الكتاب: تأويل مختلف الحديث المؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ) الناشر: المكتب الاسلامي - مؤسسة الإشراق الطبعة: الطبعة الثانية- مزيده ومنقحة 1419هـ - 1999م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تأويل مختلف الحديث الدِّينَوري، ابن قتيبة الكتاب: تأويل مختلف الحديث المؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ) الناشر: المكتب الاسلامي - مؤسسة الإشراق الطبعة: الطبعة الثانية- مزيده ومنقحة 1419هـ - 1999م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة الْحَمد لله رب الْعَالمين الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات وتعظم الْخيرَات وتعم البركات، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من أرْسلهُ الله تَعَالَى رَحْمَة للْعَالمين وَأنزل عَلَيْهِ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب، وَبعد، فَإِنَّهُ من تواصل النعم من الْمولى جلّ جَلَاله على عَبده الضَّعِيف مُحَقّق هَذَا السّفر النفيس أَن وَفقه لخدمة السّنة الشَّرِيفَة فِي تجلية مَنَاقِب هَذَا الْكتاب، وَالتَّعْلِيق على مَا ورد فِيهِ من أفكار ومعلومات، وَعرضه بالصورة اللائقة بِهِ، وفْق مَا ورد فِي الْمُقدمَة الطَّوِيلَة للطبعة الأولى، فلقي الْكتاب بذلك -وَللَّه الْحَمد- الْقبُول وَالِاسْتِحْسَان، حَتَّى جعله بعض مدرسي مَادَّة الحَدِيث الشريف فِي الجامعات بَين المراجع الْمُعْتَبرَة لطلابهم فِي كليات الشَّرِيعَة، وَطلبت مِنْهُ إِحْدَى الجامعات كميات مِنْهُ لتوزيعه على الطّلبَة. وَذَلِكَ لما يتضمنه الْكتاب من حوار علمي موضوعي لتجلية الصَّوَاب، وَلما يلقيه من أضواء على رؤى الْمدَارِس الفكرية الإسلامية فِي وَقت مبكر واجتهاداتها فِي تقييم الْأَحَادِيث الشَّرِيفَة من نَاحيَة الْمَوْضُوع؛ لَا من نَاحيَة السَّنَد فَقَط؛ كَمَا اعتاده عُلَمَاء الحَدِيث، وفْق الْقَوَاعِد الَّتِي وضعوها فِي علم مصطلح الحَدِيث. وَلَقَد رَأَيْت أَن أشرك معي فِي إِعَادَة النّظر مرّة أُخْرَى بالتحقيق والتقييم تمهيدًا لإعادة طباعة الْكتاب طبعة ثَانِيَة الْأَخ الشَّيْخ مُحَمَّد بدير الَّذِي جمعتني بِهِ زمالة الْعَمَل والاهتمام بِخِدْمَة الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فِي مكتب الدراسات الشَّرْعِيَّة بصندوق الزَّكَاة فِي قطر، وَذَلِكَ لما خبرته فِيهِ من غيرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 علمية، وحرص على بَيَان الْحَقِيقَة بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ، والمنافحة عَن دين الله تَعَالَى والالتزام بالمنهج العلمي فِي التأصيل والتدوين. وَقد رحب بذلك مشكورًا، فَقَرَأَ الْكتاب من أَلفه إِلَى يائه، وَكَانَت لَهُ ملاحظات مُخْتَلفَة، بَعْضهَا فِي تقييم بعض الْأَحَادِيث وَبَيَان دَرَجَة صِحَّتهَا، وَبَعضهَا فِي تَعْلِيق وَشرح ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى وَقد أدرجت هَذِه الملاحظات، وميزتها عَن عَمَلي بِذكر اسْمه فِي نهايتها؛ عقب سردها فِي الْحَاشِيَة، فجزاه الله خيرا على ذَلِك. وَهَكَذَا فقد تميزت هَذِه الطبعة بمزيد من التَّنْقِيح والتصحيح، وتعدد النّظر والرؤى، وأسأل الله تَعَالَى أَن ينفع بِهَذَا الْكتاب طلبة الْعلم والباحثين والدراسين؛ وَأَن يغْفر الله تَعَالَى لنا الزلات والأخطاء إِذا وجدت، وَأَن يَجْعَل هَذَا الْعَمَل مبرورًا، ويتقبله برحمة مِنْهُ وَفضل، وَأَن يعمنا بثوابه ومغفرته مَعَ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى، وَكَذَا من قَرَأَهُ ودرسه واستفاد مِنْهُ. وَللَّه الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة. الدوحة فِي 15/ ذُو الْقعدَة 1418هـ 14/ 3/ 1998م مُحَمَّد محيي الدَّين الْأَصْفَر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَةُ الْمُحَقق للطبعة الأولى: إِن الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ بلغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة ونصح الْأمة وجاهد فِي الله حق جهاده صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا، وَبعد، فَإِن الْوَحْي الَّذِي تنزل على الرَّسُول الْخَاتم لم يقْتَصر على النَّص المعجز المتعبد بتلاوته "الْقُرْآن الْكَرِيم" بل شَمل كَذَلِك مَا رُوِيَ عَن الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السّنة من قَول أَو عمل أَو تَقْرِير أَو صفة. وَقد شهد الْقُرْآن الْكَرِيم بشمول الْوَحْي لمصدري التشريع كليهمَا -الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة- بقوله تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2. {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 3. كَمَا أكد الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنى بقوله: "إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمثله مَعَه" 4.   1 سُورَة النَّجْم: الْآيَة 3: 4. 2 سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 31. 3 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة: 80. 4 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب السّنة6، وَأحمد4/ 4/ 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فبالإضافة إِلَى أَن السّنة صنو الْقُرْآن الْكَرِيم من حَيْثُ الدّلَالَة، فَهِيَ كَذَلِك شارحة لقواعده الْعَامَّة ومفصلة لمجمله، ومبينة لمعانيه، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . فَهِيَ جُزْء لَا يتَجَزَّأ من كَمَال الرسَالَة وتمامها. وَلم تكن هَذِه الْحَقِيقَة مَوضِع خلاف بَين الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، بل كَانَت من البدهيات الْمُسلم بهَا وَالْمجْمَع عَلَيْهَا نصا وَعَملا. تدوين السّنة فِي عهد النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَكِن السّنة لم تدون فِي حَيَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خشيَة اختلاطها بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم كَمَا هُوَ مَعْرُوف من نهي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ بَقِي الْأَمر على هَذَا الْحَال فِي عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا من استثناءت خَاصَّة لبَعض الصَّحَابَة المعروفين بعلمهم وضبطهم، فَكَانَت لبَعْضهِم مدوناته فِي السّنة، بِالْإِضَافَة إِلَى أَن مَنْهَج الاستيثاق وضعت معالمه فِي وَقت مبكر حِين جمع كتاب الله تَعَالَى فِي عهد الْخَلِيفَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ ثمَّ فِي عهد عُثْمَان رَضِي عَنهُ، وَكَانَ لَا بُد من شَهَادَة اثْنَيْنِ من الصَّحَابَة على الْأَقَل حَتَّى يتم تدوين الْآيَة فِي موضعهَا من الْقُرْآن الْكَرِيم، وَقد انسحب هَذَا الشَّرْط على قبُول الحَدِيث أَيْضا، فَلم يُقبل حديثٌ من راوٍ مَا لم يتوفر لَهُ شَاهد أَو أَكثر، وَقد تورع كثير من الصَّحَابَة عَن رِوَايَة الحَدِيث مَا لم يَكُونُوا على يَقِين تَامّ مِمَّا ينقلون، حَيْثُ أَن أَمر حفظ السّنة وتناقل رِوَايَات الحَدِيث لم يكن مُشكلا طالما أَن جيل الصَّحَابَة كَانَ مَوْجُودا. تدوين السّنة بعد جيل الصَّحَابَة: وَلما بَدَأَ جيل الصَّحَابَة يتناقص وامتد الْإِسْلَام إِلَى شعوب وأمم أُخْرَى، وَكَانَت الْأَحَادِيث تتناقل شفاهة بشروطها التوثيقية، شعر الْمُسلمُونَ بضرورة تدوين السّنة