الكتاب: مباحث في التفسير الموضوعي المؤلف: مصطفى مسلم الناشر: دار القلم الطبعة: الرابعة 1426هـ - 2005م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مباحث في التفسير الموضوعي مصطفى مسلم الكتاب: مباحث في التفسير الموضوعي المؤلف: مصطفى مسلم الناشر: دار القلم الطبعة: الرابعة 1426هـ - 2005م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم ال مقدمة : إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونسترشده، ونعود بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا. والصلاة والسلام على الهادي البشير النذير، وعلى آله وصحبه التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فقد جعل الله سبحانه وتعالى كتابه معجزة رسوله العظمى، والحجة الدائمة على الخلق، ونبراسًا للدعاة إلى يوم الدين، يستمدون من نبعه الثر الهدايات، ويقتبسون من نوره مشاعل الحضارة، ويجدون في ثناياه البراهين السواطع كلما تراكمت ظلال الشبهات، وفي إرشاداته برد اليقين كلما حاكت الوساوس في الصدور. ومما يلمسه كل متدبر لآيات القرآن الكريم، وفاؤه لحاجات البشر في مختلف عصورهم، وتلوين الفهوم لآياته وتنويع الاستنباطات من دلالاته، وبخاصة في الآيات التي تتحدث عن الكون والحياة والإنسان. لذا كان علماؤنا الأجلاء من السلف الصالح يتركون المجال للقول الجديد ولا يحصرون دلالات الآيات في حدود فهمهم، بل يسوقون أحيانًا الأقوال العديدة في تفسير الكلمة الواحدة بله الآية الواحدة، وقد يرجحون قولًا وقد يتركون بدون ترجيح، لأن الآية تحتمل كل الأقوال من قبيل تفسير الترادف. ومن يتصفح تفسير إمام المفسرين ابن جرير الطبري أو تفسير ابن الجوزي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 أو تفسير الماوردي أو تفسير السيوطي، يجد الأمثلة التي لا تحصى على تعدد الأقوال في الآية الواحدة. وقد أشكل على بعض من لاحظ له في القرآن، كيفية وفاء النصوص من الكتاب والسنة بحاجات البشر المتجددة، وقالوا: إن النصوص محصورة ودولاب الحياة لا يتوقف والأحداث تتجدد، والأفكار والمبادئ تطرح على الساحة في كل جيل مما لا عهد للأجيال السابقة بها، وهناك نظريات اجتماعية وثقافية واقتصادية ومشكلات لم يكن لها وجود في عصر التنزيل، فكيف يستنبط من النصوص أحكامها، وتعرف الهدايات الربانية بشأنها؟! من هنا كانت أهمية التفسير الموضوعي، الذي يهتم بالهدايات القرآنية ويحاول الكشف عنها من خلال السياق والسباق للآيات الكريمة، ومن خلال تتبع الكلمة واستعمالاتها، ومن خلال التعرف على المناسبات والروابط بين السور والآيات، وبين بدايات الآيات وفواصلها وافتتاحيات السور وخواتيمها. ولعل لثقافة المفسر الخاصة والعامة، واهتماماته الشخصية، وصفاء قريحته، وشفافية نفسه، وسلامة ذوقه اللغوي دخلًا في دقة الاستنباط والتعرف على ما تشير إليه الآيات تصريحًا أو تلميحًا. وعلى ضوء ما تقدم نقول إن أساليب البحث في التفسير قد تتنوع حسب معطيات العصر، ومسار البحث قد يختلف عن السابق حسب الزاوية التي يحددها المفسر ويدخل منها إلى ظلال النصوص الوارفة، وبالتالي قد يظفر ببعض الثمار التي لم يسبق إليها. فقد يتعرف في الروابط بين الآيات الكريمة على دقائق في المعرفة، وقد يطلع عند تتبع بعض العبارات وعلى وشائج تكون مادة لإقامة صرح عتيد من سنن الله في المخلوقات، وقد يتنسم من خلال الأجواء العبقة لهدايات أي الذكر الحكيم روائح نظام متكامل تقوم عليه علائق المجتمع الآمن المطمئن الرغيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وقد كثرت الكتابات في الآونة الأخيرة حول التفسير الموضوعي للقرآن، ولكن القليل منها تناول الجانب المنهجي في هذا اللون من التفسير، بل اكتفت أغلبها بالدراسات التطبيقية، سواء منها ما تناول تفسير موضوعات من خلال القرآن الكريم، أو تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا. ولقد تناولت في هذا الكتاب الجانب المنهجي لهذا اللون من التفسير، وحاولت التعرف على نواته الأولى، ثم تطوره، وأنواعه وسقت نموذجًا تطبيقيًّا لكل نوع من نوعية الشهيرين. وبذلت جهدي أن ألتزم دلالات ظاهر النص، وأن أستدل بما صح من السنة النبوية، وأن أوثق الأقوال، وأسير على المنهج العلمي في الاستنباط والمناقشة. فما كان من صواب فمن الله جل جلاله وبتوفيقه، وما كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله منه. وأقدم وافر الشكر والتقدير سلفا لمن ينبهني عليه ويرشدني إلى الصواب فيه. والله أسأل أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعل هذا الجهد في صفحة أعمالي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. كما أرجو من إخواني طلاب العلم أن لا يحرموني من دعوة صالحة في ظهر الغيب إن وجدوا فائدة عند قراءتهم للكتاب. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الرياض في: 10/ 1/ 1410 11/ 8/ 1989 مصطفى مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته" تمهيد : الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا، والصلاة والسلام على من أرسله ربه داعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، ورضي الله عن الآل والأصحاب والأتباع حملة لواء الحق بين العالمين إلى يوم البعث والنشور. أما بعد: فلم يشهد التاريخ البشري كتابًا أهَّل أمة لقيادة البشرية، كما أهَّل القرآن الكريم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أحد أن جيلًا ربانيًا تولى السيطرة على مقادير الأمم والشعوب فعدل فيها بالقسطاس المستقيم كجيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك كان في فترة زمنية لا تتجاوز ثلث قرن من الزمان، وهي مدة قصيرة جدًا في عمر الأمم والشعوب. لقد تخرج من مدرسة النبوة جيل فريد في صفاته وتطلعاته وعزيمته وبذله وتضحياته، وقد فجر الإسلام هذه الطاقات الكامنة في تلك النفوس وأزاح عنها الغبش والغشاوة وفتح أمامها مجالات العطاء والإنتاج فكان بعضهم قادة الجيوش، وساسة الأمم، وعباقرة العلماء، ونوابغ القضاة، وأفذاذ الزهاد والعباد. وما ذاك إلا لتوافر أسباب النبوغ والعطاء. فالمعادن الأصلية التي كانت في ذات القوم -والناس كالمعادن- فكانت معادنهم كالتبر والجوهر. ووجد المربي الرباني الذي علمهم فأحسن تعليمهم وهذبهم أحسن تهذيب ووجد الغذاء الروحي الذي تحيا به القلوب ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فلم يكن بمستغرب عند من يدرك سنن الله في خلقه، في رقي المجتمعات وتقدمها عندما يدرك الأسباب التي أوجدها الله سبحانه وتعالى لتكوين هذه الأمة وتقدمها وتفوقها. وما أن رسخت الدولة الإسلامية قواعدها في أرجاء المعمورة، وما أن هدأت اندفاعة الفتوحات الإسلامية، حتى التفت العلماء إلى مدارسة القرآن الكريم الذي يشكل أساس النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، لتدوين تفسيره والعلوم التي تخدم توضيح المراد من كلام رب العالمين، وتعين على فهمه وتطبيقه وكانت الأجيال السابقة إلى عهد بني العباس تعتمد بشكل أساسي على التلقي والرواية مشافهة إلا في حالات استثنائية قليلة. وتنوعت المجالات التي توجهت الجهود إليها لخدمة آي الذكر الحكيم. فمنهم من توجه إلى جميع ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الدين، وعن صحابته الكرام، ومنهم من توجه إلى حفظ وجوه الأداء للفظ القرآني، ومنهم من حافظ على لغته وبيان معاني غريبة، ومنهم من توجه إلى استنباط القواعد التي تكفل سلامة التحدث به وعدم اللحن فيه. وقام صرح العلوم كلها لخدمة القرآن الكريم حفظًا وفهمًا وتطبيقًا، ولسنا بصدد تعداد العلوم المختلفة التي قامت وتاريخ تدوين هذه العلوم، وإنما نرمي إلى بيان نشوء علم التفسير بإيجاز، ومن ثم للتعرف على مولد هذا اللون من التفسير ما يطلق عليه اليوم "التفسير الموضوعي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي : بينت الآيات القرآنية الحكمة الإلهية من خلق الإنس والجن في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . كما بينت السنة الإلهية في بعثهم بعد موتهم لمحاسبتهم عن الأمانة التي حملوها: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] . وبين الخلق والتكليف والإعادة بعد الموت. لم يتركه لعقله واجتهاداته وأهوائه في التعرف على أسلوب العبادة، ومنهجه في الحياة الدنيا، بل أرسل إليه الرسل وأنزل الكتب لهدايته: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] . وكانت السنة الإلهية أن يكون الرسل من الأقوام المرسل إليهم وبلسانهم. وذلك أداء للرسالة على أحسن وجه، وليتحقق الغرض من إرسالهم ببيان الهدايات بأيسر الطرق إلى الأقوام {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] . لذلك كان الرسول المكلف بالتبليغ هو أوعى الناس لمهمته وأكثرهم علمًا وإحاطة برسالته، وبالتالي أقدرهم على بيان مراد الله سبحانه وتعالى من كتابه وآياته. وهذه السنن والحكم الإلهية تتجلى في خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ورسالته. وقد نزلت الآيات الكريمة تبين هذه الجوانب بيانًا كاملًا: فتارة يتكفل له ربه سبحانه وتعالى بحفظ القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وتارة أخرى يتعهد له ربه سبحانه وتعالى بجمع القرآن له وتوضيحه لاستيعابه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17-19] . وتارة يأمره ربه بتبليغ الآيات الكريمة للناس ومجاهدتهم بالقرآن: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] . لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم عباد الله بكتاب الله، إذ إن تبليغ الرسالة على الوجه الأكمل مترتب على فهمه لمحتوى الرسالة جملة وتفصيلًا، وهذا أمر تفرضه بدهيات الأمور {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . ويأتي بعد فهم الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم فهم الصحابة رضوان الله عليهم وإن كان فهمهم له جملة "لظاهره على الإجمال ولأحكامه على التفصيل". وليس من الضروري إحاطتهم التامة بمعاني القرآن الكريم بحيث لا تغيب عنهم شاردة ولا واردة، نقول ذلك لما نقل إلينا عن الصحابة رضي الله عنهم، فعلى الرغم من رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم المرة تلو الأخرى لبيان ما أشكل عليهم فهمه، أو لإزالة غموض اعتور فهمهم للآيات البينات، تنقل إلينا كتب التفسير والروايات الصحيحة من السنة النبوية أن بعض الصحابة كان يستفسر عن بعض الآيات والمعاني إلى مرحلة متأخرة من حياتهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلًا تنقل لنا الروايات أن عمر بن الخطاب سأل على المنبر في إحدى خطبه عن "الأب" في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] ، ثم عاد إلى القول: وما يضرك لو لم تعلم معناها1، فإن في بحث هذه الأمور التي لا ينبني عليها حكم عملي تكلفًا لا فائدة منه، لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يكتفون فيما يتعلق بالجوانب النظرية من فروع العقائد، أو ما يتعلق بسير الأمم، أو تخليق السماوات والأرض ... فكانوا يكتفون بموطن العظة والعبرة ومجمل الاعتقاد فيها. بل جاء النهي القرآني الصريح عن الخوض في مثل هذه الأمور التي لا تدخل في إطار الأحكام العملية، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا   1 انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 2/ 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101، 102] . كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن الاستفسارات التي لا يكون لها واقع عملي في حياة المسلمين. يقول عليه الصلاة والسلام: "إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" 1. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" 2. وفي الحديث الآخر الصحيح: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" 3. والحكمة الإلهية في ذلك -والله أعلم- أن انصراف الأمة إلى الأمور النظرية والفرعيات التي لا ترتبط بالأحكام العملية يؤدي إلى الفرقة والنزاع وإلى الجدل العقيم والترف الثقافي، والأمة الإسلامية أمة جهاد ودعوة وعمل فلا يليق بها مثل هذه المشاغل، وبخاصة في الصدر الأول في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية. بالإضافة إلى ما تقدم فإن إمكانات الصحابة رضوان الله عليهم الثقافية واللغوية لم تكن على مستوى واحد في الإدراك والفهم والاستنباط. روى البخاري في صحيحه عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أخذ عدي عقالًا أبيض وعقالًا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي فقال: "إن وسادك إذًا لعريض أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" 4. وكان منهم من لازم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه في سفر ولا حضر، فاطلع على   1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام: 8/ 142، ومسلم في كتاب الفضائل: 7/ 92. 2 رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل: 7/ 91. 3 أخرجه ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه. انظر: الدر المنثور للسيوطي: 3/ 208. 4 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 5/ 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أسباب النزول وما كان يرافق أحوال الوحي مما لم يدركه الآخرون، كل ذلك أوجد ملكة ذهنية وعلمية لم تتوافر لغيرهم. يقول مسروق: "جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ -الغدير- فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم"1. {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] . وفي الرواية التي أخرجها أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في صحيحه عن ابن عباس ما يدل أن بعض الصحابة كان يفهم بعض الآيات على غير وجهها الصحيح فيقع في محظور. يقول ابن عباس: إن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي، حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدًا فتوفي ما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ثم كان عمر من بعدهم فجلدهم كذلك أربعين، حتى أُتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، قال: وفي أي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا. شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه؟ فقال ابن عباس: هؤلاء الآيات نزلت عذرًا للماضين وحجة على الباقين، عذرًا للماضين لأنهم لقوا الله قبل أن حرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ} حتى بلغ الآية الآخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله نهى أن يشرب الخمر، فقال عمر: فماذا ترون؟ فقال علي بن أبي طالب: نرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر عمر فجلد ثمانين2.   1 التفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 30. 2 انظر الدر المنثور للسيوطي: 3/ 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وفي عهد التابعين اتسعت دائرة الأقوال في التفسير نظرًا لحاجة الناس إلى تفسير القرآن الكريم، وذلك: - لبعد العهد عن عصر النزول، ولانتشار الإسلام. - ودخول أقوام فيه ممن لم تكن لديهم خلفية عن الثقافة الإسلامية، بل كان لبعضهم خلفيات ثقافية أخرى ممن اعتنقوا ديانات قبل الإسلام. - كما ولد في الإسلام جيل لم يكن على علم تام بأساليب العربية وما رافق نزول القرآن إلا ما تلقوه عن الصحابة رضوان الله عليهم. وكان إلى هذا العهد يتناقل التفسير بطريق الرواية، فالصحابة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروي بعضهم عن بعض، والتابعون يروون عن الصحابة كما يروي بعضهم عن بعض. - وفي أواخر عهد بني أمية وأوائل العصر العباسي بدأ عصر التدوين، فجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطاف الآفاق رجال كان شغلهم الشاغل جمع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان على رأس هؤلاء: ابن شهاب الزهري، المتوفى سنة 124هـ. وشعبة بن الحجاج، المتوفى سنة 160هـ. ووكيع بن الجراح، المتوفى سنة 197هـ. وسفيان بن عيينة، المتوفى سنة 198هـ. وروح بن عبادة البصري، المتوفى سنة 205هـ. وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة 211هـ. وآدم بن إياس، المتوفى سنة 220هـ. وأحمد بن حنبل، المتوفى سنة 241هـ. وعبد بن حميد، المتوفى سنة 249هـ. وابن ماجه، المتوفى سنة 273هـ. وابن جرير الطبري، المتوفى سنة 310هـ. وغيرهم كثير ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ولكن لم يصلنا شيء عن تفاسيرهم سوى تفسير مجاهد، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني، وتفسير ابن ماجه، وتفسير ابن جرير الطبري. وكان إلى هذا العهد يجمع التفسير على أنه باب من أبواب الحديث، يدون فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كبار الصحابة مما يتعلق بتفسير آية أو آيات. ولم يبحث عن تفسير كل آية من آيات القرآن الكريم، وإنما يذكر فيه ما ثبت بطريق السند نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة. ولم نجد تفسيرًا مستقلًا للقرآن الكريم تتبع القرآن سورة سورة أو آية آية قبل بداية القرن الثالث الهجري، على الرغم من أن الروايات تذكر أن مجاهدًا المتوفى سنة 104هـ سأل ابن عباس ومعه ألواحه، فكتب تفسير القرآن كاملًا، إلا أن التفسير المطبوع لا يختلف عن التفاسير المأثورة لآيات متفرقة. كما قيل إن سعيد بن جرير المتوفى سنة 94هـ كتب تفسيرًا كاملًا للقرآن الكريم. كما يقال إن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة كتب تفسيرًا للقرآن عن الحسن البصري المتوفى سنة 116هـ. إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بصحة هذه الروايات لأن هذه التفاسير لم يصلنا منها إلا القليل، ووصلت أجزاء من بعضها. ولعل أقدم تفسير كامل لآيات القرآن الكريم، وصلنا وتحت أيدينا، وهو تفسير شيخ المفسرين ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ. ثم توالت المؤلفات في التفسير وتشعبت ألوانها حسب اتجاهات أصحابها والفنون التي أجادوا فيها، إلا أن الذي يهمنا هنا: هل كان بين تلك المؤلفات ما نطلق عليه اليوم اسم التفسير الموضوعي؟ وقيل البدء باستعراض تلك المؤلفات لنتعرف على المراد من مصطلح "التفسير الموضوعي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تعريف التفسير الموضوعي : يتألف مصطلح "التفسير الموضوعي" من جزأين ركبا تركيبًا وصفيًا فلا بد من تعريف الجزأين أولًا ثم تعريف المصطلح المركب منها. تعريف التفسير: التفسير لغة: من الفسر، وهو الكشف والبيان، وفي مفردات الراغب1: إظهار المعنى المعقول. والتفسير مبالغة من الفسر. قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] أي أحسن توضيحًا وبيانًا للمطلوب. وفي الاصطلاح: علم يكشف به عن معاني آيات القرآن وبيان مراد الله تعالى منها حسب الطاقة البشرية. تعريف الموضوع: الموضوع لغة: من الوضع، وهو جعل الشيء في مكان ما، سواء كان ذلك بمعنى الحط والخفض، أو بمعنى الإلقاء والتثبيت في المكان، يقال ناقة واضعة: إن رعت الحمض حول الماء ولم تبرح، وقيل: وضعت تضع وضيعة فهي واضعة، وكذلك موضوعة يتعدى ولا يتعدى. وهذا المعنى ملحوظ في التفسير الموضوعي لأن المفسر يرتبط بمعنى معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى يفرغ من تفسير الموضوع الذي التزم به2.   1 المفردات في غريب القرآن: 571. 2 المدخل إلى التفسير الموضوعي للدكتور عبد الستار سعيد: 20، 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وفي الاصطلاح: قضية، أو أمر متعلق بجانب من جوانب الحياة في العقيدة أو السلوك الاجتماعي أو مظاهر الكون تعرضت لها آيات القرآن الكريم. أما تعريف مصطلح "التفسير الموضوعي" بعد أن أصبح علمًا على لون من ألوان التفسير فقد تعددت تعاريف الباحثين المعاصرين له. منها: - هو بيان ما يتعلق بموضوع من موضوعات الحياة الفكرية أو الاجتماعية أو الكونية من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده. - وعرفه بعضهم بقوله: هو جمع الآيات المتفرقة في سورة القرآن المتعلقة بالموضوع الواحد لفظًا أو حكمًا وتفسيرها حسب المقاصد القرآنية. - وقيل: هو بيان موضوع ما من خلال آيات القرآن، الكريم في سورة واحدة أو سورة متعددة. - وقيل: هو علم يبحث في قضايا القرآن الكريم، المتحدة معنى أو غاية، عن طريق جمع آياتها المتفرقة، والنظر فيها، على هيئة مخصوصة، بشروط مخصوصة لبيان معناها، واستخراج عناصرها، وربطها برباط جامع1. - وقيل: هو علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر. ولعل التعريف الأخير هو الأرجح، لخلوه عن التكرار ولإشارته إلى نوعيه الرئيسيين. والتعاريف السابقة يغلب عليها طابع الشرح والتوضيح لمنهج البحث في التفسير الموضوعي.   1 المدخل إلى التفسير الموضوعي: 20؛ ودراسات في التفسير الموضوعي للدكتور زاهر عواض: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 نشأة التفسير الموضوعي : لم يظهر هذا المصطلح "التفسير الموضوعي" إلا في القرن الرابع عشر الهجري، عندما قررت هذه المادة ضمن مواد قسم التفسير بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر. إلا أن لَبِنات هذا اللون من التفسير وعناصره الأولى كانت موجودة منذ عصر التنزيل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن تتبع الآيات التي تناولت قضية ما والجمع بين دلالاتها وتفسير بعضها لبعض، مما أطلق عليه العلماء فيما بعد بتفسير القرآن بالقرآن، كان معروفًا في الصدر الأول، وقد لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه عندما سئل عن تفسير بعض الآيات الكريمة: - روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13] ، إنما هو الشرك" 1. - روى البخاري2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر مفاتح الغيب في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] فقال: "مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي   1 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 6/ 20، صحيح مسلم، كتاب الإيمان: 1/ 80. 2 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 5/ 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] ". - ومن هذا القبيل ما كان يلجأ إليه الصحابة رضوان الله عليهم من الجمع بين الآيات القرآنية التي يظن بها بعضهم التعارض، كما روى البخاري قال: وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} ، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقد كتموا في هذه الآية، وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فذكر خلق السماء قبل الأرض، ثم قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {طَائِعِين} فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء. وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى: {دَحَاهَا} 1. وقد وضع العلماء بعد ذلك قاعدة في أصول التفسير بضرورة العودة إلى القرآن الكريم نفسه لمعرفة تفسير آية ما، فما أجمل في مكان فصل في مكان آخر، وما أطلق في سورة مقيد في سورة أخرى. يقول ابن تيمية: "إن أصح الطرق في ذلك -أي في تفسير القرآن- أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر"2. ومن أبرز تلك الأمثلة قوله تعالى في سورة النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 118] ، فقد أفادت الآية الكريمة أن ما حرم على اليهود قد قصه الله سبحانه وتعالى على نبيه، وبالرجوع إلى الآية التي ورد فيها ذكر   1 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 6/ 36. 2 مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية بتحقيق عدنان زرزور: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المحرمات عليهم، نجد أن آية الأنعام قد فصلت هذا الإجمال وأزالت ذاك الإبهام في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] . وكذلك ما يتعلق بالمحرمات من بهيمة الأنعام على هذه الأمة نجد في ذلك عدة آيات: كقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] . وقد جاء تفصيل هذه المحرمات في عدة آيات كقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 172، 173] . وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] . وقد جمع الفقهاء هذه الآيات ذات الصلة بموضوع واحد في كتبهم الفقهية فجمعوا ما يتعلق بالوضوء والتيمم تحت كتاب الطهارة واستنبطوا منها الأحكام الخاصة بها، كما جمعوا ما ورد في الصلاة وقيامها وركوعها والقراءة فيها تحت كتاب الصلاة، وما يتعلق بالصدقات وجوبًا ومصارف وأنواع المال التي تخرج الصدقة منها تحت كتاب الزكاة، وهكذا في سائر أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والفرائض والسير. وكل ذلك لون من ألوان التفسير الموضوعي في خطواته الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقد أخذت هذه الدراسات الموضوعية اتجاهًا آخر في نفس الوقت وهو الاتجاه اللغوي وذلك بتتبع اللفظة القرآنية ومحاولة معرفة دلالاتها المختلفة. فقد ألف مقاتل بن سليمان البلخي المتوفى سنة 150هـ كتابًا سماه "الأشباه والنظائر في القرآن الكريم"، وذكر فيه الكلمات التي اتحدت في اللفظ واختلفت دلالالتها حسب السياق في الآيات الكريمة. وألف يحيى بن سلام المتوفى سنة 200هـ كتابه "التصاريف"1، تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه على طريقة كتاب الأشباه والنظائر. وألف الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ كتابه "المفردات في القرآن" حيث تتبع مادة الكلمة القرآنية وبين دلالاتها في مختلف الآيات. ثم ألف ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ كتابه "نزهة الأعين النواضر في علم الوجوه والنظائر". وعلى هذه الشاكلة كتاب الدامغاني المتوفى سنة 478هـ بعنوان "إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم". وكتاب الفيروزآبادي المتوفى سنة 817هـ بعنوان "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز". وكتاب ابن العماد المتوفى سنة 887هـ بعنوان "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر". وكان الغالب على هذه المؤلفات الجانب للكلمات الغريبة التي تتعدد دلالاتها حسب الاستعمال. وإلى جانب هذا اللون من التفسير فقد برزت دراسات تفسيرية لم تقتصر على الجوانب اللغوية بل جمعت بين الآيات التي يربطها رابط واحد أو يمكن أن تدخل تحت عنوان معين:   1 حققت الكتاب هند شلبي، وطبعته الشركة التونسية للتوزيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فقد ألف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة 224هـ كتابه في الناسخ والمنسوخ. وألف الإمام علي بن المديني "شيخ البخاري" والمتوفى سنة 234هـ كتابه في أسباب النزول. وألف الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ كتابه "تأويل مشكل القرآن". وألف أبو بكر الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370هـ كتابه "أحكام القرآن". وألف ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543هـ كتابه "أحكام القرآن" أيضًا. وألف إلكيا الهراسي الشافعي المتوفي سنة 504 هـ كتابه "أحكام القرآن" أيضًا. وظهرت مؤلفات أخرى جميع أصحابها ما يشمله عنوان الكتاب: مثل "أمثال القرآن" للماوردي المتوفى سنة 450هـ. وكتاب "مجاز القرآن" للعز بن عبد السلام المتوفى سنة 660هـ. وكتاب "أقسام القرآن" و"أمثال القرآن" لابن القيم المتوفى سنة 751هـ. ولا زال هذا الخط من التأليف في التفسير الموضوعي مستمرًا إلى يومنا هذا، وقد توجهت أنظار الباحثين إلى هدايات القرآن الكريم حول معطيات الحضارات المعاصرة وظهور المذاهب والاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية، والعلوم الكونية والطبيعية. فنجد مؤلفات كثيرة تحت عناوين شتى مثل: - الإنسان في القرآن. - المرأة في القرآن. - الأخلاق في القرآن. - اليهود في القرآن. - سيرة الرسول صور مقتبسة من القرآن. - الصبر في القرآن. - الرحمة في القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومثل هذه الموضوعات لا تكاد تتناهى، فكلما جد جديد في العلوم المعاصرة، التفت علماء المسلمين إلى القرآن الكريم ليسترشدوا بهداياته وينظروا في توجيهات الآيات الكريمة في مثل هذه المجالات الجديدة. ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أن أحد المستشرقين الإفرنسيين هو "جول لابوم" وضع كتابًا بعنوان "تفصيل آيات القرآن الكريم" وضع لكتابه ثمانية عشر بابًا، ثم حاول توزيع آيات القرآن الكريم على هذه الأبواب، وجعل تحت كل باب فروعًا وقد بلغت عدة هذه الفروع حوالي/ 350 فرعًا، وجمع تحت كل فرع الآيات التي تتعلق به. أما الأبواب الرئيسية فهي: 1- التاريخ. 2- محمد صلى الله عليه وسلم. 3- التبليغ. 4- بنو إسرائيل. 5- التوراة. 6- النصارى. 7- ما بعد الطبيعة. 8- التوحيد. 9- القرآن. 10- الدين. 11- العقائد. 12- العبادات. 13- الشريعة. 14- النظام الاجتماعي. 15- العلوم والفنون. 16- التجارة. 17- علم تهذيب الأخلاق. 18- النجاح. قام بترجمة الكتاب إلى العربية محمد فؤاد عبد الباقي وترجم مستدركه لإدوار مونتيه، إلا أن المؤلف تعسف كثيرًا في حشر بعض الآيات وليس الغرض الأساسي من الآية متفقًا مع الآية الأخرى، كما فاته كثير من الآيات لم تدخل تحت الجمع، إلا أن الكتاب خطوة مفيدة للباحث في لم شتات موضوع من الموضوعات القرآنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ألوان التفسير الموضوعي : من خلال الاستعراض التاريخي لنشوء علم التفسير والمؤلفات فيه نستطيع أن نلحظ ثلاثة أنواع من ألوان التفسير الموضوعي. اللون الأول : أن يتتبع الباحث لفظة من كلمات القرآن الكريم ثم يجمع الآيات التي ترد فيها اللفظة أو مشتقاتها من مادتها اللغوية، وبعد جمع الآيات والإحاطة بتفسيرها يحاول استنباط دلالات الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها. وكثير من الكلمات القرآنية المتكررة أصبحت مصطلحات قرآنية. فكلمات: الأمة، الصدقة، الجهاد، الكتاب، الذين في قلوبهم مرض، المنافقون، الزكاة، أهل الكتاب، الربا، نجدها تأخذ وجوهًا في الاستعمال والدلالة. فالمتتبع لمثل هذا يخرج بلون من التفسير لأساليب القرآن الكريم في استخدام مادة الكلمة ودلالاتها. وقد سبقت الإشارة إلى أن كتب غريب القرآن، وكتب الأشباه والنظائر قد تضمنت هذا اللون من التفسير، وهي العمدة في مثل هذه الأبحاث. إلا أن المؤلفات القديمة من هذا اللون بقيت في دائرة دلالة الكلمة في موضعها. ولم يحاول مؤلفوها أن يربطوا بينها في مختلف السور، فبقي تفسيرهم للكلمة في دائرة الدلالة اللفظية. أما المعاصرون الذين كتبوا في هذا اللون فقد تتبعوا الكلمة وحاولوا الربط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بين دلالاتها في مختلف المواضع فكان أشبه ما يكون باللون الثاني من التفسير الموضوعي. وفيما يلي ننقل نموذجًا على هذا اللون من التفسير الموضوعي من كتاب الدامغاني: نموذج من كتاب: "إصلاح الوجوه والنظائر"، للدامغاني: قال الدامغاني تحت مادة "خ ي ر"1: "خ ي ر" على ثمانية أوجه: المال، الإيمان، الإسلام، أفضل، العافية، الأجر، الطعام، الظفر والغنيمة. فوجه منها1 الخير بمعنى المال، قوله سبحانه في سورة البقرة: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} يعني مالًا. كقوله تعالى فيها: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وكقوله تعالى في سورة البقرة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} أي لا تنفقوا مالًا وقوله تعالى فيها: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يعني من مال، وقوله تعالى في سورة "ص": {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} يعني حب المال، وكقوله تعالى في سورة النور: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} يعني مالًا. الثاني: الخير يعني الإيمان. قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ} يعني لو علم الله فيهم إيمانًا، كقوله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} يعني إيمانًا، كقوله تعالى في سورة هود: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} يعني إيمانًا. الثالث: الخير يعني الإسلام. قوله تعالى في سورة البقرة: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني الإسلام، نظيرها في سورة "ق": {مَنَّاعٍ لِلْخَيْر} يعني الإسلام نزلت في الوليد بن المغيرة منع ابن أخيه أن يسلم، نظيرها في سورة "ن".   1 إصلاح الوجوه والنظائر للدامغاني: 167-169، ط. دار العلم للملايين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الرابع: خير يعني أفضل. قوله تعالى في سورة المؤمنون: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} يعني أفضل الراحمين، كقوله تعالى في سورة يونس: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين} أى أفضل الحاكمين، ونحوه قوله تعالى في سورة الزخرف: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} يقول أفضل من هذا. الخامس: الخير يعني العافية. قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني بعافية. السادس: الخير يعني الطعام. قوله تعالى في سورة القصص: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} يعني الطعام. الثامن: الخير يعني به الظفر والغنيمة والطعن في القتال قوله تعالى في سورة الأحزاب: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} يعني ظفرًا وغنيمة". ونلاحظ أن المؤلف لم يربط بين أصل الكلمة واستعمالاتها وسياق الآيات التي وردت فيها الكلمة: ليبني عليها هداية قرآنية أو ليستنبط من دلالات اللفظة وسياق استعمالاتها توجيهًا قرآنيًا معينًا. وإنما بقيت الكلمة حيث وردت في نطاق الدلالة اللفظية المفردة. نموذج من كتاب "المفردات في غريب القرآن"، للراغب الأصفهاني، المتوفى سنة 502هـ في كلمة "أمة": والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا. وجمعها أمم. وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع. فهي بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ناسخة كالعنكبوت، وبانية كالسرقة1، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع. وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة} أي صنفًا واحدًا وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي في الإيمان. وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أي جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح يكونون أسوة لغيرهم. وقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي على دين مجتمع. قال الشاعر: وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع. وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي حين. وقرئ بعد أمه2: أي نسيان. وحقيقة ذلك بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين. وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} أي قائمًا مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة. وروي أنه يُحشر زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحدة3. وقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي جماعة. وجعلها الزجاج ههنا للاستقامة، وقال تقديره ذو طريقة واحدة، فترك الإضمار4. ثم انتقل إلى لفظة "أمي" ودلالات الكلمة، ثم إلى كلمة "الإمام" ودلالاتها، ثم إلى كلمة "الأم" بمعنى القصد، وختم المادة بالحديث عن حرف "أما". وفي كل ذلك لم يتعرض لسياق الآيات التي استخدمت فيها كلمة "أمة" وإنما تعرض لها في مواطنها ولم يفصل القول في عناصر تكوين دلالات هذه اللفظة ولا مقومات استمرارها ودورها. وقارن ذلك بما كتبه الدكتور أحمد حسن فرحات حول مصطلح الأمة ودلالتها اللغوية والفكرية والشرعية.   1 السُرْفَة: بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء، دودة القز. 2 هي قراءة الحسن، انظر: القراءات الشاذة لعبد الفتاح القاضي: 57. 3 أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/ 143. 4 انظر: المفردات للراغب: 27-28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 اللون الثاني : تحديد موضوع ما يلحظ الباحث تعرض القرآن الكريم له بأساليب متنوعة في العرض والتحليل والمناقشة والتعليق. فيتتبع الموضوع من خلال سور القرآن الكريم، ويستخرج الآيات التي تناولت الموضوع، وبعد جمعها والإحاطة بتفسيرها يحاول الباحث استنباط عناصر الموضوع من خلال الآيات الكريمة، فينسق بين عناصره، ويقدم له بمقدمة حول أسلوب القرآن الكريم في عرض أفكار الموضوع، ويحاول أن يقسمه إلى أبواب وفصول ومباحث، ويستدل بالآيات القرآنية على كل ما يذهب إليه ويتحدث عنه مع ربط ذلك كله بواقع الناس ومشاكلهم ومحاولة حلها وإلقاء أضواء قرآنية عليها. ويتجنب خلال بحثه التعرض للأموال الجزئية في تفسير الآيات فلا يذكر القراءات، ووجوه الإعراب والنكات البلاغية إلا بمقدار ما تُلقي أضواء على أفكار الموضوع الأساسية، ويعرض ما يتحدث عنه بأسلوب جذاب لتوضيح مرامي الآيات ومقاصدها والحكمة الإلهية في عرض أفكار الموضوع بأساليب معينة واختيار ألفاظ محددة لها. وهذا اللون من التفسير الموضوعي هو المشهور في عرف أهل الاختصاص، وإذا أطلق اسم "التفسير الموضوعي" فلا يكاد ينصرف الذهن إلا إليه. ولقد كثرت المؤلفات قديمًا وحديثًا في هذا اللون من التفسير الموضوعي فما كتب: إعجاز القرآن. والناسخ والمنسوخ في القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وأحكام القرآن. وأمثال القرآن. ومجاز القرآن ... قديمًا إلا أمثلة ناطقة على أهمية هذا اللون من التفسير عند السلف الصالح من علماء هذه الأمة. وكذلك الموضوعات المختلفة المعاصرة: المتعلقة بمجالات المعرفة المختلفة حيث ربطها الباحثون بالقرآن الكريم ونظروا بمنظاره إلى هذه المجالات وكيفية البحث عنها، سواء كانت هذه المجالات مما يتعلق بالكون المحيط بالإنسان من أرض وسماوات وكواكب ونجوم وبحار ومحيطات وجبال وأنهار ونبات وحيوان، أو كانت مما يتعلق بالإنسان خلقه وتكوينه وعواطفه وغرائزه ومشاعره ونفسه وعقله، وأخلاقه وسموه وتسقله، أو بالحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان في مجتمعه بدءًا بالعلاقات الأسرية والاجتماعية في القوم والعشيرة، والعلاقات الدولية والأمور الاقتصادية والسياسية، وأنظمة السلم والحرب والدعوة إلى الله، وأخذ العبر والعظات من سير الأقوام والأمم الماضية. وما يتعلق كذلك بأمور الغيب من البعث بعد الموت والحشر والحساب والجنة والنار، وصنوف النعيم في دار السعادة للمتقين، وصنوف الشفاء للتعساء في دار الجحيم. ولا تكاد تنتهي مثل هذه الموضوعات، بل كلما جدت علوم وصنوف من المعرفة لدى الإنسان يجد الباحث في القرآن الكريم ما يشبع فكرة اقتناعًا، وقلبه طمأنينة من عرض القرآن الكريم لأساسيات هذا اللون من المعرفة بوضع الأسس العامة والتوجيهات الأساسية في هذا الشأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 اللون الثالث من التفسير الموضوعي: وهذا اللون شبيه باللون الثاني إلا أن دائرة هذا اللون أضيق من دائرة سابقه. حيث يبحث في هذا اللون عن الهدف الأساسي في السورة الواحدة، ويكون هنا الهدف هو محور التفسير الموضوعي في السورة. وطريقة البحث في هذا اللون هو: أن يستوعب الباحث هدف السورة الأساسي، أو أهدافها الرئيسية، ثم يبحث عن سبب النزول للسورة أو الآيات التي عرضت الموضوع الأساسي للسورة، ثم ينظر إلى ترتيب نزول السورة من بين السور المكية أو المدينة، ثم يدرس الأساليب القرآنية في عرض الموضوع والمناسبات بين مقاطع الآيات في السورة. وسيجد الباحث أن لكل سورة شخصيتها المستقلة وأهدافها الأساسية. فمن المعلوم أن السور المكية قد عرضت أسس العقيدة الإسلامية الثلاثة بشكل مفصل: الألوهية، الرسالة، البعث بعد الموت، لذا يمكن أن يتناول الباحث في كل سورة مكية أحد الجوانب الثلاثة من العقيدة، كما اشتمل كثير منها على الحث على أمهات الأخلاق والتنفير من مرذولها. ولم يظفر هذا اللون من التفسير الموضوعي بعناية المفسرين القدماء بل جاء في ثنايا تفاسيرهم الإشارة إلى بعض أهداف السور وخاصة القصيرة منها، وكذلك التوخي لوجه المناسبة بين مقاطع بعض السور، كما فعل الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وكذا فعل البقاعي في نظم الدرر، وعبد الحميد الفارهي في كتابه نظام القرآن. أما في العصر الحديث فقد كان سيد قطب مولعًا بعرض أهداف وأساسيات كل سورة، قبل البدء في تفسيرها، وبيان شخصية كل سورة وملامحها المتميزة عن بقية السور. والأساليب المتبعة في عرض أفكارها. فيعتبر كتابه "في ظلال القرآن" نموذجًا جيدًا وبخاصة مقدمة تفسيره لكل سورة. كما كتب غيره ممن جاء بعده مستفيدًا من منهجه، كما فعل إبراهيم زيد الكيلاني في كتابه "تصور الألوهية كما تعرضه سورة الأنعام"، وكتابه "معركة النبوة مع المشركين" أو: قضية الرسالة كما تعرضها سورة الأنعام وبينها القرآن الكريم. أما ما كتبه د. محمد البهي في رسائله المسماة بالتفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم فلا أعتبره من التفسير الموضوعي وإنما هو تفسير إجمالي للآيات في السورة كما لم يحدد موضوع كل سورة فسرها، وإنما جاء بكلام إنشائي للمعنى الإجمالي للآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أهمية التفسير الموضوعي : أولًا: إن تجدد حاجات المجتمعات وبروز أفكار جديدة على الساحة الإنسانية وانفتاح ميادين للنظريات العلمية الحديثة لا يمكن تغطيتها ورؤية الحلول الصحيحة لها إلا باللجوء إلى التفسير الموضوعي للقرآن الكريم. وذلك أن الباحث المسلم عندما يجابه مشكلة في الحياة، أو تقدم له نظرية مستحدثة في علم النفس، أو علم الاجتماع، أو في علوم الحضارة الإنسانية، أو العلوم الفلكية، أو العلوم الطبيعية أو نظرية في الاقتصاد. فإنه لا يستطيع أن يجد لكل هذه النظريات المستجدة نصوصًا من آيات الذكر الحكيم تناقش مثل هذه القضية المطروحة وتبين حكم الله تعالى فيها، بل يلجأ الباحث عندئذ إلى معرفة الهدايات القرآنية وإرشادات السنة النبوية في هذا الاتجاه ويجمع الأفكار الرئيسية في هذا المجال، بحيث تتكون لديه ملكة لإدراك مقاصد القرآن الكريم في هذا الصدد، وبمنظار القرآن الكريم ينظر إلى حل هذه المشكلة أو يقوم هذه النظرية. إن نصوص القرآن الكريم محددة والقضايا التي تناولها بالتوضيح والبيان والتفصيل محددة أيضًا: أما المشاكل الإنسانية وآفاق المعرفة فغير محددة ما دامت الحياة مستمرة على هذه الكرة الأرضية، ولا يمكن أن نجابه هذه المشكلات بظواهر النصوص المحددة. بل نجد المرونة والسعة في الخطوط الأساسية التي تعرض لها آيات التنزيل الحكيم. ومن خلال علل النصوص وهداياتها العامة ودلالاتها وظلالها نستطيع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 نصل إلى أنوار كاشفة ترسم لنا الطريق وتحدد لنا المعالم لتقويم كل مستحدث جديد. لذا لا يمكن أن نجابه مشاكل العصر ومعطيات الحضارة إلا بأسلوب الدراسات الموضوعية للقرآن الكريم أو بأسلوب "التفسير الموضوعي". إن جمع أطراف موضوع ما من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والإحاطة بدلالاتها يمكن الباحث من القيام بدور اجتهادي للتوصل إلى أفكار وقواعد عامة جديدة، وعلى ضوء هذه القواعد والهدايات المستمدة من مقاصد النصوص الشريفة يستطيع الباحث أن يدرك معالجة الإسلام لهذه المعضلات والمشكلات. ثانيًا: إن تخصيص موضوع بالبحث والدراسة وجمع أطرافه والاطلاع على أسباب النزول للآيات المتعلقة به، وتحديد المرحلة التي نزلت الآيات الكريمة تعالج بعض جوانبه، وتوجيه ما ظاهره التعارض، كل ذلك يهيئ للموضوع جوًا علميًا لدراسة هذا الموضوع بعمق وشمولية تثري المعلومات حوله وتبلور قضاياه وتبرز معالمه. ومثل هذا العمق ومثل هذا التوسع لإبراز معالم الموضوع لا يتيسر للباحث في أي نوع من أنواع التفاسير سواء التحليلي، أو الإجمالي، أو المقارن، بل التفسير الموضوعي هو الأسلوب الأمثل في بحث مثل هذه الأمور. ثالثًا: عن طريق التفسير الموضوعي يستطيع الباحث أن يبرز جوانب جديدة من وجوه إعجاز القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه. فكلما جدت على الساحة معطيات جديدة لتطور الفكر البشري، يعايشها المفسر، ويحط بدقائقها وحقائقها ثم يلجأ إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية الشريفة ليستنطق النصوص الشريفة ويميط اللثام عن وجوه جديدة من الهدايات القرآنية. ويجد أهل الاختصاص في كل فن أن المعجزة الخالدة الباقية تقيم الحجة على الأجيال وأن في القرآن من الكفاية والغناء عن كل شيء: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50، 51] . رابعًا: تأهيل الدراسات القرآنية وتصحيح مسارها: لقد نالت بعض العلوم القرآنية حظًا وافرًا من جهود العلماء وصنفت فيها المصنفات الكثيرة مثل العلوم المتعلقة بالجوانب اللغوية، والدراسات الفقهية لآيات الأحكام، إلا أن علومًا جديدة برزت تحتاج إلى تأهيل قواعدها على ضوء القرآن الكريم مثل "الإعجاز العلمي"، فقد برز هذا العلم وكثرت الكتابات فيه إلا أنه يحتاج إلى ضبطه بقواعد علمية مستمدة من هدايات القرآن الكريم لتجنب الإفراط والتفريط في إدخال الآيات مجال البحث والمتعلقة بالعلوم التجريبية من علوم الفلك والطبيعة والإنسان. وكذلك علم "أصول التربية القرآنية" فبعد بروز المدارس الاجتماعية ومدارس علم النفس في الغرب، وغزوها للأمم والشعوب، ومحاولة إقامة صرح التعليم والتربية حسب مناهجها، رأى المفكرون المسلمون أن من الضرورة بمكان استخلاص مبادئ هذا العلم من هدايات القرآن الكريم ولا زالت الكنايات في هذا الجانب قليلة جدًا، إذ تحتاج مثل هذه العلوم إلى علماء راسخين في علوم الشريعة، إلى جانب استيعابهم لثقافة العصر ومناهج المدارس الحديثة في الغرب والشرق، إلى جانب ملكة قوية في الإبداع والاستنباط، ليقوم هذا العلم على أسس راسخة. ومثل هذا "أصول علم الاقتصاد الإسلامي" و"أصول الإعلام الإسلامي". إن كثيرًا من العلوم تلعب دورًا هامًا في حياتنا المعاصرة، ولا زالت معالم هذه العلوم غير واضحة الصلة بهدايات القرآن، ولا يمكن أن نجد نصوصًا محددة من القرآن الكريم أو السنة النبوية تناولتها, وإنما نستشف أصولها من خلال روح النصوص الكريمة وهدايات القرآن الكريم والسوابق القضائية والفقهية لسلف هذه الأمة، ولا وسيلة لوضع أسس هذه العلوم وبيان ضوابطها إلا من خلال التعامل مع الآيات الكريمة وفق منهج التفسير الموضوعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 كما أن هنالك دراسات إسلامية ضخمة قامت ولكن لم تكن مناهج الباحثين فيها وثيقة الصلة بالهدايات القرآنية. فعلم التاريخ البشري أخذ منهجًا في سرد الوقائع والأحداث من غير تعرض لسنن الله في المجتمعات الإنسانية من حيث الرقي والتقديم أو الانحطاط والتخلف علمًا أن هدايات القرآن الكريم قد أبرزت هذه السنن بشكل دقيق عند عرض قصص الأمم السابقة مع أنبيائها. ولقد كانت محاولة ابن خلدون في مقدمة تاريخه محاولة جادة وجيدة، إلا أننا لم نجد من تابع هذا العلم، ومن الجدير أن تقام دراسات قرآنية حول هذا الموضع تحت عنوان: "علم الحضارة القرآنية". بل إن هناك جوانب من الدراسات قامت حول الأحكام التشريعية وتفسير آيات الأحكام إلا أننا لا نجد مؤلفًا خاصًا كتب حول إبراز مزايا التشريع الإسلامي وحكمه. فعلى الرغم مما كتبه بعض العلماء في ثنايا كتبهم حول الإعجاز التشريعي للقرآن؛ كما فعل الشيخ عبد العظيم الزرقاني في "مناهل العرفان" والشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "المعجزة الكبرى"، إلا أن الحاجة ماسة للكتابة حول فلسفة التشريع الإسلامي في جميع مجالات الحياة وإبراز محاسنه على ضوء الآيات القرآنية. إن المنهج الذي يغطي هذه المجالات ويوصل هذه العلوم ويضع الأسس والضوابط لها هو منهج التفسير الموضوعي للآيات القرآنية. من هنا كانت أهمية هذا النوع من التفسير. فما هي مناهج البحث في التفسير الموضوعي؟ هذا ما نتناوله بشيء من التفصيل في المباحث القادمة بإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 مناهج البحث في التفسير الموضوعي : أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم: إذا أراد الباحث أن يطرق موضوعًا من موضوعات القرآن الكريم، لا بد أن يكون تصورًا لأبعاد الموضع، وأن يتدرج في جميع المادة العلمية حوله حسب الخطوات التالية: 1- اختيار عنوان للموضوع القرآني مجال البحث، بعد تحديد معالم حدوده ومعرفة أبعاده في الآيات القرآنية. 2- جمع الآيات القرآنية التي تبحث هذا الموضوع، أو تشير إلى جانب من جوانبه. 3- ترتيب هذه الآيات حسب زمن النزول، وذلك لأن ما أُنزل بمكة كان في الأعم الأغلب يتعلق بأسس عامة غير محددة الجوانب كالأمر بالإنفاق أو الزكاة أو الإحسان بينما حددت معالم هذه التشريعات في المرحلة المدنية. 4- دراسة تفسير هذه الآيات دراسة وافية بالرجوع إلى كتب التفسير التحليلي والتعرف على أسباب نزولها إن وجدت، وإلى دلالات الألفاظ واستعمالاتها، والروابط بين الألفاظ في الجملة وبين الجمل في الآية وبين الآيات في المجموعة التي تتحدث عن الموضوع. 5- بعد الإحاطة بمعاني الآيات مجتمعة يحاول الباحث أن يستنبط العناصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الأساسية للموضوع من خلال التوجيهات القرآنية التي أحاط بها أو استنبطها من الآيات المتعلقة بالموضوع، وللباحث أن يقدم بعض العناصر الرئيسية على غيرها، إن وجد أن طبيعة البحث تقتضي ذلك أو أن تسلسل الأفكار المنطقي يلزم هذا التقديم أو التأخير. 6- ثم يلجأ الباحث إلى طريقة التفسير الإجمالي في عرض الأفكار في بحثه ويحاول أن لا يقتصر على دلالة الألفاظ اللغوية وإنما يستشف الهدايات القرآنية من خلال النصوص، كما يستدل على ما أشارت إليه الآيات الكريمة بالأحاديث النبوية الشريفة ويدعم كل ذلك بفهم الصحابة رضوان الله عليهم لنصوص آي الذكر الحكيم. ويوجه ويعلل ويشرح ويناقش في ضوء التوجيهات القرآنية، وإن وجد ما يوهم التناقض بين بعض الآيات التي تناولت الموضوع فلا بد من إزالة هذا الوهم، وإبراز الحكمة الإلهية في وجود مثل هذه النصوص. 7- لا بد للباحث من الالتزام بمنهج البحث العلمي عندما يضع مخطط البحث للموضوع، وقد يفرض الموضوع طبيعة المنهج والخطة التي سيجري البحث من خلالها. فإن كان الموضوع متشعب المباحث والمجالات لا بد عندئذ من وضع تمهيد بين الباحث فيه منهجه في تناول الموضوع. ثم يقسم الموضوع إلى أبواب ويضع تحت كل باب فصولًا وتحت كل فصل مباحث فيجعل العنصر الأساسي الجامع عنوانًا للباب ثم يجعل العنصر الفرعي عنوانًا للفصل، ثم يجعل الجزئيات الصغيرة عناوين للمباحث. أما إذا كان الموضوع محدد المعالم والآفاق واضح المجالات قليل العناصر، فلا بأس من بحثه عندئذ على شكل مقاله علمية تتكون من مقدمة وصلب الموضوع وخاتمة، يتناول في كل ذلك القضية المطروحة بأسلوب علمي رصين موثق بالأدلة والشواهد، وبدون خلاصة ما توصل إليه في الخاتمة بشكل موجز. 8- وليكن هدف الباحث في كل ذلك: - إبراز حقائق القرآن الكريم، وعرضها بشكل لافت للنظر مع ذكر حكمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 التشريع وجماله ووفائه بحاجات البشر وملاءمته للفطرة السليمة وإطلاقه للطاقات الإيجابية في الإنسان. - عرض تلك الحقائق بأسلوب مشرق عذب بذكر الأفكار متسلسلة آخذة برقاب بعضها ملبية لاستشراف نفس القارئ، مجيبة عن استفساراته المتوقعة، وذلك باتباع الأسلوب البياني الصحيح الذي يفهمه أهل عصره، متجنبًا الألفاظ الغريبة المهجورة وأساليب السجع المتكلفة. ملحوظات: 1- على الباحث في التفسير الموضوعي أن يجعل عناوين الأبواب والفصول من المادة القرآنية والعناصر البارزة فيه. أما السنة المشرفة فدورها في التفسير الموضوعي التوضيح والبيان والاستدلال وذلك حفاظًا على قرآنية الموضوع. وكذلك أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة اللغة، فكلها مادة للشرح والتوضيح والترجيح، ولا تشكل عناصر الموضوع الأساسية. 2- على الباحث أن يلتزم بالمنهج الصحيح في التفسير، وذلك بإبعاد الروايات الضعيفة والإسرائيليات والقصص التاريخي عند عرض الموضوع القرآني وتركيز الجهد لاستنطاق النصوص الكريمة على قواعد اللغة والأساليب البيانية، ودقة الاستنباط منها. 3- عند الحاجة إلى شرح كلمة غريبة أو توجيه، قراءة، أو إبراز نكتة بلاغية أثناء عرض أحد عناصر الموضوع، يجعل ذلك تعليقًا في الحاشية من غير استطراد يخل بتسلسل الأفكار وتعانق الفقرات وسلاسة الأسلوب وإشراقة البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة لقد ألفت مؤلفات قديمًا وحديثًا في تفسير سورة واحدة، وربما خص بعض العلماء تأليفًا مستقلًا حول سورة واحدة، نظرًا لمكانة هذه السورة الخاصة أو لاهتمامه بغرض تعرضت له السورة. ولتفسير السورة الواحدة تفسيرًا موضوعيًا لا بد من اتباع خطوات منهجية علمية ليؤتي العمل ثماره، وتكون الثمار المتوقعة مكافئة للجهد المبذول. ونذكر فيما يلي هذه الخطوات بشكل موجز ثم نعود إلى تفصيل بعضها: أولًا: التقديم للسورة بتمهيد يعرف فيه بأمور تتعلق بالسورة من ذكر سبب النزول أو المرحلة التي نزلت فيها السورة: مكية متقدمة أو متوسطة أو متأخرة، مدنية متقدمة أو متأخرة. وما ورد فيها من أحاديث صحيحة تحدد أسماءها، أو بعض خصائصها أو فضائلها. ثانيًا: محاولة التعرف على الهدف الأساسي في السورة والمحور الذي تدور حوله ويكون ذلك من خلال دلالة الاسم، أو الموضوعات المطروحة في السورة أو أخذًا من المرحلة التي نزلت فيها. ثالثًا: تقسيم السورة -وبخاصة الطويلة- إلى مقاطع أو فقرات تتحدث آياتها عن عنصر من عناصر الهدف أو مجال من مجالات المحور، واستنباط الهدايات القرآنية منها وذكر المناسبات بينها. رابعًا: ربط هذه المقاطع وما يستنبط من هدايات من كل منها بالهدف الأساسي للسورة بقصد إظهار هذا الهدف وكأنها جداول صغيرة تمد المجرى الأساسي للنهر، أو الشطآن الملتفة حول جذع الدوحة، تقوي أصلها وتدعم ساقها وتآزر متنها لتستوي على سوقها وتعجب الناظرين فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية تحديد محور السورة ... التفسير الموضوعي لسورة قرآنية: تحديد محور السورة: قبل البدء في تفسير السورة لا بد من دراسة أولية حول السورة تحت عنوان: بين يدي السورة أو على هامش السورة تتناول: أ- معرفة سبب نزولها أو أسباب نزول مقاطعها. فربما نزلت السورة جملة واحدة ويكون لها سبب نزول واحد، وربما نزلت السورة متفرقة لمناسبات متعددة، وعند التمعن تجد أن عمومات السورة أو المحور الذي تدور حول السورة يربط هذه المقاطع أو الآيات بنظام معين، فمعرفة أسباب النزول تعين على التعرف على هذا النظام الذي يجمع عقد السورة أو المحور الذي تدور السورة حوله. ب- التعرف على الهدف الأساسي للسورة أو المحور الذي تدور السورة حوله: 1- يمكن معرفة ذلك من خلال التعرف على دلالة اسم السورة أو أسمائها التي ثبتت عن طريق الوحي، أي بالتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول البقاعي في نظم الدرر: "قال شيخنا الإمام المحقق أو الفضل محمد البجائي المالكي ... الأمر الكلي المقيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراق نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له، التي تقتضي البلاغة شفاء العليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله وجه النظم مفصلًا بين كل آية وآية في كل سورة. والله الهادي. وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تُظهر المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدال إجمالًا على تفصيل ما فيه1. وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه الصلاة والسلام عند العرض على الملائكة عليهم الصلاة والسلام ومقصود على سورة هادٍ إلى تناسبها، فأذكر المقصود من كل سورة، وأطبق بينه وبين اسمها"2. 2- ويمكن التعرف على هدف السورة أو محورها من خلال استعراض الأحداث البارة أو القضايا الأساسية التي تناولتها السورة. فلو أمعنا النظر في القضايا البارزة في السورة لوجدنا أن بينها رابطًا يربطها، وقد يدق هذا الرابط فلا يدرك إلا بعد دراسة السورة دراسة عميقة ومعايشة أجوائها وتفيؤ ظلالها. 3- كما يمكن التعرف على هدف السورة أو أهدافها من خلال المرحلة الزمينة التي نزلت فيه السورة، فمن المعلوم أن السور المكية أكدت على تقدير أربعة أمور: الإيمان بالله وحده، الإيمان بالبعث بعد الموت، الإيمان بالرسالات السماوية، الدعوة إلى أمهات الأخلاق. فإذا كانت السورة مكية فلا يخلو الأمر من   1 اختار الشيخ عبد الحميد طهماز عنوان "العواصم من الفتن ... في سورة الكهف". وذكر في مقدمة كتابه أن الدافع لا لاختيار هذا العنوان شيئان: اسم السورة فالقضايا التي عرضت في السورة إذا اعتنقها الإنسان كان كالملاذ له والملجأ من الفتن والضلال فقد أوى إلى كهف يقيه من شرورها. والأمر الثاني حول اختيار هذا العنوان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف كانت له عصمة من الدجال. فكأنه آوى إلى كهف أو ملاذ أو ملجأ بقية فتنة الدجال. وهذا استنباط لطيف من الشيخ جزاه الله خيرًا. 2 نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: 1/ 17-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أن يكون من أهدافها الأساسية هذه الأسس الأربعة مجتمعة أو متفرقة. والسور المدنية بالإضافة إلى تقرير ما سبق استهدفت بناء المجتمع الإسلامي على أسس من الإيمان والطاعة والتشريعات التفضيلية في شئون الحياة كما استهدفت حماية المجتمع الإسلامي من الأخطار الداخلية والخارجية، بكشف خطط المتآمرين الحاقدين الساعين في الأرض بالفساد من اليهود والمنافقين، فلا تخلو سورة مدنية من قضية البناء، أو الصيانة والحماية، فيمكن التعرف على الهدف الأساسي أيضًا من خلال التعرف على القضايا المعروضة في السورة، ومن خلال المرحلة الزمنية لتطور المجتمع الإسلامي أيضًا. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن بعض السور يمكن أن نجد لها عدة محاور تدور حولها من غير تناقض ولا تعارض ولا تصادم. ويمكن تحديد كل محور والتعرف على دائرته من خلال زاوية الرصد التي نرصدها. تمامًا كما نتعرف على مسارات وأفلاك لبعض الكواكب وقد تتداخل أحيانًا من غير وقوع تصادم بينها، ويمكن تحديد مساراتها حسب زاوية الرصد وحسب نقطة الارتكاز التي نحددها لمعرفة مسارات هذه الكواكب. فسورة الكهف مثلًا يمكن تحديد عدة محاور أو أهداف لها. فمثلًا: عندما ندرك أنها سورة مكية نزرت في مرحلة متقدمة من مراحل الدعوة إلى الله. فقد ورد في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بني إسرائيل -أي الإسراء- والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي"1. وكما قلنا: إن السورة المكية جاءت لترسيخ أسس أربعة فيمكن رصد آيات السورة ومقاطعها من زاوية أي أساس من هذه الأسس. فلو أخذنا قضية الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، ونظرنا إلى افتتاحية السورة وإلى قصصها الأربع وإلى خاتمتها لوجدنا أن قضية التوحيد لافتة للنظر فيها   1 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 5/ 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ولا يخلو مقطع من هذه المقاطع من الدعوة الصريحة إلى توجيه العبادة لله سبحانه وتعالى والإخلاص له في القول والعمل وترك عبادة الطواغيت والآلهة المزعومة والشركاء. ولو حددنا وجهة نظرنا في البحث عن الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر من خلال افتتاحية سورة الكهف وقصصها الأربع وخاتمتها، لوجدناها من أبرز القضايا في كل المقاطع بحيث لا نحتاج إلا لاستعراض سريع لآيات، والأدلة أكثر من أن تساق للاستشهاد بها. ولو أمعنا النظر في الآيات باحثين عن قضية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من خلال آيات السورة لوجدناها محورًا أساسًا في ذلك يعيننا في تحديد معالم ذلك سبب النزول والافتتاحية والخاتمة بشكل قوي لافت للنظر، ولوجدنا أن هناك روابط قوية تشد القصص الأربع إلى هذا المحور شدًا لا يمكن الفكاك منه. ولو أردنا أن نلقي أضواءً على أمهات الأخلاق التي استهدفت الكهف ترسيخها والقيم الثابتة التي دعت إليها بالدعوة الصريحة لها أحيانًا والتمثيل الرائع بضرب الأمثال للقيم الحقيقية وضرب الأمثال للقيم الزائفة الخادعة التي تموه الباطل على الناس وتظهره على غير حقيقته أحيانًا أخرى وبالترغيب في التمسك بالحقائق والقيم الخلقية الرفيعة، والترهيب من القيم الزائفة الداجلة أحيانًا، لأدركنا أن هذا الهدف الذي ترمي إليه السورة لا يقل أهمية عن الأهداف الثلاثة الأولى. وهكذا فحينما تحدد زاوية الرصد للآيات الكريمة ومقاطع السورة -بشرط أن تكون رؤيتنا صحيحة، وإحاطتنا بقضايا السورة العامة وأسباب نزولها دقيقة- نجد أن لكل سورة شخصيتها المستقلة وهدفها أو أهدافها المحددة التي ترمي إليها، وأسلوبها الخاص بها، واختيار طريقة العرض للقضايا، وسوق القصص اختصارًا أو إسهابًا أو إشارات مقتضبة، كل ذلك لتكمل شخصية السورة وأجواؤها لإبراز الهدف الأساسي أو القضايا الرئيسية التي تناولتها السورة. 4- المناسبات بين مقاطع السورة ودورها في التعرف على هدف السورة أو محورها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 عند تقسيم السورة إلى مقاطع أو فقرات حسب ارتباط الآيات بعنصر من عناصر الموضوع لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير الموثوقة للاطلاع على الروايات الصحيحة من السنة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين في تفسير الآيات، والرجوع إلى الكتب التي تناولت المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة مثل تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور لبرهان الدين البقاعي، وفي ظلال القرآن لسيد قطب. وذلك للإحاطة بمعاني الآيات ومحاولة التعرف على المناسبات بين هذه المقاطع فقد تكون المناسبة جلية واضحة بينها، وقد تدق فلا تظهر، وقد تكون المناسبات بينها وبين محور السورة ظاهرة جلية وقد تكون دقيقة خافية وكثيرًا ما يكون التعرف على المناسبات بين المقاطع طريقًا لمعرفة الهدف الأساسي من السورة أو المحور الذي تدور حوله السورة. وقد يكون النظر في فاتحة السورة وخاتمتها وإبراز القضايا المشتركة بينهما دليلًا على الهدف الأساسي في السورة فكثير من السور القرآنية يرد فيها العجز على المصدر لترسيخ مفاهيم معينة أو التذكير بقضية جاءت السورة لبيانها1. وبعد التعرف على هدف السور الأساسي وتحديد المحور الذي تدور حوله تتبلور المناسبات بين المقاطع جميعها وبين المقاطع والمحور وبين الفاتحة والخاتمة، ويدرك الباحث وجه الاستطرادات التي وردت في السورة وتظهر له من الحكم والأسرار القرآنية على حسب ما أوتي من ملكة في الاستيعاب والغوص في المعاني.   1 يقول الدكتور محمد عبد الله دراز: ولقد وضح لنا بما أثار دهشتنا أن هناك تخطيطًا حقيقيًا واضحًا ومحددًا، يتكون من ديباجة وموضوع وخاتمة فتوضح الآيات الافتتاحية الأولى من السورة الموضوع الذي ستعاجله في خطوطها الرئيسية ثم يتبع ذلك التدرج في عرض الموضوع، بنظام لا يتداخل فيه جزء مع جزء آخر، وإنما يحتل كل جزء المكان المناسب له في جملة السورة، وأخيرًا تأتي الخاتمة التي تقابل الديباجة. انظر: كتاب مدخل إلى القرآن الكريم: 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 إن آثار إدراك المناسبات بين المقاطع والأجزاء في السورة على التعرف على هدف السورة كبيرة. وبالمقابل فإن ظهور الهدف في السورة يعين كثيرًا على التعرف على المناسبات بين مقاطعها وفقراتها فالأضواء منعكسة على بعضها من الجهتين تنير السبيل أمام الباحث للسير بخطى ثابتة راسخة في بحثه، فلا يهمل هذا الجانب في التفسير الموضوعي للسورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة : تتناول السورة القصيرة في الغالب قضية واحدة فيكون لها هدف واحد أو محور واحد تدور عليه. فمثلًا سورة "الإخلاص" تدور حول هدف واحد هو تقدير الوحدانية لله سبحانه وتعالى، وسورة "الكافرون" تدور حول المفاصلة عن الكافرين، وسورة "الزلزلة" و"القارعة" تدوران حول أحداث يوم القيامة والحساب فيه. وهناك من السور القصيرة ما تتعدد أهدافها أو أغراضها ولكنها لا تخرج في الغلب عن هدفين أو ثلاثة. فمثلًا: سورة "الطارق" تذكر هدفين هما التذكير بقدرة الخالق على الخلق والإبداع، وتقرير أن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة حق من الخالق. وسورة "الغاشية" تتناول أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، وتذكر الاستدلال على القدرة والحكمة من خلال تدبر هيئات المخلوقات. وسورة "النازعات" تتناول ذكر جنود الله من الملائكة المكلفين بالكون والمخلوقات، لتدفعها جميعًا إلى يوم الحساب. ومن باب إبراز فضل الشيء وقوته بذكر ضده تعرض السورة بإشارات سريعة أحوال فرعون وطغيانه وحشره لجنوده ليبين ضعفهم بالمقارنة بجند الله وسهولة أخذهم {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} ، ثم التعليق والتعقيب على ذلك ببيان ضعف الإنسان قياسًا إلى خلق السماوات والأرض وبيان مصير المكذبين والمصدقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فنستطيع أن نقول: إن السورة تتناول ثلاثة جوانب أساسية: - قوة الله وقوة جنده. - ضعف البشر وجنودهم من خلال النموذج الفرعوني. - التعقيب والتقرير لمبدأ المعاد والحساب. وسورة "ن" محورها الأساسي الدفاع عن شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذر الكافرين المغترين من التقول عليه وإلصاق التهم الباطلة به. وهكذا سائر سور القرآن الكريم مهما طالت فإنها تدور حول أهداف معينة، فسورة البقرة على طول آياتها وكثرة فقراتها. ذكر بعضهم أنها تتكون من مقدمة وغرضين أساسيين وخاتمة. فالمقدمة في الحديث عن موقف الناس تجاه القرآن الكريم: فمؤمن، وكافر، ومنافق. ثم الموضوع الأول: هو بيان قدرة الخالق ووحدانيته وحكمته من خلال أصل الخلق والتكوين وأن الناس تنكروا لهذا الأمر المرة تلو المرة وقدم النموذج الإنساني الذي كلف بالأمانة والقوامة على دعوة الله وتوحيده وتطبيق شرائعه، فلم يستقم على ذلك وهم بنو إسرائيل. وبعد الحديث عن نعم الله على بني إسرائيل وإرسال الرسل إليهم وبيان مواقفهم ومراوغتهم للتخلص من أحكام الله وإيثار الشهوات والشبهات على الاستقامة على منهج الله. ثم يأتي ذكر الموضوع الثاني: وهو أنه لا بد لدين الله من أمة تقوم عليه وتطبقه ولا بد أن تكون هذه الأمة قادرة على التغلب على أهوائها، وأن تكون على جانب كبير من العلم والمعرفة الربانية وأن تكون لها شخصيتها وأصالتها. فكانت الأمة التي أُسندت إليها المسئولية بعد بني إسرائيل هذه الأمة الإسلامية أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وزودت هذه الأمة بكل مقومات القيادة والسيادة من العلوم والتشريعات لتقوم بدور القوامة التي عجزت عنه بنو إسرائيل. ثم تأتي الخاتمة بالشهادة لهذه الأمة أنها آمنت وصدقت ولجأت إلى ربها وتضرعت إليه واستعانت به للقيام بالمهام العظام التي أنيطت بها من خلال الالتجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إلى ربها وبارئها والمنعم عليها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} . {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286] . بعد الحديث عن هدف السورة أو محورها إجمالًا وقبل الدخول في تقسيم السورة إلى مقاطع أو فقرات والحديث التفصيلي عنها، لا بد من العودة إلى الحديث عن هدف السورة أو محورها مرة أخرى بعد الانتهاء من الحديث التفصيلي عن المقاطع أو الفقرات، وذلك لربط هذه المقاطع والفقرات بالهدف الأساسي أو المحور الذي تدور حوله السورة. والبحث الأول في الهدف أو المحور بحث استدلالي لإثبات هذا الهدف أو المحور من خلال مقدمات السورة ووقت نزولها وسبب النزول واستعراض أبرز القضايا فيها، أما البحث الأخير في الهدف أو المحور فهو تقرير نتائج، واستنباط وجوه للمناسبات بين هذه المقاطع وبين المحور الأساسي، فلا بد من أن يكون الهدف أو المحور واضحًا محددًا مسلمًا به ليأتي بعد ذلك دور الربط والتعليق وذكر دقائق النظم المعجز والحكم والأسرار المودعة حسب طاقة الباحث وشفافية نظرته التي يقول عنها علي بن أبي طالب عن ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق1 وذلك لدقة استنباطات ابن عباس من آي الذكر الحكيم. إن الباحث في هذا اللون من التفسير لا بد له من ملكة تجعله يرى في الآيات القرآنية ومن خلال نظمها والروابط بينها جوانب خلف الدلالات اللغوية للألفاظ والكلمات القرآنية، فإذا استعملت هذه الملكة وفق منهج محدد في البحث والاستقراء والاستنباط كان الاطلاع على جوانب من عجائب القرآن وغرائبه التي لا تنقضي على مر العصور.   