الكتاب: علم المقاصد الشرعية المؤلف: نور الدين بن مختار الخادمي الناشر: مكتبة العبيكان الطبعة: الأولى 1421هـ- 2001م. عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- علم المقاصد الشرعية نور الدين الخادمي الكتاب: علم المقاصد الشرعية المؤلف: نور الدين بن مختار الخادمي الناشر: مكتبة العبيكان الطبعة: الأولى 1421هـ- 2001م. عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الضالين ال مقدمة : أما بعد: فإن المقاصد الشرعية الإسلامية قد تزايد في العصر الحالي الاهتمام بها والالتفات إليها، وعلى مستوى البحث والتأليف والتحقيق والتدوين، وعلى مستوى التدريس والتعليم والتوعية والتثقيف. وقد كان سبب ذلك بالأساس الحاجة الماسة، والضرورة المُلحَّة لعلم المقاصد على صعيد عملية الاجتهاد والاستنباط والإفتاء والقضاء، وعلى صعيد فهم التكليف وتعقله واستيعابه وتطبيقه، وعلى صعيد تحمل خطاب التكاليف وأداء رسالة الاستخلاف، وإقامة واجب الإصلاح والتوجيه والإرشاد في الأرض. ومعلوم أن المقاصد الشرعية سلاح ذو حدين، يمكن استخدامها في الخير والمعروف، ويمكن توظيفها لجلب الشر والمنكر والفسادن، ولذلك وجب على العلماء والمتعلمين الإحاطة بهذا العلمن ومعرفة محتويته ومضامينه، وامتلاك أدواته وآلياته وضوابطه، بغية تطبيقه بوجه حس، وبكيفية مرضية، تجلب للناس مصالحهم الحقيقية والشرعية، وتدرأ عنهم الفساد والهلاك، وتني عن الاجتهاد والاستنباط التعسف في التفسير، والتطويع في التأويل، والإساءة في القصود والنوايا، كما تُبعد -بنفس الحرص والاهتمام- التفسير الظاهري، والتعامل الحرفي مع النصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والأدلة الذي لا ينظر إلا إلى المباني والظواهر والصور، دون أن يُعم تلفكر في البواطن ومعاني والمرامي والمقاصد. فالنظر المقاصدي الأصيل يقوم على الموازنة بين الظاهر النص ومقصوده، بين مبناه ومعناه، وفق ميزان الشرع، ومعيار الاجتهاد الصحيح وضوابطه. وهذا النظر المقاصدي هو في حقيقته يتمثل في مبدأ الوسطية الإسلامية التي تقررت بأدلة كثيرة على أنها خصيصة قطعية وسمة مؤكدة من سمات شريعة الله الغراء. ونظرًا إلى مكانة المقاصد الشرعية في العصر الحالي بالخصوص، وفي معالجة كثير من نوازله وحوادثه، تعاقب الباحثون وطلاب العلم على تناول موضوعها بالدرس والبحث والتأليف، سواء على مستوى البحوث والمؤلفات الخاصة، أو على مستو بحوث الدراسات العليا ولترقيت والجوائز، وبحوث المجامع والهيئات الفقهية الشرعية والمراكز البحثية والدراسية. ولم أكن لأشُذّ عن هذا الاتجاه العام في العصر الحالي -فالإنسان ابن عصره، ويتأثر بأحواله وأوضاعه؛ فقد أُغريت كي أسهم بشيء يسير وقليل في هذا الاهتمام والعناية بالمقاصد الشرعية؛ فقد جعلت رسالتي للدكتوراه مخصصة لتناول المقاصد الشرعية عند المالكية1، كما ألفت كتابًا بعنوان "الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته"2، ركزت فيه   1 نوقشت هذه الرسالة بجامعة الزيتونة العامرة سنة 1997من وقد نال صاحبها أفضل تقدير معتمد في الجامعة. 2 صدر هذا الكتاب في جزأين ضمن سلسلة كتاب "الأمة" القطرية بتاريخ جمادى الأول ورجب 1419، تحت رقم: 66-67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 على النواحي التطبيقية والتميلية والتحليلية والتدليلية للمقاصد، والحكم على كثير من نوازل العصر ومشكلاته في ضوء المقاصد الشرعية التابعة للأدلة والنصوص، وليس المستقلة عنها أو المنفلتة منها. كما أسهمت ببعض المقالات القصيرة في بعض الدوريات والمجالات. وقد رأيت من اللازم والضروري -شرعيًا وأدبيًا وأكاديميًا- تأليف هذا الكتاب لسببين رئيسين مباشرين: 1- الاستجابة لحاجة القرّاء في معرفة علم المقاصد وإدراك عموماته، والإلمام ببعض جزئياته ومتعلقاته كي يحققوا بهذا العلم الفهم الصحيح والتطبيق السليم للإسلام، وللتكاليف، وللاستخلاف في الأرض، وكي يتمكنوا من الرَّدّ على المزاعم الشُّبه والغايات؛ حيث يقولون: إن العبرة بالمقاصد والمعاني، ويقولون: الغايات تبرير وغير ذلك. 2- الاستجابة لحاجة الطلاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ولا سيما طلاب كلية الدعوة والإعلام بالخصوص1، الذين يدرسون منهج مقاصد الشرعية في المستوى الثالث والرابع؛ فقد رأيت تدوين ما كنت ألقيه عليهم في أثناء المحاضرات، بغية تيسير المنهج لهم، ويسر مراجعته، وسهولة العودة إليه أثناء المذاكرة والاختبارات. ولا سيما والمنهج عميق ودقيق، وهو يحتاج إلى بذل جهدي التدريس   1وكذلك طلاب المعهد العالي للقضاء، الذين يدرسون حاليًا منهج المقاصد الشرعية، وكذلك طلاب الدكتوراه بقسم أصول الفقه، وبقسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة، والذين سيدرسون لاحقًا هذا المنهج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والتأليف حتى تتحقق الغاية المرجوة منه. وقد كنت أواخر كل فصل دراسي يبادرني الطلاب بأسئلة كثيرة تتعلق بالمنهج والبرامج، وبإعداد مذكرة تحوي المادة العلمية كلها؛ ولا سيما بالنسبة للطلاب المنتسبين والراسبين وغيرهم ممن يحتاجون إلى مدونة أو مذكرة مكتوبة يعودون إليها خارج قاعات التدريس بالجامعة. فلذلك كله، وللأسباب الأولى، قمت بتأليف هذا الكتاب الذي آمل أن يكون موفقًا ومفيدًا، وأن يُتجاوز فيه عن الأخطاء والهفوات التي هي من سمات البشر، ومن مستلزمات العجلة التسرع والحرص على الاستفادة والإفادة. ولا أدع أنني قد أتيت على كل أو أغلب مسائل المقاصد؛ فذلك أكبر من أن تستودعه مثل هذه المذكرة؛ ولكنني أتيت على ما ظننته قريبًا من المراد والمقصود. ونسأل الله تعالى الصواب والرشاد. إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كتبه الفقير إلى عفو ربه: نور الدين مختار الخادمي عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالرياض (قسم الفقه) صبيحة يوم الجمعة الثامن من شهر صفر 1421هج -الموافق ليوم 12مايو 2000م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الجزء الأول المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية ... المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية التعريف اللغوي لمقاصد الشريعة الإسلامية: مقاصد الشريعة هي اسم ولقب لعلم وفن من فنون الشريعة الإسلامية، وهذا الاسم يتركب من لفظين: لفظ مقاصد، لفظ الشريعة. ولتعريف هذا الاسم المركبَّ، أو هذا اللقب العلمي الشري يجب تعريف كل من لفظيه اللذين ركب منهما، وهما: لفظ مقاصد، لفظ الشريعة. تعريف المقاصد لغة: المقاصد: جمع مقصد، والمقصد: مصدر ميمي مشتق من الفعل قصد؛ فيقال: قصد يقصد قصدًا، وعليه فإن المقصد له معان لغوية كثيرة منها: 1- الاعتماد والتوجه واستقامة الطريق. قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} 1. 2- التوسط وعدم الإفراط والتفريط قال تعالى: {اقْصِدْ فِي مَشْيِك} 2. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "القصْدَ القصْدَ تَبْلُغُوا" 3.   1 سورة النحل آية 9. 2 سورة لقمان آية 19. 3 أخرجه البخاري في كتاب الرقائق، باب: القصد والمداومة على العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تعريف الشريعة لغة: الشريعة تُطلقَ في اللغة على مورد الماء ومنبعه ومصدره، كما تُطلق على الدين والملة والطريقة والمنهاج والسنة، والشريعة والشرع والشرِّعْة بمعنى واحد. ووجه إطلاق الشريعة على منبع الماء ومصدره أن الماء مصدر حياة الإنسان والحيوان والنبات، وأن الدين الإسلامي مصدر حياة النفوس وصلاحها وتقدمها وسلامتها في الدنيا والآخرة؛ فالشريعة الإسلامية مصدر كل الخير والرخاء والسعادة في العاجل والآجل، في المعاش والمعاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم} 1. تعريف لفظ الإسلامية: لفظ الإسلامية مشتق من كلمة الإسلام، والإسلام لغة: الانقياد والاستسلام لله سبحانه تعالى بتوحيده وعبادته والامتثال إلى أوامره واجتناب نواهيه. وإطلاق الإسلامية على المقاصد دليلٌ على أن هذه المقاصد مستندة إلى الإسلام، منبثقة منه ومتفرعة عنه، وليست مستقلة عنه أو مخالفة له. التعريف الاصطلاحي لمقاصد الشريعة الإسلامية: لم يوجد عند العلماء الأوائل تعريف واضح أو محدد أو دقيق لمقاصد   1 سورة الآنفال آية رقم 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الشريعة؛ وإنما وجدت كلمات وجُمَل لها تعلق ببعض أنواعها وأقسامها، وببعض تعبيرتها ومرادفاتها، وبأمثلتها وتطبيقاتها، وبحجيتها وحقيتها. فقد ذكروا الكليات المقاصدية الخمس "حفظ الدين والنفس والعقل والنسل أو النسب والمال" وذكروا المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، وذكروا بعض الحِكَم والأسرار والعلل المتصلة بأحكامها وأدلتها. وذكروا أدلة من المنقول والمعقول الدالة على حقية المقاصد وحيجتها، ووجوب مراعاتها والاعتماد عليها بشروط معينه وضوابط مقررة، وبدون الخروج عن الشرع أو معارضة أدلته ومصادمة تعاليمه وقواعده وأصوله. كما أنهم عبرا عن المقاصد بتعبيرات كثيرة دلت في مجملها بالتصريح والتلميح والتنصيص والإيماء على الْتفات هؤلاء الأعلام إلى مراعاة المقاصد واستحضارها في عملية فهم النصوص والأحكام والاجتهاد فيها والترجيح بينها. ومن تلك التعبيرات والاشتقاقات: المصلحة والحكمة العلة والمنفعة والمفسدة والأغراض والغايات والأهداف والمرامي والأسرار والمعاني والمراد والضرر والأذى وغير ذلك مما هو مبثوث في مصادره ومظانه. تعريف العلماء المعاصرين للمقاصد: حظيت مقاصد الشريعة في العصر الحديث بعناية خاصة من قبل العلماء والباحثين؛ وذلك لأهميتها ودورها في عملية الاجتهاد الفقهي، وفي معالجة قضايا الحياة المعاصرة في ضوء الأدلة والنصوص والقواعد الشرعية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وكان من ضروب هذا الاعتناء تدوين المقاصد وتأليفها واعتبارها علمًا شرعيًا وفنًا أصوليًا له ما لسائر العلوم والفنون من تعريفات ومصطلحات وتقسيمات وغير ذلك. وقد وردت عدة تعريفات لهذا العلم نوردها فيما يلي: 1- عرفَّها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بأنها: المباني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها ... ويدخل في هذا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام؛ ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها1. 2- عرفها الفاسي بقوله: المراد بمقاصد الشريعة الإسلامية: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكمها2. 3- عرفها الريسوني بقوله: إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد3. 4- عرفها الدكتور محمد بن سعد بن أحمد بن سعود اليوبي: المقاصد هي المعاني والحكم ونحوها التي راعاها الشارع في التشريع عموما وخصوصًا من أجل تحقيق مصالح العباد4.   1 مقاصد الشريعة لاب عاشور ص51. 2 مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص3. 3 نظرية المقاصد عند الشاطبي: د. أحمد الرسيوني ص7. 4 مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 5- عرفها فتحي الدريني: وهي القسم التي تكمن وراء الصيغ والنصوص، ويستخدمها التشريع كليات وجزئيات1. 6- عرفها د. مصطفى بن كرامة الله مخدوم بقوله: المقاصد وهي المصالح التي قصدها الشارع بتشريع الأحكام 2. 7- التعريف المختار لنور الدين الخادمي: المقاصد هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها؛ سواء أكانت تلك المعاني حكما جزئية أم مصالح كلية أم سمت إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد، هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين3. الخلاصة: إن المقاصد الشرعية هي جملة ما أراده الشارع الحكيم من مصالح تترتب على الأحكام الشرعية، كمصلحة الصوم والتي هي بلوغ التقوى، ومصلحة الجهاد التي هي در العدوان والذب عن الأمة، ومصلحة الزواج والتي هي غض البصر وتحصين الفرج وإنجاء الذرية وإعمار الكون. وهذه المصالح كثيرة ومتنوعة، وهي تجمع في مصلحة كبرى وغاية كلية: هي تحقيق عبادة الله، وإصلاح المخلوقين وإسعاده في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} 4.   1 انظر مقاصد المكلفين عند الأصوليين، ج1 / 35. 2 قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية، ص34. 3 الاجتهاد المقاصدي حجيته، ضواطه، مجالاته د. نور الدين الخادمي، 1/ 52-53. 4 سورة النحل آية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المبحث الثاني: صلة المقاصد ببعض المصطلحات الأصولية المطلب الأول: صلة المقاصد بالعلة ... المبحث الثاني: صلة المقاصد ببعض المصطلحات الأصولية للمقاصد صلة ببعض المصطلحات الأصولية كمصطلح العلة والحكمة والمصلحة وسد الذارئع. المطلب الأول: صلة المقاصد بالعلة العلة لغةً: المرض. أما العلة اصطلاحًا: فتطلق على الوصف الظاهر المنضبط الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه مصلحة؛ ومثاله: الإسكار، فهو وصف ظاهر منضبط ترتب عليه حكم التحريم لمصلحة حفظ العقل والمال، وهذا معنى قولنا: يحصل من ترتيب الحكم عليه مصلحة حفظ المال والعقل. ومثاله كذلك: السفر؛ فهو وصف ظاهر منضبط، ومعنى كونه ظاهرًا ليس خفيًا، ومعنى كونه منضبطًا: لا يتغير بتغير الأشخاص ولا الأحوال ولا الظروف. والحكم المترتب على السفر هو قصر الصلاة، والإفطار في الصوم، والمسح على الخفين. والمصلحة من كل ذلك هي رفع الحرج عن المكلف والتخفيف عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الخلاصة: إن العلة هي الوصف المُّعرِّف للحكم والمؤدي إليه، كالإسكار؛ فإنه يؤدي إلى التحريم لمصلحة حفظ العقل والمال، والسفر يؤدي إلى القصر والإفطار والمسح لمصلحة رفع المشقة والحرج، والسرقة تؤدي إلى قطع اليد لمصلحة حفظ المال، والزنى يؤدي إلى الجلد أو الرجم لمصلحة حفظ الأنساب والأعراض، والقتل العَمْد يؤدي إلى القصاص لمصلحة حفظ النفس. ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك: الغياب عن المحاضرات؛ الغياب عن المحاضرات سبب لوقوع الحرمان من الاختبار. ويعتبر تأديب الطلاب وحثهم على حضور المحاضرات والاستفادة منها هو مقصد ذلك الحكم، أي أن المصلحة تتمثل في ذلك؛ إذ لو لم يحرم الطالب المتغيِّب من الامتحان لََتَخلَّف الطلاب، ولتأخروا عن الحضور، ولَفَاتَهم تحصيل العلم المفيد. وبناءً على ما ذكر تكون العلة هي سبب الحكم وسبيله الذي يؤدي إليه، وتكون المقاصد هي المصالح المترتبة على الحكم المبني على العلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المطلب الثاني: صلة المقاصد بالحكمة الحكمة: هي ما يترتب على التشريع من جلب مصلحة وتكميلها، أو دف مفسدة وتقليلها1. وتطلق الحكمة أحيانًا على المقصد الجزئي كحكمة تجنب الأذى باعتزال الحائض، وحكمة منع بيع المعدوم وهي نفي الجهالة وإبعاد الغرر والضرر عن المشتري، وحكمة النظر إلى وجه المخطوبة وهي حصول الألفة وإدامة العِشْرة وتحقيق الارتياح لضمان النجاح وإدراك الفلاح. كما تطلق الحكمة للدلالة على المقصد الكلي أو المصلحة الإجمالية كمصلحة حفظ النفس، وتحقيق التيسير ورفع الحرج، وتقرير عبادة الله والامثتال إليه. فنقول بأن الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الشرائع هي: عبادة الله واجتناب الطاغوت، ونعني بتلك الحكمة جملة المصالح العامة والمقاصد الكلية. وبناءً على ما ذكر فإن الحكمة والمقاصد يترادفان ويتماثلان في الإطلاق والتعبير في أغلب الأحيان.   1 انظر مباحث العلة في القياس ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المطلب الثالث: صلة المقاصد بالمصلحة المصلحة كالمنفعة وزنًا ومعنى، وهي ضد المفسدة والمضرة، ويُعبَّر عنها بالخير والشر، بالنفع والضرر، بالحسنات والسيئات. يقول عز الدين بن عبد السلام: المصالح هي اللذات وأسباها، والمفاسد: الآلام وأسبابها أو الأضرار وأسبابها؛ فتكون المصلحة متمثلة في جلب المنفعة وما يوصل إليها، وتكون المفسدة متمثلة في درء الآلام والأضرار وما يوصل إليها1.   1 انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام 1/ 10، وانظر المقاصد العامة، يوسف حامد، ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أنواع المصلحة: تتنوع المصلحة تنوعات كثيرة باعتبارات وحيثيات كثيرة، والذي يهمنا في هذا العرض الموجز الاقتصار على التركيز على نوعيها باعتبار موافقتها للشرع ومخالفتها له؛ إذ تقسم بهذا الاعتبار إلى المصالح الشرعية والمصالح غير الشرعية. 1- المصالح الشرعية: وهي المصالح التي تستند إلى الشرع وتنبثق منه وتتفرع عنه، ولا تعارض نصًا ولا دليلًا ولا إجماعًا. ومثالها: مصلحة حفظ الدين بإقامة شعائره وفرائضه وإحياء معالمه وتعاليمه، وكذلك مصلحة حفظ العرض بمنع الزنا والخلوة والنظر بشهوة ومعاقبة الزناة والشاذَّين. ومن خاصيات المصلحة الشرعية أنها غير محدودة بالدنيا أو المتاع المادي واللذة الجسدية كما هو الحالفي المجتمعات المادية والإباحية والدهرية والعبثية؛ بل إن تلك المصلحة تشمل الدنيا والآخرة وتشمل الجسد والروح والفرد والمجتمع. 2- المصالح غير الشرعية: وهي المصالح التي لا تستند إلى الشرع ولا تنبثق منه؛ وإنما تُحدَّد في ضوء نزوات النفس وأهواء العقل وميول الغرائز، فليس لها ضابط ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 رابط، وليس لها حدود ولا قيود، كما أنها تنصبُّ في الاقتصادر على منافع الدنيا وإمتاع الجسد بمختلف اللذائذ والمنافع وإشباع الذات، ولو على حساب الآخرين؛ فهي إذًا مصلحة ذاتية وجسدية دنيوية وظرفية لا تمتد إلى عالم الآخرة والجزاء. صلة المقاصد بالمصلحة: يتبين مما ذكرنا أن المصالح الشرعية هي مقاصد الشارع ومراده، أي أن الشارع قد قصد تلك المصالح وأراد تحصيلها بالنسبة للمكلف من خلال القيام بالأحكام الشرعية؛ فالقيام بالفرائض والتعاليم الدينية يؤدي إلى تحقيق مصالح عبادة الله وجلب مرضاته والفوز بجناته وإراحة وطمأنة نفس المكلف. وهذه المصالح التي قصدها الشارع تعود على المكلف وتؤول إليه، وليس تؤول إلى الله؛ لأننا إذا قلنا بذلك وقعنا في وصف الخالق بالسعي إلى الأغراض التي هي من صفات النقص والسعي إلى الكمال؛ فهو سبحانه المتصف بجميع صفت الكمال. وعليه فإن المقاصد هي نفسها المصالح الشرعية. أما المصالح غير الشرعية فالمقاصد تَأبَاهَا وتعارضها والأدلة الشرعية تمنعها وتبعدها وتدفعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المطلب الرابع: صلة المقاصد بسد الذرائع تعريف الذرائع: هي جمع ذريعة، والذريعة هي الوسيلة إلى الشيء. معنى سد الذريعة: منع ما يجوز حتى لا يتوصل به إلى ما لا يجوز، وقد قال جمهور العلماء: إنها أصل شرعي يعمل به ويعول عليه في معرفة الأحكام واستنباطها. أمثلتها: 1- الخلوة بالأجنبية ذريعة إلى الزنا، لذلك حرمت. 2- بيع السلاح زمن الحرب وسيلة إلى زيادة الفتنة والقتل والتخريب، لذلك منع. 3- البيع وقت الجمعة وسيلة لترك الجمعة، لذلك نهي عنه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. 4- النظر بشهوة وسيلة إلى الزنا ودواعيه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم من سهام الشيطان". 5- كثرة السهر ذريعة للتأخر عن المحاضرات وتفويت التحصيل العلمي وحصول التوتر والاضطراب والقيادة الفوضوية وغير ذلك مما يسبب الكثير من المفاسد والاضطرابات النفسية والجسدية والاجتماعية. علاقة المقاصد بالذرائع: يمكن أن نبرز هذه العلاقة فيما يلي: أ- سد الذارئع في نفسه مقصد من مقاصد الشريعة أكدته وذكرته نصوص   1 سورة الجمعة: آية 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 شرعية كثيرة منها قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُون ... } 1 الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. فكلمة راعانا عند اليهود سبة وشتيمة؛ لذلك نهاهم الله سبحانه وتعالى عن قولهم هذا عند مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لمنع ذريعة النيل من الرسول صلى الله عليه وسلم. ب- سد الذرائع: هي سد الوسائل المفضية إلى تعطيل المقاصد وتضييعها. والوسائل نوعان: 1- الوسائل التي يجب سدها وهي ما عبرنا عنه بسد الذارئع. 2- الوسائل التي يجب فتحها وهي المعبر عنها بفتح الذرائع، أي فتح الطرق والسبل التي تؤدي إلى تحقيق المصالح والمنافع. أمثلتها: 1- إعلان الأذان طريق إلى الإعلام بدخول وقت الصلاة، والحث على القيام بها. 2- نشر العلم طريق إلى تعليم الناس أحكام دينهم، ومعرفة ما يسعدهم في الدنيا والآخرة. 3- تيسير الزواج وتقليل المهور طريق إلى التعفف والتحصين، والابتعاد عن الشذوذ والانحراف. 4- تخفيف السرعة ملازمة اليمين والبعد عن التهور والحذر سبيل السلامة والوقاية من الحوادث والمهالك؛ لذلك قال العلماء: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".   1 سورة الأنعام. آية 108. 2 سورة البقرة. آية 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 المبحث الثالث: موضوع مقاصد الشريعة موضوع أي علم يتناول مادته وماهيته وحقيقته ومحتواه، أي جملة الموضوعات والمسائل التي يتضمنها ويتعلق بها. فموضوع العقيدة هو التوحيد والتصديق بالمُسَلَّمات والغيبات الإيمانية التي وردت في الكتاب والسنة. وموضوع الفقه هو بيان أحكم الحلال والحرم، والواجب والمستحب والمكروه، وكذلك أدلتها التفصيلية من الآيات والأحاديث والسنن وتفاسير وأقوال العلماء والترجيح بينها. وموضوع علم الأصول هو القواعد الإجمالية والمبادئ الكلية والمصادر التشريعية العامة التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام واستخراجها؛ لذلك سمي علم أصول الفقه بعلم الاستنباط والاستخراج. وموضوع علم الهندسة والوراثية هو بيان ودراسة الخصائص الوارثية وتعديلها والتحكم فيها لأغراض صحية واقتصادية وبيئية. وبصرف النظر عن شرعيتها وعدمها ومعلوم أن من الهندسة الوراثية ما هو مباح وجائز، وما هو حرام ومحظور، بحسب قاعدة المصالح والمفاسد الشرعية. فموضوع مقاصد الشريعة: هو بيان وعرض حِكَم الأحكام، وأسرار التشريع، وغايات الدين، ومقاصد الشارع، ومقصود المكلف ونيته، وغير ذلك مما يندرج ضن ما أصبح يعرف حاليًا بمقاصد الشريعة التي أصبحت عِلمًا شرعيًا، وفنًا من فنون الشريعة الإسلامية، وضربًا من ضروبها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وشرطًا من شروط فهمها وتعقلها وتطبيقها والاجتهاد في ضوئها؛ بل إن المقاصد يتزايد الاهتمام بها يوميًا، بعد يوم بحثًا وتأليفًا؛ تحقيقًا وتعليقًا، تنظيرًا وتدوينًا؛ الأمر الذي أدى بكثير من الباحثين والدراسين إلى الدعوة إلى تأسيس نظرية متكامة في علم المقاصد يرتكز موضوعه على بحث المصالح الشرعية من حيث تعريفها وأمثلتها وحجيتها وحقيقتها، ومن العقل، وغير ذلك مما يتعلق به موضوع هذا الفن الجديد. مثال ذلك: البيع مشروع لمصلحة الانتفاع بالعوضين وهذه المصلحة ضرورية؛ لأن الحياة تقوم عليها؛ لذلك حُرم الاحتكار؛ لأن الاحتكار يعطل أقوات الناس وأطعمتهم، ثم إن هذه المصلحة عامة تتعلق بكل إنسان، أما الاحتكار فهو مصلحة حاصلة تنفع المحتكر فقط على حساب الناس؛ فيكون الاحتكار ممنوعًا لكونه مصلحة خاصة، ويكون البيع مباحًا وتوفير البضاعة واجبًا؛ لكونه مصلحة عامةن والقاعدة تقول "بأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة". ومصلحة البيع مصلحة حقيقية؛ لأن نفعه عائد على جميع الناس بتراض وعدل، بخلاف الربا الذي وإنْ كانت فيه مصلحة؛ فهي مصلحة فردية تعود على المُرَابي فقط على حساب أغلبية المستضعفين والمغلوبين، ثم إن مصلحة الربا في نظر الشارع مصلحة وهمية خيالية مغلوبة، ومرجوحة باطلة مردودة؛ وذلك لِمَا تؤول إليه من الغُبْن وبخس الناس أشياءهم، وأكل أموالهم، وتعميق الفوارق بينهم، وخدش الوحدة والمودة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والتضامن بينهم؛ لذلك وصف الله الربا وصفًا شنيعًا، وأعلن الحرب على أهله، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} 1، وقال تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه} 2 فنَظَر المجتهد في هذه المصالح وفي كونها حقيقية وخيالية أو عامة وخاصة، وفي علاقتها بأدتها الشرعية في إفضائها إلى مراد الشارع ومقصوده، كل ذلك يعد من صميم موضوع هذا العلم الشرعي المفيد.   1 سورة البقرة. آية 276. 2 سورة البقرة. آية 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المبحث الرابع: بيان صلة مقاصد الشريعة بالأدلة تعريف الأدلة الشرعية : هي مصادر التشريع الإسلامي وأصول وقواعد الأحكام الشرعية والفقهية. نوعا الأدلة: 1- الأدلة المتفق عليها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس. 2- الأدلة المختلف فيها: وهي المصلحة المرسلة والاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع وقول الصحابي وشرع من قبلنا والعرف ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 صلة المقاصد بالقرآن الكريم : القرآن الكريم أول مصدر من مصادر التشريع، وهو أصل الأصول، وقدس الأقداس، وأساس الأحكام والمقاصد والحكم والأسرار الشرعية، ويتمثل ذلك من خلال ما يلي: 1- ذكر القرآن لأنواع كثيرة من المقاصد منها: أ- العبودية: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. ب- التبشير والإنذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب: قال تعالى {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 2.   1 سورة الذاريات: آية 56. 2 سورة النساء، آية 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ج- التيسير والتخفيف عن الناس: قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 1. د- رفع الحرج وإزالة الضرر: قال تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2. هـ- الإصلاح والإرشاد، والنهي عن الفساد والغي والمنكر: قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} 3. و الوحدة والاتفاق والقوة: قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 4، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} 5. وهناك أنواع كثيرة من المقاصد الشرعية التي ذكرها القرآن الكريم في مواضع مختلفة بالتصريح والإيماء تارة، والإجمال والتفصيل تارة أخرى. 2- ذكر القرآن الكريم أمثلة جزئية للحِكم والعلل والفوائد المنوطة بأحكامها، ونورد بعضًا من ذلك فيما يلي: أ- قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 6. فقد شرعت الصلاة لذكر الله وتذكر أحوال الآخرة.   1 سورة النساء، آية 28. 2 سورة الحج، آية 78. 3 سورة هود: آية 88 4 سورة آل عمران، آية 103. 5 سورة الأنفال، آية 60. 6 سورة طه، آية 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ب- قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1، فقد شرعت الزكاة لطهارة المال وتزكية النفس. ج- قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} 2؛ فقد شرع الحج لمنافع دينية واجتماعية وتربوية كثيرة. د- قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3، فقد شرع الصوم، لوقاية النفس من الأنانية والإفراط في حب الدنيا. هـ- قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 4. فقد شرع القصاص لحفظ حياة النفوس وسلامتها. و قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 5. فقد شرع القتال لقمع الفتنة وتحقيق الأمن. ز- قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} 6. فقد منع الخمر والميسر لكونها يؤديان إلى العداوة والبغضاء والخصومات والتنازع.   1 سورة التوبة، آية 103. 2 سورة الحج، آية 28. 3 سورة البقرة، آية 183. 4- سورة البقرة، آية 179. 5 سورة البقرة، آية 193. 6 سورة المائدة، آية 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 صلة المقاصد بالسنة : السنة: هي المصدر التشريعي الثاني لبيان المقاصد والغايات الشرعية؛ وذلك من خلال تأكيدها وتقريرها للمقاصد التي ذكرها القرآن وأشار إليها، ومن خلال ما استقلت ببيانه وانفردت به عن القرآن اكريم إزاء ذكر بعض الحِكَم والأسرار لبعض الأحكام التي لم يرد ذكرها في القرآن الكريم أو التي ذكرت في القرآن دون بيان مقاصدها وأسرارها، ومن أمثلة ذلك: 1- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغَضُّ للبصر وأحصن للفرج" 1. 2- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" 2. 3- قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنكمْ إن فعلتم ذلك قطعتهم أرحامكم" 3. فالحث النبوي على الاستئذان قبل الدخول إلى البيوت معلَّل بفظ البصر؛ لئلا يقع على عوارت وكرامة وستر من بالداخل. والحث النبوي على منع الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها معلَّل بحفظ الأنساب وسلامتها ودوام صلتها واستمرارها. كما أن السنة نصت تنصيصًا مصرحًا به على تقرير بعض المقاصد الشرعية المعتبرة الأصلية والقطية، من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر وضرار" 4. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يُسر" 5.   1 أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب: قوله النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم ... " وسلم في كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... 2 أخرجه البخاري في كتاب الاسئذان، باب: الاستئذان من أجل البصر، وسلم في كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره. 3 أخرجه الطبراني في "الكبير" 11 / 11931، ابن حبان في "صحيحه" 9 / 4119. 4 أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضرّ بجاره، ومالك في "الموطأ" كتاب الأقضية، باب: القضاء في المرفق. 5 جزء من حديث أخرجه النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه، باب الدين يسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 صلة المقاصد بالإجماع : الإجماع: هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حُكم قضية من القضايا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وهو المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة، ويعد الإجماع مصدرًا لثبوت كثير من المقاصد الشرعية؛ وذلك من خلال: 1- الاتفاق على بعض العلل والحِكَم الجزئية على نحو: علة الصِّغَر الموجب للولاية في الأموال، والولاية في التزويج، أي أن الصغير يتولى وليه التصرف في أمواله وفي تزويجه، وحكمة ذلك جلب مصلحته ودرء مفسدة سوء تصرفه. ومثال ذلك: اتفاق المجتهدين على أن الغضب المؤدي إلى تشويش الذهن واضطراب النفس، وعدم التثبت في أدلة المختصمين؛ فإن ذلك الغضب يمنع قضاء القاضي؛ لأجل مصلة المتقاضين ونفي الظلم عنهم. 2- الاتفاق على المقاصد والحِكَم والغايات الشرعية الثابتة في القرآن والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 صلة المقاصد بالقياس : القياس: هو إلحاق نازلة حُكم عليها، بنازلة لها حُكمها؛ لاشتراكهما في علة الحُكم. ومثال ذلك: تحريم نبيذ الشعير قياسًا على الخمر؛ لاشتراكهما في علة الإسكار، ويكون البيان كالآتي: المثال الأول: الأصل: الخمر. الفرع: نبيذ الشعير. العلة: الإسكار. الحكم: التحريم. المقصد: حفظ العقل والمال. المثال الثاني: الأصل: لحم الخنزير. الفرع: شحم الخنزير. العلة: القذارة والنجاسة. الحكم: التحريم. المقصد: الامتثال إلى الله، وتجنب الخبائث، وصيانة النفس وحفظها من تناول النجاسة ولحوق الأضرار. المثال الثالث: الأصل: البكر الصغيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الفرع: الثيب الصغيرة. العلة: الصغر. الحكم: وجوب الولاية في التزويج. المقصد: حفظ كرامة المرأة وصيانة مصلحتها؛ كي لا تضع نفسها في سوء الاختيار. المثال الرابع: الأصل: القضاء في أثناء الغضب. الفرع: القضاء في أثناء الجوع الشديد. العلة: تشويش الذهن. الحكم: المنع. المقصد: حفظ حقوق المتخاصمين، وتحقيق العد بينهم بالانتباه والتثبت في أدلتهم واحتجاجاتهم. المثال الخامس: الأصل: الذهب والفضة. الفرع: الأوراق المالية والنقود المعدنية. العلة: الثَمَنِيَّةُ: أي أنهما تقوم بهما الممتلكات، وتضمن بهما المتلفات. الحكم: تحريم التفاضل بينهما عند التبادل، واشتراط التسليم الفوري لكليهما. المقصدك حفظ المال، ومنع أخذه بغير وجه حق، والمحافظة على القيمة الثَمِنَيَّةُ للذهب والفضة في حكمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 صلة المقاصد بالأدلة المختلف فيها : 1- علاقة الأدلة بالمصلحة المرسلة: المصلحة المرسلة: هي المصلحة المسكوت عنها التي لم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلغائها، وهي حجة عند جمهور العلماء والأصوليين إذا تلائمت مع الأدلة والمقاصد الشرعية. أمثلتها: 1- جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر رضي الله عنه؛ لمصلحة حفظه من الضياع والاندثار بعد تفرق القُرَّاء وموتهم؛ فهذه المصلحة ليس لها دليل شرعي ينص عليها باعتبارها وإقرارها، أو إلغائها وإبعادها، وكل ما في الأمر أن هناك أدلة وقواعد شرعية وإجمالية، تدعو إلى حفظ الدين وحفظ كتابه تعالى. 2- الاستعانة بالمضخمات الصوتية وبوسائل التكنولوجيا المعاصرة في الأذان والصلوات والجمعات وخطب العيدين وعرفات ومناسك الحج والعمرة والتراويح؛ فهذه الوسائل المعاصرة مفضية إلى تحقيق مصالح كثيرة منها إذاعة القرآن الكريم والآذان وإسماع جميع الناس وحسن إفادتهم بالعلم النافع وغير ذلك، ومع أن مكبرات ومضخمات الصوت لم ينص عليها القرآن ولا في السنة، ولم توجد في عهد السلف والا في عصر الخلف؛ وإنما وجدت ما يؤيدها في دين الله من حيث كونها خادمة لمشروعية ما بثته وأذاعته. 3- تسجيل العقود وتوثيقها في الدوائر الحكومية والقضائية والإدارية معلَّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بمصلحة حفظ الحقوق وضمانها؛ ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي تكاثرت فيه القضايا وتشعبت في المعاملات وكثرت فيه الحيل وقلَّت فيه الأمانات؛ الأمر الذي أوجب توثيق عقود الأنكحة وغيرها، وما يترتب عليها من نسب ونفقة وحضانة ومهور ومسؤوليات قانونية وأدبية وتربوية وغير ذلك. وهذا التصرف المتعلق بلزوم التوثيق والتسجيل لدى الدوائر الحكومية لم يُنْص عليه صراحة؛ وإنما دعت إليه الأدلة القواعد والمقاصد الشرعية وذلك من خلال الدعوة إلى أداء الحقوق وحفظ الأمانات ومنع التعدي على الغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 العلاقة بين المقاصد والمصالح المرسلة : يتبين مما ذكرنا أن المصالح المرسلة التي سكت عنها الشارع، والتي تتوافق مع الأدلة والقواعد والضوابط الشرعية؛ إنما هي صميم مقاصد الشريعة ومراد الشارع. فمصلحة حفظ القرآن بتدوينه، ومصلحة إذاعة الآذان والقرآن والصلوات والخطب والتراويح بالاستعانة بالوسائل العصرية، وحفظ الناس وصيانة أعراضهم وأموالهم وأنفسهم؛ فكل تلك المصالح هي مقصودة للشارع ومرادة له، على الرغم من أنها تثبت عن طريق استخدام المصلحة المرسلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 صلة المقاصد بالاستحسان : الاستحسان لغة: عَدُّ الشيء حسنًا، أو العم بالأحسن والأفضل. والاستحسان شرعًا: بحُكْم المسألة عن نظائرها لدليل خاص. وهو حجة عند جمهور العلماء إذا توافرت فيه شروطه وضوابطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أمثلته: 1- النظر إلى المخطوبة جائز وهو مستنثى من عموم تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية؛ فهناك دليلان شرعيان: أحدهما يمنع النظر إلى المرأة عمومًا ومطلقًا، وثانيهما يبيح النظر إلى المرأة عند الخِطبة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اذهب فانظر لا فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" 1، وقد علل الاستثناء بمصلحة دوام العِشْرة الزوجية لحصول الارتياح والاطمئنان لهذا التقارب في الملامح والصفات والقناعات والتصورات والمواقف من قضايا الحياة ورسالة الاستخلاف والامتثال والتدين. 2- أجرة الفنادق، وهي معاملة تقوم على أن يعطي النزيل مبلغًا ماليًا محددًا 100 ريال سعودي أو 20 دينار تونسي مقابل استهلاكه لطعامه وشرابه واستحمامه ومبيته وتشغيل الكهرباء، وهذا الاستهلاك غير معلوم أثناء الاتفاق؛ إذ النفوس تتفاوت في مقادير الأكل والشرب والاستحمام، وقد تقرر أن العلم بالثمن ومقدار ما يقابله من أكل وخدمات وأمتعة يعد من شروط التعامل يبين الناس؛ لأن العقد يقوم على العلم بالثمن والمثمن وعلى نفي الجهالة والغرر. لكن النظر الدقيق لمثال أجرة الفنادق يفيد بأن علة مجهولية ما يقابل الثمن منتفية غير موجودة؛ ولذلك فلا تلحق بالمعاملات المجهولة من حيث منعها وعدم جواز العمل بها. ودليل انتفائها كون الغالب في النزلاء نهم لا يتجاوزون حدًا أقصى في الاستهلاك، وأن هذا الحد وإن صل من قبل النزلاء؛ فإنه لا يفضي إلى الضرر بصاحب الفندق، ولا يوقعه في غرر ولا جهالة ولا منازعة ولا اختلاف.   1 أخرجه الترمذي رقم / 1087 في كتاب النكاح، باب: ما جاء في النظر إلى المخطوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 صلة المقاصد بقول الصحابي : الصحابة رضي الله عنهم هم من صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعاصروه ولازموه وأخذوا منه سننه وتعاليمه وأسرار وأحكام الوحي الذي أنزل الله عليه. وقد شهد لهم الوحي الكريم بصدقهم وصلاحهم، وأفضليتهم في تبليغ الشرع وبيان أحوال التشريع ومقاصده وحكمه، إذ أنهم أعرف الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأسباب النزول ومناسباته، وبأحكام الحلال والحرام، وبغايات الدين، ومقاصد الشريعة، ومصالح العباد. الصلة بين المقاصد وقول الصحابي: الصلة بين المقاصد وقول الصحابي تكمن في أن أقوال الصحابة وفتاواهم وأقضيتهم قد تضمنت اعتبار المقاصد ومراعاتها؛ سواء بما صرحوا به من وجوب الالتفات إلى هذه المقاصد والعمل بها، أو باتفاقهم على المقاصد المختلفة التي نطق بها القرآن الكريم، أو التي بينتها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا وتقريرًا. خلاصة صلة المقاصد بالأدلة: يتبين مما ذكرنا آنفًا أن مقاصد الشريعة ليست دليلًا مستقلًا عن الأدلة الشرعية؛ بل هي تابعة لتلك الأدلة ومتفرعة عنها ومتولدة منها؛ فالعلاقة بينهما علاقة تبعية وتضمين وليست علاقة استقلال وتفرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الأدلة على تبعية المقاصد للأدلة الشرعية وعدم استقلالها عنها ... الأدلة على تبيعية المقاصد للأدلة الشرعية وعدم استقلالها عنها: 1- وجه تسمية المقاصد بمقاصد الشريعة دليل على أنها مأخوذة من أدلة الشريعة ومصادرها ونصوصها. 2- مقاصد الشريعة هي مراد الشارع ومقصوده، وهذا المراد يُعلم من كلام الشارع وأحكامهه ولا يُعلم من غيره؛ فقولنا: مراد زيد كذا، يُعَرف من خلال كلامه وألفاظه، وعليه فإن المقاصد تُعْلَم من كلام الله تعالى، وتثبت بوحيه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. 3- الإجماع والاتفاق الصادر من السلف والخلف في جميع العصو دل على شرعية المقاصد؛ وذلك من خلال ما أثبتوه واتفقوا عله إزاء كثير من المقاصد المقررة والمعتبرة، والتي استخلصوها من أدلة الشرع وأحكامه. 4- استقراء وتتبع التاريخ دل على كون المقاصد مبنية على الشرع وليست مستقلة عنه؛ وذلك من خلال ثبوت المقاصد ودوامها وبقائها على مر العصور؛ إذ لو كانت مخالفة للفطرة الإنسانية لا بقيت ودامت، وبقاؤها ودوامها دليلٌ على أنها موضوعة من قبل الحكيم الخبير الذي يعلم ما يصلح للناس وينفعهم؛ إذ لو كانت موضوعة من قبل الإنسان، أو بضغط الواقع، أو بإملاء العقول والأهواء، لَمَا استمرت على ثباتها ودوامها والاضطربت واختلفت لاختلاف العقول والشهوات ولاضطراب الميول والنزوات؛ إذ العقول والأهواء تختلف في نظرتها إلى المصالح والمنافع باختلاف الظروف والبيئات؛ بل إن العقل الواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تختلف نظرته إلى المصلحة باختلاف اللحظة والأخرى؛ فما يراه العقل مصلحة حاليًا يراه مفسدة بعد حين. تبعية المقاصد للأدلة لا تنفي مصالح الإنسان: القول بأن المقاصد تابعة للأدلة لا تعني البتة إلغاء المصالح الإنسانية أو استعباد منافع البشر وخيرهم ولذتهم ومتعتهم؛ وإنما تعني تحقيق المصالح الحقيقية التي انطوى عليها التشريع؛ فإن المصالح لو تركت للأهواء والنزوات لاضطراب نظام الحياة، ولوصل الناس إلى فتن لا تحصى ومصائب لا تعد؛ وذلك لاختلافهم في الميولات والرغاب وتضارب آرائهم واتجاهاتهم في المنافع والمصالح؛ لذلك حدد الشارع مصالح الخلق وفق نظام مُحَكم وميزان مضبوط يراعي تقديم المصالح الحقيقية على المصالح الخيالية، وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، وتقديم المصالح الكلية والقطعية على المصالح الجزئية والظنية أو الاحتمالية، وتقديم مصالح الجسد والروح والدنيا والآخرة على مصالح الجسد فقط، أو مصالح الدنا فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المبحث الخامس: تعليل الأحكام الشرعية المطلب الأول: معنى التعليل وأدلته : الشريعة الإسلامية معللة بحكم مقصودة ومصالح محمودة؛ فقد جاءت لتحقيق عبادة الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإصلاحهم وإسعادهم في الدنيا والآخرة، وهذا القول هو قول جمهور العلماء والفقهاء والأصولييين والمحدثين والمفسرين والمتكلمين والفلاسفة وغيرهم. وهذه الحكم يحبها الله ويرضها، وهي مصالح تعود إلى العباد، ويتنعمون ويتلذذون بها. أدلة القول بتعليل الأحكام: 1- الأدلة من القرآن الكريم: القرآن الكريم كما ذكرنا هو المصدر التشريعي الأول للأحكام ومقاصدها، وقد دل على كثير من العلل والحِكم التي أنيطت بأحكامها. وبيان ذلك فيما يلي:- أ- التنصيص على حكمة إنزال القرآن وبعثة الرسل، وبيان الأحكام والشرائع، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 1. وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 2.   1 سورة الإسراء، آية 59. 2 سورة النساء، آية 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ب- قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1 وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} 3. ج- قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 4؛ فقد علل الصوم لتحصيل التقوى والوقاية من الآثام والعيوب الصحية والنفسية. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} 5؛ فقد علل وجوب الاعتزال لكونه أذى وإذاية. 2- الأدلة على السنة النبوية: السنة هي المصدر التشريعي الثاني للأحكام ومقاصدها وحكمها، قد دلت على كثير من المقاصد والحِكم والإسرار المختلفة، وبيان ذلك فيما يلي: 1- التنصيص على كثير من المقاصد الجزئية والحكم الخاصة، ومثل: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" 6. قد شُرِع الاستئذان، وعلل بصيانة عورات الناس وأعراضهم، وقول   1 سورة الحج، آية 87. 2 سورة البقرة، آية 185. 3 سورة النحل، آية 90. 4 سورة البقرة، آية 183. 5 سورة البقرة، آية 222. 6 سبق ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الرسول صلى الله عليه وسلم عن الهرة: "أنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 1. 2- إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في إجرائهم القياس، وعملهم بمقصود النصوص ومراداتها، ومثال ذلك: حديث بني قريظة "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" 2؛ فمنهم من فهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله ذلك، قد حث الصحابة على الإسراع لإدراك بني قريظة، وليس المراد بالضرورة ألا يُصلي العصر إلى عند الوصول، أما البعض الآخر فقد فهم من الحديث لزوم الصلاة بعد الوصول، وقد أقرَّ النبي كلًا من الفريقين. 3- الدليل من الإجماع: دل الإجماع واتفاق العلماء والمجتهدين على كون الشريعة مشروعة لمصالح العباد، بلطف من الله وتَفَضُّل وإحسان، كما يقول أهل السنة والسلف، وليس بطريق الوجوب كما يقوله المعتزلة. 4- الدليل من الاستقراء: الاستقراء معناه تتبع الجزئيات المتشابهة في أمر من الأمور، للوصول إلى تقرير أمرٍ كلي وأصلٍ يجمع كل تلك الجزئيات. فمن نظر في الأحكام الجزئية المتعلقة برخص الصلاة والصوم والسفر   1 أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، وأخرجه الترمذي في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة. 2 أخرجه البخاري في كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 والمرض والمطر ويمكنه تقرير أمر جامع لتلك الأحكام وغيرها، وهذا الأمر هو التخفيف عن المكلّف ورفع الحرج عنه، ومن تتبع أحكام البيع "كمَنْع بيع السمك في الماء" والطير في الهواء، والعبد الآبق، والجمل الشارد، وما في بطون الأمهات، وما في أعماق البحار وبطون الأرض من كنوز ومعادن؛ فإن الناظر في تلك الأحكام، يتوصل إلى تقرير أمر كلي يتعلق بمنع بيع المعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وعلة ذلك وحكمته إبطال الغرر والضرر والجهالة المفضية إلى أموال الناس بالباطل، والمؤدية إلى حصول التنازع والخصومة. 5- الدليل من العقل والواقع: شواهد العقل والحَسْن والواقع تدل على أن الأحكام مشروعة لمصالح الناس؛ إذ بقاء الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، مطبقة في كافة الأمصار؛ دليل على انطوائها على مقاصدها وعلى مصالح الناس؛ إذ لو لم تكن كذلك لتركها الناس وجفوها؛ بل يلاحظ على سبيل القطع أنها مستجيبة لفطرهم السليمة وعقولهم السَّويَّة، وحاجياتهم المعقولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المطلب الثاني: نباء مقاصد الشريعة على القول بتعليل الأحكام ... المطلب الثاني: بناء مقاصد الشريعة على القول بتعليل الأحكام أسهم القول بتعليل الأحكام في قيام علم مقاصد الشريعة، وتدوينه وتأليف متعالقاته ومسائله المختلفة؛ وذلك على نحو تعريفه، وأقسامه وطرق إثباته وأهميته وحجيته وضوابطه وغير ذلك. وقد كان التعليل يشمل بيان العلّة، ومسالك إثباتها، والقياس عليها. وغير ذلك، مما أسهم كما ذكرنا في قيام المقاصد وصياغتها، واعتبارها علمًا قائم الذات، وفنا شرعيًا ينبغي استحضاره في عملية الاجتهاد والاستنباط، ومثال ذلك: حفظ المال وصيانته الذي ثبت باستقراء الأدلة والأحكام الشرعية المتعلقة بالدعوة إلى العمل وإباحة البيع والشراء والإجارة ومن الغش والغرر وبتشريع الحد والضمان وغير ذلك. الخلاصة: إن تعليل الأحكام الشرعية، ودارسة أسرار ومعاني وعلل الأحكام والأدلة والقرائن والمعطيات الشرعية، والنظر في غايات التشريع وأهدافه ومراميه، كل ذلك قد شكل الأساس الضروري لنشوء علم المقاصد وتطوره وصياغته واكتماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المطلب الثالث: الاجتهاد في ضوء المقاصد الشرعية المقاصد كما ذكرنا غير مستقلة عن الأدلة. والاجتهاد في ضوئها مشروط بعدم مخالفة الأدلة ومعارضتها، ومن أمثلة الاجتهاد في ضوئها نذكر ما يلي: 1- الاستنساخ البشري محرم ومحظور؛ لأنه معارض لمقصد النفس وحرمة الإنسان وكرامته، ومخالف لطريفة التناسل المعهود منذ بداية خلقه. 2- قتل المريض الميؤوس من شفائه محرمن لأنه معارض لحفظ النفس، ومُوقْع في القتل بدون سبب أو جناية. 3- القتل بالمثقَّل يوجب القصاص كـ "القتل المُحَدَّد"، مراعاة لمقصد حفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 النفس، وزجرًا للمعتدين؛ إذ لو لم يقتل القتل بالمثل لتذرع الناس بالقتل بالمثقل فرارًا من العقوبة. 4- تقتل الجماعة بالواحد؛ إذ لو تُركوا لما اعتبروا ولانصرفوا إلى القتل الجماعي دون الفردي فرارًا من القصاص. 5- المخدرات والمُفَتِّرات محرمة؛ لأنها مثل المسكرت في ذهاب العقل وضياع المال وفساد الأخلاق. 6- الغضب يمنع القاضي من القضاء والحكم على المتخاصمين؛ لقول صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" 1. ويلحق به الجوع الشديد، ومدافعة الأخبثين؛ مراعاة لمصلحة حفظ حقوق المتقاضين، ونفي الظلم عنهم، والتأكد من أدلتهم وأجوابتهم. 7- البيع على اليبع محرم، وكذلك الخطبة على الخطبة، ويلحق بهما الإيجار على الإيجار، والحكمة هي من التنافر والاختصام والتباغض والتقاطع بين الناس. 8- العمارت المؤجرة للسكن تقاس بالأراضي الزراعية في وجوب الزكاة، والمصلحة هي تحقيق العدل بين أصحاب الثروات المختلفة؛ إذ لا يليق أن يؤُمر بالزكاة صاحب الأرض الزراعية، ويترك صاحب العمارات الشاهقة التي تُدخل لصاحبها أضعاف ما تُدخله الأرض الزراعية. والأمثلة على ذلك كثيرة، ونُذكّر بأن الاجتهاد في ضوء المقاصد الشرعية ينبغي أن لا يصادم الأدلة والقواعد والضوابط الشرعية المعتبرة، بناء عى ما ذكرنا من أن المقاصد تابعة للشرع وليست مستقلة عنه.   1 سبق ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 المبحث السادس: فوائد مقاصد الشريعة لدراسة المقاصد وبحثها فوائد وأغراض كثيرة نذكر منها: 1- إبراز علل التشريع وحكمه وأغراضه ومراميه الجزئية والكلية، العامة والخاصة، وفي شتى مجالات الحياة، وفي مختلف أبواب الشريعة. 2 تمكين الفقيه من الاستنباط في ضوء المقصد الذي سيعينه على فهم الحكم وتحديده وتطبيقه1. 3- إثراء المباحث الأصولية ذات الصلة بالمقاصد، على نحو المصالح والقياس والعر والقواعد، والذرائع وغيرها2. 4- التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي، والتعصب المذهبي، وذلك باعتماد علم المقاصد في عملية بناء الحكم، وتنسيق الآراء المختلفة، ودرء التعارض بينها. 5- التوفيق بين خاصتي الأخذ بظاهر النص، والالتفات إلى روحه ومدلوله، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض3. 6- عون المكلف على القيام بالتكليف والامتثال على أحسن الوجوه وأتمهما؛ ذلك أن المكلف إذا علم مثلًا أن المقصد من الحج والتأدب الكامل مع   1 المقاصد: ابن عاشور: ص8. 2 بحث يتعلق .... د. قريسة ص3. 3 الموافقات: 2 / 392. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الناس، والتحلي بأخلاق الإسلام العليا؛ فإنه إذا علم ذلك فسيعمل جاهدًا ومجتهدًا قصد تحصيل تلك المرتبة العليا، التي تجعل صاحبها عائدًا بعد حجه كيوم ولدته أمه. 7- عون الخطيب، والداعية، والمدرس، والقاضي، والمفتي، والمرشدون، والحاكم، وغيرهم على أداء وظائفهم وأعمالهم على وفق مراد الشارع ومقصود الأمر والنهي، وليس على وفق حرفيات النصوص، وظواهر الخطاب، ومباني الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 المبحث السابع: تاريخ البحث في المقاصد الشرعية المطلب الأول: نشأة المقاصد الشرعية نشأت المقاصد الشرعية مع نشأة الأحكام الشرعية نفسها، أي أن المقاصد كانت بدايتها مع بداية نزول الوحي الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانت مبثوثة في نصوص الكتاب والسنة، ومتضمنة في أحكامها وتعاليمها بتفاوت من حيث التصريح بها، أو الإيماء والإشارة إليها؛ غير أن تلك المقاصد لم تكن لتحظى بالإبراز والإظهار على مستوى التأليف والتدوين، وعلى مستوى جعلها علمًا لقبيًّا واصطلاحًا له دلالاته وحقائقه ومناهجه؛ بل كانت معلومات ومقررات شرعية مركوزة في الأذهان، ويستحضرها السلف في إفهامهم واجتهادهم وأقضيتهم. ومن أجلى وأوضح الأدلة على أن المقاصد الشرعية بدأت مع نزل الوحي الكريم. 1- البعثة النبوية نفسها التي عُللت بكونها رحمة وخيرًا وصلاحًا للناس أجمعين، فقد قال الله تعالى في شأن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 1. 2- القرآن الكريم ذاته، والذي كان مقصده الشرعي الأكبر يتمثل في هداية الناس أجمعين لأقوم المناهج، وأفضل أحوال المعاش والمعادن وأحسن   1 سورة الأنبياء، آية 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الخواتم والموازين قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 1. 3- الوحي كله "الكتاب والسنة" "المتلو والمروي"، والذي كان مقصده الأعلى إحياء النفوس في الحياة الحقيقية في الدَّارين أي إحياؤها في الدنيا بأداء واجب الامتثال والتعبد والتدين، وإحياؤها في الآخرة بتحصيل مرضاة الله والفوز بجناته وخيراته قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 2.   1 سورة الإسراء، آية 9. 2 سورة الأنفال، آية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المطلب الثاني: تطور المقاصد الشرعية شهدت المقاصد الشرعية بعد عصر النبوة وعصر السلف الصالح وعلى مر تاريخ الفقه الإسلامي تطورًا متزايدًا واهتمامًا ملحوظًا، ويمكن إيراد ذلك فيما يلي: المقاصد في عهد الصحابة والتابعين: المقاصد في عهدهم تمثلت في دعوتهم إلى إعمال القياس والرأي والتعليل والتفاهم إلى الأعراف والمصالح وتقرير كثير من الأحكام بموجبها ومقتضاها. قال الإمام أحمد: "الصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ويحتجون بالقياس"3 ويذكر الإمام أحمد أن ذلك العمل بالرأي القياس   1 فتاوى ابن تيمية، 19/ 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 يعد من قبيل العمل بالمقاصد فيقول: "وهما من باب فهم مراد الشارع"1. وشواهد ذلك كثيرة جدًّا: ومن قبيلها نجد: جمع القرآن، وتقسم الغنائم، وصلاة التراويح، والطلاق الثلاث، وتضمين الصناع، والاجتماع لصلاة التراويح، وعدم إقامة حد السرقة عام المجاعة، وقتل الجماعة بالواحد، وتدوين الدواوين، ووضع السجلات، وغير ذلك2. المقاصد في عهد كبار الأئمة: يروى أن إبراهيم النخعي كان من أصحاب الرأي، وكان يُكثر من استعمال القياس والتعليل، وكان يقول: "إن أحكام الله تعالى لها غايات هي حكم ومصالح راجعة إلينا"3، كما عُرف الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة بالنظر المقاصدي والاجتهاد المصلحي الأصيل، مع التفاوت الملحوظ من حيث درجة الاعتداد بالمقاصد والتعويل عليها4، ويتجلى ذلك في أصولهم الاجتهادية ذات الصلة بالمقاصد، على نحو: الاستطلاح والاستحسان والقياس ومسائل التعليل والمناسبة والعرف وسد الذرائع وغير ذلك.   1 فتاوى ابن تيمية، 19/ 286. 2 هذ الأمثلة واردة ضمن مباحث: "تاريخ التشريع: اجتهاد الصحابة، أصول الفقه: المصلحة المرسلة، العرف، وغير ذلك من المباحث والموضوعات. انظر إذا شئت: إعلام الموقعين: 1/203 وما بعدها. وروضة الناظر: ص148 وحجة الله البالغة: الدهلوي 1/ 46- 2/ 396 وغير ذلك من الكتب القديمة والمعاصرة. 3 ابن رشد وعلوم الشريعة: د. العبيدي ص102. 4 التنظير الفقهي ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المقاصد عند بعض الأعلام: اهتم بعض الأعلام في آثارهم بالمقاصد ومن هؤلاء نذكر: - الأبهري "توفي 275هـ"، والباقلاني "توفي 443هـ"، والترمذي "توفي 279هـ" الذين دارت بعض آثارهم حول التعليل والأسرار والحكم الفقهية ومحاسن الشريعة وخصائها1. - الجويني "توفي 478هـ" الذي استعمل كثيرًا لفظ المقاصد، والغرض، والقصد، والكليات الخمس2. - الغزالي "توفي 505هـ" والذي تناول الكليات الضرورية والاستصلاح3. - الآمدي "توفي 631هـ" والذي أدخل في المقاصد باب الترجيحات، ولا سيما بين الأقيسة المتعارضة، وبين مراتب المقاصد نفسها4. - البضاوي "توفي 685هـ" والإسنوي "توفي 772هـ" الّذَيْنِ كتبا في الضروريات الخمس5. - القرافي الذي أطنب في ذكر القواعد الفقهية، وأنواع التصرفات النبوية، ودلالاتها على الأحكام والمقاصد6. وعلى العموم فقد التفت كثير من المجتهدين خلال عصور مختلفة إلى   1 نظرية المقاصد عند الشاطبي: د. الريسوني ص24 وما بعد. 2 نظرية المقاصد عند الشاطبي: د. الريسوني ص35-36. 3 المستصفى: 1 / 139. 4 الإحكام في أصول الأحكام: الآمدي 4 / 376 وما بعد. 5 نظرية المقاصد عند الشاطبي: د. الرسيوني ص44 وما بعد. 6 مقاصد الشريعة: ابن عاشور ص8، الفكر الأصولي ص352- 353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أمر المقاصد وسائر معلوماتها في أثناء العملية الاجتهادية انطلاقًا من طبيعة النصوص وأحوال الحياة الداعية إلى وجوب الاعتداد بالمصالح جلبًا والمفاسد دَفعًا، وإلى ضرورة الالتفات إلى معاني النصوص ومراميها وغاياتها1. بعض العلماء الذين اشتهروا بدراسة مقاصد التشريع: هذا المطلب أوردناه على سبيل الذَّكر وليس الحصر، وإلا فالعلماء قد تكلموا قديمًا وحديثًا عن المقاصد، وبينوها بتفاوت ملحوظ من حيث العمق والتصريح والإسهاب والتفصيل. أفردنا بعض الأعلام بالذكر لدورهم في إحداث الإضافة النوعية في مجال المقاصد ولكونهم قد اشتهروا بين أهل العلم بهذا الأمر. ومن هؤلاء: 1- العز بن عبد السلام من خلال كتابه: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"2. 2 - الشاطبي من خلال "الموافقات" الذي عُدَّ به مبتدع علم المقاصد، ومؤسس عمارته الكبرى، ومرجع كل مشتغل بهذا الفن3.   1 تاريخ الفقه الإسلامي: د. عمر سليمان الأشقر ص39-40. 2 التنظير الفقهي: ص63 وما بعد، والفكر الأصولي ص350 وما بعد، ونظرية المقاصد عند الشاطبي: د/ الريسوني: ص50-52. 3 الشاطبي ومقاصد الشريعة: د/ العبيدي ص131 وما بعد، ومقاصد الشريعة: ابن عاشور: ص8. ومسالك الكشف عن المقاصد بين الشاطبي وابن عاشور: د / عبد المجيد النجار ص5. وبحث يتعلق بمقاصد الشريعة لابن عاشور: د / هشام قريسة ص1 ألفاه في ملتقى ابن عاشور بجامعة الزيتونة أيام: 14-15-16 ديسمبر 1985م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ابن عاشور من خلال كتابه "مقاصد الشريعة"1، الذي ضمنَّه الدعوة الجادة إلى تدوين علم المقاصد الضروري في العملية الاجتهادية بأسرها، تأسيسًا وتأويلًا، وحسمًا للخلاف، وترجيحًا عند التعارض، وتنظيرًا لقيام النهضة التشريعية العامة2. وقد أخذت المقاصد خلال العصور الفقهية المختلفة في التشكل والظهور على مستوى التدوين والتأليف -ومرحلة الإفراد في التأليف. مرحلة الإدماج في التأليف: معناه: جعل المقاصد مدوَّنة ومؤلفَّة في مباحث وفنون شرعية أخرى كمبحث أصول الفقه والفقه، والتفسير، وغير ذلك. وقد تجلت هذه المرحلة خلال القرون "الثالث والرابع والخامس والسادس"، مع الجويني والغزالي والرازي، والآمدي وابن الحاجب وابن العربي والمازري وابن رشد الجدّ والحفيد وغيرهم؛ فقد كان العلماء يذكرون بعض المباحث والمتعلقات المقاصدية في كتبهم الأصولية والفقهية والتفسيرية وغيرها. ومن قبيل ذلك: - استعمالهم لعبارات وكلمات وألفاظ تطلق على المقاصد، وعلى بعض متعلقاتها ومسائلها، على نحو: الحكمة، والعلة، والمَصْلَحَة، والمفسدة، ومقصود الشارع ومراده، وغايته، وأسرار الشرع، ومعانيه.   1 كما ألّّّف التفسير الشهير "التحرير والتنوير" والذي اهتم فيه كذلك بأغراض التفسير، ومقاصد القرآن الكريم، راجع التحرير والتنوير: 1/ 41. 2 مسالك الكشف: د/ النجار ص6. وبحث يتعلق .... : د/ قريسة ص1-2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ونفي الضرر، ودفع الأذى، وإزالة المشقة، ومنع التعنت والتشدد، والمبالغة، والتعمق، والحث على التيسير والتخفيف ورفع الحرج، وتأكيد الخاصيات الإسلامية الكبرى على نحو: العالمية، والوسطية، والسماحة، والاتزان، والاعتدال، الشمول، والعموم، والواقعية. - بيانهم للمقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية، وتفصيلهم للكليات الضرورية الخمس "حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال". - بيانهم لمبحث تعليل الأحكام والأفعال؛ سواء في مبحث المقدمات الأصولية والتحسين والتقبيح، أو في مبحث الحكم والوضعي فيما يتلعق بحقيقة السبب باعتباره قسمًا لأقسام الحكم الوضعي، وما يتصل به من بيان علاقاته بالعلة والحكمة، وهل الأحكام تُعلَّل بأسبابها وبعللها الظاهرة والمنضبطة؟ أم بحكمها المرتبة عليه من جلب المنافع والمصالح ودفع الأضرار والمفاسد؟ أو في مبحث القياس ومسائل إثبات العلل المتصلة بالنص والإجماع والاستنباط، ولا سيما المتصلة بمبحث المناسبة1 التي تفرعت عنه مباحث المقاصد ومعلوماتها ومشتملاتها. إذ المناسبة كما يعرفها العلماء الأصوليون ليست سواء إثبات كون الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني؛ لما يترتب على ذلك الحكم من مقصود شرعي بجلب منفعة أو درء مفسدة.   1 المناسبة: هي إثبات كون الوصف الفلاني علةً للحكم الفلاني عن طريق الاجتهاد والاستنباط. ومثالها: إثبات كون الإسكار علةً للتحريم، ووصفا يناسبهُ لما في تركه من جلب مصلحة حفظ العقل من الذهاب والغياب، ومن جلب مصلحة حفظ المال من الضياع والتبديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ثم إن الأوصاف الثابتة منها ما هو مقبول ومعتبر، ومنها ما هو مردود وملغي، ومنها ما هو مرسل ومسكوت عنه ينبغي أن يُنظر في حُكمه وحجته لكي يحكم عليه بالقبول أو بالرد والإلغاء. فما كان مقبولا سُمِّي وصفًا معتبرًا يجب أن يترتب عليه حكمه الشرعي، وينبغي أن تعتبر مقاصد المبنية عليه. وما كان ملغيًا ومردودًا وجب تركه واجتنابه، وترك مقاصده، ومصالحه التي تسمى بالمقاصد الملغاة والمردودة، أو المصالح الملغاة والوهمية والمرجوة والمغلوبة. وما كان مرسلًا أو مسكوتا عنه1 يُنظر فيه ليلحق بالمقبول والمعتبر إذا كان ملائمًا للشرع وموافقًا له، أو يلحق بالمردود والملغي؛ إذ كان معارضًا للشرع ومناقضًا له. الخلاصة: الخلاصة من كل ما ذكرنه أن مباحث المقاصد كانت مبثوثة في كتب الأصول والفروع وغيرها، ولم تكن لتفرد بالتأليف في مؤلفات خاصة بها، على غرار ما جاء في كتب المتأخرين، ولا سيما مع الإمام الشاطبي الذي أفرد المقاصد بتأليف كبير خاص ومستقل ومفصل، ولم يُسبق فيه من قبل غيره من كبار العلماء والأصوليين.   1 والمصلحة المترتبة عليه تعرف بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح أو الاسترسال أو الاستصلاح المرسل أو الاستدلال، انظر: مبحث المناسبة في مسائل التعليل، ومبحث ومصاد التشريع المختلف في الاحتجاج بها في كتب أصول الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 مرحلة إفراد المقاصد بالتأليف: تجلت هذه المرحلة خصوصًا مع الإمام الشاطبي الذي ألَّف كتابه الشهير "الموافقات في أصول الشريعة" والذي خصه لبحث تفاصيل وخبايا المقاصد وخفاياها ومتعلقاتها بأسلوب دقيق وعلم غزير، وإحاطة شاملة وتدليل مسهب، وتعليل مطنب، وتمثيل مكثر، وعمق -قل نظيره- في أحوال النفس الباطنة، وأسرار التشريع الخفية والظاهرة، ومراد الشارع الحكيم ومقصوده، وغير ذلك مما يدل على جدارة الكتاب بالعناية والاهتمام، واستفادة وإفادة. كما تجلت هذه المرحلة مع العز بن عبد السلام الشافعي في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام. وتجلت كذلك في الدراسات والبحوث المعاصرة؛ حيث تعاقب الباحثون والعلماء المحدثون على تدوين علم مقاصد التشريع وتأليفه في بحوث خاصة وعامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 المطلب الثالث: مظان مقاصد الشريعة ... المطلب الثالث: مظان مقاصد التشريعة المباحث التي يمكن أن تشكل مادة للمقاصد ومحتوى لعناصره ومكوناتها، يجوز إيرادها فيما يلي: 1- مباحث القياس1.   1 ضمن مسالك التعليل، أو مسلك وطرق إثبات العلة بالنص والإجماع والاجتهاد، وقد ذكر الأصوليون أن من قبيل إثبات العلة بالاجتهاد أو الاستنباط والدوران والسبر والتقسيم وتخريج المناط وتحقيقه وتنقيحه والمناسبة والملائمة. ومعنى الملاءمة والمناسبة: جعل الوصف الفلاني علة للحكم، ومثالها: جعل الصغر وصفًا يناسب وجوب الولاية على مال الصغير، وعلى تزويجه؛ حتى لا يضع نفسه في ضرر إضاعة المال وتبديده، وضرر سوء اختيار الزواج المفيد والناجح. والحق أن مسالك المناسبة في القياس يعد النواة الأولى لقيام موضوع المقاصد الشرعية وتطوره ونموه بهذا الشكل، ولزيادة التوضيح انظر كتب الأصول القديمة والحديثة: مبحث مسلك العلة، أو طرق إثبات العلة. وللتذكير فإن مسالك إثبات العلة ثلاثة: أ- مسلك النص على العلة ومثال: قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ؛ فالأذى وصف أو علة ثبتت بالنص القرآن عليها. ب- مسلك الإجماع على العلة، ومثاله: اتفاق المجتهدين على كون الصغر علة لوجوب الولاية المالية. ج- مسلك الاجتهاد والاستنباط في إثبات العلة. وهذا المسلك يشمل الضروب والصور التالية: 1- المناسبة: المناسبة هي جعل الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني، ومثاله: جعل القتل بالمثقل وصفًا مناسبًا للقصاص لتحقيق وصف مقصد شرعي، وهو حفظ النفس؛ فلو اكتفى العلماء بالاقتصاص من القاتل بالمحدد فقط، لعمد القتلة إلى القتل بالمثقل أو الإحراق فرارًا من القصاص، ومثاله كذلك: الإسكار، فإنه وصف مناسب لتحريم الخمر لمقصد حفظ العقل والمال. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 2- مباحث الاستحسان. 3- مباحث المصلحة المرسلة. 4- مباحث العرف. 5- مباحث الذرائع سدًّا وفتحًا. 6- مباحث الأحكام الشرعية "العلل، والحسن والقبح شروط التكليف". 7- مباحث القواعد الشرعية1. 8- مباحث السياسية الشرعية.   = 2- السبر والتقسيم: معناه: جمع وحصر جميع الأوصاف التي يظن صلاحيتها في التعليل، ثم اختبارها وسبرها لحذف الأوصاف التي لا تصلح للتعليل، والإبقاء على ما يصلح للتعليل. مثاله: في الخمر الأوصاف التالية: الاحمرار، السائلية، وقذف للزبد، والإسكار؛ فيحذف المجتهد سائر الأوصاف؛ لأنها لا تصلح أن تكون علة، ويبقى على وصف الإسكار الذي يكون علة لحكم التحريم، ويقاس عليه المخدرات، والأنبذة بنفس العلة، والمقصود من ذلك كله حفظ العقل والمال. 3- تخريج المناط: معناه: استخراج العلة المنوطة بحكمها: أي المرتبطة به كـ "الإسكار في الخمر". 4- تنقيح المناط: معناه حذف ما لا يصلح للعلة، ومثاله: القصاص المنوط بالقتل وليس المرتبط بطول القتل أو قصره، أو بياضه، أو سواده مما لا يصلح أن يكون وصفًا مناسبًا للحكم، ومثال: العقوبة لقطع إشارة المرور وليس بسبب قدم السيارة أو لونها، أو كونها من تايوان أو ألمانيا، أو غير ذلك. 5- تحقيق المناط: معناه التأكد من حصول العلة في محل آخر، ليأخذ نفس الحكم، للتأكد من علة الإسكار في الأنبذة وسائر المسْكِرات. 1 التنظير الفقهي: ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 9- مباحث نصوص الأحكام. "آيات وأحاديث الأحكام". 10- مباحث التعارض والترجيح -بالمقصد. 11- مباحث الخلاف الفقهي. 12- مباحث مفاهيم الموافقة والمخالفة. 13- مباحث الدراسات الإسلامية المعاصرة، والتي تتعلق أساسًا بإبراز الأهداف والخصائص والقيم الإسلامية العامة. 14- مباحث الدراسات الشرعية والقانونية والفكرية ذات الصلة بالمقاصد والمصالح الشرعية. والخلاصة: إن مظان المقاصد: هي جملة المباحث العلمية الأصولية والدراسات الشرعية الإسلامية، التي تتضمن معلومات وبيانات لها اتصال مباشر أو غير مباشر بموضوع المقاصد الشرعية، ومن تلك المباحث والدراسات الشرعية الإسلامية إجمالًا -وكما ذكرنا ذلك قل قليل: مباحث التفسير، والفقه، والحديث وعُلومه، والسياسة الشرعية، ومباحث القياس والمصلحة المرسلة والاستحسان، وسد الذرائع، والعرف وحكمه والأحكام ومشروعيتها وعللها، وغير ذلك مما أسهم في بناء علم المقاصد وصياغته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المطلب الرابع: أهم المؤلفات في مقاصد الشريعة من المؤلفات والكتب التي تناولت دراسة مقاصد الشريعة، نذكر ما يلي: 1- الموافقات في أصول الشريعة: أبو إسحاق الشاطبي. 2- قواعد الأحكام في مصالح الأنام: عز الدين بن عبد السلام. 3- مقاصد الشريعة الإسلامية: محمد طاهر بن عاشور. 4- مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها: علال الفاسي. 5- ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: محمد سعيد رمضان البوطي. 6- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي: أحمد الريسوني. 7- نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: حسين حامد حسان. 8- الشاطبي ومقاصد الشريعة: حمادي العبيدي. 9- الاجتهاد المقاصدي "حجيته ضوابطه مجالاته": لنور الدين مختار الخادمي. 10- المقاصد العامة للشريعة الإسلامية: يوسف حامد العالم. 11- المقاصد وعلاقتها بالأدلة الشرعية: محمد سعد اليوبي. 12- قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية: مصطفى بن كرامة الله مخدوم. 13- المختصر الوجيز في مقاصد الشريعة: عوض بن محمد القرني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المبحث الثامن: طرق إثبات مقاصد الشريعة المطلب الأول: الاستنباط المباشر من القرآن والسنة ... المبحث الثامن: طرق إثبات مقاصد الشريعة يصطلح على تسمية هذا المبحث بمسالك الكشف عن المقاصد، أو سبل ثبات المقاصد، أو طرق كشف وتعيين المقاصد، وغير ذلك1. ويمكن أن نورد بيان تلك المسالك ضمن مسلكين كبيرين، على ضوء ما قرره بالخصوص كل من الشاطبي وابن عاشور2. المطلب الأول: الاستنباط المباشر من القرآن والسنة سواء من خلال مجرد الأمر والنهي الابتدائين التصريحيين3، أو من خلال اعتبار علل الأمر والنهي4. ومثال الأمر والنهي: أمره تعالى بالصلاة والزكاة والحج وإقامة العدل والإحسان والشورى .... ، ونهيه عن الفواحش والمعاصي والمحرمات..، وكل تلك الأوامر مُعللة بحكم ومقاصد جلب الخير والنفع للإنسان، ودفع الشر والضرر عنه.   1 عنوان الشاطبي لذلك بقوله: "فصل في بيان الجهات التي يعرف بها مقاصد الشارع على الحد الأوسط" الموافقات: 2/391. وعنوان ابن عاشور لذلك بقوله: "طرق إثبات المقاصد الشرعية". المقاصد: ص19. 2 عقدت مقارنات بين الرجلين فيما يتعلق بتلك المسلك، انظر: مسالك الكشف..د. النجار: ص19-20. 3 الموافقات: 2 / 393. 4 الموافقات: 2 / 393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فَيُفهم من الأمر الشرعي أن مقصود الشارع، ومراده يتمثل في القيام بالمأمور به، وكذلك يُفهم من النهي الشرعي أن المقصود منه هو تجنب المنهي عنه وتركه والابتعاد عنه؛ فالأمر والنهي هما الطريق الأول لمعرفة المقاصد الشرعية وإثباتها وتقريرها. أو من خلال النصوص التقريرية1. ومثال النصوص التقريرية: جملة الآيات والأحاديث التي أقرت كثيرًا من المقاصد والمصالح، كمقصد رفع الحرج الذي أقرته الآية الكريمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2، ومقصد مراعاة التيسير والتخفيف والذي أقرته الآية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3. وكمقصد العدل والحرية الثابت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 4 وقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 5. أو من خلال تتبع الأدلة الواردة حول علة واحدة، ومثالها: النهي عن الاحتكار، وعن بيع الطعام قبل قبضه، وعن بيع الطعام بالطعام نسيئة، وكل ذلك قد أفاد مقصد تيسير رواج الطعام وتحصيله6، أو من خلال تتبع السكوت النبوي الوارد في موضع الحاجة إلى البيان الشرعي، فيدل ذلك السكوت على أن المقصد في عدم النطق بالحكم وليس بالتصريح به، ومثاله سجود الشكر7، أو من خلال تتبع اجتهادات السلف8.   1 المقصود النصوص التي أقرت المقاصد، وليس مجرد السنة التقريرية فحسب. 2 سورة الحج، آية 78. 3 سورة البقرة، آية 185. 4 سورة النحل، آية 90. 5 سورة البقرة، آية 256. 6 المقاصد: ابن عاشور: نص 20-21. 7 الموافقات: 2 / 409. 8 المقاصد: ابن عاشور: ص27، 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المطلب الثاني: الاستخراج من المقاصد الأصلية والتابعة المقاصد الأصلية: هي المقاصد التي شُرعت ابتداءً وقُصرت أولًا وأساسًا، ومثالها: التناسل وإعمار الكون، هو المقصد الأصلي للزواج، أما المقاصد التابعة؛ فهي المقاصد التي شُرعت بدرجة ثانية بعد المقاصد الأصلية قصد تقويتها وتأكيدها، ومثالها في الزواج: الاستمتاع بالزوجة، والأنس بالذرية، والتجمل بمال المرأة، وتحقيق الراحة النفسية. ومثال الاستخراج من المقاصد الأصلية: استخراج مقاصد السكن، والأنس بالذرية، والاستمتاع بالزوجة من المقصد الأصلي، والذي هو التناسل. أما الاستخراج من المقاصد الجزئية؛ فهو يتمثل في تتبع العلل الكثيرة الثابتة، والواردة في تحديد حكمة واحدة مشتركة؛ فتكون تلك الحكمة بمثابة المقصد الكلي الأصلي، ومثال ذلك: مقصد الأخوَّة ودوام العشرة، المستخرج من علل النهي عن الخطبة، والسوم على السوم، والنهي عن الوقوع في العرض أو المال أو الكرامة بالغيبة أو النميمة والغصب والتغرير وغير ذلك1.   1 المقاصد: ابن عاشور: ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 المبحث التاسع: تقسيمات المقاصد وبيان أنواعها المطلب الأول: مقاصد الشارع ومقاصد المكلف ... المبحث التاسع: تقسيمات المقاصد وبيان أنواعها تتنوع المقاصد تنوعات كثيرة باعتبارات وحيثيات مختلفة؛ فهي باعتبار محل صدورها تنقسم إلى قسمين: المطلب الأول: مقاصد الشارع ومقاصد المكلف أ- مقاصد الشارع: وهي المقاصد التي قصدها الشارع بوضعه الشريعة، وهي تتمثل إجمالا في جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين1. ب- مقاصد المكلف 2: وهي المقاصد التي يقصدها المكلف في سائر تصرفاته واعتقادًا وقولًا وعملًا، والتي تفرق بين صحة الفعل وفساده، وبين ما هو تعبد وما هو معاملة، وبين ما هو ديانةً وما هو قضاءً، وبين ما هو موافق للمقاصد وما هو مخالف لها.   1 الموافقات: 2 / 5. 2 الموافقات: 2 / 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المطلب الثاني: المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية أ- المقاصد الضرورية: وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدارين، وهي الكليات الخمس: "حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال"1 والتي ثبتت بالاستقراء والتنصيص في كل أمة وملة، وفي كل زمان ومكان. ب- المقاصد الحاجية: وهي التي حتاج إليها للتوسعة ورفع الضيق والحرج والمشقة، ومثاله: التَرخُّص وتناول الطيبات، والتوسع في المعاملات المشروعة، على نحو السلم والمُساقاة وغيرها. ج- المقاصد التحسينية: وهي التي تليق بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق، والتي لا يؤدي تركها غالبًا إلى الضيق والمشقة، ومثالها: الطهارة وستر العورة وآداب الأكل وسننه وغير ذلك.   1 الموافقات: 2 / 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المطلب الثالث: المقاصد العامة والخاصة والجزئية 1- المقاصد العامة: وهي التي تلاحظ في جميع أو أغلب أبواب الشريعة ومجالاتها؛ بحيث لا تختص ملاحظتها في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها الكبرى1. 2- المقاصد الخاصة: وهي التي تتعلق باب معين، أو أبواب معينة، وقد ذكر ابن عاشور أن هذه المقاصد هي2: - مقاصد خاصة بالعائلة. - مقاصد خاصة بالتصرفات المالية. - مقاصد خاصة بالمعاملات المنعقدة على الأبدان -العمل والعمال. - مقاصد خاصة بالقضاء والشهادة. - مقاصد خاصة بالتبرعات. - مقاصد خاصة بالعقوبات.   1 مقاصد الشريعة..: ابن عاشور ص51. 2 المرجع السابق: ص155 وما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المطلب الرابع: المقاصد القطعية والظنية والوهمية أ- المقاصد القطعية: وهي التي تواترت على إثباتها طائفة عظمى من الأدلة والنصوص، ومثالها: التيسير، والأمن، وحفظ الأعراض، وصيانة الأموال. ب- المقاصد الظنية: وهي التي تقع دون مرتبة القطع، والتي اختلفت حيالها الأنظار والآراء، ومثالها: مقصد سد ذريعة إفساد العقل، والذي نأخذ منه تحريم القليل من الخمر1، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتكون تلك الدلالة دلالة ظنية خفية2. ج- المقاصد الوهمية: وهي التي يُتخيل أنها صلاح وخير؛ إلا أنها على غير ذلك، وقد اصطلح العلماء على تسميتها بالمصالح المُلْغاة3.   1 المرجع السابق: ص43. 2 قليل الخمر محرم قطعًا ككثيره، وما أورده الشيخ ابن عاشور يتعلق ببيان مقصد ذلك التحريم، وليس بالتحريم نفسه. 3 تنقسم المصالح من حيث القبول والرد الشرعيين إلى: - المصالح المعتبرة: وهي التي صرح الشرع باعتبارها وقبولها: ومثالها: مصلحة الصيام، والحج، والعدل، والزواج. - المصلحة الملغاة: وهي التي ألغاها الشرع من الاعتبار. ومثالها: مصلحة القمار، والربان وقتل المريض والميؤوس من شفائه. - المصلحة المرسلة: وهي التي لم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلقائها، والتي ترك تحديدها إلى الاجتهاد الشرعي الصحيح، مع وجوب النظر إلى أصولها، وأجناسها الشرعية البعيدة، ومثالها: جمع القرآن، واتخاذ العملة، وبناء الطابق الثاني للطواف والسعي، وتوثيق العقود وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 المطلب الخامس: المقاصد الكلية والبعضية أ- المقاصد الكلية: وهي التي تعود إلى عموم الأمة كافة أو أغلبها، ومثالها: حفظ النظام، وحماية القرآن والسنة من التحريف والتغيير، وتنظيم المعاملات، وبث روح التعاون والتسامح، وتقرير القيم والأخلاق. ب- المقاصد البعضية: وهي العائدة على بعض الناس بالنفع والخير ومثالها: الانتفاع بالبيع، والمهر، والأنس وبالأولاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 المطلب السادس: المقاصد الأصلية والتابعة أ- المقاصد الأصلية 1: وهي التي ليس فيها حظ للمتكلف، ومثالها: أمور التعبد غالبًا. ب- المقاصد التابعة: وهي التي فيها حظ للمكلف، ومثالها: الزواج والبيع. وسنزيد بيان هذا النوع من المقاصد ضمن الجزء الثاني "المبحث الخامس - المطلب الثالث".   1 الموافقات: 2 / 396-367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 المبحث العاشر: مقاصد الشريعة من وضع الأحكام ابتداء تحقيق المصالح المطلب الأول: بيان هذا المعنى والدليل عليه الأحكام التشريعية منزلة من عند الله عز وجل، ومشروعة لتحقيق مصالح الخلق في الدنيا والآخرة. وهذه المصالح تشمل جلب المنافع ودرء المفاسد؛ إذ لا يخلو حُكم من أحكام الشريعة من حكمة عائدة على الخلف بالخير والنفع وسواءً عُلمت هذه الحكمة أو لم تُعْلَم، وسواءً أُدرِكت فور القيام بالفعل أم تأخرت إلى حين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 المطلب الثاني: أدلة تحقيق المصالح الأدلة على هذا المعنى لا تحصى كثرة، وهي واردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي إجماع الصحابة والتابعين وسائر الأعلام المجتهدين، كما أنها ثابتة بالاستقراء والتتبع: أي تتبع الأحكام والفروع والأدلة الكلية التي تعاقبت وتوالت على تأكيد أحقية المقاصد الشرعية وتقريرها في الوجود الكوني والإنساني، بجلب النفع والخير، وإبعاد الشر والضرر والفساد. وقد ذكرنا طائفة من الأدلة في مبحث طرق إثبات مقاصد الشريعة، وفي مبحث تعليل الأحكام الشرعية، وفي غير ذلك مما ورد في ثنايا هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 البحث، ويمكننا إيراد طائفة أخرى من الأدلة على سبيل الاختصار الشديد. ومن تلك الأدلة: 1- قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1. 2 - قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} 2. 3- قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 3. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يُسْر ... " 4. ومن شواهد كون المصالح الشرعية مقصودة ومرادة من قبل التشريع الأحكام الشرعية نفسها، والفروع الفقهية التي تنطوي على مصالحها ومنافعها العائدة على العباد والخلق أجمعين. ومن تلك المصالح الموجودة في الأحكام: مصلحة البيع في سد الحاجة وتبادل المنافع، ومصلحة الزواج في الاستجابة إلى الفطرة وسد الحاجة الجنسية وتحصيل السكن والمودة والأنس، وكالطهارة في درء الأوساخ والأمراض وجلب الاحترام.   1 سورة الحج، آية 78. 2 سورة النساء، آية 28. 3 سورة البقرة، آية 286. 4 جزء من حديث أخرجه النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه، باب "الدين يسر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المبحث الحادي عشر: أنواع المقاصد من حيث قوتها في ذاتها النوع الأول: المقاصد الضرورية "تعريفها-أمثلتها-أدلتها" المطلب الأول: تعريف المقاصد الضرورية ... المبحث الحادي عشر: أنواع المقاصد من حيث قوتها في ذاتها تتنوع المقاصد الشرعية بحسب قوتها في ذاتها إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: المقاصد الضرورية. النوع الثاني: المقاصد الحاجية. النوع الثالث: المقاصد التحسينية. النوع الأول: المقاصد الضرورية "تعريفها - أمثلتها- أدلتها" المطلب الأول: تعريف المقاصد الضرورية المقاصد الضرورية: هي المقاصد اللازمة التي لا بد من تحصيلها لكي يقوم صلاح الدين والدنيا، لأجل إسعاد الخلق في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المطلب الثاني: أمثلة المقاصد الضرورية للمقاصد الضرورية أمثلة وشواهد كثيرة، مذكورة في كتب الفقه والأصول والمقاصد والقواعد الشرعية ومذكورة فيما يأتي بيانه بعد قليل. ويمكن أن نورد الأمثلة التالية عى سبيل الذكر وليس الحصر: - الأمر بالإيمان الصحيح، والاعتقاد الراسخ والإقرار بمسلِّمات العقيدة وقطعيات الإسلام. - الأمر بالقيام بالفرائض والشعائر التعبدية. - الأمر بإحياء النفوس، ومنع قتلها وتعذيبها، والاقتصاص من القتلة والمحاربين والمفسدين في الأرض. - الحث على التناسل والتوالد بقصد إعمار الكون وإحيائه. - تحريم المسكرات والمخدارت، والحث على القراءة والتأمل والتفكر في الكون ومقاومة الأمية والجهل والسحر والشعوذة والدجل؛ لأجل الحفاظ على العقل ومكانته ودوره ورسالته في فهم الشرع وتطبيقه في الواقع والحياة. - الحث على العمل والإنتاج والسعي؛ لأجل تحصيل القوت، وتبادل المنافع، وسد الحاجات والضرورات والمطالب اللازمة في استقرار الحياة وتواصلها ونمائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المطلب الثالث: أدلة المقاصد الضرورية المقاصد الضرورية لازمة وحتمية لكل أمة وملَّة، وقد دلت عليها نصوص كثيرة وأدلة متنوعة، وقد تأكدت وتقررت بمسلك الاستقراء، الذي هو النظر في كل تلك النصوص والأدلة والتأمل في جزئيات الشريعة وأحكامها، بغرض التوصل إلى تقريرها وتثبيتها. فهذه المقاصد إذن قد ثبتت وتقررت بأدلة ونصوص وجزئيات كثيرة جدًّا، ولم تتقرر أو تثبت بدليل واحد، أو عدد قليل من الأدلة والنصوص؛ ولذلك اتسمت بطابع القطع واليقين، وأي أنها اعتبرت مقاصد قطعية ويقينية لا يختلف فيها الناس، ولا تتعدد فيها الأنظار؛ فالخلاصة من كل ما قيل: إن المقاصد الضرورية ثابتة: - بالنصوص الدالة عليه صراحة. - بالاستقراء والنظر في مجموع تلك النصوص، والذي أدى إلى استخلاصها واستنتاجها وتقريرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 المطلب الرابع: أقسام المقاصد الضرورية وهي خمسة أقسام: المقاصد الضرورية، كما ذكرنا خمسة أقسام تعرف بالكليات الخمس، وهي: "حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال". 1- المقاصد الضرورية لحفظ الدين: حفظ الدين يعد أكبر الكليات الخمس وأرقاها، ومعناه تثبيت أركان الدين وأحكامه في الوجود الإنساني والحياة الكونية، وكذلك العمل على إبعاد ما يخالف دين الله ويعارضه، كالبدع ونشر الكفر، والرذيلة والإلحاد، والتهاون في أداء واجبات التكليف. ومن أجل حفظ الدين شرع الإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج، وسائر الأعمال والأقوال التي تحقق الدين في النفوس والحياة، كالأذكار والقربات والوعظ والإرشاد والنصح وبناء المساجد والمدارس، وتبجيل العلماء والمصلحين والدعاة وغير ذلك. 2- المقاصد الضرورية لحفظ النفس: حفظ النفس هو الكلية المقاصدية الشرعية الثانية، ومعناها: مراعاة حق النفس في الحياة والسلامة والكرامة والعزة قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 1 وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم} 2. ومن أجل حفظ النفس شرعت أحكام كثيرة منها: منع القتل، وتشريع القصاص، ومنع التمثيل والتشويه، ومعاقبة المحاربين وقُطَّاع الطرق والمستخفين من حرمة النفس البشرية، ومنع الاستنساخ البشري والتلاعب بالجينات، والمتاجرة بالأعضاء والتشريح لغير ضرورة معتبرة، وحرق أجساد الموتى، كما أمر بتناول ما تقوم به النفس من أكل وشرب وعلاج. 3- المقاصد الضرورية لحفظ العقل: حفظ العقل هو الكلية المقاصدية الشرعية الثالثة التي أقرها الإسلام، وأثبتها في كثير من المواضع والمواطن. من ذلك: اهتمامه بالعقل وجعله شرطًا في التكليف فهمًا وتنزيلًا، ومناطًا في التعامل مع أحوال النفس والكون، اكتشافًا لأسرارهما واستنباطًا لقوانينهما والاستفادة من خبراتهما، وقد أمر الله عز وجل الإنسان بالتفكير والتدبير والتأمل وميزه بذلك عن كثير من المخلوقات، كما أثنى سبحانه وتعالى على أصحاب العقول السليمة من المجتهدين والمفكرين والمتدبرين. وكل هذا دليل على مكانة العقل في الإسلام، ودوره الملحوظ في فهم الأحكام واستنباطها وتطبيقها. كما أن العقل قد حفظه الإسلام، واهتم به خلال منع ما يعيقه ويعطله، وذلك كمنع المسكرات والمخدرات والمفترات، وكل ما يغيب   1 سورة الإسراء، آية 70. 2 سورة التين، آية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 العقل عن دوره في التكفير والتديبر، وكمنع كثرة السهر ودوامه وقتل الأوقات وإضاعتها، كذلك نهى عن بقاء الجهل وانتشار الأمية، وأمر بطلب العلم ونشره وتعميمه؛ لأن بقاء العقل معطلًا بالجهل أو الأمية أو غيرها يعد من أسوء حالات العقل وأفسد سماته وعواقبه. ومن ضروب العناية بالعقل أيضًا: نجد الإسلام قد جعل له حدودًا وقيودًا لا يتعداها ولا يتجاوزها؛ وذلك لأن إطلاق العقل وتحريره بشكل مطلق يؤدي لا محالة إلى مفاسد لا تقل خطورة عن مفاسد تعطيله وتحجيم دوره؛ فحفظ العقل مصان بالوسطية الإسلامية المعهودة بإثبات دوره ومكانته وضبطه بقيود معتبرة وضوابط معلومة. 4- المقاصد الضرورية لحفظ النسل والنسب والعرض: حفظ النسل: معناه التناسل والتوالد لإعمار الكون. وحفظ النسب معناه: القيام بالتناسل المشروع عن طريق العلاقة الزوجية الشرعية، وليس التناسل الفوضوي كما هو عند الحيوانات، أو في بعض المجتمعات الإباحية المادية التي لا تعلم منها لا أصول ولا فروع ولا آباء ولا أبناء؛ إذ يعيش الفرد أحيانًا كل حياته دون أن يعلم من أبوه ومن أمه. وحفظ العرض معناه: صيانة الكرامة والعفة والشرف. والمعاني الثلاثة المذكورة "النسل والنسب والعرض" تعد المقصد الشرعي الكلي الرابع الذي أقره الإسلام في نصوصه وأحكامه، وأثبته وجذّرَه من خلال تشريعات عدة نذكر منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أ- الحث على الزواج والترغيب فيه وتخفيف أعبائه وتيسير مصروفاته، قال الرسول صلى الله عليه سلم: "إن أعظم النكاح بركة أقله مؤنة" 1. ب- منع الزنا، وسد منافذه وذرائعه، كالخلوة والتبرج والنظرة بشهوة والمماسة والالتصاق. ج- معاقبة المنحرفين الممارسين للزنا أو اللواط أو السحاق. د- الأمر بالتمسك بالأخلاق الفاضلة والقيم العليا، والنهي عن الرذائل والفواحش والمنكرات. هـ- منع التبني، ووجوب أن يُدعى الإنسان بأبيه وليس بمتبنيه، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِم} 2. 5- المقاصد الضرورية لحفظ المال: حفظ المال معناه: إنماؤه وإثراؤه وصيانته من التلف والضياع والنقصان. والمال كما يقال: قوام الأعمال؛ لذلك عد مقصدًا شرعيًا كليًا وقطعيًا لدلالة النصوص والأحكام عليه. ومن تلك الأحكام نذكر ما يلي: 1- الحث على العمل، والضرب في الأرض، والبحث عن الرزق، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} 3. 2- النهي عن التبذير والإسراف وإضاعة الأموال.   1 أخرجه الإمام أحمد في كتاب حديث السيدة عائشة رضي الله عنها- باب حديث السيدة عائشة. 2 سورة الأحزاب، آية 5. 3 سورة الملك، آية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 3- تحريم السرقة، والغضب والغش والرشوة والربا، وكل وجه من وجوه أكل مال الغير بالباطل، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1. 4- معابة آكلي أموال الناس بالباطل بالحدود والتعزيرات، كمعاقبة السارق بقطع يده، والمحارب أو قاطع الطريق بإحدى العقوبات المنصوص عليها بحد الحرابة في سورة المائدة، والآية هي: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2 وتكون العقوبة لازمة إذا توافرت شروط ذلك. 5- تضمين المتلفات. 6- منع اكتناز الأموال وتكديسها كي لا يسهم في تعطيل تروجيها والانتفاع بها والاستفادة منها. خلاصة أقسام المقاصد الضرورية: المقاصد الضرورية كما ذكرنا هي الصالح التي لا بد منها من أجل أن يقوم أمر الحياة ونظام الوجود على صلاح واستقرار وإسعاد في الدين والدنيا. وهذه المقاصد واجبة الحفظ والصيانة والمراعاة من جانب الوجود؛ وذلك بفعل ما يُوجدها ويُجدِّرها في واقع النفوس والحياة، بترك ما يعطِّلها ويغيِّبها ويفوتِّها، وقد دلت على أهمية هذه المقاصد نصوص وأحكام كثيرة مثبوتة في الكتاب والسنة وإجماع المجتهدين وآثارهم وأقوالهم. وهي تشكل مع المقاصد الحاجية والتحسينية تمام نظام المعاش، وكمال صلاح المعاد، فما هي إذًا حقيقة المقاصد الحاجية والتحسينية؟   1 سورة البقرة، آية 188. 2 سورة المائدة، آية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 النوع الثاني: المقاصد الحاجية المطلب الأول: تعريف المقاصد الحاجية ... النوع الثاني: المقاصد الحاجية المقاصد الحاجية: هي النوع الثاني من الأنواع الثلاثة للمقاصد الشرعية، وهي تأتي بعد المقاصد الضرورية، وقبل المقاصد التحسينية. المطلب الأول: تعريف المقاصد الحاجية قال الجويني: الوصف الحاجي هو ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة1. والأصفهاني: والمصلحي2 متضمن لحفظ مقصود هو في محل الحاجة3. المصلحة الحاجية: هي ما تكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليها4 أو المصلحة الواقعة في محل الحاجة، وتسمى المصلحة الحقيقية الحاجية، أو المصلحة الحاجية اختصارًا، أو الحاجة والحاجيات بشكل أوجز.   1 البرهان: 2/ 924. 2 المصلحي معناه: الحاجي، عند البيضاوي. والمنهاج، بشرح الأصفهاني: 2 / 685. 3 شرح الأصفهاني للمنهاج: 2 / 685. 4 إحكام الآمدي: 3 / 273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وهي تقع بعد مرتبة المقاصد الضرورية، ويعتبر تركها غير مفوت لمصالح الدين والدنيا، ولكنه يوقع الإنسان في الحرج الشديد والمشقة العظمى. قال الشاطبي: "وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة واللاحقة بفوت المطلوب؛ فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة؛ ولكنه لا يبلغ مبلغ الفاسد العادي المتوقع في الصالح العامة، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات"1.   1 الموافقات: 2/ 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المطلب الثاني: أمثلتها -رخص التخفيف: كرخصة المرض والسفر. - إباحة الصيد والتمتع بالطيبات والحلال في الأكل والشرب واللباس وغيره. - القراض والمضاربة: وهي أن يدفع إنسان لآخر مالًا لِيتجر فيه مع الاشتراك في الربح. - السلم: وهو عقد على موصوف في الذمة آجل بثمن عاجل. - المساقاة لاشتغال بعض الملاك عن تعهد أشجاره، ومعناها: معاملة على تعهد شجر بجزء من ثمره. - تضمين الصناع: وهو ضمان ما يتلفه أصحاب الصنائع. - دية العاقلة: أي أن تجعل دية الخطأ على عاقلة المخطئ؛ وذلك لو كان عليه وحده لتضرر بذلك كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 - القسامة. - تجويز الإجارة للحاجة الماسة إليها. قال الجويني: وهذا مثل تصحيح الإجارة؛ فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها، وضنة ملاكها بها على سبيبل العارية؛ فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره1. - البيع: وقد ذكر بعضهم أنه آيل إلى الضرورة. نصب الولي الصغير: إذ إن مصالح النكاح غير ضرورية وهي واقعة في محصل الحاجة، والولاية داعية إلى الكفء الموافق، ولو لم يقيد بالنكاح لأوشك فواته لا إلى بدل2. فالمصلحة في تقييده قبل أن يفوت ولا يتفق الظفر بمثله؛ فيقع ذلك في محل الحاجة، فصارت رعاية هذا المقصود مناسبة كرعاية المقصود الضروري3. - سلب ولاية العبد على طفله؛ لأنه مستغرق بخدمة سيده، وولاية الأطفال تستدعي التفرغ، فتفويض الطفل إليه مُضِر بالطفل. ووجه الحاجة من كل ذلك: أن الإنسان لو لم يعمل بتلك الأحكام والأمثلة المتعلقة بالحاجة لبلغ درجة من الحرج الشديد، والمشقة الكبيرة التي توقعه في الضيق، أو في تفويت بعض ضروراته، أو كلها بوجه ما.   1 البرهان: 2 / 924. 2 المحصول ج2-ق2 / 222. 3 شفاء الغليل: ص166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 المطلب الثالث: أدلة المقاصد الحاجية ثبتت الماقصد الحاجية باستقراء الأدلة والأحكام الشرعية وتتبُّعِها والنظر فيها؛ فلم تثبت بدليل واحد أو بعدد قليل من الأدلة الشرعية؛ وإنما ثبتت بأدلة كثيرة فوق الحصر، أفادت بمجموعها وجملتها حَقِّيَّة تلك المقاصد وأهميتها، ودورها في قيام حاجات الإنسان ومطالب المهمة القريبة من الضروريات اللازمة والأكيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 النوع الثالث: المقاصد التحسينية المطلب الأول: تعريف المقاصد التحسينية المقاصد التحسينية: هي المقاصد التي تقع دون المقاصد الضرورية والحاجية، وهي التي تحسن حال الإنسان، وتكمل عيشه على أحسن الأحوال، وتتم سعادته في العاجل والآجل، وتسمى: المقاصد الكمالية أو التكميلية أو بالكماليات. وقد عرفها الشاطبي بقوله: إنها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق1. وعرفها إمام الحرمين الجويني بقوله: "وهي ما لا يتعلق بضرورة خاصة ولا حاجة عامة؛ ولكنه يلوح فيه غرضًا في جلب مكرمة أو في نفي نقيضًا لها، ويجوز أن يتحلق بها الجنس طهارة الحدث وإزالة الخبث"2. وقد عرفها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بقوله: "وهي المصالح التحسينية، ونهى ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها، حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها منظر المجتمع في قرار بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبًا في الإدماج فيها أو التقريب منها؛ فإن محاسن العادات من خلال ذلك3.   1 الموافقات: 2/ 11. 2 البرهان: 2 / 924-925. 3 مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 المطلب الثاني: أمثلتها - إزالة النجاسات. - فعل الطهارات. - سترة العورة والمغابن، أي المواضع الخفية. - أخذ الزينة والطيب. - التحلي بآداب الأكل والشرب واللباس والدخول والخروج، وقضاء الحاجة، والنوم، وغير ذلك من الآداب والفضائل. - تجنب تناول الأشياء النجسة والمتنجسة أكلًا وشربًا، أو مماسة أو شمًّا. - منع بيع النجاسات والنفايات إلا للضرورة. - إشاعة الماء والكلأ بين الناس. - التقرب والتطوع بالنوافل والقربات، والخيرات والصدقات. - سلب المرأة منصب الإمامة، وإنكاح نفسها. - سلب العبد منصب الشهادة والإمامة. هذه الأمثلة وغيرها راجعة إلى محاسن ومكارم زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية؛ إذ ليس بمثل أمر ضروري وحاجي؛ وإنما تجري مجرى التحسين والتجميل والتكميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 المطلب الثالث: أدلتها المقاصد التحسينية كالمقاصد الضرورية والحاجية، قد ثبتت وتقررت بعدد كبير من الأدلة والنصوص الشرعية -الكلية والجزئية، وبالنظر فيها عن طريق الاستقراء وتتبع الجزئيات والقرائن والمعطيات الشرعية المختلفة، بغرض التوصل إلى تقريرها وتثبيتها وتدعيمها، واعتبارها أمرًا مكملًا ومقويًا للمصاح الضرورية والحاجية، ومعلمًا حضاريًا تكمل به حضارة المسلمين وتجمل به الأمة الإسلامية في نظامها الحياتي وصلاحها الأخروي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المبحث الثاني عشر: مكملات المقاصد الشرعية وشرطها مدخل ... المبحث الثاني عشر: مكملات المقاصد الشرعية وشرطها المقاصد الحقيقة الشرعية شرعها الله لتكون مصلحة كاملة وتامة في الدنيا والآخرة؛ ولذلك شرع أحكامًا تعرف بالمكملات أو المتمِّمات أو التوابع، تكون متممة ومكملة لها. وتلك المكملات والمتممات وتشمل كافة المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية، والمقصود بالمكملات والمتممات: - ما يكمل الصالح الضرورية؛ سواء كان مصاح حاجية أو مصالح تحسينية أو غيرها من المكملات. - ما يكمل المصالح الحاجية، من مصالح تحسينية ومن غيرها من المكملات. - ما يكمل المصالح التحسينية. - قال الغزالي: "فجميع المناسبات ترجع إلى رعاية أمر مقصود؛ إلا أن المقاصد تنقسم مراتبها: فمنها: ما يقع في مرتبة الضرورات، ويلتحق بأذيالها ما هو تتمة وتكملة لها. ومنها: ما يقع في مرتبة الحاجيات، ويلتحق بأذيالها ما هو تتمة وتكلمة لها. ومنها: ما يقع في رتبة التوسعة والتيسير الذي لا ترهق إليه ضرورة، ولا تمس إليه حاجة؛ ولكن تستفاد به رفاهية وسعة وسهولة، فيكون ذلك أيضًا مقصودًا في هذه الشريعة السمحة السهلة الحنيفيَّة. ويتعلق بأذيالها ولواحقها ما هو في حكم التحسين والتتمة لها. فتصير الرفاهية مهيأة بتكميلاتها1. وقال الشاطبي كذلك: "كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمته الأصلية"2.   1 شفاء الغليل: 161-162. 2 الموافقات: 2/ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 المطلب الأول: تعريف مكملات المقاصد مكملات المقاصد: هي جملة الأحكام التي تجعل المصالح الضرورية والحاجية التحسينية تامة وكاملة ومكتسبة على أحسن الوجوه وأفضلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 المطلب الثاني: أقسام مكملات المقاصد مكملات المقاصد ثلاثة أقسام: - مكملات المقاصد الضرورية. - مكملات المقاصد الحاجية. - مكملات المقاصد التحسينية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 المطلب الثالث: مكملات المقاصد الضرورية 1 وهي الأحكام التي تجعل المقاصد الضرورية تامة وكاملة ومكتسبة على   1 الموافقات:2 / 21، 12، وأصول ابن مفلح: 3 / 1282، وشفاء الغليل: ص/ 164، ومقاصد اليوبي: ص/ 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أحسن الوجوه وأفضلها، وهي تشمل: حفظ الدين والنفس والعقل النسل أو النسب والمال. ويقصد بمكملات المقاصد الضرورية: - المصالح الحاجية ومكملاتها. - المصالح التحسينية ومكملاتها؛ لأن المصالح التحسينية مكملة للحاجية، والحاجية مكملة للمصالح الضرورية؛ فتكون التحسينية مكملة للضرورية؛ لأن المكمل للمكمل مكمل. -غير ذلك من المكملات والمتممات. ومن أمثلتها: -إظهار شعائر الدين وسننه ومستحباته ومظاهره والمختلفة تتميمًا لحفظ الدِّين، وإكمالًا لظهوره وتمكينه في النفوس والواقع. - تحريم البدعة، لما في وجودها وبقائها من ضياع الدين وتبديله وتنقيصه؛ لذلك مُنعت وحرِّمت؛ تحقيقًا للتدين الكامل والعبادة التامة الخالصة، الخالية من شوائب الزيادات والنواقص. - معاقبة الداعي إلى البدع؛ لأنه يدعو إلى الكفر المفوت لحفظ الدين. -المبالغة في حفظ العقل، بتحريم شرب القليل وإيجاب الحد فيه؛ فالقليل حُرِّم للتتميم والتكميل. - مراعاة المماثلة في القصاص، تكميلًا لحفظ النفس؛ إذ يمكن للنفس أن تحفظ بمجرد القصاص، ولكن شرع التماثل، تحقيقًا لحفظها الكامل ودفعًا لما يمكن أن يحصل من تشفٍّ وثأر وتنكيل وغير ذلك. - نفقة المثل تتميمًا لحفظ النفس. - تحريم النظر إلى الأجنبية المقصود به الشهوة والتلذذ، وتحريم مسها والاختلاء بها تكميلًا لحفظ النسل والنسب والعرض. - منع الربا، والاستشهاد في البيع، والقيام بالرَّهن، تكميلًا لحفظ المال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 المطلب الرابع: مكملات المقاصد الحاجية وهي الأحكام التي تجعل المصلحة الحاجية تامة وكاملة ومكتسبة على أحسن الوجوه وأفضلها، ويقصد بها: - المصالح التحسينية ومكملاتها. - غير ذلك من المكملات والمتمات. ومن أمثلتها: - الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض مشروع لتكملة الحاجة إلى التوسعة والتخفيف؛ فلو لم يشرع لم يُخَل بأصل التوسعة وذلك التخفيف1. - مراعاة الكفء ومهر المثل في الصغيرة؛ فإن مقصود النكاح يحصل بدونها، لكن اشتراط ذلك على سبيل تكميل النكاح من حيث تحقيق دوامة واستمراره، وتحصيل السكن والمودة والرحمة بين الزوجين2. - خيار البيع المشروع للتروي، يكمل به البيع ليَسْلَم من الغبن والتغرير والجهالة؛ فلو لم يشرع الخيار لم يخل بأصل البيع، ولأن ما ملك بعد التروي والنظر في أحواله، يكون ملكه أتم وأقوى؛ لبعده عن الغبن والتدليس3.   1 الموافقات: 2/ 13. 2 الموافقات: 2/ 13، ومقاصد اليوبي: ص/ 341، وشفاء الغليل: ص: 167. 3 شرح المحلي لجمع الجوامع وبهامشه الآيات والبينات: 4/ 135 ومقاصد اليوبي: ص / 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المطلب الخامس: مكملات المقاصد التحسينية ... المطلب الخامس: مكملات المفاصد التحسينية 1 وهي الأحكام التي تجعل المصلحة التحسينية تامة وكاملة ومكتسبة على أحسن الوجوه وأفضلها. ومن أمثلتها: -التحلي بآداب قضاء الحاجة أو التخلي، ومندوبات الطهارة، كالبدء باليمين قبل الشمل، والتثليث في الغسل، وغير ذلك مما هو مشروع لتكميل المصالح الحسينية المتعلقة بأصل الطهارة. - الإنفاق من طيبات المكاسب. - الاختيار في الضحايا العقيقة. - الاختيار في العِتق.   1 انظر الموافقات: 2/ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المطلب السادس: شرط مكملات المقاصد الشرعية مكملات المقاصد الشرعية هي -كما ذكرنا-: الأحكام التي تتم وتكمل تلك المصالحة الحقيقية؛ ولذلك اشترط أن لا تبطل أو تفوت أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 تضيع هذه المصلحة بوجود ما يكملها ويتمها، وهذا الذي ذكره الشاطبي بقوله: "كل كلمة فلها -من حيث هي تكملة- شرط، وهو أن لا يود اعتبارها على الأصل بالإبطال؛ وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلهن فلا يصح اشتراطها عند ذلك"1؛ لوجهين: أحدهما: أن في إبطال أصل إبطال للتكلمة؛ لأن الكلمة مع ما كلمته كالصفة مع الموصوف. والثاني: أنا لو قدرنا تقديرًا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية، لكان حصول الأصلية أولى لا بينهما من التفاوت2. وعليه يكون المكمل مع المصلحة الحقيقية كالفرع مع الأصل، أو الصفة مع موصوفها في لزوم التلازم والترابط والدوران والجريان معًا، إلا إذا خشي على الأصل من زواله بسبب الفرع، فيضحِّي عندئذ بالفرع محافظة على بقاء الأصل، أما إذا لم يعد الفرع على أصله بالإبطال، والمكمِّل -بالكسر- على المكمِّل -بالفتح- بالإبطال؛ فلا شك أن في الجمع بينهما تحقيقًا لأحسن المقاصد وأتمها، وجلبًا لأفضل التكليف وأكمله. ومن أمثلة ذلك: -حفظ حياة النفس ضروري، وتحريم النجاسات والقاذورات حسيني، ويجوز تناول النجاسة من أجل إحياء النفس، إذا دعت الضرورة إلى ذلك، عملًا بأولية الأصل الضروري على التحسيني المكمل عند التعارض.   1 الموافقات: 2/ 14. 2 الموافقات: 2/ 14 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 - حفظ النفس ضروري، وستر العورة تحسيني مكمل له، وشرط هذا المكمل أن لا يعود على أصل حفظ النفس بالإبطال؛ فلو دعت الضرورة إلى كشف العورة والنظر إليها بقصد العلاج، لحفظ النفس من الموت أو الهلاك، لجاز كشفها ولأبيحت التضحية بهذا المكمل من أجل بقاء الأصل الضروري. - إقامة الجهاد مصلحة ضرورية، وإقامته مع أئمة العدل مكمل لتلك المصلحة؛ غير أن العلماء أجازوا القيام بالجهاد مع أئمة الجور؛ لأن اشتراط الأئمة العادلين عند فقدهم سيُفَوِّت أصلية الجهاد، ويضيع مصالح الأمة وقوتها وعزتها، ولذلك يضحي بالمكمل محافظة على أصلية الجهاد ومقاصده وفوائده، وكذلك الأمر بالنسبة للصلاة خلف أئمة الجور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المطلب السابع: ارتباط المقاصد الثلاثة ببعضها المقاصد الثلاثة "الضرورية والحاجية والتحسينية" مرتبطة فيما بينها، وتخدم بعضها بعضًا، وتكمل بعضها بعضًا. والمقاصد الضرورية هي أساس جميع المقاصد وقاعدتها الأولى، ثم تكون المقاصد الحاجية بعدها، ثم تكون المقاصد التحسينية أخيرًا، فالحاجيات مكملة للضروريات، والتحسينيات مكملة للحاجيات، والضروريات. ولكل من الأنواع الثلاثة مكملات، تهدف بمجموعها إلى تحقيق مقاصد الشرع جميعها -كليًّا وجزئيًا- وتهدف إلى بناء الأمة المسلمة في سائر أحوالها وأمورها، العقدية، والتشريعية، والأخلاقية، والحضارية، بشكل عام. ولذلك وجب التنبه لهذه الحقيقة المعتبرة في أثناء فهم الدين وتنزيله في الواقع المعيش، حتى لا يقع الخلل والاضطراب في بنيان التشريع ومنظومته، وفي مصالح الخلق، ومنافعهم الحقيقية الصحيحة في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 المبحث الثالث عشر: مقصود الشارع هو الجانب الغالب في المصالح والمفاسد ... المبحث الثالث عشر: مقصود الشارع والجانب الغالب في المصالح والمفاسد هل إن المصلحة الشرعية تتسم بصلاحها ونفعها في جميعها وكليتها، أم أن ذلك لصلاح النفع والخير يعود إلى أغلبها وأكثرها؟ ولزيادة التوضيح نورد التمثيل على ذلك؛ لأن المثال يوضح حال؛ فأكل مال الغير ومعاقبة الجاني وغير ذلك، وكذلك أمر المكلف بفعل الطاعات والقربات، كل ذلك مشروع وعائد على المكلف بمصالح كثيرة ومنافع معتبرة. فمنع أكل المال عائد بمصلحة حفظ المال وصيانته من التلف والضياع، ومعاقبة الجاني لها مصلحته المتعلقة بردع المخالفين وزجر الجناة وقمع الطغاة لحفظ الناس في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم وأمنهم العام والخاص، والأمر بالطاعات والقربات راجع بالخير والسعادة في العاجل والآجل إلى المكلف المطيع المتعبد، كل تلك المصالح معتبرة ومقبولة ومقررة في الشرع، وقد دلت عليها ما لا يحصى من الأدلة والقرائن والمعطيات الشرعية دلالة قطعية ويقينية انتظم بمجموعها اعتبار تلك المصالح وتقريرها والاعتداد بها والتعويل عليها في معاملة الحكم الشرعي فهمًا واستيعابًا وتطبيقًا وتنزيلًا. غير أن المصالح تظل في حكم الغالب والأكثر، أي أنها لا تَسلَم من شوائب ما يضاد المصلحة ويعارضها من بعض الضرر وبعض الألم الذي يكون في حكم القليل الذي لا يُلتفت إليه، وفي معنى النادر الذي لا يعتد به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فالعبرة بالغالب الأكثر، أما القليل أو اليسير فلا يُلتفت إليه كما نص على ذلك علماء القواعد والمقاصد والفوائد، وهذا هو نفسه معنى قوله العلماء: "المصلحة الشرعية غالبة وليست محضة". فمصلحة من أكل مال الغير غالبة وليست محضة أو خالصة؛ وذلك لأنها لا تخلو من ضرر يسلط على الآكل بالسرقة أو الغصب أو الاحتيال؛ وذلك بإيقاع الألم النفسي أو الحسي في نفسه أو بضمان وإرجاع ما أخذ، وفي كل ذا ضرر واقع على ذاته، وانتفاء لمصلحة هذا الآكل ومنفعته في أخذ مال الغير بلا وجه شرعي. وكذلك الحال بالنسبة للجاني الذي إذا عوقب فقد يحرم من نفسه، أو عضو من أعضائه، أو من ماله وحريته بموجب القصاص، أو الضمان، أو السجن، أو النفي، أو غير ذلك من الزواجر التي تحدث له بعض الضرر، وتنفي عنه بعض النفع والصلاح. غير أن هذا الضرر الضئيل إنما هو ضرر جزئي في مقابل درء الضرر الكلي، وهو ضرر مؤد إلى المصالح المعتبرة والمنافع الحقيقية؛ أما منفعة الجاني في جانيته فيه لا تتجاوز أن تكون منفعة وهمية وخيالية ومرجوحة ومعمقة لواقع الفساد، وحدوث الفوضى الاجتماعية، وظهور الافتتان والاقتتال والتنازع الذميم. وفي مثال الأمر بالطاعات فإن المطيع ظافر بإذن الله بسعادة الدنيا والآخرة وبمصالح لا تحصى من الخير والفائدة في ذاته ومجتمعه، في آله ومآله؛ فمصلحة التعبد معلومة الحقيقة والآثار والنتائج، غير أن ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الصلاح لا يخلو من بعض الألم والضرر الظاهري الذي قد يعود على المكلف، على نحو ألم مخالف النفس ومعارضتها عند أداء التكليف التي تأباها النفس أحيانًا، كالصوم في الحر والقرّ، والصلاة عند الفجر والعشاء، وبذل المال الذي هو قطعة من الكبد، والجهاد الذي هو بذل النفس والمال العزيزين المرغوبين فكل تلك التكاليف ذات مصالح ومنافع معتبرة ومقبولة في الدنيا والآخرة؛ غير أنها لا تخلو من بعض آلامها وثقلها ومشاقها التي هي في الحقيقة قليلة ونادرة من جهة، وشروط ومسلمات ضرورية لا بد منها في قيام التكليف وصحته من جهة ثانية، ثم إنها هينة وسهلة وميسورة ندما تصدر من المؤمن الصادق والمسلم القوي الذي يدعو ربه خوفًا وطمعًا؛ فهي بهذا الاعتبار تمثل الطريق السوي في تعويد المكلف على مبدأ الامتثال، وتربيته على معاني الصبر والتضحية، ومغالبة النفس، ووضع حد للشهوات والنزوات التي لا حد لها. فمصالح الدنيا ومفاسد الدنيا غالبة وليست محضة، ودليل ذلك قوله تعالى عن الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 1 فالخمر والميسر مفسدتان عظيمتان من حيث ضياع المال والعقل والنفس؛ ولكنهما منفعتان حقيرتان وقليلتان لصاحب القمار والميسر فيما يكسبه أحيانًا، ولصاحب الخمر فيما يعود إليه من ربح مادي أو نشوة نفسية أو البعد عن بعض الهموم؛ غير أنه يقع في هموم وغموم أخرى لا نهاية ولا حدّ لها.   1 سورة البقرة، آية 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أما المصلحة في الآخرة، وكذلك المفسدة في العذاب الأليم؛ فإنهما مخضتان وخالصتان، فالجنة نعيم كلها لا ضرر ولا إثم فيها، وجهنم كذلك، فإنها مفسدة كلها، وهلاك كلها، وخسارة كلها، وهذا معنى كون الهلاك فيها خالصًا متمحضًا ليس فيه أمل ولا حتى تخيل الأمال؛ فالعذاب كله واللعنة جميعها نازلة بأهل النار ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله، ونعوذ بالله من الهلاك كله وبعضه وعاجله وآجله، إنه سميع مجيب، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمئاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 المبحث الرابع عشر: تخلف الجزئيات قد يكون لمصلحة مشروعة خارجة عن مقتضى الكلي إذا تخلفت بعض الجزئيات عن المقاصد والمصالح الكلية؛ فلا يعني ذلك أن تلك المقاصد والمصالح قد تعطلت أو اختلت؛ بل يعني مراعاة مصالح أخرى، هي في نفس أهمية المصالح التي استثنيت منها تلك الجزئيات. ويمكن أن نبين هذا الأمر من خلال الأمثلة التالية: 1- الملك المُرفَّه الذي يقصر في الصلاة، لئن تخلفت حكمة التيسير والتخفيف عن القصر بسبب رفاهية المُلْكِ؛ فقد تحققت حكمة أخرى، وهي استقرار الحكم وانتظامه واطراده في كل زمان ومكان؛ فلو استثنينا الملك من القصر؛ لأنه لا يعاني المشقة، لتساهل الناس في استثناء غيره من الناس، ولتساهلوا في تغيير الأحكام وتبديلها على مر الزمان، ولذلك كانت الأحكام محددة مضبوطة تسير على معيار واحد، لا يختلف باختلاف الظروف والأحوال والأشخاص. 2- النظر إلى العورة لغرض التداوي مباح، وهو مستثنى من عموم تحريم النظر إلى الأجنبي، وهذا الاستثناء لا يخل بأصلية التحريم؛ وإنما يحقق مصلحة أخرى وهي مصلحة العلاج التي لها نفس أهمية مصلحة غض البصر لحفظ الأعراض والكرامة الإنسانية، وإذا لاحظنا النظر إلى العورة وجدنا أن العلة التي لأجلها منع النظر إلى العورات منتفية؛ وذلك لأن الناظر في العورة غالبًا ليس له من قصد سوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 التشخيص والعلاج والمداواة. 3- أصحاب الأعذار الشرعية والقانونية من الطلاب يُستثنون من قانون الحرمان من الاختبار؛ لأنهم تغيبوا بسبب التقصير والكسل والخمول؛ وإنما تخلفوا لظروف قاهرة منعتهم من الحضور؛ فلو لم يُسْتسنَ هؤلاء الطلاب من قانون الحرمان لكلفانهم بما ليس في مقدورهم ولألْحقنا بهم ضرر الرسوب، ثم إن علة الحرمان منتفية، وهذه العلة هي تأديب المتخلفين وزجرهم وحملهم على الحضور في الجامعة للتحصيل العلمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الجزء الثاني المبحث الأول: قدرة المكلف على فعل التكليف المطلب الأول: قدرة المكلف على فعل التكليف ... الجزء الثاني: المبحث الأول: قدرة المكلف على فعل التكليف التكليف الشرعي ميسور ومستطاع ومقدور عليه؛ فالله تبارك وتعالى لم يكلف الناس بما في المشقة والحرج والعنت والشدة، ولم يخاطبهم بما لا يقدرون على فهمه واستيعابه وتمثله من الألفاظ والمعاني الشرعية؛ بل خاطبهم بما يطيقون من الأعمال والأقوال، وبما يقدرون عليه من الإفهام والاستيعاب والاعتقاد والتصور، لذلك اشترط في التكليف الشرعي أمران: 1- القدرة على القيام بالتكليف. 2- القدرة على فهم أحكام التكليف. المطلب الأول: قدرة المكلف على فعل التكليف قدرة المكلف على القيام بالتكليف شرط أساسي لا بد منه في قيام التكليف وصحته؛ لذلك نفى الشارع الحكيم الحرج والعنت، ولم يكلف عباده بما لا يطاق من الأحكام، وبما لا يستطاع من الأعمال العبادات، وبما لا يُقدر عليه من المعاملات والتصرفات، ومن الاعتقاديات والوجدانيات..وغير ذلك مما هو ليس في وِسع المكلف ومقدوره ومستطاعه. الأدلة على ذلك: الأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في القرآن الكريم وفي السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 النبوية الشريفة، وفي الإجماع، وفي آثار السلف والخلف واجتهاداتهم وأقوالهم، وفي دلائل الواقع والعقل والحس، وغير ذلك. الأدلة على القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1. قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 2. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3. قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 4. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 5. قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} 6. قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} 7. الأدلة من السنة النبوية الشريفة: قوله عليه الصلاة السلام: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة" 8.   1 سورة الحج: آية 78. 2 سورة المائدة: آية6. 3 سورة البقرة، آية 185. 4 سورة النساء، آية 286. 5 سورة البقرة، آية 28. 6 سورة الأعراف، آية 157. 7 سورة الطلاق، آية7. 8 عمدة القاري شرح صحيح البخاري، باب: الدين يسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" 1. وقوله لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري عندما أرسلهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا"2. دليل الإجماع: الإجماع هو ما اتفق عليه العلماء والمجتهدون في قضية من القضايا، في عصر من العصور بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو المصدر التشريعي الثالث بعد الكتاب والسنة. وهو أصل يقيني مقطوع به وحجة لازمة، وحق شرعي يجب اعتقاده والعمل به. وقد أجمع كل العلماء والمجتهدين سلفًا وخلفًا، قديمًا وحديثًا، تصريحًا وتلميحًا، فهمًا وتنزيلًا، على يسر الشريعة وسماحتها ووسطيتها واعتدالها، وعلى نفي التكليف بما لا يُطاق، وعلى أن الحرج مرفوع، والعنت مدفوع، وعلى أن سائر الأحكام الشرعية في مجال العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات ميسورة ومسهلة يقدر عليها المكلف في مختلف ظروفه وأحواله، وفي حله وترحاله، في صحته وسقمه، وفي شدته ورخائه، في حربه وسلمه، في موطنه وغربته، وفي شتى الأطوار والأعصار، ومختلف البيئات والأمصار. وليس أدل على ذلك من كون الشريعة الإسلامية موصوفة بالشمول   1 عمدة القاري، كتاب الأدب، باب: الرفق في الأمر كله. 2 عمدة القاري، كتاب الأدب، باب: قول النبي: "يسروا ولا تعسروا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والصلاح لكل زمان ومكان وحال، ومرسومة بعموم خطابها لكافة الإنس والجِنِّ أجمعين. والإجماع المنعقد على حجية ما ذكرنا ضربان: أ- إجماع الأمة على يسر الشريعة وسماحتها واستطاعة القيام بها، وقد تبين ذلك من خلال أقوال العلماء وتصريحاتهم بذلك، ومن خلال إجماعهم على صحة وحقية القرآن والسنة، وما انطويا عليه من أحكام ومعانٍ ودلائل وتوجيهات وإرشادات؛ منها: معاني يسر التكليف وسهولته، وقدرة المكلف على أدائه، ونفي الحرج والمشقة القاهرة والعنت الشديد. ب- إجماعهم على مواضع التيسير والتخفيف، واتفاقهم على مظاهر نفي الحرج والضيق والشدة ... كل ذلك دليل مقطوع به على نفي التكليف بما لا يطاق. الأدلة من آثار السلف والخلف: آثار السلف والخلف -رضي الله عنهم- تشمل: أ- ما صرحوا به من أقوال وبيانات تدعو إلى التيسير والتخفيف، وتصف الدين بالسماحة والاعتدال والواقعية والاتزان، وتنفي عنه التشدد والتنطع والمبالغة والتعمق في التعبد والتورع1. من ذلك قول عمر رضي الله عنه: نهينا عن التكلف2.   1 حجة الله البالغة ص1-31، ص3-54 وما بعدها. 2 عمدة القاري: كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنة رسول الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، عليكم بالعتيق". والتنطع هو: التعمق في القول والفعل. والتعمق: هو المبالغة والتشدد1. وقول ابن القيم الجوزية رحمه الله: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعادن وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها"2. وقول أبي إسحاق الشاطبي: ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به؛ فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعًا، وإن جاز عقلًا"3. ب- ما أفتوا به في وقائع ونوازل مستندين إلى أدلة التشريع وقواعد المصالح والمقاصد ومعاني التيسير والرفق والتخفيف ولم يلتزموا بحرفيات وظواهر ومباني النصوص والأدلة فقط؛ بل نظروا إلى المقاصد والمعاني كما كانوا ينظرون إلى المباني والظواهر؛ وذلك لأن الجمع بين ظاهر النص ومعناه، ومدلوله ومقصوده هو الاجتهاد الصحيح والعمل المطلوب، وهو الذي يثبت مراد الشارع ومطلوبه، ويحقق مصالح الناس ومنافعهم، ويؤكد خاصيات الشريعة وسماتها ويحقق مصالح الناس ومنافعهم، ويؤكد خاصيات الشريعة وسماتها ومراميها، والمتعلقة، بالصلاحية والدوام والعموم والشمول. وتلك الفتاوى والاجتهادات تجدها مبثوثة في كتب الفقه والنوازل والتفسير والحديث وغيرها، ونجدها تتعلق بمجالات أصولية كثيرة، على   1 سنن الدارمي: 1/ 54. 2 أعلام الموقعين: 3/ 84. 3 الموافقات: 2/ 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 غرار مجال الاستصلاح أو ما يعرف بالمصالح المرسلة، ومجال الاستحسان، والعرف، وسد الذرائع، ومراعاة مآلات الأفعال، وغير ذلك. دليل الاستقراء: يعد الاستقراء دليلًا معتبرًا على التكليف بما يطاق، ونفى العنت القاهر والمشقة المضنية، والشدة التي لا يقدر عليها. والاستقراء معناه: تتبع الجزئيات والفروع لبناء أمر كلي يصدق على جميع تلك الجزئيات أو أغلبها. ومعناه في الفقه الإسلامي، وفي دين الله تعالى: تتبع الجزئيات والفروع الفقهية التي روعي فيها التيسير والتخفيف، ورفع الحرج والضيق؛ لتقرير أمر كلي ينطبق على كل تلك الجزئيات والفروع؛ هذا الأمر الكلي هو المقصد الشرعي الكلي المتمثل في تقرير التيسير والتخفيف، ورفع الحرج، وإزالة الضرر ورفع الأذى. الفروع والجزيئات التي روعي فيها التيسير، واعتبر فيها نفي التكليف بما لا يطاق كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في مجال العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات، ومنها ذِكرًا لا حصرًا: - جواز القصر والجمع في السفر وفي الحج تخفيفًا عن المكلف، وإبعادًا لمشقة السفر وأعباء الحج. - إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض والنفساء توسعًا ورفقًا. - إباحة الفطر للشيخ المسن، ولغير القادر على الصوم كالمريض والمسافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 - عدم تكليف المجنون والمغمى عليه والصبي؛ لأنهم فاقدو العقل الذي هو مناط التكليف، وأساس التدين والالتزام؛ إذ لو كلف بشيء ما قدر على أدائهن ولَوقع في التكليف بما لا يطاق، وهذا ممتنع ومحال. - إباحة بيع السلم، والمساقاة، والمزارعة، والوصية، والإجارة للتوسعة والرفق، ولإبعاد الحرج والضيق عن الناس، والظاهر من تلك المعاملات أنها على خلاف القواعد والضوابط لعام المتبعة في المعاوضات والتعامل بين الناس، وأنا قد توقع الضرر والجهالة والغرر، وغير ذلك مما قد يعلل به منع تلك المعاملات وإلحاقها بأصولها ومظانها؛ غير أن النظر الدقيق لهذه المعاملات، وإلى عللها وحقائقها ومشروعيتها وضوابطها يؤول إلى القول بأنها أبيحت للتوسعة ورفع الحرج، دون أن تخل بالقواعد والأصول الشرعية المعتبرة. فبيع السَّلم وهو بيع آجل موصوف في الذمة بثمن عاجل يلاحظ فيه كون المبيع ليس معدومًا وقت العقد، وإنما هو موجود بالقوة في أطوار غير نهائية، مع الظن الغالب بأن سيكون موجودًا بصفة كاملة في الأجل المحدود. وعليه فإنه لا يحلق بالبيوعات المعدومة، لما فيها من الجهالة والغرر والضرر؛ بل هو من البيوعات الموجود بمآل لا بالحال؛ إذ الغالب الأكثر أن بيوعات السم آيلة إلى الوجود الكامل خلال زمن معقول ومناسب، وبشروط وأوصاف ومقادير محددة مضبوطة. فعلة النهي عن بيع المعدوم وهي الجهالة المفضية إلى الغرر والضرر والتنازع، وأكل مال الغير بلا وجه شرعي، وإن هذه العلة ليست موجودة في حقيقة بيع السلم؛ ولذلك أبيح وأجيز بالسنة النبوية الشريفة، ولو حَرِّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ومُنِع لكان في ذلك الحرج البالغ والمشقة المضنية التي يقدر عليها الناس. والحق أن الأمثلة على التكليف بما يطاق، وعلى التيسير والتخفيف لا تنحصر في أحكام الشرع الإسلامي العزيز. وهي ثابتة بأدلة جزئية وكلية كثيرة جدًّا. وهذه الأمثلة وتتبعها والنظر فيها بدقة وعمق وأمانة وإلمام وإخلاص وإدراج ضمن الأصول والقواعد والضوابط الشرعية ... إن كل ذلك يؤيد إلى تقرير خاصية يسر دين الله تعالى وسماحته وتوازنه وواقعيته وقدرة الناس على تطبيقه والعمل به دون عنت شديد وبلا مشاق قاهرة. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 1. الأدلة المعقولة: إن بقاء الشريعة ودوامها واستمرارها في مختلف البيئات والأعصار والأمصار، وفي مختلف الظروف والمناخات والجنسيات والمستويات، وفي شتى مجالات الحياة الفردية والاجتماعية والدولية والحضارية، وغير ذلك. إن ذلك وغيره دليل على واقعية الشريعة ومرونتها، وقدرتها الفائقة على التطبيق والتنفيذ والتفاعل مع كل الظروف والأحوال والتأثير فيها وتوجيهها نحو الخير والصلاح والسعادة في العاجل الآجل؛ فلو كانت الشريعة تنطوي على التشدد المذموم والتنطع والتعمق والمبالغة في التعبد والتعامل، ولو كانت على خلاف الفطرة السليمة والعقول   1 سورة البقرة، آية 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 السليمة، إنها لو كانت كذلك، أو كبعض ذلك لما شُهد لها بالدوام والاستمرار والخلود والبقاء إلى يوم الدين. فكم عرفت البشرية قديمًا وحديثًا أديانًا وضعية ومذاهب وتقاليد ومقدسات شتى، آل أمرها إلى الاندثار والتلاشي والنسيان، ولم تبق مظاهرها وآثارها، وانتهى كليا كل ما يتعلق بها، وحتى أسماؤها قد غابت وانقضت وذهبت بلا رجعة ولا أمل ولا عودة. ولعل أهم أسبابها مجافاتها للفطرة السليمة والخصائص الإنسانية والكونية والمعهودة والثابتة، ووقوعها في التزيد والتشدد والتنطع والتعمق والتزمت. ثم إن هذا التخفيف والتيسير ليس على إطلاقه وعمومه؛ وإنما هو منضبط بضابط التكليف ومخالفة الهوى والنزوات، الأمر الذي زاد في تأكيد خاصيات صلاحية الشريعة وواقعيتها ومرونتها، لجمعها بين مبدأ التكليف وحقائقه ومطلوباته وبين سمة التيسير والتوسعة بين مطالب الدنيا والآخرة، وبين الالتزام والاتباع والامتثال، وبين الترخص والتوسع وفق منهجية وسطية متزنة ومنضبطة، لا إفراط فيها ولا تفريط. وعليه فإن التيسير له مواضعه ومظاهره الثابتة بشرع الله وأحكامه، وليس متروكًا للهوى وللتشهي والتلذذ، وليس كذلك مردودًا وملغي لا يلتفت إليه، ولا يعمل به الميزان والمعيار في كل ذلك: اتباع التيسير والتوسة في المواطن والمواضع الصحيحة، عدم التنصل من التكليف أو من بعض أحكامه تحت تعلة التيسير والتخفيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بل لا بد من فعل التكيف الذي هو تحمل كلفة العبادات والمعاملات والالتزامات، والصبر على أدائها، والمداومة عليه، وانتظار الجزاء الحسن، والعاقبة الطيبة من الله الكريم عزَّ ثناؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المبحث الثاني: المشقة "حقيقتها-أنواعها-أمثلتها" المطلب الأول: المشقة التي يقدر عليها المكلف ... المبحث الثاني: المشقة "حقيقتها -أنواعها- أمثلتها" تتنوع المشقة بحسب القدرة على تحملها وعدمها إلى نوعين: 1- المشقة التي يقدر عليها المكلف. 2- المشقة التي لا يقدر عليها المكلف. المطلب الأول: المشقة التي لا يقدر عليها المكلف وهي المشقة التي يقدر عليها المكلف أثناء قيامه بما كلفه الله تعالى به في العبادات والمعاملات وغيرها. ومثال ذلك: مشقة الصلوات وأدائها قي أوقاتها، وإدراكها في المساجد وحسن الاستعداد إليها، وتمام الاستفاد منها، وكذلك مشقة اللوم في الحر، ومشقة الحج وما فيه من عنت تغيير العوائد، ومخالطة الكثيرة من الناس، ووقوع التزاحم والتدافع، وحصول الفرقة والبعد عن الأهل والأوطان، وترك الأموال والأملاك والوظائف والمناصب، وكذلك مشقة الجهاد في سبيل الله تعالى ما فيه من ذهاب الحياة وزوال الأموال والأطراف، وكذلك الإنفاق المالي بصوره المعروفة "الزكوات، الصدقات، التبرعات" وما فيه من عنت مخالفة الهوى والراغبة في تحصيل الأموال وتجميعها، والتي تحب الخير وتسعى إليه وتستأنس به قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1.   1 سورة العاديات، آية 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فهذه المشقة ولئن بدا فيها الضيق والعنت والشدة ومخالفة الهوى ومكابدة المصاعب ومجاهدة النفس؛ إلا أنها أعباء ضرورية لا بد منها في قيام الأحكام وأداء التكليف. فالأفعال الشرعية من عبادات ومعاملات وأنكحة وجنايات وكفارات مرتبطة بالمشاق والأعباء التي يقدر عليها المكلفون، والتي لا توقع أصحابها في الحرج والضرر، ولا تؤدي بهم إلى المفاسد والمهالك، وهي أمور تتلازم وترتبط بشكل وثيق ومتين بالأفعال والأعمال والأقوال والاعتقادات الشرعية والإسلامية؛ فالتكليف الشرعي لا يقوم إلا بها، وهي تدور معه وجودًا وعدمًا، والتكليف الشرعي لم يعتبر تكليفًا إلا لما فيه من الكلفة الشاقة، ولما ينطوي عليه من تحمل بعض الأتعاب والإجهاد النفسي والجسدي والعقلي الذي يؤهله لمرتبة التكليف المرجوة. وحال هذه المشاق في الأعمال والأفعال الشرعية كحال المشقة في سائر أعمال الدنيا ومختلف الفنون والشئون والأحوال، وطلب الرزق والسعي في الأرض لتحصيله، ومزاولة الحرف والصناعات، والأسفار والرحلات والزيارات، وإنجاز الأفراح والزيجات والحفلات وتنظيم المناسبات والمهرجانات والملتقيات، وإعمار الأرض وتنميتها وتزيينها وتنظيمها. كل ذلك فيه من المشاق والأعباء، ومن التعب والنصب ما يجعل استبعاد تلك المشاق الأعباء أمرًا معطلًا لقيام تلك الفنون والأعمال، ومفوتًا لمصالح المعاش والعباد، ومخربًا لنظام الحياة والوجود. وخذ إن شئت مثال الأكل، ومثال الجماع لتدرك بمنتهى الوضوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 والجلاء ما لذينك الفعلين من المشاق والتكلفة والالتزامات، وهما على الرغم من ذلك فإنك تلحظ الإقبال عليهما والرغبة فيهما، وكيف أنهما من أمارات السعادة والسعة، ومن علامات الخير والرفاهية، ومن ضروب الطيبات والمباحات التي أنعم بها الخالق الأكرم جلَّ جلاله تفضلًا وإحسانًا على عباده وخلقه. فالأكل مسبوق بمشاق الضرب في الأرض، والبحث عن الرزق وتحصيله وإحضاره وتناوله، وهو متبوع بمشق هضمه وإفرازاته وإخراجه، وتطهير مواضعه من الآكل نفسه، ومن الأرض ومحيطها وبيئتها، ثم هو قد يتبع على المدى البعيد بآثار ورواسب من الأضرار والعيوب الصحية والنفسية والبيئية؛ بل إنه قد يتبع في الأجل الأبعد عند وفاة الإنسان وبعثه وحشره بسوء الخاتمة وسوء الحساب بسبب الكسب الحرام والأكل الحرام. فقد لاحظت كيف أن الأكل باعتباره عملية يومية عادية، وشأنًا سعيدًا ومسعدًا، كيف أن المشاق قد أحاطت به من كل جانب، وكيف أن الآلام قد لازمته في أطوار مختلفة في المعاش والمعاد، في الدنيا والآخرة. غير أن الأكل ظل ولا يزال أمرًا لا بد منه، وضرورةً لقيام النفس والحياة، وأن المشاق التي ينطوي عليها ويؤول إليها متلازمة لا تنفك عنه ولا تتخلص منه. ما المثال الثاني الذي نورده للتدليل على أن المشاق المقدور عليها، ينبغي أن تتحمل للقيام بالتكليف؛ فهو مثال الجماع: فهو فعل محبوب ومرغوب، وطريق مشروع للتناسل والإعمار، وسبيل لحفظ الأعراض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 القيم والأنساب، وإجراء لتنظيم الحياة والعلاقات، ودرء الفوضى والاضطراب، والهرج والمرج أي كثرة الاقتتال وشدته بسبب الوقوع في الأعراض والحرمات. فالجماع المشروع الحلال موصوف بكل صفات الفضيلة والحسن والجمال، وهو استجابة للفطرة وسد للحاجة، وأداء لوظيفة التكليف والاستخلاف والإعمار، وهو فوق ذلك مدعو إليه ومرغوب فيه، ومَثْنِي عليه في نصوص الكتاب والسنة وغير ذلك مما يجعل الجماع أو النكاح مقصدًا معتبرًا، أو أصلًا وسبيلًا لمقاصد جمة، ومصالح عدة. غير أن الجماع المحبوب والمرغوب فيه منوط بالمشاق والآلام، ومرتبط بالأتعاب والإعياء، فهو منوط بمشقة الاستعداد والتحضير، وأعباء الإنفاق والتربية والرعاية ومختلف صور التعب والنصب في القيام بواجب الزوجية والأبوة وربما الجدودة في مختلف الأطوار والأحوال؛ بل إنه مسئولية عظمى أمام الله تعالى إن لم تؤدَّ على حقها وبشروطها. فهل لك بعد هذين المثالين من قول أو تفكير لإسقاط المشاق التي لا بد منها في القيام بالأعمال الدنيوية أو الأخروية. إن الخلاصة لهذا كله أن المشقة المقدور عليها تُتحمَّل، وتَؤُدَّى لتحقيق التكليف وإنجازه وصحته. أما المشقة غير المقدور عليها فإنها مدفوعة ومرفوعة، كما سنبين ذلك فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 المطلب الثاني: المشقة التي لا يقدر عليها المكلف وهي المشقة التي لا يستطيع المكلف تحملها ولا القيام بها، والتي هي التكليف بما لا يطاق الذي إذا فعل أوقع في العناء والتعب الذي لا يجدي. أو هي التي يستطيع المكلف تحملها؛ غير أنها خارجة عن المعتاد في الأعمال العادية؛ بحيث يحصل للنفوس التشوش والقلق في القيام بِهَا، لما في ذلك من التعب الشديد والحرج البالغ. ومثال هذا الضرب: الوصال في الصوم، ففي القيام به خروج عن المعتاد الذي يوقع في الملل والسآمة، ويؤدي إلى اضطراب النفس وتشوشها وضيقها؛ مع أنه مستطاع ومقدور عليه؛ لكنه غير معتاد؛ لذلك شرع الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللًا ولا كللًا؛ فهذه المشاق التي لا يقدر عليها، سواءً أكانت من قبيل ما لا يطاق أم كانت من قبيل ما يطاق؛ لكنها غير معتادة ومفضية إلى الملل والسآمة، وربما إلى ترك التكليف من أصله؛ فهذ المشاق غير مقصودة من قبل الشرع، ولا يتعلق بها تكليف. ولا يجوز للمكلف قصدها واعتبارها وترتيب الأعمال على وفقها؛ فإن الشاعر لم يقصد إلى التكليف بالمشاق والإعنات فيه. وأدلة ذلك: 1- النصوص الشرعية الكثيرة، كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 1.   سورة البقرة، آية 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1. وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} 2. وقوله: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} 3. 2- الرخص الفقهية الكثيرة التي دلت على مطلق رفع الحرج والمشقة، كرخصة القصر والفِطْر والجَمْع، وتناول المحرمات في الاضطرار، وغير ذلك من الشواهد والفروع التي دلت على أن الشارع لم يكن قاصدًا للمشقة في التكليف، ولا الحرج والعنت فيه.   1 سورة الحج، آية 78. 2 سورة النساء، آية 28. 3 سورة البقرة، 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 المطلب الثالث: أمثلة المشقة التي لا يقدر عليها المكلف أ- أمثلة المشقة التي لا تطاق: - صوم الدهر. - القيام في الصلاة للعاجز عنه. - الخشوع الكامل في الصلاة والانتباه المتواصل من أول الصلاة إلى آخرها، دون صرف الذهن عن حقيقتها وعظمته؛ فهذا من قبيل ما لا تطيقه النفس وإن قدرت على معظمه أن أغلبه، والمصلُّون يتفاوتون في درجات الخشوع بحسب مراتب إيمانهم وصلاحهم واستعدادهم لأداء الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ب- أمثلة المشقة التي تطاق لكنها غير معتادة. - الصوم في السفر والمرض. - الوصال في الصوم أي: مواصلة الصيام دون قطعه بالإفطار بعد الغروب؛ فهو على خلاف الصوم المشروع الذي لم يقصد به مجرد إتعاب النفس. - إدامة قيام معظم الليل؛ إذ يورث ذلك الملل الذي قد يوقع المكلف في ترك القيام جملة، أو قد يفوت عليه مصالح أخرى أهم أو مساوية لهذا القيام، كطلب العلم والرزق وأداء واجب النصح والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبوسع المكلف أن يلائم بين قيام الليل باعتباره تعبد الصالحين والمقربين، وبين سائر الالتزامات الشرعية الأخرى. - عدم التزوج مقدور عليه لكنه غير معتاد، وتأباه الفطرة ويفوت مقاصد العفة والتناسل والأنس بالذرية، وإعمال الكون، ويوقع في تضييق ما وسعه الله تعالى، وهذا ممتنع ومذموم. - تحريم الدم غير المسفوح: المعلوم أن الله تعالى حرم الدم المسفوح، أما الدم غير المسفوح والموجود في العروق والمتبقي في اللحم والشحم والذي يصعب خروجه؛ فإنه جائز ومعفو عنه، ولو كلف الإنسان بتخليص اللحم والشحم منه ولوقع في دائرة ما لا يطاق. - قد رخص الله تعالى في تناول الميتة عند الضرورة القصوى، كإشراف المضطر على الموت أو الهلاك المبيِّن ولو أن الله تعالى أبقى على تحريمها في حالة الاضطرار، لوقعت نفس المضطر في ما لا تطيقه ولا تقدر عليه بأي وجه من وجوه التحمل، ولأدرك الهلاك والضرر والمحالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 المطلب الرابع: مخالفة الهوى من قبيل المشقة المستطاعة ورد التكليف الشرعي لحمل النفس على الانقياد والاستسلام إلى أحكام الله وأوامره وتوجيهاته، ولخروجها من دائرة الهوى والتشهي والتلذذ، ولصرفها عن عالم الفساد والرذائل والشرور، إلى عالم الصلاح والفضائل والخير والسعادة. وتعد مخالفة الهوى مشقة كبرى على النفس البشرية؛ إذ إن حمل هذه النفس على ما ذكرنا -من وجوب الانقياد إلى الأوامر والالتزامات، ولزوم الابتعاد عن الشهوات والنزوات واللذائذ غير المباحة، وضرورة انضباطها بقواعد الأخلاق والفضائل وخضوعها للحق والعدل والإنصاف- شاق عليها متعب لها، مخالف لرغباتها وتنزواتها؛ لكنه لازم في قيام مصالح الدين والدنيا. فالشرع لم يأت إلا إلى إخراج الإنسان من دائرة هواه ونزواته إلا طريق الله المستقيم؛ ائتمارًا بالمأمور به، وانتهاءً عن المنهي عنه؛ وذلك عين المقاصد الشرعية المعتبرة التي لا تنفك عن مشاق ذلك وصعوبته، وتلك المشاق في الحقيقة ميسورة ومستطاعة إذا تعودت النفس على الطاعة والامتثال، وإذا رغبت ورهبت وأخلصت الأمر إلى خالقها سبحانه وتعالى. كما أن تحمل تلك المشاق موصل إلى تحقيق عديد المصالح والمنافع في الدنيا والآخرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ومبعد لمفاسد وأضرار اتباع الهوى ومسايرة النفس الأمارة بالسوء. وعليه فإن مخالفة الهوى ومغالبة النفس، ومكابدة الشدائد في فعل الواجبات والالتزمات الشرعية على امتداد الأعمار والأطوار لا يعد من قبيل المشاق التي لا تطاق، أو المشاق الخارجة عن المعتاد والمألوف؛ بل هي من صميم التدين الصحيح والامتثال المطلوب والتكليف الهادف إلى صلاح الإنسان وسعادته في الدارين. مخلص حقيقة المشقة وأنواعها وأمثلتها: يمكن تلخيص حقيقة المشقة ضمن النقاط الثلاث التالية: النقطة الأولى: المشقة نوعان: أ- المشقة التي لا يقدر عليها المكلف: وتشتمل المشقة التي لا يطيقها المكلف أصلًا، أو المشقة التي يطيقها؛ ولكنها خارجة عن المعتاد الديني والدنيوي، أي المشقة التي فيها التكليف بالزائد عن المطلوب والمأمور به، والتي توقع صاحبها في الملل والسآمة، وتشوش ذهنه وحاله، وتفوت عليه مصالحه ومنافعه وحاجياته الأخرى في الدين والدنيا. ومثال هذا: دوم قيام معظم الليل، والتواصل في الصوم، وغير ذلك مما هو فوق تكليف المعتاد والمعهود من الشارع الحكيم، ومما هو موقع في تعطيل مصالح أخرى كثيرة، كمطلب الرزق والعمل وإهمال النفس والأهل والمجتمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ب- المشقة التي يقدر عليها المكلف: وهي المرتبطة بسائر الأحكام والأوامر والالتزمات الشرعية في مجال العبادات والمعاملات والتصرفات المختلفة، وهذه المشقة لا تنفك عن التكليف ولا تتخلص منه، وهي تدور معه وجودًا وعدمًا، والتكليف لا يعد تكليفًا إلا إذا انطوى على ما فيه الكلفة الشرعية والمشقة اللازمة. النقطة الثانية: مشقة مخالفة الهوى لا تعد مشقة قاهرة، ولا تنضم إلى معاني الشدة والتعنت والتنطع والتعمق، ولا تعتبر من قبيل التكليف بما لا يطاق؛ بل هي مقدورة ومستطاعة ومشروعة لحمل الإنسان على التكليف والامتثال ولجلب مصالحه في العاجل والآجل، بجلب النفع له ودرء الفساد عنه، وتحقيق مرضاة الله عز وجل والفوز بجناته وأنعمه. النقطة الثالثة: المشقة المنوطة بالتكليف ليست مقصودة في ذاتها؛ وإنما المقصود المصالح العائدة على المكلف؛ وعليه فإن المكلف لا يجوز له أن يقصد المشقة لعظم أجرها، وله أن يقصد العلم الذي يعظم أجره لمشقته من حيث هو عمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 المبحث الثالث: رفع الحرج في الشريعة وبناء أحكامها على التيسير مدخل ... المبحث الثالث: رفع الحرج في الشريعة وبناء أحكامها على التيسير الحرج: هو كل ما يؤدي إلى المشقة التي لا يقدر عليها المكلف ولا يستطيع القيام بها، أو المشقة التي يقدر عليها؛ ولكن بإجهاد كبير وعنت شديد قد يفوت عليه بعض المصالح المشروعة، أو يجلب له بعض المفاسد المضرة. ورفع الحرج معناه: إزالة تلك المشقة بنوعيها، وأمر المكلف بأوامر وتكاليف يقدر عليها ويستطيعها، وتجلب له مصالح الدارين. وقد تأكد بنصوص وأدلة كثيرة أن دين الله تعالى يسر وسمح، ليس فيه حرج ولا ضيق. ومن تلك الأدلة: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} 2. وقد انبنى على رفع الحرج تقرير قاعدة التيسير والتخفيف. ومعنى كل ذلك تكليف الإنسان بما يطيق ويقدر، فهمًا وتطبيقًا، أي تكليفه بنصوص شرعية يقدر على فهمها وتعقلها واستيعابها، وتكليفه بأوامر وتكاليف يقدر على فعلها وممارستها.   1 سورة الحج، آية 78. 2 سورة البقرة، آية 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 المطلب الأول: رفح الحرج لا يعني ترك التكليف أو التهاون فيه ... المطلب الأول: رفع الحرج لا يعني ترك التكليف أو التهاون فيه أقول بأن دين الله يسر مخفف، وبأن الحرج مرفوع ومدفوع، لا يعني إطلاقًا التكليف، أو التهاون فيه بترك بعض الواجبات وتغيير أوقاتها، أو كيفياتها وقاصدها استجابة لهوى النفس وشهواتها، أو لضغط الواقع والحياة، أو لرغبات بعض الناس وميولاتهم قصد ترضيتهم وجلب عواطفهم ومكرماتهم، وما أشبه ذلك. بل إن رفع الحرج يعني -كما هو مقرر ومعلوم: فعل الأوامر كما أمر بها الله تعالى على الحد الأوسط بلا إفراط ولا تفريط، على الوجه المحدد شرعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 المطلب الثاني: ومن أمثلة رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ... المطلب الثاني: ومن أمثلته رفع الحرج في الشريعة الإسلامية - الرخص الفقهية في السفر والمرض والمطر. - إباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع الشديد أو العطش الشديد المفضين إلى الهلاك أو الموت. - العفو عن يسير الدم ويسير المشي والكلام في الصلاة. - تخفيف الصلاة الجماعية وعدم تطويلها. - كراهة العزوبة، والنهي عن التبتل والانقطاع إلى الآخرة وترك حاجات الدنيا المشروعة. - تجويز بيع السَلَم والمزارعة والمساقاة والمغارسة والمضاربة وأجرة الحمّام والسقاء والفنادق، والغرض من كل ذلك تيسير التعامل بين الناس، وجلب ما ينفعهم وإبعاد ما يضرهم. وكل ذلك مشروط بشروط معتبرة ومقررة في مواضعها. والحق أن الأمثلة في هذا الصدد كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في الكتب القديمة والحديثة. وهي تفيد على سبيل القطع واليقين أن أحكام الشريعة يسيرة وسهلة، تستجيب للفطر السليمة وتلبي حاجات الإنسان العاجلة والآجلة وتحقق مرضاة الله تعالى في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المبحث الرابع: قدرة المكلف على فهم التكليف المطلب الأول: فهم التكليف باللسان العربي ... المبحث الرابع: قدرة المكلف على فهم التكليف تبين في هذا المبحث كون الأحكام الشرعية يسيرة الفهم والاستيعاب والتعقل من قبل المكلفين؛ لأنها في متناولهم وبحسب مختلف مداركهم؛ ولذلك نزل على الأمين لتصلح للعالمين فيما بعد. المطلب الأول: فهم التكليف باللسان العربي من المعلوم قطعًا أن القرآن الكريم قد نزل بلسان العرب على الجملة، ونزل على وفق اللغة العربية وأساليبها وخصائصها وقواعدها؛ فيكون فهم أحكام وتعاليم ومعاني القرآن من هذا الطريق خاصة. ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1. وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2. وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ} 3. فقد قررت الآيات السابقات كون القرآن الكريم أنزل على لسان العرب معهود في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، والعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك   1 سورة يوسف، آية 2. 2 سورة الشعراء، آية 195. 3 سورة فصلت، آية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف المعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمى الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها1. فقد تبين مما مضى أن اللغة العربية التي نزل القرآن الكريم بمقتضاها تتميز بميزات كثيرة، وتتسم بسمات عديدة، من ذلك: أنها تستعمل اللفظ العام لتدل به على الخاص. أنا تستعمل الفظ الظاهر لتدل به على غير الظاهر. أنها تسمى الشيء الواحد بأسماء كثيرة كتسمية الأسد بأسماء: "قسورة، ونبسة، والليث". وأنها تسمى الأشياء الكثيرة باسم واحد كإطلاق لفظ العين على منبع الماء أو العين الجارية، وعلى العين المبصرة، وعلى ذات الشيء وحقيقته، وعلى حراس الحاكم والسلطان وغير ذلك. وأنها تستعمل الأمر لتستدل به على طلب الفعل كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} 2. وتستعمل الأمر لتدل به على الدعاء والتضرع، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 3.   1 الموافقات 2 / 65-66. 2 سورة المزمل، آية 20. 3 سورة البقرة، آية 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وتستعمل الأمر لتدل به على اليأس والقنوط، كما في قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. وأنها تستعمل النهي لتدل به على ترك المنهي عنه سواء على وجه اللزوم والتأكيد، أو على وجه الكرامة. وتستعمل النهي لتدل به على الإرشاد والوجهين، ولتدل به على الزجر والردع، ولتدل به على غير ذلك من المعاني، المبسوطة في مظانها من كتب علم اللغة، وعلم أصول الفقه. وبناء على ما ذكر فإن الواجب على المجتهدين والعلماء مراعاة هذه الحقيقة القطعية في فهم الأحكام والتعاليم والمعاني الثابتة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة، وفي فهم وإدراك مقاصد ومرادات وغايات وأسرار تلك الأحكام والتعاليم. ومن أراد فهم وتحصيل ذلك بغير معرفة اللسان العربي وأساليبه وخصائصه وأدواته؛ فقد أوقع ذهنه في فهم تحصيل ما لا يحتمله الوحي الكريم من المعاني والدلالات، وقد أوصل نفسه إلى أفهام خاطئة، وأعمال بعيدة عن مراد الشارع ومقصوده. قال الشاطبي: القرآن نزل بلسان العرب على الجملة؛ فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة2.   1 سورة التحريم، آية 7. 2 الموافقات: 2/ 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المطلب الثاني: هل يمكن فهم القرآن بغير لغته التي نزل بها؟ لقد ذكرنا سابقًا بأن القرآن لا يمكن أن يفهم إلا بلغته التي نزل بها، وعلى وفق معهود العرب في التخاطب أيام النزول، ولا يمكن البتة فهم القرآن بغير لغته التي نزل بها: أ- سواء بلغة العرب في غير عصر النزل؛ وذلك لما يحتمل أن يطرأ على لغتهم وتخاطبهم من التغيير والتطور والتبديل، ولو على مستوى بعض الكلمات والعبارات والأساليب التي يكون تغيرها عن معهود العرب أم نزول الوحي مؤديا إلى تغيير المراد الشرعي ومقصوده. ب- أو بلغة غير العرب أصلًا، أي باللغات الأعجمية التي لها أساليبها وخصائصها التي لا تعبر بالضرورة عن مدلولات العربية وأساليبها كليًّا أو جزئيًّا. وعليه فترجمة القرآن إلى لغة أعجمية "فرنسية، إنجليزية، أسبانية، أردية" وفضلا عن كونها تسلب خاصة الإعجاز والإفحام؛ فإنها لا توصل إلى استنباط المعاني والمقاصد الشرعية المستنبطة من القرآن، وعلى وفق اللسان العربي أيام النزول إلى لغة أخرى بقصد إفهام وتكليف الأعاجم الذين لا يقدرون على الفهم باللغة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 المطلب الثالث: أمية الشريعة وعالميتها الشريعة الإسلامية المباركة -كما يقول الشاطبي- أمية؛ لأن أهلها كذلك؛ فهو أجرى على اعتبار المصالح. ومعنى ذلك أن فهمها ومعرفة أوامرها ونواهيها لا يحتاج إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات، فإنها لو لم تكن كذلك لما وصت جمهور الخلق من عرب وغيره؛ فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولًا، ثم تطبيقها ثانيا. وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف؛ لأنه عام يجب أن يفهمه العرب الجمهور ليمكن الامتثال، أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر؛ فهو موكول إلى الخواص الذين يتفاوتون في فهمها بحسب ما يسره الله لهم1، ولذلك تستلزم من أمية الشريعة خاصية عالميتها، وكونها موجهة للعالمين في كل الأزمان والبقاع ومختلف الظروف والأحوال.   1 الموافقات: 2/ 69 بتصرف من شرح عبد الله دراز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 المطلب الرابع: أدلة كون الشريعة أمية قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} 1. قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} 2. قال صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية" 3. قال صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتُب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا" 4.   1 سورة الجمعة، آية 2. 2 سورة الأعراف، آية 158. 3 جزء من حديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصوم، باب: الشهر يكون تسعًا وعشرين. 4 هامش الموافقات: عبد الله دراز: 2/ 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 المطلب الخامس: حقيقة الأمية ومعناها الأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يُعلَّم كتابًا ولا غيره؛ فهو على أصل خلقته التي ولد عليها. والأمية كما جاءت في الحديث: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب" 1. معناها عدم الحساب والكتابة. والناظر في واقع العرب أيام نزول الوحي يدرك أنهم كانوا يعتنون بعلوم كثيرة؛ غير أنهم لم يكونوا متغلغلين في العلوم الكونية والرياضيات2؛ وذلك راجع إلى طبيعة عصرهم في ذلك التاريخ الذي لم يشهد ما شهدته العصور اللاحقة من التطور والتدقيق والتخصص. ومن تلك العلوم 3: - علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر ... - علوم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحب وهبوب الرياح المثيرة لها.   1 جزء من حديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصوم، باب: الشهر يكون تسعًا وعشرين. 2 هامش الموافقات: عبد الله دراز: 2/ 69. 3 الموافقات: 2/ 71 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 - علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية. - المعارف الضّارة والباطلة، على نحو: الطِيَرة والكهانة والضرب بالحصى وخط الرمل. فقد أبطلت الشريعة ذلك، وأقرت الفأل الحسن. - علم الطب المأخوذ من تجارب الأميين والأقدمين. - العلم بفنون البلاغة والفصاحة. - العلم بضرب الأمثال. - التمسك بأصول فضائل كثيرة، على نحو القراض، وتقدير الدية، وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، والقسامة، وتوريث الولد للذكر مثل الانثيين، وقد أقر الإسلام تلك الفضائل وأبطل ما كان باطلًا على نحو: الميسر والخمر والربا والثأر. فمعنى كون الشريعة أمية: أ- أن الذين تلقوها أميون، أي: على أصل خلقتهم وفطرتهم، لم يتعلموا كثيرًا من العلوم من ولم يتغلغلوا فيها. ب- أنا لو كانت غير أمية لما تيسر فهمها وتعقلها وتطبيقها، وهي مع ذلك شريعة عالمية وكونية وعامة وشاملة وصالحة لكل زمان ومكان. فقد تبين لك مما ذكرنا أن الأمية لا تعني الجهل المطلق بالأشياء والحقائق أو انعدام المعرفة بسائر الفنون والعلوم الأدبية والإنسانية والكونية، وإنها يعني من ناحية عدم التغلغل في العلوم الكونية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 والرياضيات بصفة خاصة، ومن ناحية ثانية، تعني الأمية: وصفا جاء التشريع على وفقه، بأن ورد التكليف بما عهد عند العرب في لغتهم وأساليب تخاطبهم وما كان معروفًا عندهم؛ فلم يخاطبهم التشريع بما لا يعرفونه أو لا يفهمون معناه سواء من جهة اللفظ ودلالته وأسلوبه، أو من جهة أدوات الفهم التي تكون فوق طاقتهم العلمية والإدراكية، كأن يشترط العلم بدقائق العلوم وجزئياتها النظرية والتطبيقية في علم الحياة والكون والنفس والتاريخ وغير ذلك. والمقصد من كل ذلك هو تمكين العرب زمن الرسالة، وسائر جمهور الناس في مختلف الأزمان والبقاع من فهم التكليف والقدرة على تطبيقه والقيام به. ومن ثم تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلا، ليسعه الدخول تحت حكمها. أي أن المكلف الأمي وغيره يكون بوسعه فهم التكليف واستيعابه وتعقله وتمثله، ويكون بوسعه الإتيان بذلك التكليف والقدرة على تطبيقه؛ سواء أكان ذلك التكليف متعلقًا بمجال العقدية والإيمان والتصور والتصديق، أم كان متعلقًا بمجال العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات وسائر ما تتعلق به الأحكام ومطالب الشارع، وأمرًا ونهيًا، إعمالًا وإهمالًا. والحق أن جعل المكلف الأمي وغيره قادرًا على فهم التكليف وتطبيقه، هو مقصود الشارع من وضع الشريعة والتكليف بها؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لكن ذلك التكليف خارجًا عن طاقة المكلف، وإلزامًا بما لا يقدر عليه ولا يستطيع تطبيقه، وهذا كله محال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ثم إن نزول الوحي بمعهود لسان العرب يشير إلى حقيقة الإعجاز القرآني، وكونه مما لا يمكن الإتيان بمثله على الرغم من نزوله على وفق أسلوب العرب وطريقتهم في التخاطب والتحادث؛ فقد تحداهم الوحي بشيء يعرفونه ويمارسونه بل يتقنونه يتفننون فيه أيما تفنن، ويبدعون فيه غاية الإبداع، ولو لم يكن القرآن الكريم نزل بمقتضى عادة العرب في تخاطبهم وأساليب لغتهم ما كان لوجه الإعجاز معنى ولا فائدة؛ إذ يمكن لهؤلاء العرب، ولغيرهم أن يبرروا عدم القدرة على الإتيان بمثل القرآن -مبنى ومعنى- بكون واردًا بأسلوب لا يعلمونه ولا يفهمونه، وما كان كذلك فلا يوقعهم في التعجيز والتحدي والإفحام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 المبحث الخامس: إدخال المكلف في دائرة العبادة والامتثال وإخراجه من دائرة الهوى المطلب الأول: واجب المكلف "عبادة الله ومخالفة هوى النفس" ... المبحث الخامس: إدخال المكلف في دائرة العبادة والامتثال، وإخراجه من دائرة الهوى يتعلق هذا المبحث بالمطالب والمسائل التالية: المطلب الأولى: تحقيق مقاصد عبادة الله، ومخالفة هوى النفس وبيان مراده ومعناه، وعرض أدلته من النصوص والأحكام الشرعية والتجارب الحياتية. المطلب الثاني: العمل الذي يمتزج فيه هوى النفس ومقصود الشارع ، وبيان معناه والحكم علي في ضوء حيثياته ومعتبراته. المطلب الثالث: المقاصد الأصلية والتابعة من حيث حقيقتها وأمثلتها وعلاقاتها ببعضها. المطلب الأول: واجب المكلف "عبادة الله، ومخالفة هوى النفس" كل الأحكام والتعاليم الشرعية والإسلامية جاءت لتقرير العبودية الكاملة لله تعالى، لإخراج الإنسان من دائرة هوى نفسه. يقول الشاطبي: المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا1.   1 الموافقات: 2 / 768. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الأدلة على أن العباد خلقوا لعبادة الله تعالى ومخالفة هوى نفوسهم. 1- الأدلة من النصوص الشرعية: هناك الكثير من النصوص القرآنية والنبوية، وكثير من الإجماعات والآثار الإسلامية الدالة على أن العباد مخلوقون لعبادة الله تعالى، والامتثال لأحكامه وتوجيهاته، أمرًا ونهيًا. ويمكن أن نورد بعض تلك الأدلة فيما يلي: - قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. - قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} 2. - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3. - قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 4. - قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5. - قوله صلى الله عليه وسلم: "حق الله على العباد أن يعبده ولا يشركوا به شيئا" 6.   1 سورة الذاريات، آية 56. 2 سورة طه، آية 132. 3 سورة البقرة، آية 21. 4 سورة النساء، آية 36. 5 سورة النحل، آية 36. 6 جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 من الأدلة على ذم الهوى ومخالفة الأوامر والأحكام الشرعية: - قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} 1. - قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 2. - قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} 3. - قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 4. - قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 5. - قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 6. قال الشاطبي: "فذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى، والدخول تحت التعبد للمولى"7.   1 سورة النازعات: آية 37-39. 2 سورة النازعات، آية 40-41. 3 سورة الجاثية، آية 23. 4 سورة المؤمنون، آية 71. 5 سورة محمد، آية 16. 6 سورة محمد، آية 14. 7 الموافقات: 2/ 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 2- الأدلة من الأحكام: من الأدلة والبراهين على أن العباد خلقوا لعبادة الله، وإخراجهم من هوى نفوسهم: جملة الأحكام الشرعية، وسائر الأوامر والنواهي الداعية إلى الامتثال والخضوع والعبادة، والساعية إلى تنظيم المعاملات الإنسانية على وفق الهدى والتعاليم الإلهية، وليس بقضى ما تمليه مختلف الشهوات والنزوات والأهواء التي كثيرًا ما تتناقض وتتعارض وتتزاحم. والأوامر والنواهي الشرعية تشمل التوحيد والعقيدة، وتشمل العبادات والمعاملات. أ- فعلى مستوى التوحيد والعقيدة: أمر المكلف بتوحيد الله تعالى وإفراده الخضوع والعبادة والتوكل والدعاء والخوف والرجاء والخشية والمحبة والموالاة والذبح والتقرب. وأمر التصديق بسائر أركان العقيدة الإسلامية، كالإيمان بالملائكة والكتب المنزلة عنده والرسل والأنبياء واليوم الآخر. كما نهى المكلف عن الشرك والرياء والنفاق، وعبادة الأشخاص والأصنام وتقديس القبر والأضرحة والشعارات والأذكار والعادات والتقاليد، وكل ما يخل بالعقيدة الإسلامية الصحيحة الداعية إلى عبادة الله وحده، بلا شريك ولا نظير في اسم أو صفة أو فعل. ب- وعلى مستوى العبادات: شرعت الأحكام الكثيرة المتعلقة بتنظيم علاقة المكلف بربه تعالى، على نحو الصلوات وصيام رمضان، وأداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الزكاة والصدقات، وأداء الحج والعمرة، والقيام بالكفارات والنذور، وفعل التطوع والتقرب إليه بالنوافل والأذكار، وشتى القربات والصالحات التي توقع في النفس معاني الرغبة والرهبة، وتورث فيها الخضوع إلى الله، والامتثال إلى أحكامه أمرًا ونهيًا، والتي تبعدها عن الظواهر السيئة والصفات والرذيلة، على نحو الخمول والجمود والكسل والإفراط في الراحة واللذات والرفاه. ج- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالمعاوضات: شرعت أحكام البيع والشراء والغصب والربا والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وبشتى صورة وكيفياته، وكان المقصد من كل ذلك حمل النفس على العدل والإنصاف والاستقامة، وإخراجها من دوائر الأنانية والجشع والطمع والتحايل في أخذ حقوق الناس وأمتعتهم، والتغرير بهم عن قصد لإلحاق الضرر والأذى بهم. د- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالأنكحة: شرع الزواج، ودعي إليه ورغب فيه، وحث على تيسيره وتخفيفه، ومن الزنا والاختلاط والنظر بقصد الشهوة والتلذذ، وهتك العرض، ونهى عن الخلوة؛ لأنها قد تؤدي إلى وقوع الفتنة والزنا، ووضع العقاب للشاذين والمنحرفين بممارسة الزنا أو اللواط أو السحاق في السرِّ والعلن، بالتراضي والإكراه، في حالة العزوبة والإحصان. والمقصد من كل ذلك هو حفظ النسل والأعراض والأنساب من التداخل والفوضى والدوس والانتهاك، وصيانة العفة والكرامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 والحشمة الأخلاقية والأنسانية المقررة في كل الأمم والأجيال، وفي مختلف الظروف والأحوال. كما أن من مقاصد ذلك، تربية نفس الإنسان تزكيتها وتهذيبها مما قد يعلق بها من ظواهر الانحراف والزيغ وحب الشذوذ، والرغبة في مزاولة المتع المحرمة، ومناولة اللذائذ الجنسية العابرة بلا قيد لا ضابط، كما هو الحال في كثير من البلاد العالمية التي انشرت فيها مظاهر الإباحة الجنسية، والميوعة الأخلاقية، والتسيب القيمي، والانحلال بمختلف صوره ومجالاته. ومن مقاصد ذلك أيضًا تعويد النفس على الصبر والتضحية والاستقامة والعفة، وحملها على مخالفة هواها، ومواجهة حديثها ووساوسها وخواطرها التي تزين الشهوة المنحرفة وتلمعها، وتجعلها من أعز المطالب وخواطرها من أحسن المبتغيات وأفضل ما يسعد به الإنسان. ومن أجل تحقيق الاستقامة والعفة، وحفظ الأعراض والأنساب والنسل، وإخراج، النفس من دائرة هواها ونزواتها، شرعت جميع أحكام الزواج، وما يتعلق به من الحث عليه، والدعوة إلى تيسيره وتسهيله، والصبر والاصطبار عند العجز عنه بالتوكل على الله تعالى، وأداء فعل الصوم الذي هو وقاية لصاحبه، وبغض البصر، وتجنب الخلوة والاختلاط، وغير ذلك مما هو ضروري لتحقيق ذلك. هـ- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالجنايات والدماء: وضع القصاص والحدود والعقوبات للقتل العمد والعدوان والحرية وقطع طريق وسائر مظاهر الترويع والفساد والإفساد في الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ومقصد ذلك كله حفظ النفس وصيانة الحياة، ومنع التعدي والاعتداء والظلم والثأر، وزجر المعتدين الظالمين انزجار وإرداع غير المعتدين الذين قد تُسوِّل لهم نفوسهم يومًا ما بفعل القتل والتمثيل والترويع والتخويف والإفساد. ومقصد ذلك أيضًا: حمل النفس على الاستقامة والاتزان، وإبعادها عن نزوات الثأر والانتقام والتشفي، وإخراجها من دائرة الاستخفاف بحرمة النفس وكرامة الإنسان، وحقه في الحياة والسلامة والأمن. ولو بقيت النفوس والمجتمعات بلا حد أو قيد لأهواء النفوس وخواطرها لفسد التعامل واختل النظام، ولتعاظم الهرج والمرج، ولكثر القتل وتعاظم وتزايد بلا حد ولا حصر. ولذلك كله جاءت الأحكام الدقيقة والمضبوطة المنظمة للتعامل في مجال البيوعات والمعاوضات، وفي مجال الأنكحة والزواج، وفي مجال الجنايات والدماء، وبقصد حفظ نظام الحياة واستقرارها وسلامتها، ولصيانة الناس في نفوسهم وعقولهم أعراضهم وأنسابهم وأموالهم. وكل ذلك لن يكون حاصلا إلا بإخراج الناس من دوائر أهوائهم ورغباتهم المنحرفة بحصول الاستقامة الذاتية، والالتزام الطوعي الاختياري، أو بحصول الامتثال والانقياد إلى احترام ذلك، ومراعاته حتى يكون الحق أحق أن يتبع، وحتى لا يكون الحق تبعًا لأهواء الناس، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} 1.   1 سورة المؤمنون، آية 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 والخلاصة أن الأحكام الشرعية لا تخلو من الأحكام الخمسة المعلومة: الوجوب والتحريم الندب والكراهة والإباحة. فأما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتهما لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار، وأما الندب والكراهة والإباحة -إن كان ظاهرًا الدخول تحت خيرة المكلف واختياره- فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره؛ فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره. وفي كل الأحوال تكون الأحكام الشرعية الخمسة قد أخرجت المكلف من دائرة هواه وشهواته ونزواته. 3- الأدلة من الواقع والحياة: من الأدلة الواقعية والحياتية التي تؤكد على مخالفة الهوى: عُلم بالتجارب والعادات أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث سارت بهن حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم. واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا، من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسية المدنية؛ فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أطهر منأن يستدل عليه1.   1 مأخوذ من كلام الشاطبي في الموافقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ولذلك يعد مخالف القانون، ومنتبع شهواته وأهوائه مارقًا وخارجًا عن النظام المتبع في بلاده، ومحل مؤخذة وملاحقة وقضاء؛ لأن القانون أو النظام المتبع مجعول لتنظيم المعاملات المدنية، ولوضع الحدود والقيود لشهوات الناس ورغباتهم، ولإخراجهم من حالة التصرف غير المسئول والتعامل غير المنضبط. وكذلك الشأن بالنسبة لكل القوانين والأنظمة، بصرف النظر عن الحكم على تلك القوانين والأنظمة بصلاحها أو فسادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 المطلب الثاني: العمل الذي يمتزج فيه هوى النفس ومقصود الشارع ... المطلب الثاني: العمل الذي يمتزج فيه هوى النفس ومقصود الشرع العمل الذي ينبني على مقصود الشارع، دون التفات إلى هوى النفس وميلها، لا شك في صحته وحقيته، والله يسأل قبول ومرضاته. أما العمل الذي يمتزج فيه هي النفس مع قصد الشارع وتعاليم الشرع؛ فينظر في الأسبق والأغلب وفي المآلات والآثار، فيحكم عليه بحسب ذلك. كما ينبغي التنبيه والتأكيد على أن الأسلم والأحوط، والأورع تخليص العمل من كل شوائب الهوى النفسي، والرغبات، واللذات، الشهوات، وإن كانت غير مخالفة لقصد الشارع، درءًا لما قد يوصل إلى مخالفة الشرع ومقصوده، وإلى ما يجعل الهوى متبوعًا وسابقًا وغالبًا، والشرع تابعًا ومسبوقًا ومغلوبًا. وإليكم شرح القاعدتين فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 القواعد المستخلصة من مقصد عبادة الله تعالى ومخالفة هوى النفس: نستخلص من مقصد عبادة الله ومخالفة هوى النفس قاعدتين: القاعدة الأولى: بطلان العمل التابع للهوى دون الشرع؛ لأن الأصل اتباع الشرع، وليس الهوى والشهوة. القاعدة الثانية: قاعدة ذم اتباع الهوى ولو جاء في ضمن المحمود والمشروع؛ وذلك خشية الخروج من المشروع، ومخالفة المحمود، بالوقوع في الجري وراء الأغراض والشهوات، والعمل على تحصل ثناء الناس ومدحهم، وما ينجر عن ذلك من تكريم وتبجيل مادي ومعنوي، وهذا يفضي إلى الرياء والسمعة وبطلان العمل وفساده، وإن كان في بدايته مبنيا على موافقة مقصود الشارع وتعاليم الشرع. القاعدة الأولى: بطلان العمل التابع للهوى دون الشرع العمل الذي يتبع في الإنسان هواه وشهواته، ويترك فيه أوامر الشرع ونواهيه، يُحكَم عليه قطعًا ويقينًا بأنه باطل وفاسد. وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر والنهي والتخيير؛ فهو صحيح وحق؛ لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع؛ فكان كله صوابا وهو ظاهر. وأما أن امتزج فيه الأمران فكان معمولا بهما، فالحكُم للغالب والسابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ومعنى الغالب: الأكثر والأقوى في الحمل على الفعل، والذي سبق إلى النفس منهما. ومعنى السابق: الواقع أولًا وقبل غيره، أي أن المكلف قصد أمر الشارع، وقصد تحقيق غرضه من الطريق المشروع، فيكون قد تحقق له أمران: - موافقة قصد الشارع. - موافقة غرضه وقصده بفعل مشروع، وإن كان موافقا لهواه؛ لأن الشريعة موضوعة لمصالح العباد ومنافعهم ولذائذهم. وإن كان الغالب والسابق هو الهوى، وصار أمر الشارع تابعًا ولا متبوعًا، فهو باطل فاسد. ويذكر الشاطبي مثالًا: هو أن واطئ زوجته أثناء الطهر محتمل أن يكون فيه تابعًا لهواه، أو لإذن الشارع؛ فإن حاضت أو صامت أو أحرمت فانكف، دلَّ على أن هواه تبع، وإلا دل على أنه سابق. القاعدة الثانية: ذم اتباع الهوى ولو جاء في ضمن المحمود ذكرنا أن اتباع الهوى الذي يأتي على وفق قصد الشارع وتعاليمه معدود ضمن المشروع، غير أنه مذموم ومكروه. - لأنه يخشى أن يكون سببًا في تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي. - لأنه يخشى أن يؤدي إلى الرياء والنفاق والسمعة والشهرة، وأن يغير القصد من طاعة الله والعمل بموجب مراده وأحكامه إلى مخالفة الأحكام، والاحتكام إلى الهوى والشهوة فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ومثال ذلك ما ذكره الشاطبي بقوله 1: إن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه، والنعيم بما يجتبيه من ثمرات الفهوم، وانفتاح مغاليق العلوم وربما أكرم ببعض الكرامات أو وضع له القبول في الأرض، فانحاش الناس إليه، وحلقوا عليه، وانتفعوا بهن وأمُّوه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة، ومن الصلاة والصوم، وطلب العلم، والخلوة للعبادة، وسائر الملازمين لطرق الخير. فذا دخل عليه ذلك كان للنفس به بهجة وأُنْس، وغنى ولذة ونعيم، بحيث تصغر الدنيا وما فيها إلى لحظة من ذلك. كما قال بعضهم: "لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف" أو كما قال. وإذا كان كذلك فلعل النفس تنزع إلى مقدمات تلك النتائج فتكون سابقة للأعمال. وهو باب السقوط عن تلك الرتبة -والعياذ بالله- هذا، وإن كان الهوى في المحمود ليس بمذموم على الجملة؛ فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين، فلا حاجة إلى تقريره هنا. وعلل النفس تشتد رغبتها في القيام بالصلاة والصيام والخلوة للعبادة ليزداد أنسها وبهجتها، لذتها وتقييمها وإكرامها بالكرامات وزيادة القبول في الأرض، وكل هذا هوى خالط المحمود من العمل؛ لكنه قد يسبق إلى النفس فيخسر صاحبه مرتبته، فالأحوط من كل ذلك أن يتبع العامل أحكام الشرع، وقصد الشارع، وأن ينقح فعله وامتثاله من كل هوى نفسي، وإن   1 انظر كتاب الموافقات جـ2 - ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 كان موافقا لقصد الشارع، أو أن يحتاط كثيرًا كي لا يقع في المزالق والانحراف إن هو اتبع هواه وشهواته في أفعال لا تخالف الشرع، ولا تناقض قصد الشارع؛ لأن اتباع الهوى، ولو جاء في ضمن المحمود والمشروع قد يُفضي بصاحبه إلى الوقوع في الرياء والشهرة، وفي تحصيل الأغراض واللذائذ، وجلب محاسن الناس وثنائهم ومدحهم وعطائهم، وكل هذا مخالف للمشروع ومبطل للعمل وموجب للخسارة في الدارين، والعياذ بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 المطلب الثالث: المقاصد الأصلية والتبعية تنقسم المقاصد الشرعية من حيث الأصلية والابتداء، ومن حيث التبعية والتتميم إلى المقاصد الأصلية، والمقاصد التبعية. 1- تعريف المقاصد الأصلية: المقاصد الأصلية: هي المقاصد التي قصدها الشارع أصلًا وابتداءً وأساسًا، أي: قصدها بالقصد الأول الابتدائي وهي المقاصد الأولى والغايات العليا للأحكام. وقيل: إنها الضروريات التي لا حَظَّ للمكلف فيها، بمعنى أنه ملزم بفعلها وحفظها، أحبَّ أم كره، اختيارًا اضطرارًا. أمثلتها باختصار: أ- المقصد الأصلي للزواج: التناسل وإعمار الكون. ب- المقصد الأصلي لطلب العلم: التعبد والطاعة والبيان والتعليم والتبليغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ج- المقصد الأصلي للصلاة وعبادة الله وإفراده بالخضوع والذكر والامتثال. د- المقصد الأصلي لحضور المحاضرات: التحصيل العلمي والتزود بالمعارف والفنون. 2- تعريف المقاصد التبعية أو التابعة: المقاصد التابعة هي المقاصد والحِكم التي قصدها الشارع تبعًا وتكملة وتتميمًا للمقاصد الأصلية؛ فهي مشروعة بالقصد الثاني التابع للقصد الأصلي، وبقصد التكميل والتتميم. وقيل: إنها المقاصد التي روعي فيها حظ المكلف وتدخل فيها حاجياته وكمالياته، أي مطالبة الحاجية التي تقرب من الضرورية، أو التي تخدم الضرورية وتكملها وتتمها، ومطالبة التحسينية التي تؤخذ بها من أجل تحقيق أكمل المراتب وأزين الحالات، وأحسن أوضاع المعاش والمعاد. أمثلتها باختصار: 1- المقصد التابع للزواج هو الاستمتاع بالزوجة، والأنس بالذرية، وتحصيل المودة والسكن والرحمة والتجمل بمال المرأة، وغير ذلك. 2- المقاصد التابعة لطلب العلم هو تحصيل الشرف العلمي، ونفوذ القول، وجلب الاحترام والمناقب الحميدة والمآثر الحسنة. 3- المقصد التابعة للصلاة هو حصول الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وإعلان الآذان وإظهار شعائر الإسلام. 4- المقصد التابع لحضور المحاضرات والحضور، والمشاركة والانتباه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ولذلك جعل الحضور شرطًا تابعًا ومكملًا لتحصيل العلم؛ إذ لو انعدم الحضور لعدم المقصد الأصلي، والذي هو تحصيل العلم وترسيخ المعارف في النفس. تفصيل الأمثلة كما ذكرها الشاطبي: ذكر الشاطبي أمثلة كثيرة للمقاصد الأصلية والتابعة يمكن الرجوع إليها في موضعها قصد زيادة التعرف والتبيين، ويمكن إيراد بعضها بإيجاز شديد: 1- المقصد الأصلي للصلاة هو الخضوع إلى الله تعالى، وإفراده بالتوجه وإتمام المذلة والصَّغَار بين يديه تعالى، وما أشبه ذلك. أما مقاصدها التبعية فهي: النهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، وطلب الرزق بها، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة والحاجة، ونيل الفوز بالجنة والنجاة من النار. 2- المقصد الأصلي للصيام الخضوع والعبادة والامتثال، والمقاصد التابعة الدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة، وسد منافذ الشيطان. قال الشاطبي: "وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله"1.   1 الموافقات: 2 / 400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 المقارنة بين المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة: يمكن بيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين المقاصد الأصلية والتابعة فيما يلي: 1- المقاصد الأصلية والتابعة: كلاهما من قبيل المقاصد الشرعية التي قصدها الشارع في أحكامه وهديه، وهي كلها تشكل جوهر المقاصد وحقيقتها، وتفضي إلى تحقيق الصلاح والنفع والخير في الدنيا والآخرة، للفرد والمجتمع والأمة وكافة الإنسانية وسائر المخلوقات. 2- المقاصد الأصلية والتابعة: كلاهما ثابت بالأدلة الشرعية المعتبرة، فهي متفرعة عن تلك الأدلة، ومستخلصة منها بالتنصيص والإجماع والاستنباط والاجتهاد والاستقراء. 3- المقاصد الأصلية: هي الأصل والأساس والثابتة ابتداء وأولًا، والمقاصد التابعة وكما يدل عليها اسمها ثابتة بالتبع، وخادمة ومكلمة للمقاصد الأصلية. 4- المقاصد الأصلية: ليس يها حظوظ للمكلف كليًا أو غالبًا، بخلاف المقاصد التابعة ففيها ما لا يحصى من الحظوظ والمنافع التي هواها الإنسان ويريدها، وتتماشى مع شهوته ورغبته، وليس معنى خلو المقاصد الأصلية من الحظوظ انتفاء الصلاح والنفع فيها؛ وإنما يعني فقط أن المكلف قد لا يقصدها ولا يفعلها لأنها جارية على غير هواه وشهواته، بل يُلزم بقصدها وفعلها أحبَّ أم كره. ومثال ذلك: الزواج: فإن المكلف يقصده؛ لما في فعله من مسايرة هواه وجلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 منافعها من استمتاع وأنس وسكن ومحبة، وإن لم يقصد الأساس الإسهام في إعمار الكون، وبقاء النسل، وغير ذلك مما قد لا يساير هواه، ولا يلاحظ له كبير أثر في الانتفاع بالحظوظ واللذائذ. وما يجدر التأكيد عليه أن المقاصد الأصلية والتابعة مفضية كلها إلى جلب حظوظ ومنافع الدارين، وحصول السعادة في العاجل والآجل، في المعاش والمعاد، في الأولى والأخرى. وذلك يكون بإخراج المكلف من دائرة هواه ورغباته غير المشروعة، وإدخاله في صراط الله المستقيم، ووضعه في منهج الصالحين المتقين الذين يطلبون التكليف، ويفعلون الامتثال، ويؤدون رسالة التعبد والتدين وواجب الاستخلاف والإصلاح سواء وافق ذلك هواهم ورغباتم وشهواتهم أم لم يوافق. 5- مراعاة المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص، وأعمق في الانقياد، وأتم في القصود الخالصة والنيات الصادقة؛ بخلاف مراعاة المقاصد التابعة الذي قد تشوبها شائبة الجري وراء الشهوات العابرة والحظوظ العاجلة؛ الأمر الذي قد يخشى معه من حصول الشبهات في أداء واجب التكليف، ومن حصول العواقب الوخيمة، والمآلات السيئة بانتهاء التكليف إلى ما يخالف مراد الشارع ويجلب الخسران، والهلاك والعياذ بالله. 6- المقاصد الأصلية تختلف عن المقاصد التابعة من حيث تأكيد طلب الفعل وتحتيمه والتشديد فيه فالمقاصد التابعة طلب فعلا طلبًا أقل تأكيدًا وتشديدًا من المقاصد الأصلية؛ ولذلك لأن المقاصد التابعة مسايرة لما جبل عليها الإنسان، وموافقة لرغباته وملائمة لطبعه، فلا يحتاج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 زيادة التأكيد على الفعل والالتزام؛ ففي مثال طلب العلم، يكون المقصد الأعلى كما ذكرنا يتعلق بالتعبد والطاعة وتخليص نية المتعلم والعالم من الشرك والرياء وحب السمعة الشهرة، ولذلك وقع التأكيد في مواضع كثيرة، وبصيغ وكيفيات قاطعة وملزمة على تحري ذلك المقصد وتحصيله وملازمته. أما المقصد التابع فيتمثل في شرف المرتبة، ونفوذ القول، وجلب الاحترام والتقدير، وحظ التقديم والتفضيل، وغير ذلك ما هو مرجو، ومقصود من قبل صاحب العلم وعموم الناس، ولا يحتاج إلى زيادة التشديد في طلبه والتأكيد على فعله واستحضاره؛ ففطرة الإنسان آيلة إليه، وطباع البشر وجبلاتهم تنشده وتسعى إليه، وتجاهد من أجل تحصيله وتحقيقه. مرتب المقاصد التابعة وحكمها وحجيتها: قلنا: بأن المقاصد التابعة تخدم وتكمل المقاصد الأصلية؛ فبينها وبين المقاصد الأصلية علاقة تكامل وتتميم، فانتفاء المقاصد الأصلية يؤدي لا محالة بصورة قطعية ويقينية إلى تفويت وتعطيل المقاصد التابعة، أما اختلال أو انتفاء المقاصد التابعة؛ فإنه يؤدي إلى اختلال أو انخرام كلي أو أغلبي للمقاصد الأصلية، وعليه فإن مراتب المقاصد التابعة من حيث تعلقها بالمقاصد الأصلية، أو من حيث تأكيدها وخدمته للمقاصد الأصلية ثلاث مراتب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المرتبة الأولى: المقاصد التابعة المؤكدة والمقوية للمقاصد الأصلية، وتسمى: المقاصد التابعة المشروعة: هذ المرتبة من المقاصد مقوية ومؤكدة للمقاصد الأصلية؛ فهي إذن مشروعة ومأذون فيه؛ لأنها مؤدية إلى تحقيق المقاصد الأصلية، وواقعة ضمن المباح والمشروع والمأذون فيه، ويجوز للمكلف قصدها وفعلها، وهذه المرتبة تقع في مجال العبادات وفي مجال المعاملات. ففي مجال العبادات كأن يقصد المكلف في تعبده توفيق الله وتأييده واستجابة دعائهن، وأن يحظ له نفسه وأهله وأولاده وماله وأمنه، وكل هذه القصود والأعمال راجعة بحظوظ ومنافع للمكلف في العاجل قبل الآجل؛ غير أن هذه الحظوظ الواقعة في دائرة المشروع والمباح، ومقوية ومؤكدة للمقاصد الأصلية. وفي مجال المعاملات والعادات، كأن يقصد المكلف النكاح باعتبار قصد التناسل والإعمار، وباعتبار الاستمتاع بالزوجة وتحقيق السكن والمودة والرحمة والألفة والتوافق وغير ذلك مما يؤدي إلى تقرير المقصود الأصلي المتعلق بالتناسل والتوالد والإعمار. المرتبة الثانية: المقاصد التابعة المضادة للمقاصد الأصلية والمعارضة لها، أو التي تُسمى المقاصد التابعة غير المشروعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وتشمل هذه المرتبة جميع المقاصد التابعة المعارضة للمقاصد الأصلية، والتي تعود عليها بالإبطال والإلغاء، وما كان كذلك فهو ممنوع وملغي ومردود. وهي واقعة كذلك في مجال العبادات والمعاملات: ففي مجال العبادات، كأن يقصد العابد بتعبده جلب الشهرة والسمعة، وكسب ثناء الناس وأموالهم واستعطاف قلوبهم؛ فهذا لا شك في بطلانه وفساده؛ إذ أصل العبادة ومقصودها الأساسي إفراد الله بالعبادة والتوجه، وتخليص القصود من كل شوائب النفاق والرياء والتظاهر؛ ليقال فلان عابد وزاهد وتقي وصالح. وفي مجال المعاملات؛ كأن يتزوج من أجل المتعة الجنسية أو يتزوج بنية التوقيت والتطليق، أو يتزوج لتحليل المرأة لزوجها الأول الذي طلاقها ثلاثًا؛ ففاعل ذلك فاعل لقصد معارض للقصد الأصلي من الزواج، والذي والتناسل؛ ولذلك يحكم على كل ذلك بالفساد والمنع، لانخرام واختلال المقصد الأصلي. المرتبة الثالثة: المقاصد التابعة الواقعة بين المرتبتين: مرتبة التكميل والتأكيد، ومرتبة المعارضة والمضادة. وهذ المرتبة مختلف فيها، ويمكن أن تلحق بإحدى المرتبتين المذكورتين "مرتبة التكميل والتأكيد، ومرتبة المعارضة والمضادة. بحسب النظر الشرعي الصحيح، والبحث الاجتهادي الأصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ومثال ذلك: تحصيل العلم وتأليف الكتب قد يكون مقصوده الأصلي التعبد والطاعة، وقد يقصد المكلف حمد الناس وشكرهم ومدحهم، فيُحكم على هذا القصد بالمنع والفساد، إذا كان المبعث الرياء والسمعة والشهرة، ويحكم عليه بالجواز والصلاح إذا كان المبعث التربية بالقدوة، والحث على طلب العلم ونشره. فالحكم الأول: يجعل القصد من قبيل المرتبة الثانية، أي من قبيل المقاصد التابعة المؤكدة المقوية للمقاصد الأصلية. أما الحكم الثاني: فإنه يجعل القصد من قبيل المرتبة الأولى، أي من قبيل المقاصد التابعة المؤكدة والمقوية للمقاصد الأصلية. وإذا كان القصد الأصلي تابعًا للقصد التبعي فلا شك أن البطلان، ولا خلاف في فساد القصد التبعي؛ لأنه حلَّ محل المقصد الأصلي. ذكر الشاطبي تفاصيل مهمة لهذه المراتب وبينَّها بالتمثيل الموسع والتعليق المفيد فليرجع إليه في مظانه1.   1 انظر الموافقات: الجزء2، مبحث المقاصد الأصلية والتابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 المبحث السادس: تطبيق مقاصد الشريعة في الأحكام الفقهية مدخل ... المبحث السادس: تطبيق مقاصد الشريعة في الأحكام الفقهية الجانب التطبيقي لمقاصد الشريعة مهم للغاية، ويحتاج إليه الباحث والدارس والفقيه والمجتهد والقاضي والمفتي والمكلف: وسائر من أراد فهم خطاب الشارع وتعاليمه ومقاصده وغاياته. والجانب التطبيقي لمقاصد الشريعة معناه: الاهتمام بالوقائع والشواهد الحياتية المختلفة في ضوء المقاصد الشريعة من خلال فهمها وتنزيلها على وفق مراد الشارع ومقاصد أحكامه ومصالح الدنيا والآخرة، جلبًا للمنافع ودرءًا للمفاسد. والمقاصد الشرعية تنطبق على كافة مجالات الأحكام الفقهية المختلفة؛ ولكن بتفاوت من حيث الجلاء والخفاء، وطرق الإثبات ومسالك التبيين، غير ذلك مما يتحدد في ضوء المجال الفقهي المعين والمطلوب. ومجالات الأحكام الفقهية من حيث الإجمال تنقسم إلى قسمين كبيرين: - مجال العبادات. - مجال المعاملات "البيوعات، الهبات، الأنكحة، الجنايات ... ". غير ان التقسيم من الناحية المقاصدية فهمًا وتنزيلًا يكون على النحو التالي: 1- مجال العبادات. 2 مجال التصرفات المالية. 3- مجال التبرعات. 4- مجال النكاح. 5- مجال القضاء والشهادة. 6- مجال العقوبات. 7- مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 المطلب الأول: مقاصد العبادات الأصل في العبادات التوقيف العبادات هي جملة الأقوال والأعمال التي يقوم بها المكلف بكيفية مخصوصة على سبيل التقرب إلى الله تعالى والامتثال والانقياد والخضوع إليه. والعبادات محددة ومبينة إجمالًا وتفصيلًا، تم ضبطها وبياها وتفصيلها وشرحها في نصوص القرآن الكريم، وفي السنة النبوية القولية والفعلية والإقرارية. وهي ثابتة وباقية ودائمة إلى يوم القيامة، لا ينبغي تغييرا وتبديلها، ولا يجوز البتة الزيادة فيها أو التنقيص منها؛ لذلك منعت البدعة والزيادة، كما مُنع التهاون والتقصير والتنقيص، وليس على المكلف إلا أن يلزم الأمر الشرعي، والإلزام الرباني الذي بين العبادة المطلوبة للشارع والمرادة له. فمقصود الشارع في العبادة والطاعة أن يعبدوه ويطيعوه كما أمرهم وكلفهم، وليس كما اشتهوا واجتهدوا وغيَّروا ولذلك تقررت القاعدة الشرعية المقاصدية المعروفة: "لا يُعبَد الشارع إلا بما شرع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 قال الشاطبي: "إن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة قلبه بذكره حتى يكون العبد بقلبه وجواره حاضرًا مع الله ومراقبًا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته، وما يقرب إليه على حسب طاقته"1. توقيفية العبادات لا يعني خلوها من الحِكم والفوائد والمصالح: القول بأن العبادات توقيفية غير معللة لا يعني البتة خلوها من المصالح والحِكم والفوائد؛ وإنما يعني فقط ثبوتها ودواما على ذلك الأمر؛ كي لا تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، وكي يتحقق منها واجب التدين والتعبد والامتثال؛ إذ لا يعد الإنسان مطيعًا ومنقادًا إلا إذا فعل ما أمر به من مطيعه على الوجه الذي أراد وبالكيفية التي طلب؛ فالعبد إذا أعطي لسيده عصيرًا، وقد طلب منه ماء لا يعد مطيعًا، والمكلف الذي يصوم كل عمره بلا انقطاع لا يعد عابدًا ولا متقربًا؛ لأنه فعل ما يخالف أمر الله في الصوم ومراده فيه؛ إذ الصوم لم يشرع إلا في أزمنة معينة، وليس كامل حياة الإنسان، ولم يؤمر به إلا لاشتماله على منافع وحكم كثيرة في الدنيا والآخرة، وقد جمع الله تعالى كل تلك المنافع والحكم في مقصود جامع وهدف كلي، هو بلوغ التقوى وتحصيلها {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} ، وأرقى درجات تلك التقوى وأعلى مراتبها: عبادة الله، والامتثال إليه في عبادة الصوم التي جعلها الله تعالى لنفسه دون غيره: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"2. ولعل معنى هذا أن الصوم امتناع عن الفعل بخلاف العبادات الأخرى التي   1 الموافقات: 2/ 301 وما بعدها. 2 أخرجه البخاري من كتاب اللباس باب ما يذكر في المسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 هي أداء وقيام بالفعل كالصلاة والزكاة والحج، وما كان كذلك فمن الصعب غالبًا أن يكتشفه الناس ويعلموا به؛ ولذلك نسبه الله تعالى لنفسه الدالة على شدة الإخلاص فيه، وخلوه من شوائب الرياء والسمعة والشهرة. والعبادات كلها معللة، أي: مشروعة لعلل وحكم وفوائد في الدنيا والآخرة، للفرد والمجتمع؛ غير أن ذلك التعليل يكون على ضربين: 1- كل العبادات معللة في الجملة والعموم بجلب مصالح الناس ومنافعهم في الدنيا والآخرة، وتلك المصالح ولمنافع تُجلَب بطاعة الله وعبادته، والخضوع والانقياد إليه. وقد علم يقينًا وقطعًا أن العبادة مشروعة؛ لا يعود على العابد من مصالح الدنيا والآخرة، بتحقيق الأمن والسلامة، والفوز بمرضات الله وجناته؛ فالله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، لا تضر معصية العاصين. 2- بعض العبادات التفصيلية معللة بما يجلب للإنسان بعض المنافع الظاهرة والدنيوية، كالطهارة، ورفع الحرج والشدة والمشقة غير المعتادة. ومثال ذلك: قوله تعالى في الطهارة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 1. وقوله في الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} 2.   1 سورة المائدة، آية 6. 2 سورة الحج، آية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقوله في الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1. وقوله في جماع الزوجة في الحيض: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا} 2 وغير ذلك كثير. فتعليل بعض الأحكام التعبدية ببعض المنافع والفوائد الدنيوية مقرر ومعلوم وثابت؛ غير أنه ليس المقصود الأول، ولا المطلوب الأصلي؛ وإنما هو يأتي في المرتبة الثانية بعد مرتبة التعبد والطاعة والامتثال؛ إذ المقصد الأصلي من العبادات هو الخضوع والانقياد، والمقصد التبعي هو نيل بعض الحظوظ والمنافع العاجلة؛ ولكن يشترط في المقصد التبعي، أو قصد الحظوظ والمنافع أن لا يكون المقصدَ الأول والمراد الأصلي؛ بل لا بد أن يكون المقصد الأصلي في الأول والأخير: عبادة الله والخضوع إليه، وطلب عفوه ومرضاته وجناته. فالقول بكون أصل العبادات التعبد والتوقيف، وعدم الالتفات إلى المعاني، لا يعني -كما ذكرنا- خلو تلك العبادات من الفوائد والمعاني والحكم، ولا يعني كذلك إجراء الأقيسة على تلك العبادات، المقدرة، وإيجاد عبادات أخرى، أو إحداث الزيادة أو التنقيص في تلك العبادات؛ فقد يقول البعض: إذا كان القصد من العبادة هو التقرب من الله؛ فلماذا لا نكلف الإنسان بعبادات أخرى حتى يكون قربه من الله أكبر وأعمق؟ وقد يقول البعض: إذا كان الأذان مشروعًا للإعلام والنداء والتجميع،   1 سورة التوبة، آية 103. 2 سورة البقرة، آية 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فلماذا لا نشرع الأذان في العيدين والكسوفين، كي نحقق المقصود منه، وهو الإعلام والنداء والتجميع؟ وقد يقول البعض: إذا كانت الصلاة راحة للنفس والبال، واطمئنان الجماعة، وتوحدهم في الصف وفي الحياة، لماذا لا نؤديها جلوسًا على الكراسي، بدلا من الوقوف الذي قد لا يحدث الراحة، والاطمئنان، والوحدة أو النظام أو غير ذلك؟ وقد يقول البعض: إذا كان الحج مشروعًا لجلب المنافع؛ فلماذا لا نقتصر على بعض أعماله وأركانه، ولماذا لا نتجنب مواضع الازدحام الشديد المفضي إلى الهلاك الشديد، وإلى تفويت المنافع الكثيرة والفوائد الجليلة، كفائدة الراحة والاستراحة، والبعد عن محيط الأوساخ والتلوث البيئي والاجتماعي، لا سيما في أوقات الذورة القصوى، كيوم عرفات، وأيام مني، وغير ذلك؟. والحق أن أقوال الناس وتخيلاتهم لا تنتهي لو تركت العبادات إلى أهوائهم وتشهياتهم، أو لو شرعت من أجل ما فيها من المعاني والفوائد فقط أو غير ذلك. ولذلك كله حددت العبادات وضبطت على سبيل الإجمال والتفصيل، وإلى سبيل التعبد والتقرب، وهي مشروعة لصلاح الناس وإسعادهم في الدارين، بتحقيق مرضاة الله والفوز بجناته في الآخرة، وبتحصيل المنافع والحظوظ الدنيوية التبعية المتفرعة عن أصيلة التعبد والامتثال. مقاصد بعض العبادات: المقصد الأصلي للعبادات -كما ذكرنا- هو تحقيق العبودية لله والانقياد له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وهناك بعض المقاصد التبعية والثانوية لتلك العبادات تفصيلًا وإجمالًا. ويمكن أن نورد هذا بعض تلك المقاصد التبعية لفرائض الصلاة والزكاة والصوم والحج والكفَّارات على النحو التالي: مقاصد الصلاة: - تحقيق مبدأ الامتثال والانقياد في نفس المصلي، وتعويده على الطاعة والتعبد والانتظام في منهج التكليف والاستخلاف. - إصلاح النفس وتهذيبها، وتخليصها من الفواحش والمنكرات والهواجس والأوهام، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1. - انشراح الصدر وطمأنة القلب وإراحة البال، ولذلك قال الرسول صلى اله عليه وسلم لبلال: "أرحنا بها يا بلال". كما شُرعت الطهارة والصلاة للغضبان والمصاب والمكروب وغيرهم. - تحقيق الآثار الاجتماعية والإنسانية وتنميته، على نحو الأخوة والتضامن والتواضع والمواساة، ونفي الفُرقة ولتمييز والتفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الغنى أو الفقر أو الجاه أو المحسوبية أو ما شابه ذلك؛ فالكلُّ موقوفون ومصطفون في مكان واحد بين يدي الله الواحد الأحد الفرد الصمد. مقاصد الزكاة: - تحقيق مبدأ الامتثال والانقياد لله تعالى، وتقرير شكره وحمده والثناء عليه.   1 سورة العكبوت، آية 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 - تطهير نفس المزكِّي من الشح والأنانية، ومن عبادة المال وتقديسه. - تثبيت أصيلة الإنفاق والعطاء والبذل في نفس المزكي. - تطهير المال من الآفات والنقصان والتلف والتآكل، وقد جاء في كثير من الأدلة أن الزكاة والصدقات تزيد المال كمًا وبركةً، وتُنمِّيه، وتُبعد عنه الآفات والكوراث والجوائح. قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1. قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 2. قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3. قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 4. ثم أن المزكي يلحق به وبأهله وذريته وذويه بركات وآثار دعاء الناس، وثناء الفقراء وشهادة الملائكة، وجزاء الخالق الكريم في العاجل والآجل، مما يكون سببا في زيادة الأموال ونمائها وبركتها وسلامته من النقصان والضياع والتلف. - تحقيق أواصر التضامن والتآلف والتراحم والتواد، مما يكون له كبير الأثر على مستوى وحدة المجتمع وقوته مَنَعَته، وسلامته من الأحقاد والضغائن والتحاسد والتباغض.   1 سورة التوبة، آية 103. 2 سورة سبأ، آية 39. 3 سورة البقرة، آية 268. 4 سورة الروم، آية 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 - تنمية المجتمع وتطوير تجاراته وصناعاته ومهنه وحرفه وتقوية اقتصادياته ومعاملاته بترويج المال وعدم كنزه وإدخاره، بِسدِّ حاجات الفقراء والمساكين، وتخليص أصحاب الديون والأسرى والمحبوسين والغارمون، وفي الرقاب؛ لكي ينطلقوا في الأرض عملًا وإنتاجًا وإبداعًا، وكل ذلك له في علم الاقتصاد دوره في تقوية التنمية والاقتصاد النماء الحضاري بشكل عام. مقاصد الصيام: - تحقيق مبدأ الامتثال والانقياد إلى الله تعالى. - تحقيق التقوى، والوقاية من كل العيوب والأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية. - سد منافذ الشيطان وتضييقها، مما يكون له الأثر في إزالة المعاصي والمنكرات أو تنقيصها وتقليلها. - تذكر الفقراء والمحتاجين والمعوزين. - تذكر هموم الآخرة وأهوالها، بسبب العطش الشديد والجوع الشديد في أرض المحشر، وفي نار جنهم، والعياذ بالله. - تعويد الصائم على الصبر والتضحية، ومواجهة أعباء الحياة ومشاقها وآلامها. مقاصد الحج: - تحقيق العبودية والامتثال، لما فيه من الأعمال والأقوال التي تعظِّم الرب تبارك وتعالى، وتعظم شعائره ومناسكه وأوامره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 - تحقيق المساواة والوحدة والقوة. - تذكير الناس بيوم الحشر والإنسان ودفنه وتركه وحيدًا في قبره. - تحصيل بعض المنافع والفوائد الاقتصادية والاستطلاعية. مقاصد الكفارات: - تحقيق الامتثال والانقياد، وتقرير أصلية العبادة ومهابتها وتعظيمها وعدم التهاون فيها. - إصلاح الأخطاء وجبرها، وكالإفطار عمدًا في رمضان، والحنث في اليمين. - إراحة النفس من هموم التفكير في المعصية والانحراف والتعدي على حق الغير. - تحرير العبيد وإطلاق سراحهم، وإطعام الجائعين والمحتاجين وسد حاجاتهم ومطالبهم، وقد كان من أصناف الكفارة عتق الرقبة، وإطعام المساكين. - زجر المخطئين كي لا يعودوا إلى ممارسة الخطأ مرة أخرى، وفي هذا تأكيد على إصلاحهم وتهذيب سلوكهم وتربيتهم على عدم التشوف إلى المعاصي والمنكرات، وعدم الالتفات إليها وكراهة معاودتها وتكرارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 المطلب الثاني: مقاصد التصرفات المالية التصرفات المالية: هي جملة المعاملات المالية المتصلة بالبيع والشراء وبالإجارة والمزارعة والمساقاة والسلم والضمانات وغير ذلك؛ مما يكون فيه التعامل المالي قائمًا على تبادل الأموال والممتلكات والأمتعة والعوضات. وهناك من سمى المعاملات المالية بالمعاوضات؛ لما فيها من التعاوض والتبادل بين المتعاملين أو المتبايعين، ومقاصد التصرفات المالية يمكن أي تجملها فيما يلي: - حفظ المال وصيانته من الضياع أو الركود أو التناقض، أهم الأحكام التي شرعت لتحصيل هذ المقصد هو الحث على العمل، والكسب الحلال، والبحث عن الرزق، وإجلاله، وجعله عبادة وقربة يثاب عليها صاحبها. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} 1. قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} 2. - إباحة البيوعات والإجارات وكما يسهم بطريق مشروع في تبادل الأموال وترويجها بين الناس. - تحريم السرقة والرشوة والغصب، وتشريع العقوبات والزواجر والجوابر المترتبة على ذلك. - تحريم تبذير المال وإضاعته، ولو في المباح المشروع. - ضمان المتلفات، ولو ممن اضطر غلى ذلك الإتلاف.   1 سورة الملك، آية 15. 2 سورة الجمعة، آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 - إباحة الدفاع عن المال، والمقاتلة من أجله. - توثيق العقود والاستشهاد عليها، وتشريع الرهن وتحريم المعاملات التي فيها الغرر. - توثيق الديون والاستشهاد عليها، والحث على الوفاء بها وتسديدها في آجالها. - تحريم كنز الأموال وتكديسها دون استثمار لها أو استفادة منها، كما يفعل أصحاب الاحتكار والربا والجشع وغيره. - تحريم كل صور وأوجه أكل أموال الناس بالباطل، كالتحايل والتزوير واستغلال النفوذ والسلطة السياسية والعلمية أو الإدارية أو الدينية، والتغرير والغبن والغش والأجرة على الشعوذة والدجل والكهانة والسحر وغير ذلك. والخلاصة أن حفظ المال يعد إحدى الكليات الشرعية والمقاصد المعتبرة التي أثبتتها طائفة لا تحصى كثرة من الأدلة والأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المطلب الثالث: مقاصد التبرعات التبرعات: هي التصرفات المالية بدون عوض مالي، أي: هي ما يعطيه المعطي من مال على سبيل الإحسان والمعروف، وبقصد وجه الله تعالى، ونيل مرضاته والفوز بجناته، وهي تشمل الصدقات والهبات وإسقاط الحقوق المالية، كإسقاط حق الدَّين، أو الضمان، أو ما شابه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 مقاصدها تتمثل أساسًا في: - دوام الإحسان والمعروف، والحث على فعل الخير والفضائل والمحاسن. - إعانة أصحاب الحوائج والكرب والنوائب والأزمات، وتفريج كربهم وإدخال المسرة إلى نفوسهم. - تمتين أواصر المجتمع، وتعميق الروابط الإسلامية والإنسانية والتضامنية بين قلوبهم، وفي هذا تحقيق للوحدة والقوة والعزة، وطريق لبناء الأمة الإسلامية والحضارة الإيمانية الراشدة. - نفي معاني الجشع والأنانية والشح والبخل، ودفع ظواهر الأحقاد والكراهية والتباغض التي قد يكون ترك التبرع وترك العون أحد أسبابها الأساسية. - تظهير المال وتزكيته وتنميته وتحقيق بركته، ونفي أو تخفيف أعباء الحساب الشديد يوم القيامة إزاء أموال الإنسان وممتلكاته، وما يتعلق بطرق جمعها وتحصيلها، وأوجه صرفا وإخراجها، وهل أدى حق الله تعالى فيها أم لا؟ التبرعات في أنظمة الدول والجمعيات والهيئات والمحلية والعالمية: التبرعات أمر تُقرُّ به الدول والجمعيات والهيئات المحلية والعالمية، وتدعو إليه وتحث عليه، ولا سيما في الظروف الصعبة والأزمات الشديدة. وهي تفعل كل ما في وسعها من وسائل الدعاية والإعلام، وإجراءات التنفيذ والترتيب، ومن تجنيد الخواص والعوام، والدساتير والأنظمة القوانين التراتيب والأوامر، وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 إنها تفعل ذلك بغرض تقرير أصلية التبرع في النفوس الإنساية والهياكل والجمعيات والتجمعات، وتحقيق مقاصده وغاياته الإنسانية والتنموية والإنقاذية. وهذا الأمر مشروع في حد ذاته ومرغوب فيه، ويعمق في النفوس والمجتمات أواصر التعاون والتحابب والمواساة؛ شريطة أن يستخدم في أغراضه المشروعة، وأن يصرف في وجوهه المطلوبة، وأن لا يتحول إلى وسيلة لابتزاز أموال الناس والتحايل في أخذها، وإلى أن يتحول نعيم التبرع إلى جحيم البخل، بسبب سوء الاستخدام والتوظيف والتطويع. فنفس المتبرع ترتاح وتطمئن؛ إذ شاهدت تبرعها ساريًا في صنوف الخير، وأنواع المعروف وهو مما يقوي فيها أصلية التبرع وحب الإنفاق والحرص عليه؛ أما إذا لاحظت خلاف ذلك؛ فإنها ترتد إلى نفسها بخلًا وشحًا، وهذا على خلاف مقصود الشارع من تشريع التبرعات، الذي أراد دوام فعلها ودوام آثارها في العاجل والآجل. ثم إن المنطلق العقدي والتعبدي لسلوكية التبرع يزيد في تقويته ودوامه وتأصيله؛ ذلك أن المتبرع يفعل ذلك لوجه الله أولًا، ثم لإعانة أخيه ومساعدته. وهذا ما يجعل التبرع في الإسلام حقيقة ذاتية وسلوكًا إنسانيًا أصيلًا يؤدي بالاختيار والطواعية وطيب النفس، لا ببغضها واشمئزازها، بسبب الإكراه والتحايل والإحراج والتغرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المطلب الرابع: مقاصد النكاح النكاح سنة كونية وفطرة إنسانية ومنَّة إلاهية، وله عديد المقاصد والفوائد في الدارين، ومن تلك المقاصد والفوائد نذكر ما يلي: 1- حفظ النسل وتكثيره؛ بغرض إعمار الكون وبقاء النوع والإنساني، وكذلك إكثار أفراد الأموة المسلمة وتقويتها وتمكينها في الوجود الحياتي والكوني حتى تكون مرهوبة الجانب، عزيزة الذات، فاعلة الأثر والتأثير، وحتى تؤدي رسالة الاستخلاف في الأرض، والشهادة على الناس. لذلك جاءت الأدلة الشرعية تحث على الزواج والإنجاب، وترغب في التناسل، وتحرم قتل الأولاد والبنات بسبب الفقر أو العار أو ما شابه ذلك وتحظر الإجهاض إلا عند الضرورات القصوى، كأن يخشى على الأم من الموت بسبب خطر الجنين، فيباح إجهاضه؛ لأن المحافظة على الأصل مقدمة على المحافظة على الفرع. 2- حفظ النسب والعرض، وصيانته من الفوضى والاختلاط والتداخل والتلاعب، والنسل الذي ذكرناه بأنه مقصد شرعي للنكاح هو النسل المضبوط والمنضبط بمعرفة النسب الصحيح، وإلحاق الفروع بأصولها الحقيقية، ومراعاة الكرامة والعفة والحياء، ومنع كل ما يخل بحق الإنسان في النسب الصحيح، والعرض الشريف والنظيف والعفيف؛ لذلك شرعت أحكام الزواج الشرعي الصحيح، ومنع الزنا واللواط والسحاق، ومعاقبة الشاذين والمنحرفين، ومنع التبني. ولذلك أيضا منعت الذارئع والأسباب المؤدية إلى الإخلال بمقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 حفظ النسب والعرض، كالخلوة والنظر بشهوة والعدة، وكذلك منعت بعض الحوادث والنوازل المعاصرة، لكونها مفضية إلى هتك هذا المقصد وخدشه وتفويته، كتجميد الخلايا الجنسية واستئجار الأرحام. 3- تحقيق السكن والمودة والرحمة بين الزوجين، وتحقيق التآلف والتعاون على البر والتقوى ودوام العشرة بالمعروف، ومما يكون له الأثر الكبير في عبادتهما وانقيادها لله تعالى، وفي إعمار الأرض وإصلاحها وتجميلها وجعلها مزرعة للآخرة وممرًا لها. ولم يعد خفيًا ما تعانيه المجموعة الدولية -بتفاوت ملحوظ بحسب الاعتبارات الدينية والأخلاقية- من آثار الشذوذ الجنسي، وتعاطي المخدرات، مزاولة العنف والتقتيل والترويع، وغير ذلك مما هو نتيجة حتمية في الغالب لتفكك الأسرة، وتهميش دورها التربوي والوجداني والحضاري بصورة عامة. فلعل بعد كل ذلك نكون قد بّينا لك أخي الدارس والقارئ ما للأسرة المُسلمة الصالحة من دور فعال، وتأثير ملحوظ في بناء الأجيال والمجتمعات، وتحقيق الأمل المنشود المقصد المفقود، ألا وهو الأمة التي أخرجت للناس لإصلاحها وإسعادها في المعاش والمعاد، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1. 4- بناء الأسرة المسلمة وإيجاد المجتمع الصالح: من مقاصد النكاح بناء الأسرة المسلمة المكونة من الزوجين الشرعيين ومن الأصل والفروع، التي   1 سورة آل عمران، آية 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 تطيع ربها وتعمل بأحكامه وتعاليمه، وتسهم في بناء المجتمع الإسلامي الصالح، وبناء الأمة المُسلمة الرائدة والقائدة. ومعلوم أن الأمة المُسلمة قد اختارها الله تعالى لتكون خير أمة أخرجت للناس بسبب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، وأداء العمل الصالح، والقيام برسالة الاستخلاف بكل صورها ومجالاتها وأبعادها. وهذه الأمة لن تحقق إلا ببناء المجتمعات والشعوب الإسلامية على اختلاف أعراقها وألوانها وقاراتها ودولها وتقاليدها وخاصياتها، وبناء تلك المجتمعات والشعوب متوقف على إيجاد وبناء الأسرة المسلمة الصالحة المتزنة المستقيمة العارفة بعقيدتها الصحيحة وتدينها المطلوب وتعاملها الرشيد. فتكون النتيجة المستخلصة والبدهية، أن الأمة المسلمة بأسرها متوقف وجودها ونجاحها على الأسرة المُسلمة الناجحة والناهضة والمجتهدة. إن الأسرة المُسلمة مطلب له أهميته الكبرى، ومقصد شرعي دلت عليه القواطع والظاهر والقرائن المختلفة، وهو طريق وجود الأمة ووحدتها وتقدمها وقوتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولقد أدرك خصوم الأمة وأعداؤها أهمية الأسرة المُسلمة ودورها الحضاري العام، وشأنها في تحقيق السيادة والشهادة على الناس، فراحوا يعملون بوسائل شتى لأجل تحجيمها وتشتيتها وإضعافها، ولا سيما أن كثيرًا من الأسر والمجتمعات غير المسلمة تعيش أوضاعا أخلاقية لا تحسد عليها، وتشهد التفكك الأسري، والميوعة الأخلاقية، والتسيب القيمي، والتهارج القانوني والنظامي بشك مفزع وخطير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقد زاد هذا في غيظهم ومكرهم وحرصهم على تدمير الأسرة المسلمة، الحصن الحصين لسلامة الأمة وقوتها وتمكينها. 5- تطهير المجتمع من الأمراض الجنسية والآفات الخلقية: لعل هذا المقصد متضمن في المقصد السابق، المتعلق ببناء الأسرة المسلمة، والمجتمع الإسلامي، والأمة القوية والرائدة، المرتكزة على طهارة الظاهر والباطن، والسلامة من العيوب والأمراض الجنسية والخلقية والحضارية بشكل عام، وفي أغلب الأحيان وأكثرها؛ غير أننا أفردنا هذا المقصد بالذكر والبيان لأهميته وخطورته، ولا سيما في العصر الحالي وفي كثير من المجتمعات والدول التي شهدت ما لا يحصى من المشكلات والأزمات القانونية والسياسية والاجتماعية؛ بسبب الأمراض الجنسية الخطيرة "الزهري، السيلان، الإيدز ... " وبسبب العاهات والآفات الخُلقية والقيمية التي أدت إلى التحلل الاجتماعي العام، والتَّسَيُّب الأسري الملحوظ. بعض النوازل المعاصرة التي ضيعت مقاصد النكاح: أ - تجميد الخلايا الجنسية للزوج قبل وفاته ووضعه فيما يعرف ببنوك المني، ثم تلقيح بويضة الزوجة عند رغبتها بعد وفاة الزوج ولو بسنين؛ فهذه العملية، والتي تمت كما يقال في إطار الزوجية أو بين زوجين شرعيين؛ غير أنها واقعة فعلى خلاف مراد الشرع في التلقيح والإنجاب. ووجه المخالفة أن العملية قد وقعت بعد وفاة الزوج، وفي ظروف قد تؤول إلى ما لا يحصى من المفاسد والفتن، وعلى نحو التذرع بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 لإجراء الزنا، والإبقاء على آثاره المتعلقة بوجود الأبناء غير الشرعيين ونسبتهم إلى ذلك الأصل الموهوم، أو الأب المنسي المهجور والمقبور حقيقة وحكمًا. وكذلك على نحو: الأخطاء المحتملة للقائمين على تجميد الخلايا وإعطائها لمن يريدها، وإذ يمكن بل يرجح أن يحصل الخطأ في اختيار الحيوان المنوي الفلاني؛ فيعطى إلى المرأة أخرى ليست زوجة صاحب ذلك الحيوان المنوي؛ فيحصل التلقيح الممنوع بين شخصين ليس بينهما علاقة شرعية البتة، وليس يربط بنهما سوى هذا التركيب المسقط، والخطأ الفادح، والخلط الشنيع الذي لم تدْعُ له ضرورة، ولا حاجة ولا كمال سوى الترف العلمي والمدني، والإفراط المادي، والاستخفاف بالحياء والكرامة والعفة. ومعلوم أن هذا الخطأ وارد ممكن الوقوع ولا سيما بعد توارد الأخبار والتقارير العلمية والطبية المفيدة لحصول الأخطاء الطبية الكثيرة على نحو: نقل فيروس الإيدز أو السيدا1، في جسد إنسان، بسب نقل الدم الذي لم يتأكد من سلامته وخوله من الفيروس، وكذلك نسيان المقص أو الضماد أو بعض الأدوات الطبية في بطن المريض بعد إجراء العملية الجراحية، وغير ذلك من الأمثلة التي وقعت فيها الأخطاء والهفوات على الرغم من التأكد البالغ والاحتياط الشديد.   1 الإيدز: تسميها الفرنسية "السيدا" ومعناها فقدان المناعة، بسبب الانحراف الجنسي بالأساس، أو نقل الدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ولعل الخطأ بنسيان مقص أن خيط أو إبرة في بطن مريض إثر العملية الجراحية يُعد هيِّنًا وغير ذي بال أمام الخطأ والتهاون في تلقيح بويضة امرأة أجنبية بمني رجل أجنبي، "فينجبان" مولودًا ليس له وضع شرعي، ولا وضع قانوني ولا عرفي ولا إنساني، وليس له سوى الوضع الفوضوي الممقوت. ب- كراء الرحم واستئجاره: حقيقة هذه النازلة الغريبة الشاذة، أن يُستأجر رحم امرأة أجنبية لتوضع فيه اللقيحة، بسبب تعطل رحم المرأة الزوجة، صاحبة البويضة. وهذه النازلة معلومة التحريم والفساد؛ وذلك لما فيها من معارضة حرمة العلاقة الزوجية المشروعة والمستورة، ومعارضة مقاصد الأمومة، ولكونها مفضية إلى اضطراب النسب وتداخله، واهتزاز العلاقة النسبية، والروابط الدموية، والاجتماعية، والسنن الكونية والحياتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 المطلب الخامس: مقاصد القضاء والشهادة القضاء والشهادة خطة شرعية معترة يؤديها أصحابها لمقاصد جمة وفوائد عدة، في أوضاع الدنيا، وأحوال الآخرة. ومن تلك المقاصد والفوائد نورد ما يلي: 1- حفظ حقوق الناس المادية والمعنوية، وصيانتها من الضياع والإتلاف والتهميش والتشويش. قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} 1. 2- إقامة العدل والمساواة بين كل الناس، دون تفرقة أو تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الجاه أو النسب أو الحسب أو غير ذلك، والعدل أساس العمران وسبب الاستقرار والارتياح، وطريق الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 2. 3- زجر المنحرفين وازدجار غير المنحرفين، وقمع الجناة والبغاة والطغاة، وصد عدوانهم وأذاهم وترويعهم للناس والحيوان والبيئة والمحيط. 4- رد المظالم إلى أهلها، ومنع أخذ المال أو المتاع بغير حق، ومنع انتهاك حق الغير أو عرضه أو كرامته أو عفته، وتمكين النظام والأمن من الاستقرار والتواصل والانضباط على وفق أخذ الحق المشروع، وأداء الواجب المطلوب سواء فيما تعلق بالحقوق والواجبات المادية والحسية، أو الحقوق والواجبات الأدبية والمعنوية. 5- الإصلاح بين الناس، والعمل ما أمكن على إزالة الخلاف والتشاجر والخصام بين الزوجين أو الجارين أو المتبايعين أو الدولتين أو غير ذلك. قال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْر} 3. 6- الإسهام في إنجاح سياسة الدولة، ومسيرتها الحضارية والتنموية، بإبداء النصح والتوجيه، والمشاركة في وضع الخطط والبرامج، وعون القادة والساسة على مهامهم ووظائفهم بلا إفراط ولا تفريط، وعلى وفق   1 سورة ص، آية 26. 2 سورة النساء، آية 58. 3 سورة النساء، آية 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ميزان العدل والمساواة، وإرادة الخير والنهوض للأمة قاطبة. 7- المقصد الكلي الجامع لكل تلك لمقاصد، وهو تحقيق استقرار النظام واستمراره، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، كما جاء على لسان الشيخ التونسي محمد الطاهر بن عاشور في كتابه: "مقاصد الشريعة الإسلامية"1. ولن يكون النظام العام مستقرًا ومستمرًا إلا إذا ارتكز على العدل والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه، وغير ذلك مما ذكرناه من مقاصد وفوائد قبل قليل.   1 مقاصد الشريعة لابن عاشور: ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المطلب السادس: مقاصد العقوبات العقوبات: هي جملة الحدود والتعازير الموضوعة لمعاقبة من يستحق العقاب؛ لأجل عدة مقاصد ومصالح نورد بعضها فيما يلي: 1- العقوبات هي جوابر لأصحابها، وهذه الجوابر قد تكون حسية ومادية كما هو الحال في وجوب ضمان ما أخذه السارق أو الغاصب، وفي الدية للقتل، وغير ذلك. وقد تكون معنوية ونفسية؛ وذلك بحصول الارتياح وذهاب الغيظ والتَّشفِّي والثأر. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبادة بن الصامت: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف؛ فمن وَفَّى فأجره على الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ومن أصاب شيئًا عوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك في الدنيا فستر الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، قال: فبايعناه على ذلك" 1. 2- العقوبات هي زواجر، أي أنها موضوعة لأجل زجر المعتدين والجناة وردعهم؛ ولأجل انزجار غير المعتدين وغير الجناة كيلا يفكروا أو يعزموا على الاعتداء والتعدي والانحراف. قال ابن القيم: "فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنيات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة، أحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه العقوبات غاية الإحكام، وشرعها على إكمال الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني في الردع؛ فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس؛ وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوات، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه"2. 3- إرضاء المجني عليه، وإذهاب غيظه ونقمته، ودفع أخذه بالثأر الذي قد لا يكون عادلًا؛ إذ ترك معاقبة الجاني تؤدي غالبًا أو قاطعًا إلى الانتقام.   1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. 2 إعلام الموقعين: 2 / 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الذي يؤدي إلى التجاوز والاعتداء في غالب الأحيان، ولذلك وضعت العقوبات وضبطت الحدود والتعازير من أجل تحقيق النظام بردع المخالفين، وإرضاء المعتدي عليهم بميزان العدل والمساواة والإنصاف. قال العلامة ابن عاشور: "فمقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزيز، أروش الجنايات ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجني عليه، وزجر المقتدي بالجناة"1.   1 مقاصد الشريعة، محمد الطاهر بن عاشور، ص205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 المطلب السابع: مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف ربَّاني مقطوع به، وعلم الأنبياء والمرسلين، وسلوك الصالحين والدعاة والمجددين، وهو سبب خيرية الأمة الإسلامية، وطريق نهضتها وتقدمها، وسبيل صلاح الإنسانية، واستقرار النظام الحياتي واستمراره، وقد دعى إليه ورغب فيه، واستنكر تركه والتهاون فيه، وسوء استخدامه واستعماله؛ فقد دعى إليه من نصوص وأدلة وقواعد وأقوال لا تحصى لكثرتها وتنوعها، ومن ذلك: أ- قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1. ب- قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 2.   1 سورة آل عمرن، آية 110. 2 سورة الحج، آية 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ج- قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1. وتلك الشعيرة الربانية الإسلامية المباركة لم يؤم بها على سبيل القطع واليقين إلا لما لها من المقاصد والمصالح القطعية الضرورية في الدنيا والآخرة. ومن تلك المقاصد: 1- حفظ المقاصد الضرورية الكلية اللازمة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل أو النسب والعرض والمال، والمقاصد الحاجية: التي تقرب من الضرورية اللازمة، والمقاصد التحسينية: التي يتم بموجبها كمال الحياة وتمام حسنها في المعاش والمعاد. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحقق ويقوي كل تلك المقاصد بالعمل على إيجادها وإحيائها وتثبيتها في الحياة، النفوس وبالعمل على إلغاء ما يناقضها ويضادها ويعارضها. 2- تحقيق الصلاح والإصلاح في الأرض، وإبعاد الفساد والرذائل والفواحش، وتطهير المجتمع من الأمراض والأدواء الظاهرة والباطنة، وتمكين الأمة، قادة وشعوبا من اختيار أفضل المسالك، وأحسن السبل والقوم الخيارات السياسية والتنموية والتربوية؛ وذلك بإجراء النصح والتوجيه والإرشاد والتقويم بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 2.   1 أخرجه النسائي من كتاب الإيمان وشرائعه، باب: تفاضل أهل الإيمان. 2 سورة النحل، آية 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 3- ضمان استمرار أداء شعيرة الأمرة بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمان أدائها بكمال وتمام، بأدب وتواضع، وبأساليب تعود على الشعيرة والأمة ودعائها وشعوبها بالخير والصلاح والسعادة؛ فالاعتقاد بأن هذه الشعيرة تكليف رباني وعمل شرعي يحصل به الثواب والأجر، يجعل القائم عليها مطمئنًا لحكم الله، منتظرًا جزاءه، صابرًا محتسبًا عن الأذى، مستمرًا في مهامه، وحريصًا على التبليغ والنصح والتوجيه مهما ظهرت أمامه المصاعب والمحن، ومهما كثرت حياله الانتقادات والمزاعم والشتائم بسبب أمره ونهيه معروفًا ومنكرًا. والجدير بالذكر: أن خير ضمان لتحقيق مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشائم بسب أمره ونهيه معروفًا ومنكرًا. والجدير بالذكر: أن خير ضامن لتحقيق مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو اعتماد الوسطية الإسلامية من خلال توخي الأساليب والآداب المقررة في القيام بهذه الشعيرة. ومن تلك الآداب والأساليب، اتباع الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة والمناظرة بالتي هي أحسن، وإرادة النصح والخير، وعدم الغلظة والتشديد في النصح والتوجيه، وعدم إشعار المدعو أو المنصوح بتفوق الناصح وتميزه وأفضليته، أن بفشل المنصوح، واستفحال مرضه وانحرافه، وكبر جرمه وإجرامه وإفساده، وغير ذلك مما قد يعيق عملية التأثير والتوجيه والإصلاح. ومن الآداب كذلك: كسب قلوب المنصوحين، وليس كسب المواقف والمعارك، كذلك عدم التشهير بهم وفضحهم وإفحامهم وتعجيزهم وغير ذلك. ومن الآداب الجامعة كذلك: أن لا يؤدي تغيير المنكر في إيجاد منكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أشد وأكبر، بسبب سوء التقدير والتعبير والتفكير، وأن لا يؤدي تقرير المعروف إلى زوال معروف أهم منه وأوكد؛ فالمصلحة الموجودة مقدمة على المصلحة المنتظرة المساوية أو الأقل من المصلحة الموجودة، وكذلك المفسدة الموجودة لا ينبغي تغيرها بالمفسدة الأكبر والأخطر منها. وعلى القائم على هذه الشعيرة -أفراد وجماعات وهيئات- أن يفهموا الفهم الدقيق، ويستخدموا الاستخدام المفيد لهذه الشعيرة، بلا إفراط ولا تفريط. 4- تحقيق مرضاة الله تعالى، والفوز بجناته، والنجاة من عذاب النار، ومن عذاب الدنيا وخزيها المتأتي بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 خلاصة المبحث: "تطبيق مقاصد الشريعة في الأحكام الفقهية" يُعرف هذا المبحث لدى بعض العلماء بالمقاصد الخاصة المتعلقة ببعض الأحكام والأبواب الفقهية المعينة، على نحو باب العبادات، وباب المعاملات، وباب الأنكحة، وباب الجنايات وغير ذلك1. ومعرفة المقاصد الخاصة أسهل بكثير من معرفة المقاصد العامة؛ وذلك أن المقاصد العامة تحتاج إلى استقراء عام، وتتبع غير يسير لنصوص الشرع وأحكامه قصد تقريرها وتثبيتها. وأما المقاصد الخاصة؛ فلا تحتاج غالبًا إلا لاستقراء النصوص والأحكام المتعلقة بباب وأحكام تلك المقاصد الخاصة2. وعلى أي حال فإن المقاصد الخاصة، والمقاصد العامة، والمقاصد الجزئية3، المتعلقة بالجزئيات، والفروع الفقهية، تشكل في مجموعها مقاصد الشرعية الإسلامية التي أصبحت لقبًا علميًا، وفنًا من فنون الشريعة، يحظى باهتمام متزايد وعناية كبرى.   1 انظر ما كتبه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، ص143-206. 2 انظر مقاصد الشريعة الإسلامية: محمد اليوبي، ص414. 3 المقاصد الجزئية: هي العلل والحكم الجزئية المتعلقة بأحكام الشرعية الفرعية، ومثالها: مقصد تحريم وطء الزوجة الحائض، والذي هو تجنب الأذى. ومقصد الأذان، والذي هو الإعلام والتنبيه والتجميع، ومقصد أفضلية الأضحية الذكر دون الأنثى، والمقصد هو إكثار وتقوية الثورة الحيوانية؛ لأن الأنثى مواطن التوالد والتناسل. وتعرف المقاصد الجزئية بعلل الأحكام وحكمها وأسرارها، وقد اهتم بها العلماء في القديم اهتمامًا أكبر وأعمق من اهتمامهم بالمقاصد العامة أو المقاصد الخاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فهرس المحتويات : الموضوع الصفحة المبحث الأول: - تعريف مقاصد الشريعة 13 - تعريف الشريعة لغة 13 - تعريف لفظ الإسلامية 14 - التعريف الاصطلاحي لمقاصد الشريعة الإسلامية 14 - تعريف العلماء المعاصرين للمقاصد 15 المبحث الثاني: - صلة المقاصد ببعض المصطلحات الأصولية 19 - صلة المقاصد بالعلة 19 - صلة المقاصد بالحكمة 20 - صلة المقاصد بالمصلحة 21 - أنواع المصلحة 22 - صلة المقاصد بسد الذرائع 23 - علاقة المقاصد بالذرائع 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الموضوع الصحفة المبحث الثالث: - موضوع مقاصد الشريعة 27 - المبحث الرابع: بيان صلة مقاصد الشريعة بالأدلة 31 - تعريف الأدلة الشرعية 31 - صلة المقاصد بالقرآن الكريم 31 - صلة المقاصد بالسنة 34 - صلة المقاصد بالإجماع 35 - صلة المقاصد بالقياس 36 - صلة المقاصد بالأدلة المختلف فيها 38 - علاقة الأدلة بالمصلحة المرسلة 38 - صلة المقاصد بالاستحسان 39 - صلة المقاصد بقول الصحابي 41 - الأدلة على تبيعة المقاصد للأدلة الشرعية وعدم استقلالها عنها 42 المبحث الخامس: - تعليل الأحكام الشرعية وبناء المقاصد على القول به 45 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الموضوع الصحفة - تعليل الأحكام الشرعية 45 - معنى التعليل وأدلته 45 - بناء المقاصد على القول بتعليل الأحكام 48 - الاجتهاد في ضوء المقاصد الشرعية 49 المبحث السادس: -فوائد مقاصد الشريعة 51 المبحث السابع: - تاريخ البحث في المقاصد الشرعية 53 - نشأة المقاصد الشرعية 53 - المقاصد في عهد الصحابة والتابعين 54 - المقاصد في عهد كبار الأئمة 54 - بض العلماء الذين اشتهروا بدارسة مقاصد التشريع 57 - مرحلة الإدماج في التأليف 58 - مرحلة إفراد المقاصد بالتأليف 61 - مظان مقاصد الشريعة 62 - أهم المؤلفات في مقاصد الشريعة 64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الموضوع الصفحة - طرق إثبات مقاصد الشريعة 67 - الاستنباط المباشر من القرآن والسنة 67 - الاستخراج من المقاصد الأصلية والتابعة 69 المبحث التاسع: -تقسيمات المقاصد وبيان أنواعها 71 - مقاصد الشارع ومقاصد المكلف 71 - المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية 71 - المقاصد العامة والخاصة والجزئية 72 - المقاصد القطعية والظنية والوهمية 73 - المقاصد الكلية والبعضية 74 - المقاصد الأصلية والتابعة 75 المبحث العاشر: - مقاصد الشريعة من وضع الأحكام ابتداء: تحقيق المصالح 77 - بيان هذا المعنى والدليل عليه 77 - أدلة تحقيق المصالح 77 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الموضوع الصفحة المبحث الحادي عشر: - أنواع المقاصد من حيث قوتها في ذاتها 79 - المقاصد الضرورية: تعريفها - أمثلتها - أدلتها 79-80 - المقاصد الضرورية 81 - المقاصد الضرورية لحفظ الدين 81 - المقاصد الضرورية لحفظ النفس 81 - المقاصد الضرورية لحفظ العقل 82 - المقاصد الضرورية لحفظ النسل والنسب والعرض 83 - المقاصد الضرورية لحفظ المال 84 - خلاصة أقسام المقاصد الضرورية 85 - المقاصد الحاجية 85 - تعريف المقاصد الحاجية 86 - المقاصد التحسينية 89 - أمثلتها 90 - أدلة المقاصد التحسينية 91 المبحث الثاني عشر: - مكملات المقاصد الشرعية وشرطها 93 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الموضوع الصفحة - تعريف مكملات المقاصد 94 - أقسام مكملات المقاصد 94 - مكملات المقاصد الضرورية 94 - مكملات المقاصد الحاجية 96 - مكملات المقاصد التحسينية 97 - شرط مكملات المقاصد الشرعية 97 - ارتباط المقاصد الثلاثة ببعضها 99 المبحث الثالث عشر: -مقصود الشارع الجانب الغالب في المصالح والمفاسد 101 المبحث الرابع عشر: - تختلف الجزئيات قد يكون لمصلحة مشروعة خارجة عن مقتضى الكلي 105 الجزء الثاني: المبحث الأول: - قدرة المكلف على ذلك 109 - الأدلة على ذلك 109 - الأدلة من القرآن الكريم 110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الموضوع الصفحة - الأدلة من السنة النبوية الشريفة 110 - دليل الإجماع 111 - الإجماع المنعقد على حجيته ما ذكرنا ضربان 112 - الأدلة من آثار السلف والخلف 114 - دليل الاستقراء 114 - الأدلة المعقولة 116 المبحث الثاني: المشقة: حقيقته - أنواعها- أمثلتها 119 - المطلب الأول: المشقة التي يقدر عليها المكلف 119 - المطلب الثاني: المشقة التي لا يقدر عليها المكلف 123 - المطلب الثالث: أمثلة المشقة التي لا يقدر عليها المكلف 124 - المطلب الرابع: مخالفة الهوى من قبيل المشقة المستطاعة 126 مخلص خقيقة المشقة وأنواعها وأمثلتها 127 أ- المشقة التي لا يقدر عليها المكلف 127 ب- المشقة التي يقدر عليها المكلف 128 المبحث الثالث: رفع الحرج في الشريعة وبناء أحكامها على التيسير 129 المطلب الأول: رفع الحرج لا يعني ترك التكليف أو التهاون فيه 130 المطلب الثاني: من أمثلة رفع الحرج في الشريعة الإسلامية 130 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الموضوع الصفحة قدرة المكلف على فهم التكليف 133 - المطلب الأول: فهم التكليف باللسان العربي 133 - المطلب الثاني: هل يمكن فهم القرآن بغير لغته التي أنزل بها 136 - المطلب الثالث: أمية الشريعة وعالميتها 137 - المطلب الرابع: أدلة كون الشريعة أمية 137 - المطلب الخامس: حقيقة الأمية ومعناها 138 المبحث الخامس: دخال المكلف في دائرة العبادة والامتثال وإخراجه من دائرة الهوى 143 - المطلب الأول: واجب المكلف عبادة الله ومخالفة هوى النفس 143 1- الأدلة على النصوص الشرعية 144 2- الأدلة على ذم الهوى ومخالفة الأوامر والأحكام الشرعية 145 3- الأدلة من الأحكام 146 أ- فعلى مستوى التوحيد والعقيدة 146 ب- وعلى مستوى العبادات 146 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الموضوع الصفحة ج- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالمعاوضات 147 د- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالأنكحة 147 هـ- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالجنايات والدماء الأدلة من الواقع والحياة 148 - المطلب الثاني: العمل الذي يمتزج فيه هوى النفس ومقصود الشاعر 151 - القواعد المستخلصة من مقصد عبادة الله ومخالفة هوى النفس 152 - القاعدة الأولى 152 - القاعدة الثانية 152 - القاعدة الأولى: بطلان العمل التابع للهوى دون الشرع 152 - القاعدة الثانية: ذم اتباع الهوى ولو جاء في ضمن المحمود 153 - المطلب الثالث: - المقاصد الأصلية والتبعية 155 - تعريف المقاصد الأصلية 155 - أمثلتها باختصار 155 تفصيل الأمثلة كما ذكرها الشاطبي 157 - المقارنة بين المقاصد التابعة وحكمها وحجيتها 158 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الموضوع الصفحة - مراتب المقاصد التابعة وحكمها وحجيتها 160 - المرتبة الأولى 161 - المرتبة الثانية 161 - المرتبة الثالثة 162 - مثال ذلك 163 المبحث السادس: تطبيق مقاصد الشريعة في الأحكام الفقهية 165 - المطلب الأول: مقاصد العبادات: الأصل في العبادات التوقيف 166 توقيفية العبادات لا يعني خلوها من الحِكم والفوائد والمصالح 167 - مقاصد بعض العبادات 170 - مقاصد الصلاة 171 - مقاصد الزكاة 171 - مقاصد الصيام 173 - مقاصد الحج 173 - مقاصد الكفارات 174 - المطلب الثاني: مقاصد التصرفات المالية 175 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الموضوع الصفحة - المطلب الثالث: مقاصد التبرعات 176 مقاصد التبرعات في أنظمة الدول والجمعيات والهيئات المحلية والعالمية 177 - المطلب الرابع: مقاصد النكاح 179 بعض النوازل المعاصرة التي ضيعت مقاصد النكاح 182 - المطلب الخامس: مقاصد القضاء والشهادة 184 - المطلب السادس: مقاصد العقوبات 186 - المطلب السابع: مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 188 - خلاصة المبحث "تطبيق مقاصد الشريعة في الأحكام الفقهية" 193 - فهرس الموضوعات 195 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207