كَامِلَة، وبذل عُلَمَاء السّنة جزاهم الله خيرا جهودًا محمودة فِي تدوينها، وَوضعت عُلُوم مُتعَدِّدَة لتنقية السّنة من الشوائب الَّتِي ابتدعها أَصْحَاب الْأَهْوَاء والنحل الْبَاطِلَة، وَكَانَ الأساس فِي تدوين السّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 مَنْهَج الاستيثاق الَّذِي اعْتَمدهُ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي وَقت مبكر بعد أَن طوروه إِلَى الصُّورَة الَّتِي جعلت مِنْهُ خير مَنْهَج علمي موضوعي يُمكن أَن يتوافر عَلَيْهِ بشر، حَتَّى أننا لَا نعهد فِي التَّارِيخ العالمي نبيًّا أَو عَظِيما بُذِلَ فِي سَبِيل تَحْقِيق مَنْطُوق كَلَامه وَمَا رُوِيَ عَن أَحْوَاله وَسيرَته بشكل عَام مَا توفر للرسول الْخَاتم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَلَا غرابة فِي ذَلِك فَإِن من لَوَازِم الرسَالَة الخاتمة وصولها نصًّا سليما وبيانًا صَحِيحا كثمرة للْحِفْظ الرباني لهَذَا الدَّين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فقيض الله لَهُ من يدْفع عَنهُ الشّبَه ويجلي الْحَقِيقَة، وينقله بِسَنَد مُتَّصِل على هَذَا النَّحْو من السَّلامَة والدقة. وَلَا شكّ أَن من نعم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة أَن كَانَ ظُهُور الْفِتْنَة فِيهَا مترافقًا مَعَ وجود جيل الْأَصْحَاب -حفظَة الحَدِيث- الْمَشْهُود لَهُم من رَسُول الله، الْأَمر الَّذِي أدّى إِلَى تدوين وتوثيق السّنة بِحَيْثُ تحققت دَرَجَة صِحَة الحَدِيث وحجيته بِمَا لَا يدع مجالًا لشُبْهَة. وَهَكَذَا لم يخْتَلف جُمْهُور عُلَمَاء الْأمة على وجوب الْأَخْذ بِالسنةِ وَالِاسْتِدْلَال بهَا عملا بقوله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وَلَا يعْتد بِرَأْي بَعضهم مِمَّن جنحت بِهِ الْأَهْوَاء وأضلته الْفِتَن. اتجاه عُلَمَاء السّنة فِي عملية التدوين وَدفع الشّبَه: وَقد اتجه عُلَمَاء السّنة فِي بنائهم لصرحها اتجاهين واضحين لَا يُغني أَحدهمَا عَن الآخر: الأول فِي تدوين السّنة الصَّحِيحَة بإسنادها، وَالثَّانِي دفع الشّبَه والأهواء الْبَاطِلَة وَبَيَان وَجه الْحَقِيقَة فِي ذَلِك. وَيُمكن أَن يصنف هَذَا الْكتاب "تَأَول مُخْتَلف الحَدِيث" ضمن الْمَجْمُوعَة الثَّانِيَة فِي الدفاع عَن السّنة، ويتميز بِأَنَّهُ عرض الشّبَه الَّتِي أثيرت حول تنَاقض بعض الْأَحَادِيث فِيمَا بَينهَا، أَو معارضتها لآيَات فِي كتاب الله تَعَالَى، أَو خُرُوجهَا عَن منطق الْعقل ومبادئ الْفِكر الْمُتَعَارف عَلَيْهَا، أَو مخالفتها لمألوف النَّاس ومعروفهم، أَو لسنن الطبيعة وقوانينها العلمية. تِلْكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الشّبَه الَّتِي أثارها المخالفون، الْأَمر الَّذِي حملهمْ على إِسْقَاط بعض الْأَحَادِيث وتعطيلها. وَلَقَد كَانَ عمل الْمُؤلف رَحمَه الله بَيَان الْحَقِيقَة بالأدلة العلمية، وتفنيد المزاعم وكشف قُصُور الْفَهم بالملابسات المرافقة لوُرُود النَّص.. وَيعْتَبر هَذَا الْكتاب -إِضَافَة إِلَى كتب أُخْرَى فِي الْمَوْضُوع نَفسه- نَافِذَة نطل مِنْهَا على التيارات الفكرية والمذهبية الَّتِي كَانَت مَوْجُودَة فِي الْقرن الثَّالِث، مِمَّا يعْتَبر سجلًا حيًّا وَشَاهدا وَاضحا على مَا دَار فِي عصر الْمُؤلف من مناظرات ومنازعات وحوار رسخت فِيهَا أَقْدَام، وزلت بهَا عَن الْحق أفهام. وَهِي على كل حَال سجل تاريخي يُغني ويثري الْفِكر الإسلامي، ويعين على التَّمَسُّك بالنافع الصَّالح، كَمَا يبصر بالمزالق والأهواء. وسنفصل فِيمَا يَلِي أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي؛ ليَكُون ذَلِك مدخلًا نفهم من خلاله بوضوح موقع هَذَا الْكتاب، ثمَّ نعطي فكرة منهجية عَنهُ وعملنا فِيهِ، وننهي الْمُقدمَة بِالْحَدِيثِ عَن الْمُؤلف ومكانته العلمية ومساهماته فِي الاهتمامات العلمية والثقافية والمذهبية السائدة فِي عصره. ونسأل الله تَعَالَى أَن يَجْزِي الْمُؤلف خير مَا يَجْزِي الْعلمَاء العاملين، وَأَن يَجْعَل عَملنَا خَالِصا لوجهه الْكَرِيم يثيبنا عَلَيْهِ بفضله وَرَحمته إِنَّه البَرُّ الرَّحِيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي: لَعَلَّ معرفَة أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي عِنْد عُلَمَاء الْمُسلمين وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين يلقِي ظلالًا موضوعية على قَضِيَّة هَذَا الْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا. فَلَا خلاف فِي إِجْمَاع الْعلمَاء على اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي بعد كتاب الله تَعَالَى "الْقُرْآن الْكَرِيم" لَكِن السّنة لم تدون كلهَا فِي الْقرن الأول الهجري كَمَا أسلفنا، فقد فكر الْخَلِيفَة الثَّانِي عمر بن الْخطاب فِي تدوينها، وَلكنه بعد التروي والتشاور لم يقدم على ذَلِك لسببين فِيمَا نعتقد: لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على اتِّبَاع مَنْهَج صَاحِبيهِ السالفين، فَأَبُو بكر لم يَفْعَله وَلَا أذن بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم؛ وَلِأَن الْحَاجة لم تكن قَائِمَة فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى التدوين؛ فالجيل الَّذِي كَانَ يحفظ السّنة شفاهة ويجسدها بسلوكه عملا لَا يزَال مَوْجُودا. وَهَكَذَا لم ينفذ عمر رَضِي الله عَنهُ مَا فكر فِيهِ، وانقضى الْقرن الأول الهجري من غير أَن تدون السّنة عدا مَا رُوِيَ من أَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَت لَهُ صحيفَة اسْمهَا "الصادقة" دون فِيهَا الْأَحَادِيث الَّتِي سَمعهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ بِإِذن خَاص مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، فقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: "كنت أَكثر الصَّحَابَة حفظا لحَدِيث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فقد كَانَ يكْتب وَلَا أكتب"1.   1 الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ رقم113/ كتاب الْعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 تَوْثِيق الحَدِيث: وعَلى الرغم من عدم التدوين إِلَّا أَن الصَّحَابَة مَعَ ذَلِك اتَّخذُوا بعض الاحتياطات الَّتِي لَا بُد مِنْهَا للوثوق بِرِوَايَة الحَدِيث، وتحروا الدقة فِي نَقله، فقد كَانَ أَبُو بكر الصّديق لَا يقبل الحَدِيث إِلَّا من راوٍ يُؤَيّدهُ شَاهد، وَعمر بن الْخطاب كَانَ يطْلب من الرَّاوِي أَن يَأْتِي بِالْبَيِّنَةِ على رِوَايَته، وَعلي بن أبي طَالب كَانَ يسْتَحْلف الرَّاوِي. وَلَكِن هَذِه الاحتياطات -وَإِن حققت الْغَرَض مِنْهَا فِي عهد الصَّحَابَة- إِلَّا أَن الْحَاجة أَصبَحت ماسة فِيمَا بعد إِلَى التدوين؛ نظرا لتفرق الصَّحَابَة وانقراضهم تدريجيًا، وَدخُول الْإِسْلَام إِلَى بِلَاد جَدِيدَة وانسياح الْمُسلمين فِي الأَرْض، وتناقل حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَصْحَاب شفاهة بالروايات ذَات السَّنَد الصَّحِيح أَو غَيره. وَقد كَانَ لعدم تدوين السّنة أثران: "أَحدهمَا": أَنه دفع عُلَمَاء الْمُسلمين إِلَى بذل جهود خَاصَّة فِي دراسة حَال رُوَاة الحَدِيث ودرجة الثِّقَة بهم، وانقسمت الأحادث بِاعْتِبَار رواتها إِلَى قَطْعِيَّة الثُّبُوت وظنية الثُّبُوت، كَمَا انقسمت دَرَجَات الحَدِيث من حَيْثُ الْقبُول وَالرَّدّ إِلَى صَحِيح وَحسن وَضَعِيف، وَأسسَ فن الرِّوَايَة وَوضعت فِيهِ مؤلفات. "وَثَانِيهمَا" أَن عدم التدوين ترك فرْصَة للتحريف وَالزِّيَادَة وَالنَّقْص خطأ أَو عمدا، لذَلِك لم يجمع الْمُسلمُونَ على السّنة كلهَا كَمَا أَجمعُوا على الْقُرْآن كُله، مِمَّا أدّى إِلَى اخْتلَافهمْ فِي الِاحْتِجَاج بهَا حسب دَرَجَة اعْتِبَار الصِّحَّة لديهم. التحزب السياسي والانقسام المذهبي: إِن الانحياز والتحزب السياسي الَّذِي نَشأ بِسَبَب مَفْهُوم الْخلَافَة وَاخْتِيَار شخصية الْخَلِيفَة أَخذ شكلًا دينيًّا ذَا أثر خطير فِي اعْتِمَاد بعض الْأَحَادِيث ورفض بَعْضهَا الآخر، وَذَلِكَ أَنه بعد مقتل عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ بُويِعَ بالخلافة عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنهُ، ونازعه الْخلَافَة مُعَاوِيَة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنْهُمَا لأسباب ومسوغات لَا مجَال لذكرها هُنَا، واشتدت الْفِتْنَة بَين الْفَرِيقَيْنِ وانتهت إِلَى التَّحْكِيم، ونتج عَن ذَلِك انقسام الْمُسلمين إِلَى طوائف ثَلَاثَة: الْخَوَارِج، والشيعة، وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وهم جُمْهُور الْأمة. 1- أما الْخَوَارِج فهم جمَاعَة من الْمُسلمين نقموا من عُثْمَان سياسته فِي خِلَافَته، ونقموا من عَليّ قبُول التَّحْكِيم، ونقموا من مُعَاوِيَة توليه الْخلَافَة بِالْقُوَّةِ والسياسة، فَخَرجُوا على جَمِيع الْأَطْرَاف، وَكَانَ مبدؤهم أَن خَليفَة الْمُسلمين يَنْبَغِي أَن ينتخب انتخابًا من الْمُسلمين مِمَّن توفرت فِيهِ الْكَفَاءَة لَهَا، سَوَاء أَكَانَ قرشيًّا أم غير قرشي حَتَّى وَلَو كَانَ عبدا حبشيًّا، وَأَنه لَا تجب طَاعَته إِلَّا إِذا كَانَ مُلْتَزما الْقُرْآن وَالسّنة، فَإِن تجاوزهما وَجب الْخُرُوج عَلَيْهِ وسلكوا فِي تأييد مبدئهم ومجاهدة خصومهم وَسَائِل العنف والشدة فِي حروبهم. 2- وَأما الشِّيعَة فهم جمَاعَة من الْمُسلمين رَأَوْا تَفْضِيل عَليّ بن أبي طَالب وَذريته وأحقيتهم بالخلافة وأفرطوا فِي ذَلِك؛ لأَنهم يرَوْنَ أَنه الَّذِي أوصى لَهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخلافة من بعده، ثمَّ انقسموا فِيمَا بَينهم بشأن توارث هَذِه الْخلَافَة إِلَى كيسانية وزيدية وإسماعيلية وجعفرية، وكل فرقة تجْعَل الْخلَافَة فِي فرع خَاص من ذُرِّيَّة عليّ. 3- وَأما جمهرة الْمُسلمين فَلم يذهبوا مَذْهَب الْخَوَارِج وَلَا الشِّيعَة وَلم يرَوا أَن الْخلَافَة وَصِيَّة لأحد، وَرَأَوا أَن الْخَلِيفَة ينتخب من أكفاء قُرَيْش إِن وجد، ويؤولون مَا كَانَ بَينهم من خصومات بِأَنَّهَا كَانَت اجتهادية. هَذَا الانقسام السياسي كَانَ لَهُ أثر فِي أَن الْخَوَارِج رفضوا الْأَحَادِيث الَّتِي رَوَاهَا عُثْمَان أَو عَليّ أَو مُعَاوِيَة أَو رَوَاهَا صَحَابِيّ مِمَّن ناصروا وَاحِدًا مِنْهُم، وردوا كل أَحَادِيثهم وآرائهم وفتاويهم، واقتصروا على مَا رُوِيَ عَمَّن يرضونهم وَرِوَايَات عُلَمَائهمْ وفتاويهم. وَكَذَلِكَ الشِّيعَة اشترطوا فِي قبُول الحَدِيث أَن يكون من رِوَايَة آل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الْبَيْت والفتاوى الَّتِي صدرت عَنْهُم، وَبِهَذَا كَانَ لَهُم أَيْضا فقه خَاص. وَأما جُمْهُور الْمُسلمين فَكَانُوا يحتجون بِكُل حَدِيث توافرت لراويه الشُّرُوط الْمَطْلُوبَة بِلَا تَفْرِيق بَين صَحَابِيّ وَآخر، وَيَأْخُذُونَ بفتاوى الصَّحَابَة وآرائهم جَمِيعًا، وعَلى الرغم من اتِّفَاق جُمْهُور عُلَمَاء الْمُسلمين على هَذِه الخطة الموضوعية فِي قبُول الحَدِيث -بِاعْتِبَار الصَّحَابَة جَمِيعًا عُدُولًا موثوقين- دون النّظر إِلَى مواقفهم السياسية من قَضِيَّة الْفِتْنَة الْكُبْرَى. لكِنهمْ بِالْإِضَافَة إِلَى ذَلِك اخْتلفُوا فِي الخطة التشريعية الَّتِي تبناها كل مِنْهُم، وَقد نَشأ ذَلِك بِنَاء على اخْتلَافهمْ فِي تَقْدِير بعض مصَادر التشريع، وَقد تجلى ذَلِك على وَجه الْإِجْمَال فِيمَا يَأْتِي: أَسبَاب الِاخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين: 1- أولًَا: من حَيْثُ دَرَجَة ثُبُوت الحَدِيث وَالْمِيزَان الَّذِي ترجح بِهِ رِوَايَة على أُخْرَى، وَذَلِكَ أَن قبُول السّنة كمصدر للْأَحْكَام مَبْنِيّ على الوثوق برواتها، وطرق رِوَايَتهَا، كَمَا اخْتلف الْأَئِمَّة فِي مقاييس الْقبُول: فمجتهدو الْعرَاق: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يحتجون بِالْحَدِيثِ الْمُتَوَاتر وَالْمَشْهُور، وَمَا يُقَاس عَلَيْهِمَا من رَأْي اجتهادي يقدمونه على حَدِيث خبر الْآحَاد حَال مُخَالفَته، قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: "وَعَلَيْك بِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَة من الحَدِيث، وَمَا يعرفهُ الْفُقَهَاء". ومجتهدو الْمَدِينَة: مَالك وَأَصْحَابه يرجحون إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة ويقدمونه فِي الِاسْتِدْلَال على خبر الْآحَاد. وَأما بَاقِي الْأَئِمَّة: فيحتجون بِمَا رَوَاهُ الْعُدُول الثِّقَات سَوَاء وَافق عمل أهل الْمَدِينَة أَو خَالفه. وترتب على هَذَا أَن مجتهدي أهل الْعرَاق جعلُوا الْمَشْهُور فِي حكم الْمُتَوَاتر، وخصصوا بِهِ الْعَام فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، وقيدوا بِهِ الْمُطلق، وترتب أَيْضا أَن مَرَاسِيل الصَّحَابَة من الحَدِيث وَهِي الَّتِي رَوَاهَا صَحَابِيّ بقوله: أَمر رَسُول الله بِكَذَا أَو نهى عَن كَذَا أَو قضى بِكَذَا -من غير أَن يُصَرح بِأَنَّهُ سمع ذَلِك بِنَفسِهِ أَو شافهه أَو شَاهده- يحْتَج بهَا بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الْمُجْتَهدين وَلَا يحْتَج بهَا بَعضهم الآخر، وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي طَرِيق قبُول بعض الْأَحَادِيث أدّى إِلَى قبُول بعض الْأَحَادِيث من قبل جمَاعَة من الْفُقَهَاء وردهَا من قبل آخَرين، وَرُبمَا رجح بَعضهم حكما بِحَدِيث هُوَ مَرْجُوح عِنْد الآخر، وَنَشَأ عَن هَذَا اخْتِلَاف الْأَحْكَام1. 2- وَثَانِيا: اخْتلَافهمْ فِي فَتَاوَى الصَّحَابَة وتقديرها، فَإِن الْأَئِمَّة اخْتلفُوا فِي الْفَتَاوَى الاجتهادية الَّتِي صدرت عَن أَفْرَاد الصَّحَابَة، فَأَبُو حنيفَة وَمن تَابعه لم يتقيدوا بفتوى مُعينَة لصحابي شريطة أَن لَا يخرجُوا عَن فتاويهم جَمِيعًا. بَيْنَمَا كَانَ يرى الشَّافِعِي وَمن تَابعه أَن فَتَاوَى الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَتَاوَى اجتهادية من أَفْرَاد غير معصومين، فَلهم إِذن أَن يَأْخُذُوا بأية فَتْوَى مِنْهَا، كَمَا أَن لَهُم أَن يفتوا بِخِلَافِهَا كلهَا. وَعَن هَذَا نَشأ اخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام. 3- ثَالِثا: فِي الْقيَاس؛ فَإِن بعض الْمُجْتَهدين من الشِّيعَة والظاهرية أَنْكَرُوا الِاحْتِجَاج بِالْقِيَاسِ وَنَفَوْا أَن يكون مصدرا للتشريع وَلِهَذَا سموا: نفاة الْقيَاس، وَجُمْهُور الْأَئِمَّة احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ وعدوه الْمصدر التشريعي الرَّابِع بعد الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة وَالْإِجْمَاع، وَلَكنهُمْ مَعَ اتِّفَاقهم على أَنه حجَّة اخْتلفُوا فِيمَا يصلح أَن يكون عِلّة للْحكم ويبنى عَلَيْهِ الْقيَاس، حَيْثُ يشْتَرط بَعضهم أَن يكون مَنْصُوصا على عِلّة الحكم، وَنَشَأ عَن هَذَا أَيْضا اخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام. 4- رَابِعا: وَأما اخْتلَافهمْ فِي النزعة التشريعية، فقد ظهر فِي انقسامهم إِلَى فريق أهل الحَدِيث وَمِنْهُم أَكثر مجتهدي أهل الْحجاز، وفريق أهل الرَّأْي وَمِنْهُم أَكثر مجتهدي أهل الْعرَاق. وَلَيْسَ معنى هَذَا الانقسام أَن فُقَهَاء الْعرَاق يصدرون فِي تشريعهم عَن   1 قَالَ الزَّرْكَشِيّ: "يجوز تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد عِنْد الْجُمْهُور، وَهُوَ الْمَنْقُول عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة "الْبَحْر الْمُحِيط فِي أصُول الْفِقْه 3/ 364" -مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ فَقَط، لأَنهم جَمِيعًا متفقون على أَن الحَدِيث حجَّة شَرْعِيَّة ملزمة، وَأَن الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ أَي بِالْقِيَاسِ حجَّة شَرْعِيَّة فِيمَا لَا نَص فِيهِ. بَين أهل الرَّأْي وَأهل الحَدِيث: وَمعنى هَذَا الانقسام وَسبب هَذِه التَّسْمِيَة أَن فُقَهَاء الْعرَاق أَمْعَنُوا النّظر فِي مَقَاصِد الشَّرْع وَفِي الأسس الَّتِي بني عَلَيْهَا التشريع، فاقتنعوا بِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعْقُول مَعْنَاهَا ومقصود بهَا تَحْقِيق مصَالح النَّاس، وبأنها تعتمد على مبادئ وَاحِدَة ترمي إِلَى غَايَة وَاحِدَة، وَهِي لهَذَا لَا بُد أَن تكون متسقة، لَا تعَارض وَلَا تبَاين بَين نصوصها وأحكامها، وعَلى هَذَا الأساس يفهمون النُّصُوص، ويرجحون نصًّا على نَص، ويستنبطون فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَلَو أدّى استنباطهم على هَذَا الأساس إِلَى صرف نَص عَن ظَاهره أَو ترك نَص إِلَى آخر؛ وهم من أجل هَذَا لَا يتحرجون من التَّوَسُّع فِي الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ، ويجعلون لَهُ مجالًا فِي أَكثر بحوثهم التشريعية. وَهُنَاكَ فُقَهَاء عنوا بِحِفْظ الحَدِيث وفتاوى الصَّحَابَة، واجتمعوا فِي تشريعهم إِلَى فهم هَذِه الْآثَار حَسْبَمَا تدل عَلَيْهِ عبارتها، وَكَانُوا من أجل هَذَا يتحرجون من الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ، وَلَا يلجئون إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة القصوى، وأغلب هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء كَانُوا من أهل الْحجاز. وَرُبمَا كَانَ سَبَب ذَلِك أَن أهل الْحجاز لم يشعروا بضرورة الاستزادة من فقه الرَّأْي، لِأَن مشكلات مجتمعهم الَّتِي يواجهونها لم تتبدل بِالْقدرِ نَفسه الَّذِي واجهه أهل الْعرَاق مِمَّا دفعهم إِلَى الاستزادة من الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ. وَلَقَد اتهمهم مخالفوهم بِأَنَّهُم لَا ينظرُونَ فِي علل الْأَحْكَام، فَإِذا وجدوا مَا فَهموا من النَّص لَا يتَّفق مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعقل لم يبالوا بِهَذَا، وَقَالُوا: هُوَ النَّص، واتهموهم بالجمود والسطحية وَعدم فهم روح الشَّرِيعَة ومقاصدها الْعَامَّة، حَتَّى غلبوا أَحَادِيث ضَعِيفَة أَو مرجوحة على النُّصُوص القرآنية الْعَامَّة الَّتِي أكدت على مصَالح الْعباد، وَكَانَت أهدافها تسْعَى للمحافظة على الكليات الْخمس: الدَّين وَالنَّفس وَالْعقل والنسل وَالْمَال، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 رُبمَا تَعَارَضَت بعض أَحَادِيث الْآحَاد وَالْأَحَادِيث الضعيفة مَعَ بدهيات الْعقل ومسلمات الْمنطق وحقائق الْعلم مِمَّا يُؤَكد بُطْلَانهَا، وَمَعَ ذَلِك فقد استمسكوا بهَا وجمدوا عَلَيْهَا، فعطلوا الْمصَالح وخالفوا الْمَقَاصِد لروايات ظهر بُطْلَانهَا بِالْحجَّةِ وَالْعقل ومقاصد الشَّرْع ... إِلَخ. ودافع أهل الحَدِيث عَن موقفهم، واتهموا مخالفيهم بتغليب الرَّأْي على النَّص، ومتابعة الْهوى، وَأَن طعنهم بالأحاديث المروية الَّتِي تخَالف آراءهم لَيْسَ مبنيًّا على الْأُصُول الَّتِي وَضعهَا المحدثون فِي تحري سَلامَة الرِّوَايَة بالتأكد من سَلامَة السَّنَد، بل نصبوا أنفسهم محكمين فَمَا وَافق عُقُولهمْ الكليلة المحدودة قبلوه وَإِلَّا طعنوا فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا من شَأْن مُسلم يفترض أَن يحمل نَفسه على اتِّبَاع النَّص والإذعان لَهُ. واحتدم الْأَمر أَكثر بِظُهُور فِئَة "الْمُعْتَزلَة" الَّتِي أَعْطَتْ لِلْعَقْلِ مكانة خَاصَّة، إِذْ لَا يعقل فِي نظرهم أَن يتعارض نَص مَعَ الْعقل الَّذِي احتكمت إِلَيْهِ النُّصُوص أَحْيَانًا فِي النّظر وَالِاسْتِدْلَال؛ وَلذَلِك ردوا كل رِوَايَة يتناقض نَصهَا مَعَ منطق الْعقل. وتفاقم الصراع بَين هَذِه الْمدَارِس، وَكَانَ لكل مِنْهَا عُلَمَاء وحجج ونظرات، وألفت فِي ذَلِك كتب دَافع بهَا كل أَصْحَاب مَذْهَب عَن مَذْهَبهم. وَالْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا "تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث" ينتصر فِيهِ ابْن قُتَيْبَة -وَهُوَ من أَعْلَام مدرسة الحَدِيث- لمدرسة أهل الحَدِيث، وَيدْفَع حجج الْمدَارِس الْمُخَالفَة إِلَى دَرَجَة قد يُبَالغ فِيهَا بِنَقْد وتجريح أعلامها، لَا سِيمَا فِي تنَاوله لأئمة أهل الرَّأْي حَتَّى اتهمَ أَبَا حنيفَة -بِمَا سَوف يرد فِي الْكتاب- من اتِّبَاع للأهواء وسفه فِي الْأَحْكَام، وَهَذَا بِلَا شكّ تطرف غير مَقْبُول، بل هُوَ التعصب الَّذِي يحمل الْإِنْسَان على الغلو فِي نقد الْخُصُوم. وَيبقى الْكتاب بعد ذَلِك من خيرة مَا ألف فِي بَابه؛ دفاعًا عَن الحَدِيث وبيانًا لوجه الْحق فِيهِ، وتوضيحًا لما توهمه الزارين من اضْطِرَاب وَشك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 هَذَا الْكتاب: وجدت هَذَا الْكتاب مطبوعًا بتصحيح وَضبط الشَّيْخ مُحَمَّد زهدي النجار من عُلَمَاء الْأَزْهَر الشريف الَّذِي أَشَارَ إِلَى عمله فِي بِالْكتاب؛ فَقَالَ: إِنَّه عمد إِلَى تَقْسِيم الْكتاب على نظام الفقرات، ثمَّ ضبط الْآيَات القرآنية والأبيات الشعرية، وَأَنه حَافظ على تعليقات الْمُصَحح الأول الشَّيْخ إِسْمَاعِيل الأسعردي رَحمَه الله؛ الَّذِي بذل جهده من قبل فِي إِخْرَاج الْكتاب فِي أواسط شهر جُمَادَى الأولى سنة 1326هـ، ثمَّ ذكر الشَّيْخ النجار أَنه فرغ من طباعته للمرة الثَّانِيَة سنة 1386 هـ. وَإِذا كَانَ لِلشَّيْخَيْنِ فضل السَّبق فِي إِخْرَاج الْكتاب إِلَى حيّز النُّور، وبذلا وسعهما فِي مُقَابلَته على الأَصْل المخطوط وَشرح بعض الْكَلِمَات فِيهِ جزاهما الله خيرا، لَا سِيمَا الشَّيْخ الأسعردي رَحمَه الله الَّذِي عقب على مَا رَآهُ ضروريًّا، مِمَّا أبقيت بعضه. فقد رَأَيْت أَن الْكتاب يفْتَقر إِلَى مزِيد من الضَّبْط والإتقان؛ فَلَا تزَال فِيهِ أخطاء فِي الطباعة وَبَعض التصحيفات. كَمَا أَن الْكتاب يحْتَاج إِلَى مُقَدّمَة مختصرة تضع الْقَارئ فِي الظروف الَّتِي ألف فِيهَا هَذَا الْكتاب؛ ليمكن فهم الآراء الَّتِي يقف عَلَيْهَا، ويستفيد من سَعَة اطلَاع الْمُؤلف رَحمَه الله على السّنة، وَحسن تَأْوِيله لما يَبْدُو من تعَارض وتناقض فِي النُّصُوص، دون أَن يتأثر بوجهة نظر الْمُؤلف غفر الله لَهُ فِي حَملته الشَّدِيدَة على أَصْحَاب الرَّأْي، ومساواته إيَّاهُم فِي التهجم مَعَ أَرْبَاب الضلال والزيغ من الْمُخَالفين فِي الْأُصُول، وَبَين الْمُجْتَهدين فِي تَقْدِيم بعض مصَادر التشريع من أهل السّنة. وَكَذَلِكَ فَإِن نُصُوص الْأَحَادِيث -الَّتِي هِيَ مَادَّة الْكتاب الأساسية- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 لَيست مخرجة وَلَا منقحة مِمَّا قد يُوقع كثيرا من الْقُرَّاء بوهم كَون هَذِه النُّصُوص من السّنة بِدَرَجَة وَاحِدَة من الصِّحَّة وَقُوَّة الْحجَّة، كَمَا أَن الْآيَات القرآنية لم تخرج. لهَذَا كُله عَمَدت إِلَى بذل جهدي الكليل وفهمي الضَّعِيف لاستكمال بعض مَا رَأَيْت من نقص آملًا أَن يتاح لي، أَو لغيري من الباحثين أَن يضيفوا أَو يزِيدُوا فِي تَنْقِيح مَا يجدونه من خطأ أَو تَقْصِير، سَائِلًا الله تَعَالَى أَن يتَقَبَّل أَعمالنَا ويجعلها خَالِصَة لوجهه الْكَرِيم، وراجيًا مِمَّن يجد فِيهِ خطأ أَن ينصحني باستدراكه، أَو يتكرم مشكورًا بِتَصْحِيحِهِ أَو ينبهني إِلَيْهِ. عَمَلي بِالْكتاب: وَقد وجدت مصورًا عَن النُّسْخَة المخطوطة لهَذَا الْكتاب فِي دَار الْكتب القطرية برقم "ميك: 31". أما المخطوطة الْأَصْلِيَّة فَهِيَ مَحْفُوظَة بمكتبة رَئِيس الْكتاب مصطفى أَفَنْدِي الملحقة بالمكتبة السليمانية بإستانبول تَحت رقم 107 باسم: "اخْتِلَاف الحَدِيث وَالسّنَن" تأليف ابْن قُتَيْبَة الدينَوَرِي: عبد الله بن مُسلم الْمُتَوفَّى سنة 276هـ. والمخطوطة كَامِلَة تقع فِي 164 ورقة تبدأ بقوله: "قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وعَلى آله أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ أَسْعَدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ ... إِلَخ ... ". وَقد وضعت صورًا من صفحات الْكتاب بجانبه ليطلع الْقَارئ عَلَيْهَا، انْظُر الصفحات 38-43. 1- عَمَدت إِلَى مُقَابلَة المطبوع على المخطوط كُله، وصححت الأخطاء الَّتِي وَجدتهَا سَوَاء مَا كَانَ مِنْهَا بِسَبَب الطباعة أَو التَّصْحِيف أَو اللُّغَة، وأشرت إِلَى النَّوْعَيْنِ الْأَخيرينِ بالهامش، وصححت الأخطاء المطبعية دون الْإِشَارَة إِلَيْهَا. 2- خرجت الْأَحَادِيث الشَّرِيفَة كلهَا سَوَاء مَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 تَأْوِيله، أَو مَا أوردهُ الْمُؤلف على سَبِيل الِاحْتِجَاج أَو الِاسْتِدْلَال فِي تدعيم وجهة نظره لإِزَالَة وهم التَّعَارُض أَو التَّنَاقُض، وعقبت على بَعْضهَا بِمَا رَأَيْته مناسبًا للتوضيح أَو للتصحيح. 3- خرجت الْآيَات القرآنية وضبطتها، وأشرت بالهامش إِلَى رقم الْآيَة من السُّور. 4- شرحت بعض الْكَلِمَات الغامضة، تسهيلًا للقارئ فِي اسْتِيعَاب الْمَعْنى، ورجحت الْمَقْصُود مِمَّا أوردهُ الْقَامُوس من مَعَاني ليُوَافق سِيَاق الْكَلَام. 5- عرفت بِبَعْض الْأَعْلَام -مِمَّن شَعرت بضرورة التَّعْرِيف بِهِ وتوفرت لدي المصادر عَنهُ- بنبذة مختصرة جدًّا فِي الْهَامِش؛ اقتصرت فِيهَا على ذكر الِاسْم كَامِلا والمولد إِن عرف، وأبرز الصِّفَات، ثمَّ تَارِيخ الْوَفَاة. 6- وضعت عناوين جانبية لتوضيح انْتِقَال الْمُؤلف من فكرة إِلَى أُخْرَى، بِحَيْثُ يسهل على الْقَارئ مُتَابَعَته فِي استطراداته، والاستفادة مِنْهَا، والربط بَين أبرز مضامينها. 7- وضعت فهرسًا للأحاديث الشَّرِيفَة، ورتبتها حسب الْحَرْف الأول فِي الحَدِيث وفقًا للأحرف الهجائية وَذكرت رقم الصفحة الَّتِي ورد فِيهَا. 8- وضعت فهرسًا للأعلام الَّذين ورد ذكرهم فِي الْكتاب، وأشرت إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي جرى التَّعْرِيف بهم فِيهَا بِإِشَارَة " ". 9- أعدت النّظر فِي عَلَامَات الترقيم، ووزعتها -كَمَا أَحسب- توزيعًا أَكثر مُنَاسبَة فِي توضيح الْمَعْنى، وتسهيل الْفَهم على الْقَارئ، فأضفت بَعْضهَا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يستدعيها الْمَعْنى، وحذفت مَا لَا دَاعِي لَهُ. 10- عقبت فِي قَلِيل من الْمَوَاضِع على مَا رَأَيْت ضَرُورَة للتعقيب عَلَيْهِ، مِمَّا تَقْتَضِيه الْأَمَانَة العلمية، وتجنبت الْإِكْثَار من ذَلِك خشيَة التدخل فِي مسار الْكتاب، وَالْخُرُوج بِهِ عَن أهدافه من كَثْرَة النَّقْد أَو التزيد. مزايا الْكتاب: وسيجد الْقَارئ فِي هَذَا الْكتاب إِلَى جَانب دفاع ابْن قُتَيْبَة البارع عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 السّنة، ونصرته لَهَا من الاستطرادات العلمية واللغوية والشعرية والفقهية والفلسفية، والاستشهاد بِالْآيَاتِ القرآنية وَتَفْسِير بَعْضهَا، وَالِاسْتِدْلَال بِبَعْض مَا ورد فِي الْكتب السماوية الْأُخْرَى والأحداث التاريخية والطرف والنوادر والحكايات؛ مِمَّا يمتع وينفع، وَيدل على سَعَة معرفَة الْمُؤلف رَحمَه الله وإحاطته بعلوم ومعارف عصره. يَسُوق ذَلِك كُله ليزيل الالتباس الْحَاصِل فِي فهم الحَدِيث، أَو إِزَالَة شُبْهَة التَّعَارُض والتناقض. وَإِذا كَانَ لأحد أَن يسْتَدرك على الْمُؤلف شَيْئا فَهُوَ دفاعه عَن بعض الْأَحَادِيث الضعيفة أَو الْمَوْضُوعَة وَالَّتِي كَانَ يُغْنِيه فِيهَا أَن يذكر ضعفها وَعدم ضَرُورَة الِاحْتِجَاج بهَا. بِالْإِضَافَة إِلَى أَنه كَانَ يعتمده فِي موطن الِاسْتِدْلَال على صِحَة مَا ورد فِي الحَدِيث من معنى بِمَا ورد فِي الْكتب السماوية الْأُخْرَى، وَلَا يخفى أَن هَذِه الْكتب لَا يحْتَج بهَا لما نعتقده فِيهَا من تَحْرِيف، فَكيف يُمكن أَن تقبل دَلِيلا على الصَّوَاب؟!.. ثمَّ انتقاصه لبَعض الْأَعْلَام بِسَبَب مخالفتهم بِالِاجْتِهَادِ، ومبالغته فِي ذَلِك إِلَى حد التشكيك بصدقهم وتقواهم وَدينهمْ، وَذَلِكَ مِمَّن تَوَاتر الثَّنَاء عَلَيْهِم غفر الله لَهُ. لَكِن الْكتاب بمجمله يعْتَبر من أفضل مَا كتب فِي بَابه، وَيدل على علو كَعْب الْمُؤلف -رَحمَه الله وأجزل ثَوَابه- بَين عُلَمَاء عصره فِي عدد من الْعُلُوم والمعارف، وَلَإِنْ وجدت فِيهِ هَنَات مَعْدُودَة -رُبمَا دَفعه إِلَيْهَا حماسه لما يرَاهُ حقًّا، وغيرته على حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم- فَإِن الْكَمَال لله وَحده، وكل إِنْسَان يُؤْخَذ مِنْهُ وَيرد إِلَّا صَاحب هَذَا الْقَبْر؛ كَمَا قَالَ الإِمَام مَالك رَحمَه الله، فَلَا يجوزك انتقاصه حَقه وَقد قدم الْكثير الْجيد الَّذِي يعْتَبر بِحَق زِيَادَة فِي بَابه وَعَملا أصيلًا غزيرًا تقبل الله مِنْهُ وَمنا وَغفر لَهُ وَلنَا وَأَعْلَى مقَامه وَجَعَلنَا وإياه فِي زمرة أحبابه وأوليائه وخاصته من خلقه. اللَّهُمَّ آمين. الدوحة فِي 8/ 8/ 1408 هـ 26/ 3/ 1988م مُحَمَّد محيي الدَّين الْأَصْفَر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ابْن قُتَيْبَة: أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسلم بن قُتَيْبَة الْكُوفِي، وتسميه دَائِرَة المعارف الإسلامية: أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُسلم بن قُتَيْبَة الْمروزِي مُخَالفَة بذلك مُعظم المراجع. أما أَبوهُ "مُسلم" فقد كَانَ من أهل الْعلم والْحَدِيث إِلَّا أَنه لم يبلغ مستوى ابْنه عبد الله، وَيَقُول الْبَغْدَادِيّ: إِن أَبَاهُ كَانَ مروزيًّا أَي من أهل مرو. وَأما جده "قُتَيْبَة" فقد اخْتلف فِي اشتقاق اسْمه؛ فَقيل: هُوَ تَصْغِير "قتبة" وَاحِدَة الأقتاب أَي الأمعاء، وَقيل: قُتَيْبَة مَأْخُوذ من القتب وَهُوَ الرحل الصَّغِير على قدر سَنَام الْبَعِير. مولده ووفاته: ولد سنة 213هـ دون خلاف بَين من ترْجم لَهُ، وَإِن كَانَ بَعضهم سكت عَن ذَلِك كالبغدادي، وَلم يذكرُوا مَعهَا شهرا كَمَا فعلوا حِين التأريخ لوفاته، وَذَلِكَ لأَنهم عرفوه حِين ذاع صيته وَعلا شَأْنه، وَلم يكن قبل ذَلِك مَعْرُوفا. وَقد اخْتلفُوا فِي ذكر الْبَلَد الَّتِي ولد فِيهَا؛ فَقَالَ بَعضهم: ولد فِي الْكُوفَة كَابْن النديم وَابْن الْأَثِير وَابْن الْأَنْبَارِي، وَهُنَاكَ غَيرهم من المؤرخين قبل الْبَغْدَادِيّ والسمعاني، وَمن بعدهمَا القفطي يذكرُونَ: أَن مولده كَانَ بِبَغْدَاد، وَلَا يناقشون رِوَايَة غَيرهم، وَقد يكون مرد ذَلِك إِلَى أَنه أَقَامَ فِي بَغْدَاد فظنوا أَنه ولد فِيهَا، مَعَ أَن وَالِده لَيْسَ بغداديًّا وأسرته كَانَت غَرِيبَة عَن بَغْدَاد، وَذَلِكَ قد يرجح أَن يكون من مواليد الْكُوفَة وَالله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكما اخْتلف على مَكَان وِلَادَته اخْتلف على سنة وَفَاته، فقد ذكر ابْن الْأَنْبَارِي أَنه أكل هريسة، فاحتر جِسْمه، ثمَّ أُغمي عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق فَمَا زَالَ يذكر الله ويتشهد حَتَّى مَاتَ فِي أول لَيْلَة من رَجَب سنة 276هـ، وَيَقُول بذلك نفر من المؤرخين. أما ابْن خلكان فَيَقُول: توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة 270هـ، وَقيل سنة 271هـ، وَالرِّوَايَة الأولى أصح كَمَا رجح بعض المؤرخين، وَالله أعلم. نسبته إِلَى الدينور: ولي قَضَاء دينور وَهِي مَدِينَة قرب قرميسين، تبعد عشْرين فرسخًا عَن همذان، وَقد أَقَامَ بهَا مُدَّة فنسب إِلَيْهَا. وَكَانَ شَدِيد الصِّلَة بالخاقاني أبي الْحسن عبيد الله بن يحيى الَّذِي كَانَ وزيرًا للمتوكل إِلَى سنة "247هـ"، فولاه الْقَضَاء فِي دينور، وَبَقِي فِيهَا من "232هـ" إِلَى "247هـ" زمن خلَافَة المتَوَكل، ثمَّ عَاد ابْن قُتَيْبَة بعْدهَا إِلَى بَغْدَاد فنسب ابْن قُتَيْبَة إِلَى دينور، ودعي: بالدينوري. نشأته وشيوخه: نَشأ ابْن قُتَيْبَة فِي بَغْدَاد وَبهَا تلقى علومه وَأخذ عَن شيوخها، وَلم يذكر لَهُ شُيُوخ أَخذ الحَدِيث عَنْهُم بِغَيْر بَغْدَاد، وأهم شُيُوخه: 1- وَالِده: مُسلم بن قُتَيْبَة، وَقد حدث عَنهُ فِي كِتَابيه: عُيُون الْأَخْبَار والمعارف. 2- أَحْمد بن سعيد اللحياني، وَقَرَأَ عَلَيْهِ: كتاب الْأَمْوَال، وَكتاب غَرِيب الحَدِيث لأبي عبيد. 3- أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَلام الجُمَحِي صَاحب طَبَقَات الشُّعَرَاء "ت231هـ". 4- يحيى بن أَكْثَم القَاضِي؛ أَخذ عَنهُ بِمَكَّة وَرُبمَا كَانَ ذَلِك أثْنَاء حجَّة لَهُ "ت242هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 5- ابْن رَاهْوَيْةِ أَبُو يَعْقُوب، إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ من عُلَمَاء الْفِقْه والْحَدِيث، وروى عَنهُ أَئِمَّة الحَدِيث مثل: البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. "ت238هـ". 6- حَرْمَلَة بن يحيى التجِيبِي "ت243هـ". 7- الزيَادي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سُفْيَان تلميذ سِيبَوَيْهٍ والأصمعي "ت249هـ". 8- دعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ الشَّاعِر "ت246هـ". 9- أَبُو عبد الله الْحسن بن الْحُسَيْن بن حَرْب السّلمِيّ "ت246هـ". 10- أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَرْزُوق بن بكير بن البهلول الْبَاهِلِيّ الْمصْرِيّ "ت248هـ". 11- شَبابَة بن سوار "ت254هـ". 12- زِيَاد بن يحيى بن زِيَاد المساني الْبَصْرِيّ "ت254هـ". 13- مُحَمَّد بن يحيى بن أبي حزم الْقطعِي الْبَصْرِيّ "ت253هـ". 14- إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الصَّواف "ت253هـ". 15- مُحَمَّد بن زِيَاد بن عبيد الله بن زِيَاد بن الرّبيع الزيَادي الْبَصْرِيّ "ت252هـ". 16- الجاحظ أَبُو عُثْمَان "ت254هـ". 17- عبد الرَّحْمَن بن بشر بن الحكم بن حبيب "ت260هـ". 18- عَبده بن عبد الله الْخُزَاعِيّ "ت258هـ". 19- الْعَبَّاس بن الْفرج الرياشي "ت257هـ". 20- زيد بن أخزم الطَّائِي "ت257هـ". 21- إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بن الشَّهِيد الْبَصْرِيّ "ت257هـ". 22- مُحَمَّد بن خَالِد بن خرَاش بن عجلَان المهلبي. 23- أَحْمد بن خَالِد الضَّرِير. 24- عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن قريب. 25- مُحَمَّد بن عبيد بن عبد الْملك الْأَسدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 تلاميذه: 1- ابْنه أَحْمد بن عبد الله بن مُسلم الدينَوَرِي كَانَ يحفظ كتب أَبِيه حفظا كَامِلا. "ت322هـ" ولي الْقَضَاء سنة 321هـ. 2- أَحْمد بن مَرْوَان الْمَالِكِي "ت298هـ" وَقد روى عَن ابْن قُتَيْبَة هَذَا الْكتاب "تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث". وَقد انْتهى إِلَيْنَا بروايته. 3- مُحَمَّد بن خلف بن الْمَرْزُبَان "ت309هـ". 4- إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَيُّوب بن بشير الصَّائِغ "ت313هـ" روى مصنفات ابْن قُتَيْبَة كلهَا. 5- عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عِيسَى السكرِي "ت323هـ". 6- عبيد الله بن أَحْمد بن عبد الله بن بكير التَّمِيمِي "ت334هـ". 7- الْهَيْثَم بن كُلَيْب الشَّاشِي "ت335هـ" وَقد أَخذ عَنهُ الْأَدَب خَاصَّة. 8- قَاسم بن أصبغ الأندلسي "ت340"هـ قَرَأَ عَلَيْهِ "المعارف" و"شرح غَرِيب الحَدِيث". 9- إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الشَّيْبَانِيّ الْبَغْدَادِيّ "ت298هـ". 10- أَحْمد بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم الدينَوَرِي، وَقَرَأَ عَلَيْهِ "تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث". 11- عبد الله بن جَعْفَر بن درسْتوَيْه الْفَسَوِي "ت335هـ". 12- أَبُو عبد الله بن أبي الْأسود "343هـ". مؤلفاته: 1- مُشكل الْقُرْآن: وَقد جمع بَين هَذَا الْكتاب وغريب الْقُرْآن أَحْمد بن مطرف الْكِنَانِي "ت354" فِي كتاب أسماه: "القرطين" ينقص مِنْهُمَا وَيزِيد "مطبوع، نشر بِالْقَاهِرَةِ 1935". 2- مَعَاني الْقُرْآن: ذكره السُّيُوطِيّ والداودي وعياض. 3- الْقرَاءَات: ذكره ابْن النديم فِي "الفهرست". 4- إِعْرَاب الْقرَاءَات: هَكَذَا سَمَّاهُ ابْن خلكان والقفطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 5- الرَّد على الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن: ذكره السُّيُوطِيّ فِي "البغية". والداودي فِي: "طَبَقَات الْمُفَسّرين". 6- آدَاب الْقِرَاءَة: ذكره صَاحب كشف الظنون. 7- غَرِيب الحَدِيث: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان والخطيب والداودي وَغَيرهم، وَقد أحسن فِيهِ "مطبوع نشره عبد الله الجبوري فِي 3 أَجزَاء بِبَغْدَاد -وزارة الْأَوْقَاف 1977-1978م". 8- إصْلَاح غلط أبي عبيد: وَقد استدرك فِيهِ ابْن قُتَيْبَة على أبي عُبَيْدَة فِي نَيف وَخمسين موضعا فِي غَرِيب الحَدِيث "مخطوط أيا صوفيا 457". 9- الْمسَائِل والأجوبة: ذكره الدَّاودِيّ والسيوطي بِهَذَا الِاسْم، وَذكره غَيرهم باسم: الْمسَائِل والجوابات "مخطوط، عَاشر أَفَنْدِي 1979" وَقد طبع بِمصْر. 10- دَلَائِل النُّبُوَّة: ذكره ابْن النديم والداودي والسيوطي وحاجي خَليفَة بِهَذَا الِاسْم، وَذكره ابْن الْأَنْبَارِي باسم: دَلَائِل النُّبُوَّة من الْكتب الْمنزلَة على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام. 11- جَامع الْفِقْه: ذكره ابْن النديم فِي "الفهرست" وَذكره القفطي باسم: كتاب الْفِقْه. 12- كتاب الْأَشْرِبَة: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان والقفطي "وطبع الْكتاب بتحقيق مُحَمَّد كرد عَليّ بِدِمَشْق 1366هـ-1947م". 13- الرَّد على المشبهة: ذكره ابْن النديم والداودي والسيوطي والقفطي "مطبوع، نشر بِالْقَاهِرَةِ 1349هـ-1930م". 14- أدب الْكَاتِب: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان والسمعاني وَالطّيب فِي: "قلادة النَّحْر" وَابْن كثير والقفطي وَابْن الْعِمَاد، وَقد طبع الْكتاب مَرَّات "نشره جرونرت grunert ليدن 1900 وَنشر فِي الْقَاهِرَة 1300، 1310، 1328، 1355هـ -1936م". 15- عُيُون الشّعْر: ذكره ابْن النديم ثمَّ ذكر كتابا آخر لِابْنِ قُتَيْبَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 أسماه: الْمَرَاتِب والمناقب من عُيُون الشّعْر ويحتوي على عشرَة كتب هِيَ: "الْجَوَاهِر، الشواهد، القلائد، المحاسن، المدائح، الْمَرَاتِب، المراكب، الْمشَاهد، الْمعَانِي، المناقب". 16- كتاب الْمعَانِي الْكَبِير: ذكره ابْن النديم باسم: مَعَاني الشّعْر الْكَبِير، وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه "عُيُون الْأَخْبَار" حَيْثُ يَقُول: وَقد فسرت هَذَا الشّعْر فِي كتابي الْمُؤلف فِي أَبْيَات الْمعَانِي فِي خلق الْفرس "مخطوط، يُوجد الْقسم الأول مِنْهُ وَهُوَ أَبْيَات الْمعَانِي فِي الْخَيل، ومخطوط فِي أيا صوفيا 4050، وتوجد تتمته "الْقسم الثَّانِي" فِي الْمكتب الْهِنْدِيّ أول 1137". ويحتوي هَذَا الْكتاب على اثْنَي عشر كتابا هِيَ: "الْإِبِل: 16 بَابا، الْإِيمَان والدواهي: 7 أَبْوَاب، تَصْحِيف الْعلمَاء: بَاب وَاحِد، الْحر: 10 أَبْوَاب، الديار: 10 أَبْوَاب، الرِّيَاح: 31 بَابا، السبَاع والوحوش: 17 بَابا، الشيب وَالْكبر 8 أَبْوَاب، الضَّرُورَة: 20 بَابا، الْفرس: 46 بَابا، النِّسَاء والغزل: بَاب وَاحِد، الْهَوَام: 24 بَابا". 17- ديوَان الكتّاب: ذكره ابْن النديم، والسيوطي، وحاجي خَليفَة. 18- تَقْوِيم اللِّسَان: ذكره حاجي خَليفَة. 19- خلق الْإِنْسَان: ذكره ابْن النديم والداودي، والسيوطي، وحاجي خَليفَة. 20- كتاب الْخَيل: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان، والداودي، والسيوطي والقفطي. 21- كتاب الْأَنْوَار: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان، والداودي، والسيوطي والقفطي والسمعاني، "وَهُوَ مطبوع نشره بِلَال وَمُحَمّد حميد الله. حيدر آباد، مطبوعات دَائِرَة المعارف العثمانية 1956م". 22- جَامع النَّحْو الْكَبِير: ذكره ابْن النديم والداودي والسيوطي والقفطي وحاجي حليفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 23- جَامع النَّحْو الصَّغِير: ذكره ابْن النديم والداودي والسيوطي والقفطي وحاجي خَليفَة. 24- الميسر والقداح: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان والقفطي وَصَاحب طَبَقَات فُقَهَاء السَّادة الْحَنَفِيَّة "مطبوع نشره محب الدَّين الْخَطِيب، الْقَاهِرَة 1343هـ - 1924م". 25- فضل الْعَرَب على الْعَجم: ذكره ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه: "عُيُون الْأَخْبَار" وَلَا يبعد أَن يكون كتاب: "التَّسْوِيَة بَين الْعَرَب والعجم" الَّذِي ذكره ابْن النديم والقفطي على أَنه كتاب آخر، هُوَ هَذَا الْكتاب باسم جَدِيد. 26- عُيُون الْأَخْبَار: ذكره ابْن النديم، وَابْن خلكان، والخطيب الْبَغْدَادِيّ، والسمعاني، وَابْن كثير، وَابْن الْأَنْبَارِي والقفطي "مطبوع، دَار الْكتاب، الْقَاهِرَة 4 أَجزَاء 1925-1930م". 27- طَبَقَات الشُّعَرَاء: ذكره ابْن خلكان، والداودي، والسيوطي، والقفطي، وَابْن الْعِمَاد. "مطبوع، نشره ritter shausen "ليدن 1875م، ونشره أَيْضا دي خويه degeje ونشره جود فرواري موبيس باريس 1947 وطبع ببيروت، دَار الثقافة 1964م". 28- الْحِكَايَة والمحكي: ذكره ابْن النديم. 29- فرائد الدُّرَر: ذكره ابْن النديم. 30- حكم الْأَمْثَال: ذكره ابْن النديم. 31- آدَاب الْعشْرَة: ذكره ابْن النديم. 32- كتاب الْعلم: ذكره ابْن النديم والقفطي بِهَذَا الِاسْم، ثمَّ ذكره الدَّاودِيّ والسيوطي باسم كتاب الْقَلَم. 33- تَعْبِير الرُّؤْيَا: ذكره ابْن النديم وَأَبُو الطّيب اللّغَوِيّ بِهَذَا الِاسْم، وَذكر ابْن قُتَيْبَة باسم "تَأْوِيل الرُّؤْيَا". 34- الجراثيم: يشك فِي نسبته لِابْنِ قُتَيْبَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 35- الجوابات الْحَاضِرَة: ذكره الدَّاودِيّ والسيوطي، وحاجي خَليفَة. 26- مُشكل الحَدِيث: ذكره ابْن خلكان، والخطيب، والسمعاني، وَابْن الْأَنْبَارِي، والقفطي، وَصَاحب طَبَقَات فُقَهَاء السَّادة الْحَنَفِيَّة وَابْن الْعِمَاد. 37- كتاب المعارف: "مطبوع، نشره فستنفلد فِي جوتنجن: 185 وَنشر أَيْضا بِالْقَاهِرَةِ 1300هـ، 1352هـ -1939م". 38- اخْتِلَاف تَأْوِيل الحَدِيث: "مطبوع بِمصْر عَام 1326هـ - 1908م" وَهُوَ الْكتاب الَّذِي نَحن بصدده. كتاب "مُخْتَلف تَأْوِيل الحَدِيث": ذكره ابْن خلكان، والخطيب والسمعاني وَابْن الْأَنْبَارِي والقفطي وَصَاحب طَبَقَات فُقَهَاء السَّادة الْحَنَفِيَّة وَابْن الْعِمَاد. وَيذكر ابْن النديم كتابا لِابْنِ قُتَيْبَة باسم "الْمُشكل" وَلَا نَدْرِي أهوَ: مُشكل الحَدِيث هَذَا، أم هُوَ مُشكل الْقُرْآن؟ وأغلب الظَّن أَن ابْن قُتَيْبَة إِذا ذكر "الْمُشكل" وَلم يضف إِلَيْهِ أَرَادَ: مُشكل الْقُرْآن. ثمَّ يستطرد ابْن النديم، وَيذكر كتابين آخَرين فِي هَذَا الْغَرَض وهما: 1- مُخْتَلف الحَدِيث. 2- اخْتِلَاف تَأْوِيل الحَدِيث. ويذكره الدَّاودِيّ والسيوطي باسم: مُخْتَلف الحَدِيث، ويورده حاجي خَليفَة باسم: اخْتِلَاف الحَدِيث، وباسم: كتاب المناقضة، وبدار الْكتب المصرية نُسْخَة مِنْهُ باسم: الرَّد على من قَالَ بتناقض الحَدِيث، ويسميها مفهرس دَار الْكتب باسم: "المشتبه من الحَدِيث وَالْقُرْآن وَذكر الْأَحَادِيث الَّتِي قيل بتناقضها". ويذكره جورجي زَيْدَانَ فِي تَارِيخ الْآدَاب الْعَرَبيَّة باسم: المشتبه من الحَدِيث وَالْقُرْآن، وَقد ظهر هَذَا الْكتاب مطبوعًا بِالْقَاهِرَةِ "1326هـ" باسم: تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مردُّ الالتباس فِي أَسمَاء كتبه: يَقُول الدكتور ثروت عكاشة فِي الْكتاب الَّذِي حَقَّقَهُ لِابْنِ قُتَيْبَة: "المعارف" فِي تَوْضِيحه للِاخْتِلَاف فِي عدد الْكتب وأسمائها مِمَّا نسب لِابْنِ قُتَيْبَة مَا يَلِي: وَإِنَّهُم ليعدون لِابْنِ قُتَيْبَة أَسمَاء لكتب أُخْرَى، وَأكْثر الظَّن أَنَّهَا لَيست كتبا مُسْتَقلَّة بل إِنَّهَا أَبْوَاب من نَحْو هَذَا الَّذِي يذكرُونَ لَهُ من أَنه لَهُ كتاب اسْمه: "اسْتِمَاع الْغناء بالألحان" معتمدين على مَا ذكره حاجي خَليفَة فِي حرف السِّين حَيْثُ يَقُول: "وَالْعُلَمَاء اخْتلفُوا فِي اسْتِمَاع الْغناء بالألحان، وَهِي مَسْأَلَة طَوِيلَة الذيل، خصها كثير من الْمُتَقَدِّمين بالتصنيف كَالْقَاضِي أبي الطّيب، والعلامة أبي مُحَمَّد ابْن قُتَيْبَة". فَمَا نشك فِي أَن ابْن قُتَيْبَة كتب فِي هَذَا الْمَوْضُوع، وَلَكِن الَّذِي نشك فِيهِ أَن يكون لَهُ كتاب بِهَذَا الِاسْم. وَلَعَلَّ الدَّافِع الَّذِي دفع هَؤُلَاءِ إِلَى التَّوَسُّع فِي الْجمع شَيْء من الْجَهْل بمحتويات كتب ابْن قُتَيْبَة، وَذَلِكَ لأَنهم عرفُوا أَكْثَرهَا بِالسَّمَاعِ. وَشَيْء آخر هُوَ مَا قرءوه وسمعوه من بعض المؤرخين، مثل صَاحب "التحديث بمناقب أهل الحَدِيث" حَيْثُ يذكر أَن كتب ابْن قُتَيْبَة زهاء ثَلَاثمِائَة كتاب، فيدفعهم هَذَا إِلَى التصيد والتحايل. وَمَا أَشك فِي أَن الَّذِي قصد إِلَيْهِ صَاحب "التحديث" هُوَ هَذِه الْأَبْوَاب الَّتِي احتوت عَلَيْهَا كتب ابْن قُتَيْبَة، بِعَدِّ كل بَاب كتابا، وَإِلَّا اتهمناه بِمَا نبرئ مِنْهُ كل مُتَّصِل بِالْعلمِ والتأليف. وَمَا أملينا إِلَى أَن نَأْخُذ بِمَا سبق فِيهَا "المدارك" حَيْثُ تحدث عَن أبي جَعْفَر أَحْمد، وَأَنه كَانَ يحفظ مصنفات أَبِيه، وعدتها وَاحِد وَعِشْرُونَ مصنفًا، وَمَا هَذَا الْعدَد بِقَلِيل على عَالم من الْعلمَاء، عمر مثل مَا عمر ابْن قُتَيْبَة، لَا سِيمَا والمؤلفات من المؤلفات ذَات الْأَجْزَاء. غير أَن الَّذِي يعنينا هُوَ أَن ندلل على أَن البيئة الَّتِي عَاشَ فِيهَا ابْن قُتَيْبَة شغلت ابْن قُتَيْبَة بهَا وَلم يكد يفلته ركن لم يُشَارك فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 آراء الْعلمَاء فِي ابْن قُتَيْبَة: تباينت آراء الْعلمَاء فِي ابْن قُتَيْبَة فوثقه بَعضهم وجرحه آخَرُونَ، وَقد جعله ابْن تَيْمِية لأهل السّنة مثل الجاحظ للمعتزلة، وَكَذَلِكَ وَثَّقَهُ عُلَمَاء آخَرُونَ مِنْهُم: - الْحَافِظ السلَفِي "ت576هـ" حَيْثُ قَالَ: "كَانَ ابْن قُتَيْبَة من الثِّقَات وَأهل السّنة". - والخطيب الْبَغْدَادِيّ "ت463هـ" الْقَائِل: "كَانَ ثِقَة دينا فَاضلا". - وَابْن حزم، وَأَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن سعيد "ت456": "كَانَ ابْن قُتَيْبَة ثِقَة فِي دينه وَعلمه". - والحافظ الذَّهَبِيّ حَيْثُ يَقُول فِي -ميزَان الِاعْتِدَال: "أَبُو مُحَمَّد صَاحب التصانيف، صَدُوق قَلِيل الرِّوَايَة". وَيَقُول فِي -تذكرة الْحفاظ: "ابْن قُتَيْبَة من أوعية الْعلم، قَلِيل الْعَمَل فِي الحَدِيث". - وَابْن الْجَوْزِيّ "ت597هـ" يَقُول: "كَانَ عَالما فَاضلا". - وَابْن خلكان "ت681هـ": "كاك فَاضلا ثِقَة". - وَمُسلم بن قَاسم: "كَانَ ابْن قُتَيْبَة صَدُوقًا من أهل السّنة". وَغير هَؤُلَاءِ من الْعلمَاء يَتَّهِمُونَهُ وَيَقُولُونَ فِيهِ غير ذَلِك: - فالدارقطني أَبُو الْحسن عَليّ بن عمر بن أَحْمد بن مهْدي "ت385هـ" يَقُول: "كَانَ ابْن قُتَيْبَة يمِيل إِلَى التَّشْبِيه، منحرفًا عَن العترة، وَكَلَامه يدل عَلَيْهِ". - وَالْبَيْهَقِيّ أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن "ت458هـ" يَقُول: "كَانَ ابْن قُتَيْبَة يرى رَأْي الكرامية وَلَيْسَ بَين المشبهة والكرامية كَبِير فرق، فالكرامية هم أَتبَاع مُحَمَّد بن كرام، وَكَانَ يذهب إِلَى التجسيم والتشبيه، وينعى على "عَليّ" صبره على مَا جرى لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ. وَيَقُول الدكتور ثروت عكاشة فِي تَحْقِيقه لكتاب "المعارف" لِابْنِ قُتَيْبَة فِي بَيَان سَبَب هَذِه الاتهامات: "وَلَقَد نسي هَؤُلَاءِ أَن هَذَا الْمُتَّهم بالتشبيه لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 كتاب فِي الرَّد على المشبهة، وَأَن لَهُ فِي هَذَا الْكتاب عِبَارَات تدل على ميله إِلَى "عَليّ"، ونسوا أَيْضا أَن لَهُ كتابا فِي تَفْضِيل الْعَرَب، وَلَكِن كَيفَ لهَؤُلَاء المتهمين أَن يتهموا دون دَلِيل؟ فِي الْحق إِن لِابْنِ قُتَيْبَة من الْكَلَام فِي كتبه مَا يثير شَيْئا من الرِّيبَة، اقْرَأ لَهُ قَوْله فِي كِتَابه: "مُشكل الْقُرْآن" "وَكَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم، وهم مصابيح الأَرْض وقادة الْأَنَام ومنتهى الْعلم، إِنَّمَا يقْرَأ الرجل فيهم السورتين وَالثَّلَاث والأربع، وَالْبَعْض والشطر من الْقُرْآن، إِلَّا نَفرا مِنْهُم وفقهم الله لجمعه، وَسَهل عَلَيْهِم حفظه، وَقَالَ الشّعبِيّ: توفّي أَبُو بكر وَعمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُم وَلم يجمعوا الْقُرْآن، وَقَالَ: لم يختمه أحد من الْخُلَفَاء غير عُثْمَان. وَرُوِيَ عَن شريك عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد أَنه قَالَ: سَمِعت الشّعبِيّ يحلف بِاللَّه عز وَجل: لقد دخل عَليّ حفرته وَمَا حفظ الْقُرْآن"1. تظن أَن هَذَا من كَلَام ابْن قُتَيْبَة هُوَ الَّذِي أثار تِلْكَ الثائرة حوله، فانبرى لَهُ من انبرى يَتَّهِمُونَهُ. اسْمَع لأبي الْحُسَيْن أَحْمد بن فَارس "ت395هـ" يَقُول فِي كِتَابه -الصَّحَابِيّ- تعقيبًا على هَذَا الَّذِي ذكره ابْن قُتَيْبَة: "وَابْن قُتَيْبَة يُطلق إطلاقات مُنكرَة، ويروي أَشْيَاء مشنعة، كَالَّذي رَوَاهُ عَن الشّعبِيّ أَن أَبَا بكر وَعمر وعليًّا توفوا وَلم يجمعوا الْقُرْآن، وَأَن عليًّا دخل حفرته وَمَا حفظ الْقُرْآن، وَهَذَا كَلَام شنيع جدًّا"2. وَابْن قُتَيْبَة الَّذِي ينْقل هَذَا رَاوِيا، يذكر غَيره مدافعًا عَن أهل الْبَيْت، مِمَّا يعبر عَن رَأْيه ومعتقده، وَفرق بَين أَن يزل الْعَالم وَهُوَ يروي لينصف التَّارِيخ، وَبَين أَن يزل وَهُوَ يفصح عَمَّا يعْتَقد، فَابْن قُتَيْبَة إِن زل فَلم يزل مُعْتَقدًا. اسْمَع إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُول فِي كِتَابه: "الرَّد على الْجَهْمِية": "وَجعلُوا ابْنه الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام خارجيًا شاقًا لعصا الْمُسلمين حَلَال الدَّم. وسووا بَينه فِي الْفضل وَبَين أهل الشورى ... فَإِن قَالَ قَائِل: أَخُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَليّ،   1، 2 من كِتَابه الرَّد على الْجَهْمِية والمشبهة "ص47". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَأَبُو سبطيه الْحسن وَالْحُسَيْن وَأَصْحَاب الكساء: عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن تمعرت الْوُجُوه وتنكرت الْعُيُون". فَهَذَا القَوْل مِمَّا ينصف ابْن قُتَيْبَة لَا شكّ، وَلَيْسَ فِي الأولى عَلَيْهِ حرج. علمه: وَأما عَن علمه، فَلم يعْدم "ابْن قُتَيْبَة" الْمنصف والطاعن: أما عَن الَّذين أنصفوه هُنَا، فيكادون يكونُونَ هم الَّذين أنصفوه هُنَاكَ -عِنْد الحَدِيث عَن آرائه- وتكاد تكون كلماتهم هُنَاكَ هِيَ كلماتهم هُنَا. وَأما عَن الَّذِي اتَّهَمُوهُ فِي علمه، فَإنَّا نجدهم نَفرا آخَرين، وَلَعَلَّ أقدم من أنكر على ابْن قُتَيْبَة علمه، هُوَ ابْن الْأَنْبَارِي "ت238هـ"، نجد ذَلِك على لِسَان ابْن تَيْمِية حِين يَقُول: "وَابْن الْأَنْبَارِي من أَكثر النَّاس كلَاما فِي مَعَاني الْآي المتشابهات، يذكر فِيهَا من الْأَقْوَال مَا لم ينْقل عَن أحد من السّلف ويحتج لما يَقُول فِي الْقُرْآن بالشاذ من اللُّغَة. وَقصد ابْن تَيْمِية بذلك رد إِنْكَار ابْن الْأَنْبَارِي على ابْن قُتَيْبَة. وَمن بعد الْأَنْبَارِي: أَبُو الطّيب "ت351هـ" إِذْ يَقُول فِي كِتَابه مَرَاتِب النَّحْوِيين: "وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسلم بن قُتَيْبَة الدينَوَرِي أَخذ عَن أبي حَاتِم والرياشي وَعبد الرَّحْمَن بن أخي الْأَصْمَعِي. وَقد أَخذ ابْن دُرَيْد عَن هَؤُلَاءِ كلهم وَعَن الأشنانداني إِلَّا أَن ابْن قُتَيْبَة خلط عَلَيْهِ بحكايات عَن الْكُوفِيّين لم يكن أَخذهَا عَن ثِقَات. وَكَانَ يشرع فِي أَشْيَاء لَا يقوم بهَا، نَحْو تعرضه لتأليف كِتَابه فِي النَّحْو، وَكتابه فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا، وَكتابه فِي معجزات النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعيون الْأَخْبَار والمعارف وَالشعرَاء وَنَحْو ذَلِك مِمَّا أزرى بِهِ عِنْد الْعