد السلامة في هذا الاعتراف! 1.. ولا نرى بلاشير في هذا إلا مغاليا، فليس من شأن العلماء أن يقطعوا جازمين في أمر خطير كالذي يتعلق بترتيب الوحي القرآني, وإنما حسبهم أن يحاولوا -كما صنع الواحدي- ترجيح شيء على شيء، والجهل لا يعالج دائما بالقطعي من الأمور، فالترجيح وحده كاف لتحصيل العلم والمعرفة. وليست غايتنا هنا الدفاع عن الواحدي، بل التنبيه على أن كثيرا من جزئيات المكي والمدني انتهى به العلم إلينا عن طريق الاجتهاد، وأن العقل كالنقل، والقياس كالسماع، في ثبوت العلم بالشيء، وقد لاحظ الجعبري هذا حين قال: "لمعرفة المكي والمدني طريقان: سماعي وقياسي2"، وعرف السماعي بأنه "ما وصل إلينا نزوله بأحدهما"، ثم أنشأ يذكر أمثلة وشواهد على القياسي. وإذا قرأنا أمثلته بأمثلة العلماء الذين مارسوا القرآن وتذوقوا فنونه وأساليبه استنبطنا من مجموعها ضابطا قياسيا نستطيع به أن نميز السور المكية والمدنية، ونتعرف إلى طابع كل منها وخصائصه، وسنرى أن هذا الضابط قلما يتخلف عند التطبيق، فمن خصائص السور المكية تبعا لهذا الضابط: 1- أن كل سورة فيها سجدة فهي مكية3.   1 انظر Blachere, Intro. cor., 263. 2 البرهان 1/ 189 والإتقان 1/ 29. 3 الإتقان 1/ 29 وقد لاحظ المستشرق بهل Buhl أن اسم الله "الرحمن" ليس له ذكر في السور المدنية, فهو من خصائص القسم المكي, وما أهون الرد عليه بسورة الرحمن عند من ذهب إلى مدنيتها، ولكن الجمهور على أنها مكية "الإتقان 1/ 20". وانظر Encycl, de i islam, II, 1137 b وأوضح من هذا في الرد عليه قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الآية 163 من سورة البقرة. وهي مدنية بلا خلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 2- أن كل سورة فيها لفظ "كلا" فهي مكية. ولم ترد إلا في النصف الأخير من القرآن1. 3- كل سورة فيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وليس فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهي مكية إلا سورة الحج ففي أواخرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 2 مع أن كثيرا من العلماء يرون أنها مكية. 4- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة فهي مكية سوى البقرة3. 5- كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة أيضًا4. 6- كل سورة تفتتح بحروف التهجي: {الم} و {الر} ونحو ذلك فهي مكية سوى الزهراوين وهما البقرة وآل عمران، وفي سورة الرعد خلاف، فبعضهم يرى أنها مدنية لا مكية5.   1 قال الديريني: وما نزلت "كلا" بيثرب فاعلمن ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى ويعلل العماني ذلك بقوله: "وحكمة ذلك أن نصفه الأخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة, فتكررت على وجه التهديد والتعنيف لهم، والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول. وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلهم وضعفهم". انظر الإتقان 1/ 29 وقارن بالبرهان 1/ 369. والعماني هو أبو الحسن علي بن سعيد العماني المقرئ، صاحب كتاب "المرشد" في الوقف عند تلاوة القرآن، وقد اختصره زكريا الأنصاري في كتاب سماه: "المقصد لتلخيص ما في المرشد" وطبع في القاهرة سنة 1934م. 2 سورة الحج 77 ويقابل هذا -بطبيعة الحال- أن كل سورة فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهي مدنية "انظر البرهان 1/ 189". ولكن الزركشي يعلق على هذا الضابط بقوله: "وهذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر، فإن سورة البقرة مدنية, وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} -الآية 21- وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} -الآية 168- وسورة النساء مدنية وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} - الآية 1- وفيها {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} - الآية 133- وسورة الحج مكية وفيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} -الآية 177- فإن أراد المفسرون أن الغالب ذلك فهو صحيح", البرهان 1/ 190. ونحن لا نرى داعيا لأن تكون هذه الأمارات غالبة فقط، فهي -إذا حفظ استثني منها جانبا وهو لا يزيد عما ذكره الزركشي- أمارات قطعية لا تتخلف. 3 الإتقان 1/ 29. 4 البرهان 1/ 189. 5 البرهان 1/ 188. والأرجح أنها مكية فكرة وأسلوبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وهذه الخصائص الست -إذا حفظ ما استثني منها جانبا- أمارات قطعية لا تتخلف. وهناك أمارات غالبة رجح امتياز القسم المكي بها. فمما يكثر في السور المكية ويشيع: 1- قصر الآيات والصور وإيجازها وحرارة تعبيرها وتجانسها الصوتي. 2- الدعوة إلى أصول الإيمان بالله واليوم الآخر، وتصوير الجنة والنار. 3- الدعوة إلى التمسك بالأخلاق الكريمة والاستقامة على الخير. 4- مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم. 5- كثرة القسم جريا على أساليب العرب1. وأما السور المدنية فمن خصائصها القطعية: 1- أن كل سورة فيها إذن بالجهاد أو ذكر له وبيان لأحكامه فهي مدنية. 2- أن كل سورة فيها تفاصيل لأحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين المدنية والاجتماعية والدولية فهي مدنية2. 3- أن كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ما عدا سورة العنكبوت فإنها مكية3، إلا أن الآيات الإحدى عشرة الأولى منها مدنية، وفيها ذكر المنافقين. 4- مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى الغلو في دينهم4. ومن الأمارات الغالبة5 التي يرجح امتياز القسم المدني بها:   1 ولبروكلمان Brockelmann في دائرة المعارف الإسلامية آراء طريفة حول هذه الأمارات الغالبة أكثرها صحيح من ناحية الدراسة الأسلوبية. انظر: Encyclopedie de l'Islam, art Arabie, 411 a. 2 الإتقان 1/ 29. 3 البرهان 1/ 188. 4 كما في سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والتوبة. 5 وآراء بلاشير -في هذا الموضوع- لا تخلو من طرافة لولا أنه يرمي من ورائها إلى غاية لا تتفق وروح الدعوة الإسلامية. انظر: "Blacherel, coran, traduction, 2e vol, 722-28" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 1- طول أكثر سوره وبعض آياته وإطنابها وأسلوبها التشريعي الهادي. 2- تفصيل البراهين والأدلة على الحقائق الدينية. وهذه الخصائص الموضوعية والأسلوبية، سواء أكانت قطعية أم أغلبية، تصور الخطى الحكيمة المتدرجة التي كان يخطوها الإسلام في تشريعه: فخطاب أهل المدينة لا يمكن أن يكون مماثلا لخطاب أهل مكة، لأن البيئة الجديدة في المدينة أصبحت تستدعي التفصيل في التشريع، وفي بناء المجتمع الجديد. فكان لا بد أن يطنب القرآن بعد الإيجاز، ويفصل بعد الإجمال، ويراعي حال المخاطبين في كل آياته وسوره. كان في مكة قوم طغاة معاندون، يضطهدون رسول الله والمؤمنين، فناسب أن ينزل على الرسول في مكة مثل قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} 2، وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} 3. وهكذا كثر في مكة نزول الآيات التي تقرع المشركين، وتشتد في تسفيه أحلامهم, وتسلي الرسول والمؤمنين وتعلمهم السماحة والصفح الجميل. أما المدينة فكان فيها بعد الهجرة ثلاثة أصناف من الناس: المؤمنون من مهاجرين وأنصار، ثم المنافقون, ثم اليهود. أما اليهود فجادلهم القرآن ودعاهم إلى كلمة سواء، وأما المنافقون ففضحهم وكشف مساوئهم، وأما المؤمنون فشجعهم -من ناحية- على المضي في الصراط المستقيم، وشرع لهم -من ناحية ثانية- ما يتعلق بالسلم والحرب، وبحياة الفرد والمجموع، وبالسياسة والاقتصاد. هذه الزكاة مثلا لا معنى لفرضها في مكة والقوم فقراء مضطهدون. وتلك صلاة الخوف التي لا تكون إلا في الحرب لا يمكن أن تشرع في مكة، لأن المؤمنين لم يؤذن لهم بالقتال إلا   1 سورة الأنعام 33. 2 سورة الأنعام 34. 3 سورة الحجر 14-15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 في المدينة، وقد خلت السورة المكية خلوا تاما من ذكر الجهاد وكل ما يتعلق بالحرب. ولو أخذنا برأي أبي القاسم النيسابوري الذي التزم المنهج التاريخي الزمني في ترتيب المكي والمدني لكان علينا -تطبيقا له وتأثرا به- أن نقسم كلا من السور المكية والسور المدنية إلى ثلاث مراحل: ابتدائية، ومتوسطة، وختامية، ولا نتجشم كبير عناء في تعيين هاتيك المراحل إذا عولنا على أصح الأسانيد وأخذنا بمقاييس النقاد المحدثين. وترددنا في القسم المدني سوف يكون يسيرا بل لا يكاد يكون شيئا مذكورا، إذ انتشر في المدينة الإسلام، وحفظ القرآن, وكثر القراء الكاتبون، وتيسرت وسائل النسخ والنقل والرواية والتفقه في الدين. أما القسم المكي فقد كان منطق الأحداث نفسه يقتضي وقوع التردد في تصوير مراحله، ولا سميا في أوائله، لأن الإسلام بدأ بمكة غريبا، ولم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في أعوام الوحي الأولى إلا نفر قليل، فلم يتيسر لغير السابقين الأولين منهم تقصي أطوار التنزيل، وتحري أوائلها على وجه التحديد. بيد أننا إن ندع جانبا ما اختلف العلماء المحققون في ترتيبه الزمني وعجزوا فيه عن تعيين السابق والمسبوق، لا يتعذر علينا أن نضع أيدنا على زمر متشابهة، وفصائل متماثلة، تبرز فيها ملامح صريحة نجزم معها بأنها مرحلة أولى أو متوسطة أو نهائية في مكة أو في المدينة. فمن السور التي اتفق المؤرخون والمفسرون على أنها من أوائل الوحي، أو أنها بعبارتنا الحديثة من المرحلة المكية الأولى: العلق، والمدثر، والتكوير، والأعلى، والليل، والشرح، والعاديات، والتكاثر، والنجم. ومن المرحلة المتوسطة في مكة: عبس، والتين، والقارعة، والقيامة، والمرسلات، والبلد، والحجر. ومن المرحلة الختامية في مكة: الصافات، والزخرف، والدخان، والذاريات، والكهف، وإبراهيم، والسجدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وهذه الزمر الثلاث -وإن بدت سمات المكي واضحة عليها- تتفاوت تفاوتا يسيرا فكرة وأسلوبا حتى لتبدو كل زمرة منها، بل كل سورة منها، وحدة فكرية إيقاعية قائمة بذاتها. وما سنلمحه في تحليلنا الخاطف لها لا يعدو الإيماء إلى أبرز ما يتمثل في ألفاظها وفواصلها والعقائد التي انطوت عليها آياتها المعجزات. ففي سورة العلق -التي رأينا في فصل ظاهرة الوحي أنها أول ما نزل من القرآن1- تصوير حي لأضخم حدث في تاريخ البشر شهدت به الإنسانية نفسها تولد ميلادا جديدًا يصلها بالسماء وأسرارها ولا يلصقها بالأرض وأوحالها، فيوجه المقطع الأول من هذه السورة محمد رسول الله إلى الاتصال بالملأ الأعلى والقراءة باسم الله2، فمنه المنشأ وإليه المصير، وهو الذي كرم الإنسان بتعليمه أسرار الوجود، وتمكينه من استعمال "القلم" رمز العلم والتعليم، مع أنه خلقه من شيء مهين، "من علق" دم جامد عالق بالرحم في قرار مكين3. وفي مطلع سورة المدثر -وقد نزل كما رأينا بعد فترة الوحي4- ينادي الله نبيه إلى قيام لا نوم فيه، ونشاط لا يعرف الكسل، فليثب من فراشه وثبا، وليترك الدثار الدافئ فإن أمامه كفاحا طويلا ثقيلا: إن الخطر القريب يترصد الضالين الغافلين، فعلى رسول الهدى أن يوقظ الهجع الرقود، مكبرا ربه العظيم، مستصغرا كل كيد في هذا الوجود، مطهرا ثيابه أمارة على طهارة قصده، هاجرا كل شرك ودنس، محاربا بلا هوادة كل موجبات   1 راجع ذلك الفصل وقارن بصحيح البخاري 1/ 7 بدء الوحي. 2 يراد بالقراءة هنا تلاوة النبي ما نزل من الوحي بإلهام من الله، لا القراءة من شيء مكتوب لأن النبي كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. ولذلك قال لجبريل: "ما أنا بقارئ". ونتفق في هذا مع بهل في مقالته بدائرة المعارف الإسلامية. انظر Buhl, Encyclopedie de l'Islam, II, 1124 b 3 قارن بتفسير الطبري 30/ 161. 4 راجع فصل "ظاهرة الوحي". وقارن بصحيح البخاري 6/ 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 العذاب، باذلا أقصى ما يبلغه المجاهدون من التضحية دون من ولا استكثار1. وتعالج سورة "التكوير" ثلاث حقائق لا تنقطع صلتها بالعقيدة والإيمان: حقيقة الانقلاب الكوني يوم القيامة, وحقيقة الوحي الخالد والدعوة العالمية, وحقيقة الإرادة الإنسانية المرتبطة بمشيئة الله العليم الحكيم2. أما الانقلاب الكوني فيبدو في مطلع السورة هائلا مروعا، يشتمل الشمس التي بردت وانطفأت شعلتها، والنجوم التي انتثرت وانطمس ضياؤها، والجبال التي نسفت وذريت هباء في الهواء وسيرت كالسراب، ومرت مر السحاب، والنوق الحبالى في شهرها العاشر وقد أهملت من الفزع في كل مكان, مع أنها لدى العربي أجود النياق, والوحوش الشاردة في الشعاب وقد تجمعت من الهول وتلاصقت منها الجنوب، والبحار التي التهبت مياههن حتى تفجرت بالنيران، وفاضت بالحمم والمحرقات، والأرواح المتجانسة وقد انضم بعضها إلى بعض في زمر وأزواج، والأنثى التي وئدت في غلظة يطرح عليها وحدها سؤال، وتخص وحدها بالاستجواب: ما سر وأدها؟ وكيف يكون إنسانا من أقدم على وأدها وهي على قيد الحياة؟ ويشمل هذا الانقلاب الكوني أيضا نشر صحف الأعمال حتى لا تخفى يومئذ خافية، وإزاحة السقف المرفوع في القبة الزرقاء، وتسعير الجحيم وإذكاء حرها بوقودها من الناس والحجارة، وتقريب الجنة من السعداء حتى لتبدو كالعروس في زينتها تغري خطيبها بالدنو منها والالتصاق بها واستنشاق عبيرها، فيومئذ تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، وما أحضرت معها من زاد يخفف عنها شيئا من العذاب!. وتمهيدًا لذكر الحقيقة الثانية المتعلقة بالوحي وطبيعته، ينتقل السياق إلى   1 قارن بتفسير الطبري 29/ 90. 2 انظر تفسير الرازي 8/ 337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قسم رشيق أنيق بمشاهد من الكون خلعت عليها الحياة، وقذفت فيها الروح: فبالكواكب التي تجري في السماء ثم تعود للتوارى في أفلاكها كأنها الظباء تعدو رشيقة ثم ترجع إلى كنسها فتختبئ فيها وتلتمس الراحة بعد العدو الشديد، وبالليل الذي لف الكون بسواده حتى بات لا يرى نفسه ولا يبصر دربه، فهو يتخبط في سراه تخبط الأعشى، ويجس بيده كل شيء في الظلام مجسة الأعمى، وبالصبح الذي ولد بعد ذهاب الليل, فأبصر النور وتحرك، وتفتح قلبه للحياة فخفق وتنفس, بهذه المشاهد الكونية الحية أقسم الله: أن لا دخل لمحمد في الوحي، فإنما يلقنه إياه -بأمر ذي العرش- ملك كريم، له من القوة ما يمكنه من حمل أمانة السماء إلى أهل الأرض, وله من المكانة ما يجعله مطاعا من الملائكة جميعا في الملأ الأعلى. وبهذه المشاهد الحية أيضا أقسم الله: إن محمدا أمين على الوحي، راجح العقل، وقد صاحبه أهل مكة أربعين عاما قبل البعثة فعرفوه وسموه الصادق الأمين، وها هو ذا الآن يخبرهم بأنه رأى ملك الوحي بعينيه في الأفق الواضح المبين الذي لا يزيغ عنده البصر ولا يطغى1، فكيف يظنون به الظنون؟ وكيف يزعمون أنه مجنون تتنزل عليه الشياطين؟   1 رغم هذه الدقة التامة في إبراز صفات ملك الوحي، وإيضاح التقاء النبي بهذا الملك التقاء لا ريب فيه، تطغى على بعض المستشرقين سطحية عجيبة في التفكير يثيرون بها شبهة حول سكوت القرآن في مكة عن ذكر اسم هذا الملك، ثم ذكره في المدينة مرتين باسمه الصريح "جبريل"، ملوحين بذلك إلى أثر يهود المدينة في التعريف بهذه الحقيقة الدينية, كأن العبرة بالأسماء لا بالمسميات، وكأن كل الأوصاف القرآنية المبكرة لملك الوحي في هذه الفترة المكية الأولى لم تشف غليلهم، أو كأنها تباين الأوصاف التي خلعت في الكتاب المقدس على ملك الوحي ولو أنصفوا لقدموا المسميات على الأسماء، والحقائق على الأشكال، واعترفوا بأن هذه الصفات الواضحة الصريحة لا تصدق إلا على جبريل، ولم يرتابوا في أن سر هذه الصفات أبلغ بيانا من تحديد الذات، وأدعى إلى تعريف الأميين بشيء من حقائق الوحي بالتدريج، أما يهود المدينة فلم يفاجأوا باسم جبريل في السورتين المدنيتين؛ لأن هذه الحقائق كلها معروفة لديهم، فلم يزد القرآن على أن صدقها وأقرها لأن ما ثبت لديهم منها فالقرآن لا يكذبه بل يهيمن عليه، ويصدقه بين يديه، وقارن بمقالة لودز Lods, Recherches sur le Prophetisme israelite, dans la Revue de l'Histiore des Religions, Publiee a paris 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وفي هذا المقطع نفسه يذكر الله أهل مكة بأن هذا الوحي لم يوجه إليهم وحدهم، وما كان ليوجه إليهم وحدهم، بل هو دعوة عالمية1 لا بد أن تنتصر مهما يقاوموها الآن ويطاردوا المؤمنين بها. وباب هذه الدعوة مفتوح على مصراعيه لكل من أراد أن يستقيم على الحق والهدى. أما الحقيقة الثالثة فقد ختمت بها سورة "التكوير" بآية واحدة حاسمة جازمة قررت بأن الإرادة الحقيقية الفاعلة هي إرادة الله، فما لأحد إرادة منفصلة عن إرادة العليم الخبير، بل هو الذي قدر فهدى، وألهم الإنسان إرادة بها يختار لولاها لما شرف بالتكليف. وفي سورة "الأعلى"2 تمجيد لاسم الخالق الذي أتقن كل شيء، ورسم له طريقه، وهداه إلى غاية وجوده, وعرض لبعض آثاره في خلقه حين قدر لكل دابة في الأرض رزقها من مرعى أخضر، أو غثاء ذاو ضارب إلى السواد، وكفالة ربانية بتحفيظ النبي القرآن ونقشه في لوح قلبه من غير أن يبذل شيئا من الجهد في حفظه, ومن غير أن يحتمل نسيان حرف واحد منه لأن الحفظ كالنسيان أمران متعلقان بالمشيئة الإلهية الطليقة من كل قيد، لا بالإنسان الذي يظل -مهما يسم- عرضة للسهو والنسيان، وبشري للنبي والمؤمنين بتيسيرهم لحمل هذه الدعوة اليسرى، والنهوض بأماناتها الكبرى، وتصوير لاختلاف وجهات الناس إزاء هذه الدعوة المباركة: فمنهم الذي يؤمن   1 لقد صرحت الآية في تلك الفترة المبكرة، من أول مرحلة في مكة، بأن هذه الدعوة الإسلامية عامة عالمية: فلا مجال لتفسير قوله تعالى هنا: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} بغير الذي ذكرناه من عالمية هذه الدعوة، ولا مجال أيضا للظن بأن ليهود المدينة أثرا في مثل هذه القضية، لأن العلماء جميعا متفقون على أن هذه السورة كلها مكية، بل من سور المرحلة الأولى في مكة قطعا. والمستشرقون أنفسهم لم يجدوا هنا فرصة للغمز كعادتهم، فقد رتبوا هذه السورة جميعا في أولى المراحل المكية، إلا أن بعضهم تساءل: هل يمكن أن تفيد لفظة "العالمين" هنا معنى العموم المحلي لا معنى العالمية؟ وهل تساوي مثلا لفظة "monde" في اللغة الفرنسية؟ واعترفوا رغم تساؤلهم بأن هذه الآية ذات شأن عظيم في توضيح سعة الآفاق الإسلامية. انظر: Blachere, Trad., II., 39. 2 انظر تفسيرها في البيضاوي 11/ 398 والنسفي 4/ 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 بالله، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، ومنهم الذي شقي في الدنيا بنفسه المظلمة الكنود، وفي الآخرة بعذابها الأليم الشديد: فلن يموت في جهنم فيستريح ولن يحيا في راحة واطمئنان، وموعظة لكل ذي فطرة سليمة تؤكد أن الفلاح للزكاة والطهر، والخسران للرجس والدنس، وتنذر بفناء الدنيا العاجلة وبقاء الآخرة الخالدة، وفي ختام هذه السورة تذكير بوحدة الدين، فإن الذي ينزله الرب الخالق الأعلى على قلب محمد قد أنزل مثله من قبل على شيخ الأنبياء إبراهيم وعلى كليم الله موسى: فهي عقيدة واحدة، وتعاليم واحدة، ليس لها إلا مصدر واحد هو الله رب العالمين1. وفي سورة "الليل"2 يقسم الله بتقلب الليل والنهار، وخلق الذكر والأنثى، على أن طرائق الناس في الحياة مختلفة، فلا بد أن تكون مصائرهم مختلفة أيضا: فكما تقابل صورة النهار السافر صورة الليل الغامر، وتعاكس طبيعة الأنثى اللطيفة طبيعة الذكر الخشنة، ينافر سعي المتقين عمل المجرمين, ويضاد ثواب السعداء عقاب الأشقياء. ولن يسكب الله الرضوان إلا في قلب من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى. وفي سورة "الشرح" مناجاة رقيقة حلوة يضع الله فيها عن نبيه ضائقة حلت به وثقلت على ظهره حتى كادت تحطمه، ويبشره بانفراج كربه، وانشراح صدره، وتيسير أمره, ورفع مكانته في الأرض وفي السماء، وقرن اسمه باسمه في الصباح وفي المساء، ويدعوه إلى التفرغ لعبادته كلما تجرد عن الناس وعن شواغل الحياة في طريق الدعوة الطويل3.   1يلاحظ هنا -من وحي السياق نفسه- أن الدعوة الإسلامية أنبأت عن نفسها منذ أوائل المرحلة المكية بأنها عالمية، وأن أصولها واحدة كأصول الأديان السماوية، وقد أشار إلى هذا في سياقنا نفسه ذكر صحف إبراهيم وموسى، فلم ينتظر القرآن هجرة النبي إلى المدينة والتقاءه بيهودها ليتحدث عن صحف نبيهم موسى، بل عرض لموسى كما عرض لإبراهيم في مكة نفسها تأكيدا لعالمية الدعوة ووحدة أصلها. وانظر Horovits, Koronische Untersuchengen, 68 sq. 2 انظر تفسيرها في "الطبري 30/ 138". 3 قارن بتفسير الرازي 8/ 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وفي سورة "العاديات"1 يقسم الله بخيل الغارة التي تعدو في ساحة المعركة ضابحة صاخبة لاهثة الأنفاس، وتصك الصخر بحوافرها صكا يقدح النار ويوري الشرر، وتقتحم أرض العدو بغارة صباحية مفاجئة تثير بها الغبار, وتتوسط الجموع وتجوس خلال الديار، ثم تملأ الصفوف ذعرًا وتلجئهم إلى الفرار2 ... يقسم الله بهذه الخيل العاديات الصاخبات الثائرات على أن الإنسان جاحد نعمة ربه يقيم من نفسه شاهدا على جحوده، ولا يحمله على هذا الكفر إلا ما فطر عليه من حب المال والخير ومتاع الحياة، فليطلق الإنسان نفسه من أغلالها، وليطف بخياله مشهد مصيره المحتوم ومصائر إخوانه البشر أجمعين حين يبعثون من مراقدهم، فتبعثر قبورهم، وتحصل أسرار صدورهم ويخبرهم ربهم بكنودهم وجحودهم، ويجزون سؤء العذاب على ما قدمت أيديهم. وفي سورة "التكاثر" إنذار رهيب للغافلين اللاهين الذين يتكاثرون بالأموال والبنين، حتى ينتهوا إلى زيارة المقابر الضيقة, فلا يجدوا في حفرها المظلمة فرصة للتنافس. إن الهول الأكبر سيحيق بهم فيستيقظون على حقيقته الرهيبة بعد أن طالت سكراتهم، ويرون الجحيم وعذابها بأم أعينهم، ويستصغرون -وهم يعاينون العذاب المقيم- كل ما أصابوه من ألوان النعيم3. وفي سورة "النجم"4 تصوير دقيق لحقيقة الوحي وطريقة تلقيه،   1 راجع تفسيرها في "الكشاف 4/ 328". 2 هذه الصورة الواضحة التي لا تصدق إلا على الخيل العادية الصاخبة المغيرة جملة وتفصيلا ظلت في نفوس بعض المستشرقين غامضة، فلم ينتبهوا -وأنى لهم الذوق لينتبهوا! - إلى ما رود في الآيات من أصوات صاخبة، وحوافر قادحة, ونقع مثار، وجمع منهزم يولي الأدبار؛ وإذا هم يأخذون -كعادتهم- بأضعف الآراء، فيجعلون العاديات ضبحا الإبل التي يفيض عليها الحجاج من عرفة إلى المزدلفة، أو من المزدلفة إلى منى، ويستأنسون على ذلك بمن أقسم من الشعراء "بالراقصات إلى منى". انظر: Gaudefroy -Domombynes, Pelerinage, 256. 3 راجع تفسير سورة "التكاثر" في الكشاف 4/ 230. 4 راجع تفسير الرازي 7/ 695 والنسفي 3/ 82 والطبري 27/ 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وحقيقة ملك الوحي وأسلوب نزوله، وتهكم بعباد الأوثان وسخرية بأصنامهم وتصحيح لعقائد العرب في الملائكة, وإيماءة إلى حكمة الله من خلق الكون, والتفاتة إلى اتفاق الرسالات جميعا على أصول العقائد, وقواعد المسئولية والجزاء، وإنذار للعابثين الضاحكين بقرب مصرعهم كما لقي مصرعه من قبل كل جبار عنيد. أقسم الله بالنجم حين يهوي عبد تلألئه, ويتدلى بعد أن كان في كبد السماء قصيا، على أن محمدا مبلغ عن ربه، مهتد لم يضل, رشيد لم يعرف طريق الغواية, بل صاحبه قومه المخاطبون بهذا الوحي عمرا من قبله فما عرفوا عليه من سوء ولا جربوا عليه كذبا، فالوحي الذي ينزل عليه لا مراء فيه، والملك الذي يحمله إليه شديد القوى عظيم الخلق، يسد الأفق بمنظره المهيب1، وقد تيسر لهذا النبي الأمي أن يلتقي به، ويراه على صورته الحقيقية مرتين: إحداهما في بدء الوحي حين التصق به وقرأ عليه القرآن, وكانت رؤية يقينية قريبة استوثق منها القلب والبصر، والأخرى ليلة الإسراء والمعراج حين رحل معه رحلة واقعية رأى خلالها آيات ربه الكبرى وبلغ سدرة المنتهى2 التي ينتهي إليها المطاف، وينتهي إليها علم الأولين والآخرين، فإذا هي أقرب درجة إلى الفردوس جنة المتقين التي تأوي إليها أرواح الصديقين والملائكة   1 وهنا كذلك ذكر جبريل بأبرز صفاته ولم يذكر باسمه الصريح، فأغنى مسماه عن اسمه، وعوضت صورة خلقه كنه ذاته، فكان في ذلك -كما رأينا في سورة "التكوير"- تدرج في إعلام المشركين بشيء من حقائق الغيب، وتهويل في وصف ظاهرة من ظواهره المعجزة الفريدة. 2 إن عجبك لن ينقضي إذا علمت أن الأمير كايتاني يأبى أن يرى في هذه السورة ما يراه المفسرون المسلمون من المعنى الرمزي الديني، ويصر -من غير برهان- على أنها موضع قريب من مكة يدعى "سدرة المنتهى". وانظر Caetani, Annali dell' Islam, 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 والمقربين1. فمن ذا الذي يماري محمدا فيما رآه، وما طغى بصره ولا زاغت عيناه؟ ولئن كان الوحي حقيقة مشهودة مرئية فإن عبادة العرب للات والعزى ومناة وسائر أصنامهم الأخرى أوهام وأساطير, وحين زعموا أن هذه الأصنام ملائكة وأن الملائكة بنات الله، لم يركنوا إلا للظن والهوى، ولم يعرفوا سوى الجور في القسمة, فإنهم يكرهون البنات، وقد نسبوا إلى الله ما يكرهون, وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثًا!. ولكن هذه الأسماء التي يخلعونها على أصنامهم تارة، وعلى الملائكة تارة أخرى، ليس وراءها مدلول، ولا يؤيدها منطق ولا سلطان, فما أجدر النبي أن يعرض عن أولئك الجاهلين ويهمل شأنهم موجها وجهه للذي فطر السموات والأرض ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وإن مفهوم المسئولية والجزاء لقديم راسخ الجذور منذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكلهم متفقون على أصول العقائد، وكلهم يدعون الناس إلى تحمل تبعاتهم بأنفسهم, ثم إلى الله منتهى كل شيء، ومرجع كل نفس لتدافع عن نفسها، ولقد نطقت بهذا كله صحف إبراهيم وموسى، مثلما نطقت بقدرة الله على الجمع بين النقيضين في نشأة الإنسان وحياته وموته وبعثه ونشوره، فقد خلق الله في الإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء, وقد جهزه للموت بعد أن أعده للحياة، وجعل في الإفراز المنوي المراق خصائص الذكر أو خصائص الأنثى, أفليست النشأة الأخرى أهون عليه من النشأة الأولى؟   1 إن لك هنا أيضا أن تأخذك الدهشة إذا علمت أن "جنة المأوى" أصبحت في نظر شبرنجر ومولر دارة أو "فيلا" تحيط بها حديقة غناء في ضواحي مكة!!. انظر Sprenger, Das Leben und die lehre des Mohammad 307 Muller, der Islam I, 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ليعرف المشركون إذن حدود قدرتهم، وليزدجروا عن غيهم، وليذكروا كيف أباد الله المكذبين الجاحدين وأنزل بهم الخسف والدمار، وليعلموا أن الخطر داهم، وأن مصرعهم قريب، وليسجدوا لله قبل أن يقذف بالحق على باطلهم، فتزهق أرواحهم وهم كافرون. إن هذا لقليل من كثير مما انطوت عليه السور المكية في مرحلتها الأولى، أبينا أن نستخلص ما فيه من أفكار وعقائد وتعاليم إلا مما ثبت لدينا -بعد أن ثبت للعلماء المحققين- أنه حقا من أوائل الوحي. وتحليلنا لتلك لنوازل الأولى -وإن جاء خاطفا- كاف لإلقاء الضوء على الموضوعات المعروضة، والمشاهد المصورة، وكاف أيضا لتمييز هذه الزمرة القرآنية بخصائصها الأسلوبية عن الزمرتين المكيتين التاليتين، وعن الزمر المدنيات الثلاث ابتداء ووسطًا وختامًا. وكان يسيرًا علينا أن نلاحظ -في سور هذه المرحلة الأولى كلها- أن الحديث عن الوحي والدين، ووصف قدرة الله وآثار رحمته، وتقرير النشأة الأخرى قياسا على النشأة الأولى، وتصوير مشاهد القيامة، وإنذار المشركين بمثل العذاب الدنيوي الذي أصاب المكذبين من قبل، وتأكيد فكرة المسئولية والثواب والعقاب، وتسلية النبي على ما يلقاه من اضطهاد قومه له بوصف ما لقيه إخوانه الرسل من قبل، والتصريح بوحدة الدين في أصول عقائده والتلويح بعالمية الدعوة المباركة وشمولها البشر جميعا، كادت تؤلف الموضوعات البارزة وإن عرضت بأساليب مختلفة، وإيقاعات موسيقية متباينة. وإنه ليسير علينا كذلك -لو عدنا إلى هاتيك السور نفسها فقرأناها، واحدة واحدة- أن ندرك أن آياتها جميعا قصار، وأنها شديدة الإيجاز، وأن القسم فيها بمشاهد الكون كثير، وأن صيغ الإنشاء فيها من أمر ونهي واستفهام وتمن ورجاء تتخلل مقاطعها وتزيدها حرارة، وأن ألفظاها رشيقة منتقاة يسري التنقيم في أحرفها المهموسة تارة، المجهورة تارة أخرى, وأن فواصلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الموزونة المقفاة -بإيقاعها العجيب- تنساب أحيانا وتتموج، وتلهث أحيانا وتتهدج، وتقصف أحيانا وتدمر، وتصرخ أحيانا وتزمجر، وأن تجسيم المعنويات، وتشخيص الجوامد، وخلع الحركة والحياة والحوار على الأشياء الصامتة، قد أحالت مشاهدها لوحات فنية غنية بالأصباغ الحية. وحين ننتقل إلى ما اخترنا تحليله مما صح لدينا أنه من المرحلة المكية المتوسطة, سنجد في زمرته كلها نظائر هذه الخصائص الموضوعية والأسلوبية، ففي كل سورة مثل تلك الأفكار والتعاليم، وفي كل سورة مثل تلك الصور والظلال، وفي كل سورة مثل تلك الأنغام والألحان، بيد أن زيادة بعض العقائد، أو إضافة بعض الحقائق، توشك أن تجعل من كل سورة على حدة -وليس من كل زمرة وحسب- منظومة علوية تملأ القلوب والآذان. هذه مثلا سورة "عبس" -من المرحلة المكية المتوسطة, ومن أوائلها على وجه اليقين- تعالج حادثة من حوادث السيرة بتوجيه القلوب إلى حقيقة القيم, وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الفزع الأكبر يوم القيامة. وتعالج السورة هذه الحقائق الضخمة بإيحاءات شديدة التأثير، ولمسات عميقة النفاذ، وصور وارفة الظلال، وفواصل قوية الإيقاع. عبس النبي وأعرض عن ابن أم مكتوم، المؤمن الأعمى الفقير، وقد جاء يسأله أن يعلمه مما علمه الله. فليعقب القرآن على هذا الحادث الفردي، وليعتب على النبي عتابا شديدًا1، وليدعه إلى استبدال قيم السماء بقيم الأرض، وموازين الشريعة العادلة بمواضعات البشر الجائرة، وليجعل الله هذا الحادث درسا بليغا وتذكرة لا تنسى للنبي وللمؤمنين {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} 2.   1 ارجع إلى فصل "ظاهرة الوحي" من هذا الكتاب. 2 قارن بقول الزمخشري في "الكشاف 4/ 185": " {كَلَّا} ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي: موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي: كان حافظا له غير الناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ما كان للنبي أن يعرض عن هذا الأعمى ويعبس ويتولى، فإن هذا الاعمى لأكرم عند الله بتقاه من أصحاب النسب والقوة لجاه، وإن كل قيم الحياة لا يقام لها وزن متى تجردت من الإيمان وتعرت من التقوى. تلك هي حقيقة القيم، أما حقيقة الحياة فقصة ذات مراحل وفصول. تتراءى في فصولها كلها يد حانية لطيفة تدبر للأحياء، في عالم الإنسان والحيوان, طعامهم الذي يقيم أودهم، ويحفظ صحتهم، فتصب عليهم ماء السحاب صبا، وتسلك هذا الماء ينابيع في الأرض، ثم تتركه يتخلل التربة الخصبة وينفذ فيها ويشقها شقا ليعين النبات على النماء والانبثاق من التراب، والامتداد في الهواء، وإذا بالنبات يستحيل حبًّا يقضم، وعنبا يعصر، أو فاكهة تؤكل غضة طرية، أو زيتونا ينبت بالدهن، أو نخلا باسقات, وإذا بالحدائق التي ينبت فيها هذا النبات ملتفة الأشجار، متشابكة الأغصان، فيها من الثمار ما يتفكه به الإنسان، ومن المراعي ما يسد حاجة الحيوان. وكان ينبغي للإنسان أن يدرك حقيقة الحياة, وحقيقة القيم، لأنه الحي المجهز بكل أسباب الحياة، ولكنه ظلوم جهول، وجحود كفور، فقد نسي أصل نشأته من نطفة من ماء مهين، وتجاهل تكريم الله إياه بتيسير صعابه في درب الحياة، وإيداعه جوف الأرض بعد الممات، فقصر في أداء حق الله وقضاء واجبه نحو الله، واسترسل في جحوده كأنه متروك سدى بلا حساب ولا عقاب. فما أعجب حقيقة الإنسان, وما أعجب كفر الإنسان!. ولكن حقيقة مذهلة كبرى تنتظر الإنسان يوم الهلع والفزع الأكبر، يوم تقوم الساعة فتصخ الآذان صخا ملحاحا, فما يسمع الإنسان غير أصواتها النافذة العنيفة، ويذهل بكربها عن أقرب الناس إليه، ولا يفكر إلا بنفسه ومصيره، وللناس يومئذ صنفان من الوجوه: إما وجوه السعداء بتهللها ونورها وبشراها، وإما وجوه الأشقياء بانقباضها وسوادها وحزنها، فطوبى للمؤمنين وساءت مصائر الكفرة الفجرة1.   1 راجع تفسير هذه السورة في الطبري 30/ 32 وقارن بالزمخشري 4/ 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ويريد القرآن أن يعرض حقيقة الفطرة الإنسانية وهي قويمة سليمة، وحقيقتها حين تنحرف عن الصراط المستقيم، فيجعل سورة "التين" معرضا لهذا، وفي إطار من القسم ببعض الثمار المباركة والأماكن المقدسة1 يكرم الله الإنسان, ويمتنُّ عليه بتكوينه الفطري المقوم، وتصويره الجسمي المعدل, والارتقاء به جسدا وروحا إلى المقام الأسنى، ثم يلوح باستعداده للهبوط النفسي، والانحلال الخلقي، والانحدار إلى أسفل سافلين إلا إذا أضاءت له الفطرة مسالك الحياة، فبصرته بحقيقة الإيمان، ورغبته بصالح الأعمال، وانتهت به إلى الكمال، وأورثته جنات النعيم، فهل للإنسان بعد إدراك الحقيقة أن يطمس نور الفطرة، فيكذب بدين الله، ويتجاهل حكمة الله، وينساق مع غيه وهواه2؟ وفي آيات مدوية رهيبة تقذف الرعب في القلوب يصور القرآن مشهدا سريعا من مشاهد القيامة يقفيه بمشهد الجزاء والحساب. وذلك في سورة "القارعة" التي تقرع بهولها كل شيء، حتى ليغدو الناس في غمراتها حيارى خفافا صغارًا كالفراش المتهافت لا يعرف لم يطير ولا أين المصير، وتمسي الجبال الرواسي هباء تذروه الرياح كالصوف المتطاير المنفوش، فليتوقع الإنسان في ذلك الهول المرهوب عيشة راضية إن أحسن عملا, أو نارا حامية وهلاكا أبديا إن أساء وكان شقيا.   1 الثمار المباركة إشارة إلى التين والزيتون، ولا سيما إذا كان المراد بهما منابتهما التي ترمز إلى جبل التين بجوار دمشق وجبل الزيتون في بيت المقدس، والأماكن المقدسة إشارة إلى طور سيناء ومكة البلد الأمين, والخلاف في التين والزيتون مشهور، بيد أنه يسعنا فيهما ما وسع إمام المفسرين الطبري إذ قال: "والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت، لأن ذلك هو المعروف عند العرب. ولا يعرف جبل يسمى تينا ولا جبل يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون" تفسير الطبري 30/ 154. 2 راجع في تفسير هذه السورة الدر المنثور للسيوطي 4/ 365 والرازي 8/ 431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وإن تتطاير الجبال الثقال يوم القارعة تطاير الصوف والهباء، فما أحوج الإنسان إلى الموازين الثقال تعوض خفته لئلا يتهافت كالفراش1. وفي سورة "القيامة" يرسم القرآن الانقلاب الكوني الشامل الهائل في ومضات سريعة تأكيدا للبعث وردًا على منكريه، ويطمئن النبي إلى نقش الوحي في صدره فلا تدركنه العجلة التي أدركت البشر في حب الحياة الفانية، ويحدد بإيجاز شديد مصير السعداء ومصير الأشقياء، ويصور مشهد الاحتضار الذي كتب على كل حي, ويذكر الإنسان بنشأته الأولى ليقيس عليها نشأته الآخرة. وتوطئة لتصوير الانقلاب الكوني يلوح الله بالقسم بيوم القيامة وبالنفس التقية اللوامة على أن البعث واقع والساعة آتية لا ريب فيها، وإذا كان الإنسان يستبعد جمع العظام وهي رميم فإن الله يقدر على ما هو أدق وأجل: إذ يسوي له أطراف أصابعه ويعيد تركيبها في مواضعها على اختلاف "بصماتها" وأشكالها، فعلام الفجور؟ ولم يستبعد الإنسان البعث والنشور؟ وتأكيد البعث بهذا الأسلوب القوي الذي يواجه القلب الغافل ويحاصره كان أصلح تمهيد بين يدي الانقلاب الكوني يوم يقوم الناس لرب العالمين: فما أسرع الانقلاب في كل شيء يوم القيامة! إن الإنسان الفزع القلق ليرى الكون كله مختل النظام ببصره الحائر الزائغ المتقلب، فما للقمر نور بعد أن طمس، ولا للشمس مشرق بعد أن اقترنت بالقمر، ولا للإنسان ملجأ يقيه الهول الشديد بعد أن سيق إلى الله ليحاسب على ما قدمت يداه! والإنسان لم يستبعد البعث والنشور والحساب إلإ اتباعا للهوى، واحتفالا بالشهوات، واستعجالا لملذات الحياة، ولكن الحياة مهما تطل إلى زوال، فلا   1 قارن بقول الزمخشري في "الكشاف 4/ 23": "وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه، لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا السيئات أن يخف! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 داعي الاستعجال، حتى رسول الله الأمين تعتريه أحيانا سمة من سمات الإنسان العجول, فيحرك لسانه بالوحي عجلان، مخافة أن يفوته حفظ شيء من القرآن, فليستعل بنبوته على الطبيعة الإنسانية العجلى، وليثق بأن منزل الوحي على قلبه قد تكفل بحفظه وصيانته، وجمعه وبيانه1. وما أسعد الذي فضل حب الله على حب هذه الدنيا العاجلة! إنه مطمئن إلى الله، متطلع إلى رضوان الله, مستشرف إلى النعيم الروحي الأسمى الذي يتمثل في نضرة وجهه حين ينظر إلى جمال الله! أما الذين استحب العاجلة على الآجلة، وآثر اتباع الهوى على طاعة الله, فما أنكى مصيره وما أشقاه! إنه محروم من نور البصيرة المشرق، يترقب بوجهه الكالح العباس كارثة تقصم ظهره، وتحطم فقاره، وتنذره بالعذاب الأليم2. ولو رجع منكرو البعث مرة واحدة إلى مشهد الاحتضار الذي يتكرر كل يوم تحت أبصارهم، وتذكروا كيف يفارق الأحياء أحبتهم، ويرحلون إلى عالم مجهول, لأيقنوا بأن الله القهار الذي أمات الحي قادر على أن يحيي الميت. فإنهم يعرفون أن الرقى والتعاويذ لا تغني عن المحتضر شيئا متى بلغت روحه الحلقوم، وتلوي من سكرات الموت في كرب شديد. فمن كان مشهد الاحتضار لا يرعبه, وانتزاع الأحبة لا يقلقه، فليذهب في درب الحياة فخورا، وليمط ظهره متعاجبا مزهوا، وليعرض عن الحق أيما إعراض. إن الويل لينتظره، وإن غضب الله قد حل بساحته!. وما كان على منكري البعث إلا أن يلتفتوا إلى نشأتهم الأولى ليقيسوا عليها   1 ربطنا هنا، وفي فصل علم أسباب النزول، بين قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} رد قاصم حاسم لكل من توهم الانقطاع في ثنايا هذه السورة، فما يحتاج القارئ الفطن - لإدراك وجه التناسب بين المقطعين- إلا لحس مرهف لطيف يتذوق أساليب العرب في اتساق النظم وارتباط السياق. فأنى لعجمة الأب لامنس أن ترقى إلى فهم هذا البيان الرفيع!. انظر: Lammens, fatima, 113. 2 راجع هنا تفسر الرازي 8/ 259 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بمنطق الفطرة نشأتهم الآخرة، ألم يكن الإنسان ماء رقيقا مهينا؟ ألم يتحول هذا الماء دما متجمدا عالقا بجدران الرحم؟ أولم يتطور في هذا القرار المكين حتى أضحى جنينا به خصائص الذكر أو خصائص الأنثى؟ فهل يعجز عن إحيائه من خلقه من العدم؟ وهل يتركه خالقه الحكيم سدى؟ ألا تنطق الفطرة السليمة بوجوب البعث والنشور، وثواب المتقين وعقاب الفاجرين؟ 1. وفي سورة "المرسلات" نمط خاص فريد في تصوير أجمل مشاهد الدنيا وأعنف مشاهد الآخرة، وأصدق حقائق الكون وأعمق أغوار النفس، في مقاطع شافية الفواصل، متعددة الأنغام، مصحوبة بقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} يتكرر فيها عشر مرات كأنه لازمة الإيقاع، وتجيء هذه المقاطع، بسماتها الحادة العنيفة، متناسقة كل التناسق مع مطلع السورة الرهيب الذي أقسم الله فيه بالملائكة المرسلات على أن وعده بالآخرة واقع لا ريب فيه. وفي القسم بالمرسلات غموض ملحوظ يتناسق مع عالم الغيب المقسم عليه، فكل ما فيه مغيب مجهول، وقد اخترنا أنهن الملائكة مخافة الخوض -في هذه العجالة- في الخلاف الطويل المشهور, فقد أقسم الله -وهو بقسمه أعلم- بالملائكة اللاتي يرسلهن متتابعات، فيعصفن عصف الرياح وهن بأمره ماضيات، فينشرن في الأرض شرائعه, ويفرقن بإذنه بين الحق والباطل بما يلقين إلى أنبيائه من وحي فيه إعذار إلى الخلق وإنذار2!.   1 راجع في تفسير سورة القيامة الطبري 29/ 108 وقارن بالكشاف 4/ 163 والنسفي 4/ 235. 2 قارن في تفسير هذا المطلع القسمي بين الطبري 29/ 140 والرازي 8/ 288 والزمخشري 4/ 173. وما اخترناه أقرب إلى رأي الزمخشري. ويلاحظ أن هذا الضرب من القسم إطار أدبي جميل لفصول بعض الكتب الدينية الشرقية, لما يوحي به -ولا سميا في المطلع- من رهبة المجهول؛ ولكن جمهور علماء المسيحية يرمون بالوضع والاختلاق كل كتاب ديني شرقي يفتتح شيء من فصوله بمثل هذه الأقسام الأدبية الموحية, كما رموا بالوضع "صلوات جلغوط Gologotha" التي نقرأ فيها: "والملائكة المرسلات في السحب تترى، الماضيات إلى الشمس قدما"، ونقرأ أيضا: "أورشليم، وجبل طابور، وطور صهيون وذرى الزيتون". "انظر ترجمة باسيه لهذه الصلوات باللغة الفرنسية ضمن "الآثار الحبشية الموضوعة": "Apocryphes etiopiens, Fasc, V, 34, trad. fr. R. Basset وقد يكون لعلماء المسيحية الحق في إدراج هذه الصلوات والأقسام في سلك "الموضوعات التي لا أصل لها عندهم"، لأن الأثر القرآني فيها شديد الاحتمال وإن لم يقم عليه برهان قطعي أكيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وبعد هذا القسم الغيبي المفعم بالأسرار، تعرض السورة مشهدا جديدا من مشاهد القيامة يخطف البصر بتعاقبه السريع، ويحاصر القلب بكربه الشديد: لقد انفرط عقد هذا الكون المنظور، فكل شيء فيه ينشق وينفجر، وكل شيء من حوله يضمحل ويذوب: أما النجوم فقد طمس ضياؤها، وأما السماء فقد انشق أديمها، وأما الجبال فقد نسفت ذراها سويت بالأرض كأنها الكثيب المهيل، وأما رسل الله فقد أخر الموعد الذي ضرب لهم للمثول بين يدي الله إلى أجل طويل ثقيل يفصل فيه بين خصوم الأنبياء وأتباعهم, ويقضي فيه بالحق ولا يظلمون. فما أشد ويل المكذبين المجرمين!. وأعداء النبيين كانوا في جميع الأجيال يلقون مصرعهم، فليس مشركو مكة بدعا من المجرمين، وإنهم منذ الساعة ليتوقعون هلاكهم الدنيوي العاجل فكيف يكون إذن عذابهم الآجل في الجحيم! ليتهم -قبل الانطلاق إلى يوم الفصل -يفكرون في أنفسهم، وفي الأرض الذلول التي يطئونها بأقدامهم، فلو فكروا في أنفسهم لعجبوا لتقدير البارئ الحكيم الذي خلقهم في بطون أمهاتهم طورا بعد طور حتى أصبحوا بشرا أسوياء بعد أن كانوا أجنة في الأرحام. ولو فكروا في الأرض التي يطئون لرأوها أمهم الحنون، تكفتهم إلى صدرها وتضم أحياءهم وأمواتهم، فمنها خلقوا وفيها يعادون ومنها يخرجون تارة أخرى. ألم يروا إلى جبالها الشم الراسخات ينحدر الغيث عن ذراها، فيفجر الله به العيون، ويسقيهم الماء العذب النمير؟ فإن لم يفكروا في الآفاق وفي أنفسهم فليشقوا طريقهم إلى العذاب مسرعين. إن لدخان جنهم ظلالا ذوات شعب ثلاث تمتد لافحة محرقة أشد حرا من لهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 السعير، فلينطلقوا إلى هذي الظلال، وليجدوا لديها الحرور! وإن يك لدخان جهنم تلك الظلال الخانقة اللاهبة فكيف بشررها ولظاها؟ إن كل شررة منها في حجم القصر الكبير ضخامة وارتفاعا، وتكاد شظاياها التي تتناثر مصفرة من كثرة الوقود تحكي قطيعا من الجمال الصفر تعدو في البيد في هياج شديد! 1. ما أجدر الأصوات في ذلك اليوم أن تخشع، وما أجدر الألسنة أن تجف صامتة في الحلوق، وما أجدر المجرمين أن يكظموا حناجرهم ويكتبوا أعذارهم في صدورهم، فما لأحد عذر يبديه في ذلك الموقف المهيب. لقد حشر الله الأولين والآخرين ليفصل بينهم بحكمه، فمن كان له مكر فليمكر، ومن أوتي القوة فليحسن التدبير ... لكن الترهيب في القرآن يعقبه الترغيب، وإن الجنة والنار ليتقابلان في أكثر السور تقابل شطري البيت في القصيد، فالمتقون ينعمون في الفردوس بظلال حقيقية وارفة لا بظلال الحرور اللافح، وتجري من تحتهم العيون النضاخة العذبة ولا يتناثر من فوقهم شرر النار الموقدة، ويكرمون بخطاب الله لهم ودعوته إياهم إلى الهناءة بما يأكلون وما يشربون ولا يفرض عليهم الصمت الكئيب. فهلا بكت المجرمون أنفسهم، وأدركوا أن متاع الدنيا قليل؟ وهلا خشعت نفوسهم للحق فركعوا مع الراكعين؟ أم كتب عليهم الشقاء فهم لا يؤمنون؟ 2. وفي سورة "البلد" تلويح بقسم عظيم على أن حياة الإنسان سلسلة من المكابدة والمشقة والكفاح. أما القسم به فهو أمران: أحدهما ببيت الله الحرام3.   1 هذه الصورة يوحي بها قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} وقد اخترنا هذا التأويل من بين طائفة من الأقوال الأخرى. وانظر الكشاف 4/ 174. 2 راجع تفسير سورة "المرسلات" في الطبري 29/ 140 والنسفي 4/ 241. وقارن بالبيضاوي 2/ 377 والزمخشري 4/ 173. 3 أصاب المستشرق موير حين ترجم "البلد" هنا بيت الله الحرام. انظر الطبري 30/ 123 وقارن بـMuir, trad,. 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الذي زاده شرفا أن نبي الله حل فيه مقيم، والآخر كل والد وكل مولود وما يعانيه كلاهما من كبد في جميع مراحل الحياة. ولكن الغرور يستولي على الإنسان، فينخدع بقوته، وينسى أن الله الذي منحه هذه القوة قادر على أن يسلبها منه، وينخدع أيضا بماله، فيكنزه زاعما أنه ينفق منه الكثير في وجوه الخير، وينسى مرة أخرى أن الله محيط به يرى كيف جمع ماله وأين أنفقه، فليعرف هذا الإنسان أنه رهين بما كسبت يداه، وأنه بتصرفه المغرور إنما يجني على نفسه، إذ وهبه الله الخصائص التي تهديه إلى سواء الصراط، من عينين بهما يبصر، ولسان به ينطق, واستعداد نفسي لتمييز الشر من الخير. إن على الإنسان -وقد أوتي وسائل الهداية كاملة- أن يقتحم عقبة كأداء تعترض طريقه إلى جنات عدن. ولن يذلل هذه العقبة إلا بالإيمان والعمل الصالح، فليحرر في سبيل الله رقاب العبيد1، وليطعم في أيام المجاعة اليتامى من ذوي القربى والمساكين البائسين، وليقم بهذا كله وفاء بحق الإيمان، واستشعارًا لأنبل معاني الصبر على المشاق, وأظهر معاني التراحم في الحياة. فبمثل هذا يكتب في سجل السعداء ويمسي من أصحاب اليمين. أما الإنسان الذي صده الغرور عن الإيمان، فلجَّ في عتوه ونفوره، فمصيره المشئوم ينتظره في جهنم: تغلق عليه أبوابها ثم لا يموت فيها ولا يحيا2. وبسورة "الحجر" نختم ما اخترنا تحليله من النوازل القرآنية في المرحلة المكية الثانية أو "المتوسطة". وقد انفردت هذه السورة عن كل ما سبقها من السور التي تحدثنا عنها في المرحلتين المكيتين بطولها النسبي, فهي تسع وتسعون آية، وانفردت آياتها كذلك بطولها النسبي على تفاوت في ذلك بين مقاطعها المتتابعات. ومن خصائص هذه السورة أيضا أنها افتتحت ببعض الحروف   1 يلاحظ هنا أن الدعوة إلى تحرير العبيد من الرق بدأت في الإسلام مبكرة والمسلمون ما يزالون في مكة مستضعفين محاصرين. 2 انظر تفسير سورة "البلد" في الطبري 30/ 123 وقارن بالرازي 8/ 403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 المقطعة {الر} وقد عقدنا فصلا خاصا لها ولأمثالها في هذا الكتاب، فلا داعي للحديث عنها الآن. وأبرز الحقائق التي عرضتها سورة "الحجر" إنذار الكافرين بسوء المصير، وبيان سنة الله في المكذبين, وتصوير آيات الله في السماء وفي الأرض وما بينهما، وحديث عن خلق آدم وإبليس، وسجود الملائكة لآدم واستكبار إبليس, وتثبيت فؤاد محمد بقصص المرسلين: كبشارة إبراهيم على الكبر بغلام عليم، ونجاة لوط وأهله من الخسف والدمار, ومصرع قوم لوط بزلزال وحجارة من سجيل، وهلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب, وأخذ أصحاب الحجر من قوم صالح بالصيحة الطاغية, وتبيان الحق الذي تقوم به السموات والأرض وتقوم عليه الساعة، ودعوة النبي إلى الصفح الجميل, والجهر بدين الله، واللواذ بحمد الله حتى يمضي إلى جواره الكريم1. ولقد طوي مطلع هذه السورة على إنذار ضمني خفي2 يحث الكافرين على اعتناق الإسلام قبل أن تضيع الفرصة، وينقضي الأجل، لأن الأمل الخادع مهما يشغلهم بالأطماع لن يدفع عنهم مصيرهم المحتوم، فسوف يعلمون أن سنة الله في الأمم لا تتخلف، وأن لكل أمة كتابا معلوما وأجلا مسمى، تحيا ما كتب الله لها الحياة, فإذا انحرفت عن الطريق الواضح المرسوم جاءها أمر الله ليلا أو نهارا فدمرها تدميرًا. لكن المشركين، إزاء هذا الإنذار الرهيب، لا ينفكون عن باطلهم وغرورهم، بل يسترسلون في لغوهم وعبثهم، ويتهكمون على النبي الكريم، ويرمونه بالجنون، ويطالبونه بنزول الملائكة تصديقا له، وتثبيتا لمدلول الوحي الذي يدعيه.   1 انظر تفسير سورة "الحجر" في الطبري 14/ 1 والرازي 5/ 253. 2 نشير بهذا إلى قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فإن ألفاظ الآيتين مطوية على الإنذار، ملفوفة بالسخرية اللاذعة، ولو لم تكن مدلولاتها صريحة في هذا الباب، وقارن بقول الزمخشري: "وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار" الكشاف 2/ 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ونزول الملائكة ليس في ذاته بالمستحيل، بيد أنه أمارة على الهلاك القريب, فهل يستعجل المشركون العذاب لأنفسهم؟ وهل يريدون أن تحق عليهم كلمة الخراب والدمار؟ 1. إن الكفر ملة واحدة، وإن أساليب التعنت والعناد لدى الكافرين متماثلة, وما صورة مشركي مكة إلا مرآة للمكذبين من كل جيل: لو خرق الله لهم السماء, وفتح لهم فيها بابا، وأعد لهم فيها معراجا، ومكنهم من اختراق حجابها، وصدع بابها، والصعود في معراجها، لكابروا بلا حياء، وأنكروا بعناد عجيب ما رآه بصرهم الحسير, وزعموا أنهم مسحورون، وأن عيونهم مخدرة سكرى لا ترى إلا وهمًا وخيالًا2. إن القرآن -مع ذلك- لا يسلمهم إلى عنادهم البغيض، بل يوقظهم من سكرتهم، ويستثير كوامن الخير في أنفسهم, ويفتح عيونهم على مشاهد في هذا الكون الجميل تنطق بآثار الخلاق العليم: فهذه نجوم متلألئة في السماء تنتقل من منازلها وهي تدور، فتسر الناظرين, وتلك جبال شامخات ألقيت في الأرض بثقلها وضخامتها، فهي توحي بالرهبة والجلال، وهذا نبات يفترش الأرض أو يستلقي عليها أو يمتد في الهواء، وقد وزنه الله أحكم الوزن في طعمه ولونه وريحه ليكون رزقا للخلق ومعايش للعباد، ينزل من خزائن الرحمن بقدر معلوم، وتلك رياح لواقح تحمل الماء وتنطلق به ثم تسقطه مطرا غزيرًا مدرارًا3 يروي العطاش ويحيي الموات، فالملك كله بيد الله،   1 حين طالب المشركون النبي بنزول الملائكة رد القرآن عليهم بقوله: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} فالملائكة لا تنزل إلا بعذاب المكذبين، ومتى نزلت لا إمهال ولا إنظار. قارن بالطبري 14/ 6. 2 قارن بقول الزمخشري في الكشاف 2/ 312: "المعنى أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له، ولقالوا: قد سحرنا محمد بذلك! " 3 عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . قال: "ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة". وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخغي وقتادة: تفسير ابن كثير 2/ 549. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وارث السموات والأرض، يحيي ويميت وإليه المصير. وللقرآن أطرف الأساليب في إيقاظ الهجع الرقود: إن قصصه الديني ليفتح القلوب الغلف، ويضيء العيون العمي، ويرهف الآذان الصم، حين يذيع أسرار الوجود. لذلك عرضت سورة "الحجر" هنا حقائق الهدى والضلال من خلال قصة آدم وإبليس: إن هذين المخلوقين يختلفان في المنشأ فلا عجب إذا اختلفا في المصير. أما آدم فمخلوق من طين هذه الأرض، من صلصالها اليابس الذي يصلصل إن نقر، وفيه نفحة من روح الله يستشرف بها إلى الملأ الأعلى، وهو بذلك جدير بأن تقع له الملائكة ساجدين. وأما إبليس فمخلوق من نار سامة1، ولهب خالص, فالشر يكتنفه من كل جانب، والغرور يدفعه إلى الاستعلاء، فيأبى السجود لآدم، ويحصر وظيفته في إغواء ذريته إلا عباد الله المخلصين. وهكذا انقسم البشر: إلى غاوين من أتباع إبليس، يدخلون جنهم داخرين لكل باب من أبوابها السبعة صنف معلوم2، ومهتدين من عباد الرحمن ينعمون بالجنات والعيون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وحقائق الهدى والضلال حلقات متتابعات في قصص الأنبياء: فليستمع المشركون إلى قصة إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط، وليذكروا كيف خاف منهم ثم اطمأن إليهم حين بشروه على الكبر بغلام عليم، وإلى قصة لوط حين ضاق ذرعا بقومه الفجرة الفاحشين، فأسرى بأهله ليلا قبل أن يداهمهم الصبح القريب بمطر من حجارة من سجيل، وإلى قصة أصحاب الأيكة الذين كذبوا شعيبا فلقوا مصرعهم في وقته المحتوم، وإلى قصة أصحاب   1 قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} : "وهي السموم التي تقتل"، وعن ابن مسعود: "هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان". راجع تفسير ابن كثير 2/ 550. 2 قارن بتفسير الطبري 14/ 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الحجر1 الذين كذبوا صالحا وأعرضوا عنه، وألهاهم الأمل الكاذب فيما نحتوه من البيوت المحصنة في صلب الصخور، ثم أتت على حصنهم صيحة طاغية فدمرتها تدميرًا وهم فيها آمنون في سكون الصبح الجميل. وإذا لم يكن للمشركين في هذا القصص عبرة، فليكن لمحمد فيه أسوة حسنة, وليتسل به عما يلقاه من قومه، وليكتشف من خلاله الحق الذي أقام الله عليه السموات والأرض، وليصفح الصفح الجميل عن أعدائه الجاهلين, وليمض في طريق الدعوة إلى الله ولينذر الغافلين، وليصرف بصره عن متاع الغرور قانعا بما آتاه الله من السبع المثاني2 والقرآن العظيم، وليجهر بالوحي الذي أنزل الله مثله على قلوب النبيين، فإن العاقبة للمتقين. وإننا -إذ نختم بسورة "الحجر" تحليلنا السريع لما اخترناه من سور المرحلة المتوسطة- لا يغيب عنا أن انفرادها بميزة الطول النسبي إرهاص لما سنلمحه في المرحلة الأخيرة من طول نسبي أيضا حتى ليصعب التمييز بين سور المرحلتين في هذه الخصيصة ولا سيما إذا لاحظنا أن الفصل بين مختلف الزمر أمر اعتباري ليس له من الواقع نصيب، فكل مرحلة امتداد للتي سبقتها ولا يبدو هذا الامتداد أوضح ما يكون إلا في السور الأولى من المرحلة الجديدة, حين تقابل بسماتها المستقلة وملامحها المتميزة السور الأواخر من المرحلة السابقة. ولا يغيب عنا أيضا أن افتتاح سورة "الحجر" بالحروف المقطعة إرهاص لكثير من سور المرحلة الثالثة المفتتحة بهذه الحروف. وذلك يؤكد ما كنا   1 أصحاب الحجر هم ثمود، والحجر هي المعروفة اليوم بمدائن صالح, وتقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. وللمستشرق شليفر بحث طريف عن الحجر وأصحابها. انظر: Schleifer, Encycl. de l'Islam, art. Hidjr, II, 320. 2 انظر في تأويل "السبع المثاني" الطبري 14/ 35-41 وقارن ابن كثير 2/ 557. والأرجح كما قال الطبري: أنها آيات فاتحة الكتاب. وهي سبع تثنى وتعاد في كل ركعة من ركعات الصلاة. ولذلك عقد المستشرق فنسنك مقارنة بين لفظة "مثناة" العربية و"مشنا" العبرية، ففي كلتيهما معنى الإعادة. وانظر: Encycl. de l'Islam, Wensinck, art. Mathani, III, 464. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أومأنا إليه من اشتراك المراحل المكية كلها في خصائص موضوعية وأسلوبية متماثلة تتفاوت حظوظها في هذا الاشتراك، ولولا أخذنا بالمنهج الزمني في ترتيب المكي والمدني زمرا وفصائل، وتقسيم كل منها إلى مراحل، لضممنا السور المكيات كلها في زمرة واحدة تقابل السور المدنيات بزمرتها كلها مقابلة كاملة. وإن نرد تفصيل الحديث عما تميزت به المرحلة المكية المتوسطة عن الأولى -قبل أن نمضي إلى تصوير ملامح المرحلة الثالثة التالية- نجد في يسر وسهولة أن بعض الإضافات التي زيدت في هذه على حقائق تلك قد صيرت موضوعاتها كالمستقلة بنفسها، وأن بعض الأصباغ التي وشيت بها هذه زيادة على وشي تلك قد جعلت أسلوبها خاصا فريدا، مع أن الأصول في سور كلتا المرحلتين بقيت بارزة المعالم، واضحة السمات. إن جميع الحقائق التي عالجتها المرحلة الأولى في الكون والحياة، والإنسان قد عالجتها أيضا هذه المرحلة الثانية، بيد أنها وسعت نطاقها، وفصلت جزئياتها، وألقت الضوء ساطعا على معالمها: فقد بدأت الدعوة الإسلامية تثير مخاوف المشركين وتقذف الرعب حقا في قلوبهم، فما تني تنذرهم سوء المنقلب, وتعرض عليهم صورا من تدمير الله القرى الظالمة، وتقص عليهم قصص الغابرين، وتفصل لهم البراهين1 على توحيد الله، وصدق الوحي، وقيام الساعة، ووقوع البعث والنشور والثواب والعقاب، وتصور لهم الجنة والنار في لوحتين متقابلتين حافلتين بالمشاهد والظلال, وتذكرهم بنعم الله التي لا تحصى في الأرض وفي السماء، وفي الأنفس والآفاق، وتدعوهم إلى الاهتداء بنور الفطرة، وترغبهم في صالح الأعمال، وتوازن بينهم وبين الذين   1 الفارق إذن بين هذه المرحلة المتوسطة وتلك المرحلة الابتدائية هو تفصيل البراهين، فتوحيد الله والوحي والساعة والبعث والجزاء كلها أثيرت في أوائل الوحي ولكن بدون تفصيل، إذ كان المقصود تحريك دواعي النظر ولفت الانتباه إلى عقيدة التوحيد، حتى إذا عرف المشركون عنها أشياء أولية جابههم القرآن بالأدلة والبراهين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 آمنوا وعملو الصالحات، وتضع لهم الموازين القسط للأشخاص والقيم والأخلاق، وتوضح لهم وحدة الدين في أصول الإيمان، وترسم لهم نشأة الكون وخلق آدم وإبليس، وتوضح لهم أسرار الهدى والضلال. أما أسلوب هذه المرحلة فربما كان -في جل المواطن- امتدادا لأسلوب المرحلة المكية الأولى في الإيجاز وحرارة التعبير، وتجانس المقاطع والفواصل، ووفرة التجسيم والتشخيص والتخييل، وكثرة الأصباغ والألوان واللوحات، إلا أن بعض السور بدأت تجنح إلى الطول، وبعض الآيات بدأت هي الأخرى تطول1، وتعددت في السورة الواحدة الأنغام، وبرزت أحيانا بين مقاطعها لوازم الإيقاع، وذيلت بعض الفواصل باسم أو اسمين متتالين من أسماء الله الحسنى2، وظلت الألفاظ تنتخب انتخابا، رشيقة تارة عنيفة تارة أخرى، وهي في كلتا الحالين تهز المشاعر الراقدة بالبيان الرفيع، والسحر الخلاب!. الآن نمضي إلى المرحلة المكية الثالثة الختامية، فيفاجئنا فيها -أكثر ما يفاجئنا- طولها بوجه عام آيات وسورًا، وإن كان الأغلب عليها طول السور دون الآيات, وهذا الطول نفسه -حيثما يلاحظ- ليس شيئا ذا بال إذا قيس بعدد الآيات في السور المدنية أو بعدد الألفاظ في الآية المدنية الواحدة، ولكنه بلا ريب يعد طولا بالنسبة إلى ما يتوقعه القارئ في جميع المراحل المكية من تناسق القرآن مع ما يرغبه فصحاء مكة من إيجاز التعبير تعويلا على الإشارة الخفية أو الإيماءة البارعة المحكمة. وطول هذه السور سيحول دون تحليلنا لجميع ما ذكرناه منها، فبدلا   1 كلما رأينا في سورة "الحجر" وهي "نموذج" لسور أخرى من هذه المرحلة تكاد تساويها في طولها وطول آياتها، وإن كنا قد اجتزأنا بها على سبيل المثال. 2 لعل أطرف ما يطالع في هذه الأسماء الحسنى ما كتبه المستشرق ديمومبين. انظر: Gaudefroy-Demombynes, Noms d'Allah, 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 من أن نتناول بالدراسة الخاطفة كل ما سردناه1 سنكتفي بإبراز الملامح الأساسية لسور منها ثلاث هي: الصافات، والكهف، وإبراهيم، ويقاس بعد ذلك سائرها على هذي الثلاث. أما "الصافات" فتقع في اثنتين وثمانين ومائة آية، متعددة الفواصل، متنوعة الإيقاع في آياتها الإحدى عشرة الأوائل، ثم تلتزم فيها حتى نهايتها فاصلتا الواو والنون، والياء والنون, وأحيانا الياء والميم. ومن خلال مقاطع السورة المتتابعة تبرز طائفة من الأفكار والمشاهد والمواقف المترابطة المتناسقة التي ترتد كلها إلى بناء العقيدة في النفوس خالصة من الشرك: فمن تثبيت فكرة التوحيد إلى تأكيد فكرة البعث وتصوير بعض المفاجآت يوم القيامة، ومن الملائكة الصافات إلى الشياطين المستمعين إلى الملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة، ومن تكذيب المشركين بالنبي إلى عرض سلسلة من قصص الرسل: نوح وإبراهيم وابنه الذبيح وفي حادثة الفداء بمواقفها المؤثرة الموحية، ومن حملة على أسطورة العرب في الملائكة إلى وعد الله لرسله بالنصر المبين. أقسم الله بالملائكة الصافات لربها في السماء2 الماثلات بين يديه صفا صفا في ارتقاب أمره، وتنفيذ مشيئته، وزجر المكذبين لرسله، وتلاوة الذكر3 على أصفيائه من خلقه، على أنه واحد لا شريك له في ذاته ولا في ملكه.   1 كنا قد سردنا في موضع آخر من هذا الفصل من سور المرحلة الختامية في مكة: الصافات، والزخرف، والدخان، والذاريات، والكهف، وإبراهيم، والسجدة، وإنما اكتفينا بها هناك لأنها مما اتفق المفسرون والمؤرخون على أنه من أواخر الوحي المكي. 2 هذا اختيار الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} انظر تفسيره 23/ 22. 3 الذكر هنا كلمة عامة يراد بها الكتب السماوية التي تذكر بالله، فتشمل جميع ما أنزله الله على أنبيائه من الوحي، ولا داعي لتخصيص هذا اللفظ بالقرآن وإن كان يتناوله بالمقام الأول، لأن من أسمائه الذكر والذكر الحكيم، وقارن بتفسير ابن كثير 4/ 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وإن وحدانيته سبحانه لأبلغ رد على تلك الأسطورة الحمقاء التي افترضت قرابة بين الله -جل وعلا- وبين الجن: فقد زعمت العرب أن الله تعالى تزوج الجنة فولدت من هذا التزاوج الملائكة, فهن بنات الله! وفي سورة الصافات رد على هذه الفرية الجهلاء في أربع مواطن: أولها المطلع الذي رسم -من خلال القسم- صورة الملائكة قائمات بأمر الله, صفوفا بين يديه, نازلات بالوحي على قلوب النبيين، فهن من خلق الله في عالم الغيب المستور. والموضع الثاني في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 1، فما بين السموات والأرض من مخلوقات دقيقة، وما يعرج بينهما من ملائكة مطهرين وأرواح علوية، خلق من خلقه، وعبيد من عباده، يعترفون له بالألوهية والوحدانية والقدرة. والموضع الثالث: في رجم الشياطين الذين يحاولون استراق السمع، مع أنهم -بزعم العرب- هم "الجنة" الذين جعلوا بينهم وبين الله نسبا، فما بالهم يطاردون في السماء، ويقذفون بالشهب، رغم قرابتهم المزعومة مع الله الكبير المتعال؟ والموضع الرابع الأخير قبيل خاتمة السورة في تلك الحملة العنيفة الساخرة على هذه الفرية السخيفة المتهافتة، وفي استفتاء القرآن أولئك الحمقى عن منشأ أسطورتهم، وعن أسرار تأنيثهم الملائكة, وعن أسباب نسبتهم ما يكرهون إلى الله. وهكذا كانت وحدانية الله في ذاته أبلغ رد على أسطورة العرب في الملائكة والشياطين!. على أن الحديث عن رجم الشياطين بالشهب إنما جاء عقب الحديث عن تزيين السماء الدنيا بالكواكب، فقد أودع الله الكواكب خصيصتين تكمل إحداهما الأخرى، أولاهما خصيصة التزيين والتجميل حتى لا تقع العين في   1 قال الطبري في تفسيره 23/ 23: "وقوله: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} يقول: ومدبر مشارق الشمس في الشتاء والصيف ومغاربها، والقيم على ذلك ومصلحه. وترك المغارب لدلالة الكلام عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 السماء إلا على البهاء والجمال، والثانية خصيصة الحفظ والرصد حتى لا يستمع شيطان متمرد ما يدور في الملأ الأعلى: فهذه الكواكب حفظة للسماء تطرد العتاة عن بابها برجوم من نار، وتدحرهم دحرا فيولون الأدبار. وإن قيام الكواكب بوظيفتيها كلتيهما على الوجه الأدق الأكمل لبرهان صادق على تناسق هذا الكون، وجريان كل شيء فيه بقدر، وتحرك كل ما فيه بقدرة الله الخالق البارئ المصور. ومشركو مكة -بدلا من أن يتدبروا صنعة الخالق الذي أتقن كل شيء- يلجون في عتوهم ونفورهم، ويتمادون في غيهم وغرورهم، كأنهم يحسبون أنفسهم أشد خلقا من الملائكة الصافات، أو أقوى تمردا من الشياطين العتاة1، وإذا هم ينكرون البعث بعد أن يصيروا ترابا وعظاما، ويرمون القرآن بالسحر شكا وارتيابا، فيأمر الله نبيه -في موقفهم العجب- بتذكيرهم بنشأتهم الأولى من طين رخو لزج، وإنذارهم بصيحة البعث تزجرهم زجرة واحدة وتسوقهم وأزواجهم وما كانوا يعبدون إلى أرض المحشر، فيجدون أنفسهم فجاءة في الجحيم أذلة مستسلمين، ثم يتبرأ بعضهم من بعض ويعترفون باستحقاقهم العذاب الأليم. وسنة القرآن في مقابلة مصير الأشقياء بمصير السعداء لا تتبدل، فهنا تصوير وارف الظلال لمظاهر التكريم التي أعدها الله للمخلصين من عباده: بدأ باستثنائهم من العذاب الأليم، ثم آتاهم ما تشتهيه أنفسهم في جنات النعيم، فهم يتكئون على السرر في راحة واطمئنان، ويتناولون الفواكه من قطوف ذللت تذليلا، ويتساقون خمرا علوية لا تصدع الرءوس ولا تقطع لذة   1 قال ابن كثير هنا في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} : "يقول الله تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث: أيما أشد خلقا: هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ ". تفسير ابن كثير 4/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الشراب"1، ويضاعف لهم هذا النعيم بأنبل صحبة وأسماها وأحلها مع أزواجهم الحييات المصونات من الحور الحسان الناعمات. وإنهم لفي نعيمهم هذا إذ يذكر أحدهم قرينا له كان في الدنيا يكذب بالبعث والنشور, فيذهب السعداء لتفقد هذا القرين والتطلع إلى مصيره، فيجدونه في وسط الجحيم، ويوجه السعيد إلى قرينه الشقي كلمات التأنيب، وفي خلالها يحمد الله على أن جعله وإخوانه من الأتقياء المخلصين. ويطلق القرآن هنا الموازنة إلى أبعد مدى، وهو يبسط أمام المكذبين الجاحدين الفرق الشاسع بين تقلب السعداء في أعطاف النعيم وغصص الأشقياء وهم يأكلون من شجرة الزقوم، وهي شجرة جهنمية خبيثة تناهت في القبح وإثارة الرعب حتى أشبهت رءوس الشياطين التي يتصورها الخيال أقبح ما تكون2، وكلما احترقت حلوقهم من الظمأ واللهيب شربوا ماء حميما غاليا عكرا فقطع أمعاءهم, وكلما التمسوا ملجأ يقيهم هذا الويل الشديد ردوا إلى قعر جهنم، وساءت مستقرا ومقاما. ويذكر القرآن هؤلاء الضالين بأسباب ضلالهم، فإنهم مقلدون يهرعون على آثار آبائهم، ولا يقارنون مقارنة منطقية بين مصيرهم المظلم ومصير المؤمنين المشرق السعيد، ولكن أسلافهم ضلوا من قبل مع أن النذر أرسلوا فيهم متتابعين، فلم ينج من العذاب العاجل إلا المصطفون الأخيار.   1 يقول الطبري في تأويل قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} : "لا في هذه الخمر غول، وهو أن تغتال عقولهم. يقول: لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها، كما قال الشاعر: وما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول والعرب تقول: ليس فيها غيلة وغائلة وغول بمعنى واحد. تفسير الطبري 23/ 35. ثم يعلق على قراءتي: "يُنْزِفُونَ" بكسر الزاي وفتحها فيقول: "والصواب" من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتان المعنى غير مختلفتيه، فبأيتهما قرأ القارئ يصيب، وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم، ولا يسكرهم شربهم إياه فيذهب عقولهم". 2 قال ابن كثير: "وإنما شبهها برءوس الشياطين -وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين- لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر" انظر تفسيره 4/ 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وفي معرض هذا التذكير الذي يفيض بالإيحاءات المؤثرة, ويهز القلوب الغالفة هزا شديدا، رسم القرآن في لمحات عجلى قصة نوح الذي استجاب الله دعاءه فنجاه وأهله من الكرب العظيم، وأغرق المكذبين به، وقصة إبراهيم الذي حطم أصنام قومه، فهموا به ليقتلوه، وبنوا له بنيانا ليحرقوه فأنقذه الله من كيدهم وجعل النار بردا عليه وسلاما وقصة موسى وهارون اللذين اصطفاهما الله لرسالته، وآتاهما التوراة فيها هدى ونور، وكتب لهما النصر على فرعون وملئه المفسدين، وقصة إلياس الذي أنكر على قومه عبادتهم بعلا وإعراضهم عن أحسن الخالقين، وقصة لوط الذي نجاه الله وأهله -إلا امرأته- من الزلزال والدمار، وأمطر قومه الضالين حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين, وقصة يونس الذي ضاق ذرعا بتكذيب قومه فخرج مغاضبا آبقا، فركب سفينة مشحونة, واقترعوا حين تلاعبت بها الرياح والأمواج على من يلقونه منها تخفيفا لوزنها الثقيل، فخرجت القرعة ليونس فألقي في البحر والتقمه الحوت وهو مستحق للوم على قنوطه ومغاضبته، ثم سبح الله في بطن الحوت فاستجاب الله دعاءه، فأخرجه من بطنه ونبذه على الشاطئ عاريا سقيما، ولما أبل من مرضه دعا قومه إلى عبادة الله فآمنوا كلهم وكانوا مائة ألف أو يزيدون1. هذه القصص جميعا رسمت أحداثها سورة "الصافات" في ومضات سريعة برزت من خلالها عاقبة المكذبين واستجابة الله لعباده المخلصين, فكان فيها إنذار للمشركين بسوء المصير ودعوة للنبي إلى الصبر الجميل. ولذلك خص إبراهيم الخليل في سلسلة هذه القصص بسياق أطول، ومراحل أكثر إسهابا وتفصيلا، حين عرضت حادثة فداء ابنه بمواقفها المؤثرة، وحوارها الأخاذ، وأسلوبها الرهيب، فقد أبرزت هذه الحادثة -بعد قصة تحطيم إبراهيم للأصنام- لما توحي به من الاستسلام لله، والاطمئنان إليه والثقة به،   1 راجع قصة يونس هذه في تفسير الطبري 23/ 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وهي الزاد الحقيقي لكل داعية يتحلى بالصبر الجميل, في طريق الدعوة الطويل: ذهب إبراهيم إلى ربه، وهجر كل شيء في سبيله, وسأله أن يهبه ولدا صالحا، فبشره بغلام حليم1، وما كاد هذا الغلام يرافق أباه في درب الحياة، ويبلغ معه السعي في آفاقها، حتى تعرض لأقسى محنة فصبر واستسلم. لقد رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه، فأدرك أنها إشارة من ربه، فاستجاب راضيا مطمئنا، وأخبر ابنه برؤياه فوجده مستسلما صابر، ولكنه حين كب ابنه على جبينه استعدادا لذبحه فداه الله بكبش عظيم يذبحه، وعده وفيا بعهده، مؤديا لمهمته، وناداه: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . وبانتهاء سلسلة هذا القصص القرآني -ما أوجز عرضه وما أسهب به- تتجه المقاطع الأخيرة من سورة "الصافات" إلى مناقشة العرب في أسطورتهم عن الملائكة والشياطين, تأكيدا لتوحيد الله وتنزيهه عما يصفه به الجاهلون2. وفي اختتام السورة -بعد ذلك- بآيات التحميد والتسبيح تناسق تام بين البداية والنهاية: فقد أقسم الله في المطلع على أنه واحد، منزه عن كل شريك في ذاته أو ملكه, وختم السورة بالتسبيح بحمده تنزيها له أيضا عن كل شريك. وإن في هذا لبرهانا دامغا على وحدة الموضوع في السورة الواحدة مهما تطل آياتها وتتشعب فيها الجزئيات. وأطرف ما في الحملة القرآنية على الأسطورة العربية في الملائكة والشياطين التنزل إلى خطاب العرب بمنطقهم نفسه ليعرفوا من تلقاء أنفسهم سخف ما تخيلوه وزعموه. فالنبي العربي الأمي مدعو إلى استفتاء العرب الأميين عن   1 المشهور عند الناس وأكثر المفسرين أنه إسماعيل، ولكن إمام المفسرين الطبري أورد حجج القائلين بأنه إسحاق ثم حجج القائلين بأنه إسماعيل، وانتصر للرأي الأول ورجح أن المفدي إسحاق. راجع أدلته في تفسيره 23/ 51-55. 2 وذلك في قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} الآيات ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 استئثارهم بالبنين من دون الله الذي ينسبون إليه البنات، فهل يفضل الله البنات على البنين؟ أم شهدوا مولد الملائكة فعرفوا جنسهم؟ أم افتروا على الله كذبا وهم يعلمون؟ وكيف طوعت لهم أنفسهم أن يزعموا أن بين الله وبين الجنة نسبا, مع أن الجن يعلمون أنهم -ككل خلق الله- يحضرون يوم القيامة ليحاسبوا على ما قدمت أيديهم؟ إن أباطيلهم هذه لن تخدع إلا من في قلبه مرض ومن تؤهله طبيعته الفاسدة لدخول الجحيم. وليت أولئك المبطلين يسمعون رد الملائكة على أسطورتهم الحمقاء، فإنهم في الملأ الأعلى ما ينفكون يناجون ربهم بلسان الحال أو المقال مرددين: إنا صافون1 صفا بين يديك، نسبح بحمدك ونقدس لك، وننزهك عن الصاحبة والولد وعن كل شريك!. وبعد هذه الحملة العنيفة الساخرة على الأسطورة الجاهلية الحمقاء، تهدد السورة مخترعي هذه الأساطير بمصيرهم المشئوم، وتعرض عليهم سنة الله في نصر جنده المخلصين، فلله العزة جميعا، وعلى رسله السلام، وله الحمد   1- من عجيب أمر القرآن أنه -في مواطن متفرقة- وصف الملائكة بمثل ما يوصف به جمع المؤنث السالم، كما رأينا في مطلع هذه السورة {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} وفي مطلع سورة "المرسلات". وعلل المفسرون أمارات التأنيث بإرادة طوائف من الملائكة تلك صفاتها، وليس تعليلهم ببعيد، فإن لمثله نظائركثيرة في العربية، ولكن يبدو لنا -والله أعلم- أن القرآن يرمي إلى سر أبعد مما ذكروا، فإنه لواثق من تهافت أسطورة العرب في تأنيث الملائكة فلا عليه بعد إن أنثها أو ذكرها من الناحية اللفظية ما دام قد حمل على جوهر الفكرة حتى أبطلها من أساسها. ولا يمكننا الجزم بأن القرآن -حين أبطل تأنيث الملائكة- قد أثبت لها صفة الذكورة، فإن الملائكة من عالم الغيب الذي لا نعرف منه على وجه اليقين إلا ما جاء صراحة في الكتاب أو على لسان المعصوم، ولم يكلفنا الله ولا رسوله معرفة جنس الملائكة، أإناث هم أم ذكور, بل وصفهم لنا ببعض وظائفهم في طاعة الله بعلامات التأنيث تارة وأمارات التذكير تارة أخرى, ومن ذلك أن مثولهم صفا بين يدي الله عبر عنه في مطلع هذه السورة بـ {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} على جمع المؤنث السالم، وفي أواخرها بقوله على لسان الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} على جمع المذكر السالم. وتذكير الملائكة لفظا -بوجه عام- هو الذي يغلب في القرآن، ومنه قوله تعالى في غير هذا الموضع: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وحده لا شريك له منزها عن كل ما يصفون وما يخترعون1. وحين ننتقل الآن إلى سورة "الكهف" لا مفر لنا من الإيجاز الشديد، والاستغناء في أكثر المواطن بالتلويح عن التصريح، لأننا نواجه سورة طويلة من عشر ومئة آية, ونلاحظ في آياتها نفسها انسيابا وطولا وإطنابا إلا في مقاطع قليلة، فضلا على ما يتلى في أوائلها وأواسطها, وأواخرها من قصص ديني يكاد يستغرق ثلثيها، وفضلا على ما يتخلل هذا القصص أو يعقبه من تعليق أو تذييل أو تفسير. وربما بدت لنا سورة "الكهف" إحدى السور التي تفسح المجال لتفصيل الحديث عن خضوع القصة في القرآن للغرض الديني، ولكننا لن نعرض لهذا التفصيل إلا بقدر مخافة الذهاب باستطرادنا بيعدا عن غايتنا الأساسية في هذا الفصل، إذ يعنينا منه تقصي الخطوات التي مرت بها الدعوة الإسلامية في مكة ثم في المدينة، ولا ريب أن تقصي هذه الخطوات لا يسمح لنا -حتى في السور التي اخترنا تحليلها- باستطراد مفصل ولا تعقيب طويل. تهدف سورة "الكهف" -كجميع السور المكية ولا سيما في هذه المرحلة الثالثة الأخيرة- إلى بناء العقيدة بناء سليما في إثبات الوحدانية، والفصل الواضح بين ذات الخالق وذات المخلوق، وكشف الحجب عن ظاهرة الوحي وأسرارها المعجزة العجيبة. ولا حاجة بنا إلى التصريح بمقاطع السورة وآياتها الناطقة بهذه الحقائق, فإنها تنبئ عن نفسها ولو اكتفى القارئ بإلقاء نظرة عجلى إليها. وحسبك في بدايتها أن هذا القرآن أنزل غير ذي عوج لتبشير المؤمنين الموحدين وإنذار الذين قالوا: اتخذ الله ولدا2، وفي نهايتها أن محمدا صلى الله عليه وسلم يؤمر بتوضيح الفرق الذي لا يتناهى بين آفاقه البشرية   1 بالإضافة إلى ما ذكرناه في الحواشي من التأويلات الواردة في تفسيري الطبري وابن كثير، ارجع في تفسير سورة الصافات إلى الرازي 7/ 118 والبيضاوي 2/ 167 والنسفي 4/ 13. 2 قال ابن إسحاق: الذين قالوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} هم مشركو العرب في قولهم: نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله. انظر تفسير ابن كثير 3/ 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 المحدودة وأفق الوحي المبين، فما هو إلا بشر مثل سائر البشر، وإنما يمتاز عنهم بتلقيه أوامر ربه الذي يقذف في قبله نور النبوة والهداية1، وفي غضونها قول أصحاب الكهف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} وقول المؤمن صاحب الجنتين البطر المغرور: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} وقول العبد الصالح لموسى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِيرَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فتلك جميعا آيات نواطق بوحدانية الله وعلمه الشامل الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وإذا آثرنا الإلمام بهذه الحقائق الأولية ولم نفض فيها لمحنا في السورة موضوعا شديد الصلة بتلك الحقائق ينبثق عنها بأساليب طريفة جدا تكاد تصيره مستقلا فريدا: ذلك هو تصوير شئون الغيب، واقتطاعها من إطار العقيدة العام لتقابل بأسرارها العميقة كل ما ظهر أمره من قضايا الإيمان. وفي السورة ثلاث أقاصيص تصحح عقائد المؤمنين في شئون الغيب، وتفصل لهم بين ما يرقى علمهم إليه وما لا يعرفونه إلا إذا كشف الله عن أبصارهم الغطاء: قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع العبد الصالح، وقصة ذي القرنين في رحلاته الثلاث ولا سيما "بين السدين" مع يأجوج ومأجوج. أما أصحاب الكهف فقد اختار القرآن لعرض قصتهم ثلاث لوحات حافلة بالحركة حتى في تصوير رقادهم الطويل: فمن عجب أن ترسم ريشة القرآن الخلاقة -في اللوحة الأولى- أولئك الفتية أيقاظا وهم رقود، إذ جعلتهم طوال النوم الذي ضرب على آذانهم أكثر من ثلاثة قرون2 يتقلبون تقلب   1 وذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وقد علق عليه الطبري فقال: "يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المشركين يا محمد: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم، لا علم لي إلا ما علمني الله، وإن الله يوحي إلي أن معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا معبود واحد لا ثاني له ولا شريك" الطبري 16/ 31. 2 قصة أصحاب الكهف عالمية، تعرفها المسيحية في أساطيرها الذهبية "Legende Doree" وقد كتب لها الانتشار حتى أطراف بلاد المغول، والرواية المسيحية لهذه القصة "التي كتبت بالسريانية في القرن الخامس الميلادي" تجعل عدد أولئك الفتية سبعة، وتجعل رقادهم في الكهف قرنين فقط, فقد بدأ رقادهم العجيب في عهد الامبراطور دقيانوس "بين عام 249 إلى 251" ثم استيقظوا في عهد ثيودوسيوس بعد ست وتسعين ومائة سنة. انظر Massignon, Recherche sur la valeur eschatologique des Sept Dormants, dans Actes XXe congres des Orientalistes, 302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الأيقاظ ولكنهم لا يقعدون ولا يفتحون أعينهم ولا يغادرون مكانهم فيثيرون برقادهم المتقلب ذعرا شديدا في قلوب المارين بهم المطلعين عليهم. وتزداد هذه اللوحة حياة وحركة بصورة كلبهم باسطا ذراعيه بالفناء كأنه يقوم على حراستهم, وبصورة الشمس متجافية عنهم، متباعدة عن كهفهم، كأنها لا تريد لشعاعها أن ينفذ إليهم، فهي تميل عن كهفهم يمنة إذا طلعت وتجاوزهم يسرة إذا غربت، فما أعجبها آية من آيات الله1. واللوحة الثانية -بطبيعتها- حافلة بالحركة والحياة: فقد استيقظ الرقود، ودب فيهم النشاط من جديد، وفركوا العيون، ونظر بعضهم إلى بعض في استغراب شديد، إذا شعروا أنهم يصحون من رقدة طويلة ولكنهم لم يعرفوا كم لبثوا في كهفهم نائمين، فتساءلوا عن مدة لبثهم وتناجوا فيما بينهم، وظنوا أن نومهم -مهما يك قط طال- لم يزد على يوم أو بعض يوم، ثم ردوا الأمر إلى ربهم، فإنهم فتية مؤمنون يفوضون كل أمرهم إلى الله. وفي اللوحة الثالثة -وهي خاطفة سريعة- يغادر أحد الفتية الكهف، ويذهب بما بقي معهم من نقودهم الفضية ليشتري لهم طعاما طيبا يسدون به إحساسهم بالجوع بعد رقادهم العجيب، فينصحونه -قبيل الخروج- بالحذر من مشركي تلك المدينة، لئلا يعرفوا مخبأهم فيقتلوهم رجما أو يردوهم عن عبادة الواحد القهار2. ومن خاتمة هذه الأقصوصة، ثم من أسلوب التعقيب على خاتمتها، نستنتج أن أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا بعد شرك أسلافهم، وأن الله أعثرهم   1 قارن بتفسير الطبري 15/ 139. 2 قارن بتفسير ابن كثير 4/ 76-77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 على الفتية الذين فروا بدينهم منذ ثلاثة قرون فتلقوهم بالحفاوة والتكريم حين عرفوهم من زميلهم الذي جاء السوق يشتري الطعام، ثم يتوفى الله أصحاب الكهف حقا في أجلهم المحتوم، فيتنافس مواطنوهم في تكريمهم بعد موتهم وينتهون -بعد نزاع طويل- إلى بناء معبد فوق أضرحتهم، تخليدا لذكراهم المجيدة، ورقدتهم العجيبة1. وهذه القصة القرآنية -على إيغالها في الغرابة- ليست أعجب ما في الكون من آيات وأحداث، وقد صور القرآن لوحاتها الثلاث -بكل غرائبها- ضمن هذا الإطار الذي يستصغر أحداثها كلها ما دامت يد القدرة الإلهية صالحة للتعلق بها وتدبيرها. وتأكيدا لهذه الفكرة، مهد القرآن لوقائع هذه القصة بقوله الصريح: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ 2 كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} وجواب هذا الاستفهام ينطق بأن أصحاب الكهف لم يكونوا أعجب آيات الله3: فإنهم فتية آمنوا بربهم، واعتزوا بإيمانهم، ودعوا قومهم بقوة إلى التوحيد، واستنكروا عبادتهم الآلهة من دون الله، فما ضاق الكفر بهم ذرعا هيأ الله لهم من رحمته كنفا، وآواهم إلى الكهف, وأنسأ فيه آجالهم، وأطال فيه رقادهم، وجعل في طول رقدتهم -على غير ما ألفه الناس- آية من آياته وإن لم تكن أعظم الآيات! والقرآن حريص -من خلال هذه الأقصوصة- على تصحيح عقائد المؤمنين في شئون الغيب: فهو يومئ إلى خوض الناس فيها وتضخيمهم أحداثها جيلا فجيلا، ورجمهم بالغيب في تعيين عدد أبطالها، ويوجه المؤمنين إلى ترك المراء فيما لا يعنيهم، وينهاهم عن استفتاء أهل الكتاب وغيرهم   1 قارن بالكشاف 2/ 384. 2 اختلف أهل التأويل في المراد بالرقيم، فقال بعضهم: اسم قرية أو واد, وقال بعضهم: بل هو جيل أصحاب الكهف، وقال آخرون: إنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف، وصرح إمام المفسرين الطبري بأن الرأي الأخير هو "أولى الأقوال بالصواب" تفسير الطبري 15/ 132. 3 وذلك ما فهمه أهل التأويل. وانظر الروايات عنهم في هذا الصدد 15/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 في تلك القصة1 فما لهم حاجة في معرفة زمانها ولا مكانها، ولا أسماء أشخاصها ولا أشكالهم ولا أعدادهم، ولا الطريقة التي صينوا بها في فجوة من الكهف لم يعبث بهم عابث حتى جاء الوقت المعلوم. بل اتجه القرآن إلى عبرة هذه القصة يستخلصها للمؤمنين ويحملهم على استخلاصها بأنفسهم، فليس لهم أن يقفوا غير ما علموه في الماضي وما يمكنهم الساعة أن يعلموه. أما المستقبل فهو غيب محجب لا يقطع أحد فيه بقول ولا عمل، وإنما يحسن فيه التفكير، والتدبير {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} 2. وأما قصة موسى مع العبد الصالح فارتباطها بشئون الغيب أوثق من ارتباط قصة الكهف بتلك الشئون: فإن مشاهدها الأربعة المعروضة في هذه السورة قد تصادم ما تعارف الناس على تسميته بمنطق الأشياء والأحداث، وقد تثير بغرائبها الاستنكار، بيد أنها تحل أبسط حل وأيسره إذا ما عرضت على الصعيد الغيبي بمفاجآته ومعجزاته. وأول تلك المشاهد الأربعة بطله موسى كليم الله، وهو -على ما فيه من عجب- ليس شيئا ذا بال حين يقاس بالمشاهد الثلاثة الباقية التي كان بطلها عبدًا صالحا آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما. إن موسى -في المشهد الأول- مصمم على بلوغ مجمع البحرين3.   1 قال الطبري في تأويل الآية: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} : "يقول عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تمار يا محمد، يقول: لا تجادل أهل الكتاب فيهم، يعني في عدة أهل الكهف، وحذفت العدة اكتفاء بذكرهم فيها لمعرفة، السامعين بالمراد" الطبري 15/ 150. 2 قارن بتفسير ابن كثير 3/ 79. 3 سكت القرآن عن تعيين المنطقة الواقعة عند مجمع البحرين، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك، إلا أننا نستنتج -في ضوء معلوماتنا التاريخية- أن المراد بمجمع البحرين التقاء خليجي العقبة والسويس بالبحر الأحمر، ولا داعي للرجوع إلى التفاسير في مثل هذه الشئون، فأكثر الآراء فيها هنا رجم بالغيب، ولا نستثني من ذلك تفسير الطبري نفسه. وانظر على سبيل المثال الطبري 15/ 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ولو مضى حقبا حتى يصل إليه، ويريد الله له أن يلتقي بالعبد الصالح فينسيه حوتا كان قد أعده للأكل فتاه، ولعله شواه، لكن هذا الحوت المشوي دبت فيه الحياة مرة أخرى فسرب في البحر واتخذ سبيله فيه. وعجب فتى موسى للمفاجأة الغريبة. أما موسى فلم يعجب بل أدرك أن المكان الذي نسيا فيه حوتهما هو الموعد المحدد للقاء العبد الصالح، فعادا إلى آثارهما فوجدا الرجل الذي كان يبحثان عنه1. وفي المشهد الثاني يختفي فتى موسى، وينفرد نبي الله موسى بحوار مع العبد الصالح ذي العلم اللدني، ويلتمس النبي الكريم من الولي الصفي أن يصاحبه في رحلته ويتعلم من لدنه شيئا من حقائق الغيب التي كشف الله له حجابها فيشترط العبد الصالح على نبي الله موسى الصبر والطاعة من غير تردد ولا استفسار ولا استنكار، ويركبان سفينة، فإذا العبد الصالح يخرقها بمن فيها حين أمست في ثبج البحر، فغلبت موسى طبيعته وأنكر على رجل العجائب فعلته، وعجب له كيف يغرق السفينة فيعرض ركابها للهلاك، ويشتد الحوار بين الرجلين ويعاهد موسى ذلك العبد الصالح على أن يجنبه الإرهاق بكثرة المراجعة والتساؤل. وفي المشهد الثالث يلتقي الرجلان في طريقهما بغلام، فيقتله العبد الصالح، فيثور موسى في وجهه، ويعترض على قتله النفس الزكية الطاهرة قتلا عمدا، ويذكره رجل العجائب بعهده، فيعتذر موسى كرة أخرى وينوي ألا يسأل العبد الصالح شيئا. وفي المشهد الرابع يدخلان مدينة بخيلة لا تؤوي ضيفا ولا تطعم جائعا، فيجدان فيها جدارًا يوشك أن ينقض، فيقيمه الرجل الغريب دون مقابل مع أنهما كانا جائعين يستطعمان، فما لرجل الأسرار لا يطلب أجرا يأكلان به من أهل القرية البخلاؤ2؟   1 قارن بالكشاف 2/ 396. 2 قال ابن كثير في تفسيره 3/ 98 تأويلا لقوله تعالى على لسان موسى {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} : أي لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وبتدخل موسى مرة ثالثة في المراجعة والاستفسار أضاع آخر فرصة له في مصاحبة الرجل، وأنشأ يستمع في عجب شديد لتأويل العبد الصالح لمواقفه الغامضة بكل مفاجآتها وأسرارها. أما خرقه للسفينة فكان سببا لسلامتها وصيانتها لمساكين يعملون في البحر، إذ كان ملكهم في تلك الفترة ظالما يغتصب السفن الصالحة, فنجت هذه بعيبها من الاغتصاب. وأما قتله للغلام -مع أنه يقترف ما يوجب قتله شرعا- فكان رحمة بأبويه المؤمنين, إذ أعلم الله العبد الصالح أن هذا الغلام لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، فقد طبع كافرًا1، ولولا إطلاع الله عبده الصالح على حقيقة هذا الأمر الغيبي المحجب لما كان له ولا لسواه قتل نفس زكية بغير حق. وأما إقامته الجدار بلا مقابل فلم تكن خدمة لأهل القرية البخلاء، وإنما كانت فرصة لصيانة كنز تحت الجدار ليتيمين صغيرين خبأ لهما أبوهما ذاك الكنز ليستخرجاه من تحت الجدار متى بلغا أشدهما, فلما رآه البعد الصالح ينقض أقامه بإذن الله لئلا ينكشف أمره لأهل المدينة فينتزعوا ملكيته من أيدي الصغيرين اليتيمين. وبهذا التأويل لم يزعم العبد الصالح لنفسه علم الغيب، بل إلى الله حكمة ما صنع، واعترف بعجزه المطلق عن فعل أمر لم يأذن به الله، وكان رمزا للعلم الغيبي اللدني الذي يتمثل -بإرادة الله- في شخص رجل من الناس، ليس بالنبي المعروف ولا الرسول المشهور, فقد سكت حتى عن اسمه القرآن! 2.   1 انظر أحكام أهل الذمة "لابن القيم" بتحقيقنا 531، وقارن أيضا بشفاء العليل له أيضا 284. 2 ولكن المفسرين لم يسكتوا عن اسمه، فقد سموه "الخضر" وبنوا هذه التسمية على روايات تناقلها الناس جيلا فجيلا بعد أن ضخموا أحداثها. وللمستشرق فنسنك بحث طريف حول تضخيم قصة الخضر عند العامة Wensinck, Encycl. de l'Islam, II, 912. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ولعل القصة الثالثة عن ذي القرنين تبدو -في الظاهر- أضعف صلة بشئون الغيب من قصتي أصحاب الكهف والعبد الصالح. فإنها لا تعدو أن تكون وصفا لرحلات ثلاث إلى الشرق والغرب والوسط قام بها رجل يسمى ذا القرنين. لكن الجو الغامض الذي أحيط بهذه الرحلات، وتراءى غموضه كالمقصود في القرآن، يلوح بالمعاني الغيبية من وراء ستار: فقد بلغ ذو القرنين هذا مغرب الشمس في رحلته الأولى، ومشرقها في رحلته الثانية، والمنطقة المتوسطة "بين السدين" في رحلته الثالثة. وفي رحلته الغربية وجد الشمس تغرب في عين {حَمِئَةٍ} كثيرة الطين اللزج1، في موضع تكثر فيه المياه والأعشاب، وقد سكت القرآن عن تحديد تلك العين "الحمئة"، فألقانا الغموض المقصود في تجهيل شديد ربما كان يفوق سرية الأمور المسماة "بالغيبة". وفي رحلته الشرقية وجد الشمس تطلع على قوم لا ستر لهم دونها، فربما أفاد هذا أن القوم كانوا عراة، وربما أشار إلى أن أرضهم مكشوفة تطلع الشمس عليهم فيها بلا ساتر، وليس في النص ما يقطع بأسماء القوم ولا باسم الأرض التي كانوا فيها ينزلون. أما رحلته المتوسطة بين {السَّدَّيْنِ} فكل ما فيها يدعو إلى الرهبة الشديدة التي يفوق الشعور بها أحيانا شعور التهيب لدى مواجهة الغيب وأسراره: فالقرآن هنا يذكر موضعا بعينه يسميه {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} مثلما يذكر قوما بأعيانهم يسميهم {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} ويصفهم بالإفساد في الأرض2. وما نظن هذه   1 هذا التفسير إنما يصح على قراءة {حَمِئَةٍ} بالهمز، ولكن بعض قراء الأمصار قرءوا "حَامِيَة" بالياء أي: حارة، وأشار إمام المفسرين الطبري إلى صحة القراءتين، وعلل ذلك بقوله: "جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ في "عين حامية" ووصفها بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة, ويكون القارئ في {عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ووصفها بصفتها التي هي بها، وهي أنها ذات حمأة وطين". ثم يستعرض الطبري الأخبار الواردة بكلتا القراءتين. تفسير الطبري 16/ 10. 2 ولذلك لا نرى حاجة للرجوع إلى كتب التفسير لتعيين المراد بهذه الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الألوان من الغموض إلا مقصودة في هذا السياق، فإن حديث القرآن عن ذي القرنين لا يشبه -ولا ينبغي أن يشبه- حديث كتاب في السيرة عن الفتوحات التي أتمها فاتح عظيم، وإنما يرسم القرآن -في غضون هذه الرحلات الثلاث- ملامح إنسان شديد الصلة بالله، لم يكن سلطانه بقوته الشخصية بل مكن الله له في الأرض، وآتاه من كل شيء سببا، وهتف به أو ألهمه أو أوحى إله -كما يريد- في الملمات ليوجهه أفضل الوجهات، حتى قال له عند العين الحمئة: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} . وتبدو صلته بالله شديدة وثقى في قوله للقوم -عند بناء السد: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي} ثم قوله عند انتهائه من هذا البناء: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} 1. وهكذا اختيرت تلك القصص الثلاث في سورة "الكهف" لمعالجة شئون الغيب، وردها جميعا إلى الذي يحفها بالأسرار، ولا يميط عنها اللثام إلا بمقدار، ولا يأذن لأحد برؤيتها إلا من وراء ستار. وإذا صححنا الرواية التي تزعم أن أهل مكة بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة لالتماس أسئلة منهم تحرج محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأن أولئك الأحبار أغروا رسولي قريش بسؤال النبي الكريم "عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان لهم من حديث عجيب، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه"2، تجلى لنا في هذه السورة عمق الدرس القرآني الذي اتجه إلى المؤمنين ينهاهم عن الرجم بالغيب، ويحذرهم من   1 ومع ذلك خلط بعض جهلة المفسرين بين ذي القرنين المتدين المؤمن هذا والإسكندر المقدوني الوثني المشهور، وكان في خلطهم مادة للتعليق في أبحاث بعض المستشرقين. وانظر على سبيل المثال. Decourdemanche "j. A." La legende d'Alexander chez les Musulmans, dans la Revue de l'Histoire des Religious, VI 1992, 98. 2 وقارن بتفسير ابن كثير 3/ 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الجدل العقيم، ويصل قلوبهم بربهم علام الغيوب: فالموضوع الذي هدفت إليه السورة هو -بالمقام الأول- بناء العقيدة بناء سليما في ذات الله، وفي شئون الغيب الموكولة إلى علم الله. وفي السورة بعد ذلك ومضات سريعة تخللت بعض مقاطعها مصغرة للقيم المادية1، معرضة بفناء الدنيا وسرعة زوالها2، داعية إلى صبر الأنفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي, مؤكدة أن الاعتزاز الحقيقي إنما يكون بالإيمان والتقوى3، وأن الكافرين بلقاء ربهم هم الأخسرون أعمالا4. ولا ريب أن تخلل السورة بهذه الومضات السريعة يتناسق مع محورها الأساسي الذي رأيناه يدور حول بناء العقيدة, فلا بد في هذا البناء من تصحيح النظر إلى قيم الأشياء ومقاييس الحياة. ومع سورة "إبراهيم" ننتهي إلى الحلقة الأخيرة المختارة من سور المرحلة المكية الختامية, فيخيل إلينا أننا نواجه فيها تكرارا لحقائق شديدة الشبه بما عرفناه في تحليل السور المكية الماضية، ولا سيما في أواخر المرحلة الثانية، وأن عيوننا تقع فيها أيضا على مشاهد مكررة وكأنها ظلال المشاهد السابقات:   1 وقد صورت هذا أبلغ التصوير آيات الرجلين والجنتين، فقد قال الفقير المؤمن لصاحب الجنتين المغرور {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} . وانتهى الأمر بالجنة المثمرة المحفوفة بالنخل والزرع أن تهشمت وخوت على عروشها. انظر الكشاف 2/ 389. 2 كما في المثل المضروب للحياة الدنيا في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} الآيات وراجع تفسيرها في الكشاف 2/ 392. 3 وأوضح مثال لذلك في السورة قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآية، ففي هذا الخطاب الرباني أمر بمجالسة أهل الذكر وتعليمهم الخير، لأن دعوة الحق إنما تقوم على أمثالهم، "سواء أكانوا فقراء أم أغنياء وأقوياء أم ضعفاء" قارن بتفسير ابن كثير 3/ 80. 4 في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الآيات، يقول الطبري 16/ 28: "عني بقوله هذا كل عامل عمل يحسبه فيه مصيبا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فإن أبرز الحقائق التي تعالجها سورة "إبراهيم" وحدة الدعوة التي نادى بها رسل الله، وتنزيه الله عن كل شريك، وتذكير المشركين بالبعث والحساب، وعرض آلاء الرحمن التي يكفر بها الإنسان، وإن أبرز المشاهد التي رسمتها سورة "إبراهيم" مواقف المكذبين المعاندين للأنبياء، وصور المجرمين في جهنم والمتقين في الجنات، وسياط التبكيت والتأنيب تصب على الإنسان الظلوم الكفار الذي يتعامى عن صفحات الكون الجميلة وهي معروضة على الأنظار1. وإنها لنظرة عجلى لا يكتفي بمثلها إلا الذي يقرأ القرآن غافلا عن الأضواء الخاصة التي تتوهج في كل سورة, وعن الإيحاءات الخاصة التي يبثها في القلوب كل مقطع قرآني جديد. ولعل أهم ما امتازت به هذه السورة أن مظللة في جميع مقاطعها بشخصية النبي الصفي الذي سميت باسمه: شيخ الأنبياء إبراهيم. فمن خلال دعوته المباركة برزت وحدة الرسالة في جميع الأجيال, وفي ظلال إيمانه الراسخ نبتت فكرة التوحيد، وفي إطار من قلبه المنيب رسمت لوحات الكون الجميل, ثم صورت مواقف الشكر والجحود. وينبغي ألا يفوتنا أن إبراهيم إنما ذكر في وسط السورة أثناء الحديث عن نعم الله التي لا تحصى، وأن صورته فيها جسمت "نموذج" الصبار الشكور, الذي لا ينفك يبتهل إلى الله ويسبح بحمده بكرة وعشيا، ولكن هذه الصورة طبعت السياق كله طبعة واحدة وتركت في كل مقطع منه ظلا من إبراهيم الخليل. ولقد جاء في مطلع السورة ذكر موسى، ثم تلاه ذكر قوم نوح وعاد وثمود، إلا أن هذه الأسماء الضخمة -رغم تمهل السياق في عرض طائفة من الأحداث المرتبطة بها- لم يكن لها في محور السورة توجيه: فما تحدثت   1 انظر المسائل الكبرى في هذه السورة في تفسير الرازي 5/ 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الآيات عن موسى، وإخراجه قومه من الظلمات إلى النور، وتذكيره إياهم بنجاتهم من آل فرعون1، إلا ليكون رمزا لوحدة الرسل التي نادى بها إبراهيم، لذلك لم يلبث السياق أن انتقل إلى حقيقة الرسالة وحقيقة دعوتها إلى الاعتقاد بالله الواحد، على لسان نوح وعاد وثمود: ففي أزمنة مختلفة ومواضع متعددة جاء أولئك الرسل جميعا بأصول متماثلة بينة لا تخفى حقائقها على أولي القلوب والأبصار. وكل رسول من أولئك المصطفين الأخيار كان يثير انتباه قومه إلى شكهم المريب كلما تعاموا عن آيات الله في السموات والأرض, وكل رسول منهم كان يقرر بشريته ولا ينكرها قائلا لقومه المكابرين: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 2، وما كان فيهم إلا مواجه للطغيان، صبور على الاضطهاد، متوكل على الله، كأن كلا منهم صورة مكررة من أبيه إبراهيم: به يقتدي، وعلى آثاره يسير، وهكذا برزت وحدة الرسالة ونبتت فكرة التوحيد في ظلال من إيمان إبراهيم. ثم تقلب في السورة صفحات مضيئة من كتاب الكون الكبير: في الماء المنهمر من السماء، والثمر النابت من الأرض، والشمس بضيائها الوهاج، والقمر بنوره الفضي، وفي كل صفحة من تلك الصفحات نرى أبا الأنبياء إبراهيم قارئا يتدبر، خاشعا يتبتل، كأن دعاءه الضارع يتكرر كلما لهج لسان بحمد الله! وهكذا رسمت لوحات الكون الجميل في إطار من قلبه المنيب. ويريد الله في هذه السورة أن يمد ظلال "خليله" على هذه اللوحات مدا،   1 وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} الآيات، وانظر في الطبري المراد بقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} 13/ 122. 2 قارن بقول الزمخشري في تأويل الآية: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون: أنهم مثلهم في البشرية وحدها. فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعا منهم، واقتصروا على قولهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالنبوة لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم" الكشاف 2/ 296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فيصور دعاءه الخاشع صاعدا إليه ذاهبا في السماء، حين يسأله للبلد الحرام الأمن والسلام، ويرجوه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ويطمع في رضاه عن كل من تبع سبيله، ولا يستعجل لمن حاد عن الصراط عذاب الخزي والهوان, ويحمد الله على أن وهبه على الكبر إسماعيل وإسحاق، ويختم بابتهال ضارع أن يغفر الله له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب1. وينعكس، في مقابل هذه الصورة، "نموذج" آخر يجسد الإنسان الكافر الكنود الذي يتلو كتاب الكون بلسان جاحد، وينظر إلى آفاقه الجميلة ببصر حسير، فلا يبالي بشيء مما سخره الله له في السماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والنجم والشجر، واليل والنهار. وعلى أمثاله يلقي القرآن سياط التقريع والتأنيب تهز القلب وتلذع الوجدان وهو يقول: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 2. وإبراهيم, الذي عرضت من خلال شخصيته النبوية الكبرى تلك العقائد والتعاليم لم يك مجهولا في مكة: فجميع المكيين يعظمون إبراهيم, ولم يك مجهولا في المدينة فجميع يهود يثرب كانوا يقدسون الخليل, ولم تكن أخباره خافية على النصارى حيثما وجدوا فإن له في قلوبهم مكانة يغبطه عليها سائر النبيين: فإلقاء الأضواء على عقيدة التوحيد وعلى دعوة الرسل في إطار من شخص إبراهيم قد لون هذه السورة لونا يجمع على استحسانه أهل مكة وأهل التوحيد، وفتح باب الإيمان على مصراعيه أمام الحنفاء للدخول في دين الله أفواجا، وجاء في أواخر الوحي المكي إرهاصًا لأوائل السورة المدنية التي دأبت على تعظيم إبراهيم، وعلى تألف قلوب اليهود بمثل هذا التعظيم، وفي هذه الأضواء الخاصة برزت سورة "إبراهيم" بنمط فريد، في عرض فكرة التوحيد3.   1 قارن بتفسير ابن كثير 2/ 540. 2 قارن بالكشاف 2/ 303. 3 أضف أيضا إلى ما أحلنا عليه من كتب التفسير -لتأويل سورة إبراهيم- تفسير البيضاوي 485 والنسفي 2/ 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وعقب تحليلنا لهذه السورة -بعد سورتي الصافات والكهف- أشرفنا على نهاية الوحي في مكة، وبتنا نستشعر جوا جديد يكاد يجعل المرحلة المكية الثالثة مرحلة انتقالية تتوسط بسورها الطوال وحي مكة الذي تم نزوله ووحي المدينة الذي سيتعاقب على ما يجد من الوقائع بعد الهجرة, وربا فسرنا -في ضوء هذه المرحلة الانتقالية- كثرة الآيات والمقاطع التي التبست على المفسرين فظنوها مدنية واستثنوها من بعض السور المكية غافلين عن العامل الزمني الذي نعتقد نحن أنه فرض تلك المقاطع ذات الطابع المدني على سور طابعها مكي -مع أن السور برمتها مكية خالصة- وفقا لتمهيده الطريق بين مراحل الوحي المدني المقبل سريعا من وراء حجاب الغيب. ولقد امتازت سور المرحلة المكية الختامية بطولها وطول آياتها، وافتتاح طائفة منها ببعض الحروف المقطعة، وتوجيه الخطاب فيها إلى الناس جميعا لا إلى أهل مكة وحدهم، والتذكير بطاعة الله ورسوله تمهيدا لما سيفصل في المدينة من الفرائض والواجبات، والدعوة إلى الإحسان والعمل الصالح للفوز بالجنة والنجاة من النار، وتوضيح شئون الغيب المتعلقة بذات الله وصفاته، أو بالملائكة والجن، أو بالأنبياء والأولياء، أو بالمعجزات والكرامات، ورد الهداية والضلال إلى الله إلى جانب ما يتصرف به الإنسان في حدود حريته واختياره، وعرض قصص النبيين ولا سيما أئمتهم المعظمين كإبراهيم, وتصوير عقيدة التوحيد بأسلوب جديد. ولا ريب أننا أسهبنا الحديث عن السور المكية بمراحلها الثلاث، وكان مقصدنا من ذاك الإسهاب واضحا: هو تقصي أطوار التنزيل لتعيين السابق منها والمسبوق، وإبراز الملامح الصريحة التي تعيننا على ترجيح الإطار الزمني المتنزلة فيه طائفة من السور والآيات. وقد أشرنا آنفا إلى صعوبة الجزم في تصوير المراحل المكية، ولا سيما في بدء الوحي, وإلى سهولته في تعيين المراحل المدنية حتى آخر ما نزل من الوحي، وعللنا ذلك بانتشار الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وتيسر أدوات النسخ والكتابة والنقل في المدينة. وإذا أغفلنا النزر القليل الذي اختلفت في مدنيته، أو تعددت الروايات في سبقه وتأخره، وسعنا أن نتفق مع المحققين من المفسرين على أن المرحلة المدنية الأولى افتتحت بالبقرة، ثم تلتها الآنفال، ثم آل عمران، فالأحزاب، فالممتحنة، فالنساء، فالحديد، وأن المرحلة المدنية المتوسطة بدأت بسورة محمد، ثم تلتها الطلاق، فالحشر، فالنور, فالمنافقون، فالمجادلة، فالحجرات، وأن المرحلة الثالثة والنهائية في المدينة استهلت بالتحريم, ثم تلتها الجمعة، فالمائدة، فالتوبة، فالنصر. ولعل القارئ يتوقع -رغم طول هذا الفصل بين يديه -أن نختار الآن أيضا من كل زمرة من هذه الزمر المدنية الثلاث سورة واحدة نحللها على نحو ما صنعنا في المراحل المكيات الثلاث، فنستغني بسورة "البقرة" عن الزمرة المدنية الأولى، وبـ"النور" عن الثانية، وبـ"المائدة" عن الثالثة الختامية. ولكننا نؤكد لكل من قرأ هذا الفصل بعناية -وما نظننا بحاجة إلى التأكيد- أننا حتى لو اكتفينا بعرض الخطوط التشريعية الكبرى في هاتيك السور "النموذجية" الثلاث، لطال بنا الحديث، وغلبت على أسلوبنا عبارات الأصوليين والفقهاء، وخرجنا بكتابنا عن الغاية الأدبية التي من أجلها ألفناه: فإن الحقائق الشرعية في العبادات والمعاملات, والحلال والحرام, والأحوال الشخصية والقوانين الدولية, وشئون السياسة والاقتصاد, وأحوال السلم والحرب، ووقائع المعارك والغزوات، تتردد في جل هذه السور المدنية بنسب متفاوتة, وأشكال متغايرة تتجدد باستمرار, بل بأشكال تبدو جدتها أحيانا ناسخة لما قبلها، أو مبدلة لحكمه1، أو مفصلة على الأقل لشيء من إجماله، ومقيدة لبعض إطلاقه، ومخصصة لبعض عمومه. لذلك رأينا أن   1 وهذا ما يلجئنا إلى عقد فصل مستقل لما نسميه علم الناسخ والمنسوخ، ومن خلاله يمكن فهم هذه الأشكال المتجددة باستمرار في أحكام بعض المقاطع القرآنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الإشارة إلى هذه القضايا المتشابكة في التنزيل المدني تغني عن تفصيل الجزئيات ولو كانت هذه الجزئيات لا تعدو الخطوط العريضة الكبرى. وبحسبنا -إن غضضنا النظر عن تعاقب المراحل المدنية ابتداء ووسطا وختاما- أن نومئ فقط إلى رءوس المسائل التي وردت في سورة واحدة من المرحلة المدنية الأولى هي سورة الأنفال، أو سورة بدر الكبرى كما كان يسميها عبد الله بن عباس1. افتتحت هذه السورة بالحديث عن الآنفال، فالمعركة قد انتهت، والنصر قد تحقق، وبدأ المسلمون يختلفون في الغنائم والأسلاب، ثم رسمت صورة فريق من المؤمنين أقبلوا على المعركة كارهين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، ثم صورت استغاثة المؤمنين بربهم، ومده لهم بالملائكة والنعاس والماء يذهب عنهم رجس الشيطان، ثم أمست عبارتها صاخبة بما توالى فيها من الأوامر والأحكام العسكرية المتعلقة بالفرار يوم الزحف، ويمتن الله -بعد ذلك- على المؤمنين بالنصر، فما قتلوا عدوهم ولكن الله قتلهم، وما النصر إلا من عند الله، وتتعاقب التعاليم الدينية والأخلاقية للمؤمنين بعد المعركة، فليطيعوا الله والرسول، وليحذروا الفتن العامة التي يختلط فيها الفاسد بالصالح, وليحذورا خيانة الله وخيانة أماناتهم وهم يعلمون. وتستعرض السورة -في غضون هذه التعاليم- صورا من مكر الكافرين وعنادهم، وتقرر مبادئ عامة في اضمحلال القوى الكافرة واستحالة أموالها حسرات عليها. ثم تنذر الكافرين بقتالهم لحماية العقيدة ونشر دين الله, وتتحدث عن الغنائم وطرقة توزيعها ومصارفها، وتصور جانبا من معركة بدر وتفصل وقائعها حين كان المؤمنون بالعدوة الدنيا والمشركون بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم، وترتد إلى المؤمنين, كرة أخرى تحذرهم من الاغترار بالنصر، ومن السير للقتال بطرا ورياء، وتعرض عليهم صورة الكافرين على   1 قارن بتفسير الرازي 4/ 436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فراش الموت، ثم تدعو إلى إعداد القوة لحماية السلم, وترغب صراحة في الجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء، ولكنها تظل تحرض المؤمنين على القتال، وتثير فيهم القوة المعنوية، وتجعل أحدهم في حال الضعف كفوءا لاثنين من المشركين وفي حال القوة كفؤا لعشرة من الرجال، وتعود إلى بدر فتعتب على النبي وصحبه لأخذهم الفداء من الأسرى وإيثارهم عرض الدنيا على الآخرة، وتقرر في الختام أنواع الولاية الأربعة وترتب على هذه التصنيفات بعض الحقوق والواجبات1. وتظل الأدة المفضلة لعرض هذه التشريعات هي التصوير، فما ألقيت تفصيلاتها جافة كما تلقى أحكام القانون. وهكذا كان تنوع الموضوعات هو الباعث الأهم على تنوع الأسلوب القرآني، فما هما بالأسلوبين المتعارضين اللذين لا تربط بينهما صلة، وإنما هو أسلوب واحد يشتد أو يلين، ويفصل أو يجمل تبعا لحال المخاطبين. وهذا سر من أسرار الإعجاز التي يمتاز بها القرآن الكريم.   راجع في تفسير هذه السورة الطبري 9/ 114 والنسفي 2/ 71 والبيضاوي 357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الفصل الرابع: لمحة خاطفة عن فواتح السور من خصائص السور المكية -كما رأينا- حروف التهجي يفتتح الله بها مواضع من كتابه. وأهمية هذه الفواتح تحملنا على دراستها في بحث خاص نحاول أن نصل فيه إلى الحكمة من وجودها. إن في القرآن صيغا مختلفة من هذه الفواتح، فمنها البسيط المؤلف من حرف واحد، وذلك في سور ثلاث: صاد وقاف والقلم "س 38، 50، 68" إذ تفتتح الأولى بحرف ص, والثانية بحرف ق, والثالثة بحرف ن, ومن هذه الفواتح عشر مؤلفة من حرفين سبع منها متماثلة تسمى "الحواميم" لأن أوائل السور المفتتحة بها هي {حم} وذلك ابتداء من سورة "40" حتى "46"1 والسورة الثانية والأربعون منها خاصة مضموم إلى حم فيها {عسق} وتتمة العشر {طه} في السورة العشرين، {طس} ، في السورة السابعة والعشرين {يس} في السورة الثامنة والثلاثين. أما الفواتح المؤلفة من ثلاثة أحراف فيجدها القارئ في ثلاث عشرة سورة, ست منها على هذا التركيب {الم} وهي في السور "2، 3، 29، 30، 31، 32"2.وخمس منها بلفظ {الر} في مستهل كل من سور يونس وهود ويوسف وإبراهيم   1 سورة فاطر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف. 2 البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والحجر "س10، 11، 12, 14، 15" واثنتان منها تأليفهما هكذا {طسم} في السورتين السادسة والعشرين والثامنة والعشرين1. بقي أن ثمة سورتين مفتتحتين بأربعة أحرف، إحداهما سورة الأعراف التي أولها {المص} والأخرى سورة الرعد التي في مستهلها {المر} . وتكون سورة مريم أخيرا السورة الوحيدة المفتتحة بخمسة حروف مقطعة {كهيعص} . يتضح من هذا العرض المفصل أن مجموعة الفواتح القرآنية تسع وعشرون، وأنها على ثلاثة عشر شكلا، وأن أكثر الأحرف ورودا فيها الألف واللام، ثم الميم ثم الحاء، ثم الراء ثم السين، ثم الطاء، ثم الصاد، ثم الهاء والياء، والعين والقاف، وأخيرًا الكاف والنون، وجميع هذه الحروف الواردة في الفواتح من غير تكرار يساوي أربعة عشر، وهي نصف الحروف الهجائية، وبذلك يستأنس المفسرون القائلون: إن فواتح السور إنما ذكرت في القرآن لتدل على أن هذا الكتاب الكريم مؤلف من حروف التهجي المعروفة فجاء بعضها مقطعا منفردا، وجاء تمامها مؤلفا مجتمعا, ليتبين للعرب أن القرآن نزل بالحروف التي يعرفونها فيكون ذلك تقريعا لهم ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله2. وقد أسهب في بيان هذا الرأي من المفسرين الزمخشري, وتبعه اليضاوي3، كما انتصر لذلك ابن تيمية4، وتلميذه الحافظ المزي5.   1 الشعراء. القصص. 2 الكشاف 1/ 16. 3 هو الإمام المفسر ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي صاحب التفسير المشهور المتوفى سنة 685هـ. وسيرد ذكره في مبحث التفسير. 4 هو الإمام المجدد تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي، صاحب التآليف الكثيرة المفيدة. توفي سنة 728. وقد وضع المستشرق الفرنسي هنري لاوست كتابا قيما في سيرة ابن تيمية وعقائده الاجتماعية والسياسية. Henri Laoust, Essai sur les doctrines socilales et politiques d' Ibn Taimiya, le caire 1939. 5 هو يوسف بن عبد الرحمن، أبو الحجاج، وهو مشهور بالمزي "بكسر الميم وتشديد الزاي المكسورة" نسبة إلى المزة قرية بدمشق، توفي سنة 742 بداء الحديث الأشرفية من دمشق "الرسالة المستطرفة، ص126". وفيما يتعلق بانتصار ابن تيمية والمزي لهذا الرأي انظر تفسير ابن كثير 1/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ولاحظ أصحاب هذا الرأي -وهم في أوج حماستهم لفكرتهم هذه- أن تحدي القرآن للعرب أن يأتوا بمثله يزداد وضوحا، ويكتسب قوة، بظاهرة غريبة حقا نعجب لدراستهم لها والتفاتهم إليها. لم يكتف القرآن باشتماله على فواتح مختلفة يبلغ تعدادها تمام حروف الهجاء، ولا بتأليفه تلك الفواتح من نصف الحروف الهجائية, بل حوى فوق ذلك من كل جنس من الحروف نصفه، فمن حروف الحلق1، الحاء والعين والهاء، ومن المهموسة2 السين والحاء والكاف والصاد والهاء، ومن المجهورة الهمزة والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون، ومن الحرفين الشفهيين الميم، ومن القلقلة القاف والطاء.. إلخ3، ثم إن هذه الحروف ذكرت تارة مفردة، وتارة حرفين حرفين، وطورا ثلاثة ثلاثة، وأحيانا أربعة وخمسة، لأن تراكيب الكلام على هذا النمط ولا زيادة على الخمسة. وإذا كنا اليوم -بعقلية القرن العشرين- لا نرى في هذا الأمر أكثر من مصادفة فما كان ليخطر على بال السلف الصالح إلا أن الفواتح نظمت في القرآن على هذا النمط منذ الأزل, لتحتوي على كل ما من شأنه إعجاز البشر عن الإيتان بمثل هذا الكتاب العزيز ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وإن الاعتقاد بأزلية هذه الأحرف قد أحاطها بجو من التورع عن تفسيرها والتخوف من إبداء رأي صريح فيها، فهي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلى الله، وهي -كما قال الشعبي: "سر هذا القرآن4". وفي هذا المعنى قول علي بن أبي طالب: "إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي" وقول أبي بكر الصديق: "في كل كتاب سر، وسره في القرآن أوائل السور"، ونقل أهل الأثر عن ابن مسعود والخلفاء الراشدين   1 أحرف الحلق ستة: الهمزة ولهاء والعين والحاء والغين والخاء. 2 المهموسة عشرة يجمعها قولك: "فحثه شخص سكت" والباقية مجهورة. 3 وقد أطال الزمخشري في بيان ذلك "الكشاف 1/ 17" وانظر البرهان 1/ 165-166. 4 الإتقان 2/ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 "أن هذه الحروف علم مستور وسر محجوب استأثر الله به"1. حتى الذين خاضوا في معنى هذه الفواتح لم يدلوا فيها برأي قاطع، بل شرحوا وجهة نظرهم فيها مفوضين تأويلها الحقيقي إلى الله. وأزلية هذه الأحرف ما انفكت -على سائر الأقوال- تحيطها بالسرية، وسريتها تحيطها بالتفسيرات الباطنية, وتفسيراتها الباطنية تخلع عليها ثوبا من الغموض لا داعي إليه, ولا معول عليه. وأدخل تلك الآراء في معنى الغموض قول من عد هذه الحروف على حساب "الجمل" ليستنبط منها مدة بقاء الأمة الإسلامية، أو التنبيه على كرامة شخص أو شيعة معينة. فها هو ذا السهيلي يقول: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى بقاء هذه الأمة، وها هو ذا الخويبي2 يروي أن بعض الأئمة استخرج من قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} أن بيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قال3. ويروي العز بن عبد السلام أن عليا رضي الله عنه استخرج واقعة معاوية من {حم عسق} 4 ورأى بعض الشيعة في مجموعة هذه الفواتح إذا حذف المكرر فيها ما يفيد أن "صراط علي حق نمسكه" فيرد عليهم بعض السنين الظرفاء بخطاب مستنبط من الفواتح نفسها بحروفها ذاتها غير المكررة "صح طريقك مع السنة"5. وهذا النوع من الاستخراج الحسابي يعرف باسم "عد أبي جاد" وقد شدد العلماء في إنكاره والزجر عنه، وابن حجر العسقلاني6   1 انطر تفسير المنار 8/ 302. 2 كذا في الإتقان 2/ 16 ولعله أن يكون "الخويي" بضم الخاء وفتح الواو وتشديد الياء، وهو الفقيه المناظر أحمد بن خليل بن سعادة، صاحب الإمام فخر الدين الرازي، توفي سنة 637 "شذرات الذهب 5/ 183". 3 الإتقان 2/ 16. 4 الإتقان 2/ 16. 5 انظر تفسير الألوسي 1/ 104. 6 ابن حجر العسقلاني هو أحمد بن علي بن محمد بن علي، شهاب الدين أبو الفضل، من أئمة الحديث وحفاظه، وقد سبقت ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 يعتبره "باطلا لا يجوز الاعتماد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه الزجر عن عد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة"1. ولا ريب أن للصوفية في مجال هذه التفسيرات الباطنية آراء أبعد شطحا, وأغرب لفظا، وأغمض معنى. ولا نرى أدل على ذلك من قول الشيخ محي الدين بن عربي "في الفتوحات المكية" ما خلاصته2 "اعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة، فجعلها الله تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة, وهو كمال الصورة، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ، والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك, وهو علة وجوده وهو سورة آل عمران {الم، اللَّهُ} ولولا ذلك لما ثبتت الثمانية والعشرون، وجملتها -على تكرار الحروف- ثمانية وسبعون حرفا، فالثمانية حقيقة البضع، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون" , وهذه الحروف ثمانية وسبعون، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها ... إلخ"، إلى أن يقول في موضع آخر: "ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب، منها موصول ومنها مقطوع، ومنها منفرد ومثنى ومجموع، ثم نبه أن في كل وصل قطعا، وليس في كل قطع وصل، فكل وصل يدل على فصل, وليس كل فصل يدل على وصل، والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع، والفصل وحده في عين الفرق، فما أفرده من هذا فإشارة إلى فناء رسم العبد أزلا، وما أثبته فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا، وما جمعه فإشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى، والإفراد للبحر الأزلي، والجمع للبحر الأبدي، والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني، والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيدي، والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد، واللام بينهما واسطة ليكون   1 الإتقان 2/ 16. 2 نقلا عن تفسير الألوسي 1/ 101. وابن عربي هو محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي أبو بكر، الملقب بالشيخ الأكبر له نحو أربعمائة كتاب أشهرها "الفتوحات المكية" توفي سنة 638 "انظر فوات الوفيات 2/ 241". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بينهما رابطة ... إلخ"1. هذه الشطحات الصوفية تنبئ عن رأي أصحابها خاصة، لأنها تعتمد على أذواقهم ومواجيدهم، وتستمد سريتها من مصطلحاتهم وأسرارهم، فلا يمكن إذن إن تعطي صورة صادقة عن التفسير الإسلامي المعتمد لفواتح السور. وفي دائرة هذا اللبس والغموض قال قوم لا يستخدمون اصطلاحات المتصوفين، ولا يدينون بعد أبي جاد ولا سواه من الحاسبين: إن هذه الفواتح حروف مقطعة, كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، أو يكتفي به عن كلمة تؤلف مع سواها جملا يتصل معناها بما بعدها أو يشير إلى الغرض من السورة المفتتحة بها. من ذلك قول ابن عباس في {كهيعص} : الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق2، وقوله في {الر} : أنا الله أرى3، وفي {المص} : أنا الله أفصل4، ورأى من ذهب إلى أن {طسم} تعني طور سيناء وموسى، لأن السورتين اللتين تفتتحان بهذه الحروف تقصان خبر صاحب التوراة عليه السلام في طور سيناء5. ولا يخفى على أحد ما في هذه الآراء كلها من التخرصات والظنون: فقد قيل في كل مما ذكرنا أقوال مختلفة يذهب فيها الباحثون مذاهب شتى. روي عن ابن عباس نفسه في {كهعيص} : كاف هاد أمين عالم صادق، وروي   1 عن تفسير الألوسي 1/ 102. 2 الإتقان 2/ 13. 3 البرهان 1/ 174. 4 انظر تفسير الطبري 4/ 177. 5 وقد أخذ بهذا الاحتمال المستشرق بوير. انظر: Bauer, uber die Amordung der Suren und uber di geheimnisvollen Buchstaben in Qoran, in "Zeitschrift der Deutschen Morgenlandischen gesellschaft". LXXV, Leipzig, 1921p. 19. ومن ذلك أن بوير يرى أيضا: "ibid., p. 20" أن {حم} تعني: جهنم، لأن الحاء تلتبس مع الجيم في الرسم العربي! وهم إذ يورد هذه الاحتمالات يعترف بأنها تخرصات وظنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 عنه: الكاف من الملك, والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور، وروي عنه فيها أيضا: كبير هاد أمين عزيز صادق1. وقال سواه في هذه الفاتحة ذاتها أقولا تشبه أقواله المتعددة تارة، وتخالفها في زيادة ونقص تارة أخرى. وحكى الكرماني2 "في عجائبه" أن الضحاك يرى أن معنى {الر} : أنا الله أعلم وأرفع3، على حين يضم إليها ابن عباس حم ون فتصير في رأيه حروف {الرحمن} مفرقة على سور مختلفة4. أما {المص} فتارة يروي أن معناها: أنا الله الصادق، وتارة تدل على اسم الله "المصور"، وأحيانا تومئ إلى ثلاثة أسماء مختلفة, فالألف من الله، والميم من الرحمن، والصاد من الصمد5. وغرب من هذا كله أن مستشرقا كبيرا كشبرنجر "Sprenger" اقترح حين لم يشف غليله ما قيل في {طسم} أن يعكس هذه الصيغة ويرى فيها الأحرف البارزة الغالبة في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون} فالطاء هي الحرف البارز في {الْمُطَهَّرُون} والسين والميم أقوى ما في {يَمَسُّهُ} . ويذكر المستشرق بلاشير في كتابه "المدخل إلى دراسة القرآن" أن المستشرق لوث Loth على حذره قد تابع شبرنجر على رأيه العقيم6. ومن المؤكد أن مثل هذه التخرصات في تفسير أوائل السور لا تتناهى ولا تقف عند حد، وما هي إلا تأويلات شخصية مردها هوى كل مفسر وميله.   1 انظر هذه الأقوال المختلفة في "الإتقان 2/ 14" وتعقيب المستشرق شفالي عليها في Geschichte des Qorans, II, 71. 2 هو أبو القاسم برهان الدين محمود بن حمزة بن نصر الكرماني الشافعي، ويلقب تاج القراء، توفي بعد سنة 500هـ "انظر ترجمته في بغية الوعاة ص113". 3 الإتقان 2/ 13. 4 تفسير الطبري 11/ 57 "وانظر الإتقان 2/ 13". 5 انظر هذه الأقوال في الإتقان 2/ 14. 6 انظر: Loth "O", Tabari's Korans commentar, in "Zeitschrift der Deutschen ... etc" XXXV, p. 609"cf, Balch Intro, Cro,.p 148, note 200". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فلماذا تكون القاف مثلا الحرف الأول من اسم الله القاهرة، لا من اسمه القدوس أو القدير أو القوي؟ ولماذ تدل العين على العليم لا على العزيز، والنون على النور لا على الناصر، والصاد على الصادق لا على الصمد؟ ومن أين لنا أن {الم} هي الأحرف البارزة في "الرحمن" لا في "الرحيم" ولا في قولهم المشهور "اللهم"1؟ وقال قوم -من غير أن يلجئوا في الفواتح إلى أخذ كل حرف منها من اسم من أسماء الله: إنها برمتها وعلى اختلاف صيغها اسم الله الأعظم2، عبر عنه تعبيرات مختلفة تباين ما عهدناه في تأليف كلامنا, وقد نقل هذا الرأي ابن عطية3، وقريب من هذا الاتجاه الرأي القائل: إن أوائل السور قسم أقسم الله فيه بنفسه4، لأن كل فاتحة منه اسم من أسماء الله، ولا يبعد عن هذا التأويل اعتبار هذه الحروف أسماء علمية للقرآن بوجه عام، أو لبعض سور القرآن المفتتحة بها بوجه خاص5. لكن أغرب ما في هذا الباب، وأبعده عن الحق والصواب، ما ذهب إليه المستشرق الألماني نولدكه "Noldeke" في رأيه الأول الذي عدل عنه فيما بعد من الحكم بأن أوائل السور دخيلة على نص القرآن: ففي الطبعة الأولى لكتابه عن تاريخ القرآن بالاشتراك مع شفالي "Schwally" تظهر -لأول مرة في تاريخ الدراسات القرآنية- نظرية لا ترى في أوائل السور إلا حروفا أولى   1 ومثل هذا الاستغراب يبديه القاضي الباقلاني من نظائر هذه التأويلات الشخصية التعسفية "انظر تفسير الرازي 4/ 177" وكيف لا نستغرب -مع القاضي الباقلاني- ما قيل من أن {طه} مثلا معناه "يا بدر" لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة، فذلك أربع عشرة إشارة إلى البدر لأنه يتم فيها "الإتقان 2/ 18"!؟ 2 تفسير ابن كثير 1/ 36 "وانظر الإتقان 2/ 15". 3 كما في الإتقان 2/ 152 وابن عطية هو الإمام عبد الحق بن غالب بن عبد الرءوف، وله تفسير يسمى "المحرر الجيز" منه مخطوطة في دار الكتب بالقاهرة برقم 168 تفسير. وقد توفي ابن عطية بمدينة لورقة سنة 546. 4 الإتقان 2/ 15. 5 انظر تفسير الطبري 1/ 67 وتفسير ابن كثير 1/ 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أو أخيرة مأخوذة من أسماء بعض الصحابة الذين كانت عندهم نسخ من سور قرآنية معينة، فالسين من سعد بن أبي وقاص، والميم من المغيرة, والنون من عثمان بن عفان, والهاء من أبي هريرة وهكذا1، ويبدو أن نولدكه شعر بخطأ نظريته فرجع عنها، وأن شفالي أهملها وأغفل ذكرها فيما بعد في الطبعة الثانية، لكن المتشرقين بهل Buhl 2 وهرشفيلد Hirschfeld3 وقد تحمسا لهما من جديد وتبنياها، غافلين عن مدى بعدها عن المنطق السليم. وحسبنا أن المستشرق بلاشير يظهر تفاوت هذه النظرية بما لا يدع مجالا لتقبلها واحترامها. فهو يستبعد مع لوث Loth ومع بوير Bauer من بعده أن يدخل المؤمنون الذين ذكرت أسماؤهم آنفا -وهم من هم ورعا وتقى- عناصر غير قرآنية في الكتاب المنزل الذي لا يزيد عليه ما ليس منه إلا ضعيف الإيمان, قليل اليقين. ويرى بلاشير فوق ذلك: "أنه ليس من المعقول بحال من الأحوال أن يحتفظ أصحاب المصاحف المختلفة في نسخهم ذاتها بالحروف الأولى من أسماء معاصريهم، إن علموا أنه لا يقصد بها إلا ذلك. ويضاف إلى هذه الملاحظة القيمة أننا لا نكاد نجد مسوغا لحرص أبي أو علي أو ابن مسعود على أن يحتفظوا في مصاحفهم بالحروف الأولى من أسماء أشخاض كانوا ينافسونهم في استنساخ القرآن وجمعه"4. وينتهي الأستاذ بلاشير إلى ضرورة الرجوع إلى النظرية الإسلامية نفسها، باستخراج مختلف الآراء وتمحيصها ومقابلة بعضها ببعض، على أنه تعمد إغفال بعض الأقوال التي لا تزيد في نظره على لغو وعبث، وأعلن بوضوح "أن المسلمين الأتقياء الذين كانوا يرون من العبث كل محاولة لاختراق أسرار هذه   1 Geschichte des qorans, Iere ed,. p. 215. 2 Cf. Blach., Intro. cor., p. 148. Hirschfeld, New Rescearches into the composition and Exegesis of the Qoran, Asiatic Monographs, t, III: London 1902 p. 142. 4 le coran, introduction, p. 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الفواتح القرآنية، أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أنهم وحدهم العقلاء الحكماء"1. وعندي أن ثمة قوما لا يقلون عن هؤلاء تعقلا وحكمة، قوما أحبوا أن يدخلوا البيوت من أبوابها وأن يكونوا أصرح رأيا وأوضح تفسيرا في بيان الغرض من أوائل السور: وقد مرت فكرتهم بأطوار ثلاثة حتى استحالت رأيا نضيجا عميقا. لاحظوا أن بعض السور القرآنية تفتتح بهذه الحروف كما تفتتح القصائد بلا وبل فلم يزيدوا في بادئ الأمر على أن يسموا هذه الحروف فواتح، وأن يعتبروها -في الواقع نفسه- مجرد فواتح وضعها الله لقرآنه، وله أن يضع ما يشاء، كما وضع العرب فواتح لقصائدهم، وقد قال بهذا مجاهد من كبار التابعين2. وانتقلت هذه الفكرة إلى مجال أوضح وأوسع حين أصبحت هذه الفواتح في نظر بعضهم تنبيهات أو أدوات تنبيه "لم تستعمل فيها الكلمات المشهورة كألا وأما الاستفتاحيتين لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام, فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ في قرع السمع3. والخويبي 4 الذي يقرر هذا المعنى يجعل التنبيه للنبي الذي يجوز "أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كونه صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولا، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله الم والر وحم ليسمع النبي صوت جبريل، فيقبل عليه ويصغي إليه"5. لكن الإمام السيد رشيد رضا صاحب تفسير المنار المشهور يستبعد جعل التنبيه للنبي لأنه عليه الصلاة والسلام "كانت يتنبه وتغلب الروحانية على طبعه الشريف   1 Id. ibid., 149 2 الإتقان 2/ 15. 3 الإتقان2/ 17. 4 كذا في الإتقان 2/ 17 وفي تفسير المنار "8/ 302" نقلا عن "شرح الإحياء" أن قائل هذا هو الحربي، وقد سبق أن ذكرنا احتمال كونه "الخويي" والتصحيف في مثل هذا كثير. 5 الإتقان 2/ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بمجرد نزول الروح الأمين عليه ودنوه منه، كما يعلم مما ورد في نزول الوحي من الأحاديث الصحيحة، ولا يظهر فيه وجه تخصيص بعض السور بالتنبيه"1. ويرى السيد رشيد بعد ذلك "أن التنبيه إنما كان أولا وبالذات للمشركين في مكة ثم لأهل الكتاب في المدينة". ولم يكن يعلم بادئ الامر أن له سلفا في هذا التأويل، ثم وجده في القول الثاني عشر من التفسير الكبير للإمام الرازي الذي ينقل عن ابن روق2 وقطرب3، "أن الكفار لما قالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون سببا لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن فأنزل الله عليهم هذه الحروف: فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن، فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم"4، وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة عابرة الزركشي في البرهان5 والسيوطي في الإتقان6 وكل من ابن جرير7 وابن كثير8 في تفسيريهما. ويبقى السيد رشيد رضا في نظرنا خير من أوضح الغرض من افتتاح بعض السور القرآنية بهذه الحروف المقطعة. ونحن لذلك نقول معه مستعيرين عباراته بنصها: "من حسن البيان وبلاغة التعبير، التي غايتها إفهام المراد مع الإقناع والتأثير، أن ينبه المتكلم المخاطب إلى مهمات كلامه والمقاصد الأولى بها،   1 تفسير المنار 8/ 303. 2 هو محمد بن الحسن بن عبد الله بن روق الراسبي الروقي المحدث. توفي سنة 168. 3 قطرب هو محمد بن المستنير، من علماء اللغة المشهورين، كان على مذهب أهل البصرة، توفي سنة 206. 4 تفسير المنار 8/ 302. 5 البرهان 1/ 175. 6 الإتقان 2/ 17. 7 تفسير الطبري 1/ 69. 8 تفسير ابن كثير 1/ 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها، ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها. وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح، فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان، ويجب أن يكون الإمام المقتدى، كما أنه هو الإمام في الإصلاح والهدى؟ ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صحية التخويف والزجر، أو غنة الاسترحام والعطف، أو رنة النعي وإثارة الحزن، أو نغمة التشويق والشجو، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع، أو صخب التهويش وقت الجدل. ومنه الاستعانة بالإشارات وتصوير المعاني بالحركات، ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها..إلخ"1. وإن انطباق هذه الحكمة على الواقع النفسي لمن كان القرآن موجها إليهم حين نزول الوحي، لا يزيدنا إلا استمساكا بهذا الرأي. ولأمر ما افتتحت جميع السور التي في أولها حروف مقطعة بذكر الكتاب أو معان تتعلق بالوحي والنبوة2. ومن المعلوم أن هذه السور كلها مكية إلا البقرة وآل عمران. فأما المكية فلدعوة المشركين إلى إثبات النبوة والوحي، وأما الزهراوان المدنيتان فلمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن3. وكانت تلك الفواتح كفيلة بتنبيه هؤلاء وأولئك إلى ما كان يلقى عليهم حتى لا يفوتهم شيء. وما تنفك هذه الفواتح من عوامل الاستغراب، ولا يخلق الاستغراب إلا الاهتمام، ولا يثير الاهتمام إلا التنبيه، ولن ينبه الناس ويقرع أسماعهم صوت أحل وقعا من هذه الحروف المقطعة الأزلية التي همستها السماء في أذن الأرض!   1 تفسير المنار 8/ 299. 2 وهذا ينطبق حتى على سور مريم, والعنكبوت، والروم، ون، لأنها -وإن لم تفتتح بذكر الكتاب- قد اشتملت على معان تتعلق بإثبات الوحي والنبوة. وانظر تفصيل ذلك في تفسير المنار 8/ 296-298. وقد نبه إلى ذلك الإمام الزركشي في "البرهان 1/ 170" فقال: "واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذ الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} [سورة البقرة: 1، 2] , وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم، فيسأل عن ذلك". 3 ويزداد هذا الرأي وضوحا إذا سلمنا بأن الزهراوين كانتا من أولائل السور نزولا في المدينة كما هو المشهور, وبنزولهما مفتتحتين بهذه الحروف المقطعة تمت الحكمة الإلهية من تنبيه اليهود إلى الدعوة الجدية وإثارة اهتمامهم بها، فلم يعد في استمرار الافتتاح بتلك الحروف بعد الزهراوين حكمة ظاهرة باهرة، ولذلك نزل لوحي بعدهما خاليا من تلك الفواتح، فلا ضرورة للتسليم بصحة الاعتراض الذي وجهه ابن كثير في تفسير "1/ 37-38" إلى هذا القول بسب مدنية البقرة وآل عمران وكونهما ليستا خطابا للمشركين: لأن الحكمة من تخصيص الزهراوين بهذه الفواتح تكون -على ما بيناه- بالغة دامغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء نبهنا في بحث سابق على أن الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن لا يمكن أن يراد بها القراءات السبع المشهورة, وعللنا ذلك في موضعه، ودعانا إلى هذا التنبيه ما نعلمه من توهم الكثيرين من القدامى والمحدثين أن هذه القراءات هي هاتيك الأحرف. قال أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز": "ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث: هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة, وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل"1. ويقع أكبر قسط من اللوم في هذا الإيهام على عاتق الإمام الكبير أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس المشهور "بابن مجاهد"2، الذي قام على رأس الثلاثمائة للهجرة في بغداد بجمع سبع3 قراءات لسبع من أئمة الحرمين والعراقين والشام اشتهروا بالثقة والأمانة والضبط وملازمة القراءة، وجاء جمعه لها محض مصادفة واتفاق، إذ كان في أئمة القراء من هم أجل منهم قدرًا،   1 الإتقان 1/ 138 "التنبيه الثالث من النوع الثاني والعشرين" وانظر الزرقاني على موطأ مالك 1/ 134. 2 كان شيخ القراء في بغدد في زمانه، توفي سنة 324 "انظر طبقات القراء 1/ 39؛ تاريخ بغداد 5/ 144". 3 البرهان 1/ 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وكان عددهم لا يستهان به1، فإذا أبو العباس بن عمار يلوم ابن مجاهد ويقسو عليه في تعبيره فيقول: "لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة! "2. وعبارة "القراءات السبع" لم تكن قد عرفت في الأمصار الإسلامية حين بدأ العلماء يؤلفون في القراءات، والسابقون منهم كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي جعفر الطبري، وأبي حاتم السجستاني، ذكروا في مصنفاتهم أضعاف تلك القراءات، وإنما بدأت هذه العبارة تشتهر على رأس المائتين بإقبال الناس في الأمصار الإسلامية على قراءة بعض الأئمة دون بعض، فاشتهرت في مكة قراءة عبد الله بن كثير الداري3 "المتوفى سنة 120" وقد لقي من الصحابة أنس بن مالك وعبد الله بن الزبير وأبا أيوب الأنصاري، وفي المدينة قراءة نافع4 بن عبد الرحمن بن أبي نعيم "المتوفى سنة 169هـ" الذي تلقى القراءة عن سبعين من التابعين أخذوا عن أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وفي الشام قراءة عبد الله اليحصبي المشهور بابن عامر5 "المتوفى سنة 118هـ" أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي عن عثمان بن عفان، ولقي من الصحابة النعمان بن بشير وواثلة بن الأسقع، ويقول بعضهم: إنه لقي عثمان نفسه وأخذ عنه، وفي البصرة قراءة كل من أبي عمرو ويعقوب، فأما أبو عمرو6 فهو زبان بن العلاء بن عمار   1 انظر في "البرهان 1/ 329" كيف يفسر مكي سبب اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم. 2 الإتقان 1/ 138. وأبو العباس بن عمار هو الإمام المقرئ المفسر أحمد بن عمار المهدوي، وتوفي فيما قاله الحافظ الذهبي بعد الثلاثين وأربعمائة "انظر النشر 1/ 68". 3 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 443". 4 انظر ترجمته في "طبقات القراء 2/ 330-334". 5 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 423-425". 6 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 288-292". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 "والمتوفى سنة 154هـ"، وقد روى عن مجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس عن أبي بن كعب، وأما يعقوب1 فهو ابن إسحاق الحضرمي "المتوفى سنة 205هـ" وقد قرأ على سلام بن سليمان الطويل، عن عاصم وأبي عمرو، وفي الكوفة قراءة كل من حمزة وعاصم, فأما حمزة2، فهو ابن حبيب الزيات مولى عكرمة بن ربيع التيمي "المتوفى سنة 188هـ" وقد قرأ على سليمان بن مهران الأعمش على يحيى بن وثاب، على زر بن حبيش, على عثمان وعلي وابن مسعود، وأما عاصم3 فهو ابن أبي النجود الأسدي "المتوفى سنة 127هـ" وقد قرأ على زر بن حبيش على عبد الله بن مسعود. ويلاحظ قلة القراء العرب وكثرة الموالي, ولا سيما الذين كانوا من أصل فارسي, "فليس في هؤلاء السبعة من العرب إلا ابن عامر وأبو عمرو4". وحين جمع ابن مجاهد قراءات هؤلاء الأئمة السبعة حذف اسم يعقوب وأثبت مكانه الكسائي5"علي بن حمزة المتوفى سنة 189هـ" ونحن نعلم أن الكسائي، كان كوفيا ويعقوب كان بصريا، فكأن ابن مجاهد اكتفى بذكر مقرئ واحد للبصرة هو أبو عمرو، بينما أثبت من أسماء المقرئين الكوفيين حمزة وعاصما والكسائي. وقد حظيت قراءات هؤلاء السبعة -من لدن ابن مجاهد- بشهرة واسعة, وتوهم الكثيرون -كما قلنا- أنها هي المراد من الأحرف السبعة التي ذكرت في الحديث النبوي. والحق أن ثمة ضابطا إذا توفر في قراءة ما وجب قبولها وبتوفر هذا الضابط وجد ما يسمى بالقراءات العشر، والقراءات الأربع   1 انظر ترجمته في "طبقات القراء 2/ 386-389". 2 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 261- 263". 3 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 346-349". 4 البرهان 1/ 329 وقارن بـ Blachere, Intro,Cor, 117 5 البرهان 1/ 329 وانظر ترجمة الكسائي في "طبقات القراء 1/ 535-540" وفيما يتعلق بأسانيد هؤلاء القراء السبعة انظر "التيسير في القراءات السبع للداني ص8 وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عشرة: فأما العشر فإنها تلك السبع المشهورة مضافا إليها قراءة يعقوب الذي سبقت الإشارة إليه، وقراءة خلف بن هشام1، "المتوفى سنة 229هـ" الذي قرأ على سليم بن عيسى بن حمزة بن حبيب الزيات، وقراءة يزيد بن القعقاع2 المشهور بأبي جعفر "المتوفى سنة 130هـ" الذي أخذ عنه عبد الله بن عباس وأبي هريرة، وعن أبي بن كعب. وأما الأربع عشرة فبزيادة أربع قراءات على هاتيك العشر، وهي قراءة الحسن البصري المشهور3 "المتوفى سنة 110هـ" ومحمد بن عبد الرحمن المعروف بابن محيصن4 "المتوفى سنة 123هـ" ويحيى بن المبارك اليزيدي5 "المتوفى سنة 202هـ" وأبي الفرج محمد بن أحمد الشنبوذي6 "المتوفى سنة 388هـ". ولأسانيد المحدثين أثر واضح في تسلسل القراءات، فكما استنبط العلماء أحكام الشرع وأصول التفسير من الروايات التي صح سندها، لم تقبل قراءة أحد من القراء إلا إذا ثبت أخذه عمن فوقه بطريق المشافهة والسماع حتى يتصل الإسناد بالصحابي الذي أخذ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولذلك تتكرر في أوائل تلك الأسانيد أسماء الصحابة الذين لهم روايات في الحلال والحرام، أو أسباب النزول، أو بيان الآيات7. وهذا التسلسل في أسانيد القراء سوغ للعلماء أن يصفوا القراءات بأنها توقيفية8، فمنعوا القراءة بالقياس   1 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 272". 2 انظر ترجمته في "طبقات القراء 2/ 382". 3 هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري, مولى الأنصار، أحد كبار التابعين، وعلمائهم المشهورين بالزهد. 4 وقد أخذ ابن محيصن عن مجاهد ودرباس، وكان شيخ أبي عمرو. 5 نحوي من بغداد، أخذ عن أبي عمرو وحمزة. وكان شيخا للدوري والسوسي. 6 هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن يوسف بن العباس بن ميمون البغدادي، المعروف بالشنبوذي نسبة إلى أستاذه ابن شنبوذ "لأنه حمل عنه وضبط حتى نسب إليه" كما في النشر 1/ 122". 7 وفي التيسير لأبي عمر الداني ص8 وما بعدها وصف دقيق لأسانيد القراء السبعة يظهر إلى أي حد كان العلماء يتشددون في صحة الروايات وثبوت التلقي بالمشافهة والسماع. 8 البرهان 1/ 321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 المطلق1 واستنكروا موقف جماعة منهم الزمخشري ظنوا أن "القراءات اختيارية، تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد البلغاء"2، فما وافق العربية والرسم ولم ينقل بإسناد صحيح كإسناد المحدثين الثقات فهو مردود، وكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم كإسكان "بَارِئْكُم" و"يَأْمُرْكُم" وخفض "وَالْأَرْحَامِ" ونصب "لِيَجْزِي قَوْمًا" والفصل بين المضافين في "قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائَهُمْ" وغير ذلك3، فلا غرابة إذا وقف القراء موقفا شديدا من أبي بكر بن مقسم4 الذي كان يختار من القراءات ما بدا له أصح في العربية ولو خالف النقل أو رسم المصاحف فعقدوا له مجلسا، وأجمعوا على منعه5، وعقدوا مجلسا آخر لابن شنبوذ6 لاستتابته مما كان آخذا فيه من كتابة القرآن على ما يعلمه من قراءتي أبي وأبو مسعود7. وقد انعقد المجلسان بأمر شيخ القراء ابن مجاهد الذي عرفنا أنه أول من   1 الإتقان 1/ 132. 2 البرهان 1/ 321. 3 الإتقان 1/ 130 وانظر في "إتحاف فضلاء البشر ص185" كيف يوجه الدمياطي قراءة حمزة "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" سورة النساء1، فقد جرت الميم عطفا على الضمير المجرور في "به" على مذهب الكوفيين، وانظر في "الإتحاف أيضا ص217" توجيه قراءة ابن عامر "وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائَهُمْ" فقد رفع "قتل" على أنه نائب فاعل لزين, ونصب "أولادهم" على أنه مفعول به للمصدر, وجر "شركائهم" على إضافة المصدر إليه فاعلا. 4 هو محمد بن الحسن بن يعقوب المشهور بابن مقسم, أحد نحاة بغداد وقرائها، توفي سنة 354 "انظر طبقات القراء 2/ 123". 5 الإتقان 1/ 132. وانظر طبقات القراء 2/ 54. 6 هو محمد بن أحمد بن أيوب بن شنبوذ، أحد قراء بغداد ونحاتها توفي سنة 328 "انظر ترجمته في طبقات القراء 2/ 52". 7 قارن بما يقوله المستشرق ماسينيون: Massignon "L.", Al- Hallaj. Martyr mystique de l'Islam, p.243, note 4. ولهذا السبب نفسه لم تقبل قراءة الأعمش، فإنه كان يتبع قراءتي أبي وابن مسعود، وانظر في "كتاب المصاحف ص91" بعض أوجه قراءته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 جمع القراءت السبع، وكان ابن مجاهد قد أخذ القراءة عن شاذان الرازي الذي عنه أخذ أيضا كل من ابن مقسم وابن شنبوذ، ولكن اشتراك الثلاثة في التلقي عن شيخ واحد لم يمنع ابن مجاهد من التشدد مع زميليه1 لإجماع القراء في عهده على الأخذ بالأثبت في الأثر والأصح في النقل, وليس الأفشى في اللغة والأقيس في العربية2، ومع ذلك عني بعض اللغويين والنحاة بتتبع القراءات الشاذة فألف ابن خالويه "ت سنة 370هـ" كتابا في هذه القراءات سماه "المختصر في شواذ القراءات"3 وصنف ابن جني4 كتابه "المحتسب في توجيه القراءات الشاذة"، ووضع أبو البقاء العكبري5 كتابا أوسع وأشمل سماه "إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن"، ولم يتردد بعض العلماء في إطلاق القول بأن "توجيه القراءة الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة6"، ووجدوا في توجيه الشاذ عونا على معرفة صحة التأويل, فقراءة ابن مسعود "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا" بدلا من "أَيْدِيَهُمَا" ساعدت على فهم   1 وقد أشار المستشرق بلاشير إلى ذلك من غير أن يجد له تعليلا منطقيا. انظر: Blachere, Intro.cor., p.128, note 169. والتعليل الطبيعي لهذا كله ما ذكرناه من ضرورة الاعتماد على النقل الصحيح في أمثال هذه الموضوعات. 2 الإتقان 1/ 130. 3 وقد نشر المستشرق برجشتراسر Bergstrasser هذا الكتاب في القاهرة سنة 1934 وهو المجلد السابع من "مجموعة المكتبة الإسلامية". T. Vll, Bibliotheca Islamica وابن خالويه هو الحسين بن أحمد، أبو عبد الله الهمذاني, إمام في العربية, له كتب كثيرة أشهرها الاشتقاق وكتاب ليس, وكتابه عن شواذ القراءات. توفي في حلب سنة 370 "بغية الوعاة ص 232". 4 هو أبو الفتح عثمان بن جني، من أئمة اللغة والنحو، له كتاب الخصائص، وسر الصناعة والتصريف، توفي سنة 392 انظر "نزهة الألباء ص 406". أما كتابه "توجيه القراءات الشاذة" فمنه نسخ مخطوطة في دار الكتب بالقاهرة. 5 هو عبد الله بن الحسين المشهور بأبي البقاء العكبري، توفي سنة 616 "انظر ترجمته في بغية الوعاة 281" وكتابة "إملاء ما من به الرحمن" طبع في المطبعة الميمنية بالقاهرة سنة 1321. 6 البرهان 1/ 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ما يقطع في حد السرقة، وقراءة سعد بن أبي وقاص "وله أخ أو أخت من أم فكل"1 ... صرحت بنوع الأخوة في هذه القضية التشريعية المتعلقة بالميراث، وقراءة عمر بن عبد العزيز التي تحكى أيضا عن الإمام أبي حنيفة "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ"2 برفع اسم الجلالة ونصب العلماء بينت أن الغرض من تخصيص العلماء بالخشية إظهار مكانتهم ودرجتهم عند الله، "وتأويله -كما يقول الزركشي- أن الخشية هنا بمعنى الإجلال والتعظيم، لا خوف"3 ويضيف الزركشي: "فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن, وقد كان يروى مثل هذا عن بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك, فكيف إذا روي عن كبار الصحابة ثم صار في نفس القراءة! فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى، فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف صحة التأويل4، ومن هنا شاع على ألسنة العلماء: "اختلاف القراءات يظهر اختلاف الأحكام"5. على أن توجيه بعض القراءات الشاذة لم يخل من التكلف، وقد يستهجن بادئ الرأي ثم لا يدفع الاستهجان إلا التأويل كقراءة: "هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوَّرَ" بفتح الواو والراء، على أنه اسم مفعول، وتأويله أنه مفعول لاسم الفاعل، الذي هو البارئ فإنه يعمل عمل الفعل كأنه قال: الذي برأ المصوَّر! 6. وتوجيه القراءات الشاذة لاستنباط غرائب التأويلات من بعض وجوهها كان لونا من الترف العلمي الذي شغف به علماء الإسلام خلال دراساتهم الواسعة المتشعبة لكل ما يتعلق بالقرآن: فكما شغلوا أنفسهم بمعرفة عدد آيات   1 سورة النساء 12 وقراءة حفص ليس فيها "من أم". 2 سورة فاطر 38 "انظر تفسر القرطبي 14/ 344". 3 البرهان 1/ 341. 4 البرهان 1/ 377. 5 الإتقان 1/ 141. 6 البرهان 1/ 341 ولا يخفى ما في هذا التأويل من بعد وتكلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 القرآن1، وأطول كلمة وأقصرها2، وأكثر ما اجتمع في كتاب الله من الحروف المتحركة3، وما شابه هذه المباحث التي ليس من ورائها فائدة إلا في حالات يسيرة نادرة، آنسوا من أنفسهم ميلا لدراسة القراءات الشاذة توسيع آفاق البحث فقط، وإلا فإنهم يعلمون علم اليقين أن كل قراءة لم تتوافر قرآنيتها لا يجوز لهم ولا لغيرهم تلاوتها في الصلاة ولا سواها، ولا يجب اعتقادها على أحد. قال النووي في "شرح المهذب"4: "لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة لأنها ليست قرآنا، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والقراءة الشاذة ليست متواترة, ومن قال غيره فغالط أو جاهل, فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه قراءتها في الصلاة وغيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ, ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا يجوز القراءة بالشواذ، ولا يصلى خلف من يقرأ بها"5. ولذلك قال الإمام مالك فيمن قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود وغيره من الصحابة مما يخالف المصحف "لم يصل وراءه! "6.   1 انظر ما ينقله الزركشي في "البرهان 1/ 251" عن علي وعطاء وحميد وراشد في تعداد آي القرآن. 2 البرهان 1/ 252 وفي الصفحة نفسها يذكر الزركشي أيضا أطول كلمة في القرآن وأقصرها. 3 البرهان 1/ 254 ويبلغ الغلو بالزركشي أشده حين يستشهد على هذا بقوله تعالى في سورة يوسف: "حَتَّى يَأْذَنَ لِيَ أَبِيَ أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِيَ" على قراءة من حرك الياء في قوله: {لِي} ، و {أَبِي} . ومثل هذا الغلو هو الذي سوغ لنا أن نرى في جميع هذه المباحث ضربا من الترف العلمي. 4 "المهذب" هو كتاب في فروع الفقه الشافعي للفقيه إبراهيم بن محمد الشيرازي المتوفى سنة 476 "كشف الظنون". 5 البرهان 1/ 333. 6 البرهان 1/ 222 والمستشرقون يأبون إلا أن يضخموا فتوى الإمام مالك ويقارنوا بينها وبين فتاوى الحنفية المتساهلين في هذا الموضوع. انظر: Geschichte des Qorans,lll, 108, 109,:ef, Blachere, Intro, cor.,114, note 152. والقضية لا تزيد على تشدد العلماء -وفي طليعتهم الإمام مالك- في إثبات القرآنية التي لا تكون إلا بطريق التواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ومن موقف العلماء من قراءة ابن مسعود -على تقواه وورعه وعلمه الغزير- ربما دعا إليه ما شاع عنه من إنكاره المعوذتين والفاتحة من القرآن, وإن كان كثيرون يفسرون تصرفه تفسيرا منطقيا، قال ابن قتيبة في "مشكل القرآن": "ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن, لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين، فأقام على ظنه، ولا نقول: إنه أصاب في ذلك أو أخطأ المهاجرون والأنصار. قال: وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن، -معاذ الله! - ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان، ورأى أن ذلك مأمون في سورة الحمد لقصرها ووجوب تعلمها كل أحد"1. وقراءة أبي بن كعب تماثل قراءة ابن مسعود في الشذوذ لما ينسب إليه من إثباته دعاء الاستفتاح والقنوت في آخر مصحفه كالسورتين2، "مع أنه لم تقم حجة بأنه قرآن منزل، بل هو ضرب من الدعاء، وأنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن، وحصل العلم بصحته"3. ولتمييزه القراءات المقبولة من الشاذة وضع العلماء ضابطا للقراءات المقبولة ذا ثلاثة شروط، أحدهما موافقة القراءة لرسم أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا، والثاني موافقتها العربية ولو بوجه، والثالث صحة إسنادها، ولو كان عمن فوق السبعة والعشرة من القراء المشهورين4. وقد آثر ابن الجزري في كتابه "منجد المقرئين" أن يبدل شرط صحة الإسناد في هذا   1 الإتقان 1/ 137-138. 2 البرهان 1/ 251. 3 البرهان 2/ 128 ويرى الباقلاني بصورة عامة "أنه لا يجوز أن يضاف إلى عبد الله أو إلى أبي بن كعب، أو زيد أو عثمان أو علي, أو واحد من ولده أو عترته جحد آية أو حرف من كتاب الله، وتغييره أو قراءته على خلاف الوجه المرسوم في مصحف الجماعة بأخبار الآحاد، أن ذلك لا يحل، ولا يسمع، بل لا تصلح إضافته إلى أدنى المؤمنين في عصرنا، فضلا عن إضافته إلى رجل من الصحابة" انظر البرهان 2/ 127. 4 انظر الإتقان 1/ 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الضابط بتواتره، لأن القرآنية لا تثبت إلا بالإسناد المتواتر, فالقراءات الأربع الزائدة على العشر صحيحة الإسناد ولكنها آحادية فليست متواترة، وليست قرآنا يتعبد به ويتلى في الصلاة، وإنما القراءات المتواترة التي تلقتها الأمة بالقبول هي العشر التي أخذها الخلف عن السلف حتى وصلت إلينا، ولا يوجد اليوم قراءة متواترة وراء هذه العشر. وينقل السيوطي1 عن ابن الجزري أن: أنواع القراءات من حيث السنة ستة: "الأول المتواتر": وهو ما رواه جمع عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم. مثاله: ما اتفقت الطرق على نقله عن السبعة2. وهذا هو الغالب في القراءات. "الثاني المشهور": هو ما صح سنده بأن رواه العدل الضابط عن مثله وهكذا، ووافق العربية، ووافق أحد المصاحف العثمانية، سواء أكان عن الأئمة السبعة أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين، واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ، إلا أنه لم يبلغ درجة التواتر، مثاله: ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة، فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض. ومن أشهر ما صنف في هذين النوعين التيسير للداني3، والشاطبية4،   1 عن الإتقان 1/ 132-133 بشيء من التصرف طلبا للاختصار. 2 والجمهور على أن القراءات السبع متواترة "انظر البرهان 1/ 318". 3 كتاب التيسير في القراءات السبع نشره وحققه المستشرق برتزل Pretzel في الآستانة سنة 1930 في المجلد الثاني من "المكتبة الإسلامية" t.ll, Bibliotheca Islamica ويشتمل على مذاهب القراء السبعة بالأمصار؛ وذكر فيه أبو عمرو الداني عن كل واحد من القراء روايتين. وانظر: Geschichte des Qorans, III, 214, sqq"cf, Blachere, intro,cor.,p.130, note 172". 4 الشاطبية هي المنظومة المنسوبة إلى الإمام أبي محمد القاسم الشاطبي المتوفى سنة 590 نظم فيها كتاب التيسير في 1173 بيتا وسماها "حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع المثاني" انظر كشف الظنون 1/ 646 وانظر: Krenkow, Encyclopedie de l'Islam. IV, 349 "art , Schatibi." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وطيبة النشر في القراءات العشر"1.وهذان النوعان هما اللذان يقرأ بهما مع وجوب اعتقادهما ولا يجوز إنكار شيء منهما. "النوع الثالث": ما صح سنده، وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر الاشتهار المذكور, وهذا النوع لا يقرأ به ولا يجب اعتقاده. من ذلك ما أخرجه الحاكم عن طريق عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفَارِفٍ خُضْرٍ وَعَبَاقَرِيٍّ حِسَانٍ"2 ومنه قراءة: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ"3 بفتح الفاء. "النوع الرابع الشاذ": وهو مالم يصح سنده، كقراءة ابن السميفع: "فَالْيَوْمَ نُنَحِّيكَ بِبَدَنِكَ" بالحاء المهملة "لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَفَكَ آيَةً"4 بفتح اللام من كلمة "خلفك". "الخامس الموضوع": وهو ما ينسب إلى قائله من غير أصل مثال ذلك القراءات التي جمعها محمد بن جعفر الخزاعي5، ونسبها إلى أبي حنيفة،" كقراءة "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ" برفع اسم الجلالة ونصب العلماء" "النوع السادس": ما يشبه المدرج من أنواع الحديث: وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير كقراءة سعد ابن أبي وقاص: "وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْت مِنْ أُمٍّ" بزيادة لفظ: "من أم"، وقراءة: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ" بزيادة عبارة "في مواسم الحج". وجدير بالذكر أن قارئ القرآن لا يسمى مقرئا حتى ولو حفظ العشر كلها والأربع عشرة إلا إذا أحكمها بالسماع والمشافهة، فنحن بهذه العجالة تصورنا   1 للإمام الشهير ابن الجزري، و"الطيبة" منظومة طبعت في مجموعة من القراءات مشتملة على سبعة متون في مطبعة شرف سنة 1308، وهي غير كتابه "النشر" الذي طبعه في دمشق محمد أحمد دهمان سنة 1345. 2 سورة الرحمن 76 وقراءة حفص {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} . 3 سورة التوبة 128 وقراءة حفص {مِنْ أَنْفُسِكُم} بضم الفاء. 4 سورة يونس 92 وقراءة حفص {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} . 5 هو الإمام أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، مؤلف "المنتهى" جمع فيه ما لم يجمعه من قبله، وتوفي سنة 408 "انظر النشر 1/ 34" ويلاحظ أن ابن الجزري يصفه "بالإمام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 حقيقة القراءات وأخذنا فكرة عامة عن القراء ابتغاء الوصول إلى غايتنا الأساسية من فهم النصوص القرآنية التي تقوم دراستنا لها على ما ثبت منها تواتر قرآنيته: فما دام القرآن قد أنزل على سبعة أحرف فنحن ندرسها جميعا في كل قراءة تواترت محتوية على حرف منها، وعمادنا في هذا الأصح في النقل وليس الأقيس في العربية، لأننا نجعل القرآن حكما على قواعد اللغة والنحو، ولا نجعل تلك القواعد حكما على القرآن، فما استمد النحاة قواعدهم إلا من القرآن بالدرجة الأولى, ثم من الحديث وكلام العرب بالدرجة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الفصل السادس: علم الناسح والمنسوخ ... الفصل السادس: علم الناسخ والمنسوخ في فصل "تنجيم القرآن وأسراره" رأينا أن الوحي لم يفاجئ المؤمنين بالتشريع، بل نزل نجوما على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، يتدرج مع الأحداث والوقائع, وأن هذا التدرج تناول العادات الشعورية والتقاليد الاجتماعية التي آثر الإسلام أن يقف منها موقف المتمهل المتريث مؤمنا بأن البطء مع التنظيم خير من العجلة مع الفوضى. ولدى تقصينا المراحل المتعاقبة في مكي القرآن ومدنيه, كانت حاجتنا ماسة إلى علم قرآني يلقي الضوء ساطعا على هذه الخطوات، ويعين على تتبعها ورسمها بدقة بالغة: وهو علم الناسخ والمنسوخ الذي يمكننا أن نعده ضربا من ضروب التدرج في نزول الوحي، فمعرفتنا بما صح من وجوهه تيسر علينا تعيين السابق والمسبوق من النوازل القرآنية، وتظهرنا على جانب من حكمة الله في تربية الخلق، وتقفنا على مصدر القرآن الحقيقي: وهو الله رب العالمين، لأنه يمحو ما يشاء ويثبت، ويرفع حكما ويبدل آخر، من غير أن يكون لأحد من خلقه عمل في ذلك ولا شأن، حتى ولا خاتم النبيين نفسه. ولقد طال جدل العلماء في تعريف النسخ اصطلاحا، لما توحي به هذه اللفظة من اشتراك لغوي في معانيها، فالنسخ يأتي بمعنى الإزالة، ومنه قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} 1، ويأتي بمعنى التبديل كقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} 2, وبمعنى التحويل كتناسخ المورايث3، ويأتي أخيرا بمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه: "نسخت الكتاب" إذا نقلت ما فيه حاكيا للفظه وخطه4. وقد أنكر بعض العلماء هذا الوجه الأخير، محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ, وإنما يأتي بلفظ آخر5. لكن السعدي6 احتج لمن أخذ به بقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 7 مع قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} 8، وما أم الكتاب -في نظر السعدي- إلا اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون الذي {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} 9، فقد أتى ناسخ القرآن فيه بلفظ المنسوخ فيما نزل من الوحي نجوما من أم الكتاب10. ومنشأ الجدل في تعريف النسخ يرتد إلى ما بين تحديد الكلمة لغة وتحديدها اصطلاحا من ارتباط لا بد أن يلحظ، لئلا يكون استخدام القرآن مثل هذه اللفظة في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 11 جاريا على غير أسلوب العرب في التعبير عن قضية لها في الإسلام خطر كبير.   1 سورة الحج 52. ومنه قولهم: نسخت الشمس الظل, ونسخ الشيب الشباب. "انظر أساس البلاغة 454". وقارن بالبرهان 2/ 29. 2 سورة النحل 101، وقارن بالإتقان 2/ 32. 3 لأن تناسخ المواريث هو تحويل الميراث من واحد إلى وحد. وقارن بالبرهان 2/ 29. وعلى هذا يقال: إن أصل النسخ تحويل ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى. 4 قارن الإتقان 2/ 34 بالبرهان 2/ 29. 5 انظر الإتقان 2/ 34. 6 هو الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات السعدي، له كتاب: "الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ"، ألفه للأفضل ابن أمير الجيوش. ومنه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم 1085 تفسير، وتاريخ نسخها 653هـ. 7 انظر البرهان 2/ 29 وقارن بأساس البلاغة 454. 8 سورة الجاثية 29. 9 سورة الزخرف 4. 10 قارن بالإتقان 2/ 34. 11 سورة البقرة 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 شوما نحسب القرآن مستخدما هذا اللفظ في كل موضع ذكره فيه إلا على معناه الأصلي الحقيقي الذي ما كان يطوف في خلد أحد سواه لولا الرغبة في الجدل، والاحتفال بالخلاف اللفظي والترف العقلي في جميع العصور. لذلك كان تعريف النسخ بقوله: "رقع الحكم الشرعي بدليل شرعي" أدق تحديد اصطلاحي لهذه الفظة، يتناسق في آن واحد مع لسان العرب الذي يرى النسخ إزالة ورفعا، ونصوص الشرع التي لا مدافعة في رفع بعض أحكامها بأدلة قوية صريحة في وقائع معروفة محفوظة، لأسرار وحكم لا يعرفها إلا الراسخون في العلم. واختلاف العلماء في تعريف النسخ ينبئ كذلك عن ضروب أخرى من الاختلاف في هذا الموضوع الخطير: فقد حصر بعضهم النسخ في القرآن نفسه، فلا ضير في نسخ الكتاب بالكتاب لتضافر الأدلة العقلية والنقلية على جوازه. ومال الأكثرون إلى جواز نسخ السنة بالقرآن، كنسخ الصيام يوم عاشوراء، الثابت بالسنة, بما كتبه الله في القرآن من صوم رمضان1. أما نسخ القرآن بالسنة فقد أنكره الشافعي, كما يوحي بذلك لفظ متبادر ذكره في "رسالته"2. ولكن الذين تكلموا على هذه المسألة لم يفهموا مراد الشافعي: فإنه رمى إلى تعظيم الكتاب والسنة وتعاضدهما وتوافقهما، فما يختلفان في شيء إلا مع أحدهما مثله ناسخا له3. وأما نسخ السنة بالسنة فأكثر العلماء لا يرى فيه بأسا، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يصدر فيما يشرعه لأمته ابتداء أو نسخا إلا عن إلهام من الله4، فهو في أمور الشرع {وَمَا يَنْطِقُ   1 البرهان 2/ 32. 2 الرسالة ص 137-146. 3 قارن بالبرهان 2/ 32. وما ذكرناه هنا خلاصة لرد الزركشي على ابن عطية الذي لم يفهم مراد الشافعي، واحتج عليه بنسخ آية الوصية بحديث: "لا وصية لوارث"، مع أن الجمهور على أن ناسخها آيات المواريث، ويرى بعض المحققين أنها ليست من النسخ في شيء وأن حكم الوصية ما يزال باقيا ولا تعارضه آيات المواريث. 4 وقيل: بل السنة لا تنسخ السنة. وقيل: السنة إذا كانت بأمر الله من طريق الوحي نسخت، وإن كانت باجتهاد فلا تنسخه، حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره. البرهان 2/ 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وقد مثلوا لذلك بنسخ الوضوء مما مست النار بأكله -صلى الله عليه وسلم- من الشاة ولم يتوضأ. على أننا في هذه البحوث القرآنية لن نعرض إلا لنسخ القرآن بالقرآن، خشية أن نستطرد في إثارة بعض القضايا الأصولية التي تلقي على كتابنا طابعا خاصا جديرا بنا هنا أن نتحاشاه، وكنا نود لو سكتنا حتى عن الخلاف اللفظي في نسخ القرآن بالقرآن، لئلا نضطر إلى ذكر حجج الفريقين وتصوير وجهتي نظرهما في ردهما كلتيهما إلى إثبات حقيقة النسخ في كتاب الله، ولكننا لا نستطيع إغفال مثل هذا الأمر الذي كان له في التشريع الإسلامي وفي البحث القرآني أصداء عميقة، فلا مفر من الإشارة إلى رءوس المسائل في هذا النزاع. لقد كان الجمهور -قبل أبي مسلم الأصفهاني-1 آخذا بلا تردد بجواز النسخ في كتاب الله، بل كان العلماء لا يتجشمون عناء كبيرًا للاستشهاد بكثير من الآيات المنسوخة وإن كان بعضهم غلا في ذلك غلوا شديدا, ولكن أبا مسلم حين جاء برأيه في النسخ لم يبطله جملة وتفصيلا، فإنه عالم محقق قرأ الآيات المصرحة بالنسخ، وإنما أبطل منه ضروبا ظنها تتعارض مع قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 2، فآثر أن يسمي النسخ باسم التخصيص تجنبا لإبطال حكم قرآني أنزله الله. ولكن العلماء تصدوا لأبي مسلم وأضرابه يفرقون لهم بين النسخ والتخصيص: فتعريف التخصيص هو "قصر العام على بعض أفراده"، وليس في هذا القصر رفع حقيقي للحكم عن بعض الأفراد، لأن تناوله بعض الأفراد فقط إنما يكون سبيله المجاز، فلفظ العام موضوع أصلا لكل الأفراد، ولم يقصر على بعضها إلا بقرينة التخصيص. أما النسخ فيظل النص المنسوخ   1 هو محمد بن بحر، المشهور بأبي مسلم الأصفهاني، معتزلي من كبار المفسرين، توفي سنة 322هـ أهم كتبه "جامع التأويل" في التفسير. 2 سورة فصلت 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فيه مستعملا فيما وضع له، ويظل متناولا جميع الأزمان، إلا أن حكمة الشامل يستمر إلى وقت معين ثم لا يبطله إلا الناسخ لحكمة يعلمها الله1. وتراعى في التخصيص قرينة سابقة أو لاحقة أو مقارنة، أما النسخ فلا يقع إلا بدليل متراخ عن المنسوخ, ويكون التخصيص في الأخبار وغيرها، أم النسخ فلا يقع في الأخبار2. ومن أدلة التخصيص الحس والعقل إلى جانب الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3 خصصه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا في ربع دينار"، أما النسخ فالدليل فيه شرعي مقصور على الكتاب والسنة، فلا يرفع -باسم النسخ- حكم شرعي بدليل عقلي مثلا4. وثمرة هذه الفروق بين التخصيص والنسخ أن ما بقي من أفراد العام بعد تخصيصه يظل معمولا به، فلا يبطل الاحتجاج بالعام بعد التخصيص، أما ما رفع حكمه من أفراد النص المنسوخ فيبطل كل لون من ألوان الاحتجاج به أو العمل به5. وإذا كان أبو مسلم الأصفهاني وأضرابه، قد خلطوا النسخ بالتخصيص وأساءوا الأدب مع الله في إيثارهم لفظ التخصيص الذي اخترعوه على لفظ النسخ الذي صرح به القرآن، فإن القائلين بالنسخ قد بالغوا فيه، وسلكوا كثيرا من العموم المخصص في عداد المنسوخ, وأساءوا الأدب مع الله أيضا بفتحهم الباب على مصراعيه أمام الخالطين بين النسخ والبداء، وبين النسخ والإنساء، وبين نسخ الأحكام ونسخ الأخبار.   1 قارن بمناهل العرفان 2/ 80. 2 لأن الجمهور على أن النسخ لا يقع إلا في الأمر والنهي. والذين لم يروا بأسا في وقوعه في الأخبار قيدوها بالتي يراد بها الأمر والنهي؛ "البرهان 2/ 33". ولذلك لا يلتفت إلى الرأي القائل بوقوع النسخ في الأخبار "إطلاقا". وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص25. 3 سورة المائدة 38. 4 مناهل العرفان 2/ 81. 5 هذا إذا كان المنسوخ رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام، أما إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض فيبقى على شيء من الاحتجاج به. وقارن بالمناهل 2/ 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فمن المبالغات أنهم قطعوا أوصال الآية الواحدة، فزعموا أن أولها منسوخ وآخرها ناسخ، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 1 فإن آخر الآية يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بذلك ناسخ -في نظر ابن العربي- لأولها الذي صرح الله فيه بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 2، بل زعم ابن العربي أيضا أن قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 3 أوله وآخره منسوخان ووسطه محكم4. ومن المبالغات العجيبة إدراجهم في عداد المنسوخ ما أبطله القرآن من عادات الجاهلية وتقاليدها كتحريم نساء الآباء5، وتشريع الدية6 والقصاص7 وحصر الطلاق في الثلاث8، وما رفعه من شرائع من قبلنا كإباحة بعض المطعومات التي كانت محرمة عليهم، وقد رجح المحققون من العلماء إخراج هذا كله من عداد الناسخ، ووجهوه بأن ذلك لو عد فيه لعد جميع القرآن   1 سورة المائدة 105. 2 أحكام القرآن "لابن العربي" 1/ 205. وقارن بالإتقان 2/ 32. والناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 153. 3 سورة الأعراف 199. 4 أحكام القرآن أيضا 1/ 388. وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص170 ومن طريف ما ذكره ابن العربي من هذا القبيل أن قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [سورة التوبة: الآية 5] ناخسة لمائة وأربع عشرة آية، ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهو قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . انظر أحكام القرآن 201. 5 كما في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} من سورة النساء وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 125. 6 كقوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} من سورة النساء أيضا. 7 كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} من سورة البقرة، وقد صرح ابن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" ص49 بأن هذه الآية نسخت بعض عادات الجاهليين الذين كانوا لا يرضون أن يقتلوا بالعبد منهم إلا الحر، وبالمرأة منهم إلا الرجل، فسوى الله بينهما في أحكام القصاص. 8 في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فمن عجب أمر المفسرين أنهم جعلوا تحديد الطلاق في الثلاث نسخا لعمل الجاهلية التي لم تكن تقف في الطلاق عند عدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 منه: إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب، وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت حكم آية1. والولوع باكتشاف النسخ في آيات الكتاب أوقع القوم في أخطاء منهجية كان خليقا بهم أن يتجنبوها لئلا يحملها الجاهلون حملا على كتاب الله: لم يكن يخفى على أحد منهم أن القرآنية لا تثبت إلا بالتواتر، وأن أخبار الآحاد ظنية لا قطعية, وجعلوا النسخ في القرآن -مع ذلك- على ثلاثة أضراب: نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم والتلاوة جميعا، وليكثروا إن شاءوا من شواهد الضرب الأول، فإنهم فيه لا يمسون النص القرآني من قريب ولا بعيد, إذ الآية لم تنسخ تلاوتها بل رفع حكمها لأسرار تربوية وتشريعية يعلمها الله، أما الجراءة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث اللذين نسخت فيهما -بزعمهم- تلاوة آيات معينة إما مع نسخ أحكامها وإما دون نسخ أحكامها. والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأ مركبًا: فتقسيم المسائل إلى أضرب إنما يصلح إذا كان لكل ضرب شواهد كثيرة أو كافية -على الأقل- ليتيسر استنباط قاعدة منها. وما لعشاق النسخ إلا شاهد أو اثنان على كل من هذين الضربين2، وجميع ما ذكروه منها "أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها"3. وبهذا   1 قارن بالإتقان 2/ 36-37. 2 أما الضرب الذي نسخت تلاوته دون حكمه فشاهده المشهور ما قيل من أنه كان في سورة النور: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله", انظر تفسير ابن كثير 3/ 261. ومما يدل على اضطراب الرواية أن في صحيح ابن حبان ما يفيد أن هذه الآية التي زعموا نسخ تلاوتها كانت في سورة الأحزاب لا في سورة النور. وأما الضرب الذي نسخت تلاوته وحكمه معا فشاهده المشهور في كتب الناسخ والمنسوخ: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن"، قارن بالإتقان 2/ 35. 3 هذا ما حكاه القاضي أبو بكر في "الانتصار" عن منكري نسخ التلاوة. وقارن بالبرهان 2/ 40 والإتقان 2/ 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الرأي السديد أخذ ابن ظفر1 في كتابه"الينبوع" إذ أنكر عد هذا مما نسخت تلاوته وقال: "لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن"2. ولم تكف عشاق النسخ تلك الأضرب التي استنبطوها من أخبار الآحاد الظنية، بل ذهب بهم الغلو كل مذهب حتى زعموا أن الناسخ أيضا يجوز نسخه، فيصير الناسخ منسوخا، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 3 فقد نسخه -بزعمهم- قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4 ثم نسخ هذا بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 5. وأطرف ما في هذا الاستشهاد أن آية الجزية تتعلق بأهل الكتاب، فكيف تنسخ آية في المشركين6؟ وكانت مبالغات بعض العلماء في الناسخ والمنسوخ تخالف البداهة، وتعارض منطق الأشياء: فهذا هبة الله بن سلامة7 يتكلم على ما في سورة "الإنسان" من النسخ فيرى أنها محكمة إلا آيتين منها وبعض آية8، ويبدأ ببعض الآية المنسوخ فإذا هو لفظ "وأسيرًا" من قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ   1 هو أبو عبد الله بن ظفر، محمد بن محمد الصقلي المتوفىي سنة 568. ومن كتابه "الينبوع" أجزاء متفرقة من نسخة خطية بدار الكتب بالقاهرة برقم 310 تفسير. 2 قارن بالبرهان 2/ 36. ومن هنا تشدد القوم في نسخ القرآن، فقالوا: لا ينسخ قرآن إلا بقرآن ومرادهم: لا ينسخ القطعي إلا بالقطعي، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرا منه إلا قرآن. قارن بالبرهان 2/ 31. 3 سورة "الكافرون" 6. 4 سورة التوبة 5. 5 سورة التوبة 29. وقارن بالبرهان 2/ 31. 6 وقريب من هذا ما رووه من أن قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [سورة البقرة: الآية 109] نسخه قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} ثم نسخ هذا قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} البرهان 2/ 31. 7 هو هبة الله بن سلامة بن أبي القاسم البغدادي المتوفى سنة 410 "انظر شذرات الذهب وفيات سنة 410". وكتابه "الناسخ والمنسوخ" مطبوع في مصر بمطبعة هندية سنة 1315 "بهامش أسباب النزول" للواحدي. 8 ابن سلامة "الناسخ والمنسوخ" ص320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} 1 فالمراد بذلك غير أهل القبلة من أسرى المشركين, وقد نسخ -بزعمه- إطعام أسرى المشركين بآية السيف2. ثم قرئ على ابن سلامة كتابه في "الناسخ والمنسوخ" وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع هالها أن يحمل أباها شغفه بالنسخ على نسيان مبدأ أخلاقي ثابت في الإسلام، بل مجمع على ثبوته في جميع الأديان، فقال: أخطأت يا أبت في هذا الكتاب! فقال لها: وكيف يا بنية؟ قلت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعًا!! فقال: صدقت3. ولئن جعل منكرو النسخ المنسوخ مخصوصا فقد عكس أصحاب النسخ الآية فجعلوا المخصوص منسوخا: فكم من آية خصصت باستثناء4 أو غاية أو بآية أخرى فطبعوها بطابع النسخ غير مبالين باتصال السياق وتناسقه، وتعلق آخره بأوله. قال السيوطي5: "وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ، وقد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد: كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ، {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وغير ذلك من الآيات التي خصت   1 سورة الإنسان 8. 2 ابن سلامة "الناسخ والمنسوخ" ص321. ومراده بآية السيف قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: 5] . 3 قارن بالبرهان 2/ 29 والإتقان 2/ 39. 4 قارن بقول ابن سلامة في "الناسخ والمنسوخ 26": "وقال آخرون: كل جملة استنثى الله منه بـ"إلا" فإن الاستثناء ناسخ لها. 5 الإتقان 2/ 36. وقارن "بالناسخ والمنسوخ لابن سلامة" 85. ومن ذلك أن بعض العلماء ظنوا قوله تعالى في سورة التوبة {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} منسوخا بآيات العذر كقوله في سورة الفرقان: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} وقوله في سورة التوبة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية: "انظر الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ص186". والحق أن الآية منسوخة بالآيات التي ذكرت، فهذا من باب النسخ، وكأنه قال: لينفر منكم من احتيج إليه وهو غير أعمى ولا مريض ولا ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 باستثناء أو غاية. وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ1. ومنه قوله: {لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قيل إنه نسخ بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، وإنما هو مخصوص به". وفيما أورده المكثرون ألوان ليست من النسخ ولا من التخصيص في شيء ولا لها بهما علاقة بوجه من الوجوه2: وذلك مثل قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} 3، وكل آية فيها ذكر ما فضل عن الزكاة نسختها الآية المفروضة4. ولكن المحققين من العلماء يرون أن آية الإنفاق خبر في معرض الثناء على المتقين، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة، وبالإنفاق على الأهل، وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة، وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة5. ومن ذلك أن بعض عامة المفسرين ظنوا أن قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} 6 مما نسخ بآية السيف -وكم نسخوا بآية السيف7 هذه! - مع أن هذا الكلام لا يقبل النسخ والا التخصيص، فإن الله أحكم الحاكمين أبدًا8.. ولا ريب أن في مرور فكرة النسخ ببال أولئك المفسرين إساءة أدب مع الله وإن حاولوا تلطيف عبارتهم المشعرة هنا بالنسخ حتى قال قائلهم: إن هذه الآية نسخ معناها لا لفظها، فقد نسخ منها المعنى بآية السيف، كأنه تعالى قال: دعهم وخل عنهم9.   1 قارن بقول مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية محكم غير منسوخ لأنه مؤجل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه. الإتقان 2/ 35. 2 الإتقان 2/ 36. 3 سورة البقرة 3. 4 الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 32-33. 5 الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 329-330. 6 سورة التين 8. 7 الإتقان 2/ 36. 8 الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 320. 9 قارن بالبرهان 2/ 42. وفي هذا إشارة إلى الآية 14من سورة الجاثية، وهي قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} نزلت في عمر بن الخطاب حين كلمه رجل من المشركين بمكة فهاجه وأثاره، فهم به عمر. قارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 لكن إساءة الأدب حقا مع الله تجسدت في تساهل أصحاب النسخ في الإكثار من القول بالناسخ والمنسوخ رغم علمهم اليقيني بأن ما يواجهونه بالبحث والتأويل هو إلى الإنساء أقرب، وبه ألصق: فقد سلكوا في المنسوخ مأ أمر به لسبب ثم زال سببه، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله1 ثم نسخه بآية السيف، وليس هذا من النسخ في شيء, وإنما هو ضرب من النسء وتأخير البيان إلى وقت الحاجة كما قال تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} 2، فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ، أو بيان الحكم المجمل3، فقد أنسئ الأمر بالتقال إلى أن يقوى المسلمون، وأمروا في حال الضعف بالصبر على الأذى4. وما أحكم الزركشي في تعليقه على هذا الموضوع بقوله: "وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال العلة إلى حكم آخر، وليس بسنخ. إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا"5. ومن ذلك أن الإسلام أمر المسلمين في بدء الدعوة -رأفة بهم ورحمة- بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 6، ثم كتب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه لما قويت الدعوة الإسلامية، فأنزل الله على نبيه في كل حال ما يناسب الظروف التي تحيط به وبالمؤمنين, ولقد حمل هذا بعض العلماء على الإفتاء بالمسالمة والكف عن قتال أهل المنكر لو فرض وقوع الضعف على ما أخبر به   1 ابن سلامة 278. 2 سورة البقرة 106. 3 قارن بالبرهان 2/ 43. 4 انظر الإتقان 2/ 35. 5 البرهان 2/ 42 ونقله السيوطي في "الإتقان" 2/ 35. 6 سورة المائدة 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ" 1. ومن ذلك اشتباه البيان على بعضهم بالنسخ في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 2 فقد عدوه ناسخا لآية متأخرة عنه في ترتيب المصحف في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 3، والتحقيق أن ليس ههنا ناسخ ومنسوخ، وإنما بينت الآية الأولى ما لا يعد ظلما من أكل أموال اليتامى4. ولعل أعجب العجب أن تطوع للمفسرين أنفسهم القول بالتناسخ حتى في الأخبار مع أن العقل لا يكاد يتصور كيف يمكن تبديل الواقعة الثابتة بكل ما حدث فيها من أعمال وما جرى خلالها من أقوال: فها هم أولاء يعدون آية السيف ناسخة أيضا قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} 5 وهو -كما يتضح من سياق الآية- حكاية لما أخذ على بني إسرائيل من الميثاق! 6. وآخر ما تنافس فيه عشاق النسخ إماطة اللثام عن الآيات المنسوخة التي طالت مدة العمل بها قبل نسخ حكمها، وإذا هم يهتدون -وليتهم لم يهتدوا! -   1 البرهان 2/ 43. قد علق الزركشي هنا بقوله الدقيق السديد: "وهو سحبانه وتعالى حكيم، أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن تبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة؛ فما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة الكفار بالإسلام أو بأداء الجزية -إن كانوا أهل كتاب- أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب. ويعود هذان الحكمان -أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة عند القوة- بعود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة, بل كل منهما يجب امتثاله". 2 سورة النساء 6. 3 سورة النساء 10. وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص117. 4 انظر عرض الآراء المختلفة هنا في تفسير ابن كثير 1/ 455. 5 سورة البقرة 83. وانظر الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 37. 6 وإليك الآية بتمامها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} . وقارن بتفسير ابن كثير 1/ 119-120 والإتقان 2/ 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 إلى آية في سورة الأحقاف ثبت حكمها بزعمهم ست عشرة سنة قبل أن ينسخها أول سورة الفتح، وهي قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 1، فابن سلامة يرى أن أول هذه الآية محكم، أما المنسوخ منها فهو قوله: "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" ويقرر أنه عليه الصلاة والسلام عمل بها بمكة عشر سنين وعيره المشركون، فهاجر إلى المدينة، فبقي ست سنين يعيرونه، وكان المشركون يقولون: كيف يجوز لنا اتباع رجل لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه؟ ثم نزل أول سورة الفتح فنسخ هذه الآية، واستنتج منه المشركون أن النبي أمسى يعلم ما يفعل به وبأصحابه! 2. وإن هذا التساهل في نسخ كلام الله، وفي تحديد مدد زمانية للعمل بمنسوخه قبل نسخه، وفي ترديد الآيات بين مدلولها لدى تنزيلها أول مرة ومدلولها بعد تبديل حكمها بآيات أخرى تنزلت عقبها بزمن يطول أو يقصر، حمل الغير على كتاب الله على أن يستبعدوا ما استطاعوا شبح النسخ المخيف، كأنه في نظرهم يعادل البداء، أو كأنه -على الأقل- معبر طبيعي إلى القول بالبداء، والإذن للجهلة في كل زمان ومكان بالخلط بين النسخ بأسراره الحكيمة والبداء بكل قبحه وفساده ودلالته على الجهل!. إن البداء يصدر عن الذي يرى الرأي ثم يبدو له3، وقد فر اليهود من   1 الأحقاف 90. 2 ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ 279، ولم يكتف ابن سلامة بتعسفه هذا كله، بل أضاف إليه تعسفا من لون جديد، فقد رأى أنه "ليس في كتاب الله تعالى كلمات منسوخة نسختها سبع آيات إلا هذه الآية" رادع ص383 في كتابه. ويشير بهذا إلى الآيات السبع في مطلع سورة الفتح، فالآيات الأربع الأولى حتى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} نزلت فيه عليه الصلاة والسلام والآية الخامسة نزلت في صحابته، والسادسة والسابعة في كل من المنافقين واليهود. وما أحسبك قد انقضى عجبك من هذا التكلف النادر!. 3- البرهان 2/ 30. وقد ضبطها أبو الفضل إبراهيم مصحح البرهان مرتين بالضم "البداء" وهو خطأ ظاهر، كما يظهر من مراجعة المادة في جميع القواميس المشهورة، ومعنى البداء الظهور بعد الخفاء ومنه قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} وله معنى آخر هو نشأة رأي جديد لم يك موجودًا. قال في القاموس: "وبدا له في الأمر بدوا" وبداء وبداة، أي: نشأ له فيه رأي" ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قبل من القول بالنسخ لئلا يقودهم بالبداء، فقد حسبوا أن نسخ الشيء بعد نزوله والعمل به يرادف تغيير الله للأحكام بما يبدو له بعد أن لم يك باديا، ولا يجوز نسبة شيء من هذا إلى الله، وتسرع بعض الباحثين المسلمين في القديم والحديث ففروا من النسخ كما فر منه اليهود وعدوه من قبيل البداء -ولا سيما حين رأوا إكثار المفسرين من النسخ من غير دليل- وقد غلا كلا الفريقين، فما كان لأصحاب النسخ أن يكثروا منه ويخلطوه بمفهومات أخرى لا صلة له بها، وما كان لمنكري النسخ أن يبطلوا أمرا صرحت به آيات في كتاب الله ودلت عليه وقائع ثابتة لا قبل للباحث المحقق بردها، ولا كان لهم أن يشبهوا على الناس النسخ بالبداء. لقد نسي منكروا النسخ أو تناسوا -كما قال الزرقاني1: "أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ما ظهر له أمر كان خافيا عليه، وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل. وإنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده، بل من قبل أن يخلق الخلق، ويبرأ السماء والأرض، إلا أنه -جلت حكمته- علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة ومصلحة أخرى. ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس، وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم، وأن الأحكام وحكمها والعباد مصالحهم، والنواسخ والمنسوخات كانت كلها معلومة لله من قبل ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه. والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده, لا ظهرو ذلك له". على أن المنهج الذي نعرف به الناسخ والمنسوخ لا يشتبه فيه النسخ بالبداء، ولا بالتخصيص، ولا بالإنساء ولا ببيان المجمل، فإنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من صحابي يقول: "آية كذا نسخت كذا".   1 مناهل العرفان 2/ 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليعرف المتقدم والمتأخر. ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح ولا معارضة بينة, لأن النسخ يتضمن رفع حكم واثبات حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم، والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد1. وقد صرح المحققون من العلماء بأن كثيرا مما ظنه المفسرون نسخا ليس به " وإنما هو نسء وتأخير، أو مجمل أخر بيانه لوقت الحاجة، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره، أو مخصوص من عمومه، أو حكم عام لخاص أو لمداخلة معنى في معنى. وأنواع الخطاب كثيرة، فنظنوا ذلك نسخا وليس به، وإنما هو الكتاب المهيمن على غيره، وهو نفسه متعاضد، وقد تولى الله حفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. وحين قسم المتزيدون في النسخ سور القرآن أقساما بحسب ما دخله النسخ وما لم يدخله عدوا ثلاث وأربعين سورة فقط ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وست سور فيها ناسخ وليس فيها منسوخ، وأربعين سورة فيها منسوخ وليس فيها ناسخ، وإحدى وثلاثين سورة اجتمع فيها الناسخ والمنسوخ3. ولا يعنينا قط أن نسرد أسماء السور في هذه الأقسام فإن سردها نفسه قائم على أساس فاسد من الغلو والتعسف، وحسبك أن السور المحكمات الخاليات من النسخ لم تزد -في هذا التقسيم- على ثلاث وأربعين، كأن القاعدة هي النسخ لا الإحكام، وكأن الأصل في سور القرآن أن يكون فيها ناسخ أو منسوخ! والحق أن الأصل في آيات القرآن كلها الإحكام لا النسخ، إلا أن يقوم دليل صريح على النسخ فلا مفر من الأخذ به، وما زال العلماء المحققون بالآيات التي قيل إنها منسوخة يبحثونها من وجوهها المختلفة حتى حصروا ما يصلح منها   1 هذا رأي ابن الحصار، وقد عرضه السيوطي في الإتقان 2/ 40. 2 سورة الحجر 9. وقارن بالبرهان 2/ 44. 3 انظر هذه الأقسام في الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص14 وما بعدها، وقارن بالبرهان 2/ 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 لدعوى النسخ في عدد قليل, وتعقب آخرون هذا القليل نفسه فآثروا في طائفة منه القول بالإحكام على القول بالنسخ: فالسيوطي مثلا حصر دعوى النسخ في إحدى وعشرين آية على خلاف في بعضها1، ثم استثنى منها آيتي الاستئذان والقسمة2 فذكر أن الأصح فيهما أنهما محكمتان، فصارت الآيات المنسوخة في نظره لا تزيد على تسع عشرة آية، ولولا خشية الاستطراد لتعقبناها فوجدنا الصالح منها للنسخ لا يزيد على عشر فقط، بيد أننا نفضل أن نحيل القارئ على ما ذكره السيوطي لعله يكتشف من تلقاء نفسه، -في ضوء حديثنا عن النسخ- ما عسى أن يكون أقرب إلى التخصيص أو تأخير البيان أو الإنساء، وما عسى أن يدخل حقا فيما نسخه الله من آيات فأتى بأحسن منها أو مثلها وهو على كل شيء قدير!.   1 راجع الإتقان 2/ 37-38. وقد ذكر السيوطي هنا جميع هذه الآيات الصالحة للقول بالنسخ. 2 يراد بآية الاستئذان قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} وهي آية لا ريب في إحكامها. أما آية القسمة فهي قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} فقد قيل: إنها منسوخة بآية المواريث. والصحيح أنها ليست منسوخة, وحكمها باق على الندب والترغيب في فعل الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الفصل السابع: علم الرسم القرآني اتبعت اللجنة الرباعية في استنساخ مصاحف الأمصار على عهد عثمان "رضي الله عنه" طريقة خاصة ارتضاها هذا الخليفة في كتابة كلمات القرآن وحروفه. وقد اصطلح العلماء على تسمية هذه الطريقة "برسم المصحف". وكثيرا ما ينسبون هذا الرسم إلى الخليفة الذي ارتضاه فيقولون: رسم عثمان أو الرسم العثماني، وكان لا بد أن يحاط هذا الرسم بهالة من الإجلال والتقديس، فالخليفة الذي ارتضاه ووضعه موضع التنفيذ شهيد عظيم لقي مصعره وهو يتلو كتاب الله خاشعا متبتلا1. وهذا يفسر لنا إلى حد كبير اعتقاد الناس أن كل مصحف مخطوط قديم يعثرون عليه لا بد أن يكون مصحف عثمان أو أحد مصاحفه، وربما كان في رأي بعضهم هو المصحف الذي لا يزال عليه أثر من دم الخليفة الشهيد2. ولقد بلغ الغلو ببعضهم أشده حين زعموا أن هذا الرسم القرآني، توقيفي وضع منهاجه النبي الكريم نفسه، صلوات الله عليه، فقد نسبوا إليه -وهو   1 Casanova, Mohammed et l fin du mode, p. 139, قارن ما يقوله كازانوفا برأي بلاشير Blachere, Coran, Introduction, 67 الذي يلاحظ في الحاشية رقم 83 أن جميع مؤرخي العرب عرضوا لمصرع عثمان بهذا الشكل المثير للعواطف، حتى المؤرخ المسيحي ابن العبري في كتابه "تاريخ مختصر الدول" نشر صالحاني، بيروت، سنة 1890، ص 179، س13. 2 Casanova, op. cit, 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الأمي الذي لا يكتب- أنه قال لمعاوية، أحد كتبة الوحي: "ألق الدواة وحرف القلم، وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم, وضع قلمك على أذنك اليسرى, فإنه أذكر لك"1. ومن المتحمسين لهذا الرأي ابن المبارك الذي نقل في كتابه "الإبريز" عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال له: "ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها، لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وهو سر من الأسرار التي خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز! وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في "مائة" دون "فئة"، وإلى سر زيادة الياء في {بِأَييْدٍ} ، و {بِأَييْكُمْ} ، أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في {سَعَوْا} بالحج، ونقصانها من {سَعَوْ} بسبأ؟ وإلى سر زيادتها في {عَتَوْا} حيث كان ونقصانها من {عَتَوْ} في الفرقان؟ وإلى سر زيادتها في {آمَنُوا} ، وإسقاطها من {بَاؤُ، جَاؤُ، تَبُوؤُ، فَاؤُ} بالبقرة؟ وإلى سر زيادتها في {يَعْفُوَا الَّذِي} ، ونقصانها من {يَعْفُوَ عَنْهُمْ} في النساء؟ أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض، كحذف الألف من {قُرْءَنا} بيوسف والزخرف، وإثباتها في سائر المواضع؟ وإثبات الألف بعد واو {سَمَواتٍ} في فصلت وحذفها من غيرها، وإثبات الألف في {الْمِيعَادِ} مطلقا، وحذفها من الموضع الذي في الأنفال؟ وإثبات الألف في {سِرَاجًا} حيثما وقع, وحذفه من موضع الفرقان؟ وكيف تتوصل إلى حذف بعض التاءات وربطها في بعض؟ فكل ذلك لأسرار إلهية, وأغراض نبوية. وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني، بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور، فإن لها أسرارا عظيمة،   1 الزرقاني، مناهل، ج1، ص370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ومعاني كثيرة، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها، ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها! فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف"1. وعلى هذا الأساس، لم يجد الزرقاني في "مناهله" بأسا في أن يعد من مزايا الرسم العثماني "دلالته" على معنى خفي دقيق كزيادة -الياء- في كتابة كلمة "أيد" من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد} إذ كتبت هكذا "بأييد" وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء، وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة، وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى2. ولا ريب أن هذا غلو في تقديس الرسم العثماني، وتكلف في الفهم ما بعده تكلف3، فليس من المنطق في شيء أن يكون أمر الرسم توقيفيا، ولا أن يكون له من الأسرار ما لفواتح السور، فما صح في هذا التوقيف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مجال لمقارنة هذا بالحروف المقطعة التي تواترت قرآنيتها في أوائل السور، وإنما اصطلح الكتبة على هذا اصطلاحا في زمن عثمان، ووافقهم الخليفة على هذا الاصطلاح، بل وضع لهم دستورا يرجعون إليه في الرسم عند الاختلاف في قوله للثلاثة القرشيين: "وإذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش, فإنما نزل بلسانهم"4.   1 نقلا عن الزرقاني، مناهل العرفان، ج1، ص376. 2 الزرقاني، المصدر نفسنه، ج1، ص367 وفي هذا السياق نفسه يسترسل الرزقاني في تعليل الحذف في الآيات التالية: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} ، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} ، {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} ، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، فينقل عن العلماء أنهم قالوا: السر في حذفها من {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} هو الدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير، والسر في حذفها من {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين. إلخ, وهو تكلف ظاهر, والتعليل الطبيعي لهذا كله الكتبة لاحظوا النطق فقط، فالواو تسقط في جميع الآيات في النطق. 3 ومن هذا الغلو والتكلف ما ينقله الزركشي في "البرهان 1/ 380 وما بعدها" عن أبي العباس المراكشي الشهير بابن البناء في كتابه "عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل". 4 وعلى هذا الأساس، "لما كتب الصحابة المصحف زمن عثمان رضي الله عنه اختلفوا في كتابة "التابوت" فقال زيد: "التابوه" وقال النفر القرشيون "التابوت"، وترافعوا إلى عثمان فقال: اكتبوا "التابوت" فإنما أنزل القرآن على لسان قريش" البرهان 1/ 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 واحترام الرسم العثماني واستحسان التزامه أمر يختلف اختلافا جوهريا عن القول بالتوقيف فيه, فقد تضافرت آراء العلماء على ضرورة التزام هذا الرسم حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: "تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك"1 وسئل الإمام مالك: أرأيت من استكتب مصحفا أترى أن يكتب على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: "لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى"2 وروي في فقه الشافعية والحنفية أقوال من هذا القبيل، ولكن أحدا من هؤلاء الأئمة لم يقل: إن هذا الرسم توقيفي، ولا سر أزلي، وإنما رأوا في التزامه ضربا من اتحاد الكلمة واعتصام الأمة بشعار واحد، واصطلاح واحد، فواضع الدستور عثمان، ومنفذه بخطه زيد بن ثابت، "وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه". على أن من العلماء من لم يكتف بإباحة مخالفة الرسم العثماني، بل صرح فوق ذلك بأنه اصطلاحي، ولا يعقل أن يكون توقيفيا. وفي طليعة هؤلاء القاضي أبو بكر الباقلاني3 في كتابه "الانتصار" فهو يقول: "وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف. وليس في نصوص الكتاب ولا مهفومه، أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم   1 السيوطي، الإتقان ج2 ص283. 2 الداني، المقنع ص10 والسيوطي في "الإتقان 2/ 283" ينقل هذا القول المنسوب إلى مالك "رض" من كتاب "المقنع". وانظر أيضا البرهان 1/ 379. 3 هو محمد بن الطيب الباقلاني صاحب كتاب "إعجاز القرآن" توفي سنة 403 "انظر وفيات في وفيات الأعيان ج1 ص481 وفي شذرات الذهب ج2 ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول, وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك. وإذا كانت خطوط المصحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة, وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر علم أنه لم يؤخد في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذن، والسبب في ذلك أن الخطوط إنا هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنى له ذلك! "1. وإن رأي القاضي أبي بكر هذا لجدير أن يؤخذ به, وحجته ظاهرة، ونظره بعيد، فهو لم يخلط بين عاطفة الإجلال للسلف وبين التماس البرهان على قضية دينية تتعلق برسم كتاب الله. أما الذين ذهبوا إلى أن الرسم القرآني توقيفي أزلي فقد احتكموا في ذلك إلى عواطفهم, واستسلموا استسلاما شعريا صوفيا إلى مذاويقهم ومواجيدهم، والأذواق نسبية؛ لا دخل لها في الدين، ولا يستنبط منها حقيقة شرعية.   1 لقد أورد هذا النص ملخصا الزرقاني في "مناهله" ج1 ص373-374، ولكنه أتبعه بالرد عليه، وبنقول من آراء العلماء في تفنيده "374-378". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وإنا لنذهب في رسم القرآن مذهبا أبعد من هذا، فلا نرى جواز مخالفته لمجرد الحجج التي أوردها الباقلاني، بل نأخذ برأي العز بن عبد السلام الذي يقول: "لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يؤدي إلى دروس العلم. وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة"1. وملخص هذا الرأي الأخير أن العامة لا يستطيعون أن يقرءوا القرآن في رسمه القديم, فيحسن بل يجب أن يكتب لهم بالاصطلاحات الشائعة في عصرهم، ولكن هذا لا يعني إلغاء الرسم العثماني القديم لأن في إلغائه تشويها لرمز ديني عظيم اجتمعت عليه الكلمة, واعتصمت به الأمة من الشقاق, ففي الأمة دائما علماء يلاحظون هذه الفروق الضئيلة في طريقة الرسم العثماني, ومن الممكن -مع ذلك- كما اقترحت مجلة الأزهر أن ينبه في ذيل كل صفحة من صفحات المصحف على ما عسى أن يكون فيها من الألفاظ المخالفة للاصطلاح الحديث في الخط والإملاء2.   1 البرهان 1/ 379. 2 وقد حاول السيوطي أن يحصر أمر الرسم القرآني في ست قواعد: هي الحذف والزيادة والهمز والبدل والفصل والوصل، وما فيه قراءتان فيكتب على إحداهما "انظر الإتقان 2/ 283-289" وقد نقلها الزرقاني. برمتها في "مناهل العرفان 1/ 362-366" والاطلاع على هذه القواعد ضروري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الفصل الثامن: علم المحكم والمتشابه نستطيع أن نقول: إن القرآن كله محكم، إن أردنات بإحكامه إتقانه وجمال نظمه بحيث لا يتطرق إليه الضعف في ألفاظه ومعانيه، وبهذ المعنى أنزل الله قوله الكريم: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} 1، كما نستطيع أن نقول: إن القرآن كله متشابه، إن أردنا بتشابهه تماثل آياته في البلاغة والإعجاز، وصعوبة المفاضلة بين أجزائه، وبهذا المعنى أنزل الله قوله الحكيم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} 2 فالإحكام والتشابه في كل من الآيتين السابقتين ليسا مثار بحثنا عن محكم القرآن ومتشابهه، إنما يثير بحثنا هنا الآية السابعة في سورة آل عمران، إذ يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 3. من الواضح في هذه الآية أن المحكم يقابل المتشابه، كما أن الراسخين في العلم يقابلون الذين في قلوبهم زيغ، وقد حمل هذا التقابل العلماء على   1 سورة هود 1. 2 سورة الزمر 23. 3 سورة آل عمران 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 تعريف كل من المحكم والمتشابه، فكثرت آراؤهم في هذا الموضوع وتعددت وجهات نظرهم1، ولكن آرءاهم تئول في النهاية إلى أن المحكم هو الذي يدل على معناه بوضوح لا خفاء فيه, والمتشابه هو الذي يخلو من الدلالة الراجحة على معناه. فيدخل في المحكم النص والظاهر. أما النص فلأنه اللفظ الذي وضع للمعنى الراجح المتبادر. ويدخل في المتشابه المجمل والمؤول والمشكل, لأن المجمل يحتاج إلى تفصيل, والمؤول لا يدل على معنى إلا بعد التأويل، والمشكل خفي الدلالة فيه لبس وإبهام2. ووضوح الدلالة في المحكم يغنينا عن البحث عنه، لأن قراءتنا له كافية لإفهامنا المراد منه، ولكن خفاء المتشابه جدير أن يشغلنا بعض الشيء, لكي نعرفه ثم نجتنبه فلا نتبعه كالذين في قلوبهم زيغ. إن أكثر العلماء يذهبون إلى أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله, ويوجبون في الآية الوقف على اسم الجلالة، أما الراسخون في العلم فقد انتهى علمهم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . لكن أبا الحسن الأشعري كان يرى أن الوقوف في الآية على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، فهم على ذلك يعلمون تأويل المتشابه. وقد أوضح هذا الرأي أبو إسحاق الشيرازي3 وانتصر له فقال: "ليس شيء استأثر الله تعالى بعلمه، بل وقف العلماء عليه، لأن الله تعالى أورد هذا مدحا للعلماء، فلو كانوا لا يعرفون معناه لشاركوا العامة". وتوسط الراغب الأصفهاني فقسم المتشابه من حيث إمكان الوقوف على معناه إلى ثلاثة أضرب: "ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك، وضرب للإنسان أسباب إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة وضرب متردد بين الأمرين   1 الإتقان 2/ 2-3. 2 الإتقان 2/ 5. 3 أبو إسحاق الشيرازي هو إبراهيم بن علي بن يوسف. اشتهر بقوة الحجة في المناظرة، له تصانيف كثيرة أهمها "التبصرة" في أصول الفقه. توفي سنة 476هـ "انظر طبقات السبكي 3/ 88". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 يختص به بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم. وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" 1. ولا ريب أن في رأي الراغب قصدا واعتدالا: فذات الله وحقائق صفاته لا يعلمها إلا الله، وفي هذا المعنى يقول في دعائه: "أنت كما أثنيت على نفسك، ولا أحصي ثناء عليك"، والعلم بالغيب مما استأثر الله به، مصداقا للآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 2. ولقد رأينا في بحث فواتح السور كيف أحيطت هذه الحروف بجو من التورع عن تأويل حقائقها، وعرفنا أن آراء العلماء فيها إنما كانت تدور حول حكمة وجودها لا حول كنه حقيقتها، ففي خفاء هذه الأمور وعجز الإنسان عن الوصول إليها ما يقلل من غروره ويخفض من كبريائه، ويحمله على أن القول: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 3. والآيات المشكلة الواردة في صفات الله تعالى، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} هي أهم ما يتعلق بهذا الضرب من المتشابه الذي لا سبيل لأحد من البشر إلى الوقوف عليه، وقد أفردها ابن اللبان بكتاب سماه "رد المتشابهات إلى الآيات المحكمات"4، وذكر الرازي الحكمة من متشابه الصفات فقال: "إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق, فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود   1 الإتقان 2/ 7-8 والراغب الأصفهاني هو الحسين بن المفضل، أبو القاسم، أديب كبير، أهم كتبه "مفردات القرآن" توفي سنة 502. 2 سورة لقمان 34. 3 سورة البقرة 32. 4 الإتقان 2/ 8 وابن اللبان هو محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الأسعردي، شمس الدين. مفسر من أهل دمشق توفي سنة 749. له تفسير مخطوط "الأعلام "3/ 853". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي محض، فيقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول -وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر- من باب المتشابه، والقسم الثاني وهو الذي يكشف عن الحق الصريح وهو المحكم"1. وللعلماء في متشابه الصفات مذهبان: الأول: مذهب السلف، وهو الإيمان بهذه المتشابهات وتفويض معرفتها إلى الله تعالى. سئل الإمام مالك عن الاستواء فقال: "الاستواء معلوم, والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني"2. والثاني: مذهب الخلف، وهو حمل اللفظ الذي يستحيل ظاهره على معنى يليق بذات الله. وينسب هذا المذهب إلى إمام الحرمين3، وجماعة من المتأخرين. ولتوضيح المذهبين نذكر بعض الآيات القرآنية الواردة في متشابه الصفات. فمن ذلك {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4، و {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 5، و {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 6، {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} 7، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 8 {وَلِتُصْنَعَ عَلَى   1 الزرقاني، مناهل 2/ 179. 2 الإتقان 2/ 8 وقد أخرج الدارمي عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ابن صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل, فقال له: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمي رأسه، وفي رواية أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: ألا يجالسه أحد من المسلمين. الإتقان 2/ 5. 3 إمام الحرمين هو عبد الملك بن أبي عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي العراقي، أبو المعالي، كان شيخ الإمام الغزالي ومن أعلم أصحاب الشافعي. توفي سنة 478هـ "انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 287". 4 سورة طه 5. 5 سورة الفجر 22. 6 سورة الأنعام 61. 7 سورة الزمر 56. 8 سورة الرحمن 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 عَيْنِي} 1، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 2، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 3. فالسلف ينزهون الله عن هذه الظواهر المستحيلة عليه، ويؤمنون بها بالغيب كما ذكرها الله، ويفوضون علم حقائقها إليه، أما الخلف فيحملون الاستواء على العلو المعنوي بالتدبير من غير معاناة4. ومجيء الله على مجيء أمره5، وفوقيته على العلو لا في جهة6، وجنبه على حقه7، ووجهه على ذاته8، وعينه على عنايته9، ويده على قدرته 10، ونفسه على عقوبته 11.وهكذا يؤول الخلف -على هذا المنوال- جميع ما ورد من رضى الله وحبه وغضبه وسخطه وحيائه بحملها على أقرب مجاز، ويقولون: لا يراد من هذه الألفاظ إلا لازمها12. وقد فهم ابن اللبان في كتابه "رد الآيات المتشابهات" الحكمة من ورود هذه الآيات فقال: "من المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الجوارح مع أنها منسوبة إليه تعالى، وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياتها مظهرين: مظهر عبادي منسوب لعباده وهو الصور والجوارح الجسمانية، ومظهر حقيقي منسوب إليه، وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية المنسوبة لعباده   1 سورة طه 39. 2 سورة الفتح 10. 3 سورة آل عمران 28. 4 إلى هذا تؤول أكثر تفسيرات الخلف للاستواء، وانظر هذه الأقوال المختلفة في الإتقان 2/ 9-10 والبرهان 2/ 80-82". 5 البرهان 2/ 83 وقد حكى ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى تأويل أحمد في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّك} [سورة الأنعام: 158] قال: وهل هو إلا أمره؟! بدليل قوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [سورة النحل: 33] "انظر البرهان 2/ 79". 6 الإتقان 2/ 12. 7 الإتقان 2/ 12 أيضا. 8 البرهان 2/ 86. 9 الإتقان 2/ 11. 10 الإتقان 2/ 11 أيضا. 11 البرهان 2/ 83. 12 الإتقان 2/ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 على سبيل التقريب لأفهامهم، والتأنيس لقلوبهم، ولقد نبه في كتابه على القسمين وأنه منزه عن الجوارح في الحالين، فنبه على الأول بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فهذا يفهم أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه تعالى، ونبه على الثاني بقوله فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به" إلخ ... الحديث، وقد حقق الله ذلك لنبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وبقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. وكأني بابن اللبان هنا يستشعر -بذوقه الأدبي الرفيع- ما في الكناية عن الحقائق الدينية الكبرى من الحسن والجمال: فبهذا الأسلوب الرمزي ترتسم في الخيال الإنساني صورة حسية عن الفكرة المجردة، وتقرب إلى الناس في جميع الأجيال أسمى الحقائق بواسطة الخيال. ولعل اشتمال القرآن على المتشابه وعدم اقتصاره على المحكم وحده، أن يكون حافزًا للمؤمنين على الاشتغال بالعلوم الكثيرة التي تقدرهم على فهم الآيات المتشابهات فيتخلصون من ظلمة التقليد، ويقرءون القرآن متدبرين خاشعين2.   1 الزرقاني، مناهل 2/ 193-194. 2 البرهان 2/ 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الباب الرابع: التفسير والإعجاز الفصل الأول: التفسير "نشأته وتطوره" لا ريب أن التفسير مر بأطوار كثيرة حتى اتخذ هذه الصورة التي نجده عليها الآن في بطون المؤلفات والتصانيف، بين مطبوع ومخطوط. ولقد نشأ التفسير مبكرا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول شارح لكتاب الله، بين للناس ما نزل على قبله. أما صحابته الكرام فما كانوا يجرءون على تفسير القرآن وهو عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، يتحمل هذا العبء العظيم، ويؤديه حق الأداء، حتى إذا لحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى لم يكن بد للصحابة العلماء بكتاب الله، الواقفين على أسراره، المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقوموا بقسطهم في بيان ما علموه، وتوضيح ما فهموه. والمفسرون من الصحابة كثيرون، إلا أن مشاهيرهم عشرة: "الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، والرواية عن الثلاثة نزرة جدا، وكأن السبب في ذلك تقدم وفاتهم"1. وأجدر هؤلاء العشرة جميعا بلقب المفسر هو عبد الله بن عباس الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم، ودعا له بقوله: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه   1 الإتقان 2/ 318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 التأويل" 1 وسماه ترجمان القرآن2. ولكن الناس تزيدوا في الرواية عن ابن عباس، وتجرأ بعضهم على الوضع عليه، والدس في كلامه، حتى قال الإمام الشافعي "لم ثيبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث"3. ومن الذين ورد عنهم شيء من التفسير من الصحابة، غير أولئك العشرة، أبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، والسيدة عائشة أم المؤمنين، إلا أن ما روي عنهم قليل بالنسبة إلى العشرة السابقين. وتلقى أقوال الصحابة نفر من كرام التابعين في الأمصار الإسلامية المختلفة، فنشأت في مكة طبقة للمفسرين، وفي المدينة طبقة ثانية, وفي العراق ثالثة، قال ابن تيمية: "أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم, وكذلك أهل الكوفة أصحاب ابن مسعود، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس"4. وعن التابعين أخذ تابعو التابعين, فجمعوا أقوال من تقدمهم وصنفوا التفاسير، كما فعل سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح, وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبد بن حميد5، فكانوا بذلك إرهاصا لابن جرير الطبري6 الذي يوشك المفسرون جميعا من بعده أن يكونوا عالة عليه. وبعد ذلك اتجه العلماء في تفاسيرهم اتجاهات متباينة، فكان ما يسمى "بالتفسير   1 البرهان 2/ 161. 2 الإتقان 2/ 319. 3 الإتقان 2/ 322. 4 نقل هذه العبارة السيوطي في الإتقان 2/ 323. 5 انظر البرهان 2/ 159. 6 انظر طبقات المفسرين للسيوطي 30-31 وشذرات الذهب 2/ 260-261 وتاريخ بغداد 2/ 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بالمأثور"، وهو امتداد للتفاسير السابقة المسندة إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكان ما يسمى "بالتفسير بالرأي" وفيه تعددت المناهج وتضاربت الأفكار فحمد بعضه وذم بعضه، تبعا لقربه من هداية القرآن أو بعده عنها. أ- وأجل التفاسير بالمأثور هو تفسير ابن جرير الطبري، ويسمى كتابه "جامع البيان، في تفسير القرآن" ومن خصائصه أنه عرض فيه لأقوال الصحابة والتابعين مع تحرير أسانيدها، وترجيح بعضها على بعض، واستنباط الكثير من الأحكام وذكر بعض وجوه الإعراب التي تزيد المعنى وضوحا. غير أنه -اعمادا منه على معرفة الناس حال الأسانيد- كان أحيانا يغفل بعضها، ويذكر منها غير الصحيح دون أن ينبه عليه. ويقرب من تفسير الطبري, وربما يفوقه في بعض الأمور, تفسير ابن كثير "عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي المتوفى سنة 744"، ومن مزاياه الدقة في الإسناد، وبساطة العبارة، والوضوح في الفكرة. وتبعا لهذا المنهج ألف السيوطي "ت911" كتابه القيم "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" وقد اعتمد فيه -كما يفهم عن عنوانه- على الأخبار الصحيحة المأثورة التي تجعله أقرب إلى الفكرة الإسلامية منه إلى الشروح الإنسانية. لكن التفسير بالمأثور معرض غالبا للنقد الشديد، لأن الصحيح من الروايات قد اختلط بغير الصحيح, ولزنادقة اليهود والفرس نشاط لا يجهله أحد في الدس على الإسلام وتشويه تعاليمه، ولأصحاب المذاهب والشيع ولوع غريب بجمع معاني القرآن وتنزيلها وفق هواهم، فكان على المفسر بالمأثور أن يدقق في تعبيره، ويحترس في روايته، ويحتاط كثيرا في ذكر الأسانيد. ب- أما التفسير بالرأي فقد اختلف العلماء حوله، فمن محرم له، ومن مجوز، لكن اختلافهم يؤول في الحقيقة إلى أن المحرم منه هو الجزم بأن مراد الله كذا من غير برهان، أو محاولة تفسير الكتاب الكريم مع جهل المفسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 بقواعد اللغة وأصول الشرع، أو تأييد بعض الأهواء بآيات من القرآن زورا وبهتانا، أما إذا كانت الشروط المطلوبة متوافرة في المفسر فلا مانع من محاولته التفسير بالرأي، بل لعلنا لا نبعد إن قلنا: إن القرآن نفسه يدعو إلى هذا الاجتهاد في تدبر آياته وفقه تعاليه، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1 وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 2. وقد نقل السيوطي عن الزركشي "في البرهان" خلاصة الشروط التي لا بد منها لإباحة التفسير بالرأي3، فرآها تندرج تحت أربعة: الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف والموضوع. الثاني: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه. الثالث: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب. الرابع: الأخذ بما يقتضيه الكلام، ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". وأشهر التفاسير التي تتوافر فيها هذه الشروط تفسير الرازي4 المسمى "مفاتيح الغيب" وتفسير البيضاوي المسمى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" وتفسير أبي السعود5 المسمى "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" وتفسير النسفي6 المسمى "مدارك التنزيل، وحقائق التأويل" وتفسير   1 سورة محمد 22. 2 سورة ص29. 3 انظر الإتقان 2/ 304 والبرهان 2/ 156-161. 4 هو الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي، توفي سنة 606 "انظر وفيات الأعيان 1/ 474". 5 هو محمد بن محمد بن مصطفى بن أحمد بن الطحاوي. توفي سة 982هـ. 6 هو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي سنة 710. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الخازن1 المسمى "لباب التأويل في معاني التنزيل". والرازي في تفسيره يسلك مسلك الحكماء الإلهيين في الاستدلالات الكلامية المنطقية, ويعنى ببحث الكونيات عناية خاصة ويقسم الآية أو الآيات التي يكون بصدد تفسيرها إلى عدد من المسائل، ثم يسترسل في تأويلها مدافعا عن عقيدة أهل السنة والجماعة. والبيضاوي في تفسيره يعنى بتقرير الأدلة على أصول أهل السنة, ولا يفوته التنبيه على قواعد اللغة، إلا أنه ليس بالثبت فيما يرويه من الأحاديث في ختام كل سورة لبيان فضلها، فأكثر مروياته فيها غير صحيح. وله حواش كثيرة أفضلها حاشية الشهاب الخفاجي وهي المتداولة. أما أبو السعود فمع تقريره الأدلة على عقائد أهل السنة، يعنى بتبيان المباحث المتعلقة بإعجاز القرآن، وأسلوبه في ذلك مشرق, وتذوقه للبلاغة القرآنية سليم. وأما النسفي فيعنيه بالدرجة الأولى الدفاع عن وجهة نظر أهل السنة والجماعة، والرد على أهل البدع والأهواء، وتفسيره جامع لوجوه الإعراب والقراءات، وفيه إشارات دائمة إلى روائع البلاغة القرآنية، في عبارة موجزة، بل شديدة الإيجاز. والخازن أخيرا على عنايته بالمأثور، لا يذكر أسانيده، ويعجب العامة كثيرا بتفسيره لما فيه من القصص والإسرائيليات. والتفسير بالرأي حتى مع استيفائه جميع الشروط التي تجعله محمودا لا مسوغ له إذا عارضه التفسير بالمأثور الذي ثبت لنا بالنص القطعي، لأن الرأي اجتهاد، ولا مجال للاجتهاد في مورد النص، أما إذا لم يكن تعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور فكل منهم يؤيد الآخر ويثبته، وذلك أكثر ما نجده في كتب التفسير، كالأقوال الكثيرة في تفسير قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ   1 الخازن هو علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المتوفى سنة 741. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. فالسابق من رجحت حسناته والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم المرتكب لبعض المحرمات، على رأي، والسابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم كافر النعمة غير الجاحد لها على رأي ثان، والسابق هو الذي تمحض للخير، والمقتصد هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، والظالم هو المرجأ إلى امر الله، على رأي ثالث، وهكذا2، وهي أقوال كما ترى ليس بينها تناف ولا تعارض. جـ- وتفاسير الفرق الإسلامية المختلفة ترجع -في الحقيقة- إلى التفسير بالرأي، غير أنها تدخل في النوع المذموم منه، لأن أصحابها لم يؤلفوها إلا لتأييد أهوائهم، أو الانتصار لمذاويقهم ومواجيدهم، من ذلك تفاسير المعتزلة والمتصوفة والباطنية. ويغلب على تفاسير المعتزلة الطابع العقلي, والمذهب الكلامي، تبعا لقاعدتهم المشهورة "الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل"3، ولا ترد النصوص النبوية فيها إلا على أنها شيء ثانوي، نادرا ما يلجئون إليه لشرح معاني الآيات، وخير من يمثل هذه النزعة العقلية في التفسير الزمخشري "محمود بن عمر الملقب بجار الله المتوفى سنة 538هـ" في كتابه "الكشاف" الذي يمتاز بإيراد النكات البلاغية وتحقيق بعض وجوه الإعجاز، بطريق الفنقلة "أي: إن قلت قلت"، وهو إلى ذلك خال من الإسرائيليات التي تكثر في بعض كتب التفسير بالمأثور, وعبارته بليغة موجزة ليس فيها حشو وتطويل. وإليك نموذجا من تفسيره: قال في بيان قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ   1 سورة فاطر 32. 2 وانظر بقية الأقوال في الإتقان 2/ 306 وفي تفسير ابن كثير 3/ 254-256. 3 في دائرة المعارف الإسلامية بحث لا بأس به عن المعتزلة. انظر: Encyclop. de l'Islam, art. Mutazila III, 841- 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 1 فإن قلت: لم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على فعل القبيح.. بدليل {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ، {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} 2 إلخ ... ثم أول إسناد الختم إلى الله بأن الكلام استعارة أو مجاز، على معنى أن الشيطان هو الخاتم أو الكافر، وأسند إلى الله تعالى لأنه هو الذي أقدره ومكنه3. ويغلب على تفاسير المتصوفة الشطحات التي تبعدهم عن النسق القرآني، وتجعل كلامهم غامضًا إلا على المشتغل بالشئون الروحية، الذي تعلم أساليب المتصوفة ومرن عليها. وأشهر التفاسير التي من هذا النوع التفسير المنسوب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638، وإن كان كثير من العلماء لا يصححون نسبته إليه. وإليك نموذجا من هذا التفسير، حول تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} 4 ففيه ما نصه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} أي: حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا، إذ مطلع الآية كونه متجليا بالعلم والحكمة والملك في آل إبراهيم {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} نار شوق الكمال، لاقتضاء غرائزهم وطبائعهم بحسب استعدادهم ذلك مع رسوخ الحجاب ولزومه، أو نار قهر من تجليات صفات قهره تناسب أحوالهم، أو نار شره نفوسهم وحدة شوقها وطلبها لما ضريت به من كمالات صفاتها وشهواتها مع حرمانها منها {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} رفعت حجبهم الجسمانية   1 سورة البقرة 7. 2 تفسير الكشاف 1/ 26-27. 3 الكشاف 1/ 28. وتفسير محمد بن بحر الأصفهاني "المتوفى سنة 322هـ" المسمى "جامع التأويل لمحكم التنزيل" على مذهب المعتزلة أيضا. وهو يقع -كما يقول ابن النديم- في أربعة عشر مجلدا. إلا أن المطبوع أقواله الموجودة في تفسير الرازي، وقد جمعها سعيد الأنصاري وطبعها في كلكتا سنة 1340هـ. 4 سورة النساء 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 بانسلاخهم عنه {بَدَّلْنَاهُمْ} حجبا غيرها جديدة {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} نيران الحرمان {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا} قويا يقهرهم ويذلهم بذل صفات نفوسهم، ويحرقهم بنيران توقانها إلى كمالاتهم مع حرمانهم أبدا {حَكِيمًا} يجازيهم بما يناسبهم من العذاب الذي اختاروه لأنفسهم بدواعيهم الغضبية والسهوية وغيرها، وميولهم إلا الملاذ الجسمانية، فلذلك بدلوا حجبا ظلمانية بعد حجب"1. فالتذوق الجداني القائم على ضرب من الحدس النفسي هو الذي يسود هذه الشروح. ولذلك تكثر فيه العبارات الغامضة التي ليس وراءها طائل. والدين لا يؤخذ من ذوق المتذوقين، ولا وجد المتواجدين. ويقرب من تفسير المتصوفة ما يسمى بالتفسير الإشاري, وهو الذي تؤول به الآيات على غير ظاهرها مع محاولة الجمع بين الظاهر والخفي. من ذلك تفسير الآلوسي "المتوفى سنة 1270هت" ويسمى "روح المعاني" فبعد أن يورد فيه مؤلفه تفسير الآيات حسب الظاهر، يشير إلى بعض المعاني الخفية التي تستنبط بطريق الرمز والإشارة، كقوله في تفسير الآية: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2: وإذ أخذنا ميثاقكم المأخوذ بدلائل العقل، بتوحيد الأفعال والصفات، ورفعنا فوقكم طور الدماغ، للتمكن من فهم المعاني وقولها. أو أشار سبحانه بالطور إلى موسى القلب, وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد، وقلنا: "خذوا" أي: اقبلو "ما آتيناكم" من كتاب العقل الفرقاني بجد، وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق، ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك. فولا حكمة الله بإمهاله، وحكمه بإفضاله، لعاجلكم بالعقوبة، ولحل   1 تفسير الشيخ الأكبر، 1/ 152، وقد طبع هذا الكتاب في مجلدين في بولاق سنة 1283هـ و1865م. 2 سورة البقرة 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 بكم عظيم المصبية"1. أما تفاسير الباطنية الذين يقتصرون على الأخذ بباطن القرآن ويهملون ظاهره، مستدلين بقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} 2 فيسل فيها إلا التأويلات الفاسدة المخالفة لأصول الشرع وقواعد اللغة، وتفاسير الباطنية أشد بعدا عن النسق القرآني من تفاسير التصوف والتفاسير الإشارية, وإن كانت تشترك جميعا في مخالفة ظاهر القرآن واستلهام معان ما أنزل الله بها من سلطان. د- هذا وإننا نضطر أحيانا للرجوع إلى نوع معين من التفاسير: فإذا كنا نبحث عن النكات البلاغية رجعنا إلى الزمخشري، وإذا التمسنا المباحث الكلامية رجعنا إلى الرازي، وإذا أردنا إعراب القرآن فعلينا بالبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي "المتوفى سنة 745" ففيه كثير من المباحث النحوية، والمسائل المتعلقة بالقراءات، ولم نجد فيه ما نسلكه به في عداد التفسير بالرأي, كما أنه لا يعنى بالنصوص النبوية إلا قليلا، فليس من باب التفسير بالمأثور. هـ- وقد ألفت في القرن الأخير تفاسير لبعض العلماء المعاصرين فيها محاولات للتجديد، وأقلها نصيبا من النجاح -بلا ريب- "الجواهر في تفسير القرآن" لطنطاوي جوهري، فإن في تفسيره كل شيء ما عدا التفسير. أما تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا فإنه نمط خاص في تأويل كلام الله، يرجع به مؤلفه غالبا إلى آثار السلف محاولا التوفيق بينها وبين مقتضيات العصر الحاضر، ويحالفه النجاح في أكثر هذه المحاولات، إلا أنه أحيانا يستمسك ببعض الآراء الضعيفة ويدافع عنها بقوة وعناد، والمنهج الذي يصدر عنه يدل -بوجه عام- على تعمقه للأسلوب القرآني، ودراسته له على أنه للهداية والإعجاز. ولسيد قطب في تفسيره "ظلال القرآن" لمحات موفقة في فهم أسلوب القرآن في التعبير والتصوير، إلا أن الغرض الأول منه تبسيط المبادئ   1 روح المعاني 1/ 282. 2 سورة الحديد 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 القرآنية للنشء، فهو إلى التوجيه أقرب منه إلى التعليم. والتفسير بالمأثور إذا اجتمع إليه حسن الاستنباط، وسعة الثقافة، والمقدرة على الترجيح هو أولى التفاسير بالاعتبار، ونحن مع ذلك لا ننصح بالاقتصار عليه، فلا بد لنا لتأويل الآية أو الآيات من الرجوع إلى مختلف التفاسير، ثم نحاول أن نختار لأنفسنا أصلح الآراء فيها، إلا أن يثبت لنا على وجه القطع أثر صحيح في الموضوع فنأخذ به ونطرح ما عداه، إذ لا مسوغ للاجتهاد في مورد النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الفصل الثاني: القرآن يفسر بعضه بعضا منطوق القرآن ومفهومه : "القرآن يفسر بعضه بعضا"1. يردد المفسرون هذه العبارة كلما وجدوا أنفسهم أمام آية قرانية تزداد دلالتها وضوحا بمقارنتها بآية آخرى. وإن لهم أن ينهجوا في تأويل القرآن هذا المنهج، لأن دلالة القرآن تمتاز بالدقة والإحاطة والشمول, فقلما نجد فيه عاما أو مطلقا أو مجملا ينبغي أن يخصص أو يقيد أو يفصل إلا تم له في موضع آخر ما ينبغي له من تخصيص أو تقييد أو تفصيل، ولقد كانت هذه الدلالة الشاملة جديرة أن توحي إلى العلماء وضع مصطلحات خاصة يرمز بكل منها إلى السمة البارزة في كل فكرة يدعو إليها القرآن، وفي كل مشهد يصوره، ومن هنا نشأ في الدراسات الإسلامية ما يسمى بمنطوق القرآن ومفهومه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومفصله، وعرفت هذه المصطلحات وأمثالها واستعرضت الشواهد الكثيرة الدالة عليها، وتباينت مناهج العلماء في دراستها، فمنهم من يبحثها على أساس تشريعي وهم الأصوليون، ومنهم من يبحثها على أساس منطقي وهم المتكلمون, وآخرون -ونحن في بحثنا هذا منهم- يؤثرون أن ينظروا إلى هذه المصطلحات من خلال الزاوية اللغوية   1 البرهان 3/ 175 مسألة في أحسن طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 والأدبية، ليتتبعوا بلذة وشغف طريقة القرآن في الأداء والتعبير. وأول ما ينبغي معرفته من هذه المصطلحات منطوق القرآن ومفهومه، لأنهما يفصلان أنواع الدلالة القرآنية المستفادة من اللفظ والمستنبطة من المعنى، فيشملان النص والظاهر والمؤول، وفحوى الخطاب ولحنه، ومعاني الوصف والشروط والحصر، وسنوضح هذه المسألة "بنماذج" مختلفة نجمعها مما تفرق في ثنايا كتاب الله الحكيم. قالوا في تعريف المنطوق: "إنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق"1. فلاحظوا في تعريفه أن التلفظ بالآية هو وحده منفذنا إلى دلالتها. وذلك واضح جدا في "النص" الذي لا يحتمل اللفظ غيره، كدلالة قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 2، فلا يمكن أن يحتمل الفظ غير كمال الأيام العشرة التي نطقت بها الآية ونصت عليها. وحتى ما يسمى "بالظاهر" الذي يفيد معنى متبادرا مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا، هو نوع من المنطوق, لأن دلالته على معناه المتبادر الراجح إنما تتم في محل النطق نفسه، لأن الراجح من اللفظ المنطوق يقدم على مرجوحه، يوضح ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 3 فالباغي يطلق على معنيين، أحدهما مرجوح وهو الجاهل، والثاني راجح وهو الظالم، لأنه هو الظاهر المتبادر من سياقه الآية4. و"المؤول" الذي يستحيل حمله على ظاهره فيصرف إلى معنى آخر يعينه السياق هو كذلك نوع من المنطوق, لأن ظاهره المستحيل مرجوح, ومعناه الذي يعنيه السياق راجح يكاد اللفظ نفسه ينطق به وينبئ عنه، من ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ   1 الإتقان 2/ 52. 2 سورة البقرة 196. 3 سورة الأنعام 145. 4 البرهان 2/ 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1 فإن حمل المعية على قرب الله بذاته مستحيل2، أما تأويلها بالقدرة والعلم والرعاية فمعنى صحيح يصل إلى النفس عن طريق اللفظ المنطوق ذاته من غير تعمل ولا اصطناع. أما المفهوم فقد اصطلحوا على أنه "ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق"3. فلاحظوا في تعريفه أن المعنى الذهني هو المنفذ الوحيد إلى دلالته، ويسمى مفهوم موافقة إذا وافق المنطوق بحكمه، ومفهوم مخالفة إذا لم يوافقه به4، ولكل من هذين المفهومين فروع تتعلق به، فمفهوم الموافقة إذا دل على المعنى الأولي بالأخذ والاعتبار سمي "فحوى الخطاب"، كدلالة "فلا تقل لهما أف"5 على تحريم ضرب الوالدين لأنه أولى بالتحريم من قول أف لمأ، وإذا دل على المعنى المساوي سمي "لحن الخطاب" كدلالة {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 6 على تحريم إحراق أموال اليتامى لأن الإتلاف هو المقصود بالتحريم، سواء أحصل بالأكل أم بالإحراق, فكل منها مساو للآخر7. ومفهوم المخالفة على أنواع أهمها: مفهوم وصفي، ومفهوم شرطي، ومفهوم حصري8. ويتوسع في المفهوم الوصفي فلا يقتصر فيه على النعت، بل يدخل فيه كل ما أفاد معنى الوصفية كالحال والظرف والعدد9.   1 سورة الحديد 4. 2 البرهان 2/ 206. 3 الإتقان 2/ 53. 4 الإتقان 2/ 53 أيضا. 5 سورة الإسراء 22 "انظر الإتقان 2/ 53". 6 سورة النساء 10. 7 محاضرات في أصول الفقه، بدر المتولي عبد الباسط 1/ 181. 8 يذكرون عادة من أنواع مفهوم المخالفة خمسة: الصفة والشرط والغاية والعدد واللقب، ولكننا اقتصرنا على أهمها. 9 الإتقان 2/ 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 مثال النعت {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} 1: مفهومه أنه لا يجب علينا أن نتبين أو نتثبت في نبأ غير الفاسق2، فإذا جاءنا من نعت بالعدالة بدلا من الفسق بنبأ قبلناه وسلمنا به وحسنا الظن بخبره، ومن هنا استنبط العلماء وجوب قبول الخبر الذي يرويه الواحد العدل. ومثال حال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 3 فإن الغاية من الآية التدرج في تحريم المسكرات على المؤمنين، فالصلاة لا تقرب إلا في حال الصحو التي يعلم فيها المصلي ما يقول: وفي حال السكر لا يعي الإنسان شيئا مما يفعل ويقول: ولذلك لا يجوز صلاة المؤمنين وهم سكارى. ومثال الظرف: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} 4 فقد عينت الآية الظرف المكاني الذي يذكر الله فيه ذكرا خاصا، فلو ذكر الله في غير هذا المكان لكان تحصيلا لشيء غير مطلوب5، والأمر التعبدي لا يعلل، لأن تنفيذه على الوجه الذي أراده الشارع دليل على طاعة الله، والتزيد فيه كالنقصان منه معصية ووضع للشيء في غير محله. ونقول مثل ذلك في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 6، فهذا تعيين للظرف الزماني الذي يحرم فيه الحاج، بحيث لو وقع إحرامه في غير هذه الأشهر لكان غير صحيح7. ومثال العدد: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ   1 سورة الحجرات 6. 2 الإتقان 2/ 53. 3 سورة النساء 43. 4 سورة البقرة 198. 5 الإتقان 2/ 53. 6 سورة البقرة 197. 7 الإتقان 2/ 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الْفَاسِقُونَ} 1 فحد القذف ثمانون جلدة لا أكثر ولا أقل2. وهذه الأمثلة الأربعة كلها شواهد على المفهوم الوصفي، مع شيء من الاتساع فيه. ومثال المفهوم الشرطي: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 3 فاشتراط الحمل يفيد أن غير الحاملات لا يجب الإنفاق عليهن4. ومثال المفهوم الحصري: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5 أي: لا نعبد أحد سواك ولا نستعين إلا بك. وقد نص العلماء على أنه لا مفهوم للموصول وصلته في قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} 6، لأن الغالب أن يكن في حجور الأزواج7 ولا مفهوم للشرطية في قوله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 8، لأن إرادتهن التحصن موافقة للواقع، فلا يجوز إكراه الفتيات على البغاء إن مالت أنفسهن إلى الفحشاء، ولم يردن التحصن، لأن الآية لا تشترط شرطا وإنما توافق واقع الفتيات عندما يكون واقعا سليما ليس فيه شذوذ.   1 سورة النور 4. 2 الإتقان 2/ 53. 3 سورة الطلاق 6 "وانظر علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف ص179". 4 واضح أن الزوجات غير الحاملات اللائي لا ينفق عليهن الأزواج، هن المستغنيات بما لديهن من المال، وفقا لقاعدة الإسلام في تحقيق الكيان الاقتصادي المستقل للمرأة كتحقيقه للرجل سواء بسواء، {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [سورة النساء: 32] ، أما في حال فقر المرأة فالرجل مسئول عن الإنفاق عليها، حاملا كانت أو غير حامل، {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [سورة النساء: 34] . 5 سورة الفاتحة 5. 6 سورة النساء 22. 7 الإتقان 2/ 54 وقارن بالبرهان 2/ 23. 8 سورة النور 34 "وانظر الإتقان 2/ 54". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 عام القرآن وخاصه : أ- نقصد بعام القرآن، اللفظ الذي نجده فيه دالا -في أصل وضعه اللغوي- على استغراقه جميع الأفراد التي يصدق عليها معناه من غير حصر كمي ولا عددي1، فإذا قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} 2 فلفظ "رجل" ليس بعام، لأنه يدل على فرد واحد معين، وإذا قال: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} 3 فلفظ "رجلين" ليس بعام كذلك لأنه يدل على شخصين معينين، ومثل ذلك يقال في "رجال" في قوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} 4، وفي "أمة" في قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} 5 وفي "ألف" في قوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 6 لأن هذه الألفاظ تدل على كمية محصورة أو عدد معين, ولا تدل على الشمول والاستغراق، فليس فيها إذن معنى العموم. والقرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، يعبر عن العام بالألفاظ التي وضعها العرب لإفادة الشمول والاستغراق. وقد دل الاستقراء على أن الألفاظ العموم7 لا تخرج عن هذه التي سنذكرها تباعا مع التمثيل من النصوص القرآنية. أولا: لفظ كل، وجميع، وكافة، وما في معناها، نحو {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} 8، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 9، {ادْخُلُوا   1 قارن بعلم أصول الفقه، خلاف، ص213. 2 سورة يس 20. 3 سورة القصص 15. 4 سورة الأعراف 46. 5 سورة آل عمران 113. 6 سورة الأنفال 9. 7 انظر ألفاظ العموم في الإتقان 2/ 26. 8 سورة الرحمن 26. 9 سورة البقرة 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فِي السِّلْمِ كَافَّةً} 1. ثانيا: أسماء الموصول إفرادا وتثنية وجمعا، وتذكيرا وتأنيثا، نحو {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} 2، {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 3، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 4، {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 5. ثالثا: المعرف بأل تعريف الجنس مفردا كان نحو {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6، أو جمعا نحو {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} 7. رابعا: الجمع المعروف بالإضافة نحو {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 8، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 9. خامسا: أسماء الشرط، نحو {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} 10. سادسا: النكرة في سياق النفي، نحو: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} 11. وهذه الصيغ -بحسب الوضع اللغوي- تعين العموم تعيينا حقيقيا ما لم يرد مخصص لها، وموارد التخصيص كثيرة في القرآن حتى لقد تعذر على   1 سورة البقرة 208. 2 سورة البقرة 17. 3 سورة النساء 16. 4 سورة يونس 26. 5 سورة النساء 15. 6 سورة المائدة 38. 7 سورة المؤمنون 1. 8 سورة النساء 11. 9 سورة التوبة 103. 10 سورة الفرقان 68. 11 سورة الحجر 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 بعض العلماء أن يتصور عاما باقيا على عمومه غير قابل للتخصيص1. وحاول السيوطي أن يستنبط من القرآن مثالا على ذلك فوجده في الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} 2. إلخ، فالعموم مقصود في جميع المحارم المذكورة. ولم يكن الأمر محوجا إلى هذا الجهد وذلك العناء، فالعام الباقي على عمومه موجود في القرآن، ولكنه قليل بالنسبة إلى العام المراد به الخصوص، ومن أمثلة الباقي على عمومه قطعا هذه السنن الإلهية التي لا تحتمل التخصيص ولا التبديل في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ} 3 وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 4, وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 5. ومن المحقق أن العام غالبا تصحبه قرينة تمنع بقاءه على عمومه، نحو {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} 6، فلا يراد من أهل المدينة والأعراب إلا القادرون على الجهاد، أما العجزة فلا يشملهم التعبير، لأن العقل يقضي بخروجهم، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 7 فلا يراد بالناس إلا المكلفون، أما الصبية والمجانين فالعقل يقضي كذلك بخروجهم، ومن العام الذي يراد به الخصوص ما يكون فيه الانقال من العموم لغرض بلاغي يزيد التعبير جمالا، والفكرة   1 قال القاضي جلال الدين البلقيني: "ومثاله -أي: العام الباقي على عمومه- عزيز: إذ ما من عام إلا ويتخيل فيه التخصيص، فقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} قد يخص منه غير المكلف، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} خص منه حالة الاضطرار, وخص منه السمك والجراد {وَحَرَّمَ الرِّبا} خص منه العرايا "الإتقان 1/ 26". 2 سورة النساء 22. 3 سورة الأنبياء 30. 4 سورة الأنعام 38. 5 سورة يونس 49. 6 سورة التوبة 121. 7 سورة آل عمران 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وضوحا، كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 1 فالمقصود بالناس هنا إنسان واحد هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع ولم يفرد لأنه المثل الأعلى للإنسانية. وإذا خاطب الله نبيه بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} 2 فخطابه لا يعم الأمة بطريق الدلالة الوضعية, ولكنه يعمها بدليل آخر، هو وجوب الاقتداء به صلوات الله عليه، إلا إذا قام على أن الحكم خاص به. والمدح والذم لا يخرجان العام عن عمومه، مثال ذلك {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} 3، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} 4. ب- أما خاص القرآن فهو اللفظ الموضوع للدلالة على فرد واحد مثل محمد، أو واحد بالنوع مثل رجل، أو على أفراد محصورة الكم والعدد: كاثنين وعشرة وألف, وقوم وأمة وطائفة وفريق5. واللفظ القرآني الخاص قد يكون مطلقا أو مقيدا، وأمرا أو نهيا. فالخاص المقيد كلفظ "مسفوحا" في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} 6 فإن هذا اللفظ قيد لفظ "الدم" المطلق في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 7 ... فقد حمل هنا الخاص المطلق على الخاص المقيد8. وصيغة الأمر إذا وردت في لفظ قرآني خاص تفيد الإيجاب والإلزام9،   1 سورة النساء 53. 2 سورة الأحزاب 1. 3 سورة التوبة 35. 4 سورة الكهف 108. 5 خلاف، علم أصول الفقه, ص 224. 6 سورة الأنعام 145. 7 سورة المائدة 4. 8 انظر خلاف، علم أصول الفقه ص226. 9 خلاف، علم أصول الفقه, ص228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 نحو {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 لكنها قد تصرف إلى معنى آخر بقرينة، كالإباحة في قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} 2 والإشعار بالعجز {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} 3 والتهديد {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} 4 وتكرير طلب الشيء {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 5 أي: كلما شهد أحدكم الشهر وجب عليه الصيام. وصيغة النهي إذا وردت في لفظ قرآني خاص تفيد التحريم على وجه الإلزام6، نحو {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 7، وقد تصرف إلى معنى آخر بقرينة، كالدعاء {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} 8 أو الكراهة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 9. والحكم الذي يفيده الخاص بدلالته الحقيقية الوضعية حكم قطعي لا سبيل إلى الظن فيه، فإذا قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} 10 فالحكم إطعام هؤلاء العشرة, بحيث لا يزاد عليهم ولا ينقص منهم، وذلك لأن الخاص الحقيقي لا يتصور فيه إلا الخصوص، بعكس العام فإنه يتصور فيه دائما ما يخصصه وقلما يبقى على عمومه.   1 سورة المائدة 41. 2 سورة الأعراف 30. 3 سورة البقرة 23. 4 سورة السجدة 40. 5 سورة البقرة 185. 6 خلاف، علم أصول الفقه، ص 230. 7 سورة البقرة 188. 8 سورة آل عمران 8. 9 سورة المائدة 104. 10 سورة المائدة 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 المجمل والمبين : المجمل وهو ما لم تتضح دلالته1، أو هو -بعبارة أوضح- ما له دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه. وقد أنكر داود الظاهري2 وقوعه في القرآن3، والأصح وقوعه غير أنه لا يبقى على إجماله ولا سيما في الأمور التي شعرها الله لعباده وأمرهم بها. وفي إجمال النص ضرب من الغموض ينشأ من أحد الأسباب الآتية: غرابة لفظه: "كالهلوع" فقد فسره السياق القرآني في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} 4. أو وقوع الاشتراك فيه، كلفظ "عسعس" في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَس} 5 فإنه صالح لإفادة الإقبال والإدبار6. أو اختلاف مرجع الضمير, نحو {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 7 يحتمل عود ضمير الفاعل في "يرفعه" إلى ما عاد عليه ضمير "إليه" وهو الله, ويحتمل عوده إلى العمل، والمعنى: أن العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيب، ويحتمل عوده إلى الكلم أي: إن الكلم الطيب -وهو التوحيد- يرفع العمل الصالح، لأنه لا يصح العمل إلا مع الإيمان8. أو التقديم والتأخير، نحو {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمّىً} 9 أي: ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما10. على أن هذا الغموض العارض الناشئ عن تردد المجمل بين أمرين لا يلبث أن يزول, فإذا ورد عليه بيانه سمي مفصلا أو مفسرًا أو مبينا.   1 الإتقان 2/ 30. 2 هو إمام أهل الظاهر داود بن علي بن خلف الأصبهاني, أبو سليمان، المعروف بالظاهري، إليه انتهت رئاسة العلم ببغداد، توفي سنة 270هـ "وفيات الأعيان 1/ 176". 3 الإتقان 2/ 30. 4 سورة المعارج 19-21 "وانظر البرهان 2/ 176". 5 سورة التكوير 17. 6 الإتقان 2/ 30. 7 سورة فاطر 10. 8 الإتقان 2/ 30. 9 سورة طه 129. 10 الإتقان 2/ 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وتبين المجمل إما أن يرد متصلا1، نحو {مِنَ الْفَجْرِ} فإنه فسر مجمل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} 2، إذ لولا من {الْفَجرِ} لبقي الكلام الأول على تردده واحتماله3. وإما أن يرد منفصلا في آية أخرى4، نحو {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} 5 فإنه دل على جواز الرؤية, ويفسر به قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 6، إذ كان مترددا بين نفي الرؤية أصلا وبين نفي الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية7. وقد يقع تبيين المجمل بالسنة النبوية8، لأن القرآن والحديث أبدا "متعاضدان على استيفاء الحق وإخراجه من مدارج الحكمة، حتى إن كلا منهما يخصص عموم الآخر، ويبين إجماله"9. وأكثر ما يكون في الألفاظ الشرعية المنقولة من معانيها اللغوية، "كالصلاة" فقد فسر أقوالها وأفعالها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وكذلك الزكاة بين الرسول مقاديرها، والحج فصل مناسكه10. ومن ذلك تفسيره عليه الصلاة والسلام {قُرَّةِ أَعْيُنٍ} في قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 11 فقد قال: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن   1 الإتقان 2/ 31 أيضا. 2 سورة البقرة 187. 3 البرهان 2/ 215. 4 الإتقان 2/ 31.5 سورة القيامة 22، 23. 6 سورة الأنعام 103. 7 البرهان 2/ 216. 8 الإتقان 2/ 31. 9 البرهان 2/ 129 النوع الأربعون في بيان معاضدة السنة للقرآن. 10 الإتقان 2/ 131 وقارن بالبرهان 2/ 184. 11 سورة السجدة 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 سمعت، ولا خطر على قلب بشر, بله ما اطلعتم عليه" 1. وفي بيان معاضدة السنة للقرآن وتفسيرها لإجماله ألف الإمام أبو الحكم بن برجان2 كتابه المسمى "بالإرشاد في تفسير القرآن"3، وقال: "ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن, وفيه أصله, قرب أو بعد, فهمه من فهمه, وعمه عنه من عمه"4.   1 البرهان 2/ 130. 2 هو الإمام عبد السلام بن عبد الرحمن بن عبد السلام اللخمي الإشبيلي، المعروف بابن برجان، حامل لواء اللغة والنحو بالأندلس في عصره، توفي سنة 627 "انظر بغية الوعاة 306 وشذرات الذهب 5/ 124". 3 من هذا الكتاب نسخة مصورة بمعهد المخطوطات في جامعة الدول العربية. 4 البرهان 2/ 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 النص والظاهر : يراد بالنص ما دل بصيغته نفسها على ما يقصد أصلا من سياقه1، كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2 فالمعنى المقصود أصالة من هذا السياق القرآني نفي كل نوع من أنواع المماثلة بين البيع الحلال والربا الحرام. وبديهي أنه يجب العمل به، لأنه من مقاصد القرآن التي تدل عليها عباراته دلالة واضحة صريحة. أما الظاهر فيراد به ما يتبادر إلى الفهم من عبارته نفسها من غير حاجة إلى قرينة، ولكن مفهومه غير مقصود أصالة من سياقه3، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 4 فالمعنى المتبادر إلى الفهم من غير توقف على قرينة هو   1 خلاف، علم أصول الفقه، ص189-190. 2 سورة البقرة 275. 3 خلاف، علم أصول الفقه، ص188. 4 سورة النساء 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 إباحة نكاح ما حل من النساء، ولكنه لم يقصد من السياق أصلا، وإنما قصد به أصلا قصر العدد على أربع أو الاكتفاء بواحدة. ويجب العمل بالظاهر أيضا، لأ اللفظ لا يصرف عن المتبادر إلا بقرينة، فإذا وجدت هذه القرينة بغير المتبادر منه1.   1 خلاف، علم أصول الفقه، ص189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الفصل الثالث: إعجاز القرآن مدخل ... الفصل الثالث: إعجاز القرآن تحدى القرآن فصحاء العرب بمعارضته، وطاولهم في المعارضة، ولكنهم انهزموا أمام تحديه، وأعلنوا عجزهم عن تقليده؛ لأنه يعلو وما يعلى، وما هو بقول بشر. ولقد كان الإعجاز القرآني خليقا أن يثير في الحياة الإسلامية مباحث على جانب عظيم من الأهمية يتصدى بها العلماء للكشف على وجوه البلاغة القرآنية, وعن أسلوب القرآن الفذ في التصوير والتعبير. وبذل أولئك العلماء جهودا مشكورة, وقاموا بمحاولات مضنية، لإبراز البلاغة القرآنية في صورة موحية ذات ظلال، ولكنهم وقفوا غالبا عند النص الواحد، فاقتطعوه اقتطاعا من الوحدة القرآنية الكبرى, ودرسوه على حدة دراسة تحليلية جزئية ذهب بمعالم جمالها خلافهم الذي لا يتناهى حول مشكلة اللفظ والمعنى, فكانت النزعة الكلامية تفسد عليهم تذوقهم للنصوص، وإدراكهم مواطن البلاغة والإعجاز. ولعل الجاحظ "ت255" أول من تكلم على بعض المباحث المتعلقة بالإعجاز في كتابه "نظم القرآن"، ولم يصلنا هذا الكتاب، ولكن للجاحظ نفسه إشارات إلى هذا المصنف في كتابه "الحيوان" إذ يقول: "ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف بها ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز، والجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة. فمنها قوله حين وصف خمر أهل الجنة: {لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} وهاتان الكلمتان جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا. وقوله عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة: {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني"1. ولا يبعد أن يكون محمد بن زيد الواسطي "ت603"2 قد استفاد من كتاب الجاحظ وبنى عليه حين صنف كتابه "إعجاز القرآن" الذي لم يصل إلينا كذلك، وإنما وصل إلينا ما ينبيء عنه في "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني3 الذي نعلم أنه شرح كتاب الواسطي شرحين: أحدهما كبير سماه "المعتضد"، والآخر أصغر منه. ولقد كان عبد القاهر ذواقة للأسلوب القرآني, حتى أوشك أن يسبق عصره في بعض لمحاته الموفقة التي نفذ بها إلى إدراك الجمال الفني في كتاب الله. واستمع إليه وهو يفسر هذه الصورة البارعة في قوله تعالى: {اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فسيعجبك منه بلا ريب حسه المرهف الدقيق وفهمه طريقة القرآن المفضلة في التعبير والتصوير. قال: "إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا من بعد العلم بالنظم، والوقوف على حقيقته. ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 4 لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجبا سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك, ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزية الجليلة، وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل له في المعنى منصوبا بعده، مبينا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل الثاني, ولما بينه وبينه من   1 تاريخ آداب العرب للرافعي 2/ 152، حاشية 1. 2 راجع كشف الظنون 1/ 120. 3 هوعبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد واضع أصول البلاغة، أشهر كتبه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" توفي سنة 471هـ "إنباه الرواة 2/ 182". 4 سورة مريم 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الاتصال والملابسة كقولهم: طاب زيد نفسا، وقر عمرو عينا، وتصبب عرقا، وكرم أصلا، وحسن وجها، وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه، وذلك أنا نعلم أن " اشتعل" للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس فقط كما أن طاب للنفس، كان لأن سلك فيه هذا المسلك، وتوخي به هذا المذهب, أن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحا، فتقول: اشتعل الرأس، والشيب في الرأس، ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن, وتلك الفخامة؟ وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السبب في أن كان "اشتعل" إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل، ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟ فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه، وأنه قد استقر به، وعم جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به. وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس, أو الشيب في الرأس، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة, ووزان ذلك أن تقول: اشتعل البيت نارا، فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول، وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه، وتقول: اشتعلت النار في البيت، فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه وإصابتها جانبًا منه, فأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة، ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل: {فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} 1 التفجير للعيون في المعنى، وواقع على الأرض في اللفظ كما أسند هناك الاشتعال على الرأس، وقد حصل بذلك من معنى الشمول ههنا مثل الذي حصل هناك، وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيونا كلها، وأن الماء كان يفور من كل مكان فيها، ولو أجري اللفظ على ظاهره   سورة القمر 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 فقيل: وفجرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض، ولم يفد ذلك، ولم يدل عليه، ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض, وتبجس من أماكن فيها1. وآثرنا أن ننقل هذا النص برمته -على طوله- لكيلا نذهب بتصرفنا فيه جمال فكرته، ولقد بدا لنا عبد القاهر -بعبارته الفياضة هذه- مشغوفا بالتصوير القرآني، ناعما بأخيلته البارعة، مدركا تناسقه الجمالي الأخاذ، وإن كان هنا كسواه من بلغاء عصره واقفا عند لمحة من لمحات القرآن الجزئية، غير مستوف خصائص العامة، ولا طريقته الموحدة في التعبير المتحرك النابض بالحياة. ثم يأتي بعد الواسطي الرماني2 "ت384" بكتابه في "الإعجاز"، ولم يصدر فيه عن رأي مبتكر، ولا استشفاف أدق لأسلوب القرآن، ثم يضع القاضي أبو بكر الباقلاني "ت403" كتابه المشهور "إعجاز القرآن" الذي جمع فيه كثيرا من المباحث البلاغية القرآنية ولكنه -على سعته وشموله- لا يصور إلا الفكرة السائدة عن الإعجاز في عصره، ممزوجة بالمسائل الكلامية الكثيرة التي تفقد الكتاب سماته في استقصاء الجمال الفني في القرآن. نخلص من هذا كله إلى أن الباحثين القدامى في البلاغة القرآنية قد شغلوا أنفسهم بمسائل كثيرة هي أبعد ما تكون عن الجو الفني المحض، فلم يتح لهم شغفهم بالتبويب والتقسيم فرصة لإدراك الخصائص العامة المشتركة التي يصدر عنها كتاب الله في تصويره وتعبيره، فيهز النفوس, ويحرك المشاعر، ويفيض الدموع. على أن النهضة الأدبية العربية في القرن الأخير قد وجهت أنظار الباحثين   1 دلائل الإعجاز ص79-80 وانظر تلخيص البيان للشريف الرضي ص220. 2 وقد طبعت رسالته "النكت في إعجاز القرآن" في دار المعارف بالقاهرة مع كتاب "بيان إعجاز القرآن" للخطابي، ورسالة عبد القاهر الجرجاني المسماة "بالرسالة الشافية" بتحقيق الدكتور محمد خلف الله والأستاذ محمد زغلول سلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 إلى مقالات جديدة في عناصر الجمال الفني في القرآن, فللسيد رشيد رضا صاحب المنار لمحات موفقة في فهم القرآن، ومثل ذلك لأستاذه الشيخ محمد عبده، والسيد رشيد يذكرها له في تفسيره، ولمصطفى صادق الرافعي كلمات رائعة في هذا المجال في الجزء الثاني من كتابه "تاريخ آداب العرب" وقد خصه بالقرآن والبلاغة النبوية"، ولسيد قطب بعد هذا كله في كتابه "التصوير الفني في القرآن" تخريجات ذكية، واستنباطات سديدة، وأفكار ناضجة، في استلهام الجمال القرآني بأسلوب مشرق جذاب. ولقد عني مصطفى صادق الرافعي عناية خاصة بالنظم الموسيقي في القرآن، فرأى: "أنه مما لا يتعلق به أحد، ولا يتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها, ومناسبة بعض ذلك لبعضه، مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، والتفخيم والترقيق, والتفشي والتكرير"1. ولا بد لنا من ذكر بعض الأمثلة التي سردها، ليزداد رأيه وضوحا قال: "ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها، لرأيت حركتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة, فيهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف, ومساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ، وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقا في اللسان, واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي، حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة.   1 تاريخ آداب العرب، للرافعي 2/ 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 من ذلك لفظ "النُذُر" جمع نذير، فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا، فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه. ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى في طبيعته من قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} 1 فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوق مواقع الحروف، وأجر حركاتها في حس السمع، وتأمل مواضع القلقلة في دال {لَقَدْ} وفي الطاء من {بَطْشَتَنَا} وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو {تَمَارَوْا} مع الفصل بالمد كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، لكيون ثقل الضمة عليه مستخفا بعد، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها، كما تكون الأحماض في الأطعمة"2. ويرى الرافعي أن القرآن كان "نمطا واحد في القوة والإبداع، وأن مرد ذلك إلى روح التركيب التي تنعطف عليها جوانب الكلام الإلهي، وهذه الروح -على حد تعبيره: "لم تعرف قط في كلام عربي غير القرآن, وبها انفرد نظمه وخرج مما يطيقه الناس، ولولاها لم يكن بحيث هو, كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين, إذ تراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة وتأليفها، ثم إلى تأليف هذا النظم، فمن هنا تعلق بعضه على بعض، وخرج في معنى تلك الروح صفة واحدة هي صفة إعجازه في جملة التركيب كما عرفت، وإن كان فيما وراء ذلك متعدد الوجوه التي يتصرف فيها من أغراض الكلام ومناحي العبارات على جملة ما حصل به من جهات الخطاب، كالقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال إلى نحو مما يدور عليه"3.   1 سورة القمرة 36. 2 تاريخ آداب العرب، للرافعي 2/ 239. 3 تاريخ آداب العرب، للرافعي 2/ 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وإنما كان حرص الرافعي على الأصل اللغوي في الإعجاز، والتزامه له وعنايته به، لأنه كان آخذا نفسه بالكشف عن أسرار النظم الموسيقي في القرآن، هذا النظم الذي يشبه السحر والذي ألف العرب على تعاديهم، وكون منهم أمة واحدة تطرب للحن واحد تجتمع عليه قلوبها في الأرض بينما ترتفع به أرواحها في السماء. وقد نحا سيد قطب في دراسته للقرآن منحى آخر، فلم تكن مفردات القرآن وحدها شاغلة له بموسيقاها، ولا تراكيب القرآن وحدها مستأثرة باهتمامه بتناسقها وترابطها، وإنما كان نظره مركزا في الأداة المفضلة للتعبير في كتاب الله، ولقد وجدها في التصوير وراح يتحدث عنها بأسلوب شعري يستهوي النفوس ويهديها بحق إلى جمال القرآن: "التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن: فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة. فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات، المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الأحداث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة فتنم عن الأحاسيس المضمرة. إنها الحياة هنا، وليست حكاية الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فإذا ما ذكرنا أنا لأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المرئي، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور, ولا شخوص تعبر، أدركنا موضع الإعجاز في تعبير القرآن"1. وفي الفصول التي تلي هذا الفصل من كتابه "التصوير الفني في القرآن" أنشأ سيد قطب يذكر الدليل إثر الدليل على صحة نظرته، وسلامة فكرته، فعقد فصلا للتخييل الحسي والتجسيم، وفصلا للتناسق الفني، وثالثا للقصة في القرآن، ثم عرض بعض النماذج الإنسانية التي تنطق بها الآيات مؤكدا في نهاية المطاف أن الجدل القرآني قائم على ضرب من المنطق الوجداني الذي تشترك فيه "الألفاظ المعبرة، والتعبيرات المصورة، والصور الشاخصة، والمشاهد الناطقة، والقصص الكثيرة"2. ولعل الغاية التي انتهى إليها سيد قطب من فهم الأسلوب القرآني أن تكون أصدق ترجمة لمفهومنا الحديث لإعجاز القرآن، لأنها تساعد جيلنا الجديد على استرواح الجمال الفني الخالص في كتاب الله، وتمكن الدارسين من استخلاص ذلك بأنفسهم، والاستمتاع به بوجدانهم وشعورهم. ولا ريب أن العرب المعاصرين للقرآن قد سحروا قبل كل شيء بأسلوبه الذي حاولوا أن يعارضوه فما استطاعوا، حتى إذا فهموه أدركوا جماله ومس قلوبهم بتأثيره، لذلك سنقتصر في بحثنا هذا على الجانب الفني الخالص الذي نجده عنصرا مستقلا بنفسه كافيا لإثبات فكرة الإعجاز وخلود القرآن بأسلوبه الذي يعلو ولا يعلى. أما ما يتساوق مع هذا العنصر الجمالي الفني من الأغراض الدينية والعلمية التي توسع فيها السيد رشيد رضا، كاشتمال القرآن على العلوم الدينية والتشريعية، وتحقيقه مسائل كانت مجهولة للبشر، وعجز الزمان عن   1 سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص33. 2 سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 إبطال شيء منه1 فهي أمور لا سبيل إلى إنكارها بل يقوم عليها من الأدلة والبراهين ما لا يحصى، غير أنها أدخل في معاني الفلسفة القرآنية منها في بلاغة القرآن، وليست هي مادة التحدي لفصحاء العرب، وإنما تحدى القرآن العرب بأن يأتوا بمثل أسلوبه، وأن يعبروا بمثل تعبيره، وأن يبلغوا ذروته التي لا تسامى في التصوير، فما إعجاز هذا الكتاب الكريم إلا سحره. ولقد فعل سحره هذا فعله في القلوب في أوائل الوحي، قبل أن تنزل آياته التشريعية، ونبوءاته الغيبية، ونظراته الكلية الكبرى إلى الكون والحياة والإنسان. ونحن إذا ألقينا نظرة على كتاب من الكتب التقليدية في "علوم القرآن" -كإتقان السيوطي مثلا- لنستخلص مه ما يتعلق بالأسلوب القرآني فقط باعتباره وجها من وجوه الإعجاز بالنسبة إلى السلف؛ وقعنا على أبواب مختلفة توحي عناوينها بالكثير مما ينطق به مفهومنا الحديث للإعجاز، ولكننا حين نمضي في قراءتها لا نستطيع أن نتملى فيها جمال القرآن، وإنما نكون بها فكرة عن ولوع علمائنا الأقدمين بالتفريع والتبويب واستنباط القواعد البلاغية الكثيرة من الشواهد القليلة، ها هو ذا السيوطي يصهر في "إتقانه" جميع المباحث القرآنية البلاغية التي التقطها من عدد لا يستهان به من المصنفات السابقة، وهو يشير إليها بأمانة وإخلاص, فيدرس تشبيه القرآن واستعارته، وكنايته وتعريضه وحقيقته ومجازه، وحصره واختصاصه، وإيجازه وإطنابه، وخبره وإنشاءه، وجدله وأمثاله وأقسامه، فلا يكاد يفوته فن من فنون القرآن الأدبية، ولا يكاد ينسى جملة مستجادة لأحد المفسرين يبرز بها موطنا من مواطن الجمال القرآني، ونحنى مع ذلك -بإكبارنا العنصر الأسلوبي وإشادتنا به عنصرا أساسيا في الإعجاز- لا نستطيع أن نكتشف في شيء من تلك المباحث التقليدية منبع السحر الأصيل للقرآن. إلا أننا لشديد ثقتنا بأن السحر كامن في صميم النسق القرآني في كل مقطع منه ومشهد، سنستعير بعض عناوين "الإتقان" وبعض الشواهد القرآنية مع تعقيب السيوطي عليها، ثم نتبعها بطريقة فهمنا لها وتملينا مواطن الجمال فيها، ولن يضيرنا أن تكون عناوين أبحاثنا مشتركة، لأن الاصطلاحات الخارجية الشكلية لا تغير شيئا من روحانية القرآن الداخلية العميقة.   1 انظر تفسير المنار، ج1 ص198 إلى 238 "فصل في تحقيق وجوه الإعجاز، بمنتهى الاختصار والإيجاز" وقد جرى على هذا الزرقاني في مناهل العرفان، في بحثه من إعجاز القرآن، ج2 ص227 إلى 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 تشبيه القرآن واستعارته : يذكر السيوطي في هذا الباب تعريف التشبيه وأدواته وأقسامه باعتبار طرفيه وباعتبار وجهه، حتى إذا قسمه باعتبار وجهه إلى مفرد ومركب قال: "والمركب أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 1 فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، وقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} 2: فإن فيه عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة تقضيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزين بزخرفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجاءة, فكأنها لم تكن بالأمس"3. وإنه ليعنينا أن نقف قليلا عند تشبيه الحياة الدنيا، فلقد أصاب السيوطي في استخلاص وجه الشبه، وتقسيمه هذا التركيب القرآني إلى عشر جمل،   1 سورة الجمعة 5. 2 سورة يونس 24. 3 الإتقان 2/ 70، 71 وفي "تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي ص155": {أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أي: لبست زينتها بألوان الأزهار، وأصابيغ الرياض كما يقال أخذت المرأة قناعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أما موضع الجمال الحقيقي في هذا المشهد -مشهد الحياة القصيرة التي يوشك أن تزول- فلم يتتبعه السيوطي في تنسيق الجمل العشر، والصور التي تطويها كل جملة منها في أوقات يتفاوت عرضها الخيالي طولا وقصرا، لأن هذا التفاوت في العرض الخيالي تبعا لمراحل المشهد المصور لم يكن جزءا من التشبيه المركب، فما على السيوطي إلا أن يذكر المعنى العام للآية, وقد وفق فيه وأجاد، وإن علينا نحن أن نشير إلى المراحل التي أبطأ فيها التصوير وتمهل، أو التي اندفع فيها وأسرع، حتى تم لهذا المشهد القرآني من الإعجاز بالألفاظ الجامدة ما لا يتم من الإبداع بالريشة والألوان. لقد استخدمت في هذا المشهد الوسائل المقصرة لعرض مراحل النبات: فالفاء التعقيبية تطوي المشاهد بسرعة عظيمة: ما كاد الماء ينزل من السماء حتى اختلط به نبات الأرض مباشرة، وأصبح فجاءة في متناول الناس يأكلونه والأنعام تتمتع به، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} ولكن أهل هذه الأرض المتمتعين بنباتها البهيج يمتد بهم الغرور، وليجون في اللهو كأنهم يعيشون أبدا، وكأنهم يقدرون على إخلاد الأرض وإخلاد أنفسهم فيها، غارقين في متعها، متقلبين في نعمائها، مسحورين بزخرفها، فاستخدمت "حتى" الدالة على امتداد الصور امتدادا يعرف أوله ويجهل منتهاه، وتتابعت أوصاف الغرور الإنساني تترى، لكل وصف منها تعبير متمهل متبطئ, فأما الأرض فشخصت مرتين, وقامت بحركتين، إذا أخذت بنفسها زخرفها كما تفعل العروس في يوم جلوتها، وتطلبت الزينة تطلبا وسعت إليها سعيا فلم تزين ولكنها ازينت، وأما أهل الأرض فانتفخت أوداجهم زهوا واختيالا، وصعروا خدودهم عجبا وكبرا، وأيقنوا -وإن كان يقينهم ظنا وخيالا- أنهم في الأرض على كل شيء قادرون، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا، وهذه الآماد الطوال كلها ليست إلا ومضات خيالية تزول كما تزول الأطياف، ففي لحظة من ليل أو نهار يأتي تلك الأرض أمر الله فيطوي تلك الأخيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الكواذب في وقت كلمح البصر بل هو أقرب، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وانظر فما من زخرف، وانظر فما من زينة، ثم انظر فالناس المغرورون أعجز من أن يتصوروا ولو بالخيال ربوعهم ومغانيهم في تلك الأرض التي أصبح نباتها حصيدًا هشيما تذروه الرياح {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . ويذكر السيوطي بعد ذلك في الباب نفسه ما يتعلق بالاستعارة، ويقسمها باعتبار أركانها إلى خمسة أقسام، ويستشهد بوفرة من الأمثلة على كل قسم منها، فإذا مر بقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1 جعل ذلك من باب استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، وأوضح ذلك بقوله: "استعير خروج النفس شيئا فشيئا لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلا قليلا، يجامع التتابع على طريق التدريج، وكل ذلك محسوس"2. وقد فاته أن ينبه هنا على ظاهرة التشخيص، وسمتها في القرآن واضحة كل الوضوح, فالحياة تخلع في هذه الآية على الصبح، حتى لقد صار كائنا حيا يتنفس, بل إنسانا ذا عواطف وخلجات نفسية تشرق الحياة بإشراقة من ثغره المنفرج عن ابتسامة وديعة وهو يتنفس بهدوء، وإذا تلا قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 3 لم ير في ذلك إلا ضربا من استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي "فالقذف والدمغ مستعاران وهما محسوسان، والحق والباطل مستعار لهما وهما معقولان"4: فما في التعبير بالقذف من إيحاء، وبالدفع من   1 سورة التكوير 18. 2 الإتقان 2/ 74 وأجمل من هذا قول الشريف الرضي "في مجازات القرآن 360": "والتنفس هنا عبارة عن خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل، فكأنه متنفس من كرب، أو متروح من هم". 3 سورة الأنبياء 18. 4 الإتقان 2/ 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 إشعاع، يظل غامضا بهذا التفسير، ولكن جمال النص يكاد ينطق بالإفصاح عن نفسه حين نتخيل في الآية الحق -وهو معنى مجرد- أشبه بالجسم القوي العنيف الذي ينفذ في جسم الباطل الضعيف الخفيف، فيرزح الباطل تحت وطأة الحق الشديدة التي تدمغه وتكاد تلصقه بالتراب، وتزهق روحه. وهكذا يجتمع في هذا المثل التجسيم والتشخيص والتخييل، وأما التجسيم ففي تصوير الحق بالقذيفة الثقيلة، وأما التشخيص ففي دمغ الحق الباطل وإزهاقه إياه, وأما التخييل ففي تصور نوع الثقل الذي تحدثه حركة القذف ثم الدمغ ثم الإزهاق، فإنها أصوات شداد توشك أن تكون صدى لعظام الباطل, وهي تتحطم وتقعقع1. وإذا قرأ السيوطي قوله تعالى في وصف جهنم: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} 2 لم يجد في هذا المشهد المروع إلا استعارة معقول لمحسوس والجامع عقلي, مع أن تشخيص جهنم في هذه الآية هو الذي يجعل المشهد حافلا بالحياة والحركة، فهي مغيظة محنقة تحاول أن تكظم غيظها حين أالقي إليها المجرمون، ولكأن منظرهم البشع كان أشد من أن تتحمله وتصبر عليه، فتلقتهم بألسنة لهبها وهي تئز وتشهق، وبمهلها وقطرانها وهي تغلي وتفور، حتى كاد صدرها ينفجر حقدا عليهم، ومقتا لوجوههم السود. فليس في الصورة استعارة معقول لمحسوس فقط، وإنما استعيرت لجهنم شخصية آدمية, لها انفعالات وجدانية، وخلجات عاطفية، فهي تشهق شهيق الباكين، وهي تغضب وتثور، وهي ذات نفس حادة الشعور3. لسنا ندعي أن تحليلات الأقدمين لمشاهد القرآن الفنية لم تكن تتيح لهم أن   1 ولقد أصاب الشريف الرضي حين لاحظ أن "الدمغ إنما يكون عن وقوع الأشياء الثقال وعلى طريق الغلبة والاستعلاء، فكأن الحق أصاب دماغ الباطل فأهلكه" مجازات القرآن 228. 2 سورة الملك 7-8. 3 ولقد تملى الشريف الرضي جمال هذه الصورة حين رأى أن الله سبحانه "وصف النار بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه أن يبالغ في الانتقام، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام" مجازات القرآن ص339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 يستشعروا جمال هذا الكتاب الكريم، وإنما نريد أن نقول: إن استشعارهم ذلك الجمال كان بطبيعة الحال متأثرا بمنهجهم الذي يجعل للقاعدة البلاغية المكان الأول, ولكن للتقعيد مساوئ كثيرة أهمها أن جفاف العاطفة يفقد المشهد المرسوم قيمته التصويرية الفنية. ولذلك نجد لزاما علينا أن نشيد ببعض التحليلات الموفقة التي تبرز جمال الصورة القرآنية عند علمائنا السالفين, فالسيوطي لدى تفسير قوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} 1 ينقل خلاصة آراء البلاغيين في الاستعاضة عن "بلغ" بـ"اصدع"، ويكاد تعقيبه يشعرك بأنه أدرك أن الاستعارة هنا ضرب من التجسيم مع التخييل لشيء معنوي مجرد، فهو يقول: "استعير الصدع -وهو كسر الزجاجة, وهو محسوس- للتبليغ وهو معقول, والجامع التأثير، وهو أبلغ من "بلغ" وإن كان بمعناه لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ، فقد لا يؤثر التبليغ، والصدع يؤثر جزمًا"2، وكأن السيوطي يقول بتعبير آخر: إن ما أمر به عليه الصلاة والسلام جسم فأصبح مادة سريعة العطب قابلة للشق والكسر، فليصدعها بقوة وليخيل إلى قارئ هذه العبارة أنه يسمع حركة هذه المادة المصدوعة، فذلك أدل على نفاذ تبليغه إلى القلوب من أية صغية أخرى. ولك أن تستحسن أيضا تذوقه جمال هذه الاستعارة في قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} 3 فإنه يقول: "شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي، فأثبت له الإرادة التي هي من خواص العقلاء"4. ومن ذلك قوله في {وَاعْتَصِمُوا   1 سورة الحج 94. 2 الإتقان 2/ 75 "وقارن بمجازات القرآن للشريف الرضي ص189" وينقل السيوطي في تفسير هذه الآية عن ابن أبي الأصبع أن معناها صرح بجميع ما أوحي إليك، وبلغ كل ما أمرت ببيانه وإن شق ذلك على بعض القلوب فانصدعت، والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصريح في القلوب فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة" الإتقان ج2 ص92. 3 سورة الكهف 77. 4 الإتقان 2/ 76 وقارن بالبرهان 2/ 291، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 1: "شبه استظهار العبد بالله ووثوقه بحمايته، والنجاة من المكاره، باستمساك الواقع في مهواة بحبل وثيق مدلى من مكان مرتفع يأمن انقطاعه". ومن ذلك قوله في {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} 2: "أصل الموج حركة الماء، فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعار، والجامع سرعة الاضطراب وتتابعه في الكثرة"3. والخلاصةن أننا لا نريد أن نستبدل التجسيم والتشخيص والتخييل بعبارات البلاغيين القدامى "التشبيه والاستعارة وما شابه ذلك" لأن هذه التسميات المختلفة شكليات لا تمس جوهر الموضوع في شيء، وإنما نريد ألا نغفل عن الحياة والحركة والتناسق الفني في المشاهد القرآنية, فإنها أوضح من أن تكتم، وأقوى من أن تهمل، وبعد ذلك فلنعبر عن الصورة المحسة أو المتخيلة بالتعبير الذي نؤثره، فإما يكون من الاصطلاحات القديمة التي تبث فيها الحياة وتنفخ فيها الروح، وإما أن يكون بألفاظنا الحديثة السهلة التي تنفر من التعقيد وتأبى كلفة التقعيد، وتصور الحياة بريشة الحياة نفسها وبأصباغها الزاهية وألوانها البديعة.   1 سورة آل عمران 103 وانظر الإتقان 2/ 76. 2 سورة الكهف 100. 3 الإتقان 2/ 74 وقارن بمجازات القرآن 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 المجاز والكناية : لقد استدعى بحثنا عن التشبيه والاستعارة أن نجري شيئا من التعديل في تصورنا طريقة القرآن في التعبير، كما كان يفهمها علماؤنا السالفون رضي الله عنهم وأرضاهم، ونفعنا بعلومهم، وكان هذا التعديل الطفيف ضروريا بالنسبة إلى التشبيه والاستعارة لقيام أكثر الصور المفصلة على أحدهما، وتركبها منهما. فغير هذين البابين قلما يحوجنا إلى تعديل في تصوره أو فهمه، فنستطيع أن ندرسه على ما نجده في ثنايا الكتب القديمة, لأنه يدخل في التصوير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 العام، أو التعبير المجمل، الذي برع الأقدمون في تفريعه وتبويبه وتوفير الشواهد عليه، وفهموه من ورح التركيب في كل نص على حدة، تستوي في ذلك مباحثهم عن المجاز العام الذي ليست علاقته المشابهة، وعن الكناية وأنواع الرمز بها، وعن الإيجاز والمساواة والإطناب، وعن الخبر والإنشاء، وما شابه ذلك. ولقد يتيسر لأحدنا لدى عرض تلك المباحث وشواهدها ذوق خاص يود لو يضيفه إلى المفهومات القديمة، ولكن ذلك لن يغير من طبيعة الموضوع شيئا، لأن علماءنا السالفين كانوا في ذلك كله أقرب منا إلى النبع وأقدر منا على تتبع خصائص الأسلوب العربي، ولا سيما الأسلوب القرآني. فما يضيفه أحدنا إلى ملاحظاتهم وتوجيهاته ليس إلا قبسا من نارهم وشعاعا من نورهم. فلنسمع إليهم يحدثونا عن مجاز القرآن, ولنستجد ما استجادوه من ألوان التعبير المجازي، فنحن معهم أمام ما سموه بالمجاز العقلي الذي علاقته المشابهة، وهو واقع في التركيب، وأمام ما سموه بالمجاز اللغوي الذي يستعمل فيه اللفظ في غير ما وضع له، وهو واقع في المفرد. ولن نخوض الآن معهم في أقسام كل من المجازين، فلتفصيل ذلك نرجع إلى كتب البلاغة، وإنما نتباعهم في بعض شواهدهم، فمن المجاز العقلي ما يكون أحد طرفيه حقيقيا دون الآخر كقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَة} 1 قالوا في توضيح ذلك: "فاسم الأم "الهاوية" مجاز، أي: كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع"2، وهذا فهم سديد، خصوصا إذا وقفنا عند هذا التركيب وحده ولم نربطه بالنسق القرآني الذي صاحبه، فإن ربطناه به وقرأنا الآيات كلها {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ} 3 تجلى لنا من مجموع المشهد معنى آخر لطيف، فالأعمال المعنوية جسمت ووزنت بموازين حسية، فإذا هي خفاف ترتفع بها كفة الموازين،   1 سورة القارعة 9. 2 الإتقان 2/ 60. 3 سورة القارعة 8-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فلا يقابل خفتها وارتفاعها إلا هاوية سحيقة منخفضة في الدرك الأسفل من النار الحامية التي لا يكون للمجرم في ذلك الهول أم سواها يلجأ إليها ويعتصم بها. وساءت ملجأ ومعتصمًا!. ومن المجاز اللغوي إطلاق اسم الكل على الجزء, نحو {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} 1 أي: أناملهم، ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد مبالغة في الفرار2، وفي ذلك تصوير لحالتهم النفسة وما أصابهم من الذعر والهلع وهم يولون هاربين. ومن الغريب حقا أن بعض العلماء أنكروا وقوع المجاز في القرآن "منهم الظاهرية3 وابن القاص4 من الشافعية، وابن خويز منذاذ5 من المالكية، وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله". لكن الذين تذوقوا جمال الأسلوب القرآني يرون أن هذه الشبهة باطلة، "ولو سقط المجاز من القرآن لسقط منه شطر الحسن, فقد اتفق البلغء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو المجاز من القرآن لوجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها"6. وإذ كان بعض العلماء يعتبر الكناية ضربا من ضروب المجاز، أنكر وقوعها في القرآن منكرو المجاز فيه. ولكن للكناية مفهوما آخر غير مفهوم   1 سورة البقرة 19. 2 الإتقان 2/ 60 "وانظر البرهان 2/ 262". 3 هم أهل الظاهر، أتباع الإمام داود بن علي بن خلف المعروف بالظاهري لأخذه بظاهر النصوص. 4 ابن القاص هو أحمد الطبري أبو العباس، من فقهاء الشافعية، من كتبه "أدب القاضي" توفي سنة 335هـ "طبقات الشافعية 2/ 103". 5 ابن خويز منذاذ "بمعجمتين أو إهمال الأولى" من علماء المالكية، تلميذ الأبهري، توفي في حدود سنة 400هـ. 6 الإتقان 2/ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 المجاز، فهي لفظ أريد به لازم معناه، وهي -على هذا- كثيرة في القرآن، لأنها من أبلغ الأساليب في الرمز والإيماء, وللقرآن قصد إلى الرمز في مواطن لا يجمل فيها التصريح، فإذا أراد الله أن يعبر عن الغاية من المعاشرة الزوجية -وهي التناسل- رمز إلى ذلك بلفظ "الحرث" في قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 1 ويكمل وصف تلك العلاقة بين الزوجين -بما فيها من مخالطة وملابسة- بأنها لباس من كل منهما للآخر {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 2. ومن هذا الباب في الإيماء اللطيف الذي يعلمنا أدب التعبير {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 3، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 4، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} 5. ومن أجمل الكنايات في مثل هذه المعاني {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} 6 {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} 7 لأن المراد بالفروج هنا فروج القمصان والثياب8، فما تنفرج ثياب المؤمنين عن ريبة ولا تنكشف دروع المؤمنات عن منكر، بل المؤمنون والمؤمنات نقية ثيابهم طاهرة أذيالهم عفيفة أنفسهم, على حد قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} 9 كناية عن عفة النفس وطهارة الذيل10، ولذلك سموا هذا النوع من التعبير "كناية عن كناية"، وبه قال المفسرون في تأويل قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} 11، فإحصانها فرجها كناية عن طهارة ذيلها   1 سورة البقرة 223 "وانظر الإتقان 2/ 79". 2 سورة البقرة 187 "وانظر البرهان 2/ 304 ومجازات القرآن 354". 3 سورة النساء 43. 4 سورة البقرة 187. 5 سورة الأعراف 189 "وانظر البرهان 2/ 304". 6 سورة المؤمنون 5. 7 سورة الأحزاب 35. 8 انظر البرهان 2/ 305. 9 سورة المدثر 4. 10 مجازات القرآن 353؛ تأويل مشكل القرآن 107. 11 سورة التحريم 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وعفتها الكاملة1، وكان النفخ في جيب درعها -كما ورد- تأكيدا لهذا المعنى الرمزي الذي يجمع إلى أدب التعبير إشادة لا نظير لها بعفة السيدة مريم التي فضلها الله على نساء العالمين. وتستخدم الكناية في القرآن لاختصار مقدمات لا أهمية لها بالتنبيه على النتيجة الحاسمة التي يتقرر فيها المصير. مثاله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 2: فهذه كناية عن أنه جهنمي3 وأن مصيره إلى اللهب {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} 4, فهي تسعى بالنميمة, ومصيرها أن تكون حطبا لجهنم5, وأن تكون مغلولة اليد، وواضح أن الكناية هنا لخصت في ومضة واحدة المصير الذي يراد تصويره. ولقد بلغ بالقرآن حرصه على الرمز والإيماء أن يكني عن الحقائق الدينية الكبرى المتعلقة بذات الله وصفاته، بأسلوب تزيده المبالغة حسنا، لأنه يقرب الفكرة المجردة من الصورة المحسة، فتستحيل المبالغة فيه بلاغة، ويصير التهويل فيه تخييلا، فالله يقول في سعة جوده وكرمه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 6، ويؤثر للتعبير عن هذا المعنى اللفظ نفسه الذي يكنى به عن إسراف العبد وتبذيره في قوله: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 7، أي: لا تبالغ في الإنفاق والعطاء كمن يبسط يده فلا يردها عن الإنفاق شيء. وفي هذا الجو الرمزي نستطيع أن نتملى جمال الكناية عن الشئون الغيبية "بالمفاتح": {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} 8 وجمال الكناية عن أزلية الأرزاق والمقدرات بالخزائن: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا   1 الإتقان 2/ 79 وانظر البرهان 2/ 305-306. 2 سورة المسد 1. 3 البرهان 2/ 308. 4 سورة المسد 4-5. 5 البرهان 2/ 308. 6 سورة المائدة 64 "وانظر البرهان 2/ 308 والإتقان 2/ 79". 7 سورة الإسراء 29. 8 سورة الأنعام 59 "وانظر مجازات القرآن 136". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 1. وإن القرآن ليدعك أحيانا ترسم في خيالك صورة ناطقة لا تقف عند الرمز الكنائي، بل تجاوزه إلى التعريض، وإذا كنت في الكناية تذكر اللفظ وتريد لازم معناه، فإنك في التعريض تذكر اللفظ وتلوح به إلى ما ليس من معناه، لا حقيقة ولا مجازا. مثال: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} 2، فلو أجرينا الكلام على ظاهره لكان إخبارا بازدياد حر جنهم، وكونه أشد من حر الدنيا وهو معلوم للمخاطبين بالقرآن، فلا معنى لذكره والتنبيه عليه، ولكن الغرض الحقيقي التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال المعتذرين بشدة الحر بأنهم سيردون جنهم ويجدون حرها الذي لا يوصف. هذا ما نفهمه من الآية، ولكن السبكي في كتابه "الإغريض في الفرق بين الكناية والتعريض"3 يذهب في فهمها مذهبا آخر يقيمه على منهجه في التفرقة بين هذين الأسلوبين فهو يقول: "الكناية لفظ استعمل في معناه مرادا منه لازم المعنى، فهي بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة، والتجوز في إرادة إفادة ما لم يوضع له، وقد لا يراد بها المعنى بل يعبر بالملزوم عن اللازم وهي حنيئذ مجاز، ومن أمثلته: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} : فإنه لم يقصد إفادة ذلك، لأنه معلوم، بل إفادة لازمه، وهو أنهم يردونها ويجدون حرها إن لم يجاهدوا، وأما التعريض فهو لفظ استعمل في معناه للتلويح بغيره نحو {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} 4 نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة، لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا   1 سورة الحجر 21. 2 سورة التوبة 81. 3 السبكي هو تقي الدين علي بن عبد الكافي المتوفى سنة 756هـ وكتابه "الإغريض" ذكره في "كشف الظنون 1/ 130". 4 سورة الأنبياء 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 يكون عاجزًا1. ولا ريب أن معنى التلويح والتعريض ظاهر في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ولكنه ليس أقل ظهورا ووضوحا في الآية السابقة {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} كما فهمناها، فكلا المثلين يصلح شاهدا على التعريض الذي فيه معنى أبلغ من الكناية.   1 نقلا عن الإتقان 2/ 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الفصل الرابع: الإعجاز في نغم القرآن إن هذا القرآن -في كل سورة منه وآية, وفي كل مقطع منه وفقرة، وفي كل مشهد منه وقصة، وفي كل مطلع منه وختام- يمتاز بأسلوب إيقاعي غني بالموسيقى مملوء نغما، حتى ليكون من الخطأ الشديد في هذا الباب أن نفاضل فيه بين سورة وأخرى أو نوازن بين مقطع ومقطع، لكننا حين نومئ إلى تفرد سورة منه بنسق خاص, إنما نقرر ظاهرة أسلوبية بارزة نؤيدها بالدليل، وندعمها بالشاهد، مؤكدين أن القرآن نسيج واحد في بلاغته وسحر بيانه، إلا أنه متنوع تنوع موسيقى الوجود في أنغامه وألحانه! ولعلنا لا نخطئ إن رددنا -مع الأستاذ سيد قطب- سحر القرآن إلى نسقه الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعا: "فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة، والتفعيلات التامة, فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة، وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي, وضم ذلك إلى الخصائص التي ذكرنا, فشأى النثر والنظم جميعا"1. وإن هذه الموسيقى الداخلية لتنبعث في القرآن حتى من اللفظة المفردة في كل آية من آياته، فتكاد تستقل -بجرسها ونغمها- بتصوير لوحة كاملة فيها اللون زاهيا أو شاحبا، وفيها الظل شفيفا أو كثيفا.   1 التصوير الفني في القرآن "لسيد قطب" 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أرأيت لونا أزهى من نضرة الوجوه السعيدة الناظرة إلى الله، ولونا أشد تجهما من سواد الوجوه الشقية الكالحة الباسرة في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة} 1؟ لقد استقلت في لوحة السعداء لفظة "ناضرة" بتصوير أزهى لون وأبهاه، كما استقلت في لوحة الأشقياء لفظة "باسرة" برسم أمقت لون وأنكاه. وحين تتسمع همس السين المكررة تكاد تستشف نعومة ظلها مثلما تستريح إلى خفة وقعها في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 2. بينما تقع الرهبة في صدرك وأنت تسمع لاهثا مكروبا صوت الدال المنذرة المتوعدة مسبوقة بالياء المشبعة المديدة في لفظة "تحيد" بدلا من "تنحرف" أو "تبتعد" في قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} 3. وتقرأ قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} 4، فلا ترى في المعجم غير كلمة "زحزح" تصور مشهد الإبعاد والتنحية بكل ما يقع في هذا المشهد من أصوات، وما يصاحبه من ذعر الذي يمر بحسيس النار ويسمعه ويكاد يصلاه!. وليأخذنك من الغيظ مثل ما يأخذ جنهم حين تتسمع لفظ "تميز" من قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} 5، وليستولين عليك القلق وأنت تكرر هاء السكت في أكثر فواصل سور الحاقة, فتنسى وأنت تتلو قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 6 أن الذي هلك سطانه من أوتي   1 سورة القيامة 22-25. 2 سورة التكوير 15-18. 3 سورة ق 19. 4 سورة آل عمران 185، وقارن بالكشاف 1/ 235. 5 سورة الملك 8. 6 سورة الحاقة 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 كتابه بشماله لا أنت ولا سلطانك، فتظل من الآيات في قلق شديد. وما أحسب شفتيك إلا منقبضتين استقباحا واستهجانا لحال الكافر الذي يتجرع صديده ولا يكاد يسيغه، في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} 1 فتستشعر في لفظ "التجرع" ثقلا وبطئًَا، يدعوان إلى التقزز والكراهية!. ولا أحسبك إلا مستشعرا عنف لفظة الكبكبة في قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} 2 حتى لتكاد تتصور أولئك المجرمين يكبون على وجوههم أو على مناخرهم، ويلقون إلقاء المهملين، فلا يقيم أحد لهم وزنا! فإن يك هذا كله في اللفظة المفردة، تعبر مستقلة عن لوحة كاملة، فكيف بالآية التي تتناسق في جوها الكلمات، أو في السورة التي تنسجم حول فكرتها جميع الآيات!. من ذا الذي يقرأ قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} 3، ثم لا يتخيل في جو هذه الآية وحدها الشواظ الناري يتطاير، والنحاس الملتهب يذوب فوق رءوس المجرمين وهم يحاولون النفاذ من أقطار السموات! ومن ذا الذي يقرأ سورة كاملة من سور القرآن -طويلة أو قصيرة ومكية أو مدنية- ثم لا يوقظ نسقها الرائع قلبه، ويهز إيقاعها العجيب مشاعره؟ إن المرء ليحار إذا قرأ مثلا سورة "الرحمن"، فيتساءل: هل انبعث إيقاعها الرخي المنساب من مطلعها أم من ختامها أم من خلال آياتها؟ وإذا هو يقطع بأن النغم يسري فيها كلها: في فواصلها ومقاطعها، وفي ألفاظها وحروفها، وفي انسياقها وانسيابها، حتى لو انتقي على حدة مقطع واحد من   1 سورة إبراهيم 17. وقارن بالكشاف 2/ 297. 2 سورة الشعراء: 94. 3 سورة الرحمن 35، وقارن بابن أبي الإصبع "بديع القرآن" 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 مقاطعها، أو موضوع واحد من موضوعاتها الجزئية، والتمس في أجزائه النغم والإيقاع، لكان في كل جزء منه نغمة، وفي كل حرف منه لحن من ألحان السماء!. وعلى هذا الأساس من انفراد القرآن بحفاظه على تناسقه الإيقاعي -سواء أحللت على تعاقب سوره وحدة كاملة، أم اقتطعت بغير تعمد بعض أجزائه على حدة- على هذا الأساس يحلو لنا أن نقتطف من سور قرآنية متنوعة بعض مواقف الدعاء، ثم نقفو بآذاننا مواطن السحر في إيقاعها الجذاب. والدعاء -بطبيعته- ضرب من النشيد الصاعد إلى الله، ولا يحلو وقعه في نفس الضارع المبتهل إلا أن تكون ألفاظه منتقاة، فلا غرو إذا بدا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في دعائه المأثور كالحريص على شيء من التقطيع المقصود, من سجع لطيف، أو طباق رشيق، أو رنة شافية. أما القرآن نفسه فلم ينطق على لسان النبيين والصديقين والصالحين إلا بأحلى الدعاء نغما، وأروعه سحر بيان! وإذا تذكرنا أن ابتهال الصالحين كثير في القرآن رغبا أو رهبا، طمعا أو خوفا، اسعجالا لخير أو دفعا لشر1، أدركنا سرا من أسرار التنغيم ينبعث من كل مقطع في كتاب الله. ومن سحر القرآن أن النغم الصاعد فيه خلال الدعاء يثير بكل لفظة صورة، وينشئ في كل لحن مرتعا للخيال فسيحا: فنتصور مثلا -ونحن نرتل دعاء زكريا- شيخا جليلا مهيبا على كل لفظة ينطق بها مسحة من رهبة وشعاع من نور، ونتمثل هذا الشيخ الجليل -على وقاره- متأجج العاطفة، متهدج الصوت، طويل النفس، ما تبرح أصداء كلماته تتجاوب في أعماق قلوبنا شديدة التأثير. بل إن زكريا في دعائه ليحرك القلوب المتحجرة بتعبيره الصادق عن حزنه وأساه خوفا من انقطاع عقبه، وهو قائم يصلي في المحراب لا يني ينادي اسم "ربه" نداء خفيا، ويكرر اسم "ربه" بكرة وعشيا، ويقول في   1 قارن بإحياء علوم الدين "للغزالي" 1/ 301-372. "كتاب الأذكار والدعوات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 لوعة الإنسان المحروم وفي إيمان الصديق الصفي: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1. وإن البيان لا يرقى هنا إلى وصف العذوبة التي تنتهي في فاصلة كل آية بيائها المشددة وتنوينها المحول عند الوقف ألفا لينة كأنها في الشعر ألف الإطلاق: فهذه الألف اللينة الرخية المنسابة تناسقت بها "شقيا-وليا-رضيا" مع عبد الله زكريا، ينادي ربه نداء خفيا!! ولقد استشعرنا هذا الجو الغنائي كله ونحن نتصور نبيا يبتهل وحده في خلوة مع الله، وكدنا نصغي إلى ألحانه الخفية تصاعد في السماء، فكيف بنا لو تصورنا جماعة من الصديقين الصالحين وصفهم الله بأنهم من أولي الألباب "الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض" كيف بنا لو تصورنا هؤلاء يشتركون ذكرانا وإناثًا، شبانا وشيبا، بأصوات رخية متناسقة تصعد معا وتهبط معا وهي تجأر إلى الله وتنشد هذا النشيد الفخم الجليل: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 2. إن في تكرار عبارة "ربنا" لما يلين القلب, ويبعث فيه نداوة الإيمان، وإن في الوقوف بالسكون على الراء المذلقة المسبوقة بهذه الألف اللينة لما يعين على الترخيم والترنيم, ويعوض في الأسماع أحلى ضربات الوتر على أعذب العيدان!   1 أوائل سورة مريم. وقارن ببديع القرآن "لابن أبي الإصبع" 20. 2 سورة آل عمران 191-194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ولئن كان في موقفي الدعائين هذين نداوة ولين، ففي بعض مواقف الدعاء القرآنية الأخرى صخب رهيب: ها هو ذا نوح عليه السلام يدأب ليلا ونهارا على دعوة قومه إلى الحق، ويصر على نصحهم سرا وعلانية، وهم يلجون في كفرهم وعنادهم ويفرون من الهدى فرارا، ولا يزدادون إلا ضلالا واستكبارًا. فما على نوح -وقد أيس منهم- إلا أن يتملكه الغيظ ويمتلئ فوه بكلمات الدعاء الثائرة الغضبى تنطلق في الوجوه مديدة مجلجلة، بموسيقاها الرهيبة وإيقاعها العنيف، وما أظنك تتخيل الجبال إلا دكا، والسماء إلا متجهمة عابسة، والأرض إلا مهتزة مزلزلة، والبحار إلى هائجة ثائرة, حين دعا نوح على قومه بالهلاك والتبار وفقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} 1. أما الحناجر الكظيمة المكبوتة التي يتركها القرآن في بعض مشاهده تطلق أصواتها الحبيسة -بكل كربها وضيقها وبحتها وحشرجتها- فهي حناجر الكافرين النادمين يوم الحساب العسير. ولنا الآن أن نتمثل شرذمة من أولئك المجرمين تلفح وجوههم النار، فيتحسرون ويحاولون التنفيس عن كربهم ببعض الأصوات المتقطعة المتهدجة كأنهم بها يتخففون من أثقال تنقض ظهورهم ويفرغون عن طريقها ما يعانون من عذاب أليم: وإذا هم يوم الدين يدعون ربهم دعاء التائبين النادمين ويقولون: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} 2. ولو شئنا أن نستعرض "نماذج" أخرى سوى ما سبق -لإبراز الإيقاع القرآني العجيب في مواقف الدعاء- لطال بنا الحديث وخرجنا عن الإيماءة العجلى إلى البحث المفصل الدقيق، مع أن التوسع في هذا الموضوع لم يكن   1 الآيات الأخيرة من سورة نوح. 2 سورة الأحزاب 67-68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 مقصودا لذاته في كتابنا هذا، فقد اتجهنا بالدرجة الأولى إلى علوم القرآن، فألممنا بأكثرها إلماما، وحاولنا تتبعها في أطوارها التاريخية، ثم عرضنا من غير إسهاب للإعجاز القرآني في التصوير والتعبير والتناسق الفني العجيب. وبعد ... فذلك شأن الإيقاع في القرآن: ليست الفاصلة فيه كقافية الشعر تقاس بالتفعيلات والأوزان، وتضبط بالحركات والسكنات، ولا النظم فيه يعتمد على الحشو والتطويل، أو الزيادة والتكرار، أو الحذف والنقصان، ولا الألفاظ تحشد حشدا، وتلصق إلصاقا، ويلتمس فيها الإبهام والإغراب، بل الفاصلة طليقة من كل قيد، والنظم بنجوة من كل صنعة، والألفاظ بمعزل عن كل تعقيد: إن هو إلا أسلوب يؤدي غرضه كاملا غير منقوص, يلين أو يشتد، ويهدأ أو يهيج! ينساب انسيابا كالماء إذا يسقي الغراس، أو يعصف عصفا كأنه صرصر عاتية تبهر الأنفاس! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 خاتمة : هذا هو القرآن: ليس فيه شيء من افتراء المختلق أو تخرصات الكذوب، ولا فيه شيء من أخيلة الشاعر أو سبحات الأديب، ولا يشبه شيء من كلام الفصحاء أسلوبه الفذ العجيب: إنه وحي يوحى، وتنزيل يتنزل, وهدي رباني يلقى على النبي ذكرا، ويأمره أمرا، لم يختلط مرة واحدة بشخص هذا النبي العربي الذي كان بشرا مثل سائر البشر، ولم يكن بدعا من حديث السماء الذي أوحاه الله -من لدن نوح- إلى عباده المصطفين الأخيار! هذا هو القرآن الذي نزل نجوما، يتدرج -خلال ثلاثة وعشرين عاما- مع الأحداث والوقائع الفردية والاجتماعية, وكان في تدرجه ذاك هدى وبشرى وموعظة للمؤمنين. ولقد حفظ الله هذا القرآن بكتابته في السطور، ونقشه في ألواح الصدور, فلم يحط كتاب سواه بمثل العناية التي أحيط بها، ولم يصل كتاب -كما وصل- بتواتر سوره وآياته، وألفاظه وحروفه، وقراءاته ووجوهه، ونقطه ورسمه، وتعشيره وتحزيبه، ومصاحفه وصحفه، وتجويد خطه وتزيين طباعته. أقبل العلماء على هذا الكتاب المجيد مشغوفين بكل ما يتعلق به: حتى أحصوا عدد آياته وحروفه، وعدد ألفاظه المعجمة والمهملة، وأطول كلمة فيه وأقصرها، وأكثر ما اجتمع فيه من الحروف المتحركة، واشتغلوا منه بأبحاث دون تلك وزنا معتقدين أن لهم في هذا كله ثوابا عند الله وأجرا، إذ حققوا إرادته الأزلية في حفظ كلامه المبين من عبث السنين. أما العلوم القرآنية الصميمة الدقيقة التي دارت حول هذا الذكر الحكيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وخدمت أغراضه وغاياته، وعبرت عن كلياته وجزئياته, وصورت آفاق فلسفته الروحية الأصيلة في الكون والحياة والإنسان، فقد رأينا أئمة الإسلام يبذلون في تأصيل أصولها ووضع قواعدها جهدا ضخما، ورأيناهم ينشئون من أجلها المدارس الفكرية، ويصنفون فيها الكتب العلمية, ويقيمون على أسسها المذاهب الفلسفية والفقهية والروحية. وما من ريب في أن ما بسطناه من علوم القرآن -في غضون مباحثنا هذه- قد ملأ قلب القارئ، وراع خياله، وأثار انتباهه، حين عرضنا في "أسباب النزول" لما للآيات من قصة تعين على الفهم السديد وتلهم أرجح التأويل وأصح التفسير، وحين وصفنا مقاييس المفسرين المحققين في ترجيح الروايات المنبئة عن تلك الأسباب بمصطلحها الدقيق وتخريجها الذكي ونقدها الحصيف، وجمعها بين السبب التاريخي والسياق الأدبي في الآيات التي وضعت في السطور على حسب الحكمة ترتيبا وحفظت في الصدور على حسب الوقائع تنزيلا، وحين تحدثنا عن ألوان من التناسق الفني يعوض بها القرآن أسباب النزول إذا لم تعرف، أو يؤكد مدلولاتها "بالنماذج" الحية إذا عرفت ولم تحفظ، أو حفظت ولم تشتهر. وفي المكي والمدني جابهنا المستشرقين -أول الأمر- بتعيين منطلق الدعوة الإسلامية بمكة، ليرى كل باحث صورة بدء الوحي جلية واضحة خالية من كل لبس أو غموض، فبهذا الوضوح في تفسير واقع السيرة النبوية يتيسر لكل من المؤرخ والمفسر والأديب أن يتقصى مراحل الوحي المتعاقبة في مكة ثم في المدينة. وإذ كنا في المكي والمدني نواجه موضوعا وثيق الصلة بالتاريخ لم نتردد في تفضيل التقسيم الزمني على التقسيمات المكانية والموضوعية والشخصية، فما لبثنا أن رأينا -في ضوء هذا التقسيم التاريخي- ما نزل بمكة أو بالمدينة، ابتداء ووسطا وختاما, كأن نزوله يجري الآن تحت سمعنا وبصرنا! رأينا الوحي ينزل في الليل والنهار، وفي الحر والبرد، وفي السفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 والحضر، وفي الحرب والسلم، وتابعنا الجزئيات التي كان ينزل فيها، بل أومأنا في تحليلنا الخاطف للمراحل المكية الثلاث، إلى أبرز ما تمثل في ألفاظها وفواصلها، وإيقاعها وتناسقها، وعقائدها وأحكامها، فإذا المرحلة المكية الأولى قصيرة الآيات شديدة الإيجاز، وإذا فواصلها الموزونة المقفاة، بإيقاعها العجيب، تناسب أحيانا وتتموج، وتلهث أحيانا وتتهدج، وتقصف أحيانا وتدمر، وتصرخ أحيانا وتزمجر. وفي المرحلة المكية الثانية لاحظنا أن الإضافات التي زيدت على حقائق المرحلة الأولى قد صيرت موضوعاتها كالمستقلة بنفسها، فقد بدأت الدعوة الإسلامية تثير مخاوف المشركين وتقذف الرعب حقا في قلوبهم، أما أسلوب هذه المرحلة فقد ظل -كأسلوب المرحلة الأولى- متجانس المقاطع والفواصل، كثير الأصباغ والألوان، فإذا لوازم الإيقاع تبرز أحيانا، وإذا الأنغام في السورة الواحدة تتنوع ساحرا خلابا. وفي المرحلة المكية الثالثة استشعرنا جوا جديدا أوشك أن يجعل هذه المرحلة انتقالية تتوسط بسورها الطوال وحي مكة الذي تم نزوله ووحي المدينة الذي سوف يتعاقب على حسب الوقائع: فوقعنا في هذه المرحلة على كثير من السور الطوال، وعلى طائفة منها مفتتحة ببعض الحروف المقطعة, وعلى عرض مفصل لقصص أئمة الأنبياء. وفي ضوء ما حللناه من "نماذج" هذه المراحل الثلاث بدا لنا أن من اليسير -إن تركنا جانبا ما اختلف المحققون في ترتيبه الزمني- أن نعين السابق من التنزيل والمسبوق، وأن نضع أيدينا على فصائل متماثلة تبرز فيها ملامح صريحة نجزم معها بأنها مرحلة مكية أولى أو متوسطة أو ختامية. ولما انتقلنا إلى النوازل المدنية كان تعيين مراحلها حتى آخر ما نزل من الوحي أيسر علينا- بعد انتشار الإسلام- فلم نؤنس حاجة إلى الإسهاب في تقصي الأطوار المدنية, واكتفينا، مخافة غلبة الأسلوب الفقهي على بحثنا الأدبي -بالإيماء إلى رءوس المسائل فقط في سورة واحدة "نموذجية" من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 المرحلة المدنية الأولى: هي سورة الأنفال, واستنتجنا -من خلال هذه السورة- ما يسود السور المدنية من تفصيل الحقائق الشرعية في العبادات والمعاملات، والحلال والحرام، والأحوال الشخصية والقوانين الدولية. وشئون السياسة والاقتصاد، وأحوال السلم والحرب، ووقائع المعارك والغزوات، ومواطن التقييد والإطلاق، والتعميم والتخصيص، والناسخ والمنسوخ. ولعل القارئ قد تنبه إلى إطالتنا في فصل المكي والمدني، وتناولنا كثيرا من جزئياته بالتفصيل, ونظنه عرف السر في هذا الإسهاب، فإن بعض المستشرقين ومن تأثر بمناهجهم من مفكرينا وقادة الرأي فينا لم يذروا في موطن من بذور الشك مثلما ذروا في بحث المكي والمدني: أثاروا الشبهات حول عمر النبي في بدء الوحي، وحول تغاير الأسلوب القرآني بين مكة والمدينة تبعا لشخصية النبي وظروفه الخاصة، وحول ترتيب ما نزل بمكة أو المدينة، وحول ما ألحق بالمدني من وحي مكة, أو ما ألحق بالمكي من وحي المدينة, وكادوا يرتبون لنا قرآننا على هواهم رغم جهلهم تاريخنا، وفساد تذوقهم نصوصنا الأدبية البليغة. لذلك كررنا على شبهاتهم جميعا ننقضها نقضا، ونردها إلى صدورهم سهاما قاتلات. وفي الفصول المتتابعة بعد ذلك حاولنا أن نصل إلى الحكمة من افتتاح بعض السور بالحروف المقطعة, وأن نتعرف إلى مشاهير القراء ونوضح الفروق بين أنواع القراءات المتواترة والآحادية والشاذة، ونصف ما لأسانيد المحدثين من أثر في تسلسل القراءات، وأن نتقصى أصح ما روي من وجوه الناسخ والمنسوخ، ونتصدى للخالطين بين النسخ والتخصيص، وبين النسخ والبداء، وبين النسخ والإنساء، وبين نسخ الأحكام ونسخ الأخبار، مؤكدين أن الأصل في آيات القرآن كلها الإحكام لا النسخ إلا أن يقوم على النسخ دليل صريح. وحين عرضنا لعلم الرسم القرآني فرقنا بين التزام الرسم العثماني وبين القول بالتوقيف فيه. ولم نغل في تقديس هذا الرسم، ولم نصدق ما زعموه في بعضه من الدلالة على معنى خفي دقيق, بل انتصرنا لمذهب القائلين بكتابة القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 بالاصطلاح الشائع لمن يعجز عن قراءته برسمه القديم، ورأينا علماء اللغة والقراء المختصين أجدر وحدهم بأن يحافظوا على تدارس القرآن برسمه العثماني وكل ما دار حوله من بحوث. وفي علم المحكم والمتشابه فصلنا مذهبي السلف والخلف, واستشعرنا ما في الكناية عن ذات الله وصفاته من الحسن والجمال. وكان علينا -في الباب الأخير الذي عقدناه للتفسير والإعجاز -أن نتقصى الخطوات التي مر بها التفسير حتى اتخذ الصورة التي نجده عليها في بطون المؤلفات، وأن نفرق بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، وأن نتبين كيف يفسر القرآن بالقرآن لما في دلالته من الإحاطة والشمول، في منطوقه ومفهومه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومفصله، ونصه وظاهره. وننتهي إلى إعجاز القرآن, فإذا نحن نرد سحره إلى نسقه الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعا، بموسيقاه الداخلية, وفواصله المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، وتقفيته التي تغني عن القوافي، ورأينا كيف تم للقرآن من الإعجاز بالألفاظ الجامدة ما لا يتم للفنان من الإبداع بالريشة والألوان, وحاولنا في تصور التشبيه والاستعارة والكناية وأنواع المجاز أن نبث الحياة في اصطلاحات القدامى، فكان القرآن -في هذا كله- نسيجا واحدا في بلاغته وسحر بيانه، إلا أنه متنوع تنوع موسيقى الوجود في أنغامه وألحانه!! فذلك هو القرآن: إن نطق لم ينطق إلا بالحق، وإن علم لم يعلم إلا الهدى والرشاد، وإن صور لم يصور إلا أجمل لوحات الحياة، وإن رتل ترتيلا لم يسمع بعده لحن في الوجود!. ذلك كتاب الله المجيد {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 جريدة المراجع على حروف المعجم : 1- باللغة العربية : إتحاف فضلاء البشر، بالقراءات الأربع عشر "لأحمد الدمياطي المشهور بالبنا" القاهرة سنة 1359هـ. الإتقان في علوم القرآن "للسيوطي" جزءان، مطبعة حجازي بالقاهرة, ط -3، 1360هـ1941م. أحسن التقاسيم، في معرفة الأقاليم "للمقدسي، شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر" باعتناء دي غويه. ليدن 1877. أحكام القرآن "لابن العربي" القاهرة، مطبعة السعادة 1331هـ. إحياء علوم الدين "للغزالي" القاهرة 1346. إرشاد العقل السليم، إلى مزايا القرآن الكريم "لأبي السعود" جزءان، بولاق 1275. أسباب النزول "للواحدي" بهامشه "الناسخ والمنسوخ" لأبي القاسم هبة الله بن سلامة، القاهرة 1351هـ. الإصابة في تمييز الصحابة "لابن حجر العسقلاني" بهامشه "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر، القاهرة، طبع مصطفى محمد, 1358هـ 1939م، 4 أجزاء. الأعلام "خير الدين الزركلي" الطبعة الجديدة، في عشرة أجزاء. إنباه الرواة على أنباه النحاة "للقفطي، الوزير جمال الدين أبي الحسن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 علي بن يوسف" بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1374هـ 1955م. إملاء ما من به الرحمن، من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن "للعكبري" القاهرة، الطبعة الميمنية 1321هـ. أنوار التنزيل وأسرار التأويل "للبيضاوي" طبعة فليشر Fleisher جزءان، ليبسيك 1846م. إعجاز القرآن "للباقلاني" القاهرة، السلفية 1349هـ. البحر المحيط "لأبي حيان الأندلسي" القاهرة، 1328، 8 مجلدات. بديع القرآن "لابن أبي الإصبع" القاهرة 1377هـ 1957م. البرهان في علوم القرآن "للزركشي" بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم, القاهرة, دار إحياء الكتب العربية, أربعة أجزاء 1376هـ-1957م. بغية الوعاة "للسيوطي" القاهرة، 1326هـ. بيان إعجاز القرآن "للخطابي" مطبوع ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن بتحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام, القاهرة, دار المعارف. تاريخ آداب العرب "لمصطفى صادق الرافعي" القاهرة, مطبعة الاستقامة 3 أجزاء 1359هـ-1940م "وقد رجعنا إلى الثاني خاصة". تاريخ بغداد "للخطيب البغدادي" طبعة الخانجي بمصر 1349هـ-1931م. تاريخ مختصر الدول "لابن العبري" نشر صالحاني، بيروت، 1890م. تأويلات القرآن: انظر تفسير الشيخ الأكبر. تأويل مشكل القرآن "لابن قتيبة" القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1373هـ. التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن "للشيخ طاهر الجزائري" طبع المنار بالقاهرة 1934م. تذكرة الحفاظ "للذهبي" طبعة حيدر آباد 1334هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 التصوير الفني في القرآن "لسيد قطب" القاهرة 1949. تفسير الجلالين "جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي" مذيل بكتاب "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي، طبعة بولاق 1280هـ. تفسير الرازي "مفاتيح الغيب" القاهرة 1321، 8 مجلدات. تفسير سورة الأنفال "لمصطفى زيد" القاهرة، مطبعة الاعتماد 1373هـ-1954م. تفسير الشيخ الأكبر "المنسوب إلى ابن عربي وهو للكاشي" بولاق في مجلدين 1283هـ- 1865م. تفسير الطبري "جامع البيان في تفسير القرآن" القاهرة 1321هـ-1903م. 30 جزءا في 10 مجلدات. تفسير القاسمي - انظر محاسن التأويل. تفسير القرآن الحكيم "للسيد محمد رشيد رضا": انظر تفسير المنار. تفسير القرطبي: انظر الجامع لأحكام القرآن. تفسير المنار "للسيد محمد رشيد رضا " الطبعة الثالثة، القاهرة 1354هـ-1935م. تفسير ابن كثير، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، الطبعة الثانية 1373هـ-1954م، 4 أجزاء. تلخيص البيان في مجازات القرآن "للشريف الرضي" بتحقيق محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 1955م. تهذيب التهذيب "لابن حجر العسقلاني" طبعة حيدر آباد 1372هـ. التيسير في القراءات السبع "لأبي عمرو الداني" نشره وحققه المستشرق برتزل Pretzel في الآستانة 1930م "في المجلد الثاني من المكتبة الإسلامية t.II Bibliotheca Islamica" جامع البيان في تفسير القرآن: انظر تفسير الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 جامع بيان العلم وفضله: انظر مختصر جامع بيان العلم1. جامع التأويل لمحكم التنزيل "لمحمد بن بحر الأصفهاني" جمعه ونشره سعيد الأنصاري في كلكتا 1340هـ. الجامع لأحكام القرآن "للقرطبي": تفسير القرطبي، دار الكتب المصرية 1358هـ-1939م. دراسات في فقه اللغة "لمؤلف هذا الكتاب" ط1 في مطبعة جامعة دمشق 1379هـ وط 2 في بيروت 1382هـ. الجواهر في تفسير القرآن الكريم "لطنطاوي جوهري" القاهرة 1349هـ-1930م، 25 جزءا في 13 مجلدا. الدر المنثور في التفسير بالمأثور "للسيوطي" طبعة الحلبي بمصر 1314هـ. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة "لابن حجر" حيدر آباد 1348هـ. دلائل الإعجاز "لعبد القاهر الجرجاني" الطبعة الثانية بمطبعة المنار 1331هـ "نشر السيد محمد رشيد رضا". رسالة التوحيد "للإمام محمد عبده" الطبعة التاسعة 1357هـ. الرسالة الشافية في إعجاز القرآن "لعبد القاهر الجرجاني" ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز، بتحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، القاهرة، دار المعارف. الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة "لمحمد بن جعفر الكتاني" الطبعة الأولى 1332هـ "عنيت بنشرها مكتبة عرفة بدمشق وطبعت في بيروت". روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني "تفسير الآلوسي" 30 جزءا، المطبعة المنيرية, القاهرة دون تاريخ. رياض الصالحين، من كلام سيد المرسلين "للإمام النووي" بتعليق   1لم نرجع إلى الأصل، بل إلى المختصر، وإنما حذفنا كلمة "المختصر" تخففا من الإضافات المتوالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 رضوان محمد رضوان، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، الطبعة الثالثة، دون تاريخ. زاد المعاد في هدى خير العباد "لابن القيم الجوزية" القاهرة سنة 1324هـ، جزءان. سنن الترمذي، طبعة بولاق سنة 1292هـ. سيرة الرسول "لابن هشام " بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، 4 أجزاء، القاهرة. الشاطبية "حرز الأماني، ووجه التهاني في القراءات السبع المثاني" للإمام الشاطبي، طبع حجر، مصر 1286هـ. شذرات الذهب في أخبار من ذهب "لابن العماد الحنبلي" طبعة حسام الدين القدسي سنة 1350هـ. طبقات النحويين واللغويين "للزبيدي، أبي بكر محمد بن الحسن" بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم, الطبعة الأولى سنة 1373هـ-سنة 1954م. طبقات الشافعية "لابن السبكي" طبعة الحسينية سنة 1324هـ. طبقات القراء "لابن الجزري": انظر غاية النهاية. الطبقات الكبرى "لابن سعد" ليدن 1925-1928، 15 مجلدًا. طبقات المفسرين "للسيوطي" معها شروح لاتينية باعتناء الأستاذ مرسنج "A.Moursinge " ليدن سنة 1839م. طيبة النشر في القراءات العشر "لابن الجزري" طبعت في مجموعة من كتب القراءات مشتملة على سبعة متون في مطبعة شرف سنة 1308هـ. الظاهرة القرآنية "لمالك بن نبي"، القاهرة 1958. ظلال القرآن "لسيد قطب" القاهرة، دار إحياء الكتب العربية. علم أصول الفقه "لعبد الوهاب خلاف" القاهرة، الطبعة السادسة، سنة 1373هـ-سنة 1954م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 علوم الحديث ومصطلحه "لمؤلف هذا الكتاب" مطبعة جامعة دمشق, 1379هـ. غاية النهاية في طبقات القراء "لابن الجزري" نشر برجشتراسر "Bergstrasser" الأستانة سنة 1935م وما بعدها، 3 مجلدات. فتح الباري "لابن حجر" طبعة بولاق سنة 1301هـ. الفتوحات المكية "لابن عربي" بولاق سنة 1269هـ. فضائل القرآن "لابن كثير" طبعة المنار سنة 1327هـ. الفهرست "لابن النديم" نشر فلوجل Flugel ليبسيك سنة 1871، جزءان في مجلد واحد. فوات الوفيات "لمحمد بن شاكر الكتبي" مصر سنة 1299هـ. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل "للزمخشري" القاهرة، مطبعة مصطفى محمد، الطبعة الأولى سنة 1354هـ، 4 أجزاء. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون "لحاجي خليفة" الطبعة التركية سنة 1360هـ-سنة 1941م. لباب التأويل في معاني التنزيل "تفسير الخازن" بهامشه تفسير البغوي، مصر سنة 1231-32هـ. 7أجزاء. مجاز القرآن "لأبي عبيدة معمر بن المثنى" القاهرة 1374هـ-1955م. محاسن التأويل "لمحمد جمال الدين القاسمي" الجزء الأول, القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، سنة 1376هـ-سنة 1957م. محاضرات في أصول الفقه على مذاهب أهل السنة والإمامية "لبدر المتولي عبد الباسط" بغداد، سنة 1375هـ-سنة 1956م، جزءان. المحكم في نقط المصاحف "لأبي عمرو الداني" تحقيق الدكتور عزت حسن. وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق 1960. مختصر جامع بيان العلم وفضله, وما يجب في روايته وحمله "لابن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 البر" اختصار أحمد بن عمر المحمصاني البيروتي، الطبعة الأولى سنة 1320هـ "مطبعة الموسوعات". مختصر في شواذ القراءات "لابن خالويه" نشر المستشرق برجشتراسر "Bergstrasser" القاهرة سنة 1934. مدارك التنزيل، وحقائق التأويل "تفسير النسفي" القاهرة سنة 1344هـ 4 أجزاء في مجلدين. مذاهب التفسير الإسلامي "للمستشرق جولدزيهر" ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، القاهرة مطبعة السنة المحمدية سنة 1374هـ-1955م. مسند الإمام أحمد بن حنبل، القاهرة سنة 1313هـ-1895م، 6 أجزاء "ورجعنا أيضا إلى شرح أحمد محمد شاكر على المسند، الطبعة الثالثة، دار المعارف بمصر سنة 1368هـ-1949م". المصاحف "لابن أبي داود" نشر آرثر جيفري Arthur Jeffery ليدن سنة 1937م. مفاتيح الغيب: انظر تفسير الرازي. المقصد لتلخيص ما في المرشد "لزكريا الأنصاري" القاهرة سنة 1934م. المقنع في رسم مصاحف الأمصار "لأبي عمرو الداني" نشر برتزل Pretzel الأستانة سنة 1932، ويليه كتاب النقط للمؤلف نفسه، ابتداء من ص132. مناهل العرفان في علوم القرآن "لمحمد عبد العظيم الرزقاني" جزءان, القاهرة, سنة 1373هـ-1954. النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن "للدكتور محمد عبد الله دراز". القاهرة سنة 1376هـ-1957م. النجوم الزاهرة "لابن تغري بردي" طبعة دار الكتب المصرية. الناسخ والمنسوخ "لأبي جعفر النحاس" القاهرة، مطبعة السعادة 1323هـ. النشر في القراءات العشر "لابن الجزري" طبعة دمشق سنة 1345، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 نشر محمد أحمد دهمان. النقط "لأبي عمرو الداني" مطبوع مع كتاب المقنع ابتداء من ص132، نشر برتزل، الأستانة سنة 1932. النكت في إعجاز القرآن "للرماني" طبع ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز، بتحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، القاهرة، دار المعارف. وفيات الأعيان "لابن خلكان" المطبعة الميمنية، القاهرة سنة 1310هـ في مجلدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ب- باللغات الأجنبية : Beitrage zur Erklarung des Korans "Hirschfeld" Leipzig. 1886 Bibliographie des ouvrages arabes ou relatifs aux Arabes. "chauvin". Liege, 1907, 1909 t. x. The Coran, its composition and Teaching "Willam Muir" London, 1878. Le Coran, Traduction Selon un essai de reclassement des sourates, "Blachere" Paris 1949-51. Encyclopedie de l'Islam, Leyde, 1913 suiv. Essal sur les doctrines siciales et politiques d' Ibn Taimiya, "Henri Laoust" Le Caire 1939. Geschichet der arabischan Literatur "Brockelmann" Weimer et Berlin, 1898-1902, 2 vol. Geachichte des Corans "1": Noldeke "Th," et Schwally "F.": t. I, uber der Ursprung des Qorans; Leipzig, 1919. -Schwally "F.": t. II, Die Sammiung des Qoranas:   1 استعنا بالمدخل إلى دراسة القرآن "لبلاشير" في تتبع آراء نولدكه وشفالي، كما صنعنا ذلك غالبا في المؤلفات باللغة الألمانية، وقد اصطلحنا اختصارا على الاكتفاء بذكر Geschichte des Qorans مع ذكر الجزء مستعيضين بذلك عن سرد عنوان كل جزء واسم مؤلفه, ولكننا مع ذلك خرجنا أحيانا على هذا الاصطلاح زيادة في الإيضاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 Leipzig 1919 -Bergstrasser et Pretzel; t. III. Die Geschichtr Des Qorantexts, 1938, 3 vol. Al-Hallaj, martyr mystique de l.htm'Isalam "Massignon paris 1912. Handbuch der Islam-Literature "prannmuler, G." Berlin, 1925. Histotisch -Kritiche Einletung in den Koran "Well G." 2 ed Leipzig, 1872. Initation au Koran "Mohammrd Draz" Paris, Presses univeraitaires de France, 1951. Intriduction a l'Histore de l'Orient musulman "Sauvaget" T. I. de l'Initiation a l'Islam; Paris, 1943. Intorduction au Coran "Blachere, R." Paris, 1947. Koran "Buhl, F." art, dans l'Encyclopedie de l'Islam, II, 1131 a. The Koran, Translation with the Suras arranged in chronological order, "A. Rodwell" London, 1861. Life of Mahomet "Willam Muir" London, 1858-61. Materials for the Histroy of the Koran "Arthur Jeffery". Introduction a l'edition des "Massahif d'Ibn abi-Dawud" Leyde, 1937. Mohammed et la fin du Monde "Casanova" Paris, 1911-13; 2 fax. Mohammed, t. II, Einleitung in den Koran "Grimme" mUNSTER 1892, 1895. New Resrarches into Composition and Exegisis of the Qoran "Hirschfeld, H." Dans Asiatic Monographic, t. III, Londres: 1902. The Quran, Translated, with a critical re-arrangment of the Suras,"Belle, R." Edimbourg, 1937-39, 2 vol. Tabari's Koranscommentar "Loth. O" Dans "Zeitschrift der Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft" XXXV, 603 sqq. Uber die Anordmung der Suren and uber die geheimnisvellen Buchstaben im Qoran "Bauer H." Dans ZDMG "Zeitschrifts der Deutschen, etc ... " LXV, Leipzig, 1921. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 مسرد الأعلام : "الأشخاص فقط"1 أ آدم "أبو البشر" 109، 204, 206. آريوس "المسيحي، صاحب المذاهب في التوحيد" 44. إبراهيم الخليل "عليه السلام" 86، 190، 204، 210، 214، 215، 227، 228، 229. إبراهيم بن محمد الشيرازي "الفقيه الشافعي"* 254ح4. إبراهيم النخعي= انظر النخعي. الأبهري 329ح5. أبي بن كعب "الصحابي" 65ح2، 66، 66 ح1، 68، 69، 81 ح2، 102ح2، 108ح2، 120، 144، 248، 249، 250، 251ح7، 255، 289. أحمد بن حنبل "الإمام" 121 ح3, 142, 278. أبو الحمد العسكري= انظر العسكري. أحمد محمد شاكر 72 ح6. الأخنس بن شريق 161 ح4. أدرينال الروماني 138. إسحاق "عليه السلام" 22، 215 ح1، 217 ح2، 229. ابن إسحاق "المؤرخ" 249. الإسكندر المقدوني 225 ح1. إسماعيل "عليه السلام" 22، 215 ح1، 229. أبو الأسود الدؤلي 91، 92، 92 ح2، 92 ح6, 93, 94, *120 ح2. ابن أشتة "محمد بن عبد الله، أبو بكر" * 77 ح3، 81. الأشعري "أبو الحسن، الإمام" *18 ح2، 122، 282، 284، 289. ابن أبي الإصبع "عبد العظيم بن عبد الواحد" 123ج3.   1 أسقطنا في ترتيب الأسماء الأحرف التالية: الـ, أبو، ابن. ورمزنا بحرف "ح" إلى الحاشية. وأشرنا ب (*) قبل رقم الصفحة إلى الموضع الذي ترجم فيه العلم المبحوث عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الأصفهاني "محمد بن بحر, أبو مسلم، المفسر" *262ح1، 263. الأعمش "سليمان بن مهران" 50 ح4، 121 ح3، 249. الألوسي "صاحب روح المعاني" 96. إلياس "عليه السلام" 210. إمام الحرمين "عبد الملك بن أبي عبد الله الجويني" * 284 ح3. أمية بن خلف 161 ح4. ابن الأنباري "أبو بكر محمد بن القاسم" 122، 122ح5. أنس بن مالك "الصحابي" 36 ح1، 65 ح2، 66، 66 ح3، 78، 78 ح2، 102 ح2، 121 ح1، 248، 289. الأوزاعي 121 ح3. أوس بن حذيفة 98، 258. أيوب "عليه السلام" 22. أيوب "ابن كيسان السختياني" 80، 81. أبو أيوب الأنصاري "الصحابي" 102 ح2، 248. ب الباقلاني "محمد بن الطيب، أبو بكر" 102، 115، 178، 241 ح1، 255 ح3، 278 ح3، 279، 280، 316. بحيرا "الراهب "44, 45. البخاري "الإمام، صاحب الصحيح" 28 ح3، 36 ح1، 37 ح1، 37 ح3، 42 ح8، 45 ح1، 56 ح3، 65، 66 ح1، 66 ح3، 70، 72، 74، 75 ح1، 77، 78 ح2، 79، 81 ح2، 92 ح3، 121، 143، 144، 145، 146، 171، 179. بختنصر البابلي 137. بختنصر الثاني= أدرينال الروماني. برتزل "المستشرق Pretzel" 78. ابن برجان "أبو الحكم، عبد السلام بن عبد الرحمن" *311 ح2. برجشتراسر "المستشرق Bergestrasser" 20، 87، 252 ح3. برهان الدين البقاعي 152 ح1. بروكلمان "المستشرق Brockelmann" 90 ح1، 183 ح1. البزار "الحافظ أحمد بن عمرو بن عبد الخالق" 61 ح1، 144. ابن بطوطة "الرحالة المشهور" 87. أبو البقاء العبكري= انظر العكبري. أبو بكر السجستاني "محمد بن عزيز بن العزيزي" * 125 ح5. أبو بكر الصديق 69، 74، 75، 76، 77، 78، 81 ح2، 83، 85، 111، 120، 236 ح3. أبو بكر بن الطيب= انظر الباقلاني. أبو بكر بن العربي= انظر ابن العربي. أبو بكر بن مجاهد = انظر ابن مجاهد. أبو بكر بن مقسم "القارئ، محمد بن الحسن" *- 251 ح4، 252. أبو بكر النيسابوري "الحافظ عبد الله محمد" 151 ح1. أبو بكر الواسطي 105. أبو بكرة "الصحابي" 102 ح2، 257. بلاشير "المستشرق Blachere" 20، 65، 66ح1، 67 ح5، 79 ح3، 80 ح1، 82 ح1, 83ح3، 87 ح1، 88 ح5، 99 ح4، 169 ح3، 176، 177 ح4، 179، 181، 183 ح5، 240، 242. بلال الحبشي "مؤذن الرسول" 61. البليقي "جلال الدين، عبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 رسلان" *125 ح2، 306ح2. بل "المستشرق Bell 169" ح3، 177 ح2. بهل "المستشرق" 69 ح3، 181 ح2، 186ح2، 249ح2. البيضاوي "ناصر الدين أبو سعيد، المفسر" *235 ح3, 290، 293. البيهقي "الحافظ أحمد بن الحسين، أبو بكر" 49 ح1، 144، 172 ح1. ت الترمذي "صاحب السنن" 108 ح2، 144، 145، 146، 147. ابن تيمية 159، 235 *ح4، 290. ث ثابت بن قيس 69. ثعلب "الإمام اللغوي أحمد بن يحيى" 105 ح1. ثمود "عليه السلام" 227، 228. ج جابر بن عبد الله "الصحابي" 43 ح5، 50 ح4، 290. الحاحظ 17 ح1، 94ح2، 314. جبريل 24, 27، 36، 49 ح1، 53 ح1، 53 ح2، 61، 70، 108، 108 ح1، 143، 144، 146، 186 ح2، 188 ح1، 192 ح1، 243. ابن جرير= انظر الطبري. ابن جريج 121 ح3، 161. ابن الجزري "أبو الخير, شمس الدين, شيخ القراء" *68 ح4، 85، 88، 102، 115، 166 ح1، 256، 257 ح2. الجعبري "إبراهيم بن عمر بن إبراهيم" *181. أبو جعفر بن الزبير 70 ح2،* 72، 250. أبو جعفر "محمد بن سعدان النحوي"= انظر محمد بن سعدان. أبو جعفر "يزيد بن القعقاع، القارئ" 250. جندب "الصحابي" 146. ابن جني "أبو الفتوح، عثمان" * 252 ح4. أبو جهل "عمرو بن هشام" 144. أبو جهم "الصحابي" 102 ح2. ابن الجوزي 124، 285 ح5. ح أبو حاتم السجستاني "سهل بن محمد" * 94 ح6. ابن أتي حاتم 61 ح1. الحارث بن عباد 128. الحارث بن هشام "الصحابي" 27 ح4. الحاكم "النيسابوري، أبو عبد الله صاحب المستدرك" 134، 147، 257. ابن حبان "الحافظ" *104 ح4. الحجاج بن يوسف الثقفي 88، 91، 92 ح1، 94، 97 ح2. ابن حجر العسقلاني "أبو الفضل شهاب الدين" 51 ح3, 66 ح1، 76، 79 ح2, 83 ح2، 144 ح1، *237 ح6. حذيفة بن اليمان "الصحابي" 66، 78, 80، 102، ج2. الحرالي علي بن الحسن التجيبي" * 21 ح8. الحسن البصري 91 ح5، 120، 134، 160, 250. الحسن بن علي "رضي الله عنهما" 255. الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 "أبو القاسم" *169ح1، 185. الحسين بن علي "رضي الله عنهما" 255. حفص بن ميسرة 146. حفصة بنت عمر "أم المؤمنين" 67، 75 ح2، 77، 78، 79، 80، 84. أبو الحكم بن برجان= انظر ابن برجان. الحليمي "حسن بن الحسن" * 95 ح6. حمزة بن حبيب الزيات "القارئ" 282. حمزة بن عبد المطلب 109 ح4، 144، 249. حميد "الراوية" 254. أبو حنيفة "الإمام" 253، 257. الحوفي= انظر علي بن إبراهيم. أبو حيان "الأندلسي" 297. أبو حيان "التوحيدي" 72 ح2. الخازن "علاء الدين علي بن محمد المفسر". *193 ح1. خالد بن دينار 49 ح1. خالد بن أبي الهياج "المشهور بجمال خطه" 98. خ خالد بن الوليد 69. ابن خالويه 252 ح3. الخدري "أبو سعيد, الصحابي" 33 ح1، 102 ح2. خديجة بنت خوليد "أم المؤمنين" 36، 39، 40، 45، 46. أبو خزيمة الأنصاري "الصحابي" 75، 75 ح1، 76. الخضر "أو العبد الصالح" 221، 223. خلف بن هشام "القارئ" 109ح4، 250 ح1. ابن خلكان 56، 93، 94 ح1. الخليل بن أحمد الفراهيدي* 94 ح3، 103. ابن خويذ منذاذ "من علماء المالكية" *329 ح5. الخويي *2347ح2، 243 ح3. أبو الخير بن الجزري= انظر ابن الجزري. د الداني "أبو عمرو" *84، 91 ح4، 22، 256 ح3. داود "عليه السلام" 22. داود الظاهري * 309 ح1. أبو داود "صاحب السنن" *76 ح2، 77 ح1، 98. ابن أبي داود "صاحب كتاب المصاحف" 79 ح2، 81، 82 ح1, 82 ح3، 82 ح5، 91 ح5. دراز "محمد عبد الله" 31 ح3، 126. أبو الدرداء "الصحابي" 66، 66 ح1، 68. دقيانوس "الإمبراطور". ابن دقيق العيد 130 ح5. الدوري "القارئ" 250 ح2. الديريني 182 ح2. ذ الذهبي "الحافظ شمس الدين" * 67ح4، 68ح3. ذو القرنين 224. ر الرازي "الإمام فخر الدين" المفسر 30، 116، 116ح2، 200 ح2, 244، 283، 290، 293. راشد "الراوية" 254. رافع "بواب مراون بن الحكم" 130. الرافعي "مصطفى صادق" 126، 317، 318, 319. الراغب الأصفهاني "الحسين بن محمد" 283، 283 ح1. رشيد رضا "السيد الإمام، منشئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 المنار" 30، 54 ح6، 55، 243، 244، 317، 297. رودويل "المستشرق A. Rodwell" الرشيد "الخليفة العباسي هارون" 123، 144. الرماني "علي بن عيسى " 316. 169 ح3، 177 ح3. ابن روق "محمد بن الحسن الراسبي" *244ح2. ز الزجاج "إبراهيم بن السري" *19 ح2. زر بن حبيش 249. الزرقاني "محمد عبد العظيم" 126. الزركشي "الإمام بدر الدين" 21, 51ح 3، 52 ح2، 53 ح2, 67 ح2, 70 ح2, 71، 72 ح2، 73، 97 ح1، 98، 125، 142، 145، 149، 150، 153، 161، 162، 179، 180 ح3، 228 ح2، 235، 236 ح3، 244 ح5، 253، 269، 292. الزركلي "خير الدين" 74 ح2. زكريا "عليه السلام" 24, 42، 328. زكريا الأنصاري "صاحب المقصد، لتخليص ما في المرشد" 181ح1. الزمخشري 32، 154، 162، 200 ح2, 251، 294، 298. أبو الزناد 50 ح4. زياد "والي البصرة" 92، 92 ح6. زيد بن أرقم 102 ح2. زيد بن أسلم 120، 290. زيد بن ثابت 28، 50 ح4، 66، 66 ح1، 68، 69، 70، 74، 75، 76، 77، 78، 78 ح2، 79، 79 ح2، 80، 82 ح5، 86, 120، 250 ح3، 277، 278، 289. أبو زيد بن السكن "الصحابي" 66، 66 ح1. س سالم بن معقل "مولى أبي حذيفة" 65ح2، 66 ح1, 67، 81 ح2. السبكي "تقي الدين علي بن الكافي" *332 ح3. السجستاني "محمد بن عزيز، أبو بكر" 248. السخاوي "علي بن محمد" 76، 123 ح2، 124. السدي 160. سعد بن مالك 66، 128. سعد بن أبي وقاص "الصحابي" 50 ح4، 242، 253، 257. السعدي "محمد بركات" * 260 ح6. سعيد الأنصاري "ناشر تفسير الأصفهاني" 295 ح3. سعيد بن جبير 120، 134، 249، 290. أبو سعيد الخدري= انظر الخدري. سعيد بن العاص "الصحابي" 78، 76 ح2، 83 ح2. سعيد بن عبيد "الصحابي" 66 ح1. سعيد بن المسيب "التابعي" 134. أبو السعود "محمد بن محمد بن مصطفى, المفسر" *293. سفيان الثوري 121 ح2. سفيان بن عيينة 121 ح2، 290. سلام بن سليمان الطويل 249. ابن سلامة 267، 271. سلمان بن صرد "الصحابي" 102 ح2. سلمة بن صخر "الصحابي" 158. أم سلمة "أم المؤمنين" 67، 83، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 147، 171. أبو عبد الرحمن السلمي 86. سليم ين عيسى 250. سليمان "عليه السلام" 22. سليمان بن مهران= انظر الأعمش. سيلمان بن يسار 284 ح 2. سمرة بن جندب "الصحابي" 102 ح2. ابن السميفع "محمد بن عبد الرحمن القارئ" 257. سهيل بن سعد "الصحابي" 143. السهلي" عبد الرحمن بن عبد الله" *122 ح9, 123. السوسي "القارئ" 250 ح5. سويد بن غفلة "الصحابي" 86. سيد قطب 126، 162، 297، 317، 319, 320، 334. ابن سيده الأندلسي 19 ح7. ابن سيرين "محمد" 91 ح5، 93، 134 ح1. السيوطي 17 ح1, 27 ح5، 35 ح4، 37 ح1، 38 ح1، 49 ح1، 52 ح2، 56 ح2, 61 ح3، 62 ح2، 65 ح2، 66، 68، 70 ح2، 75 ح3، 84، 86 ح2، 103 ح3، 125، 132، 136، 137، 141، 173، 179، 244 ح6، 256 ح1، 267 ح5، 274، 280 ح2، 290، 292، 306, 321، 322، 323، 324، 325. ش ابن شاذان الرازي "أبو الفضل" *155 ح4، 252. الشاطبي "أبو محمد، القاسم, القارئ" *256 ح4. الشافعي "الإمام" 18، 123، 261، 284. أبو شامة "عبد الرحمن بن إسماعيل" *52 ح2، 52 ح3، 53 ح2، 75 ح3، 124، 247. شبرنجر "المستشرق "Sprenger"، 193 ح2، 240 ح6. شريك بن سحماء "الصحابي" 143. شبعة بن الحجاج *121 ح1، 290. الشعبي "عامر بن شراحيل" 50 ح4، 236. شعيب "عليه السلام" 204. شفالي "المستشرق Schwally"، 67 ح5، 69 ح3، 79 ح2، 82 ح1، 89 ح4، 169 ح3، 177، 241، 242. ابن شنبوذ "محمد بن أحمد، القارئ" *250 ح6، 251 ح6، 252. الشنبوذي "محمد بن أحمد، أبو الفرج" *250 ح6. شليفر "Seheleifer" 207ح1، ابن شهاب 77, 78. ابن أبي شيبة 146. شيذلة "القاضي" * 21 ح3. الشيرازي "إبراهيم بن علي، أبو إسحاق" * 282 ح3. ص ابن صبيغ "عبد الله" 284 ح2. ابن الصلاح "أبو عمرو" 134. ض الضحاك "التابعي" 134، 180 ح24، 240. ط أبو طالب "عم النبي عليه الصلاة والسلام" 44، 45، 144، 145. طاهر الجزائري 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 طاوس 290. الطبراني 61 ح1، 146، 147, 171 ح2. الطبري 43 ح4، 69 ح3، 78 ح3، 80، 121، 139، 147, 174, 200 ح2، 207 ح2، 210، 213 ح1، 215 ح1، 221 ح1، 224 ح1، 244 ح7، 248، 290 ح6، 291. طلحة "الصحابي" 66. طنطاوي جوهري= 297. الطوفي= انظر نجم الدين الطوفي. طيطوس 139. ظ ابن ظفر "أبو عبد الله، محمد بن محمد" * 266 ح1. ع عائشة "أم المؤمنين" 27, 36, 37، 39، 49 ح2، 56, 60، 67, 84، 258، 179, 265 ح2، 290. عاصم الجحدي 109 ح4، 249, 257. عاصم بن عدي "الصحابي" 143. عاصم "ابن أبي النجوج الأسدي، القارئ" 249. أبو العالية 49 ح1، 160. عامر بن عبد القيس 86 ح3. ابن عامر "القارئ" 102، 109 ج4، 248 ح5، 249، 251 ح3. عبادة بن الصامت "الصحابي" 67. أبو العباس بن عمار= انظر ابن عمار. ابن عباس "عبد الله" 50، 53 ح1، 60، 65 ح2، 67 ح1، 68، 72، 73، 92 ح1، 102 ح2. 110 ح3، 112، 120، 130، 131، 138، 143، 145، 147، 160، 174 ح3، 179، 180 ح4, 205, 232 ح1, 238، 239، 240، 248، 249، 250، 255، 283، 289، 290، 292. ابن عبد البر "أبو عمر، يوسف بن عبد الله" *105 ح2، 106 ح2، 254. عبد الحميد الفراهي 123 ح5. عبد بن حميد 290 ح5. عبد الرحمن بن الحارث بن هشام "الصحابي" 78. عبد الرحمن بن زيد بن أسلم 290. عبد الرحمن بن عوف "الصحابي" 103 ح2. عبد العزيز الدباغ 276. عبد القاهر الجرجاني * 314 ح3. عبد الله بن أمية 144. عبد الله بن الزبير 67 ح1، 70، 78، 83, 120، 248، 289. عبد بن السائب "الصحابي" 67، 678، 86. عبد الله بن عباس= انظر ابن عباس. عبد الله بن عمر بن الخطاب 67 ح1، 290. عبد الله بن عمرو بن العاص 65 ح2، 67 ح1. عبد الله بن كثير الداري "أحد القراء السبعة" 248 ح3. عبد الله بن المبارك 121 ح3. أبو عبد الله المحاسبي= انظر المحاسبي. عبد الله بن مسعود 42 ح5، 66، 66 ح1، 68, 81 ح2، 82 ح3، 82 ح5، 85، 95، 120 ح2، 106، 107 ح6، 110، 110, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ح3، 112 ح7، 120، 131، 145، 146، 177، 205 ح2، 236، 249، 251 ح7، 254، 55، 289، 290. عبد الله ابن أم مكتوم "الأعمى" 31. عبد الله اليحصبي= انظر ابن عامر. عبد المحسن الأسطواني 89 ح3. عبد المطلب بن هاشم 144. عبد الملك بن مروان "الخليفة" 88، 90، 92. عبد الوهاب خلاف= انظر خلاف. أبو عبيد "القاسم بن سلام" * 66 ح4، 102، 105 ح1, 121، 248. عبيد الله بن زياد 91. عبيدة 134. عثمان بن طلحة 150. عثمان بن عفان 68، 69، 70، 71، 72, 73, 77، 78، 78 ح2، 79، 79 ح3، 80، 81، 83، 83 ح3, 84، 86، 87 ح1، 88، 91، 101، 102، 102 ح2، 120، 242, 248، 249، 251، 255، 275، 277، 278. عثمان بن أبي العاص 70. عثمان بن مظعون "الصحابي 131. عثمان بن حاتم "الصحابي" 119 ح4. ابن عربي "محيي الدين الملقب بالشيخ الأكبر" 238. ابن العربي "محمد بن عبد الله، أبو بكر" 103، 150، 264، 267، 295. العز بن عبد السلام "أبو محمد عبد العزيز" 237، 280. ابن عساكر 49 ح1. العسكري "أبو أحمد" 90، 90 ح1، 94 ح1. العسكري "أبو هلال" 90 ح1. عطاء بن أبي رباح 254، 290. عطاء بن يسار 120، 134, 138، 180 ح4. ابن عطية "عبد الحق بن غالب" * 241 ح3. ابن عطية "القاضي أبو محمد" 72. عقبة بن أبي معيط 225. العكبري "أبو البقاء عبد الله بن الحسين" * 252 ح5. عكرمة "التابعي مولى ابن عباس" 120، 143، 290. عكرمة بن ربيع التيمي 249. علم الدين السخاوي "علي بن محمد" * 123 ح 2. علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي 122، 124. علي بن أبي طالب 43، 49 ح1، 50 ح4، 68، 77، 86، 87 ح1, 92، 131، 175 ح2, 177، 236، 237، 249، 254، 255، 289. علي بن المديني * 121 ح4، 121 ح3، 136. ابن عمار "أبو العباس" * 248. العماني "أبو الحسن، علي بن سعيد" * 180 ح1. عمر بن الخطاب 74، 75، 76، 77, 82 ح1, 83، 101، 102 ح2، 106، 107، 110، 120، 268. عمر بن عبد العزيز 253. أبو عمرو الداني= انظر الداني. عمرو بن أبي سلمة "الصحابي" 102 ح2. عمرو بن العاص 102 ح2. أبو عمرو بن العلاء 92 ح2، 248، 249. عمرو بن كلثوم 19. عمرو بن معد يكرب 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 عويمر "الصحابي" 143. عياض "القاضي" * 104 ح2، 119 ح4. عيسى= انظر المسيح عليه السلام. غ غريم "المستشرق H. Grimme" 175، 176. الغزالي 284 ح3. ف فؤاد الأول "ملك مصر السابق" أبو الفتح القشيري= انظر القشيري. فخر الدين الرازي= انظر الرازي. الفراء "يحيى بن زياد الديلمي" * 18ح1. فضالة بن عبيد "الصحابي" 67. أبو الفضل إبراهيم= انظر محمد أبو الفضل. أبو الفضل الرازي= انظر ابن شاذان. ابن فضل الله الصمدي "أحمد بن يحيى" *89ح1. فلوجل المستشرق Flugel" 99. ابن فورك "محمد بن الحسن، أبو بكر *55 ح4. ق القاسم بن سلام= انظر "أبو عبيد". أبو القاسم النيسابوري= انظر الحسن بن محمد. القاسمي "محمد جمال الدين" 125. ابن القاص "أحمد الطبري، أبو العباس" * 329 ح4. قتادة بن دعامة السدوسي "التابعي" 50 ح4 120، 141، 160، 161، 205 ح2. قتادة بن النعمان 35. ابن قتيبة "عبد الله بن مسلم" 155، 116، 255. القرطبي 65 * 174 ح4. القشيري "أبو الفتح" 130 ح2. قطرب "محمد بن المستنير" * 244 ح3. أبو قلابة 81, 81 ح1. ك كازانوفا "المستشرق Casanova 69 ح2، 87، 8. الكافيجي "محمد بن سليمان" 152 ح4. كايتاني "الأمير، المستشرق Caetani" 192 ح2. الكتاني= انظر محمد بن جعفر. ابن كثير "الحافظ المفسر" 54, 54 ح6, 88 ح6، 312 ح1، 213 ح2، 244 ح8، 290. كرنكو "المستشرق Krenkow" 20. الكسائي "علي بن حمزة، القارئ" 109 ح4، 249. كعب بن الأشرف 150. الكلبي 138. كواترمير "المستشرق Quatremere" 87. ل ابن اللبان "محمد بن أحمد، المفسر" * 283 ح4، 285، 286. اللحياني * 19 ح2. أبو لهب "عم النبي" 37 ح1. لوث "المستشرق O. Loth" 240، 242. لوط "عليه السلام" 204، 210. م ابن ماجه "صاحب السنن" 98. مالك بن أنس "إمام أهل المدينة" 71، *95 ح4، 109 ح4، 110 ح3، 121، 254، 278، 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 مالك بن نبي 126. المأمون "الخليفة" 97 ح2. الماوردي "علي بن حبيب" 66 ح2. المبارك= انظر محمد المبارك. ابن المبارك "صاحب كتاب الإبريز" 276. مجاهد بن جبر "التابعي" 95 ح3، 120، 134، 161، 180 ح4، 249، 290. ابن مجاهد "أبو بكر، أحمد بن موسى، شيخ القراء" 90 ح3، 247 ح2، 248، 251، 252. مجمع بن جارية "الصحابي" 67. المحاسبي "أبو عبد الله، الحارث بن أسد" *74 ح2، 83 ح2. محمد بن أيو الضريس 21. محمد بن جعفر الخزاعي "أبو الفضل" * 257 ح5. محمد جمال الدين القاسمي= انظر القاسمي. محمد بن خلف بن المرزبان 122، 124. محمد رشيد رضا= انظر رشيد رضا. محمد بن زيد الواسطي= انظر الواسطي. محمد بن سعدان النحوي "أبو جعفر" * 103 ح1. محمد بن سلمان الكافيجي= انظر الكافيجي. محمد بن سيرين= انظر ابن سيرين. محمد عبد الله دراز= انظر دراز. محمد عبده "الأستاذ الإمام" 138، 317. محمد بن علي الأدفوي 122. محمد علي سلامة 126. محمد بن علي الكرخي 122. محمد الغزالي 126 ح1. محمد أبو الفضل إبراهيم 67 ح2، 125، 125 ح1. أبو محمد القصاب= انظر محمد بن علي الكرخي. محمد المبارك 126 ح1. ابن محيص "محمد بن عبد الرحمن القارئ" *250 ح3. محيي الدين عربي= انظر ابن عربي. ابن المرزبان= انظر محمد بن خلف. ابن مردويه 147. مروان بن الحكم 83. مريم بنت عمران 42، 171، 330، 331. أبو مريم النسائي "الصحابي" 171. المزي "يوسف بن عبد الرحمن" * 235 ح5. ابن مسعود= انظر عبد الله بن مسعود. أبو مسلم الأصفهاني "محمد بن بحر"= انظر الأصفهاني. مسلم بن الحجاج "صاحب الصحيح" 34، 68, 122، 285 ح5. مسلمة بن مخلد "الصحابي" 67. المسيح عليه السلام 22، 42. مسيلمة الكذاب 74. مصفطى زيد 31 ح2. معاذ بن جبل 66، 67، 81 ح2، 102 ح2. معاذ "الذي يكنى أبا حليمة، صحابي" 65ح2. معاوية بن أبي سفيان، 237. المغيرة بن أبي شهاب المخزومي "مقري المصحف الشامي" 868، 248. مقاتل "التابعي" 180ح4. أبو مقبل "الحسين بن عمر، الصحابي" 174 ح2. المقداد بن عمرو "صحابي" 81 ح2. ابن مقسم= انظر "أبو بكر بن مقسم". مكي "ابن أبي طالب" * 56 ح2. موريتز "Moritz" 99 ح1. موسى "عليه السلام" 22، 25، 42, 45، 56، 112, 140، 190، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 210، 214، 208، 221، 222، 223، 227، 228، 239. أبو موسى الأشعري "الصحابي" 67، 68، 81 ح2، 120. موسى بن عقبة 77. موير "وليم، المستشرق William Muir" 176، 202 ح3. مولر "Muller" 193ح2. ن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم "القارئ" 248 ح4. نجم الدين الطوفي "سليمان بن عبد القوي" *123 ح4. النحاس "أبو جعفر، أحمد بن محمد" *189 ح1. النخغي "إبراهيم "205 ح3. ابن النديم 81. النسفي "أبو البركات، عبد الله بن أحمد، المفسر" *292 ح6. نصر بن عاصم الليثي * 92 ح2، 93، 94، 94 ح2. النضر بن الحارث 225. أبو نضرة 49 ح1. النعام بن بشير "الصحابي" 248. نوح عليه السلام 210، 227، 228. نولدكه "المستشرق Noldeke" 169 ح3، 176، 177، 241، 243، النووي "محيي الدين يحيى بن شرف" 34، 53 ح1، 69 ح3، 96 ح3. 254. هـ هارون "عليه السلام" 22، 210، 214. هبة لله بن سلامة= انظر ابن سلامة. هرشفيلد "المستشرق Hirschefeld" 242 ح3. أبو هريرة "الصحابي" 67، 68، 102، ح2، 144، 242 ح1، 248، 250، 290. هشام بن حكيم "الصحابي" 101، 102 ح2، 114. هشام بن عروة 76. ابن هشام 123. هلال بن أمية "الصحابي" *143 ح2. أبو هلال العسكري= انظر العسكري. هنكلمان "Hunehelman" 99. وواثلة بن الأسقع "الصحابي" 248. الواحدي "علي بن أحمد" 59 ح3، *130 ح2، 137، 139، 179، 180، 181. والواسطي "أبو بكر، محمد بن حمد بن سليمان" 105 ح3. الواسطي "محمد بن يزيد" 314, 316. ورقة بن نوفل 44. الوليد بن عبد الملك "الخليفة" 98. الوليد بن المغيرة 161 ح4. وكيع بن الجراح * 121 ح3، 290. ويل "المستشرق Weil" 176، 178. ي يحيى بن آدم 121 ح3. يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب 76. يحيى بن المبارك اليزيدي= انظر اليزيدي. يحيى بن معين 121 ح3. يحيى بن وثاب 249. يحيى بن يعمر * 92 ح1، 92 ح2، 93، 94. يزيد الفارسي 72. يزيد بن القعقاع= انظر "أبو جعفر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 يزيد بن هارون 290. اليزيدي "يحيى بن المبارك، القارئ" 250 ح5. أبو اليسر بن عمرو "الصحابي، الأنصاري". يعقوب "عليه السلام" 22. يعقوب بن إسحاق الحضرمي "القارئ" 248، 249 ح1. أبو يعلى "الحافظ أحمد بن علي الموصلي" *101ح2. أيو يعلى "القاضي محمد بن الحسين" 285 ح5. يوسف عليه السلام 42. يوسف العش 89. يونس "عليه السلام" 22، 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فهرس الموضوعات : كلمة المؤلف في الطبعة الجديدة 5-8, المقدمة 9-13: الباب الأول: القرآن والوحي "15-62" الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها "17-21": الكتاب والقرآن، وسر التسمية بهما 17- كلتا التسميتين ترتد إلى أصل آرامي 17- مذاهب العلماء في مدلول لفظ "القرآن" 18- استخدام عرب الجاهلية لفظ "قرأ" في غير معنى التلاوة 19- أسماء القرآن 20- مبالغة بعض العلماء في تعداد أسماء القرآن 21- تعريف القرآن 21. الفصل الثاني: ظاهرة الوحي "22-48": ظاهرة الوحي متماثلة عند جميع الأنبياء 22 إدراك الوحي سهل ميسر في نظر الدين 23- المعنى اللغوي الأصلي لمادة الوحي والإيحاء 23- لم تقتصر هذه الظاهرة على تنزيل الكتب السماوية بوساطة ملك الوحي 25- تفسير الوحي من خلال قاموس الكتاب المقدس, واختلاف مفهومه الخاص عن مفهوم الوحي العام 25- التفرقة بين الوحي والكشف 26- الكشف كالإلهام من ألفاظ علم النفس المحدثة 26- طبيعة الحقائق الدينية لا تخضع للظواهر "اللاشعورية" 27- صورتان للوحي وصفهما النبي صلى الله عليه وسلم نفسه 27- النبي في كلتا الصورتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 يعي ما يوحى إليه 28- لم يخلط عليه الصلاة والسلام مرة واحدة بين شخصيته المأمورة وشخصية الوحي الآمرة 28- التفرقة بين صفة المخلوق وصفة الخالق 29- تصدير كثير من الآيات بعبارة "قل" ومغزاة 30- عتاب إلهي خفيف أو شديد لرسول الله 31- توجيه الإنذار والتهديد أحيانا للنبي في القرآن 32- تفرقة النبي بين الوحي وبين أحاديثه 33- لا يملك النبي حق استخدام ذاكرته في حفظ القرآن 33- تنحية الأحاديث القدسية أيضا من القرآن 32- آراء الرسول الدنيوية من خلال حادثة "تأبير النخل" 34- النبي صلى الله عليه وسلم مقتنع بأن الوحي مصحوب بانمحاء إرادته الشخصية 35- نزول الوحي على قلبه عليه الصلاة والسلام في كل لحظة 36- انقطاع الوحي عنه لأنه مستقل عن ذاته خارج عن فكره 36- أمثلة: حادثة الإفك 37- حويل القبلة 37- لا دخل لعواطف محمد في أمر السماء 38- حيرة العرب في الربط بين الذات الملقية والذات المتلقية 38- شخصية النبي اليقظة حتى في ساعات الرقاد 38- صورة بدء الوحي في حديث السيدة عائشة 39- التماسه عليه الصلاة والسلام الدثار وتعليله 40- هل قصد العرب من أضغاث الأحلام شطحات الجنون؟ 40- شهادة العرب أنفسهم للنبي بالصدق 41- تصحيح القرآن أخطاء تاريخية ومغالطات منطقية 41- كشف القرآن حجب المستقبل في حياة المشركين 42- عصمة الله لنبيه من أذى الناس وضمانه حمايته 43- أمثلة: يوم أحد وحنين 42- ذات الرقاع 43- لا يبت في أخبار الغيب إلا المؤمن الصادق 44- التماس مصدر الوحي خارج الذات الإلهية 44- من أملى على محمد حقائق التاريخ- الراهب بحيرا أم ورقة بن نوفل؟ 44- لم يلق النبي الرجلين سرا في خفاء، بل كان معه في كل مرة رفيق 45- القوافل التجارية في رحلتي الشتاء والصيف وآثارهما المزعومة 45- تسفيه القرآن تلك الأحلام الطائشة جميعا بلهجة قاطعة حاسمة 46- إعجاز القرآن للعرب وتحديه لهم 46- منذ الفترة المكية سحر القرآن العرب بأسلوبه المبين 47- تلقي النبي الوحي بحواسه كلها واعيا كل الوعي أنه عبد الله ورسوله الأمين 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره "49- 62": الحكمة الإلهية في تدرج النوازل القرآنية 49- نزول القرآن نجوما خلال ثلاثة وعشرين عاما 50- تنزلات القرآن الثلاثة من عالم الغيب، فلا يؤخذ في مثلها إلا بالمتواتر 51- تطلع القائلين بالتنزلات الثلاثة إلى أسرار التنجيم القرآني 52- صورتان لتجاوب الوحي مع الرسول 52- تجدد النزول وأثره في تهوين الشدائد على النبي صلى الله عليه وسلم 53- الصبر الجميل هو الحكمة المقصودة من تكرار قصص الأنبياء 54- تيسير حفظ القرآن على النبي بنزوله نجوما 55- رعاية حال المخاطبين بالوحي وعدم مفاجأتهم بما لا عهد لهم به 56- تفرقة الإسلام بين الأعماق والسطحيات في أنفس الأفراد والجماعات 57- الفرق بين تدرج التشريع وبين تأخير البيان لوقت الحاجة 58- إنما يكون التدرج في العادات الشعورية والتقاليد الاجتماعية 59- تحريك المنطق التشريعي في نفوس المسلمين 60- نزول القرآن نجوما أعان الصحابة على حفظه والتفقه فيه 61- تدرج النزول في القرآن برهان دامغ على أنه وحي يوحى 62. الباب الثاني: تاريخ القرآن "63-126" الفصل الأول: جمع القرآن وكتابته "65-89": جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور 65- رسول الله هو سيد الحفاظ 65- حفاظ القرآن من الصحابة 66- من لم تتصل بنا أسانيدهم من حفاظ الصحابة لا يحصون عددا 67- مسجد رسول الله مدرسة لتحفيظ القرآن 68- الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب أشرف خصيصة لهذه الأمة 68- كتاب الوحي 69- معنى تأليف القرآن من الرقاع 70- ترتيب الآيات توقيفي 70- وترتيب السور توقيفي أيضا، ودليل ذلك 71- لماذا لم يحمع الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كله بين دفتي مصحف واحد؟ 73- جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه 74- تكليف زيد بن ثابت بتتبع القرآن وجمعه 74- آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 سورة التوبة 75- تم لأبي بكر جمع القرآن كله خلال سنة واحدة تقريبا 77- شبهة دائرة المعارف الإسلامية حول إيداع الصحف لدى حفصة، والرد على هذه الشبهة 77- تسمية القرآن "بالمصحف" نشأت على عهد أبي بكر 77- جمع القرآن على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه 78- اختلاف المسلمين في قراءة القرآن وفزع حذيفة من ذلك 79- قلق عثمان وفزعه من هذا الاختلاف أيضا 80- إحراق عثمان للمصاحف الفردية 80- تم تنفيذ قرار عثمان سنة خمس وعشرين 83- لماذا أمر عثمان اللجنة بنسخ المصحف من صحف حفصة؟ 83- إحراق مروان بن الحكم صحف حفصة بعد وفاتها 83- عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق 84- تجريد المصاحف العثمانية من كل ما ليس بقرآن 85- إرسال عثمان إلى كل إقليم حافظا يوافق قراءته 86- لم يقدم عثمان على إحراق المصاحف إلا بعد تأييد من الصحابة 86- أين المصاحف العثمانية الآن؟ 87- أحد هذه المصاحف كان لا يزال موجودا في مستهل القرن الرابع الهجري 87- كازانوفا ومجازفته بحكمه الصبياني 88- رؤية ابن كثير وابن الجزري وابن فضل الله العمري للمصحف الشامي 88- انتقال المصحف الشامي من قياصرة الروس إلى إنجلترا 89- هل بقي هذا المصحف في مسجد دمشق حتى احترق سنة 1310 هـ؟ 89- لا يعرف البحث العلمي كتابا أكمل ولا أدق من القرآن 89. الفصل الثاني: المصاحف العثمانية في طور التجويد والتحسين "90-100": احتمال المصاحف العثمانية عددا من الوجوه والقراءات 90- الملاحن والتصحيفات إنما تتعلق بطريقة الرسم 91- تحسين الرسم القرآني لم يتم دفعة واحدة 91- أول من نقط القرآن 92- نقط أبي الأسود للقرآن لم يكن إلا امتدادًا لما يظن من سبقه إلى وضع مسائل في العربية 92- لا برهان بين أيدينا على أن يحيى بن يعمر أول من نقط القرآن 93- لعل عمل نصر بن عاصم الليثي في نقط القرآن مواصلة لعمل أستاذيه أبي الأسود وابن يعمر 93- الخليل أول من صنف النقط، ورسمه في كتاب، وذكر علله 94- اختلاف العلماء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 جواز نقط القرآن 95- الفرق بين النقط والتعشير 95- الحرص على نص القرآن كان السبب في كراهة النقط تارة واستحبابه أخرى 96- الرموز المشيرة إلى رءوس الآي 97- كتابة العناوين في رأس كل سورة 97- تجزئة المصاحف وتحزيبها 98- إسهام الخطاطين في تجويد المصاحف وتحسين كتابتها 98- انتشار القرآن بوساطة الطباعة 99- أدق طبعة لكتاب الله 100. الفصل الثالث: الأحرف السبعة "101-116": الأحاديث الصحيحة في نزول القرآن على سبعة أحرف 101- قول أبي عبيد بتواتر حديث الأحرف السبعة 102- عبارة الأحرف السبعة تقع على معان مختلفة 102- أقوال متضاربة في تحديد المراد من "الأحرف" 103- هل العدد محصور في سبعة أم المراد التوسعة على القارئ 104- أكثر العلمء على أنه محصور في سبعة 104- ليست هذه الأحرف سبع لهجات 105- ولا سبع لغات 105- عمر وهشام كلاهما قرشي وقد اختلفت قراءتهما 106- تأويلات سقيمة في المراد من هذه الأحرف 106- نظرية القراءة بالمعنى وخطرها 107- القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان 107- قراءة القرآن بالمعنى ليست كرواية الحديث بالمعنى 108- لعل المراد من هذه الأحرف السبعة الأوجه السبعة التي وسع بها على الأمة 108- الاختلاف في وجوه الإعراب 109- الاختلاف في الحروف 109- اختلاف الأسماء في إفرادها وتثنيتها وجمعها وتذكيرها وتأنيثها 109- الاختلاف بإبدال كلمة بكلمة يجري لسان قبيلة بإحداهما دون الأخرى 110- الاختلاف بالتقديم والتأخير فيما يعرف وجه تقديمه أو تأخيره في لسان العرب 111- حول قراءة أبي بكر "وجاءت سكرة الحق بالموت" 111- الاختلاف بشيء يسير من الزيادة والنقصان جريا على عادة العرب في الحذف والإثبات 111- زيادة ونقصان لا سبيل إلى عدهما حرفا من الأحرف السبعة ولو أثبتت في مصاحف بعض الصحابة 112- اختلاف اللهجات والشواهد عليه 112- اختلاف اللهجات هو أهم الوجوه ولكنه ليس الوجه الوحيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ولا تفسر به وحده الأحرف السبعة 113- القرشية، باعتراف من جميع القبائل, أقدر اللهجات العربية على التعبير الدقيق الأنيق 114- تثبيت القرآن للوحدة اللغوية ومراعاته اللهجات في أحرفه السبعة 114- خطأ العلماء الذين حصروا الأحرف السبعة في اختلاف اللهجات 115- النقص في استقراء القدامى للأحرف السبعة 115- هذه الأوجه لا يجب التزامها في الكلمة الواحدة 116- لم نعرف هذه الأحرف السبعة إلا بطريق الاستنباط والاستقراء 116. الباب الثالث: علوم القرآن "117- 278" الفصل الأول: لمحة تاريخية عن علوم القرآن "119- 126": الصحابة وفهمهم للقرآن 119- رواية علوم القرآن بالتلقين والمشافهة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم 120- الممهدون لهذه العلوم 120- في عصر التدوين كان التفسير قبل كل شيء, لأنه أم العلوم القرآنية 121- نشأة التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي 121- علوم القرآن الأخرى 121- اختصار تلك العلوم في علم موحد 123- اصطلاح علوم القرآن بالمعنى الجامع الشامل 124- مؤلفات في هذه العلوم حسب تعاقبها التاريخي 124- المؤلفات الجدية في العصر الحديث 125. الفصل الثاني: علم أسباب النزول "127- 163": لا يسع مؤرخا جهل أسباب الحوادث ودوافعها 127- النص الأدبي لا يتذوق إلا إذا أزيح النقاب عن ظروف الأديب النفسية والاجتماعية 127- مثال على ذلك 128- معرفة قصة الآية والأسباب التي اقتضت نزولها تعين على صحة التفسير 129- نحن من القرآن تلقاء شيء أسمى من علم التفسير 129- وإزاء شيء فوق اللغة وقواعدها، وفوق التاريخ نفسه 129- لم يبالغ الواحدي حين قال: "لا يمكن معرفة الآية دون الوقوف على قصتها" 130- التعبير عن سبب النزول بـ"القصة" ينم عن ذوق رفيع 130- جهل الناس بأسباب النزول يوقعهم في اللبس 130- أمثلة 130-130- ما أنزله الله ابتداء غير مبني على سبب أو حادثة لا يدخل في "أسباب النزول" 132- تعريفنا يستلزم قسمة ثنائية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 لأسباب النزول 132- من أقسم من الصحابة على معرفة سبب كل آية لا يريد إلا ما تيسر له سماعه بنفسه 133- تشدد السلف الصالح في الروايات المتعلقة بأسباب النزول 134- يقبل قول التابعي في هذه الأسباب إذا اعتضد بمرسل آخر 134- الرواية الصحيحة هي الوسيلة لمعرفة أسباب النزل 135- تصانيف القدامى في هذه "الأسباب" وتعرضها للنقد الشديد 135- ما في تلك التصانيف من أخطاء ومغالطات ومبالغات 137- مثال على خطأ تاريخي وقع فيه الواحدي 137- إن التمس العذر للواحدي فأي عذر للمؤرخ الحجة ابن جرير الطربي؟ 139- ما لبعض الآيات من سبب عام لا ينبغي أن يعد سببا حقيقيا 140- القسم الذي نزل ابتداء لا يشمل كل الوقائع بل أكثرها, ولا كل القصص بل أكثره 141- صيغ الروايات المتعلقة بهذه الأسباب 141- عبارة الرواية الصحيحة في سبب النزول إما نص في بيان السبب وإما محتملة له ولسواه 142- تعدد الروايات في سبب نازل واحد من القرآن 142- إن جاءت روايتان كلتاهما صحيحة، ولم نستطع ترجيح إحداهما، جمعنا بينهما 142- إن كانت الروايتان صحيحتين، ولم نستطع ترجيح إحداهما ولا الجمع بينهما، حملنا الأمر على تعدد نزول الآية 144- يؤخذ سبب النزول عند تعدد الرواية من أصح الروايات 145- تعدد النازل والسبب واحد 147- مقاييس المفسرين في ترجيح الروايات المنبئة عن أسباب النزول وتفردها بدقة المصطلح 148- جمع العلماء بين السبب التاريخي والسياق الأدبي 149- ما أكثر الروايات التي وضعت في السطور على حسب الحكمة ترتيبا، وحفظت في الصدور على حسب الوقائع تنزيلا 149- مثال على ذلك 150- لم يبالغ المفسرون حين قدموا أحيانا ذكر المناسبة بين الآيات على معرفة سبب نزولها 150- الكشف عن الترابط بين السور إلى جانب الكشف عن التناسب بين الآيات 151- التماس أوجه الترابط بين السور مبني على أن ترتيب السور توقيفي 151- معيار الطبع أو التكليف في هذا التناسب يرتد إلى درجة التماثل أو التشابه بين الموضوعات 152- أمثلة على ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 152-154- التنظير وجه أدبي مستساغ من أوجه التناسب 155- احتكام قارئ القرآن في هذا إلى ذوقه الأدبي أو منطقه الفطري 155- الغموض في استجلاء بعض وجوه التناسب بين السور 156- أمثلة عل ذلك 157- تناسق الآيات أغنى في مواطن كثيرة عن التماس أسباب نزولها 157- حرص القرآن على التناسق الفني، والتقاء ألوان منه في علم المناسبة العظيم 157- الآيات التي اتفق العلماء على تعديتها إلى غير أسبابها 158- الأخذ بعموم اللفظ بدلا من خصوص السبب وقول ابن تيمية فيه 159- أمثلة 159-162- رسم "نماذج" إنسانية تتخطى الزمان والمكان، وتتجاوز الأسباب والمناسبات 162- ما لم نعرف له سبب نزول كان سبب إيحائه الأحياء لا وقائع الأحياء 163. الفصل الثالث: علم المكي والمدني "164-233": عمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة 164- ما أثاره المستشرقون من شبهات حول عمر النبي 165- الحق أن الله بعث نبيه على رأس الأربعين 166- تدرجنا مع التنزيل القرآني مرحلة مرحلة 166- العلم بالمكي والمدني أحوج العلوم القرآنية إلى تمحيص الروايات، والتحاكم إلى التاريخ الصحيح 167- معرفة المكي والمدني أكبر عون على تتبع المراحل التي مرت بها الدعوة الإسلامية 167- هذا العلم في آن واحد ترتيب زماني، وتحديد مكاني، وتبويب موضوعي, وتعيين شخصي 167- أمثلة على ذلك 168- تفضيلنا التقسيم الزمني للمكي والمدني 168- أخذ المحققين من علمائنا بالمنهج التاريخي الزمني 169- خمسة وعشرون علما من جهلها لا يحل له تفسير القرآن 170- بلغت عناية الباحثين بهذا القرآن أقصى ما يبلغه المحققون من التحري والتحقيق 170- ما نزل ليلا وما نزل نهارا 170- ما نزل في شدة البرد 171- ما نزل في شدة الحر 172- ما نزل في الحضر وما نزل في السفر 172- ما نزل في المغازي 173- ما نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ببيت المقدس, وما نزل في الفضاء بين السماء والأرض 173- إمكان الثقة بالرواية الصحيحة إلى أبعد حد في تحديد المكي والمدني 173- ما يشبه تنزيل المدينة في السور المكية وما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية 173- أنى للمستشرقين أن يرتبوا القرآن زمنيا وهم يجحدون كل أثر للرواية الصحيحة! 175- المستشرق غريم وترتيبه القرآن على الطريقة المأثورة, ومآخذ عليه 175- المستشرق وليم موير والمراحل القرآنية الست 176- طريقة المستشرق ويل كانت نقطة الانطلاق في أجرأ محاولة لترتيب القرآن 176- تأثر نولدكه وشفالي بطريقة ويل, ثم تأثر بل ورودويل وبلاشير بنولدكه 177- ترجمة بلاشير للقرآن هي في نظرنا أدق الترجمات لا يغض من قيمتها إلا فساد الترتيب الزمني 177- الروايات المتعلقة بالمكي والمدني لم ترد إلا عن الصحابة والتابعين 178- الاعتماد على الرواية الصحيحة لا يتنافى مع إعمال الفكر والاجتهاد 178- الاختلاف في أول ما نزل وآخره 180- لمعرفة المكي والمدني طريقان: سماعي وقياسي 181- خصائص السور المكية 181- خصائص السور المدنية 183- تقسيم كل من السور المكية والمدنية إلى ثلاث مراحل: ابتدائية ومتوسطة وختامية 185- تحليل لتسع سور اتفق المفسرون على أنها من المرحلة المكية الأولى 185- سورة العلق 186- سورة المدثر 186- سورة التكوير 187- سورة الأعلى 189- سورة الليل 190- سورة الشرح 190- سورة العاديات 191- سورة التكاثر 191- سورة النجم 191- أسلوب هذه المرحلة الأولى 194- تحليل لسبع سور من المرحلة المكلية الثانية "أو المتوسطة" 195- سورة "عبس" 195- سورة التين 197- سورة القارعة 197- سورة القيامة 198- سورة المرسلات 200- سورة البلد 202- سورة الحجر 203- ما تميزت به المرحلة المكية المتوسطة عن الأولى 208- المرحلة المكية الثالثة "أو النهائية" وطول سورها النسبي 209- إبراز الملامح الأساسية لسور منها ثلاث 210- سورة الصافات 210- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 سورة الكهف 217- سورة إبراهيم 226- المرحلة المكية الثالثة تكاد تكون مرحلة انتقالية تتوسط وحي مكة ووحي المدينة 230- أسلوب هذه المرحلة الختامية 230- سر إسهابنا الحديث عن السور المكية بمراحلها الثلاث 230- تعيين المراحل المدنية حتى آخر ما نزل من الوحي ليس بالأمر العسير، وتعليل ذلك 231- سور المراحل المدنية الثلاث عند المحققين 231- سور الأنفال "نموذج" كامل للأسلوب المدني 232- تنوع الموضوعات هو الباعث الأهم على تنوع الأسلوب القرآني 233. الفصل الرابع: لمحة خاطفة عن فواتح السور "234-246": سرد ما في القرآن من هذه الفواتح 234- الرأي القائل: إن هذه الفواتح سردت على نمط التعديد تحديا للعرب 235- حوت الفواتح من كل جنس من الحروف نصفه 236- الاعتقاد بأزلية هذه الحروف، وإحاطتها بالغموض والسرية 236- عد هذه الفواتح على حساب الجمل وسخف هذه الآراء 237- شطحات الصوفية في تأويل هذه الفواتح 238- هذه الفواتح من أسماء الله أو رموز تشير إلى الغرض من السور المفتتحة بها 239- ما في هذه الآراء كلها من التخرصات والظنون 239- رأي عقيم للمستشرق شيرنجر في هذه الحروف 240- أهي اسم الله الأعظم؟ 241- نظرية المستشرق نولدكه التي رجع عنها 241- تحمس بهل وهرشفيلد لتلك النظرية الخاطئة 242- رأي المستشرق بلاشير بضرورة الرجوع إلى النظرية الإسلامية نفسها 242- هذه الفواتح أدوات تنبيه 243- استبعاد السيد رشيد رضا جعل التنبيه للنبي عليه الصلاة السلام 243- لعل رأي السيد رشيد أصوب الآراء في حكمة هذه الفواتح 244- لم تسمع أذن أصواتا أحلى وقعا من هذه الحروف المقطعة 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء "247-258": القراءات السبع ليست هي الأحرف السبعة المذكورة في الحديث 247- عبارة "القراءات السبع" بدأت تشتهر على رأس المائتين 248- القراء الأئمة السبعة والمدن التي اشتهرت بها قراءاتهم 248- القراءات العشر والقراءات الأربع عشرة 250- منع القراءة بالقياس المطلق 250- موقف القراء من ابن مقسم وابن شنبوذ 251- توجيه القراءة الشاذة يعين على صحة التأويل 252- القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والقراءة الشاذة ليست قرآنا 254- قراءة ابن مسعود، وما شاع عنه من إنكاره المعوذتين والفاتحة من القرآن، وتفسير تصرفه 255- قراءة أبي بن كعب وما نسب إليه من إثباته دعاء الاستفتاح والقنوت في آخر مصحفه كالسورتين 255، ضابط القراءات المقبولة 255- أنواع القراءات من حيث السند ستة 256- القرآن حكم على قواعد اللغة والنحو، وليست هذه القواعد حكما على القرآن 258. الفصل السادس: علم الناسخ والمنسوخ "259-274": علم الناسخ والمنسوخ يلقي الأضواء على تدرج الوحي وتنجيم نزوله 259- جدل العلماء في تعريف النسخ لما توحي به اللفظة من الاشتراك 259- منشأ الجدل في تعريف النسخ 260- أدق تحديد اصطلاحي للفظة النسخ 261- حصر بعض العلماء النسخ في القرآن نفسه, وميل أكثرهم إلى جواز نسخ النسة بالقرآن 261- نسخ القرآن بالسنة, وما حمل على الشافعي خطأ في هذا الموضوع 261- نسخ السنة بالنسة 261- لن نعرض هنا إلا لنسخ القرآن بالقرآن، ووسبب اكتفائنا بذلك 262- مذهب أبي مسلم الأصفهاني في النسخ, وتسميته النسخ باسم التخصيص 262- تفرقة العلماء بين النسخ والتخصيص 262- المبالغون في النسخ سلكوا كثيرا من العموم المخصص في عداد المنسوخ 263- زعمهم أن أول الآية منسوخ وآخرها ناسخ 264- إدراجهم في عداد المنسوخ ما أبطله القرآن من عادات الجاهلية، وما رفعه من شرائع من قبلنا 264- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 تقسيمهم النسخ إلى أضربه التقليدية الثلاثة خطأ منهجي كان خليقا بهم أن يتجنبوه 265- جراءتهم العجيبة في احتمالهم نسخ آيات معينة إما مع نسخ أحكامها وإما دون نسخ أحكامها 265- جميع ما ذكروه من شواهد هذين الضربين أخبار آحاد لا يثبت بمثلها قرآن 265- الناسخ أيضا يجوز نسخه فيصير الناسخ منسوخا! وما في ذلك من الغلو العجيب 266- مبالغات تخالف البداهة وتعارض منطق الأشياء 266- جعلهم المخصوص منسوخا وإهمالهم تناسق السياق 267- ألوان ليست من النسخ ولا من التخصيص 268- مرور فكرة النسخ ببال بعض المفسرين تبدو في بعض الآيات إساءة أدب مع الله 269- خلطهم بين النسخ والإنساء 269- ما أمر به لسبب ثم زال سببه ليس من المنسوخ 269- إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثال الأمر أبدًا 269- اشتباه البيان على بعضهم بالنسخ 270- القول بالتناسخ حتى في الأخبار! 270- آية في سورة الأحقاف ثبت حكمها بزعمهم ست عشرة سنة قبل أن ينسخها أول سورة الفتح 271- التساهل في نسخ كلام الله معبر طبيعي إلى القول بالبداء 271- حين نسخ الله بعض أحكامه ببعض لم يظهر له أمر كان خافيا عليه 272- لا مجال لاشتباه النسخ بالبداء 272- إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله أو عن صحابي 272- لا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين بل ولا اجتهاد المجتهدين 273- المتزيدون في النسخ وسردهم عدد السور بحسب ما دخلها من النسخ وما لم يدخلها 273- الأصل في آيات القرآن كلها الإحكام لا النسخ, إلا أن يقوم دليل 273- حصر السيوطي دعوى النسخ في إحدى وعشرين آية على خلاف في بعضها 274- ولو تعقبناها لوجدنا الصالح منها للنسخ لا يزيد على عشر فقط 274- لا يكتشف النسخ إلا حيث يمتنع القول بالتخصيص أو تأخير البيان أو الإنساء 274. الفصل السابع: علم الرسم القرآني "275-280": إحاطة الرسم القرآني بهالة من التقديس 275- غلو الزاعمين أن هذا الرسم توقيفي 275- لا مجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 لمقارنة الرسم العثماني بفواتح السور 277- استحسان التزام هذا الرسم 278- رسم القرآن اصطلاحي ودليل ذلك 278- رسم القرآن للعامة بالاصطلاحات الشائعة في عصرهم 280. الفصل الثامن: علم المحكم والمتشابه: "281-286": المحكم والمتشابه من خلال الآية السابعة من سورة آل عمران 281- أكثر العلماء على أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله 282- رأي الراغب أن المتشابه من حيث إمكان الوقوف عليه ثلاثة أضراب 283- رد الآيات المتشابهات إلى المحكمات 284- مذهب السلف ومذهب الخلف في متشابه الصفات 284- ما في الكناية عن الحقائق الدينية الكبرى من الحسن والجمال 286- الحكمة في ورود المتشابه في القرآن 286. الباب الرابع: التفسير والإعجاز "287-340" الفصل الأول: التفسير: نشأته وتطوره "289-298": النبي صلى الله عليه وسلم هو أول شارح لكتاب الله 289- أجدر الصحابة بلقب المفسر هو عبد الله بن عباس 289- المفسرون من التابعين 290- التفسير بالمأثور: الطبري، ابن كثير، السيوطي 291- التفسير بالرأي والشروط التي لا بد منها لإباحته 291-292 تفاسير الرازي والبيضاوي وأبي السعود والنسفي والخازن 293- التفسير بالرأي لا مسوغ له إلا إذا عارضه التفسير بالمأثور 293- الطابع العقلي والمذهب الكلامي في تفاسير المعتزلة 294- تفسير الزمخشري 294- الشطحات في تفاسير المتصوفة 295- التفسير المنسوب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي ونموذج منه 295- التفسير الإشاري ومثال عليه من تفسير الألوسي 296- تفاسير الباطنية 297- تفسير أبي حيان الأندلسي 297- تفاسير المعاصرين: السيد الإمام محمد رشيد رضا، طنطاوي جوهري، سيد قطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 297- التفسير بالمأثور إذا اجتمع إليه حسن الاستنباط هو أولى التفاسير بالاعتبار 298. الفصل الثاني: القرآن يفسر بعضه بعضا:"299-312": دلالة القرآن تمتاز بالدقة والإحاطة والشمول 299- منطوق القرآن ومفهومه 299- تعريف المنطوق 300- تعريف المفهوم 301- مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة 301- المفهوم الوصفي 301- المفهوم الشرطي 303- المفهوم الحصري 303- عام القرآن وخاصه 304- تعريف العام 304- هذه الصيغ تعين العموم تعيينا حقيقيا ما لم يرد مخصص لها 305- العام الباقي على عمومه 306- المدح والذم لا يخرجان العام عن عمومه 307- الخاص وأنواعه 307- الحكم الذي يفيده الخاص بدلالاته الحقيقية الوضعية حكم قطعي 308- المجمل والمبين 308- تعريف المجمل 309- تبيين المجمل إما أن يرد متصلا أو منفصلا 310- قد يقع تبيين المجمل بالسنة النبوية 310- ما قال النبي عليه الصلاة والسلام من شيء فهو في القرآن، وفيه أصله 310- النص الظاهر 311- تعريف النص ودلالته الواضحة الصريحة 311- تعريف الظاهر 311- اللفظ لا يصرف عن المتبادر منه إلا بقرينة 312. الفصل الثالث: إعجاز القرآن "313-333": انهزام فصحاء العرب أمام تحدي القرآن لهم بمعارضته 313- الجاحظ وكتابه "نظم القرآن" 313- محمد بن زيد الواسطي وكتابه "إعجاز القرآن" 314- عبد القاهر الجرجاني ذواقة للأسلوب القرآني 314- الرماني ورسالته "النكت في إعجاز القرآن" 316- الباقلاني وكتابه المشهور في "الإعجاز" 316- عناصر الجمال الفني في القرآن في أبحاث المعاصرين 317- عناية مصطفى صادق الرافعي بالنظم الموسيقي في القرآن 317- التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن لدى سيد قطب 319- في الكتب التقليدية عن "علوم القرآن" أبواب توحي بالكثير مما ينطق به مفهومنا الحديث للإعجاز 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 تشبيه القرآن واستعاراته 322- مثل من التشبيه المركب 322- موضع الجمال الحقيقي في مشهد الحياة القصيرة 323- ظاهرة التشخيص في القرآن 324- مساوئ التقعيد عند الأقدمين 326- تحليلات موفقة تبرز جمال الصورة القرآنية عند علمائنا السابقين 326- الحياة والحركة والتناسق الفني في المشاهد القرآنية 327. المجاز والكتابة في القرآن 327- براعة العلماء السالفين في توفير الشواهد على التعبير المجمل 327- المجاز العقلي 328- إنكار بعض العلماء وقوع المجاز في القرآن 329- الكناية من أبلغ الأساليب في الرمز والإيماء 330- أمثلة 330- كناية القرآن عن الحقائق الدينية الكبرى المتعلقة بذات الله وصفاته 331- مجاوزة الكناية إلى التعريض 332- بين التعريض والتلويح 333. الفصل الرابع: الإعجاز في نغم القرآن "334-340": أسلوب القرآن الإيقاعي الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر 334- الموسيقى الداخلية تنبعث حتى من اللفظة القرآنية الواحدة، وأمثلة على ذلك 334- تناسق الكلمات في الآية وانسجام الآيات في السورة، وأمثلة 336- من أين ينبعث في سورة "الرحمن" إيقاعها الرخي المنساب 336- الإيقاع في الدعاء القرآني 337- الدعاء بطبيعته نشيد صاعد إلى الله 337- كل لفظة في الدعاء تنشئ صورة 337- دعاء زكريا في القرآن وجوه الغنائي 337- دعاء جماعة من أولي الألباب وما فيه من نداوة ولين 338- مواقف دعاء فيها صخب رهيب 339- نوح ودعاؤه المجلجل المديد 339- أصوات متقطعة متهدجة خلال الدعاء 339- الفاصلة القرآنية طليقة من كل قيد، والقرآن مملوء بالنغم الموسيقي 340. خاتمة 341-345. هذا هو القرآن: وحي يوحى، وتنزيل يتنزل 341- جهود العلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 لتأصيل الأصول ووضع القواعد لأمهات العلوم القرآنية 342- إطالتنا في فصل المكي والمدني، والحكمة منها 342- إنما نرد سحر القرآن إلى موسيقاه الداخلية 345- إنه كتاب مجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه 345. جريدة المراجع 346-352. مسرد الأعلام 355-366. فهرس الموضوعات 367-382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382