1 التفسير والمفسرون: 1/ 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة : قد يجد الباحث عند تفسيره لسورة ما تفسيرًا موضوعيًا تناول السورة لقضية من القضايا القرآنية بإيجاز أو بإسهاب، وقد تتكرر هذه القضية في سورة أخرى أكثر إطنابًا أو أكثر إيجازًا، فما موقف الباحث من هذه القضية؟ هل يجعلها مدخلًا للتوسع في هذه القضية فيَلُم شتاتها من خلال السورة الأخرى ويجمعها في هذا الموضوع، أو يشير إشارة سريعة إلى القضية ولا يتناولها بالبحث لأنه يفسر سورة معينة ولا يفسر موضوعًا من خلال القرآن؟ أرى في مثل هذه المواطن أن محور البحث في السورة أو الهدف الأساسي في السورة هو الذي يحدد طبيعة البحث في مثل هذه القضايا. إن تكرار الموضوعات والقصص في القرآن الكريم وفي سور متعددة لحكم وأسرار قد لا نحيط بها، ولكن من الواضح من هذه الحكم وعلى رأسها أن أسلوب العرض في كل مكان يتناسب مع أجواء السورة وأهدافها فإن كان محور السورة يدور حول قضية لإثباتها فلا بأس أن نتعرض عند ذكر القضية لتفصيلاتها التي ذكرت في سور أخرى، ولكن إذا كانت القضية ذكرت بشكل عرضي وجزئي للاستدلال بها على هدف السورة الأساسي وهو غير هذه القضية فلا يناسب المقام أن نتعرض لجزئياتها في سور أخرى. فمثلًا سورة "نوح" عليه السلام هدفها الأساسي إبراز جانب دعوة نوح عليه السلام وموقف قومه من الدعوة. فليس من المناسب عند عرضنا لهذا الموضوع من خلال سورة نوح أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 نتعرض بشكل مفصل للحوار الذي جرى بين نوح وابنه، وماذا حدث من أمور كونية في إهلاك القوم كما عرضتها سورة "هود" وسورة "المؤمنون" وغيرهما، ولكن من المناسب جدًا أن نذكر ما يتعلق بالحوار والأساليب الجدلية التي اتبعها القوم كما ذكرتها السور نفسها. إن لكل سورة هدفها وشخصيتها وأسلوبها في عرض القضايا فينبغي عدم طمس هذه المعالم للسورة بحشر تفصيلات تاريخية أو قصصية أو بلاغية فيها على حساب الهدف الأساسي. ومثل آخر من سورة "البروج" فالمحور الذي تدور عليه السورة: الصراع بين أهل الإيمان وأصحاب السلطة الطواغيت، وبيان أن النهاية لأهل الإيمان. وقد جاء ذكر فرعون وثمود في السياق للاستدلال بمصيرهم على أن الغلبة لجند الله سبحانه وتعالى مهما تجبر الطغاة العتاة فإنهم لن يعجزوا الله عز وجل، وأن المؤمنين هم المنصورون وأن دعوتهم هي الفائزة ولو ذهبت أنفس الدعاة قرابين لنصرتها. فينبغي أن يدور التفسير في هذا الإطار، فلا يتناسب مع هذا الهدف أن نسرد التفصيلات في أمر فرعون وما جرى بينه وبين موسى عليه السلام وكيف تبع بني إسرائيل ثم كان مصيره الغرق. ولا يستدعي الأمر بيان ديار ثمود وأصل انحرافهم وما جرى بينهم وبين نبيهم صالح عليه السلام ولا الآية التي طلبوها ثم انقلبوا على أعقابهم فأخذتهم الصيحة. إن أجواء السورة لا تحتمل هذه التفصيلات، فينبغي الدوران مع المحور حوف الهدف الأساسي للسورة وعدم الخروج عن خاصيات السورة وملامحها وشخصيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير : لا يمكن الفصل بين أنواع التفسير فصلًا رياضيًا بحيث تنقطع وشائج القربى بينها ويكون لكل نوع مجاله وأسلوبه ونتائجه. وذلك لأن مجال البحث واحد وهو كلام الله سبحانه وتعالى، والغاية التي يهدف إليها المفسر واحدة أيضًا وهي الكشف عن مراد الله سبحانه وتعالى من الآيات على قدر الطاقة البشرية، إلا أن مناهج المفسرين للوصول إلى الغاية هي التي تختلف بعض الشيء. وحتى هذا الاختلاف في المنهح ليس اختلاف تباين وانفصال وتضاد بل هو اختلاف تنوع وتعاضد وترادف. وبعض أنواع التفسير تعتبر أساسًا للانطلاق منه إلى غيره فلا يستغني عنه المفسر الباحث في أي نوع من أنواع التفسير. فالتفسير التحليلي لا يستغني عنه الباحث في التفسير الإجمالي أو الموضوعي أو المقارن، وذلك لأن التفسير التحليلي ينصب على معرفة دلالة الكلمة اللغوية ودلالتها الشرعية، والتعرف على الرابط بين الكلمات في الجملة وبين الجمل في الآية وبين الآيات في السورة. وكذلك التعرف على القراءات وأثرها على دلالة الآية، ووجوه الإعراب ودورها في الأساليب البيانية وإعجاز القرآن الكريم. وغيرها من الوجوه التي تساعد على إخلاء المعنى وتوضيح المراد. فالذي يريد تفسير الآيات تفسيرًا إجماليًا لا يستطيع أن يعبر عن موضوع الآيات التي يريد التعبير عنها بأسلوبه الخاص لتقريب المعاني وإبراز جوانب الهداية منها ما لم يلم بتفصيلات ما تقدم من أمور التفسير التحليلي لاستجلاء المعنى المراد ثم صياغته بأسلوب يتناسب مع المدارك الثقافية للمخاطبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وكذلك بالنسبة لمن يتناول الآيات وتفسيرها بأسلوب التفسير المقارن فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، لا بد أن يحيط بأقوال المفسرين الذين كتبوا في تفسير الآيات ليدرك المفسر الذي لم يخرج عن روح النص والغرض الأساسي من الآيات الكريمة، عن المفسر الذي تعسف في تأويل هذه الآيات وحملها ما لم تحتمل، أو لم يدرك المرمى اللغوي للكلمة القرآنية فانحرف بها عن دلالتها وأولها غير تأويلها الصحيح، فأبعد في التأويل ووقع في محاذير. ولكي يحكم على صواب منهج المفسر أو خطئه، وإجادته في تفسيره أو تخبطه فيه لا بد أن يكون على دراية وافية بمعاني الآيات الكريمة فلا بد له من الرجوع إلى التفسير التحليلي، وقد يستخدم للتعبير عن حكمه على التفاسير التي يقارن بينها أسلوب التفسير الإجمالي للآيات. أما الباحث في التفسير الموضوعي فاعتماده على جمع الأنواع المتقدمة من التفسير أمر أساسي في كتابته ومنهجه ولا غنى له عن أحد الأنواع. إذ يعتبر هذا اللون من التفسير ثمرة الأنواع كلها، ويعتبر التفسير الموضوعي مرحلة تخصصية متأخرة عن مراحل الأنواع السابقة ولذلك: أ- عندما يجمع المفسر الآيات المتعلقة بموضوع من الموضوعات، لا بد من الرجوع إلى دلالات الكلمات التي تعبر عن هذا الموضوع بشكل صريح أو تشير إليه إشارة أو يكون الموضوع من لوازم هذه اللفظة أو العبارة، أو نتيجة من نتائج استخدام هذه العبارة. وكثيرًا ما تستخدم الجملة أو الآية الواحدة في موضوعين مختلفين ويكون لها دلالة مختلفة حسب الموضوع وحسب السياق والسياق عن دلالة الموضع الآخر. فلكي يدرك الباحث في هذا اللون من التفسير -أعني التفسير الموضوعي- لا بد أن يكون مدركًا إدراكًا تامًا لأقوال المفسرين الذين كتبوا في تحليل هذه الآيات. ب- وكثيرًا ما تتباين أقوال المفسرين الذين كتبوا في تحليل النص القرآني بحيث لا يمكن الجمع بينها، والآيات القرآنية حمالة للوجوه المتعددة فلا بد للمفسر الذي يكتب في موضوع ما، ووجد هذه الأقوال في تفسير آية تتعلق بموضوعه، لا بد من وقفة متأنية دقيقة، ونظرات ثاقبة للترجيح بين هذه الأقوال ومعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 المصيب منها وغير المصيب، وليختار القول المناسب لموضوعه من هذه الأقوال بغية توضيح عناصر الموضوع والربط بين الأساليب القرآنية في أداء المعنى، وبالتالي للوصول إلى الهدايات القرآنية المتعلقة بالموضوع مجال البحث. وهذا هو التفسير المقارن. جـ- ولما كان الموضوع الذي يتناوله الباحث في التفسير الموضوعي حسب أحد منهجين لا ثالث لهما: - تناول موضوع من خلال القرآن الكريم كله. فعندئذ لا بد له من تقسيم الموضوع إلى عناصر حسب تناول الآيات الكريمة لها، وللتعبير عن العنصر الذي استنبطه من خلال الآيات، ولا مناص من اللجوء إلى التفسير الإجمالي ليقرر هذا العنصر ويوضحه ويشرحه ويسوق له الأدلة. - أو تناول الموضوع من خلال سورة قرآنية معينة. وعندئذ لا بد له من تقسيم السورة إلى مقاطع حسب ترتيب الآيات في السورة أو حسب تسلسل عناصر الموضوع أو الهدف الأساسي في السورة أو المحور الذي تدور عليه السورة. وللتعبير عن مضامين هذه المقاطع وتوضيح الهدايات القرآنية منها ثم ربطها بالهدف الأساسي للسورة وضمن الإطار الذي تعرض السورة فيه هذا الهدف أو الأهداف. لا بد للباحث من اللجوء أيضًا إلى التفسير الإجمالي في طريقة عرضه لهذه الأهداف وربط المقاطع كلها بمحور السورة لإبراز الهدف الأساسي فيها. إذن نستنتج من كل ما تقدم أن أنواع التفسير متداخلة متساندة، لا يستغني المفسر لنوع منها عن الأنواع الأخرى. وبخاصة الباحث في التفسير الموضوعي لا بد أن يكون على مستوى رفيع من الإحاطة بأنواع التفسير الأخرى؛ لأن الأنواع الأخرى من التفسير هي اللبنات الأولى والمادة الأولية التي يريد إقامة بنيان تفسيره الموضوعي عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 علم المناسبات والتفسير الموضوعي مدخل ... علم المناسبات والتفسير الموضوعي: علم المناسبات وثيق الصلة بالتفسير الموضوعي -وبخاصة التفسير الموضوعي للسورة- وذلك لأننا نلحظ أن الآية أو مجموعة الآيات تنزل في أسباب مختلفة وحوادث متفرقة ثم توضع في سورة واحدة وقد تكون بين الآيات التي وضعت في موضع ما من السورة والآيات التي وضعت عقبها فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الأيام وقد تكون فترة طويلة تتجاوز عدة سنوات -كما في سورة النساء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} والآيات التي قبلها من 51 إلى 58- ولكننا عندما نقرءوها نجد أن وحدة الموضوع يجمعها ومرمى الهدف والغاية من سياقها جميعها شيء واحد. لذا كان من المهم أن نلم أولًا بأطراف ما قيل في علم المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة، وبين السور بعضها مع بعض، لنكون على بينة من هذا الأمر ولكي نضعه في الحسبان عندما نحاول تفسير السورة تفسيرًا موضوعيًا لندرك أن الفاصل الزمني لا دخل له في الحكم بمرامي السورة وأهدافها، فكما أن الزمن لم يكن له اعتبار قبل نزول القرآن إلى اللوح المحفوظ ثم إلى بيت العزة في السماء الدنيا، أُلغي هذا الاعتبار أيضًا بعد جمع القرآن بين دفتي المصحف، ولم يبق له إلا دلالات مساعدة في إلقاء الأضواء على مضمون الآية أو الحكم الذي تشتمل عليه الآية الكريمة، وتبقى القاعدة المطردة التي استنتجها جهابذة علماء هذه الأمة نصب عين كل باحث وهي: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". وما أجمل قول الشيخ محمد عبد الله دراز بهذا الصدد: " ... إن كانت بعد تنزيلها جمعت عن تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان قائمًا على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضًا فلم تلبث كل لبنة من أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصًا بشد بعضه بعضًا كهيئته أول مرة"1.   1 النبأ العظيم: 154-155، ط. دار القلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 أولًا- تعريف علم المناسبات: المناسبة في اللغة: المقاربة والمشاكلة. وفي الاصطلاح: هي الرابطة بين شيئين بأي وجه من الوجوه. وفي كتاب الله تعني ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها. وفي الآيات تعني وجه الارتباط في كل آية بما قبلها وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه مدخل ... ثانيًا- أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه: علم المناسبات بين سور القرآن الكريم أو بين الآيات في السورة الواحدة من العلوم الدقيقة التي تحتاج إلى فهم دقيق لمقاصد القرآن الكريم، وتذوق لنظم القرآن الكريم وبيانه المعجز، وإلى معايشه جو التنزيل، وكثيرًا ما تأتي إلى ذهن المفسر على شاكلة إشراقات فكرية أو روحية. وقد اعتبر بعض المفسرين أن نسبة هذا العلم من علم التفسير مثل نسبة علم البيان من علم النحو1. وهو علم يجعل أجزاء الكلام بعضهًا آخذًا بأعناق بعض، فيقوي بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء2. وهو علم تعرف منه علل ترتيب أجزاء القرآن، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال لما اقتضاه من الحال. قال القاضي أبو بكر بن العربي المتوفى سنة 543هـ في "سراج المريدين": "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني منتظمة   1 نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: 1/ 6. 2 البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 35، 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 المباني، علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة. ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه"1. قال الزركشي: "وقال بعض مشايخنا المحققين -وسماه السيوطي في الإتقان: الشيخ ولي الدين الملوي، قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على سحب الوقائع تنزيلًا وعلى حسب الحكمة ترتيبًا وتأصيلًا، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف كما أنزله جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له"2. ا. هـ. قال البقاعي في نظم الدرر: "وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب، وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقين: أحدهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب. والأول أقرب تناولًا وأسهل ذوقًا، فإن كل من سمع القرآن بما تلته وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط، ربما شككه ذلك وزلزل إيمانه وزحزح إيقانه ... إلى أن يقول: فإذا استعان بالله وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز والوقوف بأنه في الذروة من إحكام الربط كما كان من الأوج من حسن المعنى. فانفتح له ذلك   1 نظم الدرر: 1/ 7، والبرهان: 1/ 36. 2 نظم الدرر: 1/ 8، والبرهان: 1/ 37، والإتقان: 2/ 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الباب ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار. رقص الفكر منه طربًا وشكر الله استغرابًا وعجبًا وشاط لعظمة ذلك جنانه فرسخ من غير مرية إيمانه ... " إلخ1. ويقول الرازي: "علم المناسبات علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول"2. وعدم مراعاة علم المناسبات بين الآيات يوقع في بعد عن المعنى حتى في الآية الواحدة. وهذا ما حدث لكثير من المفسرين في تفسير آية الأهلة: جاء في سبب نزول صدر الآية عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . وقال أبو العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله لِمَ خلقت الأهلة؟ فأنزل الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} 3. وفي تفسير الطبري: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابًا لهم فيما سألوا عنه. وبعد أن ساق الروايات في ذلك قال الطبري: فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معاشهم ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها وسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه وتصرم عدة نسائكم ووقت صومكم وإفطاركم فجعلها مواقيت للناس.   1 نظم الدرر: 1/ 11-12. 2 البرهان: 1/ 35. 3 تفسير ابن كثير: 1/ 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ثم ذكر تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] ، قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها. وذكر الروايات في ذلك. وعادة دخول البيوت من ظهورها في حال الإحرام أو عند العودة من سفر كانت عادة متبعة في الجاهلية، وعلى الرغم من ورود الشطر الثاني للآية لإبطال تلك العادة فإن وضعه في المكان المحدد له من قبل الحكيم الخبير لا بد من وجود رابط بين صدر الآية وشطرها الثاني، ولم يشر أحد من المفسرين الذين لا يلتفتون إلى المناسبة بين الآيات إلى ذلك. ونجد الإمام الرازي -ولأنه يهتم بالمناسبة بين الآيات- أول من التفت إلى ذلك. يقول الرازي -بعد أن ذكر أقوال المتقدمين والروايات التي ذكرها جل المفسرين: "المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه: الأول: وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول، إلا أنه على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية، فإن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكمة في تغيير نور القمر فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك وهي قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر وبين هذه القصة؟ ثم ساق وجوهًا من أقوال المفسرين لتوجيه هذا القول والملاءمة بين أول الآية وآخرها. ثم ذكر في ثنايا القول الثاني وجهًا في غاية الانسجام حيث قال: "فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم"1. أي إن سؤالهم عن حادثة فلكية دقيقة قبل تمكنهم من علم الفلك وتعاطي أسباب معرفته كمن يأتي البيت من ظهره وذلك مناقض للحكمة والبر.   1 مفاتيح الغيب للرازي: 5/ 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 هذه أقوال المؤيدين للبحث عن وجه المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة وبين السور المتعددة، إلا أن هذا الاتجاه لم يكن مسلمًا به عند جميع العلماء ووجد من يقول إن هذا البحث تكلف محض تأباه طبيعة نزول القرآن، منجمًا، ولم ينقل شيء من ذلك عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ولعل أقدم من رفع صوته مستنكرًا لهذا الأمر سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 660هـ. ونقل السيوطي في الإتقان قوله: "إن ربط آيات القرآن على ترتيب نزوله تكلف لا يليق، إذ إنه يشترط في حسن الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك، يصان عن مثله حسن الحديث فضلًا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض"1. كما نقل عن الإمام أبي حيان صاحب البحر المحيط كلامًا شبيهًا بكلام العز بن عبد السلام وقد ذكر الإمام الشوكاني في تفسيره فتح القدير2، حجج المنكرين لهذا اللون من الربط بين الآيات وأيدهم بحجج وضرب أمثلة، ولعل أوسع مقال في ذلك ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الله الغزنوي3، وهو يرد على القائلين بوجود المناسبات. وننقل فيما يلي كلامه بتمامه لأنه يمثل وجهه نظر الرافضين: يقول الشيخ: اعلم أن كثيرًا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، استغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة. بل   1 الإتقان: 2/ 138. 2 انظر: فتح القدير: 1/ 72 وما بعدها. 3 الشيخ محمد بن عبد الله الغزنوي المتوفى سنة 1296هـ، له تعليقات على تفسير "جامع البيان في تفسير القرآن" للشيخ معين الدين محمد بن عبد الرحمن الحسني الحسيني الإيجي الشافعي المتوفى سنة 894هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات، وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلًا عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه ومن تأخره. وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقًا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله عز وجل إليه. وكل عاقل فضلًا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية لنزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالًا، وتحليل أمر كان حرامًا، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص تناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى وتارة مع من حضر، وحينًا في عبادة، وحينًا في معاملة، ووقتًا في ترغيب ووقتًا في ترهيب، وآونة في بشارة وآونة في نذارة، وطورًا في أمر دنيا وتارة في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها باعتبار نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين العنب والتوت، والماء والنار، والملاح والحادي؟ وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور؟ فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا الأمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغًا معجزًا إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات رجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفًا محضًا وتعسفًا بينًا، انقدح في قلبه ما كان عليه في عافية وسلامة، هذا على فرض أن نزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 القرآن كان مرتبًا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علمًا يقينًا أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا -وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم- رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوة، فإنه يثلج صدره وينزل عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلًا عن المطولة، فإنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة، لا مطابقة بين أسبابها، وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبعده {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر} ، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، وينظر أي موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف. وإذا كان الأمر هكذا، فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعًا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخرًا، أو تأخر ما أنزل الله متقدمًا؟! فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول، وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس. وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، وإلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحًا وأخرى هجاء، وحينًا تشببًا وحينًا رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة. فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفًا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزى والإنشاء الكائن في الهنا وما يشابه ذلك، لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابًا في عقله متلاعبًا بأوقاته عابثًا بعمره الذي هو رأس ماله. وإذا كان مثل هذه بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي فأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى فيه مجاريهم في الخطاب. وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون مختلفة وطرائف متباينة فضلًا عن المقامين فضلًا عن المقامات فضلًا عن جميع ما قاله ما دام حيًا وكذلك شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي يعثر في ساحاتها كثير من المحققين1. ا. هـ. هذه وجهة النافين لهذا اللون من البحث، وهذه حججهم وردودهم على القائلين بوجود المناسبات بين الآيات والسور. ولا شك أن هذا العلم دقيق المسالك خفي المدارك، وهو من العلوم التي تحتاج إلى بذل الجهد في التتبع والاستقصاء اللغوي لدلالات الألفاظ القرآنية، والإحاطة بأسباب النزول، والتوسع في أفانين علم البلاغة والأساليب البيانية، وفوق كل ذلك ينبغي أن يكون الباحث ذا حس مرهف ونفس شفافة وذكاء لماح ليدرك سر هذا الترتيب للآيات التي وضعت بجوار بعضها، وقد أكدت الأخبار الصحيحة عن المعصوم أن الفاصل الزمني بينها يتجاوز السنوات العديدة أحيانًا. ونحن نسلم أن بعض العلماء الباحثين في وجوه المناسبات قد تكلفوا أحيانًا في استخراج وجه المناسبة، ولكن تكلفهم هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة لرد الوجوه المعقولة المقبولة التي ذكرها الآخرون. ونؤمن إيمانًا جازمًا أن ترتيب الآيات في السور كان بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتبه الوحي، ولم يكن لأحد رأي واجتهاد في ذلك.   1 انظر: التعليقات على تفسير جامع البيان: 13 و14، ط. دار نشر الكتب الإسلامية، الباكستان، الطبعة الثانية 1397هـ/ 1977م. وهو منقول بنصه عن فتح القدير للشوكاني، ج1، ص72، 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ونقول إن هذا الترتيب الموحي به لم يكن جزافًا ولا اعتباطًا أو عبثًا وننزه كلام الباري سبحانه وتعالى عن كل ذلك. كما نقول إن القول بوجود المناسبات أمر يحتمه الاعتقاد بتنزيه كلام الله سبحانه وتعالى عن الفوضى والتناقض: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . وعلى الباحث أن يبذل قصارى جهده للتعرف على وجه المناسبة بين الآيات، فإن ظهر له شيء من ذلك فذلك نعمة من الله تعالى وفضل عليه، وله أن يقول به ويظهره خدمة لكتاب الله تعالى، وإن خفي عليه وجه المناسبة فعليه أن يمسك ولا يتكلف، وينسب علم ما خفي عليه إلى منزل الكتاب الذي أمر بترتيبه على هذا الشكل، ولا يدرك أسرار كتاب الله كلها أحد من البشر {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6] . وسنضرب أمثلة ونماذج على وجه المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة وبين السور المتعددة، لعلنا نُكَوِّن بعد ذلك فكرة عن الموضوع وبعدها نتخذ موقفًا من التأييد أو الرفض. ثالثا- ظهوره وأهم المؤلفات فيه: أو من أظهر علم المناسبات: يعتبر الإمام أبو بكر النيسابوري المتوفى سنة 324هـ أول من أظهر علم المناسبات في بغداد، وكان يزري على علماء بغداد لجهلهم وجوه المناسبة بين الآيات، وكان لا يني يقول إذا قرئت عليه الآية أو السورة: لم جعلت هذهالآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه إلى جنب هذه السورة؟ وكذلك أبو بكر ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543هـ وتقدمت الإشارة إلى كلامه ضمن كلام البقاعي. كما تجد ذكر المناسبات من خلال تفسيره "أحكام القرآن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ومن المكثرين في إيراد المناسبات بين الآيات الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606هـ في تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب. وقد أفرده بالتصنيف الأستاذ أبو جعفر بن الزبير الأندلسي المتوفى سنة 807هـ في كتابه "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن". وقد خص الزركشي المتوفى سنة 794هـ في كتابه "البرهان في علوم القرآن" فصلًا خاصًا تحت عنوان "النوع الثاني" معرفة المناسبات بين الآيات، تحدث فيه عن أهمية هذا العلم وضرب أمثلة على المناسبات بين السور، وبين الآيات في السورة الواحدة. ومن أوسع المراجع في هذا العلم كتاب "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" لبرهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885هـ، حيث ذكر المناسبات بين آيات القرآن الكريم سورة سورة. ويقع كتابه في اثنين وعشرين جزءًا وقد طبع في الهند. وألف الإمام السيوطي المتوفى سنة 911هـ كتابًا خاصًا سماه "تناسق الدرر في تناسب السور" تحدث فيه عن أهمية علم المناسبات وذكر وجوهًا للمناسبات بين سور القرآن الكريم. كما خصص النوع الثاني والستين من كتابه الإتقان في علوم القرآن للحديث عن "مناسبات الآيات والسور" ذكر فيه أغلب ما ذكره الزركشي في البرهان، وزاد عليه في الأمثلة. ومن العلماء المعاصرين الذين كتبوا في علم المناسبات الشيخ عبد الله محمد الصديق الغماري، كتب كتابًا سماه "جواهر البيان في تناسب سور القرآن" ذكر فيه وجه المناسبة بين سور القرآن سورة سورة. كما تحدث الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم" عن المناسبات بين آيات سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة مدخل ... القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة وقبل البدء بعرض أنواع المناسبات لا بد لنا من ذكر أمر مجمع عليه بين العلماء وهو أن ترتيب الآيات في السورة الواحدة أمر توقيفي لا مجال فيه للاجتهاد، ولم يأت هذا الإجماع من فراغ بل هناك الأدلة الكثيرة التي تفيد على أن ترتيب الآيات في السورة كان توقيفيًا فمن ذلك: أ- ما أخرجه الحاكم في المستدرك بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت أنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع"1 ومعنى تأليف القرآن من الرقاع ترتيب السور والآيات وفق إشارة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيفه. ب- أخرج البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ "المعنى: لماذا تثبتها بالكتابة أو تتركها مكتوبة وأنت تعلم بأنها منسوخة". قال: "يابن أخي لا أغير شيئًا من مكانه"2. جـ- أخرج أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: " أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَان   1 المستدرك: 2/ 611، ومسند الإمام أحمد: 5/ 185. 2 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 6/ 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] " 1. فهذا يدل على أن تعيين أماكن الآيات في السورة يكون بأمر من جبريل من رب العزة سبحانه وتعالى. د- روى مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" 2، فلو لم تكن الآيات مرتبة في السورة لم يعرف أولها من آخرها. وكذلك ما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" 3. وفي لفظ عنده: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ... ". هـ- وكذلك ما ثبت في الصحاح أنه كان يقرأ في أوقات معينة بسورة معينة. كل ذلك يدل على أن ترتيب الآيات في السور كان معلومًا للصحابة رضوان الله عليهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرئهم بهذا الترتيب، وإلا لما استطاع أن يشير لهم إلى مضمون سورة باسمها ولا تحدد آيات بعينها بالإشارة إلى أرقامها أو مكانها. والأصل في الآيات ضمن السورة أن تكون بينها وجه مناسبة؛ لأنها في الغالب "وبخاصة في السور القصيرة" تعرض موضوعًا معينًا، فالأصل أن يكون السياق موحدًا. ولا ينتقل من موضع إلى آخر، أو لا يبحث موضوع جديد بعد الموضوع الأول إلا وهناك وجه مناسب ورابط بين الموضوعين. ومعرفة فترات زمنية متباعدة، أو تكون الموضوعات متباينة في نظر القارئ أو في حال ظهور جملة وكأنها مستقلة عما قبلها وما بعدها، عند ذلك يأتي دور الغواصين على المعاني لمعرفة الرابط والمناسبة بين الآيات.   1 المسند: 4/ 218. 2 صحيح مسلم، كتاب الفرائض: 5/ 61. 3 صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: 2/ 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أنواع المناسبات في السورة الواحدة : ذكر للمناسبات بين الآيات في السورة أنواعًا: النوع الأول: المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة ومن أمثلة ذلك: 1- في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [الآيات: 51-57] . هذه الآيات نزلت في كعب بن الأشرف عندما ذهب إلى مكة بعد انتصار المسلمين في بدر يحرض المشركين على الأخذ بثأرهم. فسألوه: من أهدى سبيلًا: المؤمنون أم المشركون؟ فقال: بل أنتم، أنتم أهدى من المؤمنين سبيلًا. أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يغزوه وقال: إنا معكم نقاتله، فقالوا: إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرًا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين، وآمن بهما ففعل، ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد، فنحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده، قال: بل أنتم خير وأهدى، فنزلت فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 الآية. وجاء بعد هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] . وهذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري صاحب   1 انظر: الدر المنثور للسيوطي: 2/ 563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 سدانة الكعبة لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه1. وبين الآيتين ست سنوات ومع ذلك فالمناسبة بين الآيات الأولى والآية الأخيرة في غاية الوضوح، حيث ذكر المفسرون: أن أحبار اليهود كانوا على اطلاع بما في كتبهم من وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأخذت عليهم المواثيق للإيمان به ونصرته: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] . ثم خان هؤلاء الأحبار هذه الأمانة، ونقضوا الميثاق، ولم يؤدوا هذه المسئولية، فالسياق سياق تحمل مسئولية وأمانة وأدائها على الوجه المطلوب المبرئ للذمة. فالموضوع واحد والسياق منسجم تمامًا على الرغم من وجود الفاصل الزمني. 2- المناسبات بين الآيات الكريمة في سورة البقرة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ... {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ... {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .... {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} ... {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} .... {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} ... {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم} [البقرة: 255-260] 2. فمن الممكن أن يقال: إن آية الكرسي قد بينت صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى وحده وإذا كان الأمر بهذا الشكل من الوضوح فالعقول السليمة تؤمن به من غير حاجة إلى إكراه، لوضوح البراهين إلا أن بعض العقول قد يؤثر عليها ولاءاتها وارتباطها فتحرفها عن سلوك الطريق القويم في التفكير والاستدلال فتخرجها هذه الولاءات من نور الفطرة إلى ظلمات الشرك. أما الذين آمنوا فوليهم   1 انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 515. 2 الدرر المنثور للسيوطي: 2/ 570. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الله الذي يزيد هذه الفطرة نورًا وضياءًا وإذا التبس بها شيء أنقذها الله سبحانه وتعالى من تلك الظلمات إلى النور. ومن الأمثلة على انحراف التفكير نمروذ الذي زعم في نفسه الألوهية علمًا أنه أدرى الناس بحقيقة عجزه. ثم تفسيره للإحياء والإماتة، ولكنه بهت عندما جوبه بأن من شأن الإله التصرف المطلق في الكون. ثم عقب على ذلك بأن حقيقية الإماتة والإحياء ما حدث لعبد الله الصالح عزير وحماره وما أجراه الله سبحانه وتعالى على يد خليله إبراهيم عليه السلام في إحياء الطيور الأربعة. ثم انتقل إلى إحياء من لون آخر: وهو إحياء النفوس بالصدقة والإنفاق في سبيل الله وموت النفوس وخنق الأجر وإماتته بالمن والأذى. 3- ومثال آخر قوله تعالى في سورة الزمر: فالسورة مكية كلها إلا قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [53-55] . فقد نزلت في المدينة وذكروا سببًا لنزولها: أخرج الشيخان عن ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 1. وفي رواية محمد بن إسحاق قال نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما في حديثه قال: كنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفًا ولا عدلًا ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك   1 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 6/ 33، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان: 1/ 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لأنفسهم قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم في قولنا وقولهم: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون} . قال عمر رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه. فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرءوها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوات ولا أفهمها حتى قلت اللهم أفهمنيها، قال: فألقي الله عز وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسوله الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة1. فالآيات مدينة كما تفيد روايات أسباب النزول، إلا أن وضعها في السورة المكية منسجم تمام الانسجام مع ما قبلها وما بعدها. وأقرأ الآيات: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 52-56] . فنجد أن الآيات متلاحمة تمام التلاحم فلما كان بسط الرزق والتضييق فيه مظنة الإسراف على النفس فمع البسط الترف وارتكاب المحرمات والموبقات وصرفه على الشهوات. وفي حال التضييق السعي للحصول عليه ولو بالعدوان. وفي كلا الأمرين ظلم للنفس، فاقتضت الحكمة الإلهية عدم التيئيس من رحمة الله تعالى، وفتح باب التوبة لهم للالتجاء إليه سبحانه وتعالى، وحذرهم من التسويف خشية حلول العذاب المفاجئ، فبعض أصابع الندم على تفريطه في جنب الله، وكما يكون الانحراف   1 تفسير ابن كثير: 4/ 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 في المال والرزق يكون الانحراف عن السلوك القويم والصراط المستقيم في الأعمال الأخرى كما دلت رواية سبب النزول. والجادة المستقيمة في كل ذلك اتباع شرع الله سبحانه وتعالى في سائر الأحوال والالتزام بمنهجه القويم، وهذا الاتباع هو الذي يجنب الإنسان الحسرة والندامة في الآخرة. فهل تشعر بأي فجوة في السياق أو أي قفزة في النظم المحكم؟ النوع الثاني: مناسبة فواتح السور لخواتمها حيث نجد أن السورة تبدأ بأمر ثم تختم بنفس الموضوع. ومن الأمثلة على ذلك: 1- افتتحت سورة الكهف بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} الآيات، وختمت السورة بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . فالحديث في أول السورة وخاتمتها عن كلام الله المنزل الموحى به على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- وافتتحت سورة المؤمنون بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} حيث تحدثت عن فلاح المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات النبيلة. وختمت السورة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} حيث ذكرت عاقبة الكفر وعدم فلاح الكافرين فالفلاح لمن اتصف بصفات معينة، والهلاك وعدم الفلاح لمن لم يتصف بها. 3- وافتتحت سورة الفرقان بقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وختمت بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} فالإنذار وبيان مهمة الرسول وأحواله هو محور السورة عمومًا ومدار الكلام في طرفيها خصوصًا. 4- وفي سورة يوسف كان الابتداء {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} . وختمت السورة بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} والعلاقة أوضح من أن تحتاج إلى بيان. 5- وتبتدئ سورة الحجر بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ، رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} . فالحديث عن القرآن وموقف المشركين المعاندين منه ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كذبوا بالقرآن وسخروا من رسول الله واتهموه بالجنون. وتختم السورة بقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . نعم كان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولونه ويفترونه عليه من اتهامه بالجنون، ولكن الله سيكفيه أمر المفترين المستهزئين، فما عليه إلا الصبر والالتجاء إلى الله بالعبادة والتوكل. 6- وتبدأ سورة النحل بقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وتختم بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} فلا بد بعد الإنذار من الصبر بعض الوقت لمعرفة مدى تجاوب القوم فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 تمادوا في غيهم ومكرهم أخذهم العذاب فلا ينبغي الحزن عليهم. 7- ونلحظ ذلك حتى في السور المدنية الطويلة: ففي سورة البقرة كان البدء بقوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1-4] . وتختم السورة بقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 285-286] . فالبدء بالغيب بشكل عام وإقامة فرائض الإسلام، والإيمان بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبل واليقين بالآخرة. وفي الختام الحديث عن إيمان الرسول والمؤمنين بما أنزل إليه وبالله وملائكته، وهن من الغيب وبالكتب والرسالات السابقة وسؤال الله المغفرة فإليه المصير يوم القيامة. 8- وفي سورة آل عمران المدينة: تبتدئ السورة بقوله تعالى: {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} . فالحديث عن الحي القيوم منزل الكتب والرسالات، ذي العذاب الشديد المنتقم لمن كفر بها وأعرض عنها -أي موقف الناس منها. وتختم السورة بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 199-200] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فالحديث عن طائفة من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وما أنزل إليهم وما أنزل على رسول الله والحديث عن الرسالات وموقف الناس منها. ثم الأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة. ففيه تهديد ووعيد لأولئك ووعد بالفلاح للمؤمنين. 9- وفي سورة النساء كانت الافتتاحية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [1-3] ، فالحديث عن الأصل الإنساني وصلات الرحم والحقوق المالية للمستضعفين منهم. وختمت السورة بقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وهي الآية الثالثة في قسمة أموال التركة، وبيان حقوق الورثة فيها. إن من أمعن النظر في هذه الأمثلة المختلفة لا يستطيع أن ينكر وجود المناسبات بينها على الرغم من اختلاف زمن النزول وأسبابه وموضوعاته، وهذا غيض من فيض، ومن تتبع التفاسير التي أولت هذا الجانب اهتمامها يظفر بالأمثلة الكثيرة التي لا تحصى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 القسم الثاني: المناسبات بين السور مدخل ... القسم الثاني: المناسبات بين السور إن القول بوجود المناسبات بين السور يعتمد على القول بأن ترتيب السور في المصحف توفيفي لا اجتهادي. لذا كان لا بد من عرض أقوال القائلين بذلك مع أدلتهم، ومناقشة أدلة القائلين بأن ترتيب السور كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم. ذهب جمهور العلماء إلى أن ترتيب السور في المصحف توقيفي أيضًا للأدلة الكثيرة في ذلك، وسنورد جملة منها فيما بعد. أما من ذهب إلى أن اجتهادي أو بعضه توقيفي وبعضه اجتهادي فلا مستند لهم في قولهم سوى أمرين أو بالأحرى شبهتين: الشبهة الأولى: قالوا إن مصاحف بعض الصحابة لم تكن مرتبة ترتيب مصحف عثمان رضي الله عنه فمصحف علي رضي الله عنه كان أوله: اقرأ ثم المدثر ثم "ن" ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني، أي كان مرتبًا حسب زمن النزول. ومصحف ابن مسعود كان أوله البقرة ثم النساء ثم آل عمران. وهذا لا حجة فيه لهم لأن مصاحف الصحابة كانت مصاحف شخصية لم يحاولوا أن يلزموا بها أحدًا، ولم يدعوا أن مخالفتها محرمة. والمرء قد يكتب لنفسه مصحفًا أو سورًا معينة يخشى من التباس الأمر فيها نسيانًا أو غير ذلك. فيكتب بالطريقة التي يشأ وهذا ما يفسر لنا القول بأن بعض الصحابة لم يكتب في مصحفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المعوذتين وأن بعضهم كان قد كتب في مصحفه سورة الخلع والحفد المنسوخة كأبي بن كعب. ولهذا لما اجتمعت الأمة على ترتيب عثمان رضي الله عنه أخذوا به وتركوا مصاحفهم الشخصية، ولو كانوا يرون أن ترتيب المصحف اجتهادي لدعوا إلى التمسك بترتيبهم الخاص ولم يتنازلوا عنه. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلاف لفظي فقط في الادعاء أن ترتيب السور اجتهادي حيث نقلوا عن الإمام مالك قوله: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه: هل ذاك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي1؟ الشبهة الثانية: اعتمدوا على حديث ضعيف جدًا -بل يمكن أن يقال إنه لا أصل له- لأن إسناده يدور على "يزيد الفارسي" الذي رواه عن ابن عباس. ويزيد الفارسي هذا يذكره البخاري في الضعفاء -انظر تعليق أحمد شاكر على الحديث رقم 399 في مسند الإمام أحمد، ج1 ص329. فقد ورد هذا الحديث على الشكل التالي: حدثنا يحيى بن سعيد ثنا سعيد ثنا عوف ثنا يزيد -يعني الفارسي- قال أبي أحمد بن حنبل وثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن يزيد قال: قال لنا ابن عباس رضي الله عنهما: قلت لعثمان بن عفان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا -قال ابن جعفر- بينهما سطرًا بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ " قال عثمان رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد وكان إذا أُنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول: "ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وينزل عليه الآيات فيقول: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وينزل عليه الآية   1 البرهان للزركشي: 1/ 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فيقول: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن. فكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها وظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطرًا "بسم الله الرحمن الرحيم" قال ابن جعفر ووضعتها في السبع الطوال1. وهذه الرواية الضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا تقف أمام الروايات الكثيرة الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يحزبون القرآن على الترتيب المدون في المصحف. وإجماع الأمة على هذا المصحف بترتيبه الحالي، ولو كان الأمر محل الخلاف لنقلت إلينا الاجتهادات الكثيرة وبخاصة ما يتعلق بأمر كهذا الأمر "ترتيب المصحف". وذهب الجمهور إلى أن ترتيب السور في المصحف توقيفي، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: - ما رواه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس عن حذيفة الثقفي قال: "طرأ علي حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه" فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تخزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى نختم2. فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. - أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قُدِّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع   1 انظر: مسند الإمام أحمد: 1/ 329، وتعليق أحمد شاكر عليه. 2 انظر: المسند: 4/ 9، ومختصر سنن أبي داود، كتاب رمضان: 2/ 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وثمانون سورة بمكة وإنما أنزلنا بالمدينة؟ فقال: قدمنا وألف القرآن على علم ممن ألفه به ومن كان معه فيه واجتماعهم على علمهم بذلك فهذا مما ينتهي إليه ولا يسأل عنه1. ومما استدل به الجمهور على أن ترتيب السور في المصحف توقيفي قول عبد الله بن مسعود، في بني إسرائيل والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي"2 أي من قديم ما أنزل، وقد ذكرها بالترتيب الوارد في المصحف. كما أن الجمع بين السور المتشابهة في فواتحها مرة، والتفريق بينها مرة أخرى يدل على أن ذلك لم يكن عن اجتهاد، فقد وردت السور المبدوءة بـ"حم" وتسمى آل حاميم أو الحواميم مجتمعة في مكان واحد، بينما فرقت المسبحات، وهي السور التي تبدأ بـ"سبح، يسبح، سبح، سبحان" والمنطق البشري يقتضي التوحيد في الجميع أو التفريق في الجميع. لقد عرف عن الصحابة رضوان الله عليهم حرصهم الشديد على حفظ القرآن الكريم، وكل ما يتعلق بشئونه؛ وقد وقف أبو بكر مترددًا في قضية جمعه في مكان واحد عندما اقترح عمر بن الخطاب ذلك بعد حروب الردة خشية استشهاد القراء وضياع شيء مما كتب عليه، وكذلك كان تردد زيد بن ثابت عندما أسندت إليه المهمة، وكل منهما يقول: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم3؟ فكيف يتم ترتيب المصحف باجتهاد عثمان بن عفان ومن معه، ولا يسمع صوت واحد يعترض عليهم في ذلك؟ اللهم إلا أن يكون عن علم منهم جميعًا أن ترتيب السور في المصحف بهذا الشكل كان معلومًا للجميع أنه بتوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا سُلِّم هذا فلننظر إلى أنواع الروابط بين سور القرآن الكريم، ولنضرب لذلك أمثله موضحة.   1 الإتقان للسيوطي: 1/ 84. 2 رواه البخاري، كتاب التفسير: 5/ 223. 3 انظر الحديث في: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن: 6/ 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين : النوع الأول: المناسبة بين أول السورة وخاتمة وما قبلها من أنواع الربط بين السور: الرابط بين السور إما أن يكون لفظيًا وظاهرًا بين أول السورة وختام ما قبلها. والظاهر يكون بتكرار اللفظ أو مرادفه ويكون أحيانًا بالمعنى المستفاد أو بعلاقة الإسناد والتعلق بالعامل إلخ. فمثلًا: 1- في ختام سورة الأحقاف1 {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} وفي مطلع سورة محمد2 صلى الله عليه وسلم وتسمى سورة القتال أيضًا {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} فالقوم الفاسقون هم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. 2- وفي نهاية سورة القتال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} وفي مطلع سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، فكأن هؤلاء القوم الموعود بهم سيتحقق الفتح على أيديهم. 3- وفي ختام سورة الطور: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} ، وفي مطلع سورة النجم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} . 4- وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} في ختام سورة القمر، وفي أول سورة الرحمن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ} فالملك المقتدر هو الرحمن جل جلاله. 5- وفي ختام الواقعة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وفي بداية الحديد {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فكأنه أمر بتسبيح الله سبحانه وتعالى الذي سبحت له كل الكائنات، السماوات والأرض. 6- وفي نهاية الحديد {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وفي بداية المجادلة   1 وهي سورة مكية. 2 وهي سورة مدنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 {قَد سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} فكان من عظيم فضله سبحانه وتعالى أن لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا شمله الفضل ومنه سماع شكوى المرأة الضعيفة. 7- وفي ختام سورة المرسلات {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} وبداية سورة النبأ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} فكأنه عين الحديث الذي ينبغي أن يؤمنوا به فهو النبأ العظيم. 8- وكذلك نهاية سورة الضحى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} مع بداية سورة الشرح {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} ، فانشراح الصدر، ووضع الوزر ورفع الذكر من أعظم النعم. 9- ونهاية سورة العاديات {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} مع بداية القارعة {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ} فكأنه عين اليوم الذي يكشف ما في الصدور وهو يوم القارعة. 10- وآخر سورة الفيل {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُول} مع بداية سورة قريش {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ} حتى قال الأخفش عن هذا الاتصال: اتصالها بها من باب قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 1 [القصص: 8] أي فعل بأصحاب الفيل ما فعل ليتألف قلب قريش غلى الإيمان. 11- ومن لطائف سورة الكوثر كالمقابلة للتي قبلها، لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق بأمور أربعة: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة. فذكر هنا في مقابلة البخل {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} أي الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة {فَصَلِّ} أي دُمْ عليها، وفي مقابلة الرياء {لِرَبِّكَ} أي لرضاه لا للناس، وفي مقابله منع الماعون: {وَانْحَر} وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة2. وليس هذا الترابط بين السورتين المكيتين أو المدنيتين بل نحو ذلك بين السور المكية والمدنية أيضًا.   1 انظر: البرهان للزركشي: 1/ 38. 2 المرجع السابق: 1/ 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 12- ففي نهاية سورة التوبة وهي سورة مدنية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . وبعدها سورة يونس وهي سورة مكية بدئت بقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} . فالحديث عن الرسول في الموضوعين. النوع الثاني: مناسبة مضمون كل سورة لما قبلها ومن وجوه المناسبات بين السور: أن ينظر إلى مضمون كل سورة ومضمون ما قبلها وما بعدها: وقد ذهب الإمام السيوطي إلى أن كل سورة ورد فيها إجمال في شيء ما فإن السورة اللاحقة لها تأتي بتفصيل هذا الإجمال فمن ذلك: - أن سورة الفاتحة قد جمعت مقاصد القرآن الكريم "فهي كالعنوان للقرآن الكريم وبراعة الاستهلال له". أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن الحسن البصري قوله: "إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ثم أودع علوم القرآن في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة"1. ففي سورة الفاتحة: 1- دعاء الذين خصوا الله بالعبادة والاستقامة في قولهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} وصراطه هو كتابه المبين كما قاله ابن مسعود وغيره. فقال الله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} فاتبعوه فإنه الصراط المستقيم.   1 انظر: تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي: 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 2- ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة الطوائف الثلاث: الذين أنعم الله عليهم، المغضوب عليهم، الضالين، وأشار في سورة البقرة إلى شئون هذه الطوائف الثلاث. فذكر الذين على هدى من ربهم. وذكر الذين اشتروا الضلالة بالهدى. وذكر الذين باءوا بغضب من الله. وذكر السيوطي وجوهًا أخرى ظهرت له في الربط بين الفاتحة والبقرة وردت في تناسق الدرر، ص78-83، وهي بالاختصار: 1- الوجه الأول: أن البقرة تفصيل مجمل الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّه} فصلت في مواضع 152، 186، 286 {رَبِّ الْعَالَمِين} فصلت في {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} 21، 22 وكذلك 29، وكذلك قصة خلق آدم. {الرَّحْمَنُ الرَّحِيم} فصلت في {فَتَابَ عَلَيْكُم} 54، 126، 52، 163، 286 {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُم} 284. {إِيَّاكَ نَعْبُد} جميع فروع الشريعة، وردت في البقرة: الطهارة، الحيض، الصلاة، الجماعة، صلاة الخوف، الزكاة، الصوم، الحج. {إِيَّاكَ نَسْتَعِين} ورد تفصيلها في البقرة شاملًا جميع علم الأخلاق، التوبة، الصبر، الشكر، الرضا، التفويض، المراقبة. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مفصل عن طريق ذكر طريق الأنبياء وقد حاد عنه اليهود والنصارى 142، 145، 213. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فصلت في ذكر النبيين 136، 137. 2- الوجه الثاني: الحديث والإجماع على أن تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى، وذكروا في الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان فعقب بسورة البقرة وجميع ما ذكر فيها من خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب. ثم عقبت البقرة بسورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 آل عمران، وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب النصارى. فإن ثمانين آية من أولها نازلة في وفد نصارى نجران وختمت بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى. وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين، كأنه لما ذكر في الفاتحة الفريقين قص في كل سورة مما بعدها حال كل فريق على الترتيب الواقع فيها. ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود وآخرها في ذكر النصارى. 3- الوجه الثالث: أن سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والمثال، ولهذا سميت في أثر رواه الدارمي عن خالد بن معدان: "فسطاط القرآن". والفسطاط هو المدينة الجامعة فناسب تقديمها على جميع سوره. 4- الوجه الرابع: أنها أطول سورة في القرآن، وقد افتتح بالسبع الطوال، فناسب البداءة بها. 5- الوجه الخامس: أنها أول سورة نزلت بالمدينة فناسب البداءة بها فإن للأولية نوعًا من الأولوية. 6- الوجه السادس: ختمت سورة الفاتحة بالدعاء للمؤمنين بأن لا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالين إجمالًا. ختمت سورة البقرة بالدعاء بأن لا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان وحمل الإصر وما لا طاقة لهم به تفصيلًا. وتضمن آخرها أيضًا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع1. ومن وجوه المناسبة بين البقرة وآل عمران: قال السيوطي في "تناسق الدرر": - "فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهاب الخصوم، ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لما تمسك به النصارى.   1 تناسق الدرر: 78-83 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 - فأوجب الحج في آل عمران، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع، وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه. - وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها. والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر. كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب. ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء. فخوطب به جميع الناس. والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فخوطبوا يا أهل الكتاب ... يا بني إسرائيل ... يا أيها الذين آمنوا ... 1. ا. هـ. وقال في موضع آخر: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات: أحدها: مراعاة القاعدة التي قررتها من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة قبلها. وذلك هنا في عدة موضاع، منها: 1- افتتحت البقرة بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه، وفي آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وذلك بسط وإطناب لنفي الريب. 2- أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملًا، وقسمه هنا إلى آيات محكمات ومتشابهات. 3- أنه ذكر في البقرة {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك} وفي آل عمران {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ} وصرح بذكر الإنجيل هنا لأن السورة خطاب للنصارى، ولم يقع التصريح به في سورة البقرة بطولها، وإنما صرح في البقرة بذكر التوراة خاصة لأنها خطاب لليهود. 4- ذكر القتال في البقرة مجملًا بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} [190-194] وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال} [216] وفصلت في آل عمران قصة أحد بكمالها.   1 تناسق الدرر: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 5- أنه أوجز في البقرة ذكر المقتولين في سبيل الله بقوله: {أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُون} [154] وزاد هنا {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170] . 6- وفي البقرة {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاء} [247] وفي آل عمران {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [26] . 7- في البقرة في أهل الكتاب {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} [83] فأجمل القليل وفصله في آل عمران {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [113] . 8- في البقرة ذكر تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم إبهامًا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [143] وأتى في آل عمران بتفضيل هذه الأمة صراحة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} فكنتم أصرح في قوله من {جَعَلْنَاكُم} ثم زاد وجه الخيرية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوف} [110] . الوجه الثاني: أن بين سورة البقرة وسورة آل عمران اتحادًا وتلاحمًا متأكدًا: فذكر في سورة البقرة خلق الناس وذكر هنا تصويرهم في الأرحام. وذكر في البقرة مبدأ خلق آدم وذكر في آل عمران مبدأ خلق أولاده. وفي البقرة افتتح بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، وذكر في آل عمران نظيره من غير أب وهو عيسى عليه السلام. وفي البقرة لما كان الخطاب لليهود، وقد قالوا في مريم عليها السلام ما قالوا وأنكروا وجود وليد بدون أب، فوتحوا بقصة آدم لتشبه في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها. ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله {كَمَثَلِ آدَم} [59] والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلومًا لتتم الحجة بالقياس. فكانت القصة والسورة جديرة بالتقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 النوع الثالث: - ويقول أمر آخر استقرأته وهو: أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد. وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسبًا لأولها. وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة، فإنها افتتحت -أي البقرة- بذكر المتقين وأنهم المفلحون، وختمت آل عمران بقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [200] . - وقد ورد أنه لما نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] قال اليهود: يا محمد افتقر ربك. فسأل القرض عباده. فنزل قوله تعالى في آل عمران {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} 1 [181] . فذاك أيضًا من تلازم السورتين. - وفي البقرة ورد دعاء إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [129] . ووردت الإجابة في آل عمران {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] ، وذاك أيضًا من تلازم السورتين2. هذه جملة مما ذكره السيوطي في المناسبات والتلازم بين سورتي البقرة وآل عمران. وهذه الاستقراءات جاءت من غير نسق معين، ولم ترصد باستقراء من زاوية معينة فجاءت منثورة من غير أن ينتظمها منهج معين.   1 أخرجه ابن أبي حاتم. انظر: الدرر المنثور للسيوطي: 2/ 397. 2 تناسق الدرر: 83-88 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ومع كل ذلك فإننا نلحظ وجود مناسبات عدة بين السورتين الكريمتين، ولم يكن اقتران رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تسميتهما بـ"الزهراوين أو الغمامتين1 إلا عن حكمة ووجود علائق تشد إحداهما إلى الأخرى ولو أن بعض الباحثين وضع منهجًا محددًا لدراسة السورتين دراسة موضوعية لأماط اللثام عن كثير من أسرار كتاب الله سبحانه وتعالى. وهكذا نجد أن علم المناسبات بين الآيات بعضها مع بعض وبين السور يبرز لنا جانبًا من إعجاز القرآن الكريم، وأنه كلام الله المنزل وليس من عند البشر. فمن المعلوم أن القرآن الكريم نزل مفرقًا منجمًا لبضعة وعشرين عامًا حسب الوقائع المختلفة وفي ظروف متباينة، وإجابة لاستفسارات متنوعة، ثم كان الترتيب المحكم الذي لا نجد فيه آية ينبو بها مكانها من السياق القرآني العتيد. ولا نجد كلمة يتململ بها موضعها في النظم المحكم. ولقد نجد الآية المدنية في السورة المكية أو الآية تتلو الآية والفاصل في نزولهما يبلغ عدة سنوات فأي عقل بشري يستطيع أن يراعي هذه الدقة وهذا الإحكام في النسق والترتيب والملاءمة بحيث يكون ذلك في الذروة من الفصاحة والبلاغة والانسجام. {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . "إن عقلًا بشريًا مهما أوتي من القوة والحفظ والإحكام لا يستطيع أن يذكر موضع فقرة من كلام سابق مضى عليه سنوات طويلة. فيضعها في مكانها بحيث تلتحم مع سابقاتها ولاحقاتها في اللفظ والمعنى والسياق. ولو أن عقلًا أتقن ذلك في حال واحدة فلن يستطيع أن يحكمه في حالات كثيرة وفي سور كثيرة بحيث لا تشذ حالة واحدة عن قاعدة الإحكام المشاهدة في كتاب الله الحكيم"2. إن إدراك المناسبات بين مقاطع السورة وافتتاحيتها وخاتمتها وسائر آياتها أمر   1 انظر في تسميتهما: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: 2/ 197. 2 من مقدمة المحقق لكتاب "تناسق الدرر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 على جانب كبيرة من الأهمية لمن أراد تفسير السورة تفسيرًا موضوعيًا، فوجوه المناسبات هذه تلقي أضواء كاشفة على محور السورة وهدفها، وبالتالي يحدد الزاوية التي ينطلق منها المفسر في بيان معاني الآيات الكريمة. لذا كان لزامًا على المفسر الإحاطة بما قاله العلماء في وجوه الربط بين الآيات والمقاطع في السورة. فربما وردت إشارة سريعة في قول بعضهم تفتح آفاقًا واسعة في ذهن الباحث وتحدد له مسار البحث. هذا وبعد أن أفضنا القول في الدراسة المنهجية للتفسير الموضوعي وحددنا خطوات البحث فيه فلا بد من سوق نماذج لهذا اللون من التفسير. وقد اخترنا مثالين: أحدهما يتعلق بتناول موضع من خلال القرآن الكريم كله. وثانيهما تناول موضع من خلال سورة واحدة: أو تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًا. فإلى المثالين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم" مقدمات بين يدي الموضوع أولا: الألوهية والفطرة ... مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم مقدمات بين يدي الموضوع: أولًا: الألوهية والفطرة إن قضية الإيمان بخالق للإنسان والكون والحياة، قضية راسخة في الفطرة الإنسانية عميقة الجذور، عمق الشعور بالذات البشرية واحتياجاتها وعجزها وافتقارها إلى الملجأ والملاذ. فكما يشعر الإنسان بعمق غرائز الأبوة وحب البقاء وحب التملك. في كيانه ويشعر بالقلق والاضطراب في حياته إن لم يشبعها بالطريقة السليمة. فكذلك شعوره بالاضطراب والقلق إن لم تشبع غريزة التدين فيه بإشباع الأشواق الروحية وتوجيهها الوجهة السليمة للمعبود الحق. وقبل حلول الروح الإنسانية في هذا الجسد المادي، في عالم الذر، كان هذا الغرس وكان هذا الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172-174] . وفي الصحيحين من حديث شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئًا فأبيت إلا أن تشرك بي" 1.   1 صحيح البخاري في كتاب الرقاق: 7/ 198؛ وصحيح مسلم في صفات المنافقين: 8/ 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 إن الأصل في النفس الإنسانية الفطرة التي فطر الله الناس عليها فالميل إلى الحق والأخذ به، والتوجه إلى الخالق بالخضوع والطاعة هي الأصل وهي الفطرة، إلا أن البيئة والمجتمع ابتداء بالمجتمع الضيق الأسرة، وانتهاء بالتيارات الاجتماعية في المجتمع الواسع هي التي تحدد مسار هذه الفطرة في السنوات الأولى من حياة الطفل. وإلى هذا يشير الرسول صلى الله عليه وسلم: "وكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه، هل تنتج البهيمة إلا بهيمة جمعاء هل تحس منها من جدعاء" 1 رواه الشيخان من حديث أبي هريرة والمنهج القرآني في تقرير عقيدة الألوهية يعتمد الفطرة الإنسانية السليمة نقطة انطلاق في البحث والتقرير وأسلوب العرض وإقرار النتائج. وفي الصفحات التالية نتعرف على أبرز السمات في المنهج القرآني في تقرير عقيدة الألوهية. البشرية خلقت مهتدية مؤمنة: يبين القرآن الكريم أن الإنسان الذي كرمه من بين مخلوقاته "خَلْقًا وخُلُقًا واستعدادًا وطاقات" وحملة الأمانة التي عجزت عنها السماوات والأرض والجبال، لم يكن خلقه عبثًا ولم يكن ليتركه سدى، بل خلقه لاستخلافه في الأرض وعبادته فهيا. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] . {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذرايات: 56-58] . ولم ينزل أبو البشر إلى الأرض إلا والهدايات مرافقة له، قد حددت له المهمة   1 صحيح البخاري، كتاب الجنائز: 2/ 97؛ وصحيح مسلم في كتاب القدر: 8/ 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 التي يسعى إليها وأسلوب التعامل الذي يتعامل به مع الكائنات الأخرى من بينه وغيرهم. {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] . إن الأسرة الأولى في الاجتماع البشري تكونت في ظل الوحي الرباني، ومن يتلو قصة ابني آدم وهما عضوا الأسرة الأولى يجد في الحوار الذي دار بينهما أن القضايا الأساسية في العقيدة والسلوك البشري كانت واضحة المعالم في ذهنيهما يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 27-31] . عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان علي ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل" 1 رواه الإمام أحمد والجماعة سوى أبي داود. فالإيمان بالله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه بصالح الأعمال ابتغاء مرضاته، وتقوى الله تعالى والالتزام بها مدعاة لقبول الأعمال، وخشية الله تعالى من سوء عاقبة الأعمال السيئة والآثام التي تؤدي بصاحبها إلى النار، والجزاء الأخروي للمحسنين وللمسيئين على ما اقترفوه في الحياة الدنيا. كل هذه أسس العقيدة الموحى بها في الشرائع السماوية جميعها، كانت واضحة المعالم في أذهان ابني آدم الأولين.   1 مسند الإمام أحمد: 1/ 383؛ صحيح البخاري، كتاب الجنائز: 2/ 79؛ وصحيح مسلم، كتاب القسامة: 5/ 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 والمجتمعات التي تكاثرت بالتناسل وانتشرت في أطراف المعمورة، كلما أصاب الغبش تصورها في العقيدة، واختلطت أمامها السبل بالانحراف عن سبيل الله أرسل الله سبحانه وتعالى إليها رسلًا لإعادتها إلى الصراط المستقيم ولإزالة الغبش عن عقائدها وتصوراتها. {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] . {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] . من هنا ندرك انحراف المناهج التي سلكها علماء الاجتماع ومقارنة الأديان، عندما قصدوا الغابات ورءوس الجبال والمناطق المعزولة عن العالم المتحضر لدراسة عقائد سكان هذه المناطق ليصلوا من خلال دراساتهم هذه إلى أصل نشوء فكرة الأديان ومن ثم تطورها. وخطأ هذا المنهج يبدأ من اقتراضهم الخاطئ أن الإنسان هو الذي يكون عقيدته ويطورها حسب تطور ظروفه المعيشية وحياته الاجتماعية ومستواه الثقافي1. والمنهج القرآني يلغي الافتراض من أساسه لأن عقيدة الإنسان الأول، وعقيدة الأسرة الأولى كانت عقيدة التوحيد والإيمان بالهدايات الربانية المنزلة -الوحي- والإيمان باليوم الآخر. وكان الناس أمة واحدة على هذه العقيدة، فلما ابتعدوا عن المنهج الرباني وبعد عهدهم بهذه الهدايات ووجدت الاختلافات بين الناس أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ويعيدوهم إلى حظيرة التوحيد وإلى الالتزام بالمنهج الرباني مرة أخرى. - والرسالات لم تنشأ في تلك المجتمعات المتخلفة أو البدائية، بل كان   1 نقلت بعض الصحف أن باحثه أميركية ذهبت إلى أدغال أستراليا وتزوجت زعيم إحدى القبائل المتخلفة حضاريًا، وذلك لتتعرف عن كثب على عقائد القبيلة وأعرافها الاجتماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الرسل يرسلون لتبليغ دعوة الحق إلى من بأيديهم زمام الحكم والسلطة، وكان الصراع بين أتباع الحق -من الأنبياء وأتباعهم- وبين الطواغيت أهل الأهواء والمترفين من أهل الشهوات {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36] . ومن يقرأ قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في القرآن الكريم يجد أن الرسالات السماوية برزت بين المجتمعات الراقية المتحضرة، وقصدت من بيدهم دفة القيادة والسيادة. ففي قصة نوح عليه السلام نجد التبليغ والصراع بينه وبين الملأ من قومه وكلمة الملأ في اللغة تدل على القوم الذين يملئون العين بوفرة عددهم وقوتهم وغناهم. وأحداث قصة إبراهيم عليه السلام جرت مع نمروذ الذي قيل إنه أحد الكافرين اللذين حكما العالم القديم تارة ومع ملك مصر تارة أخرى. - ومثل ذلك في قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومثله. - وقصة عيسى وزكريا ويحيى عليهم السلام مع السلطة الرومانية من جهة، ومع أهل النفوذ والمكر والحيلة من اليهود من جهة أخرى. ويحدد القرآن الكريم عاقبة المكذبين في أحد الأمور التالية: 1- إنزال العذاب المستأصل عندما يكذبون بالآيات التي يطلبونها تحديًا أو معاجزة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 9-12] . {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ، إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ، فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 23-31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 2- أو الخذلان والتشرد في الأرض على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو أتباعهم: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] . 3- وإن بقي المكذبون برسالة الرسول فترة فهي فترة محدودة ريثما يستكمل أهل الإيمان مقومات استحقاق النصر في نفوسهم، والعاقبة للمتقين فمآل هذه الحالة إلى إحدى الحالتين السابقتين أو الدخول في دعوة الخير والفلاح. وتهمنا الحالة الثانية حالة التشرد والتمزق بعد انتصار دعوة الحق، فكثيرًا ما يفر المعاندون الصادون عن دعوة الحق فيلحقون شعاف الجبال وبطون الأودية والغابات النائية هربًا من سيف الحق، وعلى مر الأيام والسنين يطرد الضياع وتتباين الأهواء ويشتد التمزق في نفوسهم بين إلحاح الفطرة التي تعرض إبراز الخضوع والتدين في حياتهم، وبين النزوات الضالة المنحرفة فتوجد هذه المظاهر التعبدية المنحرفة من عبادة الآباء والأشجار والظواهر الطبيعية. فليست الفطرة بحال من الأحوال هي الداعية إلى هذه الأشكال المنحرفة، بل البيئة والظروف والتأثر بالمنحرفين هي التي توجد الاتجاهات الضالة، وخير مثل في ذلك قصة عمرو بن لحي الذي أدخل عبادة الأصنام في جزيرة العرب حيث لم يكن الناس قبله يفكرون بمثل هذه الضلالة. فإذن حالة الشرك والوثنية والانحراف حالة طارئة وهي الحالة الناشئة عن التخلف والعزلة ونتيجة لفرار من نور الحق. هذا هو منهج القرآن في بيان هذه الحقيقة التي انحرف عنها الماديون المعاصرون، الذين ظنوا أن الإنسان هو الذي يوجد معتقده ويطوره حسب مراحل حياته الاجتماعية وحسب وسائله المدنية التي يستخدمها في حياته المعاشية. إن هناك تباينًا تامًا بين الإدراك العقلي المستهدي بنور الوحي الإلهي، وبين المدركات العقلية المستمدة من الأهواء البشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ولا علاقة لنوعي المدركات هذا بوسائل المعيشة أو الوسائل المدنية والمستوى المعاشي للإنسان فإن الإدراك العقلي الصحيح المبني على نور الوحي الإلهي يكون في أرقى المجتمعات المتمدنة. ويمكن أن يكون في نفس الوقت في مجتمع آخر لا يملك من وسائل المدنية إلا أقلها. كما أن الجاهلية المنحرفة عن هدى الله سبحانه وتعالى -ونقصد بالجاهلية الحالة النفسية التي ينحرف فيها الإنسان عن المنهج الرباني، كما عرفها محمد قطب في جاهلية القرن العشرين- تكون لدى سكان الغابات وبطون الأودية وشواهق الجبال وتظهر في صور شتى من صور الشعائر التعبدية عندهم في عبادة الطواطم والحجر والشجر وظواهر الطبيعة من رعد وبرق وشمس وقمر. تكون موجودة في نفس الوقت عند سكان ناطحات السحاب ورواد الفضاء، ومكتشفي الذرة والعقول الإلكترونية، وتظهر أيضًا في صور شتى من مظاهر العبودية، من تقديس للمال والإنتاج والعلم والطبيعة والحزب والحرية والعقول المتحررة التي تشرع فتحل وتحرم، وكلها مظاهر جاهلية مبنية على الهوى. فلا علاقة بين الهداية والحالة المادية للإنسان، كما لا علاقة بين الجاهلية والمستوى المعاشي للفرد والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق وهذه قضية بارزة جدًا يلمسها المتتبع لهدايات القرآن الكريم عند عرض قضايا الألوهية وهذا المنهج متسق تمامًا مع المنهج القرآني في تقرير الحقائق وتشريع الشرائع والأحكام، فكل قضية تعتمد على رصيد الفطرة عند الإنسان يأتي التذكير بها عامًا وإجمالًا، أما القضايا التكليفية التي تثار ليتوصل إليها الإنسان بعقله أو يأتي الوحي ليقرر الالتزام بها ولا تشكل الفطرة أحد مقوماتها ودوافعها، فإن القرآن يكثر من الاستدلال عليها وتوجه الأنظار للحكم الربانية في تقريرها، وكثيرًا ما تذكر دوافع تشريعاتها ونتائج الالتزام بها. وفي القرآن الكريم قضايا كثيرة من هذا القبيل، فمثلًا من الأمور المقررة في الشريعة أن السعي في الأرض وكسب الرزق واتباع الأسباب التي جعلها الله سبحانه وتعالى بين الخلائق للحصول على لقمة العيش، هذا السعي أمر مطلوب شرعًا ومن كان صاحب عيال ولديه القدرة على السعي والكسب يؤاخذ إن ترك السعي وضيع العيال. ولكننا لا نجد أن القرآن الكريم قد تعرض لهذا الجانب -طلب السعي لتحصيل الرزق والمعاش- إلا لمامًا، وفي أحاديث عرضية فمثلًا نجد قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] جاء في سياق الحديث عن نعم الله على العباد الذي خلق لهم وسائل المعيشة وجعل الأرض ذلولة لهم لا تستعصي عليهم عند السعي عليها أو إقامة المصالح في جنباتها. فكل ذلك يقتضي شكر المنعم المتفضل عليهم بذلك وجاء قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] ، جاء بعد النهي عن البيع والكسب عند النداء لصلاة الجمعة بعد قوله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] ويقرر علماء الأصول أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة. بل نجد أن بعض الآيات تصرف الهمم عن التفكير بالرزق والكسب لأن الله تكفل بهذا الرزق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [الذاريات: 56-58] . {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] . {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] . {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60] . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا" 1. والحكمة في عدم الدفع للسعي على الرزق واتباع الأسباب في ذلك علمًا أنه شيء مطلوب كما قدمنا لأن غريزة الإنسان في حب التملك وحب البقاء، وحب تطوير وسائل الرفاه والمتعة كل ذلك كفيل بأن يدفع الإنسان إلى السعي في ذلك. بينما أمور العبادات والتوجه إلى الطاعات والقربات لا تدفعها إليها الغريزة فكانت الآيات الكثيرة تقررها وتأمر بها. ومثل ذلك الحقوق المتبادلة بين الوالدين والأولاد.   1 سنن ابن ماجه، كتاب الزهد: 2/ 1394، ومسند الإمام أحمد: 1/ 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فالقرآن يقرر في آيات كثيرة وجوب الإحسان إلى الوالدين وخفض الجناح لهما، مثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24] . {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14، 15] . بينما الحديث عن حقوق الأولاد لا يأتي إلا لمامًا وعرضًا إما عند الحديث عن نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72] وعند نهي الآباء عن ارتكاب الجرائم والفواحش {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] . الحكمة في هذا التركيز على جانب والاقتصاد في جانب آخر -والله أعلم- هو أن رصيد الفطرة وغريزة الأبوة كافية لحمل الوالدين على العناية بالأولاد وإيفاء حقوقهم كاملة. أما الإحسان إلى الوالدين فهو من الأمور التكليفية، حيث لا رصيد فطري دافع فكان التأكيد والاهتمام. وهذا هو الشأن فيما نحن بصدده من قضية إثبات وجود الخالق، وقضية توحيد الخالق، فإن الإقرار بوجود خالق للكون، والاعتراف بوجود خالق للإنسان، وتوجيه العبادة إلى خالق الحياة، هذا أمر فطري في الإنسان وأمر جبلي لا يستطيع الفكاك منه، إن قضية الألوهية -الإقرار بوجود إله- مركوزة في الفطرة الإنسانية بحيث يستحيل اجتثاثها مهما بذلت من جهود لإزالتها، وإنما كل الذي يجري عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 هو تحريفها عن مسارها وظهورها في صورة مشوهة من الانحرافات العقدية مما سبب انحطاطًا في المستوى الخلقي للبشر ومسخًا للملكات والعواطف النبيلة التي ترقيها وتسمو بها عقيدة الألوهية الحقة. فليست القضية إذن بين إنسان يعبد أو لا يعبد -أو يقر بإله أو لا يقر- فالجميع يعبدون بأسلوب أو بآخر. وإنما الفارق في المعبود: هل الإنسان يعبد الله سبحانه وتعالى المستحق للعبادة فيوحده ولا يتخذ معه ندًا ولا شريكًا، أو أن الإنسان يعبد غير الله من الآلهة التي لا واقع لها في الحقيقة، إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم. فهنا حالتان: حالة الهدى: فيعبد الناس الله وحده بلا شريك في مراحل البشرية جميعها. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36] . وحالة الضلالة: وتختلف فيها المعبودات من دون الله وتختلف باختلاف الزمان والمكان. لم تعد قضية الأولهية -من حيث إثبات الخالق- من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة الإنسانية السليمة قد شهدت -بضرورة فطرتها، وبديهة فكرتها- بصانع قادر حكيم عليم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حالة الضراء {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] . يقول الشهرستاني في كتابه "نهاية الإقدام في علم الكلام"1 تعقيبًا على إقرار الفطرة بوجود الخالق: "ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشرك".   1 في ص 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري يعرض القرآن الكريم قضية التوحيد ويدعو الناس لتوحيد الله ونبذ الشركاء والأنداد ويقيم الحجج والبراهين على وحدانية الله تعالى، يسلك في كل ذلك المنهج الفطري من خلال المشاهدات المحسوسة البسيطة التي يتعامل معها الناس جميعًا على مختلف مستوياتهم العقلية وتباين مشاربهم الفكرية. إن الكون المادي مكون من عناصر مادية بسيطة ومن هذه العناصر البسيطة تتولد أعقد الأشكال وأضخمها ابتداء من الذرة إلى مسارات الكواكب والأفلاك والمجرات. وكذلك أمر العقيدة فمن المشاهدات الأولية البسيطة في حياة الناس يكون التوصل إلى الإيمان بخالق الكون ومدبره قيوم السماوات والأرض. إن مخاطبة الناس بما يدركون، والاستدلال على القضايا بما يحسون وضرب الأمثال بما يفقهون، والاستدلال من خلالها على ما يعقلون، هو الأسلوب الفطري المؤثر الفعال في إيجاد القناعات لديهم وهي الطريقة المثلى لتحريك كوامن الفطرة السليمة واستجاشتها عندهم. إن الأعرابي عندما استدل على قضية عقلية "لا بد لكل حادث من محدث" توصل إلى هذه النتيجة من خلال مشاهداته المحسوسة: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على السمع البصير؟؟ بلى. إنها الطريقة الفطرية في المحاجة والاستدلال فعندما يفتح العاقل عينيه يستفسر عن مشاهداته لما حوله من أوجد هذا؟ ولماذا كان على هذه الهيئة دون غيرها؟ وكيف يعمل هذا؟ وما مصير هذا؟ إن الأسئلة بسيطة، وفي نفس الوقت هي صعبة؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بسيطة في إثارتها، صعبة في الحصول على الإجابة المقنعة التي يطمئن لها القلب ويستسلم لها العقل. والقرآن بدأ هذه البدايات المبسطة وتوصل إلى تلك النتائج الباهرة المقنعة من خلال إقامة البراهين. ولو ذهبنا نسوق الأمثلة على أسلوب القرآن الكريم الفطري في المحاجة والاستدلال لامتد بنا المجال، ولكن نستدل على ذلك من خلال آيات سورة الواقعة، فنتدبر قول الله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} هذه هي القضية التي يراد إثباتها والاستدلال عليها، وهي قضية: تفرد الله سبحانه وتعالى بالخلق والإيجاد وعدم وجود الشركاء له في ذلك فما هي الأدلة؟ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 57-74] . يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآيات: "وفيه تنجلي طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية، وفي تناول الدلائل الإيمانية، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة. إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى، يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصورًا كاملًا لهذا الوجود. إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره، إنه المصدر الذي صدر منه الكون، فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل، والزرع، والماء، والنار أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة نبتة، ومسقط ماء، وموقد نار. ومن هذه المشاهدات التي رآها كان إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية وأعظم الأسرار الربانية. فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان. وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان"1.   1 في ظلال القرآن: 6/ 3466 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية إن العقيدة النظرية المجردة مهما كانت مثالية النظرة إلى الأمور، ومهما كانت سليمة البراهين، قوية الحجج، تبقى عقيدة باهتة باردة في زاوية من زوايا العقل البشري غير فاعلة في النفس الإنسانية، لا تحرك المشاعر ولا تطلق الطاقات. أما إذا كانت العقيدة متوغلة في النفس الإنسانية محركة للنوازع الفطرية فيها من الرغبة والرهبة تستجيش المشاعر وتثير العواطف، وتتدخل في حياة الإنسان اليومية وتربط مصالحه المباشرة بشئونها فلا شك أن عقيدة هذا شأنها تكون عقيدة فعالة محركة مسيطرة على تطلعات النفوس وعلى خلجات القلوب. وإذا تتبعنا أسس العقيدة الإسلامية من خلال عرض القرآن الكريم نجدها كلها لها أثر فعال في حياة الناس ومصالحهم في الحياة الدنيا، وعقيدة الألوهية بشكل خاص. فأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته العلى تنجلي فيها هذه المعاني فإن إلهًا من صفاته: الخالق، الرزاق، المهيمن، العزيز، الجبار، المنتقم، الضار، النافع، ذو الجلال والإكرام، الغفور، الودود، الرحمن، الرحيم. إنه إله يرهب جانبه، ويُتقى غضبه ونقمته، ويرغب إليه، ويسعى للحصول على رضاه. وإله لا يملك ضرًا ولا نفعًا ليس إلهًا حقًا ولا جديرًا بالعبودية {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76] . ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم في شأن الألوهية، لوجدنا الدعوة الصريحة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 توحيد الإله الذي في قبضته مصائر الأمور، تحت سطوته مقادير الأرزاق فالكون الذي يحيط بالإنسان قد سخره الله سبحانه وتعالى لمصالح البشر. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32-34] . {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 31-35] . - والأرض وما فيها من مخزونات الطاقات والأقوات وما فيها من تناسق وانسجام وتوازن، كلها من صنع الواحد اللطيف الخبير مهيأة لمصالح عباده: {الْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 19-21] . - والأنعام والبهائم التي تفوق الإنسان قوة وجلدًا، سلب الخالق سبحانه وتعالى منها الرغبة في المقاومة والتمرد وجعلها ذلولة فمنها يركب ومنها يأكل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 5-9] . {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 71-74] . وحيثما قلبنا النظر في أرجاء الكون الفسيح، وفي جنبات الأرض المترامية الأطراف، وتمعنا في عوالم الكائنات الحية من الدواب والطير والحشرات لوجدنا قضية التسخير لمصالح العباد تصادفنا في كل وجهة وفي كل مجال: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 65-69] . ولو تتبعنا مادة "سخر" وكلمة "لكم" في القرآن الكريم لوجدنا العجائب من مجالات اهتمام القدرة الإلهية بمصالح عباده في هذا الكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية لما كان تصور قضية الألوهية يعطي مدلولًا معينًا من حيث الخلق والتدبير والتسخير ودقة صنع العليم اللطيف الخبير. فإن آيات القرآن الكريم تناولت في سياق الاستدلال على الوحدانية وما يستلزمها من صفات الجلال والجمال والكمال. أ- تناولت الكون الفسيح لبيان عظمة الخالق جل جلاله، وسعة ملكه، ودقة علمه المحيط بكل شيء ولطفه ورحمته بمخلوقاته. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: 4-6] . ب- وتناولت آيات الذكر الحكيم، في سياق الاستدلال على تفرد الخالق سبحانه وتعالى بالخلق والتكوين، تناولت الإنسان في خَلْقه، خُلُقه، فكره، غرائزه، وفطرته، استعدادته، وأحواله النفسية والسلوكية في ارتقائه وهبوطه وتعاليه واستفاله. ولو ذهبنا نستعرض حديث القرآن الحكيم عن الإنسان لوقفنا مشدوهين من هذا العرض الجذاب المثير ولوقفنا على جلية الأمر في تفرد الإنسان بنوع من الاهتمام لا تحظى به المخلوقات الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ففي خلقه وتكوينه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12-14] . وفي خواصه واستعداده: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4] . {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] . {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72-73] . يقول الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه "دلائل التوحيد"1: "ولما كانت معرفة العالم كله تصعب على الإنسان الواحد لقصور أفهام بعضهم عنها واشتغال بعضهم بالضرورات التي يعرفها منهم جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالمًا صغيرًا أوجد فيه مثال ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر من كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها في الحضر والسفر والليل والنهار فإن نشط وتفرغ للتوسط في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم، فيطلع منه على الملكوت ليغزر علمه ويتسع فهمه وإلا فله مقنع بالمختصر الذي معه، ولذا قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} [الذاريات: 21] . جـ- كما تناولت الآيات القرآنية الحيوان، خلقه، غرائزه، وظيفته، تجمعه، وعمله.   1 انظر: ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 إن حديث القرآن الكريم عن الحيوان هو حديث الخالق الذي خلق ما في الكون لغاية، وأسند إليه دورًا، وهداه إلى سبيل معيشته وتحصيل رزقه، وأسلوب التفاهم والمعايشة بين أفراده وجماعته. إنها مخلوقات الله سبحانه وتعالى الذي لم يجعل في هذا الكون شيئًا مجردًا عن المنفعة أو مجردًا عن مهمة أو خلق عبثًا. إن تجريد أي شيء من وظائف ومهمات يتنافى مع الحكمة العليا في الخلق. ونكتفي بإشارات مقتضبة في عالم الحيوان، وقد مرت جملة من الآيات تتحدث عنها عند الحديث عن ربط أمور العقيدة بمصالح العباد في الحياة الدنيا. ونشير هنا إلى جوانب لم تذكر هناك تتعلق بالحيوان: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 37-39] . ولقد جاءت هذه الآيات الكريمة في سياق موقف المشركين من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يكذبونه لأنهم لم يجربوا عليه كذبًا قط، ولكن الظالمين كانوا بآيات الله يجحدون فلا يؤمنون بالآيات الكريمة ولا بالدعوة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم ومع ما في ضمن هذا الكلام الذي قالوه من تناقض فكيف لا يجرب عليه كذب طيلة حياته، ثم يكذب أعظم كذبة على خالق السماوات والأرض إلا أنهم قالوها وارتضوها، والعقل المشترك يقبل مثل هذا التناقض ويستسيغه، طلبوه معجزات وخوارق على صحة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت اللفتة إلى هذه الأمم التي تعيش بينهم من غير البشر إنهم لو تدبروا ما حولهم لاكتفوا بما يرون عن طلب الآيات، فإنهم ليسوا وحدهم في هذا الكون، بل حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم يوحي بالقصد والتدبر والحكمة، يوحي كذلك بوجود الخالق، ووحدة التدبير الذي يأخذ به خلقه كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إنه من دابة تدب على الأرض -وهذا يشمل كل الأحياء من حشرات وهوام وزواحف وفطريات وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء- وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة وغير ذلك من الكائنات الطائرات، ما من خلق حي في هذه الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة، ذات خصائص واحدة، وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك. شأنها في هذا شأن أمة الناس ما ترك الله شيئًا من خلق بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه، وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها فيقضي في أمرها بما يشاء1. إن هذه الكائنات الحية المبثوثة في جنبات الأرض آية بل آيات في الدلالة على خالقها ورازقها وهاديها إلى سبيل معايشها وإلى وظائفها. ولكن العقول والقلوب الغافلة لا تنظر نظرة التدبر فيما حولها لتهتدي إلى مبدع هذه المخلوقات ومبدع أنظمة حياتها، بل تريد خارقة مادية كما أرسل الأولون يريدون إنزال كنز من السماء، أو إتيان الله والملائكة قبيلًا، أو تفجير الأنهار خلال ديارهم أو زحزحة الجبال عنهم، أو رقي النبي صلى الله عليه وسلم في السماء لإحضار كتاب من السماء يقرءونه وفيه أسماؤهم آمن يا فلان وآمن يا فلان. أما القلوب المهتدية بنور الحق الباقية على فطرتها السليمة فإن مجرد لفت نظرها إلى ما حولها من الإبداع والانتظام كفيل لإشراق نور الإيمان فيها وتحريكها إلى الخير والصلاح والفلاح. "د" ولا يقل اهتمام الآيات الكريمة في مجال الاستلال بالنبات وعالمه وشئونه عن عالم الإنسان والحيوان. فهناك أيضًا الإبداع، وهناك النظام وأداء الدور الوظيفي في خضم هذه الحياة. {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ   1 في ظلال القرآن لسيد قطب: 2/ 1080. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] . {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10، 11] . هذه أبرز المجالات التي تعرض القرآن الكريم من خلالها للاستدلال على الخالق سبحانه وتعالى، وهي المجالات الرئيسية في هذه الحياة الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم مدخل ... أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم: الحكمة في تنوع الأدلة وتعدد الأساليب القرآنية في عرضها: تنوع الأساليب القرآنية في عرض الأدلة على أن هذا الكون مخلوق لخالق وإبراز الأدلة من خلال مختلف مجالاته، لحكمة عليا وهي مرعاة استعداد الإنسان وتنوع ثقافاته. - فمن كان يهتم بعلم الفلك سيجد من الأدلة الكافية ما يقنعه أن لهذا الجانب الكوني خالقًا ولم يكن ليوجد صدفة. - ومن كان يهتم بالطبيعة وعلوم طبقات الأرض فسيجد بغيته من الأدلة في آيات القرآن. - ومن كان يهتم بعلم النبات فسيجد من الآيات ما يلفت النظر إلى دقة صنع الله سبحانه وتعالى في خلق النبات. - أما الإنسان والمهتمون بتركيبه الجسماني وطاقاته المادية والمعنوية فهو عالم قائم بذاته. ولعل هذا الأمر -والله أعلم- هي الحكمة الكامنة في الاستدلال على قضية الخلق في هذه المجالات وبهذه الوفرة من التنوع في الأدلة. إلا أن أدلة الخلق والأبداع تصب بجملتها على إبطال قضية أزلية الكون والمخلوقات وتثبت تفرد الله سبحانه وتعالى في خلقها وإيجادها،وكذلك سائر أنواع الأدلة، وأدلة العناية تبرز جانبًا آخر وهو إبطال قضية الصدفة في السنن الكونية وطريقة عمل المخلوقات وأدائها ووظائفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 إن هداية الإنسان إلى طريق الحق لا تكون دائمًا بجدوى الأدلة الصحيحة، وقوتها ووجاهتها. فكم من شخص قد أبدى وجاهة الأدلة التي يناقش بها، وإنه لا يجد وسيلة لدفعها أو ردها، ومع ذلك لا تستسلم نفسه ولا يخضع عقله وقلبه لما أفحم به، بل يبقى على كفره وإلحاده. وربما صادفته حادثة معينة في حياته كانت سببًا لإيمانه والتزامه بدعوة الحق. - لقد آمن بعض المشركين في صدر الإسلام لأسباب لا تحصى. فمنهم من آمن لأنه اطلع من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جوانب مشرقة -وكل سيرته تشرق ضياء وحقًا عليه الصلاة والسلام- ما حمله على إعلان كلمة التوحيد وأن يشهد شهادة الحق، فقد قال أحدهم: لقد رأيت محمدًا لا يدعو إلى شيء إلا ويكون أول العاملين به، ولا ينهى عن شيء إلا ويكون أول المجتنبين له. - وآمن بعضهم لما حدثه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشرق للإسلام وانتشار الأمن والطمأنينة في المجتمع الإسلامي، ووفرة المال بين الأيدي، وفتح البلاد المزدهرة "كمدائن فارس" على أيدي المسلمين -حادثة سراقة بن مالك1، وعدي بن حاتم2. أو بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأمر غيبي كما حدث لعمير بن وهب، عندما جاء لاغتيال رسول الله في المدينة بعد "بدر" وتحمل صفوان بن أمية ديونه وتكفل عياله، وقد جاء متظاهرًا بفداء ابنه "وهب"3. - وآمن بعضهم لأن رسول صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. - وآمن بعضهم لأنه عندما قتل أحد الصحابة، وفي لحظة لا يمكن أن يكون فيها المرء إلا صادقًا مع نفسه قال ذاك الصحابي: "فزت بها ورب الكعبة"4.   1 انظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 233. 2 انظر تفصيل ذلك في: السيرة النبوية لابن هشام: 4/ 212. 3 السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 71. 4 انظر ذلك في: ترجمة "جبار بن سلمى" في أسد الغابة لابن الأثير: 1/ 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 - يذكر وحيد الدين خان في كتابه القيم "الإسلام يتحدى" حادثة مع أحد علماء الفلك البريطانيين فيقول: حادثة الدكتور عناية الله المشرقي "1909م" مع الفلكي المشهور السير جيمس جينز الأستاذ بجامعة كمبردج عندما رآه يذهب إلى الكنيسة، والإنجيل تحت إبطه، ثم تواعدا على لقاء. وعندما اجتمعا تحدث عن تكوين الإجرام السماوية ونظامها المدهش، وأبعادها وفواصلها اللامتناهية، وطرقها، ومداراتها وجاذبيتها، وطوفان أنوارها المذهلة. حتى إنني شعرت -أي الدكتور عناية الله- بقلبي يهتز بهيبة الله وجلاله، وأما السير جيمس فوجدت شعر رأسه قائمًا والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعدان من خشية الله، وتوقف فجأة، ثم بدأ يقول: "يا عناية الله، عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي وعندما أركع أمام الله وأقول له: "إنك لعظيم" أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء، وأشعر بسكون وسعادة عظيمين، وأحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة. أفهمت، يا عناية الله لماذا أذهب إلى الكنيسة؟! يقول عناية الله: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفانًا في عقلي، وقلت له: "لقد تأثرت جدًا بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي، تذكرت بهذه المناسبة آية من آي كتابي المقدس فلو سمحتم لي بقراءتها عليكم، فهز رأسه قائلًا: بكل سرور. فقرأ عليه الآية التالية: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1. فصرخ السير جيمس قائلًا: ماذا قلت؟ إنما يخشى الله من عباده العلماء؟ مدهش! وغريب! وعجيب جدًا!! إن الأمر الذي كشفت عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة، من أنبأ محمدًا به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك، فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحىً به من عند الله"2.   1 فاطر: 27-28. 2 الإسلام يتحدى: 210، 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ورسوله الله صلى الله عليه وسلم الطبيب المداوي لأمراض القلوب وعلل النفوس كان يصنع لكل حالة مرضية علاجها بعد أن يشخص بنور النبوة الداء التي يعاني منه المريض. وهذا التنوع هو المنهج القرآني الذي نلحظه في عرض أدلة التوحيد فقد شملت هذه الجولات جميع مجالات الآفاق، من فلك وطبيعة ومن جبال وبحار، وأنهار، وسحب وأعاصير ... كما شمل خلق الإنسان وأسرار تطوره ونشأته وأغوار نفسه واستعداداتها وأشواقها وأهواءها وشهواتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أولًا: أدلة الخلق والإبداع جاءت أدلة الخلق والإبداع من خلال آيات القرآن الكريم على أوجه مختلفة للدلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى وتفرده بالإيجاد، وتناولت مجالات الخلق المختلفة من أمور في الكون وفي الحياة والإنسان والنبات والظوارهر الجوية، تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل، وبأساليب متنوعة من استفهام إلى حصر عن طريق النفي والإثبات وإلى إثارة تساؤلات وإلى لفت نظر في الكون المحيط لمعرفة البدء والنهاية والمصير. ولعل الحكمة في تنوع هذه الأساليب في العرض أن يجد المرء في جميع أحواله النفسية والفكرية ما يلفت النظر للتدبر في آيات الخالق ووحدانيته. ففي حالات يكون الإنسان مستغرقًا في التأمل في الكون الواسع الهائل بأجرامه وكواكبه ومساراتها وأفلاكها من غير أن يركز تفكيره على زاوية محددة معينة في هذا الكون فيجد من الآيات الكريمة ما تناولت هذا التعميم والشمول. وفي بعض الحالات يكون شديد التأمل في زاوية من زوايا الكون أو في ظاهرة فلكية محددة فيجد القرآن الكريم قد أشار في مواطنه إلى مثل هذا التأمل. وكثيرًا ما يلفت نظر الإنسان إلى أحد مخلوقات الله سبحانه وتعالى من الدواب والحشرات أو الطيور فيستغرق في التفكير بشأنها ونجد أن القرآن الكريم قد عرض مثل هذه الجوانب في المخلوقات ولفت النظر إلى دقة الخلق والصنع والإبداع فيها. وهكذا في سائر مجالات الحياة والكون من البحار والأشجار والأنهار ... بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قد يخطر على فكر الإنسان أمور مجردة كفكرة الخلق والإبداع نفسها أو التناسق والجمال في قضية الإبداع، وكل هذه الأمور قد عرضها القرآن بأساليب شتى. وفيما يلي سنحاول أن نتعرف على جملة من الآيات القرآنية التي تناولت قضية الخلق والإبداع من جوانب مختلفة: 1- يثير القرآن الكريم أحيانًا قضية الخلق والإبداع بشكلها العام المجرد عن مخلوق محدد يثير ذهن الإنسان ويثير المحاكمة العقلية لديه فلنتأمل قول الله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] . إن العموم المأخوذ من {كُلِّ شَيْءٍ} يشمل أي مخلوق يمكن أن يخطر للإنسان، وللعقل البشري أن يتجول بين مخلوقات الله سبحانه وتعالى التي يمكنه أن يتصورها لتصلح مثالًا لوقوع فعل الخلق عليه وليكون نموذجًا لصنعة الله وإبداعه. ويدخل في هذا العموم هؤلاء المعاندون وآلهتهم المزعومة فإنهم أشياء أيضًا قد خلقهم الله سبحانه وتعالى من العدم، فهل يستطيعون إقامة البرهان على أنهم أوجدوا أنفسهم أو أن غير الله سبحانه وتعالى خلقهم، بل الواحد القهار هو المتفرد بالخلق والإيجاد ومثل هذا الشمول نجده في قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] ، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 49-50] . وفي الآيتين الأخيرتين يضاف إلى الشمول أو العموم في الخلق قضية التقدير، فليس الخلق العشوائي بل الخلق القدر بمقادير معينة وأوصاف محددة قد أوجدها الله سبحانه تعالى وأبدعها لتؤدي دورًا معينًا ووظيفة معينة بين المخلوقات. 2- ومن الآيات التي تتحدث عن الخلق والإبداع آيات تتحدث عن مجالات متعددة للخلق من غير أن تخصص جانبًا منها بالتفصيل والتركيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فآيات تتناول الكون والسماوات والأرض بشكل عام، وآيات أخرى تتناول عرض مخلوقات في الكون وظواهر كونية وإشارات إلى مخلوقات مختلفة، وكأن القصد من ذلك إثارة التساؤلات في الذهن حولها من الذي خلقها، ومن الذي صورها على هذا الشكل. فلنتدبر قول الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10-11] . إنها جولة تأملية في السماوات التي لا ترون لها عمدًا، والأرض المستقرة بسكانها من غير اضطراب. وهذه الدواب المبثوثة في جنباتها، تعيش حسب طرائقها الخاصة في معايشها وأسلوب تعاملها ودفاعها عن نفسها ثم هذا الماء الذي جعل منه كل شيء حي، كلها مخلوقات تسبح خالقها وتوحده، فأروني مخلوقات للشركاء المزعومين؟! - وفي آية فاطر ألوان وأصباغ أخرى من هذه المخلوقات البديعة تثير الدهشة للمتأمل فيها! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27-28] . إن في كل نوع من هذه الأنواع ألوانًا مختلفة المذاق فالثمرات التي تسقى أشجارها بماء واحد، وتتغذى بتربة واحدة تخرج مختلفة الألوان والحجوم والطعوم. والجبال هذه المخلوقات الضخمة على الرغم من أنها من مادة الأرض ومعادنها، ودورها واحد في ترسية الأرض وحفظ توازنها، مختلفة السلاسل والطرق والأصباغ فمن بيضاء ناصعة البياض ومن حمراء قانية الاحمرار، ومن سوداء حالكة السواد، ومنها الهشة والصلبة والمشتملة على زبر الحديد والنحاس وعروق الذهب والفضة. أما الاختلاف الأشد والتنوع الأكثر ففي عالم الأحياء فالناس مختلفو الأطوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 والأشكال والألوان {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] القدرات العقلية والنفسية والاستعدادات الروحية ... وقل مثل ذلك في الأنعام والدواب. إن الآيتين تناولت شرائح متباينة من المخلوقات، ولكن بقي في حدود الإجمال مع كل شريحة منها ولم يدخل إلى تفاصيلها الدقيقية، وإنما هو لفت النظر إلى الاختلاف بينها فمن شريحة الثمار والنبات إلى شريحة الطبيعة الجامدة الصماء، إلى شريحة الكائنات الحية من إنسان ودواب وأنعام. 3- إلا أننا نجد أن آيات كثيرة تخصص مجالًا واحدًا من المجالات ثم تفصل فيه تفصيلًا دقيقًا بل قد تدخل في التفصيلات ما لا تدركه حواسنا ومعلوماتنا الحاضرة، ولعل أمام الأجيال اللاحقة فسحة من البحث والتقصي والتدبر لإدراك جوانب ودقائق أخرى، ولا يحيط بعلم الخالق أحد فلننظر في قوله تعالى في مجال الكون: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 29-33] . إنها جولة في أقطار السماوات والأرض ممتدة عريقة في القدم، ونظرة ثاقبة في أصل السماوات والأرض يوم كانتا رتقًا ملتصقة متحدة مشكلة من مادة واحدة، ففتقها خالقها سبحانه وتعالى، إن مداركنا لا تصل بصورة قاطعة إلى هذا الرتق، وكيفية الفتق وإن كانت العلوم الفلكية والطبيعية بدأت تخطر خطوات بدائية ولكنها حثيثة للتعرف على أصل الكون بدراسة ظواهر بعض الكواكب، وبعد أن عرفوا أن مادة القمر من نفس مادة الأرض، وقد علموا في السابق ما في النيازك ومخلفات الشهب التي تسقط على الأرض من الفضاء، وأنها من معادن مشابهة لأنواع المعادن في الأرض. إن هذه الحقيقة الهائلة التي نقرءوها في هذه الآيات هي مجال أبحاث كبار المختصين ولا تقل الحقيقة الثانية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ضخامتها في علم الأحياء عن الحقيقة الأولى. وقد أصبح من بدهيات العلم الحديث البحث عن الحياة يوجد الماء، ليس على الأرض وحدها بل في الكواكب الأخرى. - والحقيقة الثالثة في هذه الآيات هي خلق الجبال وإسناد دور الإرسال وحفظ التوازن للأرض بواسطتها، وقد أصبح هذا الدور للجبال من مسلمات العلم الحديث وتشبيه الجبال في آيات أخرى بالأوتاد من أدق التشبيهات واقعًا ووظيفة. إننا نكتفي بالإشارات هنا، لأننا لسنا بصدد ذكر الحقائق التفصيلية التي توصل إليها العلم الحديث، وهي تلقي أمثلة تطبيقية تفصيلية على هذه الحقائق العامة الضخمة. - ومما يلقي أضواء على هذه الحقائق ما ورد في سورة فصلت في قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9-12] . - وفي مجال الإنسان. إن الآيات القرآنية التي تتحدث عن الإنسان من الوفرة بحيث لم تدع شأنًا من شئونه ولا حالة من حالاته إلا وتطرقت إليه فمن خلقه وتكوينه في أطواره المختلفة إلى كونه جنينًا. وعناية الله سبحانه وتعالى به، ثم بيان شأن طفولته، ورضاعه وفطامه ومشاعره وعواطفه، وهدايته وأحواله الفطرية وتطلعاته وآماله، اهتداء وانحرافًا ومصيرًا ومآلًا ثم حال الموت والبرزج والبعث إلى أن يستقر في المقر النهائي. وفي أسلوب عرض الأدلة المتعلقة بالإنسان نلحظ ذات الأسلوب الذي عرضت به الآيات في الكون من إشارات عامة إلى خلق الإنسان إلى تفصيل في خلقه وأطواره إلى ذكر جزئيات في بعض أوصافه وأحواله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 1- فمن الآيات العامة التي أشارت إلى خلق الإنسان وتفرد الله سبحانه وتعالى بهذا الخلق قوله تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] . - وفي آيات أخرى أشار إلى طور آخر من خلقه: مثل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 1-2] . - وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5-7] . - وقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 57-59] . - وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] . - وقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1-2] . 2- وإلى جانب الإشارة إلى خلق الإنسان العام، وإلى بعض المراحل في خلقه، نجد الآيات الأخرى قد ربطت بين هذه المراحل وفصلت خلقه تفصيلًا، مما يبرز جانب الإبداع ويثير التأمل في الحكمة الإلهية في خلق الإنسان وتكوينه، ليصل الإنسان من خلال تدبره في خلقه وتكوينه وأطوار حياته إلى وحدانية الخالق سبحانه وتعالى وتفرده في خلق هذا الكائن الغريب في خلقته واستعداداته. فلنتدبر قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 26-29] . وقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7-9] . وكل هذه الآيات التي تشير إلى مرحلة أو أكثر من مراحل تكوين الإنسان، ترد في سياق الحديث عن إثبات أمر الألوهية والتوحيد وكثيرًا ما يربط بين هذا الخلق في هذا الطور وبين قضية الإعادة بعد الموت المشابهة للخلق من النطفة -البذرة- بقضية الإنبات من عجب الذنب يوم القيامة كما صحت بذلك الأحاديث1. تعقيب على أدلة الخلق والإبداع: لقد تحطمت شبهات الملاحدة القديمة والحديثة فأصبحت خاوية على عروشها بعد أن ألقي عليها قذائف الحق الإلهي. وكلما حاول أهل الباطل أن ينفخوا الروح في بقايا الأشلاء المتناثرة من نظرية الصدفة، أو قدم العالم المادي، برزت جوانب من الحقائق القرآنية -وربما على أيدي غير المسلمين وبخاصة على أيدي العلماء التجريبيين- لتزهق الباطل مرة أخرى. ولنسمع من أقوال بعضهم ما يلقي أضواء على ما توصولوا إليه من حقائق علمية تثبت حدوث العالم المادي وتبرهن على وجود نهاية له. اكتشف علماء القرن التاسع عشر الميلادي ما يسمى بقانون الطاقة الحرارية والطاقة المتاحة. وملخص هذا القانون يفيد أن: الحرارة تنتقل دائمًا من "وجود حراري" إلى "عدم حراري"، والعكس غير ممكن، وهو أن تنتقل دائمًا هذه الحرارة من "وجود حراري قليل" أو "وجود حراري عدم" إلى "وجود حراري أكثر" فإن ضابط التغير هو التناسب بين "الطاقة المتاحة" و"الطاقة غير المتاحة". وبناء على هذا الكشف العلمي فإن الطاقة الحرارية للكون في تناقص مستمر   1 في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق". انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير: 6/ 34، وصحيح مسلم، كتاب الفتن: 8/ 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وكفاءة عمل الكون في تناقص مضطرد، ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينذاك لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل، وسيترتب على ذلك أن تنتهي العمليات الكيميائية والطبيعية وتنتهي -تلقائيًا- مع هذه النتيجة "الحياة". هذا إذا استمر النظام في الكون من غير تدخل ووضع نهاية لسيره في الدنيا وانطلاقًا من هذا الحقيقية المتقدمة، يثبت قطعًا أن الكون ليس بأزلي. يقول "إدوارد لوثركسيو" وهو متخصص في علم الحيوان: وهكذا أثبتت البحوث العلمية "دون قصد" أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائيًا وجود الإله لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى الخالق. - والاكتشاف العلمي حول سعة الكون -أو توسعه المستمر- يدل من جانب آخر على أن هذا الكون يتوسع بشكل مذهل وبسرعة لا تتصور، ولا بد أن هذا التوسع كان ابتداء من بداية حركتها قوة معينة وحسب نظام معين، وأن هذا التوسع لا بد أن يصل إلى مداه النهائي، ثم يعود الكون مرة أخرى للتقلص بعد انعدام القوة الدافعة لهذا التوسع، وعندئذ سيؤدي إلى ارتباط الأجرام السماوية وتجمعها في نقطة المركز. إن كونًا هذا شأنه في التمدد والتوسع، ثم مآله إلى الانكماش والتقلص لا بد أن تكون قدرة الخالق هي التي كانت وراء البداء وإلى الله المنتهى، فلا يمكن للعدم أن يوجد بداية ونهاية لشيء. ولو ذهبنا نستعرض الآيات التي تحدثت عن الحيوان والنبات، وذكرنا الحقائق العلمية التي توصل إليها العلم الحديث لاستغرق منا وقتًا طويلًا، ولخرج بنا عن الشرح الإجمالي لبيان أدلة الخلق والإبداع التي ذكرها القرآن الكريم عن تفرد الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق والإبداع لا شريك له {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ثانيًا: أدلة العناية من الأدلة التي يسوقها القرآن الكريم على وجدانية الله سبحانه وتعالى ما يطلق عليه العلماء أدلة العناية، ويقصدون بالعناية: وجود النظام الدقيقي في شئون الكون, والسنن الموضوعة فيه لتحقيق أمرين أساسين فيه: - استمراره وفق الحالة التي خلقها الله سبحانه وتعالى. - أداؤه الدور المنوط به والوظائف التي يؤديها على الوجه الذي سخره الله سبحانه وتعالى له. فإن المعارف البشرية كلما ازدادت تقدمًا وإحاطة ودقة تتعرف على أسرار هذا الكون ونواميسه، وتتكشف أمامها دقة التقدير والصنع والنظام المحكم الذي تجري شئون الكون بموجبه. والإنسان يدرك أن النظام دليل على وجود منظم، ولا يمكن أن يقع صدفة أو اتفاقًا. كما يعلم في قرارة نفسه أن هذا النظام ليس من صنع أحد من البشر فالبشر أنفسهم يخضعون لهذه الأنظمة ولا يمكنهم الخروج عليها. كما أن الآلهة المزعومة أعجز من أن ترعى شئون نفسها وتضع لحياتها نظامًا مستقلًا عن نظام الكون العام. وبالتالي فهي أعجز عن تدبير شئون عبادها. إن الملايين من الأمثلة يمكن أن تساق على وجود هذه الرعاية والعناية بالمخلوقات فلو انعدمت هذه الرعاية لحظة واحدة لكان مصير الكون الفناء والعدم، ولاختلت التوازنات في كل المجالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 إن العناية الربانية تحوطه وترعاه {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] . عرض أدلة العناية: وأسلوب القرآن الكريم في عرض أدلة العناية يتشابه مع أسلوبه في عرض أدلة الخلق والإبداع وكثيرًا ما تقترن أدلة العناية بأدلة الخلق والإبداع1. فآيات كثيرة تشير إلى العناية الربانية بمخلوقاته بشكل عام من غير تفصيل لأوجه العناية ومن غير تعيين للمجالات التي تشملها العناية الإلهية. ويرد هذا التعميم مرفقًا ببعض الألفاظ مثل "قدر، جعل، سخر، صنع". إن التقدير والإتقان والنظام في هذا الكون شامل لجميع مخلوقات الله والقدرة المنظمة لشئونه هي قدرة الله الواحد الأحد، فنظام الكون كله يدل على الإله الواحد {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88] . وتحدد آيات كثيرة مجالات عامة في الكون، والإنسان، والحيوان والنبات للفت النظر إلى المجالات التي تشملها العناية الإلهية. فخذ مثلًا قوله تعالى في سورة إبراهيم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32-34] . ومن المجالات الأساسية التي لها تعلق بالحياة اليومية للبشر ما ورد في آيات سورة النحل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا   1 وتعتبر سورة النحل من أجمع السور لذكر النعم التي تصلح أن تكون أدلة على العناية الربانية بمخلوقاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 80-81] . وتفصل كثير من الآيات أمورًا دقيقية تبرز فيها عناية الخالق سبحانه وتعالى ولطفه ورحمته وحكمته في هذه الجزئيات الدقيقة. ففي مجال الكون الفسيح: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] . {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37-40] . {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 40 -41] . النجوم: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] . ووضع النجوم ومساراتها وأنظمة عملها في الكون بهذا الشكل الدقيق المدهش، كل ذلك دليل على وجود الخالق ووحدانيته وحكمته وقدرته. ولقد أقسم الباري سبحانه وتعالى بمواقعها فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ونعلم أن بعضها يهتدي بمكانها على الجهة أو بطلوعها على دخول موسم معين من فصول السنة، فإن الأمر أعقد من ذلك بكثير بالنسبة لأهل الاختصاص يقول بعضهم: "فإذا رفعنا أعينا إلى السماء فلا بد وأن يستولي عليها العجب من كثرة ما تشاهده فيها من النجوم والكواكب السابحة فيها، والتي تتبع نظامًا دقيقًا، لا تحيد عنه قيد أنملة مهما مرت بها الليالي وتعاقبت عليها الفصول والأعوام والقرون، إنها تدور في أفلاكها بنظام يمكننا من التنبوء بما يحدث من الكسوف والخسوف قبل وقوعه بقرون، فهل يظن أحد بعد ذلك أن هذه الكواكب والنجوم قد لا تكون أكثر من تجمعات عشواية من المادة تتخبط على غير هدى في الفضاء وإذا لم يكن لها نظام ثابت ولم تكن تتبع قوانين معينة فهل كان من الممكن أن يثق الإنسان بها ويهتدي بهديها في خضم البحار الواسعة وفي متاهات الطرق الجوية التي تتبعها الطائرات، قد لا يسلم بعض الناس بوجود الله سبحانه وبقدرته ومع ذلك فإنهم يسلمون بأن هذه الأجرام السماوية تخضع لقوانين خاصة وتتبع نظامًا معينًا، وأنها ليست حرة تتخبط في السماء كيف تشاء. الحق أنه من قطرة الماء التي رأيناها تحت المجهر إلى تلك النجوم التي شاهدناها خلال المنظار المكبر، لا يسع الإنسان إلا أن يمجد ذلك النظام الرائع، وتلك الدقة البالغة، والقوانين التي تعبر عن تماثل السلوك وتجانسه"1. الخلق والتقدير: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] . قدر حجمه وشكله، وقد وظيفته وعمله، وقدر زمانه ومكانه، وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير. إن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه لمما يدعو إلى الدهشة حقًا، وينفي فكرة المصادفة نفيًا باتًا، ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره وفي جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير. وكلما تقدم العلم البشري   1 الله يتجلى في عصر العلم: 141، 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} يقول أ. كريس موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان "الإنسان لا يقوم وحده": "ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل، بالغًا هذه الدقة الفائقة، لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأكسجين، ولما أمكن وجود حياة البنات. ولو كان الهواء أرفع كثيرًا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلًا في الثانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق، ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض، ولكانت العاقبة مورعة، وأما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربًا من مجرد حرارة مروره. إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيمائي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهر -ومعظمها سام- فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع، ودون تغيير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء -أي المحيط- الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل والنباتات وأخيرًا الإنسان نفسه"1. وهكذا ينكشف للعلم البشري يومًا بعد يوم، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق، وتدبيره الدقيق في الكون، ويدرك البشر شيئًا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ومع هذا فإن أولئك المشركين لم يدركوا شيئًا من هذا كله. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا   1 الإنسان لا يقوم وحده، وقد ترجم بعنوان "العلم يدعو إلى الإيمان": 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان: 3] . وهكذا فإن آلهتهم مجردة من كل حقائق الألوهية، وهي مخلوقة يصنعها عبادها إن كانت أصنامًا أو أوثانًا ويخلقهم الله بمعنى يوجدهم -إن كانوا ملائكة أو جنًا أو بشرًا أو شجرًا أو حجرًا ولا يملكون لأنفسهم فضلًا عن أن يملكوا لعبادهم "ضرًا ولا نفعًا" والذي لا يملك لنفسه النفع قد يسهل عليه الضر، ولكن حتى هذا لا يملكونه- ومن ثم يقدم في التعبير بوصفه أيسر شيء كان يملكه أحد لنفسه، ثم يرتقي إلى الخصائص التي لا يقدر عليها إلا الله {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} فلا إماتة حي، ولا إنشاء حياة ولا إعادتها داخل في مقدورهم، فماذا بعد ذلك من خصائص الألوهية، وما شبهة أولئك المشركين في اتخاذهم آلهة؟ ألا إنه الانحراف المطلق. ومن الآيات الجامعة ذات الدلالة على العناية الربانية بخلقه وتدبير أمرهم. قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 19-21] . يقول سيد قطب: "والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس، فهذه الأرض المحدودة للنظر والخطو وهذه الرواسي الملقاة على الأرض، تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون، ومنه إلى المعاش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض، وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها وهي كثيرة شتى يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الفخامة. هذه الأرزاق -ككل شيء- مقدرة في علم الله تابعة لأمره ومشيئته، يصرفها حيث يشاء وكما يريد في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها، وأجراها في الناس والأرزاق. فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئًا إنما خزائن كل شيء -مصادره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وموارده- عند الله في علاه ينزله على الخلق في عوالمهم بقدر معلوم فليس من شيء ينزل جزافًا وليس من شيء يتم اعتباطًا ومدلول هذا النص المحكم يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة، وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه، ومدلول خزائنه يتجلى في صورة أقرب بعدما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي وطبيعة تركيبها وتحليلها -إلى حد ما- وعرف مثلًا أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الأيدروجين والأكسجين، وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء، وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب من ثاني أكسيد الكربون، وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضًا، ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها. وهو شيء على كثرته قليل قليل"1. ولعل من أعظم الأشياء التي أنزلها الله سبحانه وتعالى من خزائنه في عصرنا الحاضر، وتلعب دورًا أساسيًا في حياتنا اليوم أمور الطاقة المختلفة: الكهرباء، الأشعة السينية، الطاقة النووية، أشعة الليزر. وخزائن الله سبحانه وتعالى ملأى بالأسرر لا ينقصها عطاء الليل والنهار {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} . فهل يوجد عاقل يحترم عقله ويقول إن الكون وجد صدفة بهذا النظام وتشكلت نواميسه وسننه اتفاقًا؟ قال بعضهم عن القول إن نظام الكون وجد صدفة: "إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة "حادث اتفاقي" شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة2. يقول كريسي موريسون: لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد من 1 إلى 10 ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيدًا ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي، بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فإمكان أن تتناول   1 في ظلال القرآن: 4/ 2134. 2 الإسلام يتحدى لوحيد الدين خان: 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الدرهم المكتوب عليه "2" في المحاولة الولى هو واحد على عشرة، وإمكان أن تتناول الدرهمين "ا، 2" بالترتيب واحد في المائة، وإمكان أن تخرج "1، 2، 3، 4" بالترتيب هو واحد في العشرة آلاف. حتى إن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم من 1 إلى 10 بالترتيب واحد في العشرة بلايين من المحاولات. إن الهدف من إثارة مسألة بسيطة كهذه، ليس إلا أن نوضح كيف تنعقد "الوقائع" بنسبة كبيرة جدًا في مقابل الصدفة. نقل الشيخ جمال الدين القاسمي عن الحكيم بن رشد في مناهج الأدلة قوله: "الذي قصده الشرع في معرفة العالم هو أنه مصنوع لله تبارك وتعالى ومخترع له، وأنه لم يوجد عن الاتفاق وعن نفسه، فالطريق التي سلك الشرع بالناس في تقرير هذا الأصل هي من الطرق البسيطة المعترف بها عند الجميع، وذلك أنه إذا تؤملت الآيات التي تضمنت هذا المعنى وجدت أن أقرب تلك الطرق طريق العناية، وهي إحدى الطرق الدالة على وجود الخالق تعالى. وذلك أنه كما أن الإنسان إذا نظر إلى شيء محسوس، فرآه قد وضع بشكل ما وقدر ما، ووضع ما موافق في جميع ذلك للمنفعة الموجودة في ذلك الشيء المحسوس والغاية المطلوبة، حتى يعترف أنه لو وجد بغير ذلك الشكل، أو بغير ذلك الوضع، أو بغير ذلك القدر، لم توجد فيه تلك المنفعة، علم على القطع، أن لذلك الشيء صانعًا صنعه ولذلك وافقه شكله ووضعه وقدره تلك المنفعة، وأنه ليس يمكن أن تكون موافقة اجتماع تلك الأشياء لوجود المنفعة بالاتفاق". كذلك الأمر في العالم كله فإنه إذا نظر الإنسان إلى ما فيه من الشمس والقمر، وسائر الكواكب التي هي سبب الأزمنة الأربعة وسبب الليل والنهار، وسبب الأمطار والمياه والرياح وسبب عمارة أجزاء الأرض؛ ووجود الناس وسائر الكائنات من الحيوانات والنبات وكون الأرض موافقة لمسكن الناس فيها وسائر الحيوانات البرية1، وكذلك الماء موافقًا للحيوانات   1 نقلت الصحف أن لباس رائد الفضاء الواحد يكلف مائة ألف دولار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 المائية والهواء للحيوانات الطائرة1، وأنه لو اختل شيء من هذه الخلقة أو البنية لاختل وجود المخلوقات التي ههنا، علم على القطع أنه ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة التي في جميع أجزاء العالم للإنسان والحيوان والبنات بالاتفاق، بل ذلك من قاصد قصده ومريد أراده، وهو الله عز وجل. وعلم الله على القطع أن العالم مصنوع. في مجال الإنسان والنفس الإنسانية: - والعناية الإلهية في مجال الإنسان لا يحيط بها عد ولا تدخل تحت الحصر، فإن الشكل الظاهري والجمال والتناسق في أعضائه لا يضاهيه جمال. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . - وملكة البيان التي يستطيع بواسطتها التعبير عما يريد وما يختلج في نفسه من معان وعواطف ومشاعر، ميزة فريدة للإنسان من بين سائر المخلوقات. {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4] . - وطاقاته وقدراته العقلية والنفسية والروحية لأخذ المواقف المتعددة تجاه الحادث الواحد وتساميه في عواطفه وأشواقه الروحية وخضوعه وتضرعه، أو طغيانه وجبروته، كل ذلك من مزايا هذا الإنسان وقدراته التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيها: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] . - وجعل له زوجًا يسكن إليها ملأ فراغ نفسه بالبنين والبنات والأحفاد الذين يرى في وجودهم استمرارًا لحياته وتجديدًا لشبابه.   1 لقد قام في العصر الحديث علم خاص للإفادة من تصميم المخلوقات وطريقة عملها، للقياس عليها في الصناعات. فالطائرات مستمدة من شكل الطيور وطريقة طيرانها {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19] . والغواصة مستمدة من شكل الحيتان، والرادار من شكل الوطواط، والكاميرا من العين، وهيكل الماكنات من طريقة عمل جسم الإنسان الميكانيكية، والكمبيوتر من الدماغ إلا أن الصناعات الإنسانية بدائية جدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 72، 73] . والعناية الربانية بالإنسان -وهو أكرم مخلوق على الله- أعظم من أن تدخل تحت الحصر، وقد عرضت الآيات القرآنية مجالات هذه العناية مرافقة لمسيرة الحياة الإنسانية، في حال النطفة إلى كونه جنينًا إلى طفل يحبو ثم شاب يكتمل، إلى كهل بلغ أشده إلى شيخ عاد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا أو قضى نحبه وقد حفظ له سمعه وبصره فصان كبره. لم يحظ مخلوق بالعناية الربانية كما حظي بها الإنسان ولا غرابة فالقرآن كتاب الهداية للإنسان والمحور الذي تدور عليه آيات القرآن هو الإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض وسخر له ما في السماوات والأرض لذا أفرد بعض المؤلفين كتابًا تحت عنوان: "الإنسان في القرآن". ونكتفي في هذه العجالة بما ذكرنا، وإن كان في العمر فسحة لعلنا نعود إلى موضوع "الإنسان والعناية الربانية" مرة أخرى. في مجال الحيوان: لقد ذكر الله سبحانه وتعالى أصنافًا من الحيوانات التي سخرها لخدمة الإنسان لحمل الأعباء عنه، ومصدرًا للغذاء، واللبس وسائر أنواع الانتفاع. فمما جاء في بهيمة الأنعام قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 66-67] 1.   1 تذكير الضمير في {بُطُونِهِ} لمراعاة جانب اللفظ فإنه اسم جمع وتأنيث الضمير في سورة "المؤمنون" {بُطُونِهَا} لرعاية جانب المعنى ولكونها مجموعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 5-9] 1. - وجاء في لون آخر من الحيوان في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68-69] . لقد خلق الله سبحانه وتعالى بهيمة الأنعام لمصالح عبادة وجعلها ذلولة مسخرة لقضاء شئونه الحياتية فعلى الرغم من أن هذه البهائم تملك من القوة الجسمية والعضلية أضعاف ما يملكه الإنسان إلا أن سنة التسخير قد سلبها المقاومة والتمرد على إرادة الإنسان وتدبيره وهذا ما يوجب أداء حق الشكر لله سبحانه وتعالى ولو ترك أمر تذليل هذه المخلوقات للإنسان لعجز عن تذليل ذبابة كما عجز من خلقها ولكنها المشيئة الإلهية وقدرته في الخلق والتذليل والتسخير   1 التعبير بـ {فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} للإشعار بأن المنافع من دفء وحمل أثقال وجمال يحصل منها وهي باقية على حالها، لذلك جعلت محلًا لها وجاء التعبير بـ {فِيهَا} . أما الكل للإشارة أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق ولذلك جاء التعبير بـ {مِنْهَا تَأْكُلُونَ} وتقديم الجار والمجرور على متعلقه لبيان أن الأكل منها هو الأصل في الغذاء وهو المعتاد والمعتمد في المعاش، لأن الأكل مما عداها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر من قبيل التفكه. من أبي السعود بتصرف: 3/ 337. وشبيه بهذا قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] . وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: 71-73] . يقول سيد قطب: "إنها هذه الأنعام التي خلقها الله لهم وملكهم إياها، وذللها لهم يركبونها ويأكلون منها ويشربون ألبانها وينتفعون بها منافع شتى وكل ذلك من قدرة الله وتدبيره، ومن إبداعه ما أودع من الخصائص في الناس والأنعام فجعلهم قادرين على تذليلها واستخدامها والانتفاع بها. وحين ينظر الإنسان إلى الأمر بهذه العين وفي هذا الضوء الذي يشيعه القرآن الكريم فإنه يحس لتوه إنه مغمور بفيض من نعم الله، فيض يتمثل في كل شيء حوله وتصبح كل مرة يركب فيها دابة أو يأكل فيها قطعة لحم أو يشرب جرعة من لبن، أو يتناول قطعة من سمن أو جبن، أو يلبس ثوبًا من شعر أو صوف أو وبر. لمسة وجدانية تشعر قلبه بوجود الخالق ورحمته ونعمته ويطرد هذا في كل ما تمس يده من أشياء حوله. وكل ما يستخدمونه في حي أو جامد في هذا الكون الكبير، وتعود حياته كلها تسبيحًا لله وحمدًا وعبادة آناء الليل وأطراف النهار"1. وآية أخرى في الأنعام هي هذا النماء وهذه البركة فيها من بين سائر البهائم فمما لا شك فيه أن ملايين من هذه البهائم تذبح يوميًا ومع ذلك فإن العدد الباقي يبقى متوافرًا ملبيًا لحاجة الاستهلاك البشري، علمًا أن تكاثرها تم عن توالدها، مولود في كل بطن على الغالب، ومن القليل أن تأتي التوائم في الحمل الواحد. ونظرة إلى غيرها من الحيوانات من الكلاب والقطط والذئاب وغيرها من السباع فعلى الرغم من أنها لا تتعرض لعلمية الذبح والإفناء المتعمد من قبل الإنسان. كما إن ولادتها وتكاثرها في الغالب أن يأتي مجموعة من الصغار بين 4-7 في الحمل الواحد، مع ذلك نجد أنها ليست بالكثرة التي نرى فيها الأنعام من الغنم والبقر والإبل. إنها حكمة الله سبحانه وتعالى في التقدير والتسخير وتوفير الأقوات.   1 في ظلال القرآن: 5/ 2976. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 أما وجوه الانتفاع الأخرى من حمل الأثقال، والانتفاع بالجلود والشعر وهذا المصنع الدقيق المنتج للألبان، فالحديث عنها يطول، ونكتفي بهذه الإشارات مما تقدم. وفي النبات: لقد أدهش أمر النبات العلماء ولا تزال العقول حائرة في فهم ألغاز النبات وطريقة نموه وغذائه وتكاثره، ولا تزال كثير من العمليات التي تقوم بها الوريقات الخضراء تعجز عنها كبريات المصانع والمعامل في العالم، إنه سر الحياة الذي خص الله سبحانه وتعالى به نفسه والذي يقف العلم أمامه مشدوهًا فاغرًا فاه. يقول علماء النبات: بالرغم من تقدم العلوم في شتى الميادين في الكيمياء والفيزياء والفضاء وعلوم الحيوان والنبات إلا أن هنالك بعض الأوليات التي يراها الإنسان في حياته ويلمسها من حوله لكنه عاجز عن فهمها حق الفهم، ومن هذه الأشياء قضية "التمثيل الضوئي" لم يستطع العلم بعد مئات السنين من التجارب والأبحاث، وبعد إنفاق الأموال الطائلة وبعد أن انقطع لهذه الأبحاث آلاف العلماء، لم يتمكنوا من الوصول إلى ما تقوم به ورقة خضراء في نبات حي. فهذه الورقة تمتص أشعة الشمس وتخزنها وتبقي بها حياتها، وبالرغم من أن الإنسان يعتمد في حياته اعتمادًا كاملًا على الشمس التي تمده بالطاقة والتي تسبب كل مظاهر الحياة من حوله، والتي بدونها لا تقوم حياته، فهي أساس الحياة النامية في كل حقل وكل غابة وهي سبيل تكون الفحم والبترول وهي سبب المطر وأصل تساقط المياه. بالرغم من كل ذلك لم يستطع الإنسان أن يمتص أشعة الشمس ويخزنها لاستعماله في حاجته سواء كان هذا التخزين داخل جسمه كما تفعل الورقة الخضراء أو في مكان آخر، ويعترف العلم أن ذلك حلم صعب التحقيق إن لم يكن من المستحيل. يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] . ويقول جل جلاله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] . إن شأن عالم النبات كشأن عالم الإنسان والحيوان عالم قائم بذاته في طريقة نموه وتكاثره وازدهاره واضمحلاله، وكل ذلك حسب سنن قائمة خلقها الله سبحانه وتعالى فيه بعنايته وسخرها لمصالح الإنسان {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 27-33] . وحيثما أجال الإنسان بصره رأى نعم الله تحيطه وعناية الله تكلؤه وآلاؤه تغمره {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24-32] . إننا حيث أجلنا النظر في أنحاء الكون الفسيح، وفي أصناف المخلوقات نلمس العناية الربانية بهذه المخلوقات، وإبداع الصنعة فيها ودقة النظام والتناسق والانسجام مع وظيفتها التي وجدت من أجلها، ومع غيرها التي تشاركها في المهمة والمصير وكلها تمجد من شأن الخالق المهيمن المدبر وتسبحه. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ثالثًا: أدلة الفطرة ويقصد بأدلة الفطرة تلك الغرائز والإحساسات الأصلية في فطرة الإنسان التي تشده إلى تعظيم الخالق سبحانه وتعالى والالتجاء إليه. ولو تركت الفطرة على سجيتها وأصالتها لاتجهت إلى خالقها ورازقها، إلا أن المؤتمرات التي تحيط بالإنسان في مراحل حياته الأولى تؤثر على مسار الفطرة وصفائها، وهذا ما يشير إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من مولد إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] 1. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" 2. ولعل هذه الاستقامة والسلامة في الفطرة امتداد لذلك العهد الذي أخذ من الحشد من بني آدم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . وأبرز أدلة الفطرة ثلاثة:   1 رواه البخاري في كتاب الجنائز: 2/ 97؛ ومسلم في القدر: 8/ 52. 2 صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة أهلها: 8/ 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الدليل الأول: حالة الاضطرار ومهما حاول الإنسان أن يطمس هذه الحقائق من فطرته، أو يحول بينها وبين الالتجاء إلى خالقها فإنه لن يجد إلى ذلك سبيلًا وبالأخص في أوقات الشدة والاضطرار: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 30-33] . وقد أشار القرآن الكريم في جملة من الآيات الكريمة إلى هذه الحقيقة وجعلها دليلًا على توحيد الله سبحانه وتعالى نابعًا من أعماق النفس البشرية. يقول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 51-54] 1. إن من شأن الفطرة السليمة أن لا تغفل عن خالقها ورازقها في سائر أحوالها وأن تتوجه إليه بالدعاء والشكر رغبة ورهبة في عامة شئونها، إلا أن أهل الانحراف من شأنهم الإشراك بالله في السراء والالتجاء إليه وحده عند إصابتهم الضراء. يقول تعالى في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا   1 الواصب: الدايم. أي حق الإنسان أن يطيعه في جميع أحواله. مفردات الراغب: 823. قال الفراء: "وله الدين واصبًا": معناه دائمًا يقال: وصب يصيب: دام ويقال: خالصًا" معاني القرآن: 2/ 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22-23] . إن الشعور بالنقص في الإنسان، وعدم قدرته على توفير متطلباته العضوية، وإشباع ميولة الغريزية، تجعله يلتجئ بالضرورة إلى القوة القادرة التي تهيئ له هذه الحاجات وتشبع له هذه الغرائز. يقول الإمام القزويني في سراج العقول: "الدليل على أن معرفة الله واجبة كونها من الأمور التي تصل العقول إليها، فإن الإنسان إذا دهاه أمر وضاقت به المسالك، فلا بد أن يستند إلى إله يتأله له، ويتضرع نحوه ويلجأ إليه في كشف بلواه ويسمو قلبه صعودًا إلى السماء ويشخص ناظره إليها. فيستغيث خالقه وبارئه طبعًا وجبلة، لا تكلفًا وحيلة. وهي الفطرة المذكورة في القرآن والحديث ولكن أكثر الناس قد ذهلوا عن ذلك في حالة السراء، وإنما يردون إليه في الضراء. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] 1. إن في حالات الرخاء، أو حالات تلبية الحاجات من قبل المخلوقين قد تلقي ظلالًا من الغبش والرين على صفاء الفطرة، فينحرف بها صاحبها وتنكر وجود خالقها ورازقها والمتصرف في شئونها {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7] . إلا أن هذا الغبش وهذا الران على الفطرة سرعان ما يزول وتعود الفطرة إلى صفائها وتلتجئ إلى خالقها عندما تنقطع عنها الأسباب، وتشعر بحالة من حالات الاضطرار التي لا يملك صاحبها معها التصرف، فعندئذ تظهر علامات الخشوع والخضوع والالتجاء إلى البارئ المصور فتخلص في هذا الالتجاء وفي هذا الدعاء. يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ   1 نقلًا عن دلائل التوحيد للشيخ محمد جمال الدين القاسمي: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40-41] . إن من سنة الله سبحانه وتعالى في حالات اللجوء إليه، وعند انقطاع الأمل من الأسباب ومن سائر المخلوقات أن يستجيب إن شاء الله لعباده الذين أخلصوا له الدين والتوجه بغض النظر عن سابق حالاتهم يقول تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] . وما حدث لفرعون يمثل طغيان الإنسان وعنوه وجبروته في حالة الرخاء، وضعفه واستكانته وذلته عند الشدة وانعدام ما يتشبث به من أسباب النجاة ومقومات السلامة. يقول تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] . لقد أصبح من الموت قاب قوسين أو أدنى: وفقد أي أمل في النجاة من الغرق فاستسلم. ولكن سنة الله جرت في العالمين أن: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] . لذا لم تنفعه توبته هذه وكان التعقيب القرآني على نهايته {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] . الدليل الثاني: تطلع الفطرة إلى الكمال إن من الصفات الأساسية في الغريزة الإنسانية الميل إلى جانب الكمال والسعي إليه في جميع الصفات التي تتصف بها، وتهرب من النقص والاتصاف به. ولكل صفة من هذه الصفات كمالها النسبي ويتمثل في الصفوة المختارة من البشر وهم أنبياء الله ورسله إلى البشرية. أما الكمال المطلق في كل الصفات فهو من شأن الخالق سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يقول الشيخ جمال الدين القاسمي: "تبين في الحكمة المتعالية أن لكل موجود من الموجودات العقلية والنفسية والحسية والطبيعية كمالًا مقررًا. وعشقًا ركز في ذاته شوقًا غلى ذلك الكمال وحركة إلى تتميمه، فكل أحد عاشق للوجود طالب كمال الوجود، نافر عن العدم والنقص. وكل ناقص ينفر عن نقصه ويسعى إلى كماله ويتمسك به عند نيله فيكون كل شيء لا محالة عاشقًا لكماله لأنه مرجع الكل وغاية الكل. وحينئذ فجميع الموجودات متوجهة إلى الحق الأول توجهًا غريزيًا ونازعة إليه نزوع افتقار واحتياج. يقول بعضهم في هذا المعنى: إن مما بنا من النقص الذاتي والضعف الجبلي يقودنا بحكم ناموس التضاد إلى القول بوجود مدبر كامل، فإنه كما أن لكل شيء ضدًا فالنور والظلام، والعدل والظلم، والموت والحياة، والعدم والحدوث، كل ذلك العلم المحدود يقابله العلم غير المحدود، والقدرة الناقصة تقابلها القدرة الكاملة، وبالجملة فنقص الآدمي وعجزه وشوقه لبلوغ أمانيه وسعيه وراء كمالات لا يدري غايتها ونقضه اليوم ما أبرمه بالأمس مما يبرهن على أن في الغيب قدرة قاهرة وكمالًا باهرًا تنتهي إليه الأماني، وتطمئن به القلوب"1. الدليل الثالث: الأشواق الروحية لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من مادة هذا الكون كما خلق منها الكائنات الحية الأخرى، إلا أن الإنسان امتاز عليها بنفخة الروح التي خص بها من بين سائر المخلوقات وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28-29] .   1 دلائل التوحيد للشيخ محمد جمال الدين القاسمي: 55 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ولكل من هذين الأصلين مظاهره، واحتياجاته، ونتائجه المترتبة عليه فمن مظاهر الأصل المادي الثقل إلى الأرض والأعراض الجسيمة من نمو واختلاف في البنية وتعرض للأسقام. ومن احتياجات هذا الجانب المادي الحاجة إلى الطعام والشراب والهواء والتخلص من فضلات الجسم، والميل إلى قضاء الوطر. وإذا لم تشبع هذه الحاجات العضوية من مطعم ومشرب فإنه يؤدي إلى اضمحلال هذا الجانب وبالتالي القضاء عليه بالموت. وكذلك الجانب الروحي في الإنسان فله مظاهره واحتياجاته ونتائجه فمن مظاهر الجانب الروحي مشاعره وعواطفه من الحب والبغض، والإحساس بالجمال والميل إلى الكمال والرغبة في الحق والصدق ... إلى آخر ما هنالك من الأمور الفطرية التي يميل إليها الإنسان صاحب الطبع السليم والجبلة القويمة. كما أن هذا الجانب الروحي في الإنسان يحتاج إلى إشباع، فإن لم يشبع أدى إلى اضطراب وقلق وشقاء وغذاؤه هو الوحي الإلهي والهدايات المستمدة منه، فهو الغذاء الضروري الذي لا غنى للروح عنه، وبالاتصال بالوحي الإلهي والتعامل معه عبادة وذكرًا وخوفًا وطمعًا ودعاءً وابتهالًا، وتوكلًا وإيمانًا وتسليمًا. يحصل الإنسان على غذائه الروحي، ويكون معتدل الطبيعة منسجمًا مع فطرته عارفًا لغايته في الوجود ساعيًا إلى هدفه ثابت الخطى مطمئن البال رضي النفس. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن إشباع الجانب المادي يكون بالغذاء الحلال النافع كما يكون بالغذاء الحرام والضار، إلا أن النتائج تختلف نتيجة التغذي بالحلال النافع الصحة والهناء والقوة والنشاط. أما نتيجة التغذي بالحرام والضار المرض والإعياء والاضطراب والتعاسة. وكذلك الغذاء الروحي فمنه الحلال الطيب المفيد وهو ما كان وحيًا إلهيًا "من الكتاب والسنة" وما استمد منه من أحكام وتشريعات. ومن الغذاء الروحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ما كان محرمًا خبيثًا وهو ما كان من وضع البشر وفلسفاتهم وطقوسهم التعبدية وشرائعهم الوضعية. فمن الغذاء الروحي الفاسد ما عليه الملل والديانات المنحرفة عن أصل الوحي الإلهي من يهودية ونصرانية وما كان من وضع البشر من مجوسية وبوذية وهندوكية ووثنية. إن إحساس الإنسان بهذه الأشواق الروحية وتطلعه إلى إشباعها بالغذاء الروحي الصافي لا يقل أهمية عن إحساسه بالنقص وتطلعه إلى الكمالات. كما أن من نتائج هذا الإشباع الإحساس بالقرب من الملأ الأعلى والتطلع إلى الدار الآخرة والزهد والتجافي عن الدار الدنيا، وإلى مثل هذه النتيجة يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عليه عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم" 1. وهي الحالة التي بلغها حارثة رضي الله عنه وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي رجلًا يقال له حارثة في بعض سكك المدينة فقال: "كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحت مؤمنًا حقًا، قال: "إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزًا وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها وكأني بأهل النار في النار يعذبون، قال النبي صلى صلى الله عليه وسلم: "أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه" 2.   1 رواه مسلم في صحيحه، وفي كتاب التوبة: 8/ 95. 2 رواه البزار. انظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 1/ 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 رابعًا: البراهين العقلية ويقصد بها الأساليب القرآنية في إثبات توحيد الله سبحانه وتعالى والتي تثير المناقشة العقلية، وترتيب النتائج على المقدمات، وتوصل الفكر إلى النتيجة التي لا يملك العاقل إلا التسليم بها والإذعان لها. فمما أبرزه العلماء في ذلك ما أطلقوا عليه: أولًا- الأدلة البدهية: ونجد مثال ذلك في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور: 35-36] . فالاحتمالات العقلية التي تشير إليها الآيتان الكريمتان في قضية الخلق ثلاثة احتمالات محددة لا رابع لها، إن الإنسان وما يحيط به من مظاهر الحياة والكون بما فيه السماوات والأرض مخلوقة، فمن الذي خلقها؟ الاحتمال الأول: أن تكون هذه المخلوقات قد أوجدت نفسها، وهذا احتمال مناقض لبدهيات العقل الإنساني لأنها قبل وجودها لم تكن شيئًا -أي كانت عدمًا- فكيف يوجد العدم موجودًا. إن الموجود لابد له من موجد يوجده من العدم. أما العدم فلا يوجد شيئًا. فهذا الاحتمال باطل لاصطدامه ببدهيات العقل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الاحتمال الثاني: أن يكون بعض المخلوقات أوجد بعضها الآخر، وهذا أيضًا مناقض لبدهيات العقل، لأن الكلام السابق الذي بطل به الاحتمال الأول ينطبق على الجزء الذي أسند إليه الخلق، فقبل خلقه كان عدمًا، والعدم لا يوجد شيئًا، فيبطل هذا الاحتمال أيضًا. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . الاحتمال الثالث: وهو أن يكون غير المخلوقات، قد أوجد المخلوقات، وبالتالي يتصف هذا الخالق بصفات تضاد صفات المخلوقات. فالمخلوقات وجدت بعد أن لم تكن موجودة، أما الخالق فواجب الوجود لذاته. والمخلوقات لها بداية ونهاية، أما الخالق فهو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء. والمخلوقات تعتورها الحوادث والحركة والسكون والزيادة والنقص، وتستمد وجودها واستمرارها من غيرها. أما الخالق فهو المنزه عن الحوادث {الْحَيُّ الْقَيُّوم} ويستمد الكون منه وجوده وحركته ونظامه، ويكون مسخرًا لأمره وتدبيره. وهذا الاحتمال هو الذين يقبله العقل السليم، والنتيجة التي لا يجد المنطق السديد مناصًا من الرضوخ لها والتسليم بها. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255] . ثانيًا- دليل التمانع 1: إن المتدبر لأحوال المخلوقات من الذرة إلى المجرة يجد ذاك النظام المطرد الذي يحفظ للكون بقاءه واستمراره وأداءه الدور الوظيفي الذي سخر من أجله.   1 وجه تسمية هذا النوع من الاستدلال بدليل التمانع: أن جانب الدلالة فيه على استحالة تعدد الآلهة، هو فرض أن يتمانع الآلهة، أي يمنع بعضهم بعضًا من تنفيذ مراده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 إن هذا النظام المطرد في الكون يدل على أن الإرادة المتحكمة فيه المتصرفة في شئونه إرادة واحدة لا تقبل التعدد ولو افترض وجود إرادة ثانية تتصرف في شئون الكون لأدى ذلك إلى الاحتمالات التالية: الاحتمال الأول: عند تعارض الإرادتين في شأن الخلق أو عدمه، أو وضع نظام محدد على حالة معينة فأي الإرادتين تنفذ؟! فإما أن تنفذ الإرادتان وهو مستحيل لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين وهو محال عقلًا. الاحتمال الثاني: أن تتعطل الإرادتان جميعًا فلا تنفذان، وهذا عجز ينزه مقام الألوهية عنه لأن مقتضى كلمة "الإله" التصرف المطلق في شأن المخلوقات الذي لا راد لقضائه الذي يقول للشيء كن فيكون. الاحتمال الثالث: أن تنفذ إحدى الإرادتين وتهمل الأخرى، فالإرادة النافذة هي الحق والثانية المعطلة هي الباطل، ويكون صاحبها إلهًا مزيفًا فالنتيجة الفعلية أنه لا بد أن يكون الإله واحدًا فردًا صمدًا ليس له مثيل ولا شبيه ولا ند ولا شريك وإلى هذا النوع من الاستدلال أشارت الآية الكريمة: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 20-23] . يقول الشيخ ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير": "والفساد: هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتسقتي النظام بأن يبطل الانتفاع بما فيهما. فمن صلاح السماء نظام كواكبها، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها، ونظام النور والظلمة، ومن صلاح الأرض مهدها للسير، وإنباتها الشجر والزرع، واشتمالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب، وفساد كل من ذلك ببطلان نظامه الصالح. ووجه انتظام هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة للزم أن يكون كل إله متصفًا بصفات الإلهية المعروفة آثارها، وهي الإرادة المطلقة والقدرة التامة على التصرف. ثم إن التعدد يقتضي اختلاف متعلقات الإرادات والقدر، لأن الآلهة لو استوت في تعليقات إراداتها ذلك لكان تعدد الآلهة عبثًا للاستغناء بواحد منهم"1. ولو كان مع الله آلهة أخرى لحاول بعضهم أن يتصرف في الكون حسب إراداته وعندئذ يشهد الكون حروبًا مروعة مدمرة، ويكون ميدانًا لصراع رهيب بين الآلهة المتنازعة. فإذا كان مصير الكرة الأرضية بات في خطر من جراء تنازع القوى المدمرة من صنع البشر، فكيف الحال عندما تكون القوى المتنازعة بيدها أزمة الأمور في عالم الغيب والشهادة. إن فكرة تعدد الآلهة لا يقرها عقل يحترم نفسه، ولا يؤيدها الواقع المنظم الذي يؤدي دوره المفيد حسب سنن مضطردة. إن دوام السماوات والأرض على انتظامهما في مخلتف العصور والأحوال يدل على أن لها إلهًا واحدًا غير متعدد. {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 1-3] . ثالثًا: دليل الفرض والتسليم: وهذا النوع من الاستدلال يقوم على التسليم بدعوى الخصم تسليمًا جدليًا، -ولو كانت دعوه مستحيلة- ثم يستدل على إبطال الدعوى بالنتائج الخاطئة المتناقضة التي تترتب على هذه الدعوى، يقول تعالى:   1 التحرير والتنوير: 17-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91-92] . فالحقيقة أن لا إله مع الله، ولم يتخذ الله سبحانه وتعالى ولدًا، ولكننا لو سلمنا جدلًا بهذا الافتراض الخاطئ فما هي النتائج التي تترتب على ذلك: يترتب على ذلك استعلاء بعضهم على بعض، فلا ينتظم أمر الكون ولا ينفذ فيه حكم ولا تتحقق مصلحة، وبالتالي في ذلك اختلال نظام المخلوقات واستحالة استمراره. والواقع المشاهد خلاف ذلك، فدل هذا الواقع على أن تعدد الآلهة محال لما يلزم عليه من المحال. كما أن افتراض وجود آلهة متعددة يؤدي إلى استعلاء بعضهم على بعض، ومنع كل منهم غيره من التدخل في شئونه وهو محال مصادم لما تستلزمه صفات الكمال المطلق للإله المعبود بحق. {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 42-44] . ملحوظة: الفرق بين دليل التمانع في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وبين دليل الفرض والتسليم في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} . أن الأول: يستلزم اختلال أحوال المخلوقات السماوية والأرضية وهو ما تبطله المشاهدة. أما الثاني: فيستلزم النقص في ذات الإله وهو محال لأن الإلهية تقتضي الكمال المطلق1.   1 انظر: "التحرير والتنوير" للظاهر بن عاشور: 18/ 116 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص إن الكمالات كلها ثابتة لله سبحانه وتعالى وبما أن أنواع الكمالات لا يمكن أن يدركها البشر، فقد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز من خلال ذكر الصفات الجليلة، لذا كانت هذه الصفات توقيفية لا يستطيع الإنسان أن يضع له صفة من عنده لأنها قد تكون صفة نقص من حيث يريد الإنسان تقديس الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الإنسان المحدود العقل المتأثر بما حوله من مفاهيم، وتصورات وخيالات، لا يستطيع أن يحيط علمًا بصفات الكمال للخالق غير المحدود سبحانه وتعالى: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" 1. ويقول ابن القيم في "مدارج السالكين": حمد الله سبحانه وتعالى نفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال حمديته وغناه وملكه، وتعبيد كل شيء له، فاتخاذ الولد ينافي ذلك، كما قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] . وحمد نفسه على عدم الشريك المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره فيكون شريكًا له، لو عدمها لكان كل وجود أكمل منه لأن الموجود أكمل من المعدوم، ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمنًا ثبوت كمال.   1 جزء من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجوده حيث كان يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" صحيح مسلم، كتاب الصلاة: 2/ 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 كما حمد نفسه بكونه لا يموت، لتضمنه كمال حياته، وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم لتضمن ذلك كمال قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، لكمال علمه وإحاطته. وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدًا لكمال عدله وإحسانه، وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار لكمال عظمته يُرى ولا يدرك، كما أنه يعلم ولا يحاط به علمًا، فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال لأن العدم لا يُرى، فليس في كون الشيء لا يرى كمال البتة. وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكًا لعظمته في نفسه وتعالى عن إدراك المخلوق له، وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان لكمال علمه، فكل سلب في القرآن حمد الله به نفسه فلمضادة ثبوت ضده ولتضمنه ثبوت ضده"1. ويما يلي ذكر لبعض الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه في كتابه، وبيان بعض الصفات التي تنزه العلي الكبير عنها: فمن الأدلة التي ساقها القرآن الكريم للاستدلال على وحدانية الله سبحانه وتعالى: إثبات صفات الكمال المطلق للمعبود بحق وتنزيهه عن صفات النقص: ثمة صفات إذا اتصف بها شيء حكمنا عليه بصفات المخلوقين، فمثلًا: الافتقار: الافتقار في وجوده إلى غيره والاستمرار في حياته إلى من يقوم عليه لرعاية شئونه. إن هذا الافتقار والحاجة من صفات المخلوقين، يتنزه الخالق سبحانه وتعالى عنها فهو الذي لا يفتقر في وجوده إلى غيره بل هو واجب الوجود الغني عما سواه لذا وصف سبحانه وتعالى بأنه الإله الحي لأنه لا يفتقر في حياته إلى غيره وكل ما سواه مفتقر إليه، وإلى قيوميته عليها. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .   1 مدارج السالكين: 1/ 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الحي: الواجب الوجود لا يحتاج في حياته إلى سواه. القيوم: القائم برعاية مصالح مخلوقاته فهي مفتقرة إليه وهو غني عنها. فنفي الألوهية عن غيرة وأثبتها لذاته وعلل ذلك بـ"الحي القيوم". {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15-16] . الفقراء إلى الله في إيجادكم. الفقراء إلى الله في حياتكم واستمرارها. الفقراء إلى الله في رزقكم وطعامكم شرابًا وهواء. وتنكشف جوانب الفقر وتتسع مجالاتها وأنواعها كلما ارتقى الإنسان فكرًا وتوسعت آفاق المعرفة لديه وتقدمت وسائل المدنية والتطور. فالمتبادر إلى الذهن عند العامة عن كلمة الفقر "قلة المادة والممتلكات التي ينتفع بها" وقد يفهم بعض الناس أن الفقر يشمل أيضًا الحاجة إلى تعاون الناس في اختصاصاتهم لسد حاجات المجتمع المختلفة، إذ لا يستطيع الإنسان بمفرده أن يسد مختلف حاجاته، إلا أن هنالك أنواعًا من الفقر لا يدركها غير أهل الاختصاص، فهناك حاجات منظورة وحاجات غير منظورة يفتقر إليها الناس بل الكون كله: فهناك الحاجة والافتقار إلى حفظ التوازن بين الأجرام السماوية. {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41] . وكذلك الحاجة والافتقار إلى التوازن بين الأقوات المخزونة في الأرض، المستهلكة والنامية والتوازن بين كمية المياه من الأمطار والمياه الموجودة على سطح الأرض. والتوازن بين أنواع الغازات الموجودة في الهواء والحفاظ على نسبتها المحدودة، بحيث تبقى ثابتة على الرغم من أن استهلاك أنواع منها لدى الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أكثر، واستهلاك النبات لنوع آخر أقوى وهكذا. فإن دلالات الفقر ومجالاته تتسع بتقدم المجالات العلمية. وحاجة الإنسان وافتقاره إلى النفحات الروحية والهدايات الربانية لرعاية الجانب المعنوي فيه وإشباع أشواقه الروحية، عن طريق الرسالات التي تنير السبيل أمامه وتوجد التوازن بين متطلبات الجانب المادي ومتطلبات الروح. إن الافتقار إلى كل ذلك كان في المخلوق فهو الفقير والله هو الغني الحميد. ومن لطف الإشارات القرآنية في الرد على النصارى الذين قالوا بألوهية عيسى بن مريم وأمه قال تبارك وتعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] . إن مخلوقًا يفتقر في حياته إلى الطعام ليستمر في البقاء. ثم يفتقر بعد تناوله الطعام إلى التخلص من فضلانه. إن مثل هذه الصفات لا تليق بالألوهية، والإله منزه عن مثل هذه الصفات إن مثل هذا الافتقار من شأن المخلوق ويتنزه عنه الخالق جل وعلا. 2- ومن الصفات التي ينزه الخالق عنها: الشريك، الند، الولد، الصاحبة: إن من الصفات الراسخة لدى المخلوقين، والتي لا يستغني عنها في حياته "الزوجية". فإن من الأمور المغروزة في ذات المخلوق الميل إلى القرين من جنسه، ويسعى إلى ذلك لأن هذا التزواج من الأمور الجبلية التي فطر عليها. {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: 45] . {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] . وكذلك الميل إلى الجنس والشبيه والاستئناس به من خاصيات الكائن الحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ومن الأمور الجبلية لدى الإنسان الرغبة في الولد لأن في الولد إشباعًا لغرائز كامنة في النفس الإنسانية، إنها غريزة حب البقاء من ناحية، والتطلع إلى الكمال والفرار من النقص من ناحية أخرى، وسد الحاجة وتلافي النقص والدفاع عنه والافتخار به، كل هذا وراء الرغبة في الولد. إلا أن مثل هذه الدوافع والرغبات والاحتياج يتنزه عنها الخالق سبحانه وتعالى لذا جاءت في آيات كثيرة اتصاف الله سبحانه وتعالى بغير ذلك. يقول تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . إن زعم الولد والصاحبة لله سبحانه وتعالى ونسبة ما لا يليق بكمال الله وجلاله إليه تقدست أسماؤه، تغيير لمعالم الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض وإحلال للباطل والزيف مكان الحكمة والعدل، إن نسبه هذه الأمور إليه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا نسبة الحاجة والنقص والافتقار والعجز إلى الكمال المطلق وهو هدم لنظام الكون الذي يقوم على الحق والعدل والميزان. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88-95] . 3- تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العجز في التصرف في مخلوقاته وعن الجهل بأحوالهم والغفلة عن تدبير شئونهم ومصالحهم: إن من صفات الكمال التي يجب اعتقادها في الخاق سبحانه وتعالى وتنزيهه عن ضدها: القدرة والعلم المحيط والقيومية على شئون العباد. حيث لا يليق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 بشئون الإله وصفاته أن يعجز عن التصرف في مخلوقاته حسب إرادته وحكمته أو يمتنع عليه مخلوق من مخلوقاته، بل كل من في السماوات والأرض ملكه، خاضع لإرادته يقول للشيء كن فيكون. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] . ومن صفات الكمال لله تعالى علمه المحيط بكل مخلوقاته، فإن الجهل نقص، والجهل بأحوال المخلوقات صغيرها وكبيرها قصور وإهمال. وكل ذلك محال على الله سبحانه وتعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 1-3] 1. 4- ومن صفات الكمال للخالق جل جلاله "القيوم": القائم بتدبير ما خلق، الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه، فالله سبحانه وتعالى منزه عن اللهو والعبث والغفلة يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 16، 17] . وقد اشتملت آية الكرسي على جملة من صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، كما اشتملت على تنزيه الخالق سبحانه عن بعض الصفات التي تكون من شأن المخلوقين ثم بعد البيان الشافي في بيان ما ينبغي للمعبود الحق وما يتنزه عنه جاء قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] .   1 يقال: عَزب يعزُب ويعزِب إذا غاب، قاله القرطبي، وفي مفردات الراغب: العازب المتباعد في طلب الكلأ عن أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فإن الذي يتدبر في صفات الكمال التي وردت في آية الكرسي، ويمعن النظر في صفات النقص التي تنزع الله سبحانه وتعالى عنها يملك الميزان الدقيق ليعلم به شأن الألوهية، فمن توفرت هذه الصفات فيه فهو الإله الحق، ومن لم يتصف بتلك الصفات، أو وجدت فيه صفات النقص ثم دعا الناس إلى عبادته واتخذه الناس إلهًا فإنما هو طاغوت. فبعد وضوح السبيل، وإقامة البرهان وظهور الحق لا داعي لإكراه الناس على الدخول في الدين، لأن العقول الرشيدة تصل إلى الحق على ضوء هذه البراهين من نفسها، ولا تحتاج إلى إكراه للدخول في دين الحق {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} . وإثبات الكمالات المطلقة لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص، متضمنة في أسمائه التسعة والتسعين لذا من قرأها متدبرًا لمضامينها مؤمنًا بما أثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه فيها من صفات الكمال، منزهًا لله جل جلاله عن صفات النقص من خلالها كان ممن استحق الجنة، فقد جاء في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لله تسعة وتسعون اسمًا من حفظها دخل الجنة، وإن الله وتر يحب الوتر"، وفي رواية عند مسلم: "من أحصاها". وفي رواية عند البخاري: "لله تسعة وتسعون اسمًا مائة إلا واحدًا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة" 1.   1 صحيح البخاري: 7/ 69؛ وصحيح مسلم: 8/ 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الخاتمة : إن القرآن الكريم كتاب التوحيد فقد تضمنت آياته الكريمة من أول سورة الفاتحة إلى خاتمة سورة الناس الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وتوجيه العباد إلى الإخلاص في عبادته وقد وجهت هذه الدعوة من خلال الاستدلال على التوحيد من الآفاق والأنفس، وبمختلف الأساليب والطرائق، والحجج والبراهين التي تدخل الطمأنينة إلى كل قلب ينبض بالحياة ويستهدف الحقيقة، وتقنع كل عقل استنار بنور الحق وتغلب على هوى النفس. وقد رأينا نماذج من أبرز الأدلة القرآنية في المحاجة والاستدلال والشرح والبيان ولعل من أجمع الآيات التي سيقت للاستدلال على توحيد الله سبحانه وتعالى وتضمنت أنواع الأدلة آيات سورة النمل الخمس: 1- {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] . وهو دليل الخلق والإبداع من خلال الآفاق. وجاءت فاصلة الآية الكريمة مقررة لمضمونها ومؤيدة لدليل الإبداع، لأن كل عاقل، مكلف يدرك أنه لم يخلق السماوات والأرض ولم ينزل المطر من السماء. ورغم إقرارهم بهذه الحقيقة الواضحة يعدلون عن عبادة الله إلى عبادة آلهة مزيفة باطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 2- {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] . وفي هذه الآية تقرير لدليل العناية، فهو الذي جعل الأرض بهذه الكيفية وثبتها بالجبال وأجرى فيها الأنهار وجعل بين البحرين حاجزًا. ولولا هذه العناية الربانية وهذا التقرير المحكم لما هيئت الأرض للحياة والاستقرار. وجاءت الفاصلة القرآنية ملائمة أيضًا لدليل العناية، فإن إدراك سنن الله الكونية في المخلوقات ومنها الأرض وإدراك أنظمة جريان الأنهار ومعرفة دور الجبال في إرساء الأرض وحفظ توازنها، والبحث عن سر الحاجز بين البحرين لا يدركه إلا العلماء أهل الاختصاص فجاءت الفاصلة "بل أكثرهم لا يعلمون". 3- {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 60] . وهذا دليل الفطرة، فلا ملجأ ولا ملاذ للمخلوقات عند وقوع الضر بهم إلا التوجه إلى الواحد الأحد الفرد الصمد والفاصلة ملائمة ومؤكدة للدليل، فإن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى عند الشدة أمر فطري راسخ في النفس البشرية، إلا أن الناس يغفلون عن ذلك في حالة السراء، فلا يحتاج الأمر إلا إلى تذكرهم، وإن لم تهيأ الظروف المذكرة لهم بذلك فإن الشدة تفرض عليهم الذكرى وتزيل الغشاوة عن الفطرة وصفائها فختمت الآية بـ {تَذَكَّرُونَ} . 4- {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63] . وفي الآية إشارة إلى صفات الكمال التي اتصف بها المولى جل جلاله وتقدست أسماؤه، وعلى رأس هذه الصفات صفة الرحمة والهداية إلى المصالح المادية والمعنوية. وجاءت الفاصلة مؤكدة لمضمون الدليل، فهو المتفرد بصفات الكمال والمنزه عن صفات النقص: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 5- {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] . وهذا ما أطلقنا عليه البراهين العقلية الإقناعية، لأن الدليل هنا يتعلق بأمر عقلي تجريدي، ويستخدم القياس والبدهيات العقلية، فمن آمن بأن الله بدأ الخلق وأوجده من العدم، يلزمه عقلًا وتفرض عليه البديهة أن يؤمن أنه قادر على الإعادة بل الإعادة أهون عليه، لذا ختمت الآية بفاصلة في منتهى الوضوح والدلالة {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فإن أنكرتم النتيجة والبدهيات فهاتوا برهانكم على ما تزعمون. إنها آيات الذكر الحكيم، أنزلها الذي يعلم السر في السماوات والأرض، على قلب رسوله ليكون للعالمين نذيرًا. فيا عجبًا كيف يُعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف" تمهيد : إن كنوز القرآن ضخمة ومتنوعة وموضوعاته كثيرة متشعبة واسعة المساحة، تبدأ من الكون المحيط بأجزائه الصغيرة بدءًا من الذرة وانتهاء بالمجرات والأفلاك التي تدور فيها، والأنظمة الدقيقة والتناسق المحكم الذي يسود ذلك كله. وتبدأ من داخل النفس الإنسانية، من خلجات القلب وخطرات النفس ووساوس الفكر غلى أسرار علم الغيب الذي استأثر الله سبحانه وتعالى به. إن من يبدأ تلاوة القرآن الكريم بتدبر تثيره أشياء كثيرة وتلفت نظره وتستجيش مشاعره، وهي آثار حسنة للتلاوة المتدبرة، ولكنها في الغالب فهوم آنية ومشاعره وقتية ربما تنتهي بالفراغ من التلاوة. أما إذا بدأ تالي القرآن -الباحث عن أسراره- تلاوته بعد تحديد هدف معين يسعى للوصول إليه من خلال تلاوة السورة1 التي يقبل على تلاوتها فإنه ينظر بعين فاحصة إلى أنواع الروابط بين الهدف المحدد وبين مقاطع السورة، وسياق الآيات التي تتحدث عنه، بل وسيلحظ تلك الروابط من خلال الكلمات المختارة بعناية فائقة لإبراز المعاني التي تحملها العبارات التي تنساب إلى العقل والقلب، وسيشعر أن روحًا معينة تسري في كيانه، وأن أنوار القرآن تشع في جنباته لتنقله من حالة إلى حالة: يستلهم فيها المعاني من المفردات والألفاظ التي ينطق بها إلى إدراك الروح التي تنساب من خلال الآيات الكريمة. إن معايشة القرآن الكريم بنية خالصة وبمنهج معين تعطي ثمارًا يانعة ونتائج   1 انظر ما تقدم حول معرفة تحديد الهدف من السور المكية والمدنية: 41 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 حافلة، كثيرًا ما يعجز القلم عن تدوين المشاعر والخلجات التي تنتاب القارئ، ويتحقق فيه قول الباري جل جلاله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] . وبمقدار ما يكون الهدف الذي حدده الباحث للسورة أو الآيات التي يتدبرها هدفًا قرآنيًا جليًا، بمقدار ما يجد الترابط بين الأجزاء والآيات، وبمقدار ما يلاحظ أن كل المعاني تتوجه إلى إبراز هذا الهدف أو تعميقه في النفس والمشاعر، أو إلقاء الأضواء عليه بيانًا وكشفًا وتوضيحًا فمثلًا: عندما نقول: إن الموضوع الأساسي في سورة فاطر: توحيد الألوهية من خلال الأدلة الكونية. سيجد الباحث أن مقاطع السورة كلها تتجه لإبراز هذا المعنى من خلال الأسلوب البياني والكلمات المختارة في مجالات الكون، والإنسان والحيوان والنبات إبداعًا وعناية "أدلة الخلق والعناية". وقل مثل ذلك في سورة الكهف وغيرها من سور القرآن الكريم وهذا ما سنحاوله بإذن الله تعالى في المباحث اللاحقة بعد التعريف بسورة الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بين يدي سورة الكهف : اسمها وعدد آياتها : تسمى سورة الكهف، وسورة أصحاب الكهف، وتأتي الروايات فيما بعد في ذلك. وعدد آياتها مائة وعشر آيات عند الكوفيين. ومائة وإحدى عشرة آية عند البصريين. ومائة وست آيات عند الشاميين. ومائة وخمس آيات عند الحجازيين1. وذلك حسب ما ثبت لدى القراء في كل بلد عن طريق النقل في وقفات الرسول صلى الله عليه وسلم.   1 انظر هذا العدد في: تفسير روح المعاني للألوسي: 15/ 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 خصائص سورة الكهف : 1- قال الإمام البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد قال: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه، قال في بني إسرائيل -أي الإسراء- والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي"1.   1 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 5/ 223. قال ابن الأثير في النهاية: أراد بالعتاق الأول السور التي أُنزلت بمكة وأنها من أول ما تعلمه من القرآن. النهاية: 3/ 179 والتالد: المال القديم الذي ولد عندك، وهو نقيض الطارف. وهن من تلادي: أي من أول ما تعلمته بمكة وأخذته فيها. النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/ 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ فلان 1 فإنها السكينة تنزل عند القرآن، أو تنزلت للقرآن" 2. 3- روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال". وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" 3. 4- وفي مسند الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورًا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورًا ما بين السماء والأرض" 4. 5- وأخرج الحاكم في مستدركه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح5. 6- روى الحاكم في مستدركه عن أبي سعدي الخدري رضي الله عنه قال:   1 ذكر في بعض الروايات أن الرجل كان أسيد بن الحضير رضي الله عنه. 2 صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن: 6/ 104؛ وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: 2/ 193. 3 صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: 2/ 199. 4 مسند الإمام أحمد: 3/ 439. 5 المستدرك للحاكم، كتاب التفسير: 2/ 368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورًا يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه" وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي1. 7- وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي عن علي مرفوعًا: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة وإن خرج الدجال عصم منه" 2. 8- انفردت سورة الكهف بأربع قصص لم تتكرر في سورة أخرى. وعلى الرغم من تكرار قصص موسى عليه السلام في سور القرآن إلا أننا يمكن أن نعتبرها فريدة من حيث تناولها للجانب التعليمي وتتلمذ موسى عليه السلام على الخضر عليه السلام، بينما القصص الأخرى تتناول جانب الرسالة والصراع مع فرعون وأتباعه، أو مواقف بني إسرائيل من دعوة موسى عليه السلام، ومثل هذا العدد من القصص الفريدة يمكن اعتبارها من خصائص سورة الكهف.   1 المستدرك للحاكم، كتاب فضائل القرآن: 1/ 564. 2 تفسير ابن كثير: 3/ 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقت نزولها وسببه : سورة الكهف مكية في قول جميع المفسرين. قيل: إن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: {جُرُزًا} وهو ضعيف. وقيل: إنها مكية غير آيتين منها وهما قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَك ... } [الآيتان 28 و29] . قيل إنهما نزلتا في المؤلفة قلوبهم: عيينة بن حصن والأقرع بن حابس عندما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصم بمجلس يبتعدون فيه مع رسول الله صلى اله عليه وسلم عن فقراء المسلمين أمثال سلمان، وأبي ذر لئلا تؤذيهم روائح جباب الصوف التي يلبسونها. وقد تكون الرواية صحيحة إلا أن جعلها سبب نزول آيتي الكهف فيه بعد، وكثيرًا ما يربط المفسرون بين روايات حدثت بالفعل وفيها معنى معين، فيربطونها بمعنى الآية المتضمنة للحكم ويجعلون الرواية سبب نزول الآية. وأمثلة ذلك كثيرة في كتب التفسير. والراجح أن سورة الكهف مكية كلها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي. وكذلك آيات سورة الأنعام: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الآيات من 52-54] . فإنها نزلت عندما سأل بعض زعماء قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعد عن مجلسه صهيبًا وبلالًا وعمارًا -من فقراء الصحابة؛ ليجلسوا إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا وعبد الله بن مسعود وأربعة. وجاء في رواية ابن مسعود تحديد الأربعة وهم: خباب بن الأرت وصهيب وبلال وعمار، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم -أي كبار قريش-: اطردهم فإنا نستحيي أن نكون تبعًا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، فأنزل الله {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} 1. وأورد السيوطي في "لباب النقول" قال: اخرج ابن مردويه من طريق جرير عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فنزلت -أي قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} . هذه الروايات وغيرها تفيد أن سورة الكهف سورة مكية بجملتها، من غير استثناء آيات منها. كما أن الرواية الصحيحة التي تقدم ذكرها، وقد ذكر فيها عبد الله بن مسعود سورة الكهف وِأنها من العتاق الأول ومن تلاده -أي قديم ما نزل. وكذلك ما نورده من روايات سبب النزول يدل على مكية السورة: أخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم   1 انظر: المستدرك للحاكم، كتاب معرفة الصحابة: 3/ 319 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي؛ ولباب النقول للسيوطي: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أمر عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فأقبلا حتى قدما على قريش فقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد؟ فجاءوا رسول الله فسألوه فقال: "أخبركم غدًا بما سألتم عنه" -ولم يستثن- فانصرفوا، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله في ذلك إليه وحيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية1. وهذه الرواية وإن تكلم بعضهم في سندها وأن فيها رجلًا مجهولًا، فإن واقع السورة وما ورد فيها من صيغ الاستفسار منهم كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} وقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} وقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . كل ذلك يؤكد حادثة الاستفسار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتية وعن الرجل الطواف، وعن نسيان ذكر المشيئة. وأورد السيوطي في لباب النقول: قال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأمة بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأبو البختري في نفر من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلال قومه إياه وإنكارهم ما جاء من النصيحة، فأحزنه حزنًا شديدًا فأنزل الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} 2.   1 انظر: تفسير الطبري: 15/ 128. وانظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 39، ولباب النقول للسيوطي: 155. 2 لباب النقول للسيوطي: 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أهداف سورة الكهف : تقدم في قسم الدراسة المنهجية للتفسير الموضوعي الحديث عن محور السورة وأهدافها، وقلنا هناك إن الدخول إلى تفسير السورة بعد تحديد محورها أو أهدافها يلقي أضواء كاشفة على الروابط بين مقاطع السورة وموضوعاتها كما ذكرنا هناك أن السورة قد يكون لها هدف واحد أو أكثر تدور السورة حوله لإبرازه وتقريره في الأذهان، وقلنا إن بعض السور المتوسطة أو الطويلة قد تتضمن عدة أهداف وتشكل محاور متداخلة لكنها متعاضدة متساندة لا متعارضة متناقضة. وسورة الكهف التي نحن بصدد تفسيرها تفسيرًا موضوعيًا، نرى من اللزام قبل البدء بالتفاصيل أن نحدد أهدافها لتلقي أمامنا أنوارًا كاشفة ونحن نبحث في ثناياها ومقاطعها ومنعطفاتها. لما كانت سورة الكهف سورة مكية فإننا نجد الأهداف الأساسية في السور المكية مقررة تقريرًا واضحًا قيها: - فالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى. - وبيان صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته ووجوب الإيمان برسالته، وبيان أنه بشر يوحى إليه من ربه وأن مهمته البشارة والإنذار. - وكذلك الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر، وذكر مشاهد القيامة، وعرض موقف الحساب والمناقشة والمخاصمة. كل هذه الأسس والدعوة إليها تشغل جيزًا واضحًا من مقاطع السورة وتشكل محاور تدور أحداث السورة ومقاطعها حولها كما ذكرت بشكل مختصر وبإيجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 شديد في افتتاحية السورة وخاتمتها وسنذكر بعض التفاصيل لكل ذلك عند الحديث عن كل مقطع بمفرده إلا أننا اخترنا هدفًا رابعًا غير الثلاثة المذكورة، وجعلناه عنوانًا للبحث في سورة الكهف للاعتبارات التالية: 1- أن سبب النزول كشف لنا، أن الدافع لقريش لإرسال وقد إلى يهود المدينة للتحقق من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الدافع كان ضياع الميزان القيوم الذي يدركون به الحق من الباطل والصدق من الكذب والصحيح من الزيف. وسبب فقدانهم لهذا الميزان انخداعهم بمظاهر كاذبة مخادعة من الحياة الدنيا وجعلها مقياس الحق والصدق والصحة. لقد ظنوا -وساء ظنهم- أن الغنى ووفرة المال والرجال مقياس الأفضلية والسيادة والصلاح لاختيار الرسل وإنزال الوحي عليهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 30-32] . وهذا الغبش في تصوراتهم دفعهم للمطالبة بطرد فقراء المسلمين من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما اقتضى أن ينزل القرآن الكريم لبيان حقائق الأشياء وإعطاء القيم الحقيقية لهذه المظاهر: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7، 8] . {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] . 2- وورد في صحيح مسلم: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال". وفي رواية أخرى عنده "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال". ورواية الإمام أحمد تنص على اكتساب المؤمن نورًا يضيء بين يديه عندما يقرأ سورة الكهف، ولو حاولنا البحث عن سر هذه العصمة وهذا النور الذي يكسبه المؤمن الحافظ أو القارئ لسورة الكهف، لوجدناه يكمن في هذه المبادئ وهذه الحقائق التي اختزلتها افتتاحية السورة وأكدتها الخاتمة وفصلتها المقاطع، فمن وعاها حق الوعي والتزم بها اعتقادًا ومنهج حياة فقد أمسك بالميزان الحق والنور المضيء الذي يفرق به بين الصحيح والسقيم وبالتالي يكون بمنأى عن زيف المخادعين المموهين ولا تؤثر فيه فتنة. إن من يدرك حقيقة ما على الأرض، وأنه خلق ليكون وسيلة إلى غايات نبيلة، وهذه الغايات حددها الوحي المنزل بالكتاب على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي المنزل قد بين مصير المكذبين وأنه العذاب الشديد، وبين مصير المؤمنين بما جاء به الوحي وعملوا بموجبه وأنه الأجر الحسن والخلود الدائم في النعيم وقرر الوحي المنزل أن منهج التلقي ينبغي أن يكون مصدره ربانيًا وأن المناهج الأخرى مبنية على الجهل والكذب ومصيرها إلى النار والشقاء: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 4، 5] . إن من تكون هذه الحقائق ملء جوانحه ونصب عينيه وتكون بين يديه ويقيس بها حقائق المبادئ الواردة والأعمال المعروضة ومناهج الحياة المختلفة، لا شك أنه يكون على نور من ربه وعلى بصيرة من أمره، فيكون في عصمة من جميع الفتن وعلى رأسها فتنة المسيح الدجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 يقول الإمام النووي: قيل سبب ذلك -أي العصمة من الدجال- ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا} الآيات1. فسورة الكهف عرضت أهم الأمور التي تأتي الفتنة من قبلها ففي قصة أصحاب الكهف ذكرت فتنة السلطان، وفي قصة صاحب الجنتين عرضت فتنة المال والرجال، وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام عرضت فتنة العلم -ولو بشكل خاص- وفي قضية ذي القرنين عرضت فتنة الأسباب -والعلم التجريبي التطبيقي- وفي كل ذلك عرضت السورة حقائق هذه الأمور في ضوء المبادئ التي ذكرتها الافتتاحية وقررتها الخاتمة. وهذا ما دفعنا أن نختار هذا العنوان الدقيق للبحث في تفسير السورة الكريمة: "القيم في ضوء سورة الكهف" لقد ألقت السورة الكريمة أضواء كاشفة على كل أسباب الفتن، وأعطت المؤمن الميزان الحق لمعرفة الحقائق من الأباطيل، والصدق من الكذب والصحيح من الزيف. ولا شك أن أول حقيقة عظمى يدركها المؤمن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وثبوت رسالته، وزيف الدعوات المناقضة لها مهما موهت واقعها بالشعارات وزخارف القول.   1 شرح النووي على صحيح مسلم: 6/ 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المناسبات في سورة الكهف أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها ... المناسبات في سورة الكهف: تقدم في قسم الدراسة المنهجية أن لمعرفة المناسبات بين اسم السورة وموضوعاتها وبين افتتاحية السورة وخاتمتها، وبين مقاطع السورة وهدفها، فوائد عظيمة لمعرفة الحكم والأسرار المكنوزة في ثنايا الآيات الكريمة. وسنحاول أن نذكر وجوهًا من هذه المناسبات في كل نوع من الأنواع الثلاثة المتقدمة. أولًا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها لكي نستنبط وجه المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها، لا بد أن يكون اسم السورة توقيفيًا أي ثابتًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم: الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وقد تقدم في الروايات أن السورة تسمى "سورة الكهف" وتسمى "سورة أصحاب الكهف" وفي التسمة الأولى النظر إلى المكان الذي تم اللجوء إليه لحمايتهم من الفتنة التي تعرض لها الفتية فلجئوا إلى مكان حصين عصمهم من الأعين وحفظ عليهم دينهم وعقائدهم. فلو نظرنا إلى هذا الاسم وإلى موضوعات السورة، لوجدنا بين الاسم والموضوعات مناسبة لطيفة إن الموضوعات المعروضة في هذه السورة الكريمة من تدبرها ولجأ إليها كانت له كالكهف الحصين من الفتن جميعها، كما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان الوضع الذي لجأ إليه الفتية كهفًا محسوسًا ملموسًا، فإن الكهف الذي يأوي إليه قارئ هذه السورة كهف معنوي من عناية الله سبحانه وتعالى وحفظه وستره فلا تؤثر فيه الفتن المعروضة ولو كانت مثل قطع الليل المظلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وإذا نظرنا إلى الاسم الآخر للسورة "سورة أصحاب الكهف" نلاحظ أن الأشخاص أصحاب العقيدة الحقة والموقف السديد هم الملاحظون في التسمية. ولو نظرنا إلى هؤلاء الفتية: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 13، 14] . نجدهم يمثلون موقف المتمسكين بالقيم الصحيحة الذين يملكون الميزان الرباني لقياس الأمور بها، الإيمان، الجرأة في الحق، المنطق السليم، الحجة المقنعة، التضرع إلى الله سبحانه وتعالى، اتخاذ الأسباب الظاهرة في مقارعة الباطل. يعقب كل ذلك العناية الربانية بهم وتسخير جزء من الكون لحمايتهم وحفظهم، ثم نصره دعوتهم -ولو بعد حين. إن أصحاب الكهف أنموذج فريد للوقوف في وجه الباطل، وسيرتهم مثال لمن يبتلى ويفتتن في دينه، لذا كانت هذه التسمية أيضًا مناسبة للموضوعات في سورة الكهف حيث تمثل العنصر البشري المفتتن -والله أعلم بمراده وبأسرار كتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها إن المناسبات بين افتتاحية سورة الكهف وخاتمتها كثيرة وواضحة، بل نكاد نقول إن الحقائق التي عرضت في افتتاحية السورة كررت ذاتها بأسلوب آخر في الخاتمة، وفيما يلي نذكر جملة من هذه المناسبات والروابط: 1- جاء في افتتاحية السورة توجيه الحمد المطلق لله، فهو المستحق لهذا الحمد المطلق وحده، وعلة ذلك أنه أنزل هذا الكتاب العظيم على محمد عبده ورسوله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. جاء ذكر هذا الحمد المطلق في أول آية في السورة في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فهو ثناء على الله سبحانه وتعالى لأفعاله، وإرشاد للعباد للتوجه إليه بما يستحق من الذكر والشكر والعبادة. وجاء في خاتمة السورة تخصيص الله سبحانه وتعالى بالعبادة والذكر والشكر وسائر الأعمال الصالحة، وذلك في قوله تعالى: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . فتكون السورة قد افتتحت بذكر الألوهية واختتمت بذكر الربوبية. 2- الوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى: جاء التعبير عنه في افتتاحية السورة بصيغة "أنزل، الكتاب". وجاء التعبير عنه في خاتمة السورة بصيغة "كلمات ربي، يوحي إلي" والكتاب الذي أنزله الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم جزء من الكلمات التي لا تحصى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] . 3- ذكر حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من البشر ومن عباد الله لا يتميز عن سائر البشر بشيء في ظاهره وأسلوب معيشته وما يعتوره من الحوادث والأعراض، إلا أنه يمتاز عنهم بتلك الصلة بالملأ الأعلى عن طريق الوحي. جاء ذلك في افتتاحية السورة في قوله تعالى: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَاب} فالمنزل عليه عبد من عباد الله، إلا أن إنزال الكتاب عليه من ربه جعل له تلك الميزة، وقد جاءت لفتة التكريم والتشريف في إضافة العبد إلى الضمير العائد إلى لفظ الجلالة "عبده"، وفي تقديم الجار والمجرور "على عبده" على الكتاب المنزل، ففي هذا التقديم نوع من التكريم والتشريف. وجاء ذكر حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه من البشر لا يتميز عن غيره بشيء سوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الوحي، جاء صريحًا في خاتمة السورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} . 4- تحديد مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم: وهي ذات شقين: حمل البشارة للمؤمنين المتقين الملتزمين بالهدايات الربانية سلوكًا ومنهج حياة، وهذه البشارة هي الخلود في جنات النعيم. - إنذار المكذبين بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخذين لله أندادًا وشركاء، بالمصير السيئ وهو جهنم وساءت منزلًا ومقيلًا. جاء ذكر المهملة بشقيها في افتتاحية السورة في قوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2، 3] . وفي قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4] . كما جاء بيان المهمة بشقيها في خاتمة السورة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107، 108] 1. وجار الإنذار في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] . وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 106] .   1 من لطائف التعبير القرآني أن البشارة جاءت في الافتتاحية بصيغة الاستقبال "يبشر، يعملون" لأن الدعوة قائمة والمجال مفتوح للعمل في الحال والاستقبال، أما في الخاتمة فقد جاءت بصيغة الماضي، وكأن المصائر قد تقررت واستقر أهل السعادة في النعيم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 5- مصدر التلقي للمعرفة: إن النتائج الصحيحة تترتيب على الأساليب الصحيحة والمنطلقات الصحيحة في التفكير والاستدلال والبرهان. أما إذا كانت المنظلقات الفكرية خاطئة والأساليب ملتوية، فلا شك أن النتائج تكون باطلة. لذا جاءت الإشارة إلى المنهج الصحيح في التلقي في افتتاحية السورة وأنه الوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى على رسله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا} [الكهف: 1، 2] . كما جاءت الإشارة إلى المنهج الخاطئ في التلقي في قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] . فالجهل، وتقليد الآباء على ضلالهم، ولجوءهم إلى الكذب كان منهج المعرفة عندهم فأدى أن يقولوا ما يستحيله العقل وترده الفطر السليمة وتكذبه الحقائق الملموسة وهو قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} حاشاه وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وجاء التنبيه على المنهجين في خاتمة السورة أيضًا. فقد ورد ذكر المنهج الصحيح من خلال الإشارة إلى كلمات الله سبحانه وتعالى والوحي بها إلى عبده ورسوله، ومضمون هذا الوحي: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وجاء ذكر المنهج الخاطئ في تلقي المعرفة في خاتمة السورة في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، أَفَحَسِبَ الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنْعًا} ، [الكهف: 101-104] . إنهم عطلوا وسائل المعرفة، فأعينهم عليها غشاوة، وفي آذانهم وقر فلم يتدبروا آيات الله المبثوثة في الآفاق والأنفس ولم يقرءوا كتاب الله المفتوح لكل ذي بصر ألا وهو مخلوقات الله في هذا الكون الفسيح، وأدى بهم تفكيرهم القاصر إلى ربط الضر والنفع بما بين أيديهم من المخلوقات فاتخذوا العباد أولياء من دون الله، وهم بذلك يظنون -وخاب ظنهم- أنهم يحسنون صنعًا فزين لهم شركاؤهم تكذيب رسل الله والكفر بالبعث عبد الموت، فكانت جهنم لهم نزلًا. 6- القيمة الحقيقية للحياة الدنيا وما يجري فيها: إن من المبادئ الراسخة في العقيدة الإسلامية أن الأرض وما عليها من الكائنات مصيرها الزوال، وأن هذه الحياة على هذا الكوكب حياة مؤقتة، وأن الحكمة من وجودها الابتلاء والاختيار، وأن هذه الحياة مزرعة الآخرة فما زرعه الإنسان في هذه الحياة سيحصد ثماره في الحياة الآخرة. وأن المقصد من متع هذه الحياة جعلها وسيلة للحياة الباقية وأنها إن لم ترتبط بالقيم الصحيحة الباقية زلت واندثرت باندثار ما على الأرض وكانت وبالًا على أصحابها. هذه الحقيقة عرضت عرضًا معجزًا في افتتاحية السورة وخاتمتها ففي الافتتاحية جاءت في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7، 8] . وجاء ذكر مصير ما تعلقت به نفوس أهل الدنيا، وآثروه على كل شيء وجعلوه مقياس التفاضل والتعظيم واحتكموا إلى مقاييسه المادية كل ذلك لم يكن له وزن في ميزان الله يوم القيامة بل انهارت وذهبت أدراج الرياح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] 1. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" 2. إن من قصر همه على دنياه وجعلها أكبر همه ومبلغ علمه فقد خسر الحياة الحقيقية: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . هذه جملة من الحقائق التي وردت في الافتتاحية وفي الخاتمة3 فمن التزم بها عقيدة ومنهج حياة كانت له نورًا يكشف له الطريق وميزانًا يفرق به بين الحق والباطل، ولعل هذا يكشف لنا جانبًا من سر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" وفي رواية: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" والحكمة في ربط أول السورة بآخرها. أن من أدرك حقيقة الدنيا وزينتها، وأدرك المنهج الصحيح في تلقي المعرفة وعلم أن الباقيات الصالحات هي خير ثوابًا وخير أملًا من أدرك كل ذلك لم تفتنه الدنيا -بإذن الله- ولم يضره حطامها الزائل ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى.   1 التعبير بكلمة "حبط" تعبير موح، فأصل الحبوط هو أن تكثر الدابة من العشب حتى ينتفخ بطنها فيقضي عليها، يقول عليه الصلاة والسلام: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم"، فقد أكثر هؤلاء الكفرة المنكرون ليوم البعث من الأعمال الدنيوية؛ مالًا ورجالًا وحطامًا حتى انتفخت نفوسهم بها عجبًا وزهوًا وكبرًا فكان حتفهم في ذلك فحبطت تلك الأعمال، فذهبت هباءً منثورًا، فلا تزن عند الله جناح بعوضة. 2 رواه الترمذي في الزهد: 3/ 384، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في الزهد: 2/ 1377. 3 من الملاحظ أنه لم تذكر تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخاتمة بينما ذكرت في الافتتاحية في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} . والحكمة في ذلك -والله أعلم- لأن القضية انتهت وعرفت المصائر واستقر كل في مآله ومصيره، فلا داعي للتسلية وإعطاء جرعات من الصبر، فلا مجال للانتظار والتربص وقد انتهى كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها ذكرنا في السابق أهداف سورة الكهف واخترنا أحدها لنجعله محور البحث في تفسير السورة موضوعيًا، وقلنا: إن مقاطع السورة تدور حول الهدف لإبرازه وتقريره فما وجه الصلة بين مقاطع سورة الكهف وبين "القيم". وذكرنا في تبرير اختيارنا لعنوان البحث "القيم في ضوء سورة الكهف" أن من أدرك الحقائق التي وردت في سورة الكهف ملك الميزان الذي يفرق به بين الصحيح والسقيم والحق والباطل، ولما كان موضوع إثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته من الأهداف الأساسية ومن المحاور التي تدور حولها السورة، فإن الميزان الذي تدلنا عليه سورة الكهف هو الفيصل الذي نتعرف به على صدق هذه الدعوة وعلى صدق الرسول الذي جاء بها. إذا أدركنا ذلك وحددنا هذا الهدف، سهل علينا الربط بين مقاطع السورة كلها وبين الهدف الذي تبرزه السورة وتقرره. تمثل القصص الأربع التي وردت في سورة الكهف مقاطعها الرئيسية إلى جانب الافتتاحية والخاتمة. وتضمن فاتحة السورة وخاتمتها للقيم الصحيحة التي توزن بها الأمور تقدم الحديث عنه في بحث المناسبات بين الافتتاحية والخاتمة. أما المقاطع الأربعة الأخرى وبالأحرى القصص الأربع في السورة فإنها وثيقة الصلة أيضًا بهدف السورة. - فقصة أصحاب الكهف وكذلك قصة ذي القرنين واضحة الاتصال بهدف السورة لأن القصتين جاءتا إجابة للسؤال الموجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في سبب النزول. - أما قصة صاحب الجنتين فاتصالها بالسؤال أيضًا من زاوية الاستنكار على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قريش في أصل التوجه بالسؤال. وفيما يلي تفصيل ذلك: إن قريشًا لم تكن بحاجة إلى مثل هذا السؤال والاستفسار للتأكد من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد عاش بينهم وليدًا وترعرع في ديارهم شابًا يافعًا ثم كهلًا، وهم أعرف الناس بشئونه كلها، وينبغي أن يكونوا المرجع العدل الذي يرجع إليه الناس في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقيقة برزت على ألسنة بعض زعمائهم في لحظات وعي وتعقل: قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: قال النضر بن الحارث فقال: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم1. كان هذا حديث أحد زعمائهم عن شخص محمد صلى الله عليه وسلم، وكان حدث آخر منهم عن القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم: "والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمغدق أسفله وإنه لمثمر أعلاه، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته وما هو بقول بشر"2. كانت تلك شهادة حق من الوليد بن المغيرة في لحظة صدق مع نفسه. فعلى الرغم من إدراك القوم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته كانوا يحاولون طمس نور الحق بأي وسيلة يتمكنون منها، وكانوا يصرون على موقفهم المعادي   1 سيرة ابن هشام مع حاشية الروض الأنف: 2/ 38. 2 سيرة ابن هشام مع حاشية الروض الأنف: 2/ 12 مع اختلاف في الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ويحاولون تبريره بأي حجة كانت، مهما كانت واهية متناقضة مع مداركهم وقناعاتهم الذاتية، والسبب الدافع لهم إلى كل ذلك هو اختلال موازين القيم عندهم، فقد أعماهم الجاه وحب المال أن ينظروا إلى القيم إلا من خلالها، وهذه القيم الزائفة هي التي حملتهم على طلب إبعاد فقراء المسلمين وضعفائهم من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيلا يراهم الناس يجالسون الأرقاء المستضعفين فيعيروهم بذلك. إن مثل هؤلاء في طمس نور الفطرة في نفوسهم، واستيلاء سكرة المال والجاه على بصائرهم كمثل صاحب الجنتين الذي أعماه الغرور بالمال والجاه وكثرة النشب والأولاد فكفر بربه الذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلًا. فالقصة وثيقة الصلة بموقف قريش الذين أرسلوا إلى اليهود في المدينة ليسألوهم عن شأن محمد ودعوته، ولو كانوا ذوي حكمة وتعقل وفطر سليمة لما تصرفوا مثل هذا التصرف الكاشف عن سفاهة وحقد، فعندهم من أمارات صدق محمد صلى الله عليه وسلم في سيرته وإطلاعهم على رجاحة عقله، وطهارة ذيله واستقامة سلوكه ونبل أخلاقه وعظيم أمانته ما يغنيهم عن الترحال والاستفسار. بالإضافة إلى ملكتهم البيانية في إدراك فصاحة الكلم وبلاغته فهم أمراء البيان ومنهم خطباء المحافل وشعراء المواسم، فبإمكانهم أن يدركوا حقيقة القرآن وأنه ليس من قول البشر. - أما قصة موسى والخضر عليهما السلام، فلها صلة وثيقة بالهدف أيضًا، فهو توبيخ وتأنيب لليهود الذين يشكلون الطرف الثاني في اختبار صدق محمد صلى الله عليه وسلم. لقد لقنت اليهود وفد قريش أسئلة تاريخية وعلمية لاختبار صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء من دعوة الحق. والأسئلة التعجيزية لا تكون الوسيلة المثلى دائمًا للتعرف على الحقيقة. كان الأليق باليهود -وهم أهل الكتاب الأول، ولديهم من الهدايات والوحي المنزل- أن يتدبروا حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد سؤال الوفد عن دقائق حياته وشأنه -كما فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قيصر الروم عندما سأل أبا سفيان عنه-1، وكان عليهم أن يتدبروا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدايات ويقارنوها بما عندهم -كما فعل النجاشي رضي الله عنه-2 ليحكموا بعد ذلك على الدعوة وصاحبها، هاتان الوسيلتان هما المنهج الصحيح الذي كان على اليهود أن يسلكوه. أما مثل هذه المعلومات الغيبية فإن الجهل بها ليس دليلًا على عدم صدق المسئول، فهذا موسى عليه السلام، وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل قاطبة ومن أولي العزم من الرسل، ومجال افتخار اليهود جميعًا قد جهل أمورًا ثلاثة في رحلته مع الخضر عليه السلام، ولم يؤثر ذلك في مكانته عند بني إسرائيل ولا من أذهان المسلمين، ولم يقل أحد إن جهله بها قد أثر على صدقه في نبوته، ومقامه عند ربه. فلماذا تجعلون -معشر اليهود- مثل هذه الاستفسارات وسيلة تشكيك في دعوة الحق التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. ولئن لجأت قريش إلى مثل هذا الموقف لأن الموازين مختلة عندهم وليسوا أهل علم وكتاب سماوي، وقد انطمست أنوار الفطرة لديهم فإن لديكم مقاييس الوحي السماوي -مما لم تطاوله أيديكم بالتحريف والتشويه- وبواسطتها يمكنكم تقويم الدعوات والمواقف والأشخاص وإدراك الصادق من غيره. ومن هذا الجانب أيضًا نجد أن قصة موسى والخضر عليهما السلام وثيقة الصلة بهدف سورة الكهف، وبالقيم الصحيحة التي اشتملت عليها، وبالموازين المختلفة والقيم الزائفة التي تبناها المنحرفون والمفسدون. فكل القصص الأربع -التي تشكل المقاطع الأساسية في السورة- توجه الأنظار إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه دعوة الحق، وتبرز القيم الصحيحة التي تتخذ موازين لتمييز الحق والصدق والصواب من غيرها. لقد اشتملت القصص الأربع في سورة الكهف أسباب الفتن الأساسية في الحياة الدنيا؛ فتنة السلطان، والمال، والعلم، والأسباب.   1 انظر تفصيل ذلك في صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي: 1/5. 2 انظر تفصيل ذلك في: السيرة النبوية لابن هشام مع حاشية الروض الأنف: 2/ 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ولهذا كانت قراءة سورة الكهف نورًا كاشفًا وعلاجًا ناجحا للفتن جميعها، فإن قيم هذه الأشياء إذا أدركت في ضوء الإيمان بالله واليوم الآخر، علم المؤمن أنها قيم مموهة داجلة ما لم ترتبط بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ورجاء مثوبته يوم القيامة. فكانت تمثل القيم الحقيقية في سورة الكهف عقيدة وسلوكًا عصمة من أنواع الدجل كلها، وعلى رأسها فتنة المسيح الدجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 افتتاحية سورة الكهف الموضوعات الأساسية في الافتتاحية ... افتتاحية سورة الكهف: بسم الله الرحمن الرحيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 1-8] . الموضوعات الأساسية في الافتتاحية: يمكن القول إن افتتاحية سورة الكهف أجملت الأسس والموازين التي تقوم بها المفاهيم والتصرفات والسلوك الإنساني. فقد جاءت الافتتاحية متضمنة للحقائق الأساسية التي ينبغي وضعها نصب الأعين عند البحث والمقارنة والتقويم، وقد جاءت هذه الحقائق مجملة في منتهى الوضوح والفصاحة والإعجاز: فالحقيقة الأولى: توجيه الثناء المطلق لله رب العالمين، لأنه المستحق على وجه الكمال هذا الحمد والثناء، ولأنه أنعم على البشرية بالنعمة التي لا تضاهيها نعمة، وهي الحياة الحقيقية المميزة لهم عن سائر المخلوقات، هذه النعمة هي نعمة الوحي، لإخراج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الناس من الظلمات إلى النور {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} . الحقيقة الثانية: الوحي المنزل على عبد الله ورسوله، الذي احتواه "الكتاب" له مزايا ثلاث: الميزة الأولى: في كونه منزلًا من عند الله سبحانه وتعالى، والمنزل يأخذ شرفه ومجده من الذي أنزله، فإذا كان المنزل هو خالق السماوات والأرض ومبدعهما، الذي بيده الملك والأمر وإليه المصير، فلا شك أن هذا المنزل، فيه من أوصاف العزة والتمجيد والتقديس ما يليق بجانب منزله. وهذه المزية إضافية خارجة عن ذات الكتاب المنزل. أما المزيتان الأخريان فهما ذاتيتان: فالمزية الذاتية الأولى: كونه مستقيمًا في حد ذاته، فالاستقامة في هداياته الاستقامة في منهجه في تثقيف الفكر والسلوك، الاستقامة في موازينه وضوابطه التي يضبط بها السلوك والمشاعر والأفكار، فيبين الحق منها عن الزيف والتمويه والخداع وإلى كل ذلك الإشارة في قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 1. والمزية الذاتية الثانية: كامنة في قوله تعالى: {قَيِّمًا} ، فهذا الكتاب المنزل له القوامة على ما سواه من الكتب السابقة، فيصدق ما فيها من الحق والصواب، وبين التحريف والتنوير الذي أدخل فيها أتباعها كما جاء في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] . كما أن لهذا الكتاب القوامة على الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. ومن استقامة هذا الكتاب وقوامته استمدت هذه الأمة القوامة على غيرها، لأن القرآن الكريم أنشأها على الاستقامة في ذاتها فاستحقت القوامة على غيرها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ   1 من أسرار التعبير المعجز ورود كلمة "له" بدل فيه، لأن "له" تفيد عدم قابليته العوج أصلًا، أما نفي أن يكون العوج فيه، فلا ينفي القابلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] . يقول الفخر الرازي: إن قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا} في وصف القرآن مثل قوله تعالى في سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ، فليس فيه عوج ولا شك، ولا ريب فيه، وهو مقوم لغيره، مهيمن عليه، يقيمه على الجادة الصحيحة بهداياته1. الحقيقة الثالثة: الرسول الذي أنزل عليه الكتاب: فهو عبد من عباد الله المصطفين الأخيار المختصمين الذين أراد الله لهم الكرامة باختيارهم لحمل الرسالة، فهو عبد بشر كغيره2. إلا أن الله اصطفاه بالوحي وجعله يتميز بنوع من الخاصية على غيره فهو على صلة بالملأ الأعلى، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} .   1 مفاتيح الغيب للفخر الرازي: 21/ 75 باختصار. 2 جاءت الإشارة إلى تكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشريفه في الآية بأسلوبين: أولهما: تقديم الجار والمجرور على المفعول به، وفي ذلك تنبيه على أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم واضح لقريش، فلا يستدعي سؤال اليهود عن بينات صدقه. ثانيهما: إضافته إلى ذاته، وتكرر في القرآن الكريم تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من رسل الله بلقب العبودية، وإضافتها إلى ضمير لفظ الجلالة، جاء ذلك في سورة الإسراء في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] . وفي سورة النجم: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] . وكلا المقامين مقام تكريم وتشريف، وفي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] . وهو مقام تأييد ونصرة وذلك لأن مقام العبودية الحقة لله تعالى أعلى منزلة يصل إليها الإنسان لأنه بها يحقق الغاية التي خلق من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ومن الجوانب المتعلقة بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الافتتاحية تحديد مهمته وحصرها في: الإنذار والبشارة. الإنذار لمن تقول الكذب والافتراء على الله سبحانه وتعالى، تقليدًا لآبائهم، وهذه الفرية ناتجة عن جهل عقولهم، وغفلة قلوبهم وطمس بصائرهم. أما البشارة فهي للمؤمنين1 بالغيب، بالمثل والقيم التي أنزلها بالوحي على رسوله. الحقيقة الرابعة: المسئولية والحساب والأجر: إن من مستلزمات الإيمان الالتزام بالسلوكيات التي يفرضها الإيمان فإن من بدهيات العقل، أن لكل عقيدة يعتقدها الإنسان سلوكًا ينبثق عنها، وأخلاقًا تظهر على معتنقي هذه العقيدة، لذا كان من الطبيعي عند العقلاء أيضًا أن يربطوا بين المظاهر السلوكية والعقائد التي يتبناها الناس. ولما لم يخلق الإنسان عبثًا، فلا بد من رجوعه إلى خالقه ليكافئ المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] فلا بد من المثوبة والأجر الحسن اللائق بصاحب الإيمان والعمل الصالح، والخلود الدائم غير المنقطع في جنات عرضها السماوات والأرض. ومن الملاحظ هذا التأكيد في الخلود {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} وفي ذلك تطمين كبير، لأن من أهم منغصات الشهوات والملذات لأهل الدنيا هو تحققهم من زوالها عنهم، أو زوالهم عنها مهما امتد بهم العمر. وبالمقابل فإن المسئولية والجزاء لهؤلاء المفترين الكاذبين الذين نسبوا إلى   1 لم يرد مع كلمة "المؤمنين" الجار والمجرور، والأصل أن يقال: المؤمنين بكذا، وفي ترك ذلك تعميم بحيث ينصرف الذهن إلى كل محتمل في هذا الصدد، وهو أسلوب مطرد في القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الله أعظم فرية، فعليهم أن يتوقعوا البأس الشديد في عقوبتهم بحيث تكافئ ضخامة الكلمة الكاذبة التي تفوهوا بها. الحقيقة الخامسة: العلم المبني على تعاليم الوحي يوصل إلى القيم الثابتة، وينهج المنهج الذي يوصله إلى النتائج الصحيحة المبينة على العقل. والجهل يؤدي إلى التمسك بالمألوفات والعادات الموروثة والتشبث بالتقاليد ولو خالفت المنهج السليم في التفكير والاستدلال، بل يحمل الجهل صاحبه إلى قبول مفتريات لا أصل لها على الإطلاق. كما قبل هؤلاء الجاهلون نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا1 {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} . الذين اتخذوا مع الله شركاء وجعلوا له ولدًا فئة من اليهود والنصارى حيث قالوا ذلك كما أخبر عنهم القرآن الكريم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ   1 من الأمور اللافتة للنظر التعظيم من شأن هذه الفرية -نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى أو اتخاذ الشريك معه- في السور الثلاث المتتابعة: ففي الإسراء قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] ، وفي سورة الكهف في أولها قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} . وفي آخر السورة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . وفي سورة مريم قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88-93] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] كما قال المشركون من العرب عن الملائكة، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 15- 17] . الحقيقة السادسة: إن الحياة الدنيا بمباهجها وزينتها وأموالها وطاقاتها {مَا عَلَى الْأَرْض} الهدف من خلقها وإيجادها هو ابتلاء البشر، ومآلها الزوال والفناء فمن أحسن التصرف فيها وربطها بالحقائق الباقية الخالدة وسخرها للعمل الصالح فقد فاز {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] . أما من جعل هذه الحياة الدنيا مبلغ علمه وغاية مقصده، فقد سقط في الفتنة وخسر خسرانًا مبينًا. فلا يستحق من لم يرفع لدعوة الحق رأسه، الحسرة والتأسف عليه فمن ربط نفسه ومصيره بمصير الدنيا وجعلها دائرة اهتمامه، فقد أضاع نفسه، ومن لم يرحم نفسه فلا راحم له. وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يهمه أمر القوم وتكاد تذهب نفسه حسرات عليهم، كما قال تعالى في موضع آخر مسليًا رسوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] . وهذا الشعور من كمال شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فهو الأخذ بحجزهم من النار1. إلا أن حكمة الله سبحانه وتعالى جرت بترك الخيار للمكلفين لتتحقق.   1 جاءت تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في افتتاحية السورتين "الكهف والشعراء" بتعبير "لعل، باخع" وأصل لعل للترجي، وتفيد الإشفاق والحث على ترك التحزن والتأسف. وأصل البخع، للأرض التي تتوالى زراعتها فتضعف بسبب متابعة الزراعة. وقال الزمخشري: البخع أن يبلغ الذبح البخاع وهو عرق مستبطن القفا، وهي كناية عن الهلاك. واستشكله ابن الأثير. انظر: أساس البلاغة للزمخشري: 16، والفائق في غريب الحديث للزمخشري: 1/ 82، وانظر: النهاية لابن الأثير: 1/ 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الحكمة من الابتلاء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] . وما ورد في افتتاحية الكهف من التسلية شبيه بما جاء في افتتاحية سورة الشعراء في قوله تعالى: {طسم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 1-4] . هذه جملة الحقائق الأساسية في افتتاحية الكهف، وقد وجدنا في مبحث المناسبات في سورة الكهف تكرر ذلك في الخاتمة أيضًا. وسنرى أن المقاطع اللاحقة جاءت لتفصيل هذه الحقائق وتقريرها وضرب الأمثلة عليها مما يزيدها وضوحًا وتقريرًا وبيانًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين مدخل ... المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 إِذًا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا، وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الآيات من 9-27] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بين يدي قصص سورة الكهف : قبل البدء بعرض قصة أصحاب الكهف والتعليق عليها يحسن بنا أن نذكر بعض المزايا للقصص القرآني عامة ولقصص سورة الكهف خاصة. 1- القصص القرآني تربوي في المقام الأول، يعالج المشاكل والأفكار والمواقع علاجًا معينًا على ضوء المبادئ الإسلامية والأحكام الشرعية في قالب فني جمالي، لتعميق المفاهيم التي يراد غرسها في النفس الإنسانية. أو لاجتثاث جذور الأفكار السيئة التي يريد الإسلام تزكية النفس منها. - فمثلًا عندما تعرض قضية الطاعة والامتثال والتضحية من خلال قصة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، تكون أوقع في النفس وأشد أثرًا. - وكذلك آداب طلب العلم من خلال قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف. - وعندما تعالج قضية الشح والبخل في النفس من خلال قصة أصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الجنة في سورة "ن"، تكون أوعى للاعتبار والاتعاظ. وكذلك مرض الغرور والبطر من خلال قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف ولم يترك القرآن الكريم جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية إلا وأورد فيه القصص التربوي على طريقته الخاصة ومن الزوايا الإنسانية العامة. فساق نماذج بشرية تمثل الفطرة المهتدية، وأخرى تمثل الفطرة المنحرفة، وحتى الجانب الذي قد يخطر لنا أن القرآن لم يتعرض له وهو جانب "الحب والمرأة" فقد تناولها القرآن الكريم، ولكن -كما قلنا- على طريقته التربوية الخاصة. يعرض القرآن نماذج إنسانية منحرفة في سلوكها ومعتقداتها، إلا أن الأسلوب القرآني في ذلك يجعل هذه الانحرافات في حجمها الطبيعي ولا يجعل منها أبطالًا، ويعرض انحرافاتها بشكل خاطف بعد أن يقدم لها بما يحقر من شأن أصحابها، ثم يعقب عليها بإبراز الهدايات الربانية في ذلك مما يحجم الانحراف ويزيل أثره من ذهن القارئ مباشرة، وخير نموذج لمثل هذا قصة امرأة العزيز ومراودتها ليوسف عليه السلام، هذا هو الأسلوب القرآني في عرض هذه النماذج البشرية. أما الأساليب الجاهلية المعاصرة فإنها تعرض سيرة هذه النماذج بتفصيل كامل وفي صور مشرقة زاهية وتجعل منها أبطالًا تسلط عليهم الأضواء حتى إذا حفرت في النفس أخاديد من آثارها وتعلقت النفوس بسيرتهم، جاءت التعقيبات الهزيلة، فلا تغير من الأثر شيئًا، ولا تزيل من المعالم والبصمات إلا أخفها. هذا الجانب التربوي كما هو ملاحظ في القصص التاريخي، فإنه ملاحظ أيضًا في القصص الواقعي "الحاضر". ونقصد به القصص التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، أو القصص التي تعرض أحداثًا تتعلق بالحالة التي كانت فيها الفئة المؤمنة. والغرض التربوي منها تقديم المسيرة، وتوضيح الرؤية أمام الجماعة المؤمنة خلال سير الحياة ونشر الدعوة إلى الله، هذا من جانب، ومن جانب آخر التسلية والتخفيف عما يعتور الدعاة إلى الله ويحدث لهم أثناء المسيرة الجهادية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 حياتهم: إن أحداث قصة بدر في سورة الأنفال، وأحد من آل عمران والخندق في الأحزاب، والإفك في النور، والحديبية في الفتح، وحنين في التوبة ... معالم بارزة في حياة الدعاة إلى الله لأخذ العظات والعبر إلى يوم القيامة. 2- القصص القرآني يهمل عن قصد في حالات كثيرة؛ الناحية الزمنية، والمكانية، وأحيانًا أسماء الأشخاص -أبطال القصة. كما نجد ذلك في قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة ذي القرنين وذلك لأن الهدف الهام من سوق القصة أخذ العبرة والعظة وترسيخ الفكرة المعينة من خلال أحداث القصة، فينبغي أن يركز الفكر وتثار المشاعر وتوجه العواطف حول الغرض منها. وصرف الاهتمامات إلى أي عنصر آخر في القصة تبديد للطاقات العقلية والملكات النفسية وصرفها عن التفاعل مع الغرض الأساسي الذي سيقت القصة من أجله. 3- القصص القرآني كلها حقائق وقعت أحداثها؛ ولئن عجز الجهد البشري عن إدراك تفصيلات هذه الوقائع، وتحديد زمانها ومكانها أو أشخاصها بوسائله القاصرة من كتابات وآثار ... فليس ذلك حجة لمن يزعم أنها قصص تمثيلي أو تخييلي. وسواء ذكرت هذه القصص في كتب أهل الكتاب أو لم ترد، فلا تأثير لكل ذلك على الحقائق والأحداث التي ذكرها القرآن الكريم. فلو عجز علم الآثار عن تحديد موقع الكهف أو المناطق التي تغلب عليها ذو القرنين وأخضعها لحكم الله أو عجز عن التعرف على مكان إيقاد النار على إبراهيم عليه السلام، فلا يؤثر ذلك على الحقيقة شيئًا. وقد جعل القرآن الكريم سرد هذه القصص دليلًا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] . كما جعله وسيلة لتثبيت قلب رسوله ومن ورائه الدعاة إلى الله خلال العصور {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120] . 4- يهدف القرآن الكريم أن يقدم للفئة المؤمنة -من خلال قصصه- تجارب البشرية وخبرتها من خلال عرض هذه النماذج المختلفة من السمو الفكري والروحي والصفات الخلقية النبيلة. والتعرف على سنن الله في الدعوات والحضارات والابتلاء والمحن والاعتبار بمصير النماذج المنحطة المسفة. إن قصة فرعون وقارون والسامري تعطي صورًا منفرة من طريقة تفكيرهم وأسلوب تعاملهم مع غيرهم، وموقف الكفر والجحود الذي وقفوه من خالفهم ورازقهم، ثم المصير التعيس البئيس الذي صاروا إليه. أما قصة إبراهيم وإسماعيل وموسى وأصحاب الكهف وذي القرنين فكلها قصص مشرفة تزكي في النفوس الرغبة في الخير، والتضحية من أجل المثل العليا، والخشوع والتضرع لخالق السماوات والأرض. إن القصص القرآني عرض بأساليب معينة ووزع على السور توزيعًا خاصًا بين إيجاز وإطناب، وكل منها منسجم مع أهداف السورة الأساسية ولا ينفصل أسلوب القصة عن أجواء السورة وأغراضها، ومن هنا كانت الحكمة في عدم تكرار القضية الواحدة في السورة الواحدة. لذا ينبغي دراسة القصة حسب أسلوب العرض في السورة، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في القسم المنهجي من التفسير الموضوعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين : تمثل هذه القصة جانبًا من الحياة البشرية ومشهدًا يتكرر عند وجود العقيدة الصحيحة في مجتمع ما، مهما كان وضع هذه العقيدة قوة أوضعفًا، ففي حال قوتها يكون السواد الأعظم من الناس يتحلون بها، ولا توجد مظاهر تلفت النظر. أما في حال ضعف أصحاب العقيدة الصحيحة وقلتهم، فإن هذا النموذج يبرز، ولعل أبسط صورة لها ما ورد في قصة هؤلاء الفتية. - إن المجتمع جاهلي وثني، ولا يتعرف إلا على القوة والثورة والمتع والشهوات والحكم الجائز يفرض نفسه، وقد ألقى بثقله على الناس، فلا يستطيعون النظر إلا من خلاله، ولا التنفس إلا برئتيه، ولا الإطعام إلا من يديه. تحف المظاهر الكاذبة بأبهة السلطة، والمنافقون المتزلفون يرتعون في الملذات من خلال تزيين الباطل للحاكم المستبد. فالناس الماديون أصحاب المصالح ينظرون من خلال الواقع، والواقع يصور أمامهم كما يلي: - لا شبع من غير طعام، ولا طعام من غير مال، ولا مال إلا عند الدولة. - ولا شرف ولا سمعة ولا جاه إلا بالوظيفة، ولا وظيفة إلا عند الدولة. - ولا هدوء ولا سلامة إلا بمسايرة الناس وموافقة المجتمع، ولا موافقة إلا باتباع العقيدة السائدة والرأي العام المسيطر1. هذه منطلقات الفلسفة المستندة على الأسباب والمسببات، وهي القيم التي يحتكمون إليها. ولكن شعلة الإيمان إذا اتقدت في النفوس، وبدأت تنير القلب والفكر والجوارح، وتقطع أواصر الثقل الأرضي وتسمو بالروح وتبلغ الشفافية بالمؤمن أن   1 انظر تأملات في سورة الكهف لأبي الحسن الندوي: 52 بتصرف واختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ينظر بنور الله إلى ما وراء الأسباب، وأن يدرك أن هذه الأسباب قد وضعها خالق الكون ومدبره، وأن مصير الأشياء بيديه وأنه يقول للشيء كن فيكون. إن جذوة ايمان هذه لها منطلقات خاصة ولها حساباتها المتفردة وتطلعاتها المستقلة، إنه يترفع عن متع الدنيا وشهواتها، وينظر إليها بعين الازدراء والاحتقار، وتسمو نفسه وروحه إلى الدار الباقية فهو لا يرضى الخنوع والاستسلام لجبروت السلطة مهما كان طغيانها، ولا لضغوط المجتمع وفلسفته مهما بلغ ثقلها، يقوم في وجه الظلم ليعلن كلمة التوحيد وأن لا إله إلا الله الذي خلق السماوات والأرض الذي بيده الأمر وإليه المرجع والمآب، وأن لا حكم إلا لمدبر الكون وواضع سننه وأقواته وخواصه ولا طاعة لمن تنكب شرعه ودستوره في الحياة. والمؤمن بقيامه هذا في وجه الطغيان يلتزم العقل والحكمة، فيدعو الناس إلى التدبر والتفكر فيما حولهم من الكائنات ليتعرفوا على الخالق المعبود بحق، ويدعو الخصوم إلى مقارعة الحجة بالحجة وإلى التحاكم إلى البرهان وإلى العقل والمنطق {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} . لقد حقق هؤلاء من جانبهم مقومات تنزل النصر عليهم والاستجابة لدعائهم {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِم} والفتوة والقوة الجسدية مطلوبة في الصراع مع الباطل ومقارعة أهله. والإيمان هو السلاح الماضي الذي يصول به الداعية ويجول، ويلقي به على الباطل فإذا هو زاهق. إن سنة الله في نصر الدعوات تكمن في كون منطلقات حاملها، سليمة، وأن يكونوا فئة متميزة تسموا إلى أفق الدعوة وتضحي في سبيلها بغض النظر عن العدد والكثرة. وهذا ما جرى للفتية المؤمنين فقد قابل رب السماوات والأرض صنعهم بفضل منه ورحمة عظيمتين، فربط على قلوبهم فأخرج منها الخوف والحيرة والاضطراب، وملأها شجاعة وسكينة وقوة ويقينًا وانشراحًا وسرورًا وزادهم إيمانًا على إيمانهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ورضى وتسليمًا بقضاء الله وقدره {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} . وإذا توافرت هذه المقومات في الإنسان: الفتوة والإيمان ورباطه الجأش ومضاء العزيمة، لا يستقر لهذا الإنسان قرار بل لا بد من مصارعة الباطل، والوقوف في وجهه، وهذا ما كان من أمر الفتية {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وفي خضم هذه المشاعر النبيلة والعواطف المتأججة بنور الإيمان، يهتدون إلى رأي، أن يخرجوا مجتمعين إلى الغار، ليعتزلوا المجتمع الجاهلي ماديًا بعد أن اعتزلوه شعوريًا، وليفكروا بروية في الأسلوب الأنجح لمقارعة الباطل فإن لم يستطيعوا مقارعته وجهًا لوجه، فبإمكانهم أن يضربوا في أرض الله الواسعة ويهاجروا في سبيل الله {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] . إذ العزلة الشعورية واجبة دائمًا فلا يجوز مطلقًا موادة من حاد الله ورسوله مهما كانت درجة قرابته ومكانته. ولا يجوز مهادنة الجاهلية وأهلها سواء كانت الغلبة لهم أو لنا. أما العزلة المادية الجسدية فإن لها شروطًا ولعل من أهمها كما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا يجد المرء على الحق أعوانًا، وأن يرى شحًا مطاعًا وهوى متبعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه1، وأن لا تكون للمسلمين جماعة، عندئذ جازت العزلة الجسدية والانصراف إلى خويصة النفس وترك أمر العامة. روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع به شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" 2.   1 من حديث رواه الترمذي في كتاب التفسير 4/ 323، وقال عنه: هذا حديث حسن غريب. 2 انظر صحيح البخاري كتاب الإيمان 1/ 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وبينما كان الفتية في طريقهم إلى الكهف وهم منهمكون في ما هم عليه من حال وما سيكون عليه العمل والمآل، كانت عناية الله وإرادته تهيئ لهم شيئًا أعظم من ذلك لتكفيهم مؤنة الجهد والمشقة، فما أن وصلوا إلى الكهف حتى ضرب على آذانهم فيه سنين عددًا، وهيأت لهم مكان إقامة تتوافر فيه الشروط الصحية الملائمة من شمس وتهوية وبعد عن القتم، وتوقفت عقارب الزمن بالنسبة لهم داخل كهفهم، إلا أنها بقيت دائرة خارجه، واستمرت عجلة الحياة على مشيئة الله، وكان انتصار الإيمان ودخول الناس في الإسلام، وتغيرت الأحوال، وحل الأمن والأمان مكان الظلم والطغيان، فأذن الله عز وجل بانبعاثهم، لكي يظهر آثار إكرامه للفتية، وليقيم في نفس الوقت الحجة على من زعم أن البعث يوم القيامة بالأرواح لا بالأبدان، فأخرج الله سبحانه وتعالى هؤلاء الفتية وبعثهم من رقادهم، وأعثر عليهم ليكونوا أنموذجًا محسوسًا لقدرة الخالق على الإحياء بعد الموت، فكما حفظ على هؤلاء أجسادهم من البلى وأعاد إليها الروح بعد اندثار الأجيال المتعاقبة، فإنه قادر على أن يجمع شتات الأبدان ورميمها، ويعيد إليها الروح يوم الحساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 العرض التحليلي للقصة: - أسلوب عرض قصة أصحاب الكهف: طريقة التلخيص والإجمال أولًا، ثم العرض المفصل آخرًا، وعرض مشاهد من القصة ثم ترك فجوات بين المشاهد تعرف من السياق. - كما تذكر القصة جوانب أساسية في أبطال القصة، وتعرض عن جوانب أخرى لأنها غير ذات جدوى. فهم فتية آمنوا، وتمردوا على الظلم والطغيان، وآواهم الكهف، بعد لجوئهم إلى كنف بارئهم ليجعل لهم من أمرهم رشدًا. - ولقد أهمل الأسلوب القرآني اسم الحاكم الذي خرجوا عليه، وأعلنوا رفضهم لظلمه، فليس بذي شأن، لأن الجبابرة المتألهون والطغاة المتسلطون كثير في كل زمان ومكان، فليست العبرة بالأشخاص وإنما بالفعل السيئ الذي يدفعهم إلى ذلك والأثر الذي يتركونه بين الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 - ولم تتعرض الآيات الكريمة إلى الطبقة التي ينتمى إليها الفتية، وكيف اجتمعوا على هذه الفكرة. - وكيف تم خروجهم عن أي طريق وعلى أي حال، وكم كان عددهم وما بال الكلب الذي رافقهم. - وعند السرد التفصيلي للقصة نجده ينصب على جوانب العقيدة والمعاني الأساسية وتهمل ما سواها. - فهم فتية جمعهم الإيمان بالله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} . - وتتداركهم رحمة الله سبحانه وتعالى وعنايته، {وَزِدْنَاهُمْ هُدى} . - ولأنهم فتية ليست لهم تلك التجارب العريقة في مواجهة الشدائد يتداركهم لطف الله {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِم} . - فنتج من هذا الربط على القلوب الثبات والرسوخ والاطمئنان والعزيمة الصادقة والاعتزاز بالإيمان {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} . - ثم الالتفات إلى ما حولهم وهم ينظرون بنور البصيرة إلى هذا الظلام المخيم على القوم، وهذا الجهل والغي الذي هم فيه سادرون، فيستنكرون ذلك عليهم، لماذا لا يحتكمون إلى العقل الذي وهبهم إياه خالقهم، ولماذا لا يبحثون عن دليل على ما هم فيه {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} . ويأتي الفاصل في العرض، وكأن الستار قد أسدل على المشهد الأول وقد توجه الفتية إلى الكهف. ثم يفتح الستار على المشهد الثاني، وقد ضرب على آذان الفتية في الكهف1، وتوقفت عوامل الزمن بالنسبة لهم، إلا أن دولات الكون لم يسكن وقد   1 الكهف: النقب المتسع في الجبل، فإن لم يكن واسعًا فهو غار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 سخر جانب من آله الكون لصيانة الفتية وكهفهم فالشمس قد شغلت بهم عن الدنيا كلها وكأن مدار فلكها حول هذا الكهف وحده، فكأنها حانية عليهم ترعاهم في الصباح والمساء {إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} . أما موقفهم، {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْه} فمتسع من داخل الكهف، وفي ذلك عون على حفظ أجسادهم على حالة صحية بعيدة عن العفونة والرطوبة. إنها آيات ربانية عظيمة تحيط بهؤلاء الفتية الكرام على الله وتهيئ لهم الأسباب وتسخر لهم السنن الكونية {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} . ولقد توجت هذه الآيات العظيمة بآية أعظم وهي إضفاء الحماية المعنوية عليهم بإلقاء الرعب في قلب كل من اطلع عليهم أو حاول الاقتراب منهم {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} . - ولم تحدثنا الآيات الكريمة عن الوقت الذي قضوه في الكهف قبل نومهم. - ولا عن تصرفاتهم التي قاموا بها، والتدابير التي فكروا فيها، هل يعودون إلى قومهم ليبينوا لهم الطريق، أو يضربوا في الأرض فرارًا بدينهم. - وهل كان معهم كتاب يدرسون فيه ويتعلمون أمور دينهم، فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بالرقيم: الكتاب الذي كانوا يحملونه معهم للمدارسة {كِتَابٌ مَرْقُوم} ، وقال آخرون: إنه اللوح الذي وضع على بابهم فيما بعد. ولا بد أن طعامهم الذي حملوه معهم قد نفذ قبل نومهم، لذا لم يستغربوا أن لم يكن معهم زاد. وفجأة تدب الحركة في المشهد الثالث. {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ} . إن أسلوب الحوار بين بعضهم، واختيار الكلمات المعبرة تلقي في النفس الشعور بالتثاقل من أثر النوم الطويل {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} . إن تكرار حرف الثاء في هذا المشهد الذي يصف استيقاظهم لها إيحاءات مشعرة بهذا التثاقل "بعثناهم، كم لبثتم، لبثنا، بما لبثتم، فابعثوا" ثم عدم الوقوف طويلًا عند البحث عن المدة التي استغرق نومهم فيها، شأن المستيقظ من نوم ثقيل، لا يستطيع تركيز فكرة على شيء معين، وإنما يصرف ذهنه إلى الشيء الملح الذي يلاحقه وهو الشعور بالجوع والحاجة إلى تناول شيء من الطعام، ولكن لا زاد معهم، فليدبروا أمر نزول أحدهم إلى المدينة لشراء الطعام. وبعد التوصية بأخذ الحيطة والحذر لئلا ينكشف أمرهم، ويقعوا في قبضة زبانية الطاغية {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} ، يسدل الستار على المشهد الثالث، والمشاهدون يمسكون أنفاسهم وهم ينتظرون المفاجأة في طريقة التعرف على الفتى الذي يريد دخول المدينة على حين غفلة من أهلها. ويترك للسامع والقارئ أن يتخيل الصور والأشكال التي يمكن أن يتعرف بها أهل المدينة المؤمنين، ومدى الدهشة من الفتى وزملائه من هذا الانقلاب الجذري الهائل، فسبحان محول الأحوال، لقد زالت دولة الظلم والطغيان وولت جحافل الكفر والضلال، وأشرق على المدينة نور الإيمان. أما الديار فإنها كديارهم ... وأرى رجال الحي غير رجاله فالناس غير الناس، والحال غير الحال، فالمؤمنون آمنون على عقائدهم ومعايشهم والرغبة في الخير سائدة بينهم. ويمر المشهد الرابع كلمح البصر سرعة ووجازة، قد تم التعرف عليهم وتم العثور على بقيتهم، وتتداركهم رحمة الله سبحانه وتعالى مرة أخرى فتلحقهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 بالرفيق الأعلى، فإن بقاءهم على الأرض لم يعد ذا جدوى، والناس غير الذين كانوا يعرفونهم، وقد انقطعت الوشائج وتغيرت العادات والأساليب المعيشية فهم في أعين الناس أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية. {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} . لقد تحققت العظة والعبرة من خروجهم بعد رقودهم فكانوا مثلًا محسوسًا على البعث بعد الموت. ثم يعرض المشهد الخامس والأخير، والناس يتناقشون في أمرين يتعلق بهم: عددهم، والمدة التي لبثوا في الكهف. إن هذه الفجوات من خلال أحداث القصة مقصودة، وهي تضفي جو المشاركة من السامع وتطلعًا إلى التفاصيل. ولو ذكرت الأحداث الجزئية لتبلد حسه ولتلقي الأحداث بخمول ذهن وبروده مشاعر. وتنتهي القصة في المشهد الخامس بعرض صورة المتجادلين، ومقولة الحق في ذلك وفي المدة التي قضوها في الكهف. وبالتوجيه الرباني بأن يلتجئ العباد إلى فاطر السماوات والأرض فكما التجأ أهل الكهف إليه فآواهم وهيأ لهم من أمرهم رشدًا وخلد ذكراهم بين الاتقياء الصالحين. فكذلك يا محمد اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، واتكل على ربك فإنه ملجؤك وملاذك ولن تجد من دونه ملتحدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 تعقيب واستطراد وتعليل : جاء في سبب النزول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للقوم القرشيين -عندما سألوه الأسئلة الثلاثة: "ائتوني أخبركم غدًا"، فلبث الوحي فترة حتى أرجف أهل مكة. وجاء أثناء التعقيب على المجادلين في شأن أهل الكهف -عددهم، ومدة لبثهم: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} . لا شك أن في هذا الإرجاء في الجواب -في هذا الموقف الحرج- إحراجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل من حكمة في هذا الإرجاء؟! إننا نعتقد جازمين أن الحكمة كل الحكمة، والخيرة للمرء فيما اختاره الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، وعلى رأسها الخيار الذي يختاره الله سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله، وقد يظهر لنا وجه الحكمة وقد يخفى، ولكن مشيئة الله وخيرته في ذلك خير وأبقى. ولعل من وجوه الحكمة في هذا الإرجاء ما ندركه في الأمور الثلاثة التالية: أ- جانب تربوي للأمة من خلال هذا الموقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى المؤمن أن يربط كل شيء بمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ولا يغفل عن ذلك، وإن غفل عنه فليذكره في أول سانحة أو خاطرة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت} 1. ب- أن في هذا الإرجاء برهانًا -بصورة غير مباشرة- لقريش على أن محمدًا ليس له من أمر الوحي سوى التلقي والتبليغ، وأنه مكلف بهذه المهمة ومؤاخذ على التقصير فيها، وليس له أن يختلق شيئًا من عند نفسه، أو يبدل شيئًا أو يقدم أو يؤخر أو يكتم، وهذا الجانب أكدته آيات كثيرة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46] . {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15] . وإذا تذكرنا أن أصل الاستفسار وإيراد الأسئلة كان للتحقق من صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة أدركنا أهمية هذا اللون البرهاني من واقع الأحداث   1 لم يأت التنبيه على ذكر المشيئة إلا بعد الإجابة على سؤله، وفي ذلك تكريم لرسوله وإيناس لنفسه، لأن في المبادرة بالنهي توهم الإعراض عن الإجابة، وهذا شأن تعليم الحبيب المكرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ومجريات الأمور، فجو الحادثة والسور والآيات كلها متجهة لإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال أساليبهم وبيان زيف مواقفهم وما يحاولون الوصول إليه من إبطال دعوة النبوة وتبرير مواقفهم الشركية، واطلاعهم على حقيقة ما يعتقدون ويتبنون من قيم. "ج" لو جاء الجواب في الوقت الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، لمرت الحادثة كأي حادثة مرت في العلاقات بين القوم مما كان يجري في العلاقات اليومية. لكن عندما انصب اهتمام قريش على هذه الأسئلة، وكان التحديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان الإرجاء والتأجيل، كما تقول الرواية -حتى أرجف أهل مكة- فقد أصبحت النفوس متشوفة متطلعة، وقد كثرت الأقاويل والإشاعات بين القوم. وهذا أسلوب من أساليب الدعوة لشد الانتباه وإشغال الرأي العام بقضية الدعوة، ثم إذا جاءت الإجابة عند الحاجة الماسة إليها فإنها أوقع في النفس وأشد تأثيرًا. ولعل هذا هو المراد بالإشارة التعقيبية على موضوع المشيئة {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} . فما يأتي من نتائج وثمرات مترتبة على هذا الإرجاء فهو أقرب رشدًا. ولعل مثل هذه اللفتة بعد آيات حادثة الإفك {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وذلك لما يترتب على هذه الحادثة من جوانب تربوية، وإبراز فضل آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات، وآل أبي بكر، وما كشف عن معادن كريمة في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإبرازًا لهذا الجانب ولسوق بعض الفوائد نستطرد إلى ما ذكره القرآن الكريم من أحداث متشابهة كان فيها الإرجاء وعدم تلبية طلب النبي مما حدث ليوسف عليه السلام. ففي قصة يوسف عليه السلام، طلب من الناجي -من صاحبي السجن- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} [يوسف: 42] . حيث كانت نفسه تتشوف إلى الخروج من السجن، وقد كانت الأيام الأولى، أو قل الأشهر الأولى من سجنه، ولنتصور الحالة التي كان عليها بلاط الملك وحاشيته في هذه الآونة: 1- كانت الشائعات التي تموج بها المدينة وأهل البلاط حول امرأة العزيز وفتاه، ومما أجبر الملك -على الرغم من تأكده من براءة يوسف- على أن يزج بيوسف في السجن قطعًا للقيل والقال. فعودة يوسف على الساحة من جديد يلقي بالوقود على النار من جديد ويذكي الشائعات والأراجيف مرة أخرى. 2- امرأة العزيز التي شففها حب يوسف، لئن كانت الصدمة قد صعقتها عندما امتنع يوسف ولم يرضخ لرغبتها الجامحة، إلا أن تعلق القلب به لا يمكن أن يسكن خلال هذه الفترة القصيرة، بل لعلها أعادت شيئًا من معنوياتها المنهارة عندما ِأقامت الحجة على قريناتها من نسوة المدينة، واستلت منهن الاعتراف قسرًا، بأن أي أنثى لو كان مكانها لوقفت مثل هذا الموقف ولحاولت مثل هذه المحاولة وهي كأنثى معذورة في هذه المراودة في منطق الإناث، فإخراج يوسف من السجن مرة أخرى وخلال هذه الفترة القصيرة سيجلعها متوفرة للثأر من كرامتها وإعادة المحاولة مرة أخرى، وستلقي متاعب جديدة في طريق يوسف عليه السلام، الذي يعده ربه سبحانه وتعالى على عينه لمهمة أعظم من ذلك. ليكون أبا الأنبياء، وليتمكن من إحضار آباء الأسباط الذي ستكون منهم أسباط بني إسرائيل. 3- لو خرج يوسف عليه السلام من السجن في هذه المرحلة فلن يشعر به أحد، لعدم الحاجة إليه في هذا الظرف، فهو أحد أفراد الحاشية -وما أكثرهم- والبلاد في بحبوحة من عيشها ورغد من رزقها، أما عندما تكون هنالك بوادر أزمات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية فإن أهل الكفاءات والخبرات في هذه المجالات تتعلق بهم القلوب، ويمكن أن تضحى الجماهير بأرواحها في سبيل الحفاظ على حياتهم، وتبوئهم المكانة السامية الرفيعة، لأنها تنظر إليهم أنهم المنقذون لها في هذه المرحلة، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، وهذا ما كان يهيئه الله سبحانه وتعالى ليوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لقد كان في الأفق بوادر مجاعة طاحنة -ولو بعد سبع سنوات مخصبة- فإن السبع العجاف التي تأكلها سيكون وقتًا عصيبًا إن لم تعد العدة من الآن وإن لم يكن التصرف حكيمًا، ستقع البلاد في مآزق وأزمات قد تثير الناس إلى الثورة والدمار، -والعامة والرعاع لا تسوقهم إلا بطونهم- إذن فالأمر جد، ولا بد من الاستعداد. ويأتي دور يوسف عليه السلام لإملاء شروطه إذن، فبدلًا من أن يكون المعترف بإنعام الملك عليه لإخراجه من السجن -ليضيف رقمًا مهملًا على أرقام الحاشية- يكون الملك هو الراغب الملح في الإفراج عنه: فالشرط الأول: أن يعاد إليه اعتباره، وتظهر براءته للناس جميعًا، وعلى رءوس الأشهاد، ولتكن صاحبة الدعوى أول المقرين والمعترفين، ولتذكر الحقيقة كاملة، {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] . الشرط الثاني: أن يتوجه الملك مع أعيان البلاط بالتأنيب والتوبيخ للمتسببات في هذه الأراجيف حول يوسف، {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] . وبعد أن ازدادت ثقة الملك بيوسف عليه السلام وأدرك قيمته وخبرته وأنه كنز لا يقدر بقيمة من المال ولا يساويه جيش من الرجال. ارتفعت مكانته عنده، وكانت هذه الثقة وهذه المكانة مقدمات لإيجاد القابلية عنده ليكون من أتباع دعوة يوسف عليه السلام، -ولم لا- فهو موطن سره وشوراه، وبطانته التي يعتمد عليها، فربما يكون النبي المرسل الذي يلقنه الهدايات الربانية وكان في الشرائع السابقة من الأمور المعتادة أن يوجد النبي في أمة، ويجود ملك تابع للنبي وشريعته، وبيده السلطة التنفيذية كما ورد ذلك في قصة طالوت1. ولا شك أن كون النبوة ورئاسة الدولة   1 انظر الآيات في سورة البقرة من 246-248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 في يد واحدة أمكن لأمر الرسالة وأقوى لسلطان الدولة، وأدعى لنشر العدالة. وبعد أن تبوأ يوسف عليه السلام هذه المكانة عند الملك ورجال الدولة، وفي قلب الجماهير مما جاء التعبير عنه على لسان الملك {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] ، جاء دور يوسف لإملاء شرطه الثالث والأخير: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] . أفليس الإرجاء كان الأفضل وأن اختيار الله سبحانه وتعالى هو الخيرة وفيه الفلاح والنجاح. {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 56، 57] 1. 4- ولا نغفل أن في هذا الإرجاء في قصة يوسف عليه السلام خاصة، كان لون من ألوان التربية الربانية وبيان سنة في دعوات الله سبحانه وتعالى فإن السجن وما فيه من تذوق مرارة الحرمان، وقطع الاعتماد على الأسباب وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه. إنها مدرسة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى. فهذه الحكمة لا تقل عن الحكم الثلاث الأولى.   1 لفظه التمكين في القرآن الكريم لا تأتي إلا للشيء الذي لا تسعفه الأسباب المادية من الوصول إليها، فيأتي بأسباب وتدابير ربانية غير عادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عظات وعبر : وقبل أن نودع قصة أصحاب الكهف نذكر جملة من العظات والعبر التي لم ترد مناسبة لذكرها في الفقرات السابقة: 1- الفتيان الشباب أسرع استجابة لنداء الحق، وأشد عزمًا وتصميمًا وتضحية في سبيله. 2- صدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى واللجوء إلى كنفه وحسن الظن به من قبل الفتية، قوبل من الله سبحانه وتعالى بما يتناسب مع رحمته الواسعة الشاملة بعباده المخلصين1. "أ" أوجد الطمأنينة في القلوب وربط عليها بالسكينة فأوجد فيها السعة والهدوء والأمان قبل أن يوجد في المحيط الخارجي. "ب" هيأ لهم من أسباب الحماية والدفاع ما تعجز قوى البشر عنه فسخر لهم الشمس، ورفع عن أجسادهم آثار تقلب الليل والنهار واختلاف الأجواء وحماها من الآفات والبلى كما حماها من عبث العابثين. واطلاع الفضوليين فألقى عليهم الرعب {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} . 3- إن العناية الإلهية رافقت أحوال الفتية والمشيئة الصمدية هيأت الأسباب لإبراز الحكمة العليا من العثور عليهم، فلو لم يحملوا معهم عند الخروج من المدينة شيئًا من العملة "الورق" لما فكروا بالنزول لشراء الطعام ولما كان للاستدلال عليهم من سبيل، لولا شعورهم بالجوع المفاجئ الشديد -وقد لبثوا هذه الفترة الطويلة ولم يكن للجوع أثر في أجسادهم- لما أسرعوا بإرسال الشخص لإحضار ما يسد جوعتهم، إنها تدابير ربانية سابقة ولاحقة لتخليد ذكرى هذه الواقعة، وبرهان ساطع لمن فكر واعتبر. 4- التزام القيم الصحيحة تورث السيرة العطرة والذكر الحسن في الدنيا والمشوبة والخلود في جنات النعيم يوم القيامة. أما أصحاب القيم الباطلة فإنهم يذهبون مع معتقداتهم الزائفة وتندثر ذكراهم في الدنيا، وإن بقي منها شيء فتقبيح واستهجان وفي الآخرة عذاب شديد.   1 وقعت كلمة "ينشر، ويهيئ" مجزومتين لوقوعهما جوابًا للطلب "فأووا"، وفيه إشارة إلى صدقهم ويقينهم من الاستجابة لدعائهم، وهو من قبيل: إن من الناس من لو أقسم على الله لأبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 لقد تمثلت القيم الزائفة الباطلة في موقف الطاغوت الذي ادعى الألوهية ودعا الناس إلى عبادته، وفي موقف أتباعه الذين أشركوا بالله واتخذوا معه آلهة أخرى. وتتمثل القيم الصحيحة في موقف الفتية الذين آمنوا برب السماوات والأرض، ورفضوا ضغوط السلطة والبيئة والمجتمع والتجئوا إلى كنف الله سبحانه وتعالى وحمايته. فحماهم من الفتنة وخلد ذكراهم، وأجزل مثوبتهم. لم يذكر كلب بعينه في القرآن الكريم إلا كلب أصحاب الكهف وذلك لصحبته الأماجد. وما أجمل ما قاله الشيرازي في "كلستان" عن صحبة الكرام وكيف ترفع القدر والذكر. وقد صاغها بعض المتأخرين شعرًا بعد ترجمتها إلى العربية. فقد دخل الحمام يومًا فوجد مجموعة من الناس يدهنون رءوسهم وأجسامهم بطين "البيلون" -وهو نوع من الطين الفخاري ينقع في الماء والورد ويعتبر نوعًا من المنظفات كالصابون والأشنان. فخاطب البيلون بلسان الحال وهو يقول: رأيت الطين في الحمام يومًا ... بكف الحب أثر ثم نسم فقلت له أمسك أم عبير ... لقد صيرتني بالحب مغرم أجاب الطين أني كنت تربًا ... صحبت الورد صيرني مكرم ألفت أكابرًا وازددت علمًا ... كذا من عاشر العلماء يكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة مدخل ... المقطع الثاني: مقارفات ومواقف في بوعث العزة {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا، هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الآيات منِ: 28-46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 المناسبة بين المقطع الأول والثاني : هنالك مناسبات واضحة بين الافتتاحية وبين المقطع الأول، والمقطع الثاني فقد ذكرنا أن الافتتاحية تضمنت الحقائق والقيم الصحيحة التي توزن بها المبادئ والتصرفات. فاشتمل المقطع الأول على قصة أصحاب الكهف وفيها الصراع بين الباطل المتمثل في السلطة الطاغية المتجبرة وبين الحق المتمثل في نور الإيمان ومشعل الحق الذي آمن به الفتية. أما المقطع الثاني فقد اشتمل أيضًا على لونين من المبادئ والقيم: فالباطل ويتمثل في موقف زعماء قريش المتجبرين المتكبرين على عباد الله بسبب ما أوتوا من مال وجاه، فاتبعوا أهواءهم وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم طرد فقراء المسلمين المستضعفين. وشبه حال هؤلاء القوم بحال صاحب الجنتين الذي أبطرته النعمة فتكبر وتجبر وكفر بالآخرة. والحق يتمثل في موقف المؤمنين الضعفاء الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه معهم، فقد وصفوا بالإخلاص {يُرِيدُونَ وَجْهَه} والمثابرة على طاعة الله وعبادته {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وضرب لهم المثل بمحاور صاحب الجنتين الذي قال كلمة الحق للغافل المتكبر وبين له أن العزة الحقيقية والغنى الحقيقي لمن ملك الإيمان بالله سبحانه وتعالى واستغنى بما عنده عما في أيدي الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 هذه المناسبات بين المقاطع وبين الافتتاحية أما المناسبات بين المقطعين نفسيهما فمما يرد على الذهن بشأنها -والله أعلم. 1- لما كان تعلق المقطع الأول بقصة أصحاب الكهف، وهو البند الأول من السؤال الأول الذي وجهته قريش -بتلقين من اليهود- إلى رسول الله وقد جاء الجواب عليه بالتفصيل، ولم تبق شبهة في ذلك، فمما يرد على الذهن -وقد قالوا: لقد جئنا بالأمر الفصل فيما بينكم وبين محمد، فاستقرت النتيجة لصالح محمد صلى الله عليه وسلم- أن يفكروا في الإيمان بمحمد، ولكن واقعهم وموروثاتهم الجاهلية لن يستطيعوا التخلي عنها بسهولة. ولن يستسلموا طواعية، فلكي يسمعوا من محمد دعوته وينظروا في أمر الإيمان به، فليطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه لكيلا يعير بهم الأسياد فيقال إنهم جلسوا مع الأرقاء والفقراء والمستضعفين في مجلس واحد. فهذا -في نظرهم- مما يزري بمكانتهم كما أن رائحة جباب هؤلاء تؤذي القوم، فإن كان حريصًا على إسلام السادة الزعماء فليهيئ لهم الجو المناسب اللائق بمقامهم فالمناسبة بين المقطع الأول والثاني كالمناسبة بين المقدمة والنتيجة فلما جاء الجواب على سؤالهم، فالنتيجة المنطقية أن يدخلوا الإسلام ولكن القوم طلبوا ما طلبوا واشترطوا ما اشترطوا ليبرروا موقفهم المعاند ولو بأتفه الأسباب. 2- الوجه الثاني من المناسبة بين المقطع الأول والثاني: لما ورد ذكر الفتية المؤمنين في المقطع الأول ومنزلتهم في الحفاظ على العقيدة والتضحية في سبيل الله وكرامتهم على الله تعالى. ناسب أن يذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن في أمته أمثال أولئك فلا ينبغي التفريط فيهم، بل الواجب تقريبهم والعناية بهم فهم عدة الدعوة ووقود المعارك، وهم المخلصون الذين يعتمد عليهم -بعد ذلك- في الملمات والشدائد. أما الغافلون عن ذكر الله، الساردون في ملذاتهم وشهواتهم، العابدون لأهوائهم فلا خير فيهم، وليسوا أهلًا للقيام بأعباء الدعوة ولا يزنون عند الله جناح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بعوضه، فلا يسمع كلامهم ولا تلبى طلباتهم والله غني عنهم، ثم ضرب لهم المثل بصاحب الجنتين. 3- ختم المقطع الأول بقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} . والآية كالجسر بين المقطعين فطرفها الأول في المقطع السابق يتعلق بالإخبار بحقيقة مكوث أصحاب الكهف، وأنه لا يلتفت إلى أقوال الفئات المتنازعة في شأنهم، فعند الله الذي يعلم غيب السماوات والأرض العلم الحقيقي، واتل ما أنزل عليك في شأنهم، يا محمد من أمور الغيب واستمسك به وبالهدايات التي ترد إليك، ومن هذه الهدايات الصبر مع المتقين المخلصين، وعدم الاغترار بالمظاهر الزائفة والأقوال الخادعة من زعماء الشرك فإنما يزينون لك الحياة الدنيا وقد علمت قيمتها الحقيقية. وهو الطرف الآخر من الجسر إلى المقطع الثاني. 4- يضاف إلى هذه المناسبات ما تقدم في مبحث المناسبة بين المقاطع وبين هدف السورة وقد ذكرنا هناك أن سوق هذه القصة بمثابة التقريع والتوبيخ لزعماء قريش الذين أهملوا عقولهم وأغفلوا معرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقه ونزاهته وأمانته وأرسلوا إلى اليهود ليعطوهم ما يتحققون به من صدق محمد في دعوته. فسيق لهم هذا المثل أن من غفل قلبه عن ذكر الله واتبع هواه وكانت قيمه التي يحتكم إليها المال والجاه ضل ضلالًا بعيدًا، ولم يهتد إلى بدائه العقول وإلى نور الفطرة فلا ينظر إلى الأمور إلا بمنظار الغنى المادي وكثرة الرجال وعلو الجاه والمنزلة بين الناس. فطغيانهم المادي واختلال الموازين والقيم عندهم هو الذي دفعهم إلى هذا التصرف فضرب لهم المثل لبيان الحقائق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 العرض العام للمقطع الثاني : عرض المقطع الثاني في فقرتين رئيسيتين تتعلق الأولى منهما بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصبر نفسه مع الفئة المؤمنة من فقراء المسلمين وضعفائهم ونبذ ما طلبه زعماء قريش من إبعادهم، كما وضح سبب النزول ذلك1 ثم جاءت الفقرة الثانية بمثابة التقرير والتأكيد لما تضمنته الفقرة الأولى عن طريق ضرب المثل2 لتوضح الحقائق وإبرازها. وما ورد في هذه الفقرة الأولى من الفتن التي يتعرض لها أهل الدعوات خلال مسيرتهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. إن من سنن الله في المجتمعات أن يستجيب لكل دعوة جديدة أقل الناس تعلقًا بالحياة الدنيا وأثقالها وأوثاقها، وأن يستجيب لها أقل الناس وجاهة ومكانة في القوم. وأن يكون من جندها أول الأمر أهل الحماسة والنخوة الذين لم تفسد فطرهم. نستطيع أن نقول إن هذا الأمر عام مشترك بين أتباع الدعوات جميعًا فإذا كانت الدعوة ربانية مقنعة للعقل ملائمة للفطرة الإنسانية ملبية لحاجات البشر المادية والروحية، تمكنت في القلب وارتفعت بالأتباع وازدادوا لها محبة وفي سبيلها تضحية وبذلًا، وجاهدوا في سبيلها بكل شيء. أما إذا كانت الدعوة أرضية بشرية تهدف لتحقيق مصالح معينة فسرعان ما يحيط بها فئة أو طبقة من الناس فيستغلونها لتحقيق مآربهم وينكشف الأمر للرعيل الذي استجاب لها أول وهلة فمنهم من يستمر معها لأنها حققت له مصلحة، ومنهم من يتركها ويعاديها لأنه كان ضحية شعاراتها، وبريق أضوائها، فلا بد من وجود الصراع بين أتباع هذه الدعوة إلى أن يفني طرف منهما الآخر، وقد كانوا من الرعيل الأول الذي تبنى الدعوة وحمل لواءها. هذه سنة الله في الدعوات واتباعها -حسب فهمنا. ودعوة رسول الله صلى الله لعيه وسلم استجاب لها أول من استجاب الشباب والفقراء والنساء   1 انظر مبحث أسباب النزول: 172 من الكتاب. 2 المقصود بضرب المثل، سوق القصة الواقعية المشابهة لحال القوم وليس المراد بضرب المثل، ضرب شيء متخيل للتقريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 والأرقاء، ومن كانت تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة روابط شخصية خاصة كأبي بكر رضي الله عنه. وتقاعس أهل الثراء والغنى وأهل الجاه والزعامة. وذلك لأن أهل الثراء ينظرون إلى الدعوة من خلال مصالحهم المادية وما تدره الدعوة عليهم من مال ونشب، أو تفوت عليهم من مصالح وتلحق بهم من خسارة، فإن بان لهم -وخاصة في بداية الأمر- أنها مغارم وليس مغانم كانوا أبعد الناس عنها، بل كانوا من العقبات الشديدة في عرقلة مسيرتها1. وصاحب الجاه والزعامة ينظر إلى مكانته في هذه الدعوة الجديدة، هل تبقى له الزعامة ويكون المقدم فيها، أو أنه سيفقد مكانته ويكون تابعًا كسائر الناس. فإن لم يضمن المكانة والمنزلة في الدعوة الجديدة لم يسلم له القياد، بل كان من جملة العقبات في سبيل انتشارها. وكلا الفريقين يأتي ويساوم صاحب الدعوة، ماذا ستكون لنا إن نحن تبعناك ونصرنا دعوتك هل يكون لنا الأمر من بعدك2. وهنا تختلف الدعوة الربانية عن غيرها من الدعوات، إن الأمر لله من قبل ومن بعد يضعه حيث يشاء، ولكنهم إن آمنوا وعملوا الصالحات والتزموا أحكام دعوة الله وأخلاقها فلهم الجنة، أما في الدنيا فإن شأن الدنيا أحقر من أن تكون عوضًا عن الإيمان بالله والجهاد في سبيله وقد تأتي تبعًا ومن غير قصد إليها، ولكن لا تشكل في حال من الأحوال الغرض الأساسي في المتاجرة مع الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] . وصاحب أي دعوة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلغي من حسابه الأسباب   1 هذه قاعدة غالبية فوجد بعض الأغنياء بين الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبطل القاعدة الغالبية، فلكل قاعدة استثناءات. 2 انظر: أحداث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عرض نفسه على القبائل لحمايته ونصره دعوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الظاهرة، ولا يمكن أن تلغى من المعادلة طبائع الناس ومطالبهم وتعلقاتهم وبخاصة إذا وضعت في صورة مبسطة، مبرأة عن المطامح. ولكن موازين الله سبحانه وتعالى من الدقة والحساسية بحيث تميلها أدنى الانحرافات. لقد سبق أن وقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حادثة مشابهة، وكانت حسب الظاهر وحسب المقاييس البشرية لا غبار عليها، ولكن الله سبحانه وتعالى عاتب فيها رسوله وبين له أن الله غني عن العالمين {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 1-11] . وهنا موقف يتكرر من زعماء قريش يريدون إبعاد الفقراء أصحاب جبب الصوف لئلا تؤذيهم روائح جببهم، وهم يلوحون ويلمحون أن في إسلامهم إسلام من وراءهم من الأتباع، وستوضع ثرواتهم ووجاهاتهم في خدمة الدعوة. كل ذلك يشترط أن يعرف صاحب الدعوة مكانتهم ويلبي لهم طلباتهم، وبدايتها تخصيصهم بهذا المجلس الخاص. إلا أن الذي أنزل الكتاب وأرسل محمدًا بدعوة الحق، مطلع على ما يدور في الأذهان وما تحتويه الصدور. إن هؤلاء لا يلجئون إلى مثل هذه المساومات إلا إذا أحسوا أن الوقت ليس في صالحهم1، وأن المستقبل أصبح يميل إلى جانب دعوة الحق نتيجة الأحداث   1 في بداية الدعوة لم يلق لها زعماء قريش بالًا، لعدم شعورهم بخطرهم على مصالحهم فلما تعرض القرآن الكريم إلى تسفيه أحلامهم وبيان بطلان ما هم عليه من تعظيم الحجارة واتخاذ الآلهة التي لا تضر ولا تنفع خطرت لهم فكرة المساومات ومرت بمراحل: أ- مرحلة محاولة كبت الدعوة والقضاء عليها: بالاتصال بالقائم عليها ومحاولة ثنيه عن الاستمرار في دعوته مقابل مال أو جاه أو مغريات أخرى أو الاتصال بمن له نفوذ وتأثير= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 التي يعايشونها، من دخول الناس في دين الله، وعدم ارتداد أحد منهم، ولم يستطيعوا حصر الدعوة بين جبال مكة فضلًا عن خنقها والقضاء عليها1 عند ذلك تراودهم المساومات وتخطر لهم العروض. وأمثال هؤلاء تسيرهم مصالحهم وأهواؤهم، فما أن ينظروا في موقف من المواقف أن مصالحهم قد تعرضت لخطر وشيك حتى يقلبوا ظهر المجن ويتحولوا إلى الجانب الآخر. ودعوة الله لا يصلح لها إلا من عاش بها ولها، ولم يكن له مطمع في شيء سوى رضوان الله سبحانه وتعالى والفوز بجنات عرضها السماوات والأرض، وسوى اتقاء غضب الله الجبار المنتقم وعذابه الشديد. لا يصلح لدعوة الله إلا من وضع نصب عينيه العطاء والبذل من غير حدود ولو جاء ذلك على ماله وروحه التي بين جنبيه من غير أن يتوقع عوضًا دنيويًا من أحد.   = على صاحب الدعوة وقد فعلت قريش ذلك بعرض المال والسيادة والنساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتصلوا بعمه أبي طالب لمنع ابن أخيه من الاستمرار في دعوته فعندما يئسوا من ذلك جاءت المرحلة الثانية وهي: ب- مرحلة المساومة على المتاركة والمداهنة في التعامل. بأن يكف كل فريق عن التعرض لمعتقدات الفريق الآخر ومصالحه فإن استمرت دعوة الحق من غير تقديم تنازلات، ومن غير مهاودة أو مهانة مع الجاهلية، تأتي المرحلة الثالثة وهي: ج- مرحلة المساومة على الشروط: بأن يبقى لأصحاب الجاه والمكانة الاجتماعية أو الثروة المادية مزايا خاصة على غيرهم. وهذه المرحلة الثالثة هي التي تتحدث عنها سورة الكهف {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} . وتتحدث عنها آيات الأنعام {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] . 1 ترتيب سورة الكهف في النزول الثامنة والستون، كما ذكره السيوطي في الإتقان: 1/ 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 لذا كان الأمر الجازم الصارم -لأن الموقف يقتضي ذلك، ولأنها المرحلة التأسيسية لدعوة الحق- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . وفي ميزان الله أن الأمور بخواتيمها وعواقبها، وعاقبة هؤلاء الكفار الظالمين الطغاة إلى نار أحاط بهم سرادقها1، فأي خير يرجى من وجودهم في الصفوف. - وعاقبة أصحاب جبب الصوف من الفئة المؤمنة {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} ، إنه الثواب والعوض عن القيود والأكبال التي كبلوا بها، وعن جبب الصوف ذات الرائحة الكريهة وعن المجالس المغطاة بالرمل والحصى والحجارة التي كانوا يجتمعون فيها لكي يدعوا ربهم بالغداة والعشي2.   1 في ذكر ألوان العذاب للظالمين الغافلين الذين اتبعوا أهواءهم نوع من المقابلة لما كانوا عليه في حياتهم الدنيا: أ- فالنار المعدة الحاضرة لا تحتاج إلى إيقاد وإعداد مقابل مجالس البطر والرقاه التي كانت تعد لهم. ب- والنار ذات سرادق يحيط بالظالمين فلا سبيل إلى الهرب والنجاة، مقابل السرادقات التي كانت تمنع مشاركة غيرهم معهم ليصفو لهم الجو. ج- إذا استغاثوا يغاثون بماء كدردي الزيت المغلي تتساقط أبشار وجوههم منه عندما يرفعونه إلى أفواههم مقابل الشراب والكئوس المترعة من الخمر المعتقة التي كانت يعلو عليها الزيد ويفوح منها العطر. د- بئس المستقر والمنزل وبئس المرافق وبئس الطعام والشراب مقابل ما كانوا يظنونه نهاية السعادة ويتوقعون دوامها وخلودها. 2 ذكر من أوصاف النعيم ما يتعلق بالأشخاص لأنهم محل التكريم والعناية، وذكر جريان الأنهار من تحتهم لأنهم محور الحديث، وليس المراد وصف الجنة بكثرة الأنهار، بينما في مواطن آخر يذكر تجري الأنهار من تحتها، أي تحت الجنات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ثم تأتي الفقرة الثانية مقررة ومؤكدة للقيم التي وردت في الفقرة الأولى عن طريق سوق القصة مثلًا لحالهم جميعًا. إن الإنسان العاقل يحدد منهجه في الحياة وسلوكه بين الناس على ضوء القيم التي يعتنقها ويؤمن بها. فلما كانت منطلقات زعماء قريش زينة الحياة الدنيا "المال والجاه" دفعتهم إلى ذلك المطلب السخيف التافه بتخصيصهم بمجلس لا يشاركهم فيه الضعفاء والفقراء. فليتدبر هؤلاء القوم ومن كان على شاكلتهم ممن أعشت زينة الحياة الدنيا بصائرهم عن رؤية الحق. فليتدبروا قصة صاحب الجنتين وصاحبه وليعتبروا فإن فيها العظة والعبرة: صديقان أوتي أحدهما من زهرة الحياة الدنيا ما تتطلع إليه النفس البشرية وتنتشئ لرؤيته، لقد أعطاه الله سبحانه وتعالى جنتين1 فيهما من أنواع الفاكهة والأعناب ما لذ وطاب وقد حفتا بسياج من النخيل وبين أشجار النخيل والأعناب ساحات واسعة مخصصة لزراعة الحبوب والخضراوات الأخرى، ولا شك أن هذا التنويع في الزرع والشجر يضفي جمالًا وبهاء على منظر الجنتين ويضفي قيمة وغلاء على ثمنهما، فمن المعهود عند أصحاب الفاكهة أن أنواعًا منها تثمر في سنوات وينقص ثمرها في سنوات أخرى كما أن أنواعًا من الزراعة تتأثر ببعض الآفات في سنوات بينما أنواع لا تتأثر بها. فالتنويع في الأنواع يجعل صاحب الزراعة في منأى عن ضياع المواسم بالكلية وفوات الثمر والحصاد. إلا أن الجنتين في القصة أتت أكلها خير ما يكون الإيتاء والإنتاج ولم تنقص شيئًا من العطاء.   1 تطلق الجنة على البستان الذي تداخلت أغصان الأشجار فيه بحيث تستر وجه الأرض وما خلفها. وإذا كان البستان مسورًا محوطًا سمي حديقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ومما أضفى الجمال على الجنتين، وأغلى من قيمتهما تفجر النهر خلال الأشجار والزرع1. وبالإضافة إلى هذه الممتلكات والعقارات الثابتة، فقد كان لصاحب الجنتين من المال المنقول ومن النقدين ما كان يستثمره في التجارة والمجالات الأخرى، {وَكَانَ لَهُ ثَمَر} 2، بحيث استكمل الرجل الأسباب الظاهرة للتمكن من الثروة والقبض عليها بأيد قوية، فلئن فاتته فرصة في التجارة فإن الزرع والأعناب ستعوضه، ولئن أصابته آفة زراعية فإن المال المستثمر سيغطي النقص لديه. كل ذلك ساقه الله سبحانه وتعالى له سوقًا من غير جهد وخبرة من الرجل بدليل إسناد الضمائر إلى لفظ الجلالة "جعلنا، حففناهما، جعلنا بينهما زرعًا، وفجرنا". وحصول هذه النعم الدنيوية العظيمة له، وتسخير هذا الثراء وهذه الأموال لمصالحه، وتنعمه بها، يستدعي شكر مسدي هذا النعم، وتسخيرها في طاعته واتفاقها في سد خلة المحتاجين لتكون وسيلة إلى القربى من المولى عز وجل. هذا هو المفروض وهو المتوقع من العبد تجاه ما ساقه إليه سيده ومولاه. إلا أن النفس البشرية إذا تركت على هواها، وحجب عنها نور الإيمان، ونظرت إلى ما بين يديها من الأسباب المادية، أخذها الغرور والبطر، وظنت أنها لم تؤت هذا المال وهذه المكانة والوجاهة إلا لمزايا ذاتية فيها، وهذا الصنف من   1 ذكر تفجير النهر خلال الجنتين متأخرًا عن ذكر إيتاء الجنتين الأكل، إشارة إلى أن خصوبة التربة ورطوبة الجو كانت كافية لإيتاء الجنتين النتاج، ووجود النهر عندئذ رصيد احتياطي عند تقلبات الأنواء، كما أن وجود النهر يزيد المنظر جمالًا. 2 قال الراغب: والثمر: قيل هو الثمار، وقيل جمعه، ويكنى به عن المال المستفاد، وعلى ذلك حمل ابن عباس قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَر} . ا. هـ. المفردات: 109. وقرئت "ثُمُر" بضم الثاء والميم: وهو المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والزروع. ا. هـ. التحرير والتنوير: 15/ 318 وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي انظر: كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: 390 بتحقيق شوقي ضيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 البشر يتكرر في كل زمان ومكان وفي كل حال لم تهذب بإشراقة الإيمان، ولقد ظن هذا الظن قارون عندما قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 87] . لقد أخذه البطر والأشر والتكبر على عباد الله فالتقى صاحبه الفقير وهو في زينته ليحاوره ويقول له: "أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا" لم يقف به الغرور والبطر عند التكبر على عباد الله وكسر قلوب الفقراء بل تجاوز ذلك إلى حين يفقد توازنه في الحكم على الأشياء وأن يضفي صفات كاذبة على ما بين يديه من المال والثراء فزعم لها البقاء والخلود: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} ، ولكنه تذكر أن السنة الجارية على الأحياء أن لا يخلد استمتاعهم بمالهم وأولادهم فإما أن تفارقهم أو يفارقوها بالموت، يا هل ترى ما المصير عندئذ؟! إن تذكر الموت وتصور الحياة الأخرى والحساب والجزاء، مما يقض مضجع المترفين البطرين الأشرين، لذا يحاولون إلقاء حجب كثيفة بينهم وبين الاعتقاد باليوم الآخر. فقال قولته الملحدة {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ، ولكن المؤمنين يؤكدون على وجود هذا اليوم، وقد أرسل الرسل بهذه العقيدة، ولم يخل دين سماوي عن هذه العقيدة، فتنازلًا عند كل هذه الأقوال، وافتراضًا لغير الواقع يفترض وجود هذا اليوم افتراضًا فلو وجد هذا اليوم وبعث يوم القيامة، فلأنه ذو مواهب خاصة، وطاقات نادرة، ومزايا ذاتية فسيجد عند ربه خيرًا مما آتاه في الدنيا، يقول ذلك عجرفة وتهكمًا بصاحبه وبما يعتقده. إنها النفس الأمارة بالسوء، المغرورة بالقيم الزائفة المتبعة لهواها، قد أبطرتها النعمة وأذهلتها الثورة وأسرتها الوجاهة. إلا أن صاحبه المعتز بإيمانه بربه، الذي ينظر بنور الله، ويحكم على الأشياء بميزان العقيدة ولا تبهره المظاهرة البراقة المخادعة يجابهه بالحق، ويذكره بحقيقته، وحقيقة ما هو فيه لقد بدأ الانحراف في صاحب الجنتين من داخل نفسه ومرورًا بالمال وكثرة الرجال {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} . فليذكر له صاحبه الدواء والعلاج والتقويم من داخل نفسه أيضًا إن نفسه المتكبرة المتجبرة المتعالية على العباد ما هي إلا مستلة من التراب المهين الذي يداس بالأقدام، ثم من النطفة القذرة التي يستحيي من إظهارها أو الحديث عنها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ولولا رحمة الله بالناس، والنفخة الربانية التي نفخها فيها لما كان لها شأن ولا قيمة، فكيف ينسى المرء أصله ومنشأة والعناية الربانية به {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} . إن هذه الحقائق العظمى ينبغي أن لا تنسى، ولا يليق بعاقل أن يغفل عنها ويخرجها من حسبانه في النظر إلى الحياة والناس والمال والمتع، لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى في الخلق أن يدخل السرور إلى القلب وتنتعش النفس إذا تيسرت لها سبل المعيشة وحصل على زينة الحياة الدنيا، إلا أن ذلك لا يخرجها عن طبيعتها ولا يعطيها قيمة أعظم من قيمتها {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 14-17] . فعلى ضوء هذه الحقائق كان عليه أن يدخل جنته ويحمد الله الذي أنعم عليه بها من غير حول منه ولا قوة، ولو عرف حق الله عليه فيها فأنفق منها في وجوه الخير والبر، لكانت له مزية على غيره، ولعرف الناس فضله ومكانته، "إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدًا أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة"، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" 1. أمثال هؤلاء عرفوا قيمة الأعراض الدنيوية فلم تلههم عن طاعة الله وعبادته بل جعلوها وسائل تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى. ثم يلتفت صاحبه إلى الجنة التي كانت سبب غروره، وبطره، وتكبره على عباد الله وكسر قلوبهم، فعسى الله أن يرسل عليها إعصارًا فيه نار فتحرقها وتأتي على الأخضر واليابس فيها فتصبح خرابًا تزلق فيه الأقدام، {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} . وأحد السببين كاف للقضاء عليها، فإذا اجتمع السببان فاتت المنفعة منها تمامًا. وكانت الاستجابة لدعوة العبد الصالح فورية فلم يكد ينتهي من توجهه إلى ربه ويدعو بتفويت ما كان السبب في أشر صاحبه2، حتى كان الدمار والخراب يحل بالجنتين، بل تعداهما إلى الأموال الأخرى {وَأُحِيطَ بِثَمَرِه} . فصار يتجول في أرجاء الجنتين وهو {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} . إنها ساعة الحسرة والندم بعد فوات الأوان. لقد ذهب كل شيء في طرفة عين، أين المال الذي كان يملأ نفسه كبرًا وعجبًا وأين الجنان التي كانت تملأ نفسه نشوة وبطرًا، بل أين الرجال والنفر الذين كان يهيئهم للملمات والشدائد، لم يقدم أحدهم له عونًا ونصرًا، لم يستطع أحدهم أن يدفع عنه الكارثة الماحقة، وأنى لمخلوق أن يقف أمام قدر الله سبحانه وتعالى الذي يقول للشيء كن فيكون. أما كان يسع هذا الإنسان الضعيف أن يلزم حدوده، فيستمتع بما وهبه الله عز وجل ويحمد الواهب على ما وهب ويشكره على ما سخر له فيكون في منأى من غضب الجبار وانتقامه، ألا يعلم الإنسان أن لله جنود السماوات والأرض، وأنه   1 انظر: صحيح مسلم كتاب المساجد: 2/ 97. 2 لم يرد للنفر ذكر، فلعل الصاحب الصالح لم يدع على الرجال والأتباع والذرية فلعله يخرج من بينهم من يوحد الله سبحانه وتعالى، وهو اللائق بحال الكمل من الصالحين. كما أن تعلق أهل المتع والأهواء بالمال أكثر فتفويته أشد على نفوسهم من تفويت الأهل والرجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن إليه المصير والمآب، وأن بيده الحكم والأمر فإن أقر بذلك فينبغي أن تكون التصرفات والأعمال على ضوء ما يقر ويعترف. ثم تأتي العبرة المستقاة من الأحداث السابقة، وتساق خلاصة التجربة، وهي القاعدة العامة التي ينبغي أن لا يغفل الإنسان عنها فليتدبر زعماء قريش هذه الحقيقة، وليتدبر الآخرون من أمثال صاحب الجنتين، وليتدبر الناس جميعًا إلى قيام الساعة حقيقة ما هم فيه: الحياة الدنيا سريعة الزوال، سريعة الانقضاء ما وجودها ولا استمتاعكم بها في سرعة زوالها إلا كسرعة دورة نباتية مما تشاهدونه أمامكم يتكرر كل موسم زراعي. أمطار تنزل من السماء فتنبت الأرض من الأعشاب والحشائش وأنواع النباتات وخلال أشهر قليلة تزدهر وتزهو فتبلغ أوجها في النضارة والاخضرار في الربيع، فلا تكاد تنقضي أشهر الربيع حتى تصبح هشيمًا يابسًا مصفرًا يتكسر من هبات النسيم فتذروه الرياح في الأرجاء بددًا لا تقوم لها قائمة. إنها أشهر معدودات. تتكرر فيها حياة النبات على هذه الشاكلة إن الدورة النباتية صورة مصغرة لدورات أخرى تجري، فعلى مستوى الأفراد ولادة فطفولة فشباب ثم كهولة وشيخوخة ثم قبض وانتهاء وهذا ما يشاهده الناس في أنفسهم وعلى مستوى الأجيال والدول والمجتمعات، نقرأ في التاريخ دولًا وأممًا ولدت ثم نمت وتوسعت وانتشرت ثقافاتها ثم أصابها الجمود ثم التقلص ثم الاندثار والفناء. وقل مثل ذلك على مستوى البشرية والكوكب الذي نعيش عليه، إنها ومضات من تاريخ الكون الطويل، والقدم والبقاء للحي القيوم المقتدر. إن سنة الله سبحانه وتعالى في الكون أن خلق المخلوقات ووفر لها نظم حياتها ووسائل معايشها، وسخر بعضهم لبعض، ووضع في الكون طاقات وقوى ورسم سبل الهداية إليها. وأنزل على صفوته من خلقه -الأنبياء والمرسلين- النظام الذي ينبغي السير عليه في هذا الكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فهناك وسائل لا ينبغي أن تأخذ دور الغابات وهنالك أشياء جعلت زينة لغيرها فلا تأخذ مكانة القيم والحقائق وهنالك وهنالك. فعلى الناس جميعًا أن يتصرفوا في ضوء الهدايات الربانية، ويتعاملوا مع الموجودات في الكون. ومن هذه المبادئ الأساسية {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إنها زينة وليست قيمة، وإنها وسائل لا غايات. أما الباقيات الصالحات1 فإنها قيمة وغاية وحقائق فهي التي توزن بها الرجال والأعمال، وبها تدرك الغايات والثوابت ومن منطلقاتها تصدر الأحكام. وهي الباقية بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا وزوالها، وهي الذخر والكنز الذي يبقى مع صاحبه إلى دار القرار. ورد في الحديث: " يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع الأهل والمال، ويبقى العمل معه" 2. فيما فوز من ثقلت موازينه بالباقيات الصالحات.   1 تعددت أقوال المفسرين في تفسير الباقيات الصالحات: فمنهم من قال ذكر الله سبحانه وتعالى، استنادًا إلى الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات"، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله". وقيل: هي الصلوات الخمس وقال بعضهم: إنها العبادات والطاعات عمومًا. ولعل التعميم أولى، والذكر من الباقيات الصالحات. 2 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد: 8/ 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 عظات وعبر : لقد أطلنا في العرض الإجمالي لهذا المقطع، لذا نكتفي به عن العرض التحليلي مخافة الإطالة وتجنبًا للتكرار، وبعض النقاط الهامة سنذكرها في جملة فقرات العظات والعبر. اشتمل هذا المقطع على حكم جليلة -شأن المقاطع جميعًا- وفيما يلي نذكر جملة منها: 1- في تقديم الحديث عن فقراء الصحابة والصبر معهم، وعدم سماع قول المشركين الغافلين عن ذكر الله على قصة صاحب الجنتين حكم منها: أ- ربط المثل والقصة بالواقع المحسوس المشاهد أشد أثرًا في النفس وأقوى دلالة على المطلوب، فعندما ذكر واقع هؤلاء وأولئك ومصير كل، جاء المثل ليقرر الحقائق ويبين القيم والمعاني التي يعتنقها كل فريق. ب- وجود شبه ومناسبة بين الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، وبين الفتية الفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ج- لو ذكرت قصة صاحب الجنتين بعد قصة أصحاب الكهف مباشرة لكان الانتقال من قصة إلى قصة، وفي ذلك إغراق في الخيال للمستمع والقارئ وإيغال في الأمور النظرية. مما يؤدي إلى أثر عكسي عليهما بينما التنويع في أسلوب العرض بين الأحداث الواقعية وضرب الأمثلة وسوق القصص ينشط الذهن ويحمل النفس على التفاعل مع القضايا المعروضة. 2- ينبغي أن تكون الدعوة جماهيرية المنحى، ولا يجوز حصرها في طبقة معينة، وإذا حاولت طبقة ما: من المثقفين، أو النجار أو العمال، أو الفلاسفة، أو العسكريين حصر القيادة فيهم ستقع الفجوة بين القاعدة الجماهيرية، وبين القيادة، ويؤدي بالتالي هذا الوضع إلى تبلد إحساس القيادة بمشاكل عامة المسلمين، وتزداد النقمة من العامة على القيادة، لذا كان الصبر مع الحريصين على الدعوة المقبلين على الالتزام بمبادئها، والتضحية في سبيلها من أساسيات الصفات القيادية في الزعامة المؤمنة. والمخلصون الباذلون الربانيون هم بطانة القيادة وموضع شوراها بغض النظر عن الأنساب والطبقات والمستوى المعاشي {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 3- المرونة في الدعوة والتدرج مع المدعوين في حملهم على الالتزام بمبادئ الدعوة، وترغيبهم فيها وتحبيبها إلى نفوسهم بشتى الأساليب كل ذلك شيء مرغوب فيه -وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليئة بالشواهد على ذلك- أما إذا تعلق الأمر بالمساومة على مبادئ الدعوة وتعديل منهجها وتغيير حقائقها، فينبغي على الداعية أن يقف وقفة صارمة صريحة، وإفهام المدعوين أن الله غني عن العالمين وأن دخولهم في دعوة الحق تكريم لهم وتشريف لمقامهم، وليس تشريفًا للدعوة فإن شرفها تستمده من المصدر الذي أنزلها، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] . وهذا ما اشتملت عليه الآيات الكريمة {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . ومثل هذا الأسلوب يفعل فعله في نفوس المترددين والمساومين الراغبين في المداهنة ويترك أثرًا في أذهانهم لإعادة النظر في مواقفهم من الدعوة. 4- جاء عرض مصير الفريقين على طريقة اللف والنشر غير المرتب، وذلك لحكمتين: أ- للمناسبة بين ذكر الفتية أصحاب الكهف، والفتية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم. ب- لتعقيب ذكر الغافلين المتكبرين بذكر سوء مصيرهم، فما يفصلهم عنه سوى حاجز الموت ليروا النار المعدة لهم {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} . 5- الجزاء من جنس العمل، أبدل كل فريق بمجالس تعكس صورة أعمالهم في الحياة الدنيا. أ- لقد كان الغافلون المتبطرون يعيشون حياة الرفاه والترف في الدنيا، فكانوا يجلسون في أماكن خاصة تحيط بها السرادقات تحجبهم عن أعين الناس، فلا يستطيع أحد اقتحامها عليهم، لئلا تفسد أمزجتهم ويكدر عليهم صفو استمتاعهم، وكانت هذه المجالس تعد خصيصًا لهذه المناسبات، وقد أبدلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 بها اليوم نارًا أحاط بهم سرادقها، فلا يستطيعون النجاة من النار، ولا اقتحام السرادقات، فهم في عذاب مقيم، وهذه المجالس جاهزة لهم معدة تنتظر ورودهم إليها. ب- كانوا في مجالسهم الدنيوية ينادون على الخدم والغلمان للاستزادة من الشراب ويشربون الكئوس المترعة للمزيد من النشوة والفتوة والنشاط وأبدوا بها يوم القيامة زبانية جهنم، كلما اشتد عليهم الحريق والعذاب بالنار استغاثوا بالماء ليطفئ اللهيب في أجوافهم {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} إذا رفعوا الإناء إلى أفواههم جاءهم لفح الماء ولهبه فتساقطت أبشار الوجوه في الإناء، هذا فعلها في الوجوه فكيف تفعل بالجوف والأمعاء. جـ- كانوا يظنون أن السعادة كل السعادة في هذا اللون من المجالس والخدم والشراب، وأن من أوتي في الدنيا مثل هذا فقد نعم في حياته ولا يريد عنها بديلًا. فأدركوا في الآخرة حقيقة ما كانوا عليه، ووجدوا الشفاء الذي صاروا إليه، فأدركوا أن متعًا زائفة هذا مصيرها ساءت لذة وفي الآخرة {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} . أما أهل التقوى والصدق، الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله وتدبر آياته، وكانت لهم مجالسهم وهيئاتهم ومرافقهم قد أبدلهم الله عز وجل بها مجالس ومرافق خيرًا منها: أ- أما مجالسهم في الدنيا فقد كانت الحصباء في الأودية والشعاب أو في قعر البيوت المظلمة وفي السراديب والأقبية مخافة اطلاع الجبابرة عليهم -وأغلبهم من الأرقاء والمستضعفين والموالي- فيسيمونهم سوء العذاب. أبدلهم الله سبحانه وتعالى بها الحدائق الغناء والبساتين الملتفة الأشجار تجري من تحت أقدامهم الأنهار. ب- كانت ملابسهم في حياتهم الدنيا جبب الصوف تفوح منها رائحة العرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ولا تكاد تجد على أحدهم رداء وإزارًا، فمنهم من اشتمل بإزاره فعقده بين منكبيه، ومنهم من لا رداء له. ومنهم من تخلل بعباءة إنهم كانوا حفاة عراة جياعًا. لقد بوأهم الله سبحانه وتعالى في جنات الخلد مقاعد صدق عند مليك مقتدر وحلوا حلل الكرامة والعز والشرف، فهي أيديهم -التي طالما وضعت فيها القيود والأكبال- أساور من ذهب وفضة، ويلبسون الحلل السندسية من رقيق الحرير وغليظه، تفروح من مجالسهم رائحة المسك والعنبر. ج- كانوا في حياتهم الدنيا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويتخذون الحجاة والصخور الصماء وسائد ومتكًأ. أما اليوم فلهم أرائك وعروش كعروش الملوك والسلاطين، وأين العروش الدنيوية الزائلة من أرائك الجنة الباقية. إن العيش عيش الآخرة، وكل نعيم سوى نعيم الجنة زائل، وساء كل مرتفق إلا مرتفق الجنة فنعم الثواب وحسنت مرتفقًا. 6- منطق الفكر المادي: خطوات تجر بعضها بعضًا ومقدمات تؤدي إلى نتائج: أ- الانطلاق من النفس "أنا" والنظر إلى الأشياء بمنظارها والتحاكم إلى هواها في معرفة قيم الأشياء وحقائقها وإذا أوتي المرء مزية أو قدرة أو كفاءة، أسند ذلك إلى الفضل الذاتي والطبيعة. ب- حصر اللذة والمتعة والسعادة في المحسوسات البهيمية العاجلة. جـ- إنكار الغيبيات، واليوم الآخر والحساب والجزاء، تشبثًا باللذة الفانية، وشهوات النفس الوضيعة وعدم التفكير بالعواقب إبقاء لها وتغريرًا وخداعًا للنفس. د- اختلال التوازن والمحاكة العقلية الصحيحة فيحسبون أن القيم التي يعاملهم بها أهل الدنيا، تظل محفوظة لهم في الملأ الأعلى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فما داموا يستطيلون على أهل الأرض فيظنون أن لهم عند أهل السماء مكانًا ملحوظًا: "ألا ساء ما يظنون". 7- سنة الله في خلقه أن لا يزيل النعمة عن العباد بمجرد كفرهم، فقد يمتع الكافر طول حياته بماله وصحته وولده، وفي ذلك استدراج له، أما إذا أصبحت الصحة والثروة والأتباع وسيلة طغيان واحتقار وإذلال لعباد الله الصالحين، فإن عقوبة الله العاجلة له بالمرصاد. 8- المال والبنون، زينة الحياة الدنيا، يجعلها أهل الدنيا قيمًا وهي أعراض زائلة، وبذلك يعيبون، الحقائق، ويبنون عليها أمور الآخرة وهو وهم وسراب خلب ذهبت بآمالهم أدراج الرياح. الباقيات الصالحات هي القيم الصحيحة وبها توزن الأعمال وهي سبب السعادة في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير مدخل ... المقطع الثالث: وقفة تأمل في المآل والمصير {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا، وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا، وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا، وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} . [الآيات من: 47-59] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله : يأتي هذا المقطع مختلفًا في أسلوب العرض عن المقطعين السابقين، حيث تعرض مشاهد سريعة من مشاهد يوم القيامة، وهي بمثابة النتائج لتصرفات المغرورين بالقيم الزائفة في الحياة الدنيا ولعل من أبرز وجوه المناسبة بين هذا المقطع والمقطع السابق. 1- لما انتهى المقطع السابق بذكر الباقيات الصالحات، وأنها خير ثوابًا وخير أملًا، بدأ هذا المقطع بذكر اليوم الذي تظهر فيه الخيرية للباقيات الصالحات وهو {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} حيث تبرز قيم الأشياء على حقيقتها للعيان. 2- لما كانت زينة الحياة الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم -كما عرض في المقطع السابق- بين لهم في هذا المقطع أن الذي يزين لهم ذلك هو عدوهم الأول إبليس، فلا ينبغي اتخاذه وذريته أولياء، لأنه سيؤدي بهم إلى المهالك وسوء المصير، إلى جهنم ولن يجدوا لهم عنها مصرفًا. أما الباقيات الصالحات فستعيدهم إلى ما كان فيه أبوهم آدم عليه السلام من التكريم والنعيم المقيم. 3- تشابه بين المواقف الثلاثة: - موقف مشركي قريش من فقراء المسلمين وتكبرهم عليهم. - وموقف صاحب الجنتين وتكبره على صاحبه وقوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} . - وموقف إبليس من آدم {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . وإبليس في موقفه هذا قدوة كل متكبر على الحق ومن كان إبليس وليه وقدوته فقد خسر الدنيا والاخرة. 4- منهج المعرفة الخاطئ يجمع بين الطوائف الثلاث: فقد جعل زعماء قريش النسب والثروة ميزان التقويم ومقياس التفاضل وجعل صاحب الجنتين الثروة وكثرة الرجال والمزايا الشخصية معيار الخيرية وجعل إبليس الماهية التي خلق منها الميزان والمقياس {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 العرض الإجمالي للمقطع الثالث : هذا المقطع بمثابة التعقيب على أحداث مقطع صاحب الجنتين. ومن وحي ذكر الزينة الفانية الزائلة، والباقيات الصالحات. لقد عرض المقطع جانبًا من مشاهد يوم القيامة وأحداثه. فقد سيرت الجبال وسويت بالأرض بعد أن دكت ونفست فصارت كثيبًا مهيلًا كالعهن المنفوش، وأصبحت الأرض قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا. وحشر الناس كما خلقوا أول مرة1 وعرضوا صفًا على طبيعتهم من غير أصبغة وزخارف، فلا ملابس تميزهم، ولا مال يدل على ثرائهم وغناهم ولا أتباع يرمزون إلى مكانهم وجاههم. وأسقط في أيدي أصحاب الزينة وأدركوا أن ما كانوا يتحاشون ذكره ويظنون بعيدًا ماثلًا أمامهم.   1 جاء في سورة الأنعام ما يشبه الموقف حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] . والملاحظ ذكر الشفعاء والشركاء وتخليهم عن أوليائهم يوم القيامة في آية الأنعام بينما لم يرد لهم ذكر في سياق آية الكهف، والحكمة في ذلك -والله أعلم- أن آية الأنعام جاءت في سياق الحديث عن نفي الشركاء وبعد محاجة إبراهيم عليه السلام قومه وإقامة الأدلة والبراهين على الوحدانية. بينما آية الكهف جاءت في سياق الحديث عن القيم الزائفة من زينة الحياة الدنيا من المال والبنين، لذا ذكر حشرهم مجردين كما خلقوا أول مرة فلا مال ولا نفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وفوجئ الناس بوضع الموازين القسط وعرض الكتاب، إنه صحائف الأعمال في الحياة الدنيا التي خلفوها وراء ظهورهم، لقد مضت كالسراب بزخارفها ومآسيها وآثامها وغرورها ومتعها، ولم يبق منها سوى "الباقيات الصالحات". لقد رأى المجرمون جرائرهم ويستعرض أمامهم شريط الأقوال والأفعال وخطرات السوء، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13-14] . لا مجال للإنكار. فقد ردوا أيديهم في أفواههم مستغربين مدهوشين {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} . لا مجال للتظلم، فقد وضحت الحقائق، وأقيمت الحجج، وأدلى الشهود العدول من الجوارح والأعضاء بشهاداتهم، وهم يدركون شعار الحق {لا ظُلْمَ الْيَوْم} [غافر: 17] . لم يكن تباكيهم على وقوع الظلم عليهم أو احتمال وقوعه، ولكن دعاؤهم بالويل والثبور على أنفسهم كان مما وجدوا في الكتاب من حصر شامل لمخازيهم {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} لم يترك الكتاب صغيرة مما كانوا يعتبرونها من محفرات الأعمال: فربما تكلم الرجل بكلمة من سخط الله أهوت به في نار جهنم1. ولربما كانوا يلهون ويلعبون ويستهزئون ويضحكون، وهم غافلون، فاليوم يقال لهم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] . وهذا التعقيب مناسب لما تقدم في المقطع السابق من موقف زعماء قريش من فقراء الصحابة، كما أنه منسجم مع أحداث المحاورة بين صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن المعتز بإيمانه. وتأتي بعد ذلك لفتة لأصل الغواية، لمعرفة جذور الداء، وأصول هذه الضلالة   1 انظر: صحيح البخاري كتاب الرقاق: 7/ 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 التي عليها غالبية الناس، وهي سبب خداعهم بالمظاهر البراقة والقيم الزائفة، فما أساس البلاء. إن جذور الداء موصولة بأب الغواة، وأساس الفساد إبليس عليه لعائن الله. لقد تمرد على أمر ربه فلم يسجد لآدم عليه السلام، وطرد بسبب هذا العصيان من رحمة ربه. فأضمر العداوة لآدم لكونه السبب في هذا الطرد وأوعد بإغواء ذريته إلى يوم الدين، وقد حذر الله سبحانه وتعالى آدم وذريته من مكائد إبليس {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6] . ألا فليتدبر العقلاء: - الله خلقكم في أحسن تقويم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. - طرد إبليس من رحمته بسببكم وتكريمًا لكم. - ولما توعد إبليس بإغوائكم كشف ربكم عن مكائده وحذركم منه. - وسلحكم بالأسلحة التي تدافعون بها عن أنفسكم، والحصون التي تلجئون إليها عند غاراته وقبيله عليكم، على ألسنة أنبيائه ورسله الذين أرسلهم إليكم تترا. ثم بعد كل ذلك {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} فهل من تعليل لهذا الموقف يقبله المنطق، وهل من شبهة تثور في أذهانكم حول مقدرة إبليس وطاقاته وإمكاناته، فتضفي على تفكيركم ظلالًا من الشك في الحقائق: - هل يقدر إبليس وجنده على خلق السماوات والأرض منفردين أو مجتمعين؟ - هل حضروا خلق الكون فاطلعوا على السر في السماوات والأرض؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 - هل كان لهم مؤازرة ودعم في إيجاد الأنظمة الكونية؟ - هل كان لهم أدنى مساهمة في خلق شيء حتى خلق أنفسهم؟ - هل كان لهم خيار في اختيار الماهية أو الكيفية أو الزمان أو المكان الذي يخلقون فيه؟ فإن كان العجز المطلق عن التطلع إلى مقام الألوهية وخصائصها من شأنهم فما السبب في ترك الناس موالاة الإله الخالق الرازق المتصرف المدبر لشئون الكون كله، واتخاذهم إبليس وذريته -وهم لهم عدو- أولياء من دونه. ألا بئس الاختيار وساء المنطلق والمصير. ولكن هل ستذهب هذه التصرفات الغبية ومواقف الحمق والبلادة، والانحرافات الماكرة ويسدل عليها الستار، فيسوى بين أصحابها وبين الذين استجابوا لنداء الفطرة ولبوا دعوة الحق فآمنوا بالله وحده لا شريك له؟ كلا، شتان بين الفئات؟ إن هنالك يومًا للمجابهة والمحاسبة {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} . يوم تكشف الحقائق ويظهر بطلان دعوى الشركاء والأنداد، وأقر المشركون على أنفسهم بالضلال، وعلموا علم اليقين أن الشركاء لن يغنوا عنهم في هذا اليوم شيئًا. ولكن يوجه إليهم الأمر الإلهي، أن ينادوا على شركائهم الذين دعوهم من دون الله في الحياة الدنيا، تبكيتًا وتوبيخًا وتحقيرًا. ومع يقينهم أن نداءهم صرخة في واد ونفخة في رماد، إلا أنه الأمر الإلهي ولا مفر من التنفيد. فينادي أصحاب الأصنام أصنامهم. وينادي عباد الصليب صليبهم. وينادي عباد الطواغيت طواغيتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وينادي عبيد الحزب أحزابهم. وينادي عبيد الشهوات والمتع البهيمية قيمهم. {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . إن بين العابدين والمعبودين المزيفين هوة سحيقة من الكره والبغض {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] . لقد تحولت المودة التي كانوا يوادون بها بعضهم إلى بغض وعداوة، وانفصمت الروابط والوشائج التي كانوا يوالون بها غيرهم من مصالح مادية ومتع جسدية، ودعوات قومية ونعرات إقليمية وعنصرية أو حزبية وسائر العصبيات الجاهلية {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} 1. وبعد هذا الموقف الرهيب تتحدد المصائر، ويؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، يجر كل زمام سبعون ألف ملك2، إنه يوم يشيب له الولدان، ويرى المجرمون النار -ويا هول ما يرون- وتساورهم الظنون هل من منقذ في آخر لحظة؟ هل نحن صائرون إلى ما نرى؟ إن هول المنظر، ورهبة الموقف أفقدهم التوازن في التفكير. نعم، إن المصير الوحيد للمجرمين {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} . لقد كان لهم ولغيرهم ملجأ ومصرف يومًا ما، قبل هذا اليوم. لقد كان لهم في القرآن العظيم الذي صرف فيه من كل مثل، وبينت فيه الحقائق ورسمت الحدود وأقيمت المعالم، لقد كان فيها الملجأ والملاذ فلو التجئوا إلى هداياته، وتركوا الجدل، وأقبلوا على الله، ونهلوا من معين كتابه واستهدوا بالحكمة والرشاد، واستنار بالمعارف القرآنية إذن لاختلف المصير الذي يوجهون إليه اليوم.   1 الموبق: الفاصل المهلك سواء كان حسيًا أو معنويًا من وبق وأبق بمعنى انفصل وابتعد، أو تثبط فهلك. انظر: المفردات: 803. 2 انظر: صحيح مسلم، كتاب الجنة: 8/ 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ولكن القوم اتبعوا سنن من قبلهم من المجادلين الرافضين للحقائق الذين تبنوا مواقف العناد، وطلبوا العذاب العاجل في الدنيا نكاية بالرسل ومحادة لله ورسله. لقد قال قبلهم قوم هود عليه السلام لنبيهم {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] . وقالت ثمود لنبي الله صالح عليه السلام: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77] . ومن قبلهم قوم نوح عليه السلام قالوا لنبيهم: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] . ومشركو مكة لم يخرجوا عن سنة المكذبين قبلهم فقالوا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . ومن دعائهم أيضًا: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16] . إن هذه المواقف تتنافى مع الحكمة من إرسال الرسل، لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسله لهداية الناس، بما يحملون معهم من مشاعل الحق والنور وليحذروهم من مسالك الغواية والردى. ولكن أتباع إبليس الذين طمسوا كل بارقة خير في نفوسهم، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، وزخرف لهم أساليب الجدل فيحاولون دحض الحق به فإن عجزوا عن ذلك -وهم عاجزون لا محاله- لجئوا إلى السخرية والاستهزاء والإعراض عن دعوة الحق بشتى الوسائل. لقد غلفت قلوبهم بحجب كثيفة من الرين من آثار الشهوات، وحجبت عقولهم بأغلفة سميكة من آثار الشبهات، فهم في صمم عن سماع صيحات الحق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وهم في بكم عن التفوه بكلمة الصدق، وهم في عمى عن رؤية دلائل التوحيد. فلا تجدي معهم جهود دعاة الخير، لأنهم عطلوا وسائل المعرفة لديهم. ومع كل ذلك فإن رحمة الله واسعة عمت الخلق جميعًا، فلم يعجل لهم العقوبة المستأصلة بسبب ذنوبهم وآثامهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 54] . ولوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المكذبين من قريش ميزة خاصة في استحقاق الرحمة وتأجيل العذاب. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] . فلعل الله يهدي ضالهم فيستغفرون، أو يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويعبده. ولكن لا بد للاستمرار على الكفر والجحود والعناد من نهاية، {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} . كما جرت سنة الله فيمن سبقهم من أهل القرى، والسعيد من اتعظ بغيره وأخذ العبرة من حال القرون الخالية، ولا تزال القرى ماثلة بأطلالها خاوية على عروشها، وهم يمرون عليها مصبيحن وبالليل أفلا يتذكرون فهل من معتبر؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث : 1- في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . بيان لحشرهم مجردين عن الثياب والمال والأعوان، وفي ذلك ترسيخ لحقيقة وردت في المقطع السابق وهي أن زينة الحياة الدنيا تذهب مع الحياة الدنيا، لأنها لم ترتبط بقيم باقية خالدة "ذكر الله وما والاه". 2- أسلوب الالتفات من الأساليب البلاغية العريقة في البيان القرآني لإعطاء كل مقام ما يناسبه من أفانين القول. فلما كان الحديث عن القدرة والعظمة جاء التعبير بإسناد الأفعال إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه "نسير، وحشرناهم، فلم نغادر، جئتمونا، خلقناكم، نجعل، وجعلنا وصرفنا، نرسل، أهلكناهم". ولما كان الكلام عن الوحدانية والتفرد بالخلق والتدبير ونفي الشركاء، جاء التعبير بضمير المتكلم المفرد "أولياء من دوني، ما أشهدتهم، وما كانت، واتخذوا آياتي". وعندما يكون الحديث عن الخالق المنعم الرحيم بعباده على الرغم من كفرانهم للنعمة وعدم قيامهم بواجب الشكر، يأتي التعبير بإسناد الأفعال إلى الاسم الظاهر، وخاصة إلى "الرب". "وعرضوا على ربك صفًا، ولا يظلم ربك أحدًا، ففسق عن أمر ربه، ويستغفروا ربهم، ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه، وربك الغفور ذو الرحمة". وكذلك في أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الحضور والعكس. 3- في قوله تعالى عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وفي آبة البقرة {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] . وفي آية الأعراف {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 11، 12] . في هذه الآيات وغيرها بيان لعلة انحراف إبليس وهي "الكبر" وذلك لنظرته الخاطئة للقيم -قال: خلقتني من نار وخلقته من طين- لقد نظر إلى الصنعة فاعترض من خلالها على الصانع، وتمرد على أمره. قال العلماء: من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجوًا، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجوًا1. 4- كل الولاءات والصلات والأنساب والقرابات مبتورة مقطوعة إلا الموصول بالإيمان بالله ورسوله وشرائعه.   1 انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 89، ونظم الدرر للبقاعي: 12/ 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 لذا تنقلب المودة إلى كره، والولاء إلى عداوة، والصلة إلى قطيعة والنصرة إلى براءة. يقول تعالى في شأنهم: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] . وقال أيضًا: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] . وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 66، 67] . وهو الفاصل المشار إليه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} . 5- وفي ثنايا المقطع الثالث نلحظ الدعوة إلى ترسيخ قيم وحقائق، والدعوة إلى اجتثاث قيم أخرى زائفة: ولعل أبرز القيم الصحيحة في المقطع تتبلور في الآتي: أ- كرامة آدم وذريته على الله تعالى بإسناد مهمة الاستخلاف في الأرض له، وإسجاد الملائكة له، وطرد إبليس من رحمته من أجله. ب- من شأن الإله الحق التفرد بالخلق والتدبير، وهو الجدير بإعطاء الولاء له وتوجيه المحبة إليه. جـ- الطريق المنفذ من الضلال في الحياة الدنيا، ومن عذاب جهنم في الآخرة اتباع الكتب المنزلة والكتاب المهيمن عليها القرآن الكريم والاقتداء برسل الله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. د- أخذ العظات والعبر من مصير الأقوام السابقين، والالتجاء إلى الله لتجنب ما حاق بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وتقابلها القيم الزائفة الباطلة وتظهر من خلال: أ- زوال زينة الحياة الدنيا وظهور أصحابها مجردين عن الأصبغة والألوان كما خلقوا أول مرة. ب- قدوة الضالين إبليس المتمرد على طاعة ربه، وسبب غوايته عتوه تكبره. فمن يتخذه وذريته أولياء من دون الله -مع عدم ما يؤهلهم للتطلع إلى مقام الألوهية من الخليق والتدبير- فقد باء بالخسران المبين، وستظهر فداحة الخسارة يوم ينادونهم فلا يستجيبون. جـ- سبب ضلال الناس: اتباع الهوى، والمجادلة بالباطل، لدحض الحق، الاستهواء بالدعاء والمصلحين، واتباع سنن السابقين في استعجال العقوبة الدنيوية. د- تعطيل وسائل المعرفة، وعدم الاعتبار بمصير المكذبين السابقين على الرغم من مرورهم في أسفارهم على ديارهم الخاوية على عروشها ومساكنهم المندثرة التي لم تسكن من بعدهم. كل ذلك كان من دواعي هلاكهم ودمارهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم مدخل ... المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا، فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [60-82] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله : سبق أن ذكرنا في مبحث "المناسبات في السورة" أن قصة موسى والخضر عليهما السلام تتعلق بالهدف الأساسي لسورة الكهف من حيث الاستنكار على اليهود الذي زودوا وفد قريش بأسئلة تعجيزية ليتثبتوا -حسب زعمهم- من صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به فسيقت لهم هذه الحادثة أن هذا المنهج ليس فهمًا صحيحًا في التثبيت من صدق النبي فهذا موسى عليه السلام من أعظم أنبياء بني إسرائيل وأكرمهم على الله تعالى، قد جهل ثلاث مسائل واحتاج إلى من يعلمه إياها، ولم يؤثر ذلك في مكانته العظيمة وفضله وسبقه وكونه من أولي العزم من الرسل. فالقصة وثيقة الصلة -من هذه الزاوية- بهدف سورة الكهف وهو إثبات الرسالة، وبيان صدق الرسول. ولكن ما مدى صلة هذه القصة بالعنوان الذي اخترناه "القيم في ضوء سورة الكهف"؟ إن هذه القصة تمثل جانبًا مهمًا أيضًا في الزاوية التي نتناول منها السورة، فهي تمثل قيمة العلم الحقيقية، وتسوق نموذجًا فريدًا لما ينبغي أن يتحلى به طالب العلم والعالم من صفات، وحقيقة العلم الذي يحرص عليه وثمرته. إن قصة أصحاب الكهف تناولت قيمة السلطة والسلطان. وتناولت قصة صاحب الجنتين قيمة المال والرجال: وتتناول هذه القصة قيمة العلم وحقيقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 هذان وجهان للمناسبة بين هذا المقطع وبين هذه السورة والعنوان الذي تناولها تفسير السورة من خلاله. فما أوجه المناسبة بين هذا المقطع وسابقه؟ هناك عدة أوجه للمناسبة بين هذا المقطع وسابقه، ومن الأوجه التي ذكرها المفسرون ما هو وثيق الصلة بالمقطع ومنها ما هو غير واضح الارتباط، وأذكر بعض الوجوه واضحة الارتباط والصلة بالمقطع السابق. 1- ذكر في المقطع السابق قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} . وذكر في هذا المقطع لون من ألوان تصريف القول بأسلوب القصة والحوار وفيه من عظيم الحكم، والآداب والعظات والعبر الشيء الذي لا يحاط به، وسنورد جملة من ذلك عند العرض الإجمالي وفي مبحث العظام والعبر لهذا المقطع الرابع. 2- ذكر في المقطع السابق قوله تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وهو في سياق المؤاخذة على الإنسان الذي لا يستسلم لبراهين الحق وأدلة العقل، وظهور الحجة، ولولا هذه الطبيعة في الإنسان لتجاوب مع نداءات الفطرة التي فطر عليها، وللبى نداء العقل فلم يتخذ أولياء من دون الله سبحانه وتعالى، ولعادي إبليس وذريته، لأن العقل يفرض عليه ذلك، ولكنه أوتي الجدل فلا يستسلم لكل ذلك إلا بعد المجاهدة ومساندة دواعي الاستسلام. وفي سياق قصة موسى والخضر عليهما السلام لون رفيع من ألوان التربية القرآنية وإلزام النفس الإنسانية حدودًا معينة في ترك الجدل ولو كان أمام واقعة ظاهرها الانحراف. ولا شك أن هذا النوع من ترك الجدل أشد على النفس، لأن المأمور بالكف عن الجدل يرى الحق معه فكيف يصبر عن إظهاره ويسكت على خلافه ولعل هذا اللون التربوي الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، لمن ترك المراء، وإن كان محقًا ... " 1 الحديث. 3- ذكر في المقطع السابق بعض وسائل المعرفة في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} . إن وسيلة الإدراك الأصلية في الإنسان هو القلب الذي انفرد به الإنسان من بين سائر المخلوقات ونقصد بالقلب تلك الملكة المعنوية التي يستطيع الإنسان بواسطتها التمييز بين الحق والباطل والخطأ والصواب وهي وسيلة التحليل والتركيب والاستنباط والإقناع، وهي التي جاء التعبير عنها باللب والعقل والفؤاد والقلب وهي التي تأتيها الغشاوة والران أو الإبصار والإشراق وهي المرادة بقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] . ولهذه الملكة صلة وثيقة بالقلب المادي المكون من اللحم، وبالمخ في الرأس المكون من النخاع والأعصاب. وهذا القلب يستمد معلوماته الأولية عن طريق الحواس الخمس وعلى رأسها السمع والبصر. فبعد ذكر وسائل المعرفة في المقطع السابق، ذكر هنا أن هنالك علمًا لا يخضع لوسائل المعرفة المعهودة عند الناس، وإنما هو علم من لدن الله سبحانه وتعالى يقذفه في قلوب بعض عباده وأصفيائه، وإما إلهامًا أو وحيًا، لذا جاء تعظيم شأن هذا العلم بإسناده إلى ضمير العظمة مع التأكيد عليه بالمؤكدات العديدة {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} . 4- ذكر في المقطع السابق أن مشركي قريش اتبعوا سنة من قبلهم من المكذبين الهالكين في طلب العقوبة الدنيوية العاجلة وذلك في قوله تعالى:   1 رواه أبو داود، انظر مختصر سنن أبي داود باب الأدب 7/ 172، والترمذي بلفظ قريب. انظر: سنن الترمذي أبواب البر 3/ 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} . وذكر أيضًا سنة الله سبحانه وتعالى في الأخذ في العاجلة أو الإرجاء إلى الآجلة وأن الخيرة في اختيار الله ومشيئته وإرادته وأمره، لو كان الإنسان مدركًا للحكمة العالية في تصريف شئون الكون، جاء ذلك في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} . وذكر في هذا المقطع ثلاث وقائع كان ظاهرها أن العاجلة خلاف المصلحة، ولكن عندما كشف النقاب عن السر الإلهي في ذلك، وبرزت الحكمة الدافعة، اختلف التقدير والتقويم للتصرفات، فقد كانت النظرة الظاهرة تقضي بإبقاء السفينة على حالها وهو أفضل لمصلحة المساكين وترك الغلام على قيد الحياة أدخل للسرور على قلب والديه من قتله وترك الجدار الآيل للسقوط أليق بتصرف أهل القرية البخلاء اللئام عقوبة لهم. ولكن حكمة الله سبحانه وتعالى وإرادته وأمره كان خلاف هذه الظواهر العاجلة، فكانت الآجلة أفضل للمساكين، وأقوم للأبوين الصالحين، وأحفظ لليتيمين في القرية. هذه الأوجه التي أراها أحكم من غيرها في الربط بين المقطعين، أما ما ذكره بعض المفسرين من ورود ذكر إبليس في المقطع السابق وذكر الشيطان في المقطع اللاحق. وذكر تمرد إبليس وتكبره عن سماع أمر ربه بالسجود لآدم فكانت عاقبته الطرد واللعنة، وعكس ذلك في قصة موسى عليه السلام حيث سمع أمر الله وأطاع وتواضع لله تعالى فذهب لتلقي العلم ممن هو دون شهرته ومكانته في قومه. هذه الوجوه وغيرها أراها عابرة لا تخلو من التكلف. وفيما ذكرته الغنية والكفاية بإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 العرض الإجمالي للمقطع الرابع : ذكرت في مقدمات تفسير هذه السورة الكريمة أن الأسلوب العام في مقاطع هذه السورة هو أسلوب القصة، كما ذكرت أن القصص التي ذكرت في هذه السورة قصص فريدة، حتى قصة موسى فتعتبر فريدة من وجه لأنها تتعلق بالسيرة الذاتية لموسى عليه السلام وبمداركه العلمية وتلمذته على الرجل الصالح الذي علمه ربه من لدنه علمًا، أما القصص الأربع في سورة الكهف قصص فريدة في القرآن الكريم. وذكرت أيضًا أن أسلوب القرآن الكريم في كثير من قصصه إغفال جزئيات كثيرة إما لعدم تأثيرها في السياق والعبر المستقاة من القصة، أو تشويقًا للسامع وإفساحًا لمجال فكرة وخياله لكي يملأ تلك الفجوات بالاحتمالات التي تخطر على باله، وفي ذلك تنشيط للذهن، وإثارة للتساؤلات لمتابعة الأحداث. وتتبلور هذه الأسس في قصة موسى والخضر عليها السلام في أبرز صورة: - فالدافع لموسى عليه السلام في اتخاذ قرار بالسفر إلى مجمع البحرين لا وجود له في ثنايا القصة. - ونفاجأ بالقصة وأحداثها وبموسى وفتاه وهما على متن الطريق وقد شرعا في السفر، وهما يتبادلان الحديث حول الوصول إلى الهدف والتصميم على ذلك. - والمكان الذي كان منه الانطلاق مجهول وكذلك مكان اللقاء بالعبد الصالح وزمانه ولئن ذكر مجمع البحرين فهو غير معلوم بالتحديد لأحد من المفسرين. وقل مثل ذلك في زمان الحادثة هل كان قبل خروج بني إسرائيل من مصر، أو بعد الخروج، وهل وقع قبل التيه أو أثناءه. - وهذا الفتى الذي رافق موسى عليه السلام من هو؟ ما دوره في مجريات الأحداث؟ ما مصيره بعد اللقاء بالعبد الصالح؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 - والعبد الصالح ما حقيقته؟ أنبي مرسل، أو ولي مكرم، أو عالم مطلع؟ وما المدة التي قضياها مصطحبين؟ وما وجهته ومصيره بعد الفراق؟ وجو الغموض والمفاجآت الذي يلف القصة من أولها إلى آخرها ملائم تمامًا للهدف منها، يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا الصدد: إن القوى الغيبية لتتحكم في القصة منذ نشأتها، فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود، فمضى في طريقه، ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة، وكأنما نسيه ليعودا فيجد هذا الرجل هناك. "ولم ينبئنا القرآن باسم الرجل تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا، وما قيمة اسمه؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة، فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي بمثلها"1. وبعد أن يكشف الرجل ستر الغيب عن تصرفاته ليبرز الحكمة من ورائها يختفي من السياق كما بدا، لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول فالقصة تمثل الحكمة الكبرى، وهي لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار ثم تبقى مغيبة في علم الله وراءه الأستار. ولولا أن السنة النبوية الشريفة أكملت جوانب وألقت الأضواء على بعض التفصيلات لما وجدنا إلى العلم الصحيح بها سبيلًا. لذا أرى من اللزام علي أن أسرد ما ذكرته السنة الصحيحة في هذا الشأن لنستعرض بعد ذلك العرض الإجمالي لمعاني الآيات الكريمة. جاء في صحيح البخاري ... عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا2 البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب   1 في ظلال القرآن: 4/ 2281 باختصار وتصرف. 2 نوف البكالي: أحد القصاص بالكوفة، وهو ابن امرأة كعب الأحبار، وكان يروي عن كعب الإسرائيليات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا". وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موسى رسول الله ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب، ولَّى فأدركه رجل فقال: أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه، إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتًا فجعله في مكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة -وفي رواية: وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك الصخرة فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر- وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذ كان من الغد، قال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} ، قال: فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا، قال: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجَّى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ -وفي رواية فوجدا خضرًا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضك من سلام؟ - من أنت؟ قال: أنا موسى فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشدًا -وفي رواية قال له موسى: وما أدراك بموسى بني إسرائيل؟ قال: الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أدراك بي ودلك علي، قال له الخضر: ما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدًا قال: أما كان لك شغل في بني إسرائيل يشغلك؟ أما يكفيك التوراة ينزل عليك؟ - {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول1، فلما ركبا في السفينة، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم -وفي رواية فخرقها ووتد فيها وتدًا- فقال له موسى: قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقها لتغرق أهلها؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} 2، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكانت الأولى من موسى نسيانًا، قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما يمشيان على الساحل إذا أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ، قال: وهذا أشد من الأولى، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي مائلًا: فقال الخضر بيده "فأقامه"، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وددنا   1 النول: الأجر. 2 إمرًا: أي منكرًا من قولهم: أمر الأمر، أي كبر وكثر، كقولهم استفحل الأمر. انظر: المفردات: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما" 1. من خلال العرض القرآني للقصة، ومن خلال بعض التفصيلات في السنة النبوية لها، يمكن تقسيم القصة إلى أربع فقرات: 1- الانطلاق والبحث عن العبد الصالح. 2- اللقاء والحوار. 3- الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة. 4- الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة. ونظرًا لطول الحديث عن أحداث القصة مجتمعة، فالأولى أن نذكر كل فقرة باستقلال في العرض الإجمالي، وكذلك في العظات والعبر، وسأحاول إلقاء الضوء على بعض الجوانب والإشكالات التي أثارها بعض المفسرين على نقاط في القصة من خلال العرض والمناقشة.   1 انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير 5/ 232، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل 7/ 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الانطلاق والبحث عن العبد الصالح : تقدمت الإشارة إلى أن القرآن الكريم لم يذكر عن أسباب رحلة موسى عليه السلام للبحث عن العبد الصالح شيئًا. إلا أن السنة النبوية أوضحت أن سبب الرحلة كان عتاب الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى عليه السلام عندما سئل هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. وقبل البدء بعرض أحداث الفقرة الأولى من هذا المقطع، أحب أن أتناول جانبًا مما يورده القرآن الكريم من عتاب الله لأصفيائه من خلقه، وذلك لئلا يتسرب للنفوس شيء من وساوس الشيطان تجاه عصمة الأنبياء والمرسلين، ولكيلا تهتز الصورة المشرقة في أذهان المؤمنين عن رسل الكرام. إن ما يرد في آيات الذكر الحكيم من عتاب لبعض الأنبياء والمرسلين نلحظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فيه ثلاثة جوانب: أولها: إثبات بشرية هؤلاء الأنبياء وأنهم وإن بلغوا قمة الكمالات البشرية فلا تزول عنهم صبغة البشر المخلوق الذي تتنازعه الطاقات والقوى المودعة فيه، فإن صلتهم بالملأ الأعلى، وسعيهم الحثيث لتطبيق ما يوحى إليهم والمسارعة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى يجعل منهم قدوة لأتباعهم في الإيمان والعمل الصالح، إلا أن دواعي الحاجة الإنسانية من طعام وشراب وسير في الأسواق للكسب والمعاش، وعدم الاطلاع على الغيب ومستقبل الأيام وما يعتورهم من مرض ونسيان وضعف في القوى الجسمية كل ذلك يؤكد بشريتهم فلا يستطيعون النجاة منها، وإلى هذا الجانب أشار القرآن الكريم في دحض شبهة من زعم أن عيسى وأمه إلهين من دون الله. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 72-75] . فبلوغ الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه الدرجات العليا من القربى والطاعة لا تخرجهم عن طبيعة البشر ولا يجوز اتخاذهم شركاء مع الله سبحانه وتعالى. وقد ضلت الأمم السابقة في هذا الأمر فاختلطت عليهم المقاييس، فبلغ من تقديسهم لأنبيائهم وصالحيهم أن عبدوهم من دون الله، كما فعلت النصارى فضلوا وأضلوا. وأبرزت بعض الأمم جانب البشرية فيهم وضخمته ونفت عنهم المزايا التي يتميزن بها عن غيرهم، فنسبت إليهم كل نقيصة ظلمًا وزورًا فضلوا وأضلوا، كما فعل اليهود في سير أنبيائهم. والمنهج العدل أن يعتقد في اصطفائهم من البشر لحمل رسالة ربهم وتبليغها إلى الناس على خير وجه، وصلتهم بالملأ الأعلى وتلقيهم عن طريق الوحي إليهم. وهي مكانة لا تدانيها مكانة غيرهم من البشر. إلا أنهم يبقون من البشر {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} . فوجود النسيان والسهو من بعض الأنبياء تأكيد لهذا الجانب، من غير أن يؤثر على مكانتهم الرفيعة عند ربهم ومولاهم جل جلاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ثانيها: جانب تربوي تعليمي، إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يمثلون قمة العبودية لله تعالى، وهم القدوة لغيرهم في ذلك. كما أن سيرتهم الذاتية هي النبراس لغيرهم أثناء السير إلى الله تعالى فلئن وقع منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ما يعاتبون عليه سرعان ما يرجعون إلى الله ويلتجئون إلى عفوه ومغفرته ويتفيئون ظلال رحمته ورضوانه. إن في رسم معالم التوبة والاستغفار واستدرار الرحمة والرضوان من خلال سيرة الأنبياء تشريعًا لأمم، ولو لم تكن هذه الوقائع في سيرهم فأنى للمذنبين أن يدركوا طريق الإنابة إلا ظلال رحمة ربهم. إن في لجوء آدم عليه السلام إلى ربه بالابتهال، والإنابة {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وفي استسلام نوح عليه السلام لربه ورجوعه إليه، وإيثار رضوانه على ما تطلعت إليه نفسه بشأن ابنه أكبر المعالم التربوية إلى يوم القيامة. {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] . وفي ابتهال ذي النون في بطن الحوت {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . زاد لمن وقع في ضيق الدنيا وتقلبات أحوالها وسدت في وجهه السبل. وفي إنابة داود عليه السلام واستغفاره وإقباله على ربه بالطاعة والعبادة إدراك للصلة بين العبد وخالقه ومولاه ومالكه. {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 24، 25] . لو ترك البشر يشرعون لأنفسهم طريق التوبة والإنابة والاستغفار لما اهتدوا إلى رضوان ربهم، ولضلوا كما ضل من شرع لنفسه شئون حياته الدنيوية إن "الدعاء هو العبادة"1 والشرائع التعبدية كلها من الله سبحانه وتعالى وليس لأحد أن يشرع   1 رواه الترمذي في كتاب التفسير: 4/ 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 لنفسه والمقربون إلى الله سبحانه وتعالى يدركون ما يليق بالذات القدسية من كمالات وما تنزع عنها الذات القدسية من نقص ومحال، والبشر عاجزون عن ذلك فما يكون كمالًا في حق البشر قد يكون نقصًا محالًا على الذات الإلهية إن وجود الولد والزوجة والقرين والشريك من متطلبات الحياة الإنسانية وتعتبر من الكمالات البشرية ومن عدمها اشتكى من نقص في نفسه. أما بالنسبة لله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88-93] . {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 100-103] . ثالثها: إن من يمعن النظر في الأقوال والأعمال التي عوتب عليها الأنبياء صلوات الله عليهم يجدها لا تخرج عن دائرة الأقوال والأفعال التي تدخل في دائرة الاجتهاد وورود الاحتمالات عليها، والموقف الذي اتخذه النبي في الغالب يكون مما يقال عنه أن الأولى كان الوجه الآخر، إلا أن هذه الأولوية لا تدرك إلا بعد التنبيه الرباني ولا يمكن الاستدلال عليها بالظواهر والأسباب المتاحة عند وجود الحادثة وإلا لأدى إلى ارتكاب النبي المخالفة الواضحة وهم منزهون عن ذلك. وإذا كان العتاب يرد على خلاف الأولى، والتهديد يرد على الأمر المفروض غير الواقع1.   1 كما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44-47] . وكقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 56] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ولمن العتاب؟ ولمن التهديد؟ لصفوة الله من خلقه وأنبيائه المرسلين إلى عباده فكيف يكون الحال بالنسبة لمن خالف صريح أمره وارتكب صريح نهيه وعصى محكم شرعه. إن في ذكر هذه الألوان من العتاب إيجاد حاجز نفسي بين العباد وبين المعصية ومخالفة شرائع الله. وبالنسبة لمعاتبة موسى عليه السلام التي نحن بصدد الحديث عنها فهناك احتمالان لا ثالث لهما: أ- إنه نسي رد الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، كما نسي غيره من الأنبياء والمرسلين: كما نسي آدم عليه الصلاة والسلام، وكما نسي سليمان عليه السلام وكما نسي محمد صلى الله عليه وسلم {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} . ولكن النسيان في أمور الشرائع والعبادات لا يخلو من نوع من الأثر والتعقيب أو التعليق، فالنسيان في بعض العبادات يجبر بعمل لاحق كالصلاة، وفي بعض المعاملات بتحمل الآثار المالية وإن كانت المؤاخذة الأخروية غير واردة في شأن النسيان فإن التنبيه أو العتاب الدينوي مما يقوم الأمر ويعدله. هذا لعامة الناس، فكيف الأمر بالنسبة للقدوة وأئمة الهدى الذين تكون أقوالهم وأفعالهم وإقرارهم تشريعًا. ب- إن موسى عليه السلام عندما نفى أن يكون من الناس من هو أعلم منه، إنما قصد الناس من أمته من بني إسرائيل وفي أمور الشرائع التي كلف بها ومن المعلوم عند العلماء، أن الرسول أعلم الناس بأمور الشرائع المنزلة عليه. فيستحيل أن يكون في أمته من هو أعلم منه ولو بجزئية من الشريعة لأن في ذلك خدشًا لمقام النبوة. وقد ذهب بعض العلماء كالإمام الفخر الرازي إلى أن النبي أعلم الناس من أمته بجميع العلوم الموجودة في عهده -ولم يقصرها على الشرائع- لذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 السبب السابق لذا رجح الفخر الرازي أن الذي {عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَاب} هو سليمان عليه السلام نفسه وليس أحد أتباعه المؤمنين به1. وإني وإن كنت لا أميل إلى ما ذهب إليه الرازي، إلا أن مبدأ كون الرسول أعلم أمته بالشرائع المنزلة عليه مبدأ متفق عليه بين العلماء فقول موسى عليه السلام كان من هذا القبيل، فأخبر عن ظاهر علمه بالمبدأ المقرر. إلا أن الصلة القلبية للأنبياء بمصدر الوحي والعلوم الربانية تعطي لدائرة المدارك أفقًا أوسع، ودقة أبلغ، فكان العتاب الإلهي، لأن صيغة التعبير جاءت عامة من غير تخصيص ومطلقة من غير تقييد. أقدم هذه الأسس بين يدي البحث في قصة موسى والخضر عليهما السلام مخافة أن تند بالقلم كلمة أسيء فيها الأدب مع مقام نبي الله موسى عليه السلام، أو يفهم أحد القراء عبارة على خلاف ما أقصد فتورث شبهة في النفس أو استهانة بحق نبي الله، وفي ذلك مزلق وإلحاد في دين الله، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] . وأعود إلى سياق فقرة انطلاق موسى عليه السلام للبحث عن العبد الصالح إننا نستشف من افتتاحية الفقرة أن موسى عليه السلام كان قد تلقى أمرًا من ربه للذهاب إلى العبد الصالح والتعلم منه بدليل هذا الجزم والتصميم {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} ، لو لم يكن الأمر واجبًا عليه لكان له في بني إسرائيل ما يشغله، ولما كان له أن يتركهم أحقابًا من الزمان وإذا أدركنا أن الحقب فسر بالدهر، والحقبة الواحدة تبلغ ثمانين عامًا وقيل أكثر، إذا علمنا ذلك وأدركنا مدى العزم والتصميم الذي كان عليه موسى عليه السلام للظفر بالعبد الصالح، فلا يكون ذلك إلا عن تكليف كلف به. ومرة أخرى نفاجأ بوجود الحوت معهما ولم يحدثنا النص القرآني عن حكمة   1 انظر تفسيره مفاتيح الغيب: 24/ 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وجوده إلا أن السنة النبوية بينت لنا أيضًا سبب حمله معهم، وهو أن عودة الحياة إليه علامة وصولهم إلى مجمع البحرين مكان وجود العبد الصالح -وأستبعد ما ذهب إليه بعض المفسرين من أنهم حملوه زادًا للسفر، لأن نص الحديث النبوي جعله أمارة البلوغ واللقاء- والقصة مليئة بالمفاجآت وخوارق العادات، التي تبرز جانب قصور العلم البشري، وإحاطة المشيئة الإلهية بالكون وتصريف شئونه. فلما جلس موسى عليه السلام وفتاه على الصخرة، وكان المفروض أن الفتى مكلف بالحراسة والخدمة ومراقبة الحوت في المكتل، وإخبار موسى عليه السلام بكل ما يطرأ، إلا أن النسيان الذي لا يعهد في مثل هذه الحالة يطرأ على الفتى يوشع بن نون فينسى عودة الحياة إلى الحوت وخروجه من المكتل وذهابه في البحر، وبقاء السرب في البحر، إن أي أمر عادي في حياة الإنسان يمكن أن يغفل عنه بحكم الإلف والعادة، أما مثل هذه الخوارق فلو حدثت مرة واحدة لبقي القلب والعقل والفكر مشغولًا بها طيلة العمر، فما بالك إذا كانت شئون السفر والحصول على المبتغى مترتبًا على عودة الحياة إلى الحوت. إنها دروس ربانية، ثم لا يشعران بالتعب والحاجة إلى الراحة والطعام إلا بعد مضي بقية اليوم وليلة كاملة من الحادثة، ولا يخطر الأمر على بال الفتى إلا بمناسبة الرجوع إلى المكتل لإخراج الطعام، والشيء بالشيء يذكر {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} . وعادا أدراجهما فقد تحققت أمارة اللقاء، لكن الصخور تتشابه أين الصخرة التي أويا إليها، إلا أن العلامة الجديدة للاستدلال كان ذاك النفق الذي تركه الحوت كالطاق في البحر، وتماسك الماء عن الجريان عليه بمشيئة الله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح : 1- مشروعية الرحلة في طلب العلم. 2- من الأدب الإسلامي التلطف مع الخدم والعبيد، ومناداتهم بالأسماء المحببة وفي الحديث "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي" 1. 3- في اصطحاب موسى عليه السلام لفتاه مشروعية اتخاذ الرفيق للاستئناس والاستعانة به عند الحاجة. 4- من شرط الرفقة في السفر أن يكون أحدهم أميرًا، وعلى الأمير أن يعلم صحبه عزيمته ومقصده ويخبر عن مدة مكثه في سفره. 5- مما ينظم شئون السفر ويخفف الأعباء ويزيد من التلاحم والترابط بين المسافرين توزيع الأدوار والمهمات، إلا أن الجميع يتضامنون في تحمل المسئولية ولو كان الخطأ أو النسيان في فرد واحد. لذا نسب النسيان إلى موسى وفتاه وإن كان حصوله من الفتى {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} . {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} . 6- في نسيان الفتى حادثة عودة الحياة إلى الحوت وانسلاله من المكتل واتخاذه السرب في البحر، وعدم جرية الماء على هذا السرب -وكلها خوارق- في هذا النسيان، تنبيه رباني على أن كسب العلم لا يتم إلا بإرادة الله ومشيئته كما أن ثبوته وبقاءه لدى الإنسان لا يتم إلا بإرادته ومشيئته مهما بذل الإنسان من جهد وحرص على ذلك. الحقيقي لكل ذلك هو الله سبحانه وتعالى لا خالق ولا فاعل على الحقيقة سواه. وهو من قبيل {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] .   1 رواه الإمام أحمد في المسند: 2/ 444؛ والإمام مسلم في صحيحه كتاب الألفاظ من الأدب: 7/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 اللقاء والحوار : هذه الفقرة على وجازتها واختصار عباراتها تعد من الذخائر القرآنية التي لا يحاط بمعانيها وقد استنبط المفسرون آدابًا وحكمًا من هذه الآيات المعدودة، وسأذكر طرفًا من هذه الحكم عند الحديث عن العظات والعبر. لكني أذكر قبل ذلك: المنزلق الذي هلك فيه بعض الناس. لقد ضلت طائفتان في شأن أفضلية موسى على الخضر عليهما السلام، والمنطلق الذي انطلقوا منه أن الأستاذ ينبغي أن يكون أفضل من التلميد فكيف يذهب موسى عليه السلام للتلقي من الخضر عليه السلام؟ فذهبت طائفة -مقتفية أثر اليهود- إلى أن موسى المذكور في القصة ليس موسى بن عمران رسول الله، وإنما هو رجل آخر من بني إسرائيل وكان نوف البكالي يقول بهذا وهو ما رد عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما تقدم في حديث البخاري. والدافع لهذه الطائفة للذهاب هذا المذهب هو أن في هذا التلقي ازدراء وتحقيرًا لنبي الله موسى عليه السلام، وهم يريدون بهذا الإنكار إبعاده عن ذلك. وضلت طائفة أخرى عندما قررت المبدأ نفسه وقالت إن الأستاذ ينبغي أن يكون أفضل من التلميذ، ولما ثبت أن نبي الله موسى عليه السلام ذهب إلى ولي الله الخضر عليه السلام، فالخضر أفضل من موسى والولي أفضل من النبي، وعمموا هذه القاعدة إلى أبعد من ذلك ليقولوا، إن الولي قد يصل إلى مرتبة لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل. وهذه ضلالة وجهالة، فالولي أحد أتباع نبي من الأنبياء وأحد المتلقين لشرائع الله عن طريق النبي، فكيف يكون أفضل من النبي نفسه أو تكون مرتبته أعلى من مرتبة النبي؟ وقد ذهب ابن حجر العسقلاني في فتح الباري إلى كفر القائلين بهذا القول لمخالفتهم أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 والقول الحق في ذلك: أن الخصوصية لا تقتضي الأفضلية، كما أن الأفضل قد يتلقى من الفاضل، ولا يعد ذلك نزولًا للملتقي عن مرتبته أو مكانته أو ازدراء له وتحقيرًا. وموسى عليه السلام أفضل من الخضر بالاتفاق، لأنه نبي ورسول، أنزل الله عليه التوراة وأسمعه كلامه {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} كما أنه من أولي العزم من الرسل المذكورين في قوله الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] . والخضر عليه السلام مختلف في نبوته، وليس رسولًا باتفاق1. وخلال اللقاء القصير تدور محاورة بين الرجل الصالح وبين موسى عليه السلام، نلاحظ فيه شخصية الرجل الصالح المملية للشروط، الواقفة موقف   1 ذهب جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة إلى التفريق بين النبي والرسول: فالنبي: من أتاه الوحي من الله ونزل عليه الملك بالوحي. والرسول: من يأتي بشرع على الابتداء أو بنسخ بعض أحكام شريعة قبله. فكل رسول نبي لا العكس. انظر: أصول الدين لأبي منصور البغدادي: 154. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "النبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول". انظر: كتاب النبوات: 172. فالتفريق عند ابن تيمية ينصب على قضية المبالغين أو المكلفين فإن كانوا من أتباع شريعة سابقة ووجد فيهم التقاعس عن أمور الشريعة فالنبي يجدد أمر الشريعة في نفوس هؤلاء وفي الأصل لم يكونوا مخالفين معاندين أما الرسول فيرسل إلى قوم مخالفين ليبلغهم رسالات الله سواء كانت شريعة منزلة عليه ابتداء أو شريعة رسول سابقة عليه. بينما التفريق بين النبي والرسول على قول أبي منصور البغدادي فينصب على الشريعة نفسها فالنبي يكون على شريعة نبي سابق عليه، يوحي إليه لتجديدها في نفوس الأتباع أو دعوة المخالفين إليها. أما الرسول فيأتي بشريعة مستقلة ابتداء أو بنسخ وزيادة أو تعديل في شريعة من سبقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المعلم المربي، الواثقة من نفسها المتحدثة عن الحقائق الغيبية. كما نلاحظ شخصية موسى عليه السلام المتلهفة لطلب المعرفة، المتواضعة أشد درجات التواضع، الحريصة على الظفر بالقبول عند الرجل الصالح ولقد أشارت الآيات الكريمة إلى جانب من تفخيم شأن الرجل الصالح، فهو عبد من خواص عبيد الله، المنسوبين إلى الله جلا جلاله والعبودية منتهى درجات الكمالات الإنسانية وما ذكر أحد في القرآن الكريم بصفة العبودية المنسوبة إلى الله تعالى إلا في سياق التكريم والتشريف1. كما أن في ذكر إيتائه رحمة من عند الله إضفاء مزايا جليلة على مكانته وفي ذكر تعليمه العلم اللدني تشريف وتوقير له. كل ذلك في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} . ولعل سياق النص الكريم يدل بإشاراته وظلاله إلى ما ورد في الحديث الصحيح من سبب خروج موسى عليه السلام، وعتب الله سبحانه وتعالى له. ليلقى من الرجل الصالح لونًا من ألوان الاستعلاء بالعلم اللدني. ولكن هذا. الاستعلاء لا يخرجه من إعادة الفضل والنعمة إلى مسديه كما ورد في صحبح البخاري: "فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك من سلام، من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدًا، قال: أما يكفيك أن التوراة بيدك؛ وأن الوحي يأتيك؟ يا موسى إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه ... فأخذ طائر بمنقاره من البحر، وقال: والله ما علمي وعلمك من جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر"2. إن الإشارة إلى سعة علم الله في هذا الموقف تذكير لموسى عليه السلام   1 انظر: مقطع افتتاحية سورة الكهف عند الحديث عن قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} : 193 من الكتاب. 2 انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير: 5/ 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 لساعة النسيان التي كانت وراء هذه الرحلة العلمية1. وهي في نفس الوقت من الحوافز لحرص موسى عليه السلام للمصاحبة والتلقي، لذا نراه يوافق مسبقًا على الشروط وأنه سيكون عند حسن ظن العبد الصالح به، ولا ينسى أن يربط ذلك بالمشيئة الربانية {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} . ووقفة مع دلالات هذه الفقرة وعظاتها وعبرها.   1 ذهب المفسرون مذهبين في الدافع للخضر عليه السلام إلى القول: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} في بداية اللقاء. الأول: لبيان أن المجال الذي يعمل فيه -تنفيذًا لأوامر ربه- غير المجال الذي كلف به موسى لأداء رسالة ربه، ولكي لا يتوهم موسى أن يتهمه بالقصور أو العجز، فأسرع إلى بيان السبب، بأن هذا ليس مما كلف به موسى والأنبياء المرسلون الآخرون، بل هو من الأشياء التي لم يحط بها البشر خبرًا، فإن لم يصبر عليها موسى فليس مؤاخذًا ولا متهمًا بالتقصير، فقال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرً} ، تبريرًا وإعذارًا مسبقًا لموسى إن لم يصبر. والمذهب الثاني للمفسرين: هو أن الخضر اختار الكلمات والأسلوب قصدًا إلى التعليم وإبراز مكانة العلم وعزته، لذا جاء قوله مؤكدًا بخمس مؤكدات: أ- "إن" المفيدة للتوكيد. ب- لن والنفي بها آكد من النفي بغيرها من أدوات النفي. جـ- العدول عن -لن تصبر- إلى قوله: {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وذاك يفيد نفي الصبر بطريق برهاني فكأنه قال له: إني مطلع على أحوالك وقدرتك على الاحتمال فوجدتك بعد المعاينة أنك لا تستطيع الصبر. د- تنكير "صبرًا" في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، فكأنه قال: لا تصبر معي أصلًا شيئًا ولو يسيرًا من الصبر. هـ- ثم تعليل عدم الصبر بعدم إحاطته بهذه الأمور مؤكد خامس. فعلى هذا المذهب قول الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} تعجيب من شأنه وتوجيه تربوي لاستشرافه وعزمه. ولعل ما تقدم في الحديث الصحيح من دوافع الخروج ونقاط الحوار بينهما يرجح المذهب الثاني. وهو الذي رجحته وجريت عليه في الفقرات اللاحقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار : 1- تواضع الطالب للمعلم وإشعاره بهذا التواضع، يكون أدعى إلى توجه المعلم القلبي، فيبارك الله في العلم وتفتح آفاق المعرفة أمام الطالب ويبرز هذا التواضع في مخاطبة موسى عليه السلام للعبد الصالح بصيغة الاستفهام {هَلْ أَتَّبِعُك} ، أي هل تأذن لي أن أكون لك تبعًا؟، ولم يقيد هذ التبعية بجانب من جوانب الصحبة أو الخدمة وإنما أطلقها، وفي ذلك إبراز لجانب الثقة المطلقة في المعلم. 2- رفع المعلم إلى مقام رفيع والاعتراف له بالأستاذية، وإنزال النفس مكان التلمذة، تقدير لمكانة الأستاذ، وتواضع وهضم نفس من جانب الطالب، وهو من أسباب حصول النفع بإذن الله للطالب، لأن استشعار الطالب بهذا الفارق الكبير بينه وبين معلمه يزيده حرصًا على عدم تفويت شيء مما يقوله معلمه، بينما تكبر الطالب ورؤيته نفسه أنه أعظم قدرًا، أو أكثر فهمًا من أستاذه فمن الحواجب التي تحجب بين الطالب والفائدة من هذا الأستاذ1. أبرز موسى عليه السلام هذا الجانب من الفرق بينه وبين العبد الصالح بقوله {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} ، فعلم الخضر عليه السلام قد تلقاه من الله جل جلاله، يدل على ذلك سياق الآيات "وعلمناه" وبناء الفعل للمفعول "عُلمت". أما تعليم موسى فيكون على يد العبد الصالح "تعلمني"، وكأنه يقول إن الفرق بين علمك وعلمي كالفرق بين المعلمين، وهذا منتهى التقدير والاعتراف بالمنة، كما قيل: "من علمني حرفًا كنت له عبدًا" وقال شعبة: من أخذت منه أربعة أحاديث أقررت له بالعبودية حياتي.   1 يقول الإمام النووي: قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وعليه أن ينظر معلمه بعين الاحترام ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على طبقته فإنه أقرب إلى انتفاعه به، وكان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه مني. انظر التبيان في آداب حملة القرآن/ 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 3- وفي "من" التبعيضية "مما" إشارة إلى جانبين: إن موسى عليه السلام لا يريد إرهاق الأستاذ ومطالبته بكل ما عنده وإنما يكتفي ببعض ما عنده الذي يراه الأستاذ صغيرًا أو قليلًا ولكنه في حد ذاته علم راشد عظيم. وأيضًا بيان لجانب من تواضع موسى واستدرار عطف أستاذه لقبوله طالبًا عنده. فالفقير الذي يقول للغني: "أعطني من بعض ما أعطاك الله" يظهر قناعته باليسير ويبرز سعة ما عند الغني وأن ذلك لا يرهقه. 4- العلوم التي يحرص عليها هي العلوم الراشدة وهي الوسيلة إلى الفلاح، وذلك تزكية للعلم لدى العبد الصالح "مما علمت رشدًا". 5- في تواضع موسى عليه السلام على الرغم من مكانته وشرفه في قومه والحرص الشديد الذي أظهره لطلب العلم رفع لمكانة العلم والعلماء، وبيان أن الشرف يزداد بالعلم وأن التواضع في سبيل طلبه رفع للمكانة. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "ذلك طالبًا فعززت مطلوبًا"1. 6- على المتعلم أن لا يعترض على أستاذه في بداية الطلب، لأن ذلك قد يؤدي إلى حرمانه من علوم أستاذه، وخاصة إذا لم تتبين له الطريقة المناسبة في توجيه السؤال بحيث لا يزعج أستاذه. وكم كان أسلوب السؤال سببًا في الغضب والحرمان والعتاب: انظر إلى أسلوب بني إسرائيل في الطلب {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 68] . وإلى أسلوب استفسار الحواريين {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] . فكأنه رب موسى وعيسى وليس ربهم؟ علمًا أن القوم مؤمنون بالله وبرسالة النبي الذي يخاطبونه؟!   1 انظر التبيان في آداب حملة القرآن: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بينما نجد الأسلوب القمين بالإجابة في دعاء عيسى عليه السلام ربه {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114] . 7- إذا شعر المعلم أن تلميذه ليس مبتدئًا، وأن علومه السابقة تهيئ له كثرة الاعتراضات والمناقشات، للمعلم أن يملي عليه شروطه التي تهيئ الظروف المناسبة لأداء رسالة التعليم، وعند عدم الالتزام بالشروط له أن يشترك المفارقة ويطلبها. 8- للأستاذ أن يكشف عن جوانب النقص في معلومات تلميذه، ويعرفه بحقيقة علمه القاصر -وذلك من باب التأديب لا التحقير- ولكيلا تأخذه النخوة والغرور العلمي. 9- وللأستاذ أن يختبر مدى إخلاص الطالب ورغبته الصادقة في التحصيل ومدى قدرته على تحمل المشاق في سبيله، وحدود صبره على غلظة الأستاذ وجفائه. كل ذلك نأخذه من إيحاءات قول الخضر عليه السلام: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} . 10- ولطالب العلم -بعد الاعتماد على الله سبحانه وتعالى وربط الأمر بمشيئة مولاه- أن يُري الأستاذ من نفسه الجلد والتحميل والمصابرة، وأن عين الأستاذ ستقر به وأنه سيجده حيث يحب، وذلك تحدثًا بفضل الله ونعمته عليه واستظهارًا لرغبته الصادقة في الطلب -لا من باب تزكية النفس أو الرياء. {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة مدخل ... الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة: بعد ذاك الحوار المعبر ذي المغزى، انطلق الركب الكريم1، واقتصر النص القرآني على الأحداث ذات الشأن في هذه الرحلة -كما هو الحال في شأن القصص القرآني- ولم يحدد الاتجاه والمقصد، وكأنها رحلة مطلقة متروكة لمجريات الأحداث، ليكون الموقف المناسب تجاه الحدث الطارئ، هذا ما يبدو في الظاهر، أما في علم الغيب فلا صدفة ولا مفاجأة، بل الأمور تجري حسب تقدير العزيز العليم بها. ويمر الركب على مساكين يعملون في البحر، على سفينة لهم، ينقلون الناس من ساحر البحر إلى آخر، لقاء أجر معلوم، فيعرفون الرجل الصالح فيحملونه وصاحبه من غير أجر تكريمًا وتقديرًا، فلا يلبث الخضر أن ينزوي إلى طرف من السفينة ليقلع لوحًا من خشبها، ويوتد مكان الخرق وتدًا ليحد من تسرف الماء إليها، ولا يملك موسى نفسه من الغضب والانفعال تجاه هذا التصرف، كيف يقابل إحسان القوم بمثل هذا التصرف؟! ثم بأي وجه حق يعتدي على مالهم بالإتلاف؟! وكونهم مساكين تستدر حالهم العطف وتثير الشفقة عليهم. ومن شأن هذا الخرق أن يغرق ركاب السفينة الأبرياء، فما وجه المشروعية في كل ذلك؟! {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} إن هذا العمل بالمقاييس الظاهرة وما يحتمل أن يترتب عليه من المهالك أمر عظيم ولا شك. ولكن الرجل الصالح ينظر إلى المسألة من زاوية أخرى، بناء على الحكمة العليا والمصلحة الآجلة، وتطبيقًا للقاعدة الشرعية المتفق عليها بين العلماء الربانيين "يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأقوى" فيذكر موسى عليه السلام {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} . وتهدأ نفس موسى عليه السلام ويذكر العهد الذي قطعه على نفسه بعدم الاعتراض والاستفسار، حتى يكون الخضر هو البادئ بالتوضيح والبيان، وتطمئن نفسه إلى أن صاحبه ليس كسائر الأصحاب، وإنما هو رجل رباني على جانب من العلم لا يعمله موسى.   1 أسدل الستار على فتى موسى من وقت اللقاء، وسيقت القصة بأسلوب المثنى مما يدل على أنه لم يكن مع موسى والرجل الصالح أثناء الرحلة، وأغلب الظن أن موسى أمره بالعودة إلى موطنه، لأن مدة الرحلة لم تكن معلومة لديه، ولعل عدم ذكر موسى له عند اللقاء بالرجل الصالح أمارة على أن الأمر كله من الأسرار الربانية بين موسى وربه عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ومرة أخرى نتساءل: كيف ينسى موسى عليه السلام في هذا الموقف الدقيق العهد على الرغم من استمرار الصحبة، وحصول العلم الراشد الذي يتوقع أن يتعمله منها مبني على عدم الاعتراض والاستفسار؟! نقول في الجواب كما قلنا في الحكمة في نسيان الحوت، ليعلم الإنسان أن تحصيل أي علم مهما صغر أو كبر، واستمراره وبقاءه مهما طال الوقت أو قصر، مرتبط بمشيئة الله تعالى وإرادته، ولا يمكن أن يحصل شيء من ذلك إلا بتوفيقه ورضاه. وبعد اعتذار موسى عليه السلام عن نسيانه، وطلبه السماح من صاحبه بالتغاضي عما بدر، وأن لا يحاسبه عليه فيشق عليه الأمر، ويرهق من أمره. انطلقا فمرا على مجموعة من الغلمان يلعبون، فرأى الخضر غلامًا هو أضوؤهم وجهًا وأحسنهم مظهرًا، فتقدم إليه واجتز رأسه فاقتلعه، وأزهق روحه. لقد كان أمر السفينة إتلافًا ماليًا مباشرًا، وإغراق الركاب بقي في حدود الاحتمال، أما هنا في حادثة الغلام، فإن القتل قد حصل وإن النفس قد أزهقت، والغلام لم يبلغ الحلم ليقال: إنه أخذ بجريرة سابقة -لم يعلمها موسى- حتى لو ارتكب الغلام جريمة قتل قلا قصاص عليه لأن القلم رفع عن الصغير حتى يبلغ، فلا توجد شريعة سماوية تبيح قتل مثل هذه النفس مهما كانت الاحتمالات والتأويلات للأسباب الظاهرة لذا كان انفعال موسى عليه السلام أشد من السابقة، وكان احتجاجه أقوى. ولئن كانت الأولى نسيانًا، فلا نسيان هنا، وإنما هو العمد والقصد كما قال خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، "فكانت الأولى من موسى نسيانًا، والثانية عمدًا، والثالثة فراقًا" 1. {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} إنه إنكار معلل، لأن قتل النفس البريئة لا يجوز في أي شريعة ولا تحتمله العقول   1 صحيح البخاري، كتاب التفسير 5/ 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 السليمة، وبعد سفك دم، بدون وجه حق، وهو من الإفساد في الأرض عند جميع العقلاء. وإلى جانب تذكير الخضر له بعهده ووعده، يقابل شدة موسى بشدة مثلها واحتجاجه المعلل بصرامة وعنف. {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ألم أقل لك أنت بالذات يا موسى، وليس لغيرك، مع ذلك تعترض علي المرة تلو الأخرى. وعاد إلى نفس موسى عليه السلام هدوءها مرة أخرى، وتذكر أن المقاييس التي يحتكم إليها الرجل الصالح غير المقاييس الظاهرة التي ينطلق منها موسى عليه السلام وأنه ينظر من أفق غير الأفق الذي ينظر منه موسى، وتذكر أنه قال له في بداية الرحلة: "إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه"1. عندئذ حصلت القناعة التامة لموسى عليه السلام أن لا مجال للوصول إلى هذا العلم إلا بما يهيئه الله سبحانه وتعالى للعبد، وأن الطريق الكسبي إلى أسسه وقواعده المطردة مسدودة، وأن النماذج التي رآها -وإن لم يعلم تأويلها وحقائقها بعد- كافية لإعطائه أمثلة صالحة من هذه العلوم التي استأثر الله بعلمها {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] . عند ذلك قال له موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} . "رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب، ولكن أخذته ذمامة 2، فقال ذلك"، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغب موسى عليه السلام في الفراق لا رغبته عن الصحبة، وإنما أخذه الحياء من تصرفاته مع الرجل   1 المرجع السابق. 2 الذماء: الحياء. وانظر المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الصالح، وكأنه لا يملك من نفسه إلا الاعتراض والاحتجاج. وخاصة بعد حصول القناعة بنوع هذا العلم، وتقديم النماذج الصالحة، وسواء كثرت هذه النماذج أو قلت فلن تمكن موسى من أخذ زمام هذا العلم والمبادأة بتصرفات شبيهة بتصرفات الرجل الصالح. فما دام الأمر كذلك فليعد إلى مجاله وإلى شغله في بني إسرائيل ليؤدي فيهم رسالة ربه. ولكن ليس من الأدب انسحاب الطالب وكأنه يرغب عن معلمه، وإنما ليعط المبرر للأستاذ في اتخاذ قرار الفراق، فعلق الفارق على واقعة أخرى يظهر فيها عدم صبر موسى عليه السلام، وتأتي الحادثة غير بعيد، ونجد موسى عليه السلام يسارع إلى الاعتراض علمًا أن ظاهر الأمر لا يقتضي الاعتراض، لأنه لا مفسدة مالية ولا بدنيه، بل هو معروف وإصلاح، وكل ما في الأمر أن ظاهره معروف لأناس لا يستحقونه. ومع ذلك نجد موسى عليه السلام يسارع إلى الاحتجاج {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} . وقبل أن أدع العرض الإجمالي لهذه الفقرة أحب أن أناقش أقوال المفسرين في الدوافع التي جعلت موسى عليه السلام يحتج المرة تلو المرة على الرجل الصالح على الرغم من عهده بعدم السؤال والاستفسار ناهيك عن الاعتراض والاحتجاج؟! ولئن كانت الأولى نسيانًا، فما توجيه المرة الثانية والثالثة، ولم يكن هناك نسيان؟ أليس في ذلك ما يؤخذ على موسى عليه السلام ويؤثر على جانب العصمة فيه. لعل أبرز التوجيهات التي ذكرت في هذا الصدد ثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أولها: الجانب النفسي لموسى عليه السلام ويقصد بذلك طبيعة موسى عليه السلام التي تربى عليها، فقد فتح عينيه في بيت عزة وأبهة وملك، وترعرع على ذلك، والإنسان ابن بيئته، فقد كان العنفوان والحدة يسري في دمه، وانعكس ذلك على تصرفاته قبل النبوة وبعدها: ففي حادثة انتثاره للإسرائيلي وضربه القبطي يظهر جانب من هذه الشدة: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] . وفي حادثة توجهه إلى الإسرائيلي في اليوم التالي وقد استنجد به ثانية {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 18، 19] . وبعد النبوة نلحظ هذه الشدة في تصرفاته، فلما رجع إلى قومه ووجدهم يعكفون على عبادة العجل، ووجد أخاه هارون بين ظهرانيهم لم يتخذ حيالهم إجراء حاسمًا، ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 150، 151] . وفي سفره مع الرجل الصالح {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} ، {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} . إنه يمثل ذاك النموذج من الرجال المخلصين الذين تأخذهم الحدة عند مجابهة الأحداث المخالفة لما يرونه الصواب والحق، ولكن سرعان ما يراجعون أنفسهم عندما يذكرون بالحق ويظهر لهم الصواب. فموقفه من تصرفات الرجل الصالح كان من أثر التكوين الشخصي لنفس موسى عليه السلام، وحدة مزاجه، فلا يستطيع إلا أن يقول ما يعتقده الحق مهما كانت الظروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ثانيها: صدمة المفاجأة وهول الحادث كثيرًا ما تكون الآراء والمواقف النظرية بمنأى عن التطبيق العملي، فكم من طالب علم أخذ دروسًا في علم البيان ومقومات الخطابة وآدابها، فلما تولى إلقاء خطبة في محفل أو على منبر خانته معلوماته وتطايرت الأفكار من ذهنه. وارتجفت منه الأقدام وتلعثمت الشفاه فجاء بها مفككة العبارات ركيكة الجمل. وكم من باحث تلقى مبادئ الكتابة والتأليف وطريقة جمع المادة العملية وترتيبها والتوثيق من المراجع العلمية وتخريج الأحاديث النبوية من مظانها، بل قد ينتقد الآخرين لعدم التزامهم بالمنهج العلمي في ذلك، فلما كلف بكتابه مقالة أو بحث انهارت الأسس التي كان يبني عليها آراءه ونقده، ويشهد ميلاد بحث لا يطلق عليه اسم التأليف إلا تجوزًا. وهكذا في الحياة العملية، فالتاجر الذي يأخذ معلوماته وخبرته من كتب علم التجارة يصطدم بعقبات قد تودي بثروته عند النزول إلى الأسواق. والجندي الذي يأخذ ثقافته العسكرية عن السلاح واستخدامه في الكلية النظرية قد يدفع حياته أو حياة زملائه ثمنًا للتجربة الأولى على السلاح. ومن هذا القبيل ما جرى لموسى عليه السلام، فقد قطع على نفسه العهد بأن لا يسأل -وبالأولى أن لا يعترض- حتى يكون الرجل الصالح هو البادئ بالشرح والبيان ولكنه عندما خرج إلى التجربة العملية، ورأى أمام عينه هذا التخريب والإفساد -حسب الظاهر- نسي وعده واستنكر. يقول سيد قطب -رحمه الله: "لقد نسي موسى ما قاله هو، وما قاله صاحبه أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي، والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى، والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعًا غير التصور المجرد، وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل أنه لا يستطيع صبرًا على ما لم يحط به خبرًا، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط، ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الرجل فيندفع مستنكرًا"1. ورغم وجاهة التعليل الذي ذكره سيد قطب رحمه الله تعالى ومطابقته للحادثة الأولى، فإن المفاجأة تفقد صدمتها عندما تتكرر، وخاصة عند التذكير بالوعد المرة تلو المرة، كما أن التجربة تكسب الخبرة، فلا يتماشى هذا التعليل مع الحادثة الثانية والثالثة. ولئن كانت الأولى نسيانًا واندهاشًا بهول الحادثة، فقد كانت الثانية عمدًا، والثالثة رغبة في الفراق. فلا بد من مبرر منطقي يستمسك به موسى عليه السلام ودافع شرعي يمنعه من السكوت على ما يشاهده أمامه. ولعلى هذا السبب دفع بعض المفسرين ليقولوا توجيهًا آخر.   1 في ظلال القرآن 6/ 2279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ثالثها: مبادئ شريعة التوراة ذهب بعض المفسرين إلى أن موقف موسى عليه السلام من الاعتراض على الحوادث التي يخالف ظاهرها شريعة التوراة، منسجم تمام الانسجام مع أحكام التوراة، ولو لم يقف هذا الموقف لكان مؤاخذًا بموجب شريعته. يقول البقاعي: "من العهد الوثيق المكرر في جميع أسفار التوراة بعد إثباته في لوحي الشهادة في العشر كلمات -التي نسبتها من التوراة كنسبة الفاتحة من القرآن- بالأمر القطعي أنه لا يقر على منكر"1. فإنكار المنكر في حينه ركن من أركان الدين ولا يجوز السكوت عليه، ولما ترك بنو إسرائيل هذا الركن من شريعتهم استحقوا لعنة الله على لسان أنبيائهم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79] . ولا يقال: لكن موسى عليه السلام أعطى وعدًا وقطع عهدًا على نفسه بعدم   1 نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: 12/ 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الاستفسار والمعارضة لما يرى أو يسمع خلال مصاحبته للرجل الصالح؟! لا يقال ذلك، لأن مخالفة ظاهر الشريعة غير داخلة في الوعد، فلو تم العقد والالتزام بين طرفين على اشتراط شرط مصادم لنص من الكتاب والسنة أو لحكم شرعي متفق عليه كان هذا الشرط باطلًا، ومن الفقهاء من يرى فساد العقد، ومنهم من يرى سريان العقد وبطلان الشرط. كما في حادثة بريرة واشتراك بائعيها أن يكون لهم الولاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم في شأنها: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق" 1، أي لا تقره الشريعة. هذا في شريعتنا وما يدل عليه ظاهر الأمر أن ذلك كان مقررًا في شريعة موسى عليه السلام، يقول البقاعي: "على أنه -أي موسى عليه السلام- لو لم ينس لم يترك الإنكار، كما فعل عند قتل الغلام، لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد لأن المستثنى شرعًا كالمستثنى وضعًا"2، ويقول في موضع آخر من كتابه: "فكل منهما -موسى والخضر عليهما السلام- صادق فيما قال موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فلأنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهي عما يعتقده منكرًا، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر لأنه لا يقدم على منكر"3.   1 رواه البخاري في كتاب المكاتب 3/ 127. 2 انظر نظم الدرر 12/ 111. 3 المرجع السابق 12/ 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة : {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} . لقد حان وقت الفراق، كما طلب موسى عليه السلام عند اعتراضه على قتل الغلام، وعند شعوره بأن لا جدوى من الاستمرار، فلن يتمكن من هذا العلم إلا ما يطلعه عليه الرجل الصالح -كما تقدم- ولكنه تحقق من مجالات العلم الذي لا يحيط به أحد غير الله عز وجل، وأن الأمور جارية في هذا الكون بقتضى الحكمة الإلهية وحسب موازين ربانية منضبطة. ولكيلا يتركه العبد الصالح في حيرة من أمره، وكما وعده في بداية الأمر أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 سيحدث له ذكرًا لهذه التصرفات، بدأ بوفاء وعده، وذكر الأسباب التي دفعته إليها: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} . إن الأمر في غاية الوضوح عند المطلع على الأسباب الحقيقية الخفية. إن هذا التصرف -الذي كان ظاهره إلحاق الضرر بأهل السفنية- كان في الحقيقة لصالحهم، لقد كانت سفينتهم معرضة للحجز والغصب، ولو تركت سليمة لخسروها تمامًا وفاتتهم بالكلية، فإلحاق خرق بها وهو ضرر محتمل في سبيل دفع ضرر أكبر شيء تقول به بدهيات العقول، وتستسيغه جميع النفوس بل يكون هذا التصرف من أعظم الإحسان إلى أصحاب السفينة، مقابل إحسانهم بحملنا من غير أجر. ولم ينتظر الخضر من موسى جوابًا وإقرارًا على ما يقول، فإن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تردد أو جدال. {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} . "لقد كان الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا" 1، وكان الأبوان المؤمنان الصالحان متعلقين بهذا الغلام تعلقًا شديدًا، إنها عاطفة الأبوة، وحقيقة حال الغلام غير ظاهرة لهما، فلو استمر الغلام بينهما على قيد الحياة لأوردهما المهالك، فلا يملكان رده عن غيه وكفره ولا يتحكمان في قلبيهما لهجرة ومقاطعته. إن حزن ساعات وأيام خير لهما من نار جهنم، والعوض الذي وعدا به كفيل أن يسدل الستار على ذكرى هذا الغلام التعيس الشقي. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . ومن ينظر بنور الله وببصيرة المؤمن يتلمس جوانب الخيرية في كل ما يصيبه   1 انظر صحيح مسلم كتاب الفضائل 7/ 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 في دنياه، وفي توجيهات المصطفى صلى الله عليه وسلم "عجبت للمؤمن إن الله لم يقض قضاء إلا كان خيرًا له" 1. ولا يعترض معترض: إن الغلام لا يطلق إلا على من كان دون سن البلوغ، فكيف يحكم بكفره؟ وقد ذهب جمهور أهل السنة والجماعة إلى أن الأطفال دون البلوغ، لا يوصفون بالكفر والإيمان حقيقة، وأنهم إذا ماتوا دون البلوغ كانوا من أهل الجنة، على خلاف في التفاصيل الفرعية بينهم؟! أقول إن قول أهل السنة والجماعة تظاهره النصوص الكثيرة، وهو حكم عام وقاعدة أساسية، ولكن ما استثناه الدليل من القاعدة العامة يؤخذ به أيضًا، وقد ورد الدليل الصحيح أن الغلام قد طبع يوم طبع كافرًا، ولما أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وأن كل مولود بعد ذلك، أو كان موجودًا ولكنه لم يبلغ الحلم هو كافر، عمم الدعاء عليهم، وحكم بكفرهم جميعًا. {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27] . إن النص يقطع دابر الاجتهاد والاختلاف، فلا اجتهاد في مورد النص. إذن فوجه المصلحة في الحادثة واضحة، وكان هذا القتل للغلام أكبر تكريم للأبوين الصالحين، وكان في نفس الوقت رحمة بهما وشفقة على حالهما، لأنهما لو أطلعا على حقيقة حال الغلام، فلربما كلفا بقتله بأيديهما، وفي ذلك من الإصر والشدة ما فيه. {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . لقد كان الجدار لغلامين صغيرين فقدا حنان الأب ورعايته منذ الصغر، وكانا وديعتين لأب صالح استودعهما الله سبحانه وتعالى الذي لا تضيع ودائعه، وكان تحت الجدار كنز لهما، وكان الجدار آيلًا للسقوط، ولو ترك يسقط وحال الغلامين   1 انظر مسند الإمام أحمد 3/ 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 على ما تقدم لضاعت ثروتهما، وبالتالي ضاع مستقبلهما وضاعت الوديعة، فكلف الله سبحانه وتعالى الخضر عليه السلام بالقيام برعاية مصالحهما في هذا الجانب أليس في هذا العمل إحسان ووضع للمعروف في موضعه؟ بل إهمال مصالح الغلامين وتعريضها للخطر يزعزع ثقة الصالحين الملتجئين إلى الله عز وجل بوعد ربهم. {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} . بهذا التنبيه وهذه الإشارة يودع الرجل الصالح موسى عليه السلام. لقد كانت هذه التصرفات تجاه هذه الوقائع أمرًا من الله تعالى للعبد الصالح ولم يكن تصرفًا ناشئًا عن اجتهاده. وكأن هذه الأحداث قد اختيرت بالذات لمشابهتها لأحداث شبيهة وقعت لموسى عليه السلام، وكانت له مواقف حيالها من غير أن يتلقى في ذلك أمرًا بالتصرف. - لقد كان لموسى واقعة مع التابوت واليم، وكانت المخاطر تحيط به من كل جانب، ولكن المخاطر كانت سببًا في نجاته من بطش فرعون وجنوده فالذي نجى التابوت من الغرق وألقى به إلى الساحل هو الذي أنقذ سفينة المساكين من استيلاء الملك الظالم عليها. - ولقد كان لموسى تجربة مع قتل نفس من غير أن يوحى إليه في ذلك، فلما ندم على فعلته تولاه ربه بواسع مغفرته {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 15-17] . - وتقديم المعروف من غير عوض قد فعله موسى عليه السلام مع ابنتي شعيب عليه السلام ولم يطلب منهما أجرًا {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 لقد أزاح الخضر عليه السلام ثقل التساؤلات عن قلب موسى عليه السلام بذكر حقيقة الدوافع إلى هذه التصرفات. ويختفي الخضر عليه السلام ويسدل الستار على القصة، وفي النفس من عمق التأمل في الحقائق الكامنة في الغيب وراء الأحداث المشاهدة الشيء الكثير. ويسرح الخيال مع وقعات أقدام موسى عليه السلام في طريق العودة إلى بني إسرائيل وقد عاد من رحلته بعلم نفيس، وكنز وفير من الحقائق اللدنية ليتم مسيرة الكفاح والجهاد مع بني إسرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة مدخل ... العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة: 1- المكلف ملزم بتطبيق ما يدل عليه ظاهر الشرع، والمحاسبة أو المؤاخذة تكون حسب موقف المكلف من دلالة النصوص الظاهرة في اعتقاده، أما حقائق الأشياء ومآل الأحداث فليس مكلفًا بها لأنها في علم الغيب. لذا لو غلب على ظن المكلف أمر ما فتصرف بناء على ما ترجح لديه، ثم تبين له أن الصحة والصواب كان على خلاف ذلك لم يأثم في تصرفه، وإن ترتب على تصرفه أضرارًا بالغير تحمل هذا الضرر من غير مؤاخذة أخروية. 2- من كمال الحكمة الربانية وعظيم رحمة الله بعباده أن يستعمل نبيين كريمين مثل موسى والخضر عليهما السلام في حفظ مصالح الغلامين اليتيمين، ليلجأ عباده إليه ويتوكلوا عليه حق التوكل، فإن الله لا تضيع عنده الودائع، كما أن في ذلك حفظ مصالح الذرية بصلاح الآباء. 3- الالتزام بالأدب القرآني الرفيع في المخاطبة والمحادثة: - فلما كان خرق السفينة عيبًا في الظاهر، لا صلاح فيه، نسبه الخضر إلى نفسه فقال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} . - ولما كان أمر الغلام فيه جانبان: القتل، والإبدال بأفضل منه، أسنده إلى ضمير الجمع {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} . - ولما كان إقامة جدار الغلامين خيرًا محضًا، نسبه إلى الله سبحانه وتعالى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . علمًا أن الأفعال على الحقيقة كلها لله، وبأمر منه {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} . وهذه الآداب نجدها بكثرة في الأسلوب القرآني وفي السنة النبوية المطهرة وهي ذات إيماء عميق في النفس البشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 تعقيبات وتعليقات : قبل الانتقال من هذا المقطع أرى لزامًا أن أتعرض لثلاث نقاط كثر فيها كلام المفسرين. أولاها- نبوة الخضر عليه السلام: اختلف العلماء في نبوة الخضر عليه السلام، فمنهم من قال: إنه نبي، ومنهم من قال: إنه رجل صالح وولي من أولياء الله تعالى. أستند القائلون بنبوته على جملة من الأدلة منها: 1- قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} والمراد بالرحمة النبوة بدليل قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّك} [القصص: 86] . والرحمة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة. ولكن يرد على هذا القول أن كلمة "رحمة" ومشتقاتها ذكرت في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة مرة، للدلالة على النعم الإلهية في مختلف مجالات الحياة ومنها نعمة النبوة، فالنبوة رحمة لا شك في ذلك، ولكن لا يلزم أن تكون كل رحمة نبوة. قال البقاعي: قال الحراني: المراد بالرحمة في {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} ما ظهر من كراماته وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعًا أنه خاص بحضرته سبحانه1. 2- قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} يقتضي أن الله سبحانه وتعالى علمه بغير واسطة، فلا معلم له من البشر ومن كان هذا شأنه لا بد أنه قد تلقى   1 انظر: نظم الدرر: 12/ 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 علمه بوحي من الله تعالى، وكذلك قول الخضر في نهاية تأويل الأحداث {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فيدل على أنه أوحي إليه للقيام بهذه التصرفات. وهذا أيضًا ليس نصًا قطعيًا في الدلالة على نبوته، فقد ثبت قوله عندما التقي بموسى عليه السلام: إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه. فهو عبد من عباد الله الصالحين الذين أكرمهم الله سبحانه وتعالى بهذا العلم اللدني الخاص، ولا مانع أن يتلقى ذلك عن طريق الإلهام والمكاشفة. 3- في قول موسى عليه السلام له {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} قد جعل نفسه تابعًا للخضر والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم، لأن في تبعيته لغيره من غير الأنبياء إنزالًا لمكانته، ولا يليق لكونه القدوة في قومه. وهذا أيضًا غير مسلم به لأن تابعية النبي لغيره لا تصح فيما أصبح باعتبارها نبيًا، أما في غيرها من العلوم الكونية والتجريبية والغيبية فلا مانع من التبعية. 4- واستدلوا بطريقة الخضر في مخاطبة موسى حيث أبدى له الترفع والتعزز بالعلم الذي عنده، بينما نجد تواضع موسى الشديد، فلو لم يكن نبيًا لما تواضع له موسى هذا التواضع الجم. وهذا أيضًا مردود لأن موسى عليه السلام أفضل وأعلى مكانة من الخضر عليه السلام على كل الاحتمالات، فإنه نبي مرسل من أولي العزم من الرسل، والخضر مختلف في نبوته، ولم يقل أحد ممن يعتد برأيه إنه رسول. أما تواضع موسى عليه السلام له فإنه من باب تقدير العلم، وخفض الجناح للعلماء، وهضم حظ النفس، وقد خوطب سيد ولد آدم وأفضل الأنبياء والمرسلين بقول الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] فالتواضع وخفض الجناح لا يدل على أفضلية المتواضع له. 5- واستدلوا بما ورد في الحديث، أن موسى عليه السلام عندما التقى به قال: السلام عليك، قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى عليه السلام: من عرفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قالوا: وهذا يدل على أنه عرف ذلك بالوحي، والوحي لا يكون إلا مع النبوة والجواب عن هذا كالجواب عن الدليل الثاني {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} لأن ذلك قد يكون عن طريق الإلهام أو المكاشفة1. وعلى الرغم من ورود هذه الاحتمالات على هذه الأدلة، والقاعدة تقول: "إذا ورد على الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال" فإني أرجح قول القائلين بنبوته والوحي إليه. وذلك لأن الإلهام والمكاشفة لا يبنى عليهما حكم شرعي، ولا يجوز للولي العمل بمقتضاهما إذا خالفهما ظاهر الشريعة، لعدم العصمة. بينما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمعصومون من تسلط الشياطين عليهم أو التدخل فيما يوحى به إليهم أو يلهمونه، فإلهام الأنبياء والنفث في روعهم، وما يرونه أثناء النوم كل ذلك دليل شرعي تبنى عليه الأحكام الشرعية إلى جانب الوحي بواسطة جبريل عليه السلام إليهم، لذا كان إقدام إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده إسماعيل بناء على ما رآه في منامه، حكمًا شرعيًا لازمًا لا مناص من تنفيذه {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] . وإقدام الخضر عليه السلام على إتلاف المال وقتل النفس لا بد أن يكون بناء على دليل يقيني لا يتطرق إليه الشك. ولا يكون هذا إلا لنبي من الأنبياء المعصومين من التلبيس والإلقاء والتشويش الذي قال الله سبحانه وتعالى في شأن صون ما يوحي به إليهم {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 26-28] .   1 انظر: تفاصيل الأدلة وما ورد عليها في فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني: 6/ 310 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ثانيها- موت الخضر عليه السلام: اختلف العلماء في موت الخضر عليه السلام: ذهب جمهورالعلماء من المحدثين والفقهاء إلى موته، واستدلوا على ذلك بما يلي: 1- ظاهر قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] . وكلمة بشر نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، والخضر عليه السلام داخل في هذا العموم. 2- قول الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" 1. فلو بقي أحد غيرهم على الأرض لما صح في الإطلاق، فدل على أن لا أحد غير المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يعبد الله على وجه الأرض على الشكل الصحيح. 3- حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته -وفي رواية قبل موته بشهر- فلما سلم قام فقال: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" 2. 4- لو كان الخضر حيًا لآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره وقاتل معه ولحضر الجمعة والجماعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا اتباعي" 3. وقد أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على النبيين وأممهم أن يؤمنوا برسول الله وينصروه، إذا أدركوا زمن بعثته كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِه   1 انظر: صحيح مسلم كتاب الجهاد: 5/ 156. 2 انظر: صحيح البخاري كتاب العلم: 1/ 37. 3 مسند الإمام أحمد: 3/ 387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] . ولم يثبت بطريق صحيح مجيء الخضر عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روي في ذلك من روايات لا يسلم من الطعن والضعف. وذهبت طائفة من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام حي، وهو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز القائلين بذلك: الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم1، والقرطبي في تفسيره2، وابن الصلاح الشهرزوري في فتاواه3، والنقاش وجهور الصوفية4. واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما يلي: 1- ذكر ابن عبد البر في "التمهيد" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب، هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته السلام عليكم أهل البيت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} الآية، إن في الله خلفًا من كل هالك، وعوضًا من كل تألف وعزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام، يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم5. 2- أخرج الخطيب وابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: بينا أن أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين، أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك، قلت: يا عبد الله أعد الكلام، قال: أسمعته؟ قلت: نعم، قال: والذي نفس الخضر بيده -وكان هو الخضر- لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا   1 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 15/ 135. 2 انظر: تفسير القرطبي المسمى بالجامع لأحكام القرآن: 5/ 4081. 3 انظر فتاوى ابن الصلاح: 1/ 185. 4 انظر: تفسير الألوسي المسمى روح المعاني: 15/ 328. 5 انظر: فتح الباري: 6/ 311، والألوسي: 15/ 322، والمستدرك للحاكم: 3/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل رمل عالج وعدد المطر وورق الشجر1. 3- روى الدارقطني في الأفراد وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال. 4- في التعليق على الحديث الوارد في صفة الدجال -وهو في صحيح مسلم- قال: "يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس -أو من خير الناس- فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر" الحديث. قال أبو إسحاق: يقال: إن هذا الرجل هو الخضر عليه السلام2. 5- مشاهدات الناس له في كل عصر ولقاؤهم به في أنحاء الأرض يؤكد استمرار حياته. والذي يميل إليه القلب، أن أمور الكون تجري على سنن مطردة وإثبات خرق سنة كونية، لا بد له من دليل ثابت قطعي، إما بالمشاهدة المحسوسة أو بالاتصال إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام والروايات التي استدل بها القائلون بحياة الخضر عليه السلام لا يتوفر فيها شرط الصحة -فضلًا عن الثبوت القطعي- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرواية ابن عبد البر، قال عنها ابن كثير: إسنادها ضعيف. والروايات الأخرى ليست مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن حكايات العامة لا تقوم بها حجة، ولا تثبت بها وبالروايات الضعيفة خارقة لسنة كونية في امتداد عمر إنسان آلاف السنوات. والله أعلم. ثالثها- قصة الخضر مزلقة قدم: قصة موسى والخضر عليهما السلام كانت ولا تزال مزلقًا لأقدام كثير من السفهاء والجهلة والزنادقة، حيث ذهبوا إلى الاستدلال بما فعله الخضر عليه السلام   1 انظر: روح المعاني: 15/ 322 ونسبه إلى الخطيب وابن عساكر. 2 أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الفقه، راوي صحيح مسلم، انظر الحديث في صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة: 8/ 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 على التفلت من ظواهر أحكام الشريعة وادعوا أنها خاصة بالأنبياء والعوام، أما الخاصة من الأولياء، فإنهم تتجلى لقلوبهم التي خلت من الأغيار الحقائق، فيتصرفون على ضوء هذه الحقائق ولا يتقيدون بالظواهر، ويستدلون على زندقتهم بأفعال الخضر التي كانت مخالفة لظواهر الشريعة. وأجمع العلماء على أن مثل هذا القول كفر وزندقة وهذا يقتل قبل أن يستتاب أو تعرض عليه التوبة، فإن أصر قتل، على خلاف في ذلك. يقول الإمام القرطبي: "وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب، لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] ، وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقًا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل، بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله فلا نبي بعده ولا رسول، وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة فإن هذا نحو ما قاله عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي" 1 الحديث2.   1 انظر: كلام القرطبي في تفسيره: 5/ 4080. 2 وانظر حديث "إن روح القدس نفث في روعي" في مجمع الزوائد للهيثمي: 4/ 72 وعزاه إلى الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 القيم من خلال قصة موسى والخضر عليهما السلام: إن القيمة الأساسية التي يدور حولها المقطع الرابع وأحداث هذه الرحلة والصحبة هو "العلم"، ولئن كانت القيم الصحيحة في المقاطع السابقة تقابل بأخرى داخلة فيها التمويه والزيف، فيراد كشف بهرجها وزيفها بإلقاء أنوار القيم الصحيحة عليها لإذابة ذاك الزيف والدجل عنها. فإن الأمر مختلف في هذا المقطع. إن العلم يعرض هنا على أنه قيمة صحيحة ولكن له مظهران: ظاهر وخفي وينبغي أن لا تحجبنا وسائلنا التي نطلع بواسطتها على الجانب الظاهري عن التسليم بوجود الجانب الخفي الذي أحاط الله سبحانه وتعالى به. إن العلوم التي بلغها الأنبياء والمرسلون لأممهم وأقاموا صرح الحضارات الإنسانية عليها علوم أساسية لم تستغن عنها البشرية في أي مرحلة من مراحل وجودها. وكانت واسطة العقد في هذه الرسالات السماوية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث ختمت به وبرسالته النبوات {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] . وإلى جانب العلوم المستمدة من الوحي الإلهي فهنالك العلوم التجريبية، التي تشكل حصيلة الجهد البشري على مر القرون للتعرف على سنن الله في الكون، للارتقاء بالوسائل التي يستخدمها الإنسان في حياته وتعامله. وهذه العلوم كلها تكتسب بالجهد البشري، ولوسائل المعرفة من الحواس وغيرها دور في تنميتها والاستزادة منها. ووراء كل ذلك علم غير خاضع للجهد البشري ووسائله في التعرف والاستزادة وهو علم الغيب الذي تدار شئون الكون به، ومجاله الإيمان المطلق والتسليم لعالمه جل جلاله الذي أحاط بكل شيء علمًا. {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 كِتَابٍ مُبِينٍ، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 61-63] . ولعل من وجوه الحكمة في تأخير ذكر هذه القصة بعد القصتين السابقتين في سورة الكهف، أن القيم الواردة في القصص الثلاث تتباين المدارك البشرية في التعرف عليها. فالقصة الأولى -قصة الفتية الذين آواهم الكهف- التي اشتملت على ذكر السلطة الجائرة التي أدعت حق الألوهية وموهت على الناس الحقيقة، إن بطلان هذه الدعوى يدركه العقل السليم مهما كان المستوى الثقافي لصاحبه، لأنه أمر مخالف لبدائه العقول وفطرة الإنسان. بينما لا تدرك جميع العقول القيمة الزائفة في القصة الثانية -قصة صاحب الجنتين- فإن المال والجاه وكثرة الرجال، زينة الحياة الدنيا، ولا تدرك حقيقتها إلا العقول المهتدية بنور الإيمان. أما القيمة الحقيقية للعلم بمظهره الظاهر والخفي، علم الشرائع والعلم اللدني لا يدرك حقيقته إلا أهل البصائر من المؤمنين الراسخين الذين لا تزعزع إيمانهم الأسباب الظاهرة والنتائج المحتملة، بل يرون خلف الأسباب والمسببات يد القدرة الإلهية والحكمة العليا التي تتجلى فيها حقائق أسماء الله الحسنى وصفاته العلى. لذا فإننا نقول إن المقابلة هنا في قصة موسى والخضر عليهما السلام ليست مقابلة بين قيم زائفة وأخرى حقة، كما كان الحال في قصة أصحاب الكهف وقصة صاحب الجنتين، بل المقابلة بين قيم صحيحة ظاهرة وقيم صحيحة أخرى غيبية في علم الله المحيط بالحقائق ومآل الأمور. والمتمسك بالعلم الظاهر محمود الفعال والسلوك، وينبغي أن لا ينكر العلوم الخفية وخاصة إذا وجد من الظواهر الكونية ما لا يمكنه تعليله أو معرفة أسبابه الظاهرة أو إدراك وجه الحكمة فيه، وإنما يعيد العلم إلى الذي يعلم السر في السماوات والأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف مدخل ... المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا، قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا، ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا، كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا، ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا، قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} . [الآيات من: 83-98] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 المناسبات : وحسب المنهج الذي التزمناه نذكر المناسبات بين هذا المقطع وبين المقاطع السابقة كما نحاول الربط بين هذا المقطع ومحور السورة أو العنوان الذي اخترناه لهذا البحث ذكر البقاعي وجوهًا للمناسبة بين قصة ذي القرنين وقصة موسى والخضر عليهما السلام فمما ذكره قوله: - "لما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد، وقدم الأولى إشارة إلى علو درجة العلم لأنه أساس كل سعادة وقوام كل أمر"1. - ويمكن أن يضاف إلى ما قاله البقاعي: أن في كل من القصتين رعاية لمصالح العباد وخاصة الضعفاء منهم، ومنع الفساد في الأرض وإقامة الحق والعدل ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى. - الخبر الحقيقي عند الله سبحانه وتعالى وهو العلم ببواطن الأمور فضلًا عن ظواهرها ففي قصة موسى والخضر عليهما السلام {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} ، {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} ، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} . وفي قصة ذي القرنين {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} ، {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} . أما مناسبة قصة ذي القرنين مع محور السورة والعنوان الذي اخترناه للبحث فهناك تناسب تام وانسجام كامل بين هذه القصة وبين القصص الثلاث المتقدمة في الهدف العام الذي استهدفت القصص الثلاث ترسيخه ألا وهو القيم الصحيحة، وما استهدفت كشفه والتنفير عنه ألا وهو القيم المزيفة الباطلة. وهذا البيان: 1- لما كانت القيمة الزائفة في قصة أصحاب الكهف هي السلطة الغاشمة الظالمة التي أدعت الألوهية من دون خالق السماوات والأرض، ووضعت نفوذها غير المجال التي خلقت من أجلها السلطة. نجد في قصة ذي القرنين الحاكم الصالح الذي مكن له في الأرض وأوتي من كل شيء سببًا، فدالت لسلطته الأمم والشعوب، وفتحت له الأقاليم، وألقت   1 نظم الدرر للبقاعي: 12/ 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الملوك له قيادها، يحكم فيها بالعدل والإحسان، وعمران الأرض لما فيه خير العباد ودفع الفساد، ورفع الظلم والاعتداء، {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} . فاستعمل السلطة والقوة في الموطن الذي خلقت من أجله، فكان استخدامها في موضعها شكرًا للخالق الذي أنعم عليه بهذا التمكين له في الأرض. 2- والقيمة الزائفة في قصة صاحب الجنتين كانت زينة الحياة الدنيا المتمثلة في المال والنقر، ونجد في قصة ذي القرنين الإعراض عن زينة الحياة الدنيا والانصراف إلى ما عند الله فهو خير وأبقى {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} . 3- وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام كانت هناك قيمتان صحيحتان إلا أن إحداهما تتعلق بالعلم الظاهر الذي تساس به الأمم والشعوب. والأخرى تتعلق بالعلم اللدني الخفي الذي لا يطلع عليه أحد إلا بمقدار ما يعلمه الله سبحانه وتعالى من لدنه. نجد أن القيمتين تبرزان في قصة ذي القرنين، فقد أوتي من كل شيء سببًا وهي الأسباب الظاهرة من الخبرة والعلوم المتعلقة بسياسة الشعوب والأمم وعمارة الأرض وتخطيط المدن والأقاليم وتجييش الجيوش ومعرفة منازل الأرض. وكل ما من شأنه أن يمكن له في الأرض من أسباب عزة الدولة والحاكم العادل وترسيخ أقدامه في الحكم. إلى جانب هذه الأسباب الظاهرة نجد الإيمان المطلق بالله سبحانه وتعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وتوفيقه له وأنه وفق إلى هذا بمحض الرحمة والفضل من رب العزة والكرم. {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} . وكذلك إيمانه المطلق بوعد الله سبحانه وتعالى الذي إذا جاء فلن تستطيع هذه الأسباب الظاهرة الصمود أمامها. وأن هذا السد الذي منع يأجوج ومأجوج من العدوان، سيزول ويكون دكاء، لأن وعد الله قد تم بأن ينتشر فساد يأجوج ومأجوج قبيل قيام الساعة وقبل النفخ في الصور لجمع الخلائق {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} جعله دكاء علمًا أن الأسباب الظاهرة تومئ إلى تخليده لأنه جبل من الحديد المطعم بالنحاس، إلا أن وعد الله كفيل بإثارة السبب الخفي الذي يجعل هذا الجبل الحديدي دكاء ليلتحق بأمثاله من الجبال عندما يأتي أمر الله {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 105-107] . لقد قال الخضر عليه السلام في نهاية جولاته مشيرًا إلى هذا العلم الغيبي الذي آتاه الله سبحانه وتعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ، ويقول الملك الصالح: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} . لقد كانت خبرته وتوفيقه لعمل الخير والصواب وتمكينه في الأرض ليس اعتمادًا على الأسباب الظاهرة وإنما كانت في الحقيقة رحمة من الله العزيز الحكيم العليم الخبير. لقد جاءت قصة ذي القرنين في خاتمة القصص السابقة لتبرز القيم الصحيحة واقعًا متمثلًا في سيرة أحد عباد الله الصالحين، ولا تكون مظنة خيالات ومثل لا مجال لتطبيقها على هذه الأرض وفي الواقع البشري1. بالإضافة إلى أنها من   1 للقيام بدور الخلافة في الأرض على الوجه الصحيح لا بد للحاكم أن يأخذ بطرفي المعادلة ويوازن بينهما وذلك: - باتخاذ الأسباب الظاهرة التي تمكن من التصرف حسب سنن الله في هذا الكون لتسخيرها للمصالح المعتبرة. - والاعتماد على الأسباب الخفية الغيبية "الإيمان بالغيب، الوحي" لإقامة العلاقات= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 نوع القصص الذي كان فيه تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول عنه سبحانه وتعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . لتكون إفحامًا لأولئك الذين أرادوا إطفاء نور الله بتوجيه هذه الأسئلة التعجيزية، ولتكون دليل صدق على أن هذا وحي من الله {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] .   = البشرية على ضوء الهدايات المستمدة منه. وفقد إحدى الدعامتين يؤدي إلى نتائج غير محمودة، فالحضارة اليونانية والرومانية قديمًا والحضارة الغربية حديثًا اعتمدت على الدعامة الأولى "الأسباب الظاهرة" فسببت الشقاء للإنسانية. وفقدت الحضارة النصرانية هذه الدعامة واعتمدت على الثانية فقط فأصيبت بالشلل والعجز. أما الحضارة التي نتجت من فتوحات ذي القرنين، والحضارة الإسلامية التي سادت العالم -يوم كان المسلمون قادة العالم- فقد أخذت بالدعامتين فأنتجت السعادة للبشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 العرض الإجمالي للمقطع الخامس : في هذا المقطع قصة ذي القرنين وجولاته الثلاث في مغرب الشمس ومطلعها وبين السدين، وكما هو الشأن في القصص القرآني لا تخبرنا الآيات الكريمة عن اسم ذي القرنين ونشأته ولا عن زمانه أو مكانه1، وإنما تحدثنا عن شيء حول شخصيته وعن رحلاته الثلاث: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} . إنه شخص مكن له رب السماوات والأرض الخالق المدبر المتصرف في شئون الكون، رب العزة والجبروت مكن له في الأرض وآتاه من كل شيء سببًا، وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض،   1 ليس مهمة القصة القرآنية تسجيل الحدث التاريخي من زاوية تدوينية بحتة وإنما يكون التركيز على مواطن العظة والعبرة وهي تتحقق من غير ذكر للزمان والمكان في أغلب الأحيان، وحتى الأسماء أحيانًا كما مر في قصة أصحاب الكهف وصاحب الجنتين وصاحب موسى عليه السلام. وانظر ما ذكرناه في المقطع الأول عن مزايا القصص القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 - مكن له في العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا. - مكن له في سياسة النفوس أفرادًا وجماعات تهذيبًا وتربية وانتظامًا. - مكن له في أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر. - مكن له في أسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة. مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين الحسنة التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} . ويبقى للتصور مجال وللخيال سعة لاستشفاف صور هذا التمكين وأشكاله، وذلك من خلال المؤكدات العدة التي وردت في الآية الكريمة1. ويبدأ ذو القرنين رحلته الأولى -ولا نعلم نقطة الانطلاق فيها- إلى أن يبلغ مغرب الشمس حيث يجدها الرائي أنها تغرب في موضع ما حسب ما تكون الجهة أو الموضع الذي يقف عنده فيما أنه كان في أقصى الغرب وكان أمامه البحر أو بحيرات ومستنقعات وجدها تغرب في عين حمئة2. ووجد عندها -أي العين الحمئة- قومًا، وهل كلف ذو القرنين من قبيل الله تعالى أن يحمل إليهم رسالة؟ وهل كان نبيًا؟ أو ملكًا صالحًا من أتباع أحد الأنبياء؟ أو أن تمكينه منهم جعل لسان حاله يقول بأن يتخذ فيهم سيرة حسنة حسب المفاهيم التي أتلزمها في حياته؟ ظاهر النص يدل على أنه كان مكلفًا بذلك من غير تحديد وسيلة التكليف.   1 المؤكدات في الآية: "إن" المفيدة التوكيد والنصب، و"نا" ضمير المتكلم المعظم نفسه، وفي "له" المفيدة للتخصيص، والعموم المستفاد من قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْء} . 2 يميل الدكتور عبد العليم خضر في كتابه "مفاهيم جغرافية في القصص القرآني، قصة ذي القرنين" إلى تحديد بحر إيجة وأنه البحر الغربي الذي بلغه، وأن خليج أزمير الذي يصب فيه نهر "غديس" الذي يحمل معه الأتربة والطين البركاني من الأناضول: هو العين الحمئة. انظر: 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 بهذا الأمر، ومن ثم كان المبدأ الذي سار عليه فيهم {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} . إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين، وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم1. فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم، ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره. أما المعتدي المتجاوز للحد، المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا، ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى. ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم والنتائج التي توصل إليها، وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة والمبادئ السامية حضارة ربانية وتقدمًا وسعادة وطمأنينة لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندنا. ثم تأتي رحلة المشرق فيصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع من خلف الأفق، ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة، إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في الأرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عند شروقها مرتفعات   1 جاء التعبير القرآني في السياق بـ"ظلم". ويطلق الظلم في الآيات الكريمة على معان عدة منها: الشرك وهو أشد أنواع الظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13] ، {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] . - والسعي في الأرض بالفساد وارتكاب الفحشاء والموبقات {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] . - والاعتداء على الناس وأكل أموالهم بالباطل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30] . وقد أوصل الدامغاني معاني الظلم في القرآن إلى تسعة معان. انظر: قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن للدامغاني: 308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 جبلية أو أشجار سامقة، ولعلها كانت بعض الصحاري الممتدة أو السهول الواسعة، فالمكان لم يحدد والستر لم يعين {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} 1. ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها، وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه، لأنها منهج حياة ودستور ودولة مترامية الأطراف وسياسة أمم فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} . إلا أن الرحلة الثالثة تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر سكان المنطقة، ومن حيث الأعمال التي قام بها فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين، بل قام بعمل عمران هائل. أما الأرض فوعرة المسالك، وأما السكان -وكان وعورة الأرض قد أثرت على طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم- فهناك المشقة في التفاهم والمخاطبة بحيث لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه، ولا أن يفقه ما يحدثه به غير بني قومه {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} إما في أسلوب التخاطب والتعامل -كما أسلفنا- أو من التخلف الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات. فلما وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلاح في سيرته -وعدل السلطان بفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش الأمصار- لجئوا إليه لحمايتهم من   1 الستر يطلق على الحواجز الطبيعية من الجبال والأشجار، وكذلك على ما يحجب ضوء الشمس من الأمور الصناعية من بنيان وملابس، وبكل احتمال مما سبق قال بعض المفسرين. ويرجع الدكتور عبد العليم خضر أن الموضع الذي وصل إليه القرنين في جوله المشرق هي المناطق الصحراوية المطلة على المحيط الهندي وتعرف باسم "غيدروسيا" وكانت مأوى القبائل المتأخرة وكانت تغير على تخوم الدولة المجاورة فأراد ذو القرنين تأديبها وحماية حدود دولته الشرقية منهم. انظر: مفاهيم جغرافية: 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة، قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما وذلك بإقامة سد بين الصدفين1، مقابل خراج يدفعونه إليه من أموالهم. ونظرًا لأن القضية التي وضعها ذو القرنين نصب عينيه هي الإصلاح ومقاومة الفساد والشر، والحكم بالعدل بين الناس، ولم يكن همه جمع المال أو قصد العلو في الأرض بإذلال الشعوب، فقد رفض عرضهم، وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم بتقديم الجهد البشري، فمنه الخبرة والتصميم والإشراف، وعليهم الطاقة العمالية والمواد الأولية المتوافرة في بلادهم. وكان أيسر طريق لإقامة السد هو ردم ما بين الجبلين أولًا بفلزات الحديد الذي تتخلله قطع الفحم والخشب، حتى إذا تساوت قمة الحديد بقمة الجبلين المتقابلين، أمر بالنفخ لإيقاد النار بالحطب الذي يتخلل الفلزات لتسخين الحديد، حتى إذا جعله نارًا لشدة احمراره وتوهجه أفرغ عليه النحاس المذاب يتخلل الحديد ويختلط به فيصبح قطعة واحدة وكتلة متماسكة وجدارًا أملس بين الجبلين. وهكذا حقق الأمن والطمأنينة لهؤلاء القوم المتخلفين، فلم تستطع قبائل يأجوج ومأجوج تسور الرد ولم يستطعوا ثقبه والنفاذ من خلاله2. ولما أنجز ذو القرنين هذا العمل الضخم الرائع، لم تأخذه نشوة البطر والغرور بل أعاد النعمة إلى مسديها، نعمة العلم والخبرة إلى واهبها، ونعمة التوفيق للعمل الصالح إلى الذي مكن له في الأرض، {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} . ومن إيحاء هذا الموقف العظيم وهو يطل على البناء الشامخ ومن ورائه أفواج قبائل يأجوج ومأجوج المتلاطمة وهي لا تستطيع القلب ولا النقب تذكر مصير   1 الصدفان: الجبلان: المتناوحان أي المتقابلان، ولا يقال للواحد صدف وإنما يقال صدفان للاثنين لأن أحدهما يصادف الآخر. تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 11/ 61. ونسبه لابن عطية. 2 سنعود إلى الحديث عن ذي القرنين، والسد، ويأجوج ومأجوج في مباحث مستقلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 الأرض وما عليها ومن فيها، وهذه خواطر المؤمنين المصدقين بوعد ربهم فإن مصير الأرض والجبال الدك والتدمير {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 13-15] . إنها المشاعر الإيمانية تجاه خالق السماوات والأرض المتصرف في شئون الكون ذي العزة والجبروت بيده مقاليد الأمور مصير كل شيء إليه. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} . إنه نموذج الحاكم الصالح الذي أدرك مهمته في الحياة، لقد مكن له في الأرض فجاب الآفاق لنشر العدل والخير والصلاح وقمع الشر والفساد، والأخذ على يد الظالم ومناصرة الضعيف والمظلوم، ودرء العدوان، وإقامة العمران في الأرض من غير أن يكون له حظ دنيوي في كل ذلك بل ابتغاء مرضاة ربه، وإيثارًا للدار الباقية على الفانية فلم يشغله السلطان والجاه والمال والخبرة عن ذكر الله وشكره والتطلع إلى يوم المعاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وقفات لابد منها الوقفة الأولى: مع ذي القرنين ... وقفات لا بد منها: بعد هذا العرض الإجمالي لهذا المقطع، وقبل الانتقال إلى مباحث القيم والعبر والمواعظ لا بد لنا من عدة وقفات نتناول بإيجاز ثلاثة أمور طال كلام المفسرين حولها وتباينت آراؤهم فيها وهذه الأمور: - التعرف على شخص ذي القرنين. - السد وموقعه. - يأجوج ومأجوج: حقيقتهم، ومصيرهم. الوقفة الأولى: مع ذي القرنين اختلف المفسرون في اسم ذي القرنين ونسبه وزمان وجوده، وسبب تلقيبه بذي القرنين، ولولا هذا الخلط الشديد الذي لا يقبله العقل ولا ترضاه الشريعة الذي وقع فيه كثير منهم لأعرضنا عن الخوض في هذا الحديث لأن من منهجنا أن لا نلتفت إلى ما أهمله القرآن الكريم، وأن نسير حيث توجهنا الآيات الكريمة في التعرف على الهدايات القرآنية. وأبرز الأقوال في تحديد شخصية ذي القرنين: - أنه أبو كرب شمر بن عمرو بن أفريقيش الحميري. أخذ من ظاهر التسمية، لأن الأذواء من أهل اليمن، فمنهم ذو نواس، ذو النون، ذو النار، سيف بن ذي يزن. - وقال آخرون إنه الإسكندر المكدوني بن فيلبوس اليوناني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وذلك لأن البلاد التي استولى عليها الإسكندر امتدت من مشارق الأرض ومغاربها. - وقيل هو قورش الإخميني، لإجماع المؤرخين على عدالة سيرته وحسن سيرته في الشعوب والممالك التي استولى عليها. ولو نظرنا إلى الآيات الكريمة بتدبير وروية لاستطعنا أن نستنبط من خلالها معالم بارزة وأوصافًا واضحة يمكن أن تكون ضوابط وعلامات تعين على التعرف على هوية ذي القرنين. فمن هذه المعالم: 1- أنه رجل صالح، مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيء سببًا، فأقام العدل وحكم بالقسط. 2- كانت له رحلة إلى مطلع الشمس وحروب انتصر فيها على أمم كافرة وأخضعها لحكمه. 3- كانت له رحلة إلى مطلع الشمس لتأديب أقوام متخلفين. 4- كانت له رحلة إلى منطقة جبلية وعرة لإقامة سد يحمي أقوامًا ضعفاء من هجمات قبائل يأجوج ومأجوج المتوحشة. 5- من أساسيات السد الذي أقامه ذو القرنين، وقوعه بين جبلين متقابلين. 6- تكوين هذا السد من زبر الحديد المطعم بالنحاس لتحقيق الصلابة والملاسة. 7- الغرض من إقامة السد غرض عسكري لدفع هجمات القبائل المتوحشة والحد من فسادهم على القبائل المستضعفة. ولو وضعنا هذه المعالم نصب أعيننا ثم ولجنا البحث من بابه مستخدمين مفتاحه الذي ذكره القرآن الكريم وهو: {وَيَسْأَلونَك} ، لاستطعنا أن نصل إلى بعض المرجحات كما وصل إليها أبو الكلام أزاد. لقد وجه السؤال من قريش بقصد التعجيز، فلا بد إذن أن يكون أحد الفريقين -اليهود أو قريش- على علم بحال ذي القرنين لكي يدركوا صحة ما يخبرهم به محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 لا يقال إن قريشَا كانت تعرف ذلك، لأن ما تدركه قريش يدركه محمد صلى الله عليه وسلم وهو أحدهم، إذن الذين يعرفون أخبار ذي القرنين هم اليهود الذين زودوا قريشًا بهذه الأسئلة للوقوف على صدق محمد صلى الله عليه وسلم1، ولو رجعنا إلى كتب اليهود لا نجد في أخبار الملوك والأنبياء ما ينطبق على ما أخبر به القرآن الكريم سوى ما ورد في رؤيا النبي دانيال. ينقل أبو الكلام آزاد في كتابه: "ويسألونك عن ذي القرنين" من سفر دانيال فيقول: "في السنة الثالثة لجلوس بيلش فر الملك كنت بمدينة سوس هيرا -من أعمال عيلام على شاطئ النهر أولائي- فرأيت الرؤيا للمرة الثانية، رأيت كبشًا واقفًا على شاطئ النهر له قرنان عاليان، وكان الواحد منهما منحرفًا إلى ظهره، ورأيت الكبش ينطح بقرنيه غربًا وشرقًا وجنوبًا لا قبل لحيوان بالوقوف أمامه، فهو يفعل ما يشاء وصار هو كبيرًا جدًا، وبينما أنا أفكر في هذه الظاهرة إذ رأيت تيسًا أقبل من جهة الغرب وغشى وجه الأرض كلها، وكان بارزًا بين عيني التيس قرن عجيب، ثم إن التيس اقترب من الكبش ذي القرنين ونفر منه مغضبًا، ثم عمد إليه فكسر قرنيه، وصرعه وداسه فأصبح الكبش ذو القرنين عاجزًا عن مقاومته، محرومًا من ناصر ينصره عليه" [سفر دانيال 8/ 1 نقلًا عن "ويسألونك عن ذي القرنين 87"] . ثم ذكر الكتاب على لسان دانيال أن الملك جبريل ظهر له وشرح له رؤياه قائلًا: "إن الكبش ذا القرنين يمثل اتحاد المملكتين مادا وفارس فيملكهما ملك قوي لا تقدر دولة على مواجهته، أما التيس ذو القرن الواحد الذي رآه بعد الكبش فالمراد منه ملك اليونان، والقرن البارز بين عيني التيس يدل على أول ملك من اليونان" [سفر دانيال 8/ 11] . يقول أبو الكلام آزاد تعليقًا على رؤيا دانيال: كانت لليهود في رؤيا دانيال بشارة بأن نهاية أسرهم وبدأ نشأتهم الجديدة   1 يقول الألوسي: غرض اليهود من السؤال الامتحان، وذلك يحسن فيما خفي أمره ولم يشتهر، إذ الشهرة لا سيما إذا كانت تامة مظنة العلم. انظر روح المعاني 16/ 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 منوط بقيام هذه المملكة ذات القرنين، أي أن ملك مادا وفارس يغير على ملك بابل ويتغلب عليه ويحرر اليهود من أسرهم، وأن هذا الملك الذي اختاره الله لإعانة اليهود ورعايتهم يأمر بتعمير بيت المقدس من جديد ويجتمع الشعب الإسرائيلي الممزق مرة أخرى تحت رعايته. وقد ظهر بعد هذه النبوءة بسنوات: الملك غورش الذي سماه اليونان سايرس، واليهود بـ"خورس" وحد مملكتي مادا وفارس فأنشأ منهما سلطنة عظيمة، ثم هاجم بابل واستولى عليها دون عناء. رأى دانيال في رؤياه أن الكبش ذا القرنين ينطح بقرنيه في الغرب والشرق والجنوب، أي يجوز انتصارات باهرة في الجهات الثلاث، وهكذا كان أمر غورش، فقد كان انتصاره الأول في الغرب والثاني في الشرق والثالث في الجنوب، أي في بابل، وكذلك صدقت النبوءة بخلاص اليهود وازدهارهم، فقد أطلقهم غورش بعد فتحه بابل من الأسر وأذن لهم بالعودة إلى فلسطين وبناء الهيكل من جديد، وحذا حذو غورش خلفاؤه من ملوك مادا وفارس، فما زالوا يحمون اليهود ويرفقون بهم1. ويقول أبو الكلام آزاد عن سبب رفق غورش باليهود: "لقد كان غورش من متبعي مذهب مزديسنا أي الدين الزردشتي، وهذا أمر له أهمية خاصة في العلاقة التي كانت بين الفارسين والإسرائيليين، وفي المعلوم أن الوثنية كانت عامة شاملة العالم كله لم يشذ عنها إلا فئتان: اليهود، والزردشتيون. وبطبيعة الحال أن يجد الملك غورش بعد فتحه بابل أن تصورات اليهود الدينية قريبة جدًا لتصوراته الدينية، فاندفع إلى احترامهم وتلقي نبوءاتهم برغبة خالصة"2.   1 انظر كتاب "ويسألونك عن ذي القرنين" 89. 2 المرجع السابق 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 إننا وإن كنا لا نستطيع الجزم بما قاله أبو الكلام آزاد عن غورش، فإن الروايات التاريخية يدخلها التبديل والتحريف كثيرًا، إلا أننا نجد المنهج الذي سار عليه أبو الكلام آزاد أقرب إلى الموضوعية، ومع ذلك فإننا نستبعد ما ذهب إليه كثير من المفسرين في كون ذي القرنين أبا كرب شمر بن عمرو بن أفريقيش الحميري، لأنه لم يذكر في سيرته أنه بنى سدًا عسكريًا تنطبق عليه أوصاف سد ذي القرنين كما نستبعد الإسكندر المكدوني فقد كان وثنيًا سفاكًا للدماء متغطرسًا قتل أقرب المقربين إليه. أما الأوصاف التي ذكرت في سيرة غورش "أو قورش الإخميني" كما وردت في كتب المؤرخين فتدل على حكمته وعدالته، كما أن فتوحاته التي ذكرت في المغرب والمشرق لحماية أطراف دولته من المغيرين الطامعين وبناء السد في شمال مملكته لحفظ سكان الشمال من هجمات القبائل المتوحشة. كل ذلك يرجح أن يكون ذا القرنين. يقول الشيخ سعيد حوى في كتابه "الأساس في التفسير": "لا نعرف أحدًا من علماء عصرنا كأبي الكلام آزاد رحمه الله أكثرنا تأهيلًا للتحقيق في المعضلات التاريخية بما اجتمع له من ثقافة موسوعية دينية وتاريخية، وقد أقدم على تحقيق المراد بذي القرنين وبسده وبيأجوج ومأجوج، فقدم دراسة تعتبر أعظم دراسة في بابها حول هذا الموضوع، إلى أن يقول ومع أننا لا نستطيع الجزم بما أوصل إليه هذا التحقيق لكنه يبقى التحقيق الأقوى في التاريخ الإسلامي حول ذي القرنين"1.   1 الأساس في التفسير، لسعيد حوى 6/ 3232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الوقفة الثانية: مع السد وموقعه اختلف المفسرون في موقع السد الذي بناه ذو القرنين كاختلافهم في شخصه فذهب بعضهم إلى أنه سد مأرب وآخرون إلى أنه سور الصين إلى غير ذلك، ولو وضعنا أيضًا المعالم التي وضعها القرآن الكريم بين أيدنا لأمكننا التعرف على السد فما ذكره القرآن الكريم: - أنه سد أقيم بن جبلين متقابلين -صدفين. - أن تكوينه من الحديد المطعم بالنحاس المذاب. - أن الغاية من إقامته حماية من دونه من هجمات الأعداء. وهذا ما فعله أبو الكلام آزاد حينما خطأ القائلين بأنه سد مأرب لأنه سد من حجارة وتراب والهدف منه زراعي لحجز مياه السيول خلفه وتنظيم توزيعه لري الأرض. وكذلك خطأ من قال إنه سور الصين الذي يمتد "2400" كيلو مترًا فوق السهول والوديان والتلال. والذي وصل إليه أنه السد المقام على مضيق داريال في جبال القوقاز فإن سلسلة جبال القوقاز الرهيبة تمتد من بحر قزوين شرقًا إلى البحر الأسود غربًا بطول ألف ومائتي كيلومتر ولا يوجد ممر بين السلسلة الشاهقة سوى ممر ضيق يسمى مضيق "داريال" ولا يزد عرض هذا المضيق عن مائة متر تقريبًا، وفي هذا المضيق حاجز حديدي تنطبق عليه جميع أوصاف سد ذي القرنين، وهو يقع الآن في جمهورة جورجيا السوفياتية. وقد كان الموقع التقريبي لسد ذي القرنين معلومًا لدى بعض المفسرين، فالقرطبي يقول في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان1، كما أشار ابن كثير2 إلى بعثه الواثق لاكتشاف حال السد. وقد ذكر ابن خردازبه في كتاب "المسالك والممالك"3 أن الخليفة الواثق العباسي -المتوفى سنة 232هـ- كان رأى في منامه كأن ردم يأجوج ومأجوج قد فتح، فكلف "سلام الترجمان" باستطلاع السد، وزوده بالطعام والمال   1 انظر تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 55. 2 تفسير ابن كثير 3/ 104. 3 كتاب المسالك والممالك لأبي القاسم عبد الله بن عبد الله المعروف بابن خردازبه المتوفى في حدود سنة 300هـ. ط. مكتبة المثنى ببغداد. نقلًا عن كتاب "ذي القرنين" لمحمد خير يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وأرسل معه خمسين من الشباب الأقوياء ... إلخ. وزودهم بكتب إلى ملوك الأقاليم، وأمرائها، فوصلت البعثة إلى حصون قريبة من مكان السد، وحولها قرى وحصون خربة كثيرة، وأهل الحصون كانوا مسلمين يقرءون القرآن ولهم كتاتيب، فلما أخبروهم أنهم مرسلون من قبل أمير المؤمنين استغربوا ولم يعرفوا عنه شيئًا ولم يسمعوا به، ووصلوا إلى المدينة التي نزل فيها ذو القرنين للإشراف على بناء السد وهي على مسيرة ثلاثة أيام من موقع السد، ووصفوا السد بأن طوله يبلغ مائتي ذراع، وأن له عضادتين مما يلي الجبل من جنبي السفح. وكله بناء من حديد مغيب في نحاس، وتكون اللبنة ذراعًا ونصفًا في ذراع ونصف في سمك أربعة أصابع. وعادات البعثة بعد ان استغرقت رحلة الذهاب ستة عشر شهرًا، ورحلة الإياب اثنتي عشر شهرًا، ولم يبق من أعضائها سوى أربعة عشر رجلًا1. وما ذهب إليه أبو الكلام آزاد، وبعض المفسرين السابقين رجحه الدكتور عبد العليم خضر، حيث يقول: "ووجد كورش أنه آن الأوان لتأديب الشعوب المتوحشة التي كانت تغير عبر مضيق داريال في جبال القوقاز وعلى شعوب إمارته في أذربيجان وجورجيا وأرمينيا وجنوب الحائط الجبلي الرهيب الذي يسمى جبال القوقاز التي تمتد إلى بحر قزوين في الشرق عند مدينة "دربند" حتى "سوخوم" على البحر الأسود، فتوجه إليها سنة 357ق. م، وقضى بالإقليم حوالي تسع سنوات متوالية ما بين بناء السد الحديدي. وتأديب قبائل "الإسكوذيين" أو "الماساجيت"2.   1 انظر أخبار بعثة سلام الترجمان في كتاب: معجم البلدان لياقوت الحموي 3/ 199. ط دار صادر. 2 انظر مفاهيم جغرافية 273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الوقفة الثالثة: مع يأجوج ومأجوج؛ حقيقتهم ومصيرهم تضاربت أقوال المفسرين في حقيقة يأجوج ومأجوج وأشكالهم وأوصافهم وأعمارهم وتناسلهم. وليس فيها شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا آثرنا أن نضرب صفحًا عن تلك الأخبار والأقاويل، ولنا وقفة مع بعض الأحاديث الصحيحة التي تحدثت عن خروجهم قبيل قيام الساعة، فيما بعد. ولكني وجدت تحقيقًا قيمًا فيما كتبه أبو الكلام آزاد حول القبائل المتوشحة في شمال شرق القارة الآسيوية وهجماتهم على العالم المتحضر في الجنوب والغرب، فأنقله بنصه مع شيء من الاختصار فإن هذا التحقيق يلقي أضواء على أصل قبائل يأجوج ومأجوج. يقول أبو الكلام آزاد: "تسمى هذه البقعة الشمالية الشرقية "منغوليا" وقبائلها الرحالة "منغول" وتقول لنا المصادر الصينية أن أصل كلمة منغول هو "منكوك" بالكاف الفارسية بعد النون، أو "منجوك" بالجيم الفارسية، وفي الحالتين تقرب الكلمة من النطق العبري "ماكوك" بالكافين الفارسيتين، النطق اليوناني "ميكاك" بالكافين الفارسيتين، ويخبر تاريخ الصين عن قبيلة أخرى من هذه البقعة كانت تعرف باسم "يواشي"، والظاهر أن هذه الكلمة ما زالت تحرف عند الأمم حتى أصبحت يأجوج في العبرية"1. ثم يستعرض أبو الكلام آزاد كيف أن أرض منغوليا كانت مصدرًا لدفعات بشرية إلى الجنوب الشرقي "الصين" وإلى الجنوب الغربي، والغرب أحيانًا، وكثير من هذه الهجمات البشرية قد استوطنت الأرض التي احتلتها ومالت إلى الزراعة والصناعة، إلا أن مسقط رأس تلك الموجات البشرية بقيت على توحشها، وبقيت مصدر قلق للشعوب المتحضرة، ويستعرض أبو الكلام آزاد من خلال التاريخ سبع هجمات لهذه القبائل: الأولى: كانت قبل العصر التاريخي عندما بدأت هذه القبائل تهاجر من الشمال الشرقي وتنتشر في آسيا الوسطى. الثانية: في فجر التاريخ، ونرى معالم حياتين مختلفتين: حياة البداوة وحياة الاستقرار، فتخلد القبائل المهاجرة إلى السكينة، وبدأ هذا الدور من نحو سنة 1500 ق. م. إلى سنة 1000 ق. م. الثالثة: من سنة 1000 ق. م. فنجد قومًا همجًا من البدو في بلاد بحر الخزر والبحر الأسود، ثم لا يلبث هو أن يظهر بأسماء مختلفة ومن وجهات مختلفة،   1 انظر: كتاب "ويسألونك عن ذي القرنين"165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ثم نرى قبائل "سي تهين" أخذت تظهر على مسرح التاريخ من سنة 700 ق. م. وتهاجم آسيا الصغرى. ويقول هيرو دتس: إن حدود الآشوريين الشمالية كانت عرضة لغارات قبائل "سي تهين" المستمرة، وكانت هذه الحدود تمتد إلى جبال أرمينيا. فكانت قبائل "سي تهين" تجتاز مضيق القوقاز وتشين الغارات المدمرة على شعوب السهول، حتى إن جموعًا كبيرة منها تقدمت سنة 620 ق. م. ووصلت إلى "نينوى" داست في طريقها إيران الشمالية، ويرى مؤرخو اليونان أن هذا الحادث كان من أهم أسباب سقوط نينوى1. أما الهجمة الرابعة: فينبغي أن نجعلها في حدود سنة 500 هـ. م. الزمن الذي ظهر فيه غورش تكونت مملكة مادا وفارس المتحدة فتغيرت الظروف فجأة وأمنت آسيا الغربية من هجمات قبائل "سي تهين"2. وكانت الخامسة: في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد تدفق سيل جديد للقبائل المنغولية وانصب على الصين، وقد سمى مؤرخو الصين هذه القبائل "هيونج نو" وفي هذا العصر بنى إمبراطور الصين "شي هوانج تي" ذلك الجدار العظيم الذي اشتهر بجدار الصين لصد هجمات هؤلاء المغيرين، والذي لا يزال يوجد إلى يومنا هذا، وقد بدءوا بناءه سنة 264 ق. م. وأتموه في مدة عشر سنين3.   1 انظر كتاب "ويسألونك عن ذي القرنين" 167 وأشار إلى كلام هيرودتس 1/ 104. 2 رجح الدكتور عبد العليم خضر أن حكم قورش الإخميني كان بين 559-529 ق. م. وتوفي بعد بناء السد قرب مضيق داريال سنة 529 ق. م. معالم جغرافية 244. 3 يبلغ طول سور الصين "2400" كيلوا مترًا في خط مستقيم يتراوح ارتفاعه بين خمسة أمتار وعشرة أمتار، ويبلغ عرضه من ثمانية أمتار عند القاعدة إلى خمسة أمتار عند القمة، وعليه رصيف واسع يسمح بمرور ستة فرسان جنبًا إلى جنب، ويبلغ عدد أبراجه "2500" برجًا، مساحة كل برج خمسة أمتار مربعة وارتفاع البرج سبعة عشر مترًا، وهو مبني من الحجارة وبداخله التراب، وواجهتها من الطوب ويعود تاريخ بنائه إلى أسرة مينج الصينية. انظر دائرة المعارف للبستاني 11/ 101، وموسوعة المورد للبعلبكي 5/ 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وكانت الهجمة السادسة: في القرن الرابع الميلادي على أوروبا بقيادة "أتيلا" - بعد أن سدت في وجوههم منافذ الشرق والجنوب وقضت على الإمبراطورية الرومانية وعلى مدنيتها معًا. وكانت الهجمة السابعة: في القرن الثاني عشر الميلادي، فاحتشدت جموع عظيمة من القبائل في بلاد منغوليا، وخرجت بزعامة جينكيز خان، فقضت على الحاضرة العربية وخربت مدينة بغداد، مدينة السلام سنة 656هـ. ا. هـ1. على ضوء هذا التحقيق العلمي الذي قدمه لنا أبو الكلام آزاد، فإن التكاثر السكاني من ناحية ووقوع المجاعات والكوارث ونقص الموارد الغذائية من ناحية أخرى، كل ذلك يؤدي إلى انتشار الموجات البشرية بحثًا عن الطعام أو حبًا في السيطرة والغلبة، وما هذه الهجمات المغولية إلا ظاهرة متكررة، وستكون آخرها ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سيحدث قبيل قيام الساعة حين يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فقد جاء في صحيح مسلم: " ... فيطلبه -أي يطلب   1 في الصحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة، بنت أبي سفيان، عن أمها أم حبيبة، عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم -قال سفيان أربع نسوة- قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر الوجه، وهو يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها"، قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم إذا كثر الخبث". انظر صحيح البخاري كتاب الأنبياء 4/ 109، وصحيح مسلم كتاب الفتن 8/ 165. وهذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحققت في هجمة التتار عام 656هـ، ولقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب بالذكر ولم يعمم المسلمين، وكانت الخلافة الإسلامية بيد العباسيين، وبعد القضاء على خلافتهم خرج الأمر من أيدي العرب ولم يجتمع أمر الأمة الإسلامية بعد ذلك عليهم. كما أن تحليق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه الإبهام والتي تليها كناية أن باب الفتنة لم يفتح على مصراعيه، وستتحقق المعجزة الأخرى في فتح باب الفتنة على مصراعيه عند اقتراب الوعد الحق عندما تخرج قبائل يأجوج ومأجوج قبيل قيام الساعة ليدمروا العالم المتحضر مرة أخرى، والخروج الأخير من علامات الساعة الكبرى كما سنذكره بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 عيسى بن مريم عليه السلام الدجال- حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قومًا قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرًا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرك وردي بركتك ... " 1. والمتبادر إلى الذهن أن يأجوج ومأجوج الذين سيخرجون قبيل قيام الساعة وبعد نزول عيسى عليه السلام هم من نسل السابقين الذين حجزهم ذو القرنين خلف السد، ولكن ما واقعهم الآن هل لا يزالون يتموجون خلف السد، ولو حاول أحد ما أن يطلع عليهم أو يراهم فما شأنهم؟ لقد ورد حديث بلبل أذهان كثير من المفسرين، مما جعل بعضهم يقول إنهم أصبحوا في علم الغيب فلا يراهم أحد إلا عند قبيل الساعة؟! والذي دفعهم إلى ذلك أن الواقع المرئي حول جبال القوقاز وغيرها من المناطق التي يحتمل أن يكون موطنهم، لا يوجد فيها مثل تلك الأمواج المتلاطمة من البشر، ومما زاد الفهم اضطرابًا دلالة ظاهر الآية الكريمة {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} .   1 صحيح مسلم كتاب الفتن 8/ 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ولإلقاء الضوء على الموضوع نذكر الحديث أولًا ثم نرى معنى الآية ثانيًا: روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه1 في سننهما عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله فيستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخروجون على الناس" الحديث. يقول ابن كثير في تفسيره تعقيبًا على الحديث: وهذا إسناد جيد قوي ولكن في رفعه نكارة، لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه، لإحكام بنائه وصلابته وشدته، ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار، أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه، ويقولون غدًا نفتحه ويلهمون أن يقولوا: إن شاء الله، فيصبحون وهم كما فارقوه فيفتحونه، وهذا فتحه. ولعل أبا هريرة تلقاه عن كعب فإنه كثيرًا ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة أنه مرفوع فرفعه. والله أعلم2. فإذا لم يصح رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إشكال عندئذ لأن سياق الآيات الكريمة يدل على أن ذا القرنين بنى السد وأحكمه وبعد أن تم ذلك {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} . في ذاك الوقت، ثم جاء الحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى على لسان ذي القرنين لأنه وفقه إلى بناء هذا السد وحماية الأقوام المستضعفين الذين كانوا مطمع قبائل يأجوج ومأجوج. فتركزا يموج بعضهم في بعض وهم لا يستطيعون تسلق السد ولا نقبه3، ثم اسدل الستار على   1 مسند الإمام أحمد 2/ 510؛ سنن الترمذي كتاب التفسير 4/ 375؛ سنن ابن ماجه كتاب الفتن 2/ 1364. 2 تفسير ابن كثير 3/ 105. 3 في التعبير بكلمة "ما" في قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} دلالة دقيقة. وهي أن "ما" لنفي الحال، بينما "لن" لنفي المستقبل القريب، و"لا": لنفي المستقبل البعيد. انظر البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن للزملكاني 193. فنفى استظهار السد ونقبه في الحال -أي حال إتمام بنائه- ولم يتعرض للمستقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الحديث عن يأجوج ومأجوج وهم محجوزون، وكما قلنا سابقًا ومن إيحاء هذا المنظر جرى الحديث عن مصير السد وعن حشر الناس يوم القيامة للحساب. أما السد فيصبح دكًا ويسوى بالأرض عند قيام الساعة أما الناس -جميع الناس بما فيهم يأجوج ومأجوج- فإذا نفخ في الصور سيجمعون جميعًا ويعرضون على جهنم، وجاء التعبير بصيغة الماضي "ونفخ" لتحقق الوقوع فهو أمر كائن لا محالة، ويكثر في القرآن الكريم التعبير عن أحداث المستقبل بصيغة الماضي لأن الحدث متحقق الوقوع فكأنه قد وقع وفرغ منه مثل قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} . أما واقع يأجوج ومأجوج بعد الحجز فكأي قوم من الأقوام أو أمة من الأمم تعتورها فترات تكاثر وإخصاب ونمو، كما تعتورها فترات ركود وضعف وقلة، ففي حالات التكاثر يحدث الانفجار السكاني وتكون موجات الهجرة والسيطرة، وفي فترات الضعف يكون الكمون وربما يُغزون من غيرهم. إلا أن ظاهر الآيات والأحاديث يدل على أن الموجات البشرية التي ستكتسح كل شيء أمامها وتجفف منابع المياه العذبة -ومنها بحيرة طبرية- سيكونون من نسل يأجوج ومأجوج الذين حجزوا خلف سد ذي القرنين حيث تكون موجة التكاثر والخصوبة على أشدها في تلك القبائل. ولله في خلقه شئون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 القيم في قصة ذي القرنين : أ- القيم الصحيحة: تمثلت القيم الصحيحة في سيرة ذي القرنين وأعماله وأقواله، وهي في نفس الوقت تأكيد للقيم الصحيحة التي مر ذكرها في القصص الثلاث السابقة: 1- الحكم والسلطة والتمكين في الأرض ينبغي أن يسخر لتنفيذ شرع الله في الأرض وإقامة العدل بين العباد، وتيسير الأمر على المؤمنين المحسنين، وتضييق الخناق على الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين، وهي عكس ما ورد في قصة أصحاب الكهف حيث استخدمت السلطة والحكم في الانحراف والدعوة إلى الشرك {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} . 2- الرجال الأشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي العسكرية والعمرانية والاقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي القرنين، وكذلك خضوع الأقاليم له وفتح الخزائن أمامه وتقديم خراب الشعوب له طواعيه، كل ذلك لم يدخل على نفسه الغرور والبطر والطيش والغواية بل بقي مثال الرجل المؤمن العفيف المترفع عن زينة الحياة الدنيا {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} . وبعد الانتهاء من تشييد السد قال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} . وقارن هذا بما قاله صاحب الجنتين {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} ، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 3- اتخاذ الأسباب الظاهرة والخفية المغيبة لبلوغ الغايات والأهداف التي سعى إليها حيث آتاه الله من كل شيء سببًا فأتبع سببًا حتى إذا بلغ مغرب الشمس لنشر الإيمان وإقامة العدل. - ثم أتبع سببًا حتى إذا بلغ مطلع الشمس لمحاربة التخلف. - ثم أتبع سببًا حتى إذا بلغ بين السدين لإصلاح الأرض ومنع الفساد والدمار وهذه الأسباب الظاهرة والتي كانت من دواعي التمكين له في الأرض لم تصرفه عن النظر في الأسباب الغيبية التي تكون من دواعي التمكين المعنوي مثل: العدل، والإحسان إلى المؤمن المحسن والتيسير عليه والأخذ على يد الظالم والتضييق عليه وكلها من دواعي التمكين المعنوي. - إعادة النعم والفضل إلى مسديها سبحانه وتعالى. - الإيمان المطلق بعلم الغيب ومنه قيام الساعة. ب- القيم الزائفة في قصة ذي القرنين: وتمثلت القيم الزائفة فيما وجه إليه ذو القرنين همته لإزالته وإصلاحه فمن ذلك: 1- الكفر والظلم والاعتداء الذي قضى عليه في مغرب الشمس {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} . 2- التخلف المتمثل في القوم عند مطلع الشمس {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} . 3- الإفساد والدمار المتمثل في تصرفات يأجوج ومأجوج {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 العظات والعبر في المقطع الخامس قصة ذي القرنين: 1- إن اتخاذ الأسباب للوصول إلى الغايات لون من ألوان التمكين الرباني لعباده ولايتنا في ذلك مع توكيل العبيد على الله سبحانه وتعالى وطلبهم العون والتوفيق والسداد. 2- من دعائم الملك الصالح والسلطة العادلة تكريم أهل الصلاح وجعلهم بطانة الحاكم واستشارتهم في شئون الدولة وإسنادها إليهم، وتكليفهم بسياسة الرعية، وإبعاد أهل الفساد والظلم والانحراف والمضايقة عليهم. 3- من مهمات الحاكم الصالح الجهاد في سبيل الله لنشر كلمة التوحيد، ورعاية مصالح الأمة، وحماية المستضعفين ودفع إفساد المفسدين عنهم، وإقامة العدل في ربوع الأرض. 4- من مهمات دولة العدل إقامة المشاريع والمنشآت النافعة للأمة، التي توفر الأمن والرخاء والسعادة للشعوب. 5- بقاء سد ذي القرنين إلى قيام الساعة، فإذا جاء وعد الله تعالى باختلال النظام الكوني جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا. 6- بقاء نسل يأجوج ومأجوج إلى قبيل قيام الساعة، حيث يخرجون في آخر الزمان، ويكون خروجهم من علامات الساعة الكبرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 خاتمة السورة : لقد تضمنت الخاتمة جملة من الحقائق التي تحدثنا عنها تفصيلًا في افتتاحية السورة، وذكرنا هناك الحكمة في ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العشر آيات من أول السورة والعشر آيات الأخيرة من السورة وكونها عصمة من فتنة الدجال لمن قرأها أو حفظها1. ولا نعيد ذكرها هنا مرة أخرى اكتفاء بما تقدم ونكتفي هنا بالعرض العام للخاتمة. يمكن تقسيم الخاتمة إلى ثلاث فقرات: الفقرة الأولى: وهي وثيقة الصلة بمشهد ذي القرنين ومنظر القبائل والشعوب والأمم التي حشرت خلف السد، فهي تموج وتضطرب ولا تجد منفذًا ولا سبيلًا إلى الانتشار إلى غاياتها. وكأن ذا القرنين بعد أن أتم هذا السد الشامخ وتحقق غرضه، ورأى ثمرة جهده لسنوات عديدة، وهو يكابد لإكمال السد بتأمين المواد الأولية وإقامته على التخطيط الدقيق والأسس العلمية السليمة من جهة. ويكافح لدفع غارات المفسدين في الأرض الذين يحاولون الحيلولة بينه وبين إتمام هذا السد. فما انتهى وأشرف على هذا الإنجاز الضخم توجه إلى ربه شاكرًا متضرعًا للذي بفضله وكرمه ونعمته تتم الصالحات فقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} واستشعر   1 انظر: ما تقدم: 180 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 -وهو المؤمن بيوم النشور والحشر- أن كل شيء في الدنيا زائل وتذكر يوم العودة إلى الله سبحانه وتعالى ويوم تحمل الأرض والجبال فتدك وتسوى بالأرض {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ، قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} . وتتميمًا للصورة المجسدة في حشر يأجوج ومأجوج وحجزهم خلف السد جاء التعقيب الإلهي للتذكير بالحشر الأكبر الذي يقع بعد الدك وخسف القمر وجمع الشمس والقمر واختلال نظام الكون إنه يوم النفخ في الصور {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} لقد بعث الأولون والآخرون بألوانهم المختلفة وأشكالهم المتباينة وهيئاتهم المتنوعة، إنه يوم الجمع الأكبر، إنه يوم الدين، يوم الحساب والجزاء لقد جمعوا جمعًا راغمين، يقول أحدهم: أين المفر؟ {كَلَّا لا وَزَرَ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} . تموج بهم الأرض كالجراد المنتشر، أبصارهم خاشعة كليلة ترهقهم ذلة، إنه اليوم الموعود، وقد أزيلت الحواجز عن الأرض فلا ترى فيها عوجا ولا أمتًا، وأخرجت الأرض أثقالها فلم يبق في جوفها سر دفين، وكشفت السرائر وبرزت الحقائق على وجوه أصحابها. لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء، والقلوب لدى الحناجر كاظمين. ووضعت الموازين القسط، وتطايرت الصحف، وأعلنت مبادئ العدل الرباني: - لا ظلم اليوم. - لا كلام إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولًا. - لا شفاعة إلا بإذنه. - كل إنسان يحمل طائره. - كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا. وتعرض جهنم وتحسب بأزمتها1، ويا هول ما يرى من أمرها.   1 في صحيح مسلم: "يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك" انظر: صحيح مسلم كتاب الجنة: 8/ 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 لقد كشف الغطاء عن البصائر المغطاة المحجوبة بظلمات الكفر والعصيان فلم يبق مجال للتكذيب بالنار واليوم الآخر. لقد وجدوا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون في تبليغهم. فهذه جهنم تعرض أمام الكافرين عرضًا، لقد قالوا لرسلهم في الحياة الدنيا {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} فلا نفقه ما تقولون ولا نسمع وعيدكم بل قالوا -استخفافًا واستهزاء - {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَاب} . إنها من إيحاءات هذا المنظر المعروض في تموج يأجوج ومأجوج خلف السد فالمؤمن لا يترك لحظة ولا حالة ولا منظرًا إلا ويأخذ منه العبرة ويربطه بالنتيجة وبالمصير الأبدي. ثم يأتي التعقيب العام في الفقرة الثانية على معطيات الجولات والمقاطع في السورة كلها أفحسب أهل القيم الباطلة أن خلقهم ووجودهم في الحياة الدنيا كان عبثًا، أفحسبوا أن القضية لعب ولهو ثم لا رجوع إلى الله سبحانه وتعالى أفحسبوا أن صلاتهم وولاءاتهم لزعاماتهم وقياداتهم ستغني عنهم شيئًا؟! أحسبوا أن الموازين والقيم في الآخرة -إن آمنوا بها- هي نفسها التي كانوا يختلقونها من عند أنفسهم ويتعاملون بها؟! ويورد السياق كلمة الكفر لتلقي بظلالها الكثيفة في هذا المشهد ليدرك هؤلاء أساس البلاء وسبب الشقاء: - {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} . - {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} . - {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} . - {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} . - {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} 1.   1 جاء التصريح بصيغة الكفر خمس مرات، ومرتين ضمنًا فإن دلالة الكفر الستر والتغطية، وقد جاء في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} ذكر الأغطية على الأعين وفيه معنى الكفر والحاجز المانع عن السمع وهو لون من ألوان الغطاء وفيه معنى الكفر. وهذا التركيز في الخاتمة على الأمر لبيان سبب استحقاقهم هذا المصير البائس ولتنفير المؤمن من هذه الصفة وإيجاد مناعة لديه، وإيجاد حاجز نفسي بينه وبين المتصفين بها، وهذا أسلوب من الأساليب القرآنية المطردة لترسيخ مفاهيم معينة، أو التنفير من صفات مذمومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 لقد أكثر هؤلاء الكفرة المنكرون يوم البعث والنشور من الأعمال الدنيوية مالًا، ورجالًا، وجاهًا، حتى انتفخت نفوسهم بها عجبًا وزهوًا وكبرًا وأشرًا وبطرًا، فكان حتفهم في ذلك، فحبطت تلك الأعمال حيث انتفخت فقضت على صاحبها، فهي وأصحابها لا تزن عند الله جناح بعوضة {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} . يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القايمة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} " 1. هؤلاء هم أخسر الناس على الإطلاق، لأنهم كدوا وتعبوا وجمعوا وسعوا سعيًا حثيثًا في الدنيا، فلم يتركوا ميدانًا من ميادين الفخر والمآثر الدنيوية، ولا مجالًا حسبوه يخلد ذكرهم ويرفع شأنهم إلا اقتحموه. وهم يظنون أن من أعطي في الدنيا شيئًا قيمًا أن يُعطى أكثر منه في الآخرة {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} . لقد اختلت الموازين عندهم، فلم يستجيبوا لنداء الفطرة في نفوسهم ولم يحملوا أنفسهم عناء التفكر في نهاية المطاف في الخلق والكون علمًا أنها مليئة بالبراهين والدلالات على زوالها وفنائها. بل سخروا برسل الله المبلغين لدعوة ربهم واتخذوهم هزوًا فكلما ذكروهم بأمر الآخرة والحساب والجزاء قالوا: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} .   1 رواه الشيخان، انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير: 6/ 236، وصحيح مسلم كتاب صفات المنافقين: 8/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ويقولون لقد ذهب آباؤنا ولم يعودوا ثانية إلينا ونحن على آثارهم سنمضي ولسنا بمنشرين. إن مصير هؤلاء جميعًا إلى جهنم التي تعرض عليهم في هذا اليوم بما كسبت أيديهم من سيئات الأعمال، وبما جحدت عقولهم من الآيات البينات وبما ران على قلوبهم من ظلمة الكفر والطغيان. وفي الفقرة الثالثة يأتي الحديث عن جحافل الإيمان والصبر والتقوى أتباع الأنبياء، المخلصين لربهم، القانتين المطيعين، لقد استنارت قلوبهم بالإيمان واليقين، وتثقفت عقولهم بالهداية والعرفان واستقامت نفوسهم على طاعة الديان، وازدانت جوارحهم بالصالحات من الأعمال تمسكوا بالعروة الوثقى، واعتصموا بحبل الله المتين، فاتخذوا كل ذلك سببًا إلى جنات الفردوس، فتبوءوا منها منزلًا لا يريدون التحول عنه. إنهم عرفوا الحقائق وقيمها الراخسة فتمسكوا بها، وعرفوا زيف زينة الحياة الدنيا فأنزلوها منزلتها الصحيحة -إنها بلغة ومزرعة للآخرة. ثم اللمسات الأخيرة في نهاية السورة كالأضواء الكاشفة على المنهج الصحيح الذي يؤدي بصاحبه إلى جنات الفردوس: إنه الوحي الذي أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى عبده ورسوله، إنها كلمات الله التي لا يحيط بها عقل أو خيال. فمن أراد أن يجنّب جهنم ويتحول عنها فلا يلزم بها منزلًا ومستقرًا وأن يسلك طريق جنات الفرودس التي لا يبغي عنها حولًا فعليه أن يلتزم بأساسين: أ- العمل على وفق وحي الله المنزل على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. ب- أن يخلص العمل لوجه الله جل جلاله ولا يتخذ معه شريكًا في عبادته. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الخاتمة : كانت هذه جولات في التفسير الموضوعي، حاولنا فيها الاطلاع على أصل هذا اللون من التفسير تاريخيًا، ثم عرجنا فيها على أنواع التفسير الموضوعي وحاولنا إلقاء أضواء على مناهج البحث في التفسير الموضوعي لعلها تكون معالم لمن يأتي بعدنا فيزيد وينقح ويعدل لتكون هذه الجهود لبنات في بناء هذا اللون من التفسير -الذي نتوقع أن يكون اللون السائد للتفسير في مستقبل الأيام والله أعلم. كما قدمنا نموذجين لهذا اللون من التفسير أحدهما موضوع من خلال القرآن الكريم، وهو "الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم" والثاني تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا، واخترنا سورة الكهف، فبحثنا فيها "القيم في ضوء سورة الكهف". والله أسأل أن يجعل هذا الجهد المتواضع خدمة لكتابه المبين وأن ينفع به إخواننًا من طلاب العلم، وأن يجعله في ميزان حسناتنا ذخرًا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الفهارس 1- فهرس الآيات الكريمة رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة الفاتحة": 5، 6 "إياك نعبد وإياك نستعين" 85. "سورة البقرة": 1-4 "ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه." 76 30 "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" 96 34 "إلا إبليس أبي واستكبر وكان الكافرين" 250 38 "قلنا اهبطوا منها جميعًا فإما يأتينكم مني هدى" 97 68 "قالوا ادع لنا ربك" 275 83 "ثم توليتم إلا قليلًا منكم" 88 105 "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب" 24 129 "ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم" 89 136 "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا" 267 143 "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا" 88، 193 172 "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" 19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 رقم الآية الآية رقم الصفحة 180 "إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا" 24 189 "يسألونك عن الأهلة" 60، 61 190 "وقاتلوا في سبيل الله" 87 213 "كان الناس أمة واحدة" 26، 98، 296 215 "قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين" 24 216 "كتب عليكم القتال وهو كره لكم" 87، 285 240 "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم" 68 245 "من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا" 89 247 "والله يؤتي ملكه من يشاء" 88 255 "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" 130، 151 256 "لا إكره في الدين" 160 272 "وما تنفقوا من خير يوف إليكم" 24 284 "إن تبدوا ما في أنسكم" 85 285، 286 "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" 49، 76، 86 "سورة آل عمران": 1، 2 "ألم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم" 67 3 "نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه" 87 14-17 "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين" 231. 26 "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء" 88 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 رقم الآية الآية رقم الصفحة 81 "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب" 71، 293 104 "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير" 26 110 "كنتم خير أمة أخرجت للناس" 88، 193 113 "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة" 26، 88 164 "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا" 89 170 "فرحين بما آتاهم الله من فضله" 88 181 "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير" 89 185 "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" 196، 294 199 "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله" 76، 76 200 "واتقوا الله لعلكم تفلحون" 89 "سورة النساء": 1، 3 "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم" 77 42 "ولا يكتمون الله حديثًا 18 51 "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت" 70 58 "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" 57، 70 82 "أفلا يتدبرون القرآن" 66، 90 100 "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا" 206 176 "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" 77 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة المائدة": 1 "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم" 19 8 "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط" 192 27 "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق" 97 48 "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه" 192 72 "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" 263 75 "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" 158 76 "قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا" 109 90 "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" 12 93 "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" 12 102 "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء" 10 112 "يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك" 275 "سورة الأنعام": 17 "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو" 25 23 "والله ربنا ما كنا مشركين" 18 37 "وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه" 114 38 "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه" 25 40 "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله" 145 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 رقم الآية الآية رقم الصفحة 52 "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والغشي" 172، 173 82 "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" 17 97 "وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها" 131 99 "وهو الذي أنزل من السماء ماء" 115، 141 100 "وجعلوا لله شركاء الجن" 265 145 "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا" 19 146 "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر" 19 151 "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" 104 "سورة الأعراف": 11 "إلا إبليس لم يكن من الساجدين" 250 12 "قال أنا خير منه خلقتني من نار" 243 23 "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا" 264 77 "وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا" 248 144 "قال يا موسى إني اصطفيتك" 271 150 "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا" 281 172 "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" 95، 143 "سورة الأنفال": 23 "ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم" 24 32 "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق" 248 33 "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" 249 70 "يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى" 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة التوبة": 30 "وقالت اليهود عزير ابن الله" 195 65 "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" 244 111 "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" 224 128 "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" 84 "سورة يونس": 1، 2 "ألر. تلك آيات الكتاب الحكيم" 84 15 "قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي" 212 22 "هو الذي يسيركم في البر والبحر" 144 28 "ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للذين أشركوا" 251 32 "قل من يرزقكم من السماء والأرض" 110 61 "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن" 297 68 "قالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه هو الغني" 155 90 "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده" 146 109 "وهو خير الحاكمين" 25 "سورة هود": 31- "ولا أقول للذين تزدري أعينكم" 24 32 "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا" 248 47 "قال ربي إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم" 264 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 رقم الآية الآية رقم الصفحة 49 "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك" 202، 303 118 "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" 26 120 "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل" 203 "سورة يوسف": 1، 2 "ألر تلك آيات الكتاب المبين" 75 42 "اذكرني عند ربك" 214 51 "قالت امراة العزيز الآن حصحص الحق" 215 54 "قال إنك اليوم لدينا مكين أمين" - 111 "لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب" 75، 203، 303 "سورة الرعد": 16 "أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه" 122 17 "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" 12 "سورة إبراهيم": 4 "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" 9 32 "الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء" 110، 130 "سورة الحجر": 1، 5 "ألر. تلك آيات الكتاب وقرآن مبين" 75 9 "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" 9 19 "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي" 110، 134 26 "ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون" 126 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 رقم الآية الآية رقم الصفحة 28 "وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا" 147 92, 93 "فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون" 75 "سورة النحل": 1 "أتى أمر الله فلا تستعجلوه" 75 5 "والأنعام خلقها لكم فيها دفء" 139، 110 11 "هو الذي أنزل من السماء ماء" 116 36 "ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن أعبدوا الله" 99، 105 44 "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" 10 51 "وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين" 144 65 "والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض" 111 66 "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه" 138 127 "وأصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم" 75 68 "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي" 139 72 "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا" 104 80 "والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا" 131 88 "صنع الله الذي أتقن كل شيء" 130 90 "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" 68 118 "وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل" 18 120 "إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله" 26 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة الإسراء": 12 "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل" 131 13 "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" 244 15 "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا" 9 23 "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه" 104 42 "قل لو كان معه آلهة كما يقولون" 154 44 "تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن" 142 111 "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا" 159 "سورة الكهف": 1 "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب" 74 51 "ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض" 128 109 "قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي" 74 "سورة مريم": 35 "ما كان الله أن يتخذ من ولد سبحانه" 159 88 "وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا" 159، 265 "سورة طه": 105 "ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا" 302 117 "فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك" 245 132 "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" 103 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة الأنبياء": 16 "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين" 160 23 "أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون" 152 29 "ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم" 124 34 "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد" 293 87 "فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك" 264 "سورة الحج": 46 "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" 256 75 "الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس" 296 "سورة المؤمنون": 1 "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون" 74 12 "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" 113 91 "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" 154 101 "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" 18 115 "أفحسبتم إنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون" 9، 194 117 "ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به" 74 118 "وقل رب أغفر وارحم وأنت خير الراحمين" 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة النور"" 11 "لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم" 213 33 "إن علمتم فيهم خيرًا" 24 "سورة الفرقان": 1 "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده" 74 2 "وخلق كل شيء فقدره تقديرًا" 122، 132، 133 3 "واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئًا". 6 "قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض" 66 33 "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق" 15 52 "فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا" 10 77 "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم" 74 "سورة الشعراء": 1-4 "طسم. تلك آيات الكتاب المبين" 197 80 "وإذا مرضت فهو يشفين" 270 215 "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين" 291 "سورة النمل": 40 "قال الذي عنده علم من الكتاب" 267 60 "أمن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء" 162 60 "أمن جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أنهارًا" 163 62 "أمن يجيب المضطر إذا دعاه" 146، 163 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 رقم الآية الآية رقم الصفحة 63 "أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر" 163 64 "أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء" 164 72 "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وجعل لكم من أزواجكم" 138 "سورة القصص": 8 "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا" 83 15 "ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها" 281 15 "فوكزه موسى فقضى عليه" 287 18 "قال له موسى إنك لغوي مبين" 281 24 "قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" 25، 287 78 "قال إنما أوتيته على علم عندي" 230 86 "وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك" 290 "سورة العنكبوت": 25 "وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم" 251 50 "وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه" 32 60 "وكأين من دابة لا تحمل رزقها" 103 64 "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" 185 65 "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين" 105 "سورة الروم": 22 "ومن آياته خلق السماوات والأرض" 124 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 رقم الآية الآية رقم الصفحة 30 "فطرة الله التي فطر الناس عليها" 143، 144 "سورة لقمان": 10 "خلق السماوات بغير عمد ترونها" 123 13 "إن الشرك لظلم عظيم" 17 14 "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا" 104 25 "ولئن سألتم من خلق السماوات والأرض" 105 34 "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث" 279 "سورة السجدة": 7 "الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين" 126 "سورة الأحزاب": 7 "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" 271 25 "ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا" 25 40 "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" 297 72 "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال" 113 "سورة سبأ": 1 "الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض" 160 24 "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" 98 "سورة فاطر": 1 "الحمد لله فاطر السماوات والأرض" 153 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 رقم الآية الآية رقم الصفحة 5 "يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا" 245 8 "أفمن زين له سوء عمله" 196 15 "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله" 157 27 "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء" 119، 123 40 "قال أرأيتكم شركاءكم الذين تدعون من دون الله" 131 41 "إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا" 157 44 "أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" 160 45 "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا" 249 "سورة يس": 37 "وآية لهم الليل نسلخ منها النهار فإذا هم مظلمون" 131 71 "أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا" 111، 140 77 "أولم ير الإنسان أن خلقناه من نطفة" 126 80 "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا" 142 "سورة الصافات": 27 "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" 18 102 "قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" 292 "سورة ص": 16 "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب" 248، 327 24 "وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه" 264 32 "إني أحببت حب الخير" 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة الزمر": 23 "الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني" 168 53 "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" 72، 73 "سورة غافر": 17 "لا ظلم اليوم" 244 51 "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا" 100 "سورة فصلت": 9 "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين" 18، 125 "سورة الزخرف": 22 "إنا وجدنا آباءنا على أمة" 26 30 "ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر" 176 32 "أهم يقسمون رحمة ربك" 290 52 "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين" 25 66 "وهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة" 251 67 "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" 247 "سورة الأحقاف": 22 "قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا" 249 35 "كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة" 82 "سورة محمد صلى الله عليه وسلم": 1 "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم" 82 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 رقم الآية الآية رقم الصفحة 38 "وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم" 82 "سورة الفتح": 1 "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا" 82 "سورة الحجرات": 17 "يمنون عليك أن أسلموا" 236 "سورة الذاريات": 21 "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" - 49 "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" 158 56 "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" 9، 96، 103 "سورة الطور": 35 "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" 150 49 "ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم" 82 "سورة النجم": 1 "والنجم إذا هوى" 82 45 "وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى" 158 "سورة القمر": 9 "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا" 99 23 "كذبت ثمود بالنذر" 99 49 "إن كل شيء خلقناه بقدر" 122 54 "إن المتقين في جنات ونهر" 82 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة الرحمن": 1-4 "الرحمن، علم القرآن" 82، 113، 137 14 "خلق الإنسان من صلصال كالفخار" 126 "سورة الواقعة": 57 "نحن خلقناكم فلولا تصدقون" 107، 126 74 "سبح باسم ربك العظيم" 82 75 "فلا أقسم بمواقع النجوم" 131 "سورة الحديد": 1 "سبح لله ما في السماوات والأرض" 82 4 "هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام" 112 21 "والله ذو الفضل العظيم" 82 "سورة المجادلة": 1 "قد سمع الله قول التي تجادلك" 83 "سورة الجمعة": 9 "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة" 102 "سورة الطلاق": 3 "ومن يتق الله يجعل له مخرجًا" 103 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة الملك": 2 "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا" 197 15 "فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه" 102 "سورة ن": 12 "مناع للخير" 24 "سورة الحاقة": 13 "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة" 308، 321 44 "ولو تقول علينا بعض الأقاويل" 212 "سورة نوح": 26 "وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا" 286 "سورة الجن": 26 "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا" 292 "سورة المزمل": 1 "يا أيها المزمل" 64 "سورة المدثر": 1 "يا أيها المدثر" 64 "سورة القيامة": 17 "إن علينا جمعه وقرآنه" 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة الإنسان": 1 "هل أتى على الإنسان حين من الدهر" 126 3 "إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا" 137 "سورة المرسلات": 50 "فبأي حديث بعده يؤمنون" 83 "سورة النبأ": 1 "عم يتساءلون عن النبأ العظيم" 83 "سورة النازعات": 25 "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى" 47 27 "أأنتم أشد خلقًا أم السماء" 18، 142 "سورة عبس": 1 "عبس وتولى أن جاءه الأعمى" 225 24 "فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبًا" 142 31 "وفاكهة وأبًا" 10 "سورة المطففين": 9 "كتاب مرقوم" 209 "سورة الطارق": 5 "فلينظر الإنسان مم خلق" - "سورة الضحى": 11 "وأما بنعمة ربك" 83 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 رقم الآية الآية رقم الصفحة "سورة الشرح": 1 "ألم نشرح لك صدرك" 83 "سورة التين": 4 "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقوم" 137 "سورة العلق": 1 "اقرأ باسم ربك الذي خلق" 64، 113، 126 6 "وإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" 145 "سورة العاديات": 11 "إن ربهم بهم يومئذ لخبير" 83 "سورة القارعة": 1 "القارعة ما القارعة" 83 "سورة الفيل": 5 "فجعلهم كعصف مأكول" 83 "سورة قريش": 1 "لإيلاف قريش" 83 "سورة الكوثر": 1 "إنا أعطيناك الكوثر" 83 "سورة الإخلاص": 1-4 "قل هو الله أحد" 159 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 2 فهرس الأحاديث والآثار : الصفحة طرف الحديث أو الأثر 174 "اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة" 11 "أخذ عدي عقالًا أبيض وعقالًا أسود" 293 "اللهم إن تهلك هذه العصابة" 256 "أنا زعيم بيت في ربض الجنة" 11 "إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء" 11 "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها" 185 "إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله" 12 "إن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" 10 "إن عمر بن الخطاب سأل على المنبر" 231 "إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" 70 "إن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين" 206 "أن لا يجد المرء على الحق أعوانًا" 260 "إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل" 149 "إن النبي صلى الله عليه وسلم لقي رجلًا يقال له حارثة" 320 "إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم" 143 "إني خلقت عبادي حنفاء" 173 "بعثت قريش النضر بن الحارث" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الصفحة طرف الحديث أو الأثر 12 "جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ" 11 "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم" 60 "سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة" 293 "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة" 80 "طرأ علي خزبي من القرآن" 286 "عجبت للمؤمن إن الله لم يقض قضاء إلا كان خيرًا له" 319 "فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله" 43، 169 "قال في بني إسرائيل، والكهف، ومريم إنهن من العتاق الأول" 173 "قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم -أي كبار قريش" 170 "قرأ رجل الكهف، وفي الدار دابة فجعلت تنفر" 259 "قلت لابن عباس إن نوفًا البكالي يزعم" 96، 143 "كل مولود يولد على الفطرة" 68 "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع" 68 "كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره" 97 "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل" 269 "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي" 173 "لقد نزلت هذه الآية في ستة" 161 "لله تسعة وتسعون اسمًا" 17 "لما نزلت هذه الآية: "الذين آمنوا" 103 "لو أنكم توكلتم على الله حق التوكل " 79 "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال" 69 "ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة" 17 "مفاتح الغيب خمس" 284 "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله" 69، 170 "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الصفحة طرف الحديث أو الأثر 170 "من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورًا" 170 "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة" 171 "من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورًا" 171 "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة" 69، 170، 177، 185 "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف" 149 "والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي" 127 "ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه" 234 "يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد" 95 "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة" 206 "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 3 فهرس الأعلام : الاسم الصفحة [حرف الألف] آدم عليه السلام: 42، 88، 257، 264، 266 آدم بن إياس: 113، 169 إبراهيم عليه السلام: 72، 99، 200، 202، 203 إبراهيم زويد الكيلاني: 29 ابن إسحاق: 173، 187 ابن أشته: 80 ابن تيمية: 18 ابن جرير الطبري: 13، 14، 60، 173 ابن الجوزي: 20 ابن حبان: 173 ابن حجر العسقلاني: 270 ابن خلدون: 33 ابن رشد: 136 ابن شهاب الزهري: 13 ابن الصلاح الشهرزوري: 294 ابن عبد البر: 294، 295 ابن عساكر: 294، 295 ابن العماد: 20 ابن قتيبة: 21 ابن القيم: 21 ابن كثير: 295، 320 ابن ماجه: 13، 14، 320 ابن مردويه: 12، 173، 174 ابن هشام: 187 ابن وهب: 80 ابو إسحاق: 169، 295 أبو البختري: 174 أبو بكر الجصاص: 21 أبو بكر الصديق: 12، 81، 213، 224 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الاسم الصفحة أبو بكر بن العربي: 21، 58، 66 ابو بكر النيسابوري: 66 أبو جعفر بن الزبير الأندلسي: 67 أبو جهل بن هشام: 174 أبو حيان: 62 أبو داود: 80/ 97 أبو الدرداء: 69، 170 أبو ذر الغفاري: 172 أبو رافع: 320 أبو سعيد الخدري: 170، 206 أبو سفيان: 189 أبو الشيخ: 12 أبو صالح: 231 أبو عبيد القاسم بن سلام: 20 أبو الفضل محمد البجائي المالكي: 41 أبو كرب شمر بن عمرو بن أفريقيش الحمري: 309، 303 أبو الكلام أزاد: 310، 311، 312، 313، 314، 315، 316. أبو هريرة: 320 أبي بن كعب: 179، 260 أتيلا: 318 أحمد حسن فرحات: 27 أحمد بن حنبل: 13، 68، 79، 80، 97، 170، 177، 320 أحمد شاكر: 79 إدوارد لوثركسيو: 128 إدوار مونتيه: 22 الإسكندر المكدوني: 309، 313 إسماعيل عليه السلام: 300، 302، 292 الأسود بن المطلب: 174 الأقرع بن حابس: 172 إلكيا الهراسي: 21 أمية بن خلف الجمحي: 173، 174 أوس بن أبي أوس: 80 [حرف الباء] البخاري: 11، 17، 18، 43، 68، 79، 169، 170، 206، 270 البراء: 170 البقاعي: 29، 41، 45، 59، 63، 66، 67، 290، 300 بلال الحبشي: 172، 173 [حرف التاء] الترمذي: 320 [حرف الجيم] جبريل عليه السلام: 69، 174، 311 جمال الدين القاسمي: 113، 136، 147 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الاسم الصفحة جول لا بوم: 23 جويبر: 173 جيمس جينز: 119 [حرف الحاء] الحاكم: 12، 68، 170، 173 حذيفة الثقفي: 80 الحسن البصري: 14 [حرف الخاء] خباب بن الأرت: 173 الخضر: 171، 178، 188، 189، 200، 254، 255، 259، 260، 261، 267، 270، 271، 274، 277، 278، 284، 285، 287، 288، 289، 290، 291، 292، 293، 294، 295، 296، 297، 298، 300، 301، 302 الخطيب البغدادي: 294 [بحرف الدال] الدارقطني: 295 الدامغاني: 20، 24 دانيال: 311، 312 داود عليه السلام: 264 [حرف الذال] الذهبي: 170، 171 ذو القرنين: 187، 186، 202، 203، 299، 300، 301، 302، 303، 304، 306، 307، 309، 310، 311، 320، 322، 333، 324، 325 ذو النون: 264 [حرف الراء] الراغب الأصفهاني: 15، 20، 25 ربيعة: 80 روح بن عبادة البصري: 13 [حرف الزاي] الزجاج: 26 الزركشي: 59، 67 زكريا عليه السلام: 99 زيد بن ثابت: 68، 81 زيد بن عمرو بن نفيل: 26 [حرف السين] السامري: 203 سراقة بن مالك: 118 سعد بن أبي وقاص: 173 سعيد بن جبير: 14، 18، 259 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الاسم الصفحة سعيد حوى: 313 سفيان بن عيينة: 13 سلام الترجمان: 314 سلمان الفارسي: 172 سليمان عليه السلام: 266، 267 سليمان بن بلال: 80 سهل بن معاذ: 170 سيد قطب: 29، 107، 134، 140، 282، 283. السيوطي: 59، 62، 67، 84، 85، 86، 89، 173، 174 [حرف الشين] شعبة بن الحجاج: 13، 95، 169، 170 الشعبي: 11 شعيب عليه السلام: 287 الشهرستاني: 105 الشوكاني: 62 شيبة بن ربيعة: 174 الشيرازي: 218 [حرف الصاد] صالح عليه السلام: 51 صفوان بن أمية: 118 صهيف الرومي: 172، 173 [حرف الضاد] الضحاك: 173 الضياء المقدسي: 171 [حرف الطاء] الطاهر بن عاشور: 152 [حرف العين] العاص بن وائل: 174 عبد الله بن الزبير: 68 عبد الله بن عباس: 12، 14، 18، 60، 72، 79، 173، 259، 260، 270، 295 عبد الله بن عمر: 72، 293 عبد الله محمد الصديق الغماري: 67 عبد الله بن مسعود: 17، 43، 81، 97، 169، 173 عبد بن حميد: 13 عبد الحميد الفراهي: 29 عبد الرحمن بن يزيد: 169 عبد الرزاق بن همام الصنعاني: 13، 14 عبد العظيم الزرقاني: 33 عبد العليم خضر: 315 عتبة بن ربيعة: 174 عثمان بن أبي العاص: 68 عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري: 70 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الاسم الصفحة عثمان بن عفان: 68، 79، 81 عندي بن حاتم: 11، 118 العز بن عبد السلام: 21، 62 عزير عليه السلام: 72 عقبة بن أبي معيط: 173 عكرمة: 173 علي بن أبي طالب: 12، 18، 171، 294 علي بن المديني: 21 عمار بن ياسر: 172، 173 عمر بن الخطاب: 10، 12، 69، 72، 73، 81 عمرو بن عبيد: 14 عمرو بن لحي: 100 عمير بن وهب: 118 عناية الله المشرقي: 119 عوف: 79 عيسى عليه السلام: 88، 99، 275، 276، 319 عيينة بن حصن: 172 [حرف الفاء] الفخر الرازي: 29، 45، 60، 61، 66، 193، 266، 267 فرعون: 47، 51، 99، 171, 203، 287 الفيروزآبادي: 20 [حرف القاف] قارون: 203 قتادة: 170 القرطبي: 294، 296 القزويني: 154 قورش الإخميني: 310، 312، 313 [حرف الكاف] كريس موريسون: 133 كعب الأحبار: 320 [حرف الميم] مالك بن أنس: 79 الماوردي: 21 مجاهد: 14 محمد أبو زهرة: 13. محمد بن إسحاق: 72 محمد البهي: 29 محمد بن جعفر: 79 محمد بن عبد الله دراز: 57، 67 محمد عبد الله الغزنوي: 62 محمد فؤاد عبد الباقي: 22 محمد قطب: 101 مريم عليها السلام: 88 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الاسم الصفحة مسروق: 12 مسلم بن الحجاج: 69، 170، 171، 177 مقاتل بن سلميان البلخي: 20 المنهال: 18 موسى عليه السلام: 51، 99، 171، 178، 188، 189، 200، 203، 254، 255، 258، 259، 260، 261، 262، 266، 267، 268، 269، 270، 271، 272، 273، 274، 275، 277، 278، 279، 280، 281، 283، 284، 285، 287، 288، 289، 291، 295، 297، 298، 300، 301 [حرف النون] نافع: 72 النجاشي: 189 النضر بن الحارث: 173، 174، 178 النقاش: 294 نمرود: 72، 99 نوح عليه السلام: 51، 99، 264 نوف البكالي: 259، 270 النووي: 178، 294 [حرف الهاء] هشام بن العاص: 73 [حرف الواو] الواثق: 314 وحيد الدين خان: 118 وكيع بن الجراح: 13 الوليد بن المغيرة: 24، 187 ولي الدين الملوي: 59 [حرف الياء] يحيى عليه السلام: 99 يحيى بن سلام: 20 يحيى بن سعيد: 79 يزيد الفارسي: 79 يوسف عليه السلام: 201، 213، 214، 215، 216 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 4 فهرس المراجع : الكتاب المؤلف الطبعة 1- الإتقان في علوم القرآن - السيوطي - المكتبة الثقافية 2- إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - أبو السعود - مكتبة الرياض الحديثة 3- أساس البلاغة - الزمخشري - دار المعرفة 4- الأساس في التفسير - سعيد حوى - دار السلام 5- أسد الغابة في معرفة الصحابة - ابن الأثير - دار الفكر 6- الإسلام يتحدى - وحيد الدين خان - المختار الإسلامي 7- إصلاح الوجوه والنظائر - الدامغاني - دار العلم للملايين 8- أصول الدين - أبو منصور البغدادي - مدرسة الإلهيات-إستانبول 9- الله يتجلى في عصر العلم - مجموعة من علماء الغرب، ترجمة: الدمرداش سرحان - دار القلم 10- البرهان في علوم القرآن - الزركشي - دار المعرفة 11- تأملات في سورة الكهف - أبو الحسن الندوي - دار القلم 12 التبيان في آداب حملة القرآن - النووي - دار الفكر 13- التحرير والتنوير - الطاهر بن عاشور - الدار التونسية للنشر 14- التصاريف - يحيى بن سلام - الشركة التونسية للتوزيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الكتاب المؤلف الطبعة 15- تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - دار إحياء الكتب العربية 16- التفسير والمفسرون - محمد حسين الذهبي - دار الكتب الحديثة 17- جامع البيان في تفسير القرآن - الطبري - دار المعرفة 18- جامع البيان في تفسير القرآن - معين الدين الإيجي - دار نشر الكتب الإسلامية 19- الجامع الصحيح "سنن الترمذي" - الترمذي - دار الفكر 20- الجامع الصحيح "صحيح البخاري" - البخاري المكتبة الإسلامية - إستانبول 21- الجامع الصحيح "صحيح مسلم" - مسلم بن الحجاج - دار الفكر" 22- الجامع لأحكام القرآن - القرطبي - الشعب 23- دراسات في التفسير الموضوعي - زاهر عواض - الألمعي 24- الدر المنثور في التفسير بالمأثور - السيوطي - دار المعرفة 25- دلائل التوحيد - جمال الدين القاسمي - دار الكتب العلمية 26- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - الألوسي - دار إحياء التراب العربي 27- سنن ابن ماجة - ابن ماجة - دار إحياء التراث العربي 28- السيرة النبوية، مع حاشية روض الأنف - ابن هشام - دار المعرفة 29- شرح النووي على صحيح مسلم - النووي - رئاسة إدارات البحوث 30- العلم يدعو إلى الإيمان - كريسي موريسون، ترجمة: محمود صالح الفلكي - مكتبة النهضة المصرية 31- العواصم من الفتن في سورة الكهف - عبد الحميد طهماز - دار القلم 32- الفائق في غريب الحديث - الزمخشري - دارالمعرفة 33- فتح الباري شرح صحيح البخاري - ابن حجر العسقلاني - دار الباز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الكتاب المؤلف الطبعة 34- فتح القدير - الشوكاني - البابي الحلبي 35- في ظلال القرآن - سيد قطب - دار الشروق 36- القراءات الشاذة - عبد الفتاح القاضي - دار الكتاب العربي 37- كتاب السبعة في القراءات - ابن مجاهد - دار المعارف 38- لباب النقول في أسباب النزول - السيوطي - مطبعة الملاح 39- مجمع الزوائد - الهيثمي - دار الكتاب العربي 40- مختصر سنن أبي داود - المنذري - دار المعرفة 41- مدارج السالكين - ابن القيم - دار الرشاد الحديثة 42- المدخل إلى التفسير الموضوعي - عبد الستار سعيد - دار الطباعة والنشر الإسلامية 43- المدخل إلى القرآن الكريم - محمد عبد الله دراز - دار القلم 44- المستدرك - الحاكم - مكتبة النصر الحديثة 45- المسند الإمام - أحمد بن حنبل - المكتب الإسلامي، دار صادر 46- معاني القرآن - الفراء - عالم الكتب 47- مفاتيح الغيب - الرازي - دار الكتب العلمية 48- مفاهيم جغرافية في القصص القرآني - عبد العليم خضر - دار الشروق 49- المفردات في غريب القرآن - الراغب الأصفهاني - مكتبة الأنجلو مصرية 50- النبأ العظيم - محمد عبد الله دراز - دار القلم 51- النبوات - ابن تيمية - دار الفكر 52- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - البقاعي - الدار السلفية 53- النهاية في غريب الحديث والأثر - ابن الأثير - دار إحياء التراث العربي 54- مقدمة في أصول التفسير - ابن تيمية - دار القرآن 55- ويسألونك عن ذي القرنين - أبو الكلام - آزاد الشعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 5 محتوى الكتاب : الصفحة الموضوع 5 المقدمة: التفسير الم5 وضوعي: "تعريفه، نشأته، تطوره، ألوانه، أهميته" 7 تمهيد 9 نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي 15 تعريف التفسير الموضوعي 17 نشأة التفسير الموضوعي 23 ألوان التفسير الموضوعي 30 أهمية التفسير الموضوعي 35 مناهج البحث في التفسير الموضوعي 47 منهج البحث في تفسير موضوع من خلال القرآن 40 منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة 41 التفسير الموضوعي لسورة قرآنية 41 "تحديد محور السورة" 47 الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة 50 الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة 52 صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير 55 علم المناسبات والتفسير الموضوعي 58 أولًا: تعريف علم المناسبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الصفحة الموضوع 58 ثانيًا: أهمية علم المناسبات وموقف العلماء منه 66 ثالثًا: ظهور علم المناسبات وأهم المؤلفات فيه 68 القسم الأول= المناسبات في السورة الواحدة 70 أنواع المناسبات في السورة الواحدة 70 النوع الأول: المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة 74 النوع الثاني: مناسبة فواتح السور لخواتمها 78 القسم الثاني= المناسبات بين السور 78 القول بوجود المناسبات بين السور يعتمد على القول بأن ترتيب السور توقيفي 82 أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين 82 النوع الأول: المناسبة بين أول السورة وخاتمة ما قبلها 84 النوع الثاني: مناسبة مضمون كل سورة لما قبلها 90 علم المناسبات يبرز وجهًا من وجوه إعجاز القرآن 93 مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم 93 "الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم" 95 مقدمات بين يدي الموضوع: 95 أولًا: الألوهية والفطرة 102 ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق 106 ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري 109 رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية 112 خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية 117 أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم 121 أولًا: أدلة الخلق والإبداع 129 ثانيًا: أدلة العناية 143 ثالثًا: أدلة الفطرة 150 رابعًا: البراهين العقلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الصفحة الموضوع 155 خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله تعالى وتنزيهه عن صفات النقص 162 خاتمة موضوع الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم 165 مثال تطبيقي: تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًا 165 "القيم في ضوء سورة الكهف" 167 تمهيد 169 بين يدي السورة 169 اسمها وعدد آياتها 169 خصائص سورة الكهف 172 وقت نزولها وسببه 175 أهداف سورة الكهف 179المناسبات في سورة الكهف 179 أولًا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها 180 ثانيًا: المناسبة بين افتتاحة السورة وخاتمتها 186 ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السور وهدفها 191 افتتاحية سورة الكهف 191 الموضوعات الأساسية في الافتتاحية 199 المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين 200 بين يدي قصص سورة الكهف 204 العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين 207 العرض التحليلي للقصة 211 تعقيب واستطراد وتعليل 216 عظات وعبر 219 المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة 220 المناسبة بين المقطع الأول والثاني 222 العرض العام للمقطع الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الفصحة الموضوع 234 عظات وعبر 241 المقطع الثالث: وقفة تأمل في المآل والمصير 242 المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله 243 العرض الإجمالي للمقطع الثالث 249 الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث 253 لمقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم 254 المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله 258 العرض الإجمالي للمقطع الرابع 262 الانطلاق والبحث عن العبد الصالح 269 العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح 270 اللقاء والحوار 274 العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار 276 الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة 284 الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة 289 العظات والعبر من الفقرتين السابقتين 290 تعقيبات وتعليقات 290 أقوال العلماء في نبوة الحضر عليه السلام 293 أقوال العلماء في موت الخضر عليه السلام 295 قصة الخضر مزلقة قدم 297 القيم في المقطع الرابع 299 المقطع الخامس: قصة ذي القرنين "الرجل الطواف" 299 المناسبات 303 العرض الإجمالي للمقطع الخامس 309 وقفات لا بد منها 309 الوقفة الأولى مع ذي القرنين 313 الوقفة الثانية مع السد وموقعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الصفحة الموضوع 315 الوقفة الثالثة مع يأجوج ومأجوج: حقيقتهم ومصيرهم 322 القيم في قصة ذي القرنين 324 العظات والعبر في المقطع الخامس 325 خاتمة السورة 325 فقرات خاتمة السورة 313 خاتمة البحث الفهارس: 335 1- فهرس الآيات المستشهد بها 355 2- فهرس الأحاديث والآثار 359 3- فهرس الأعلام 365 4- فهرس المراجع 369 5- محتوى الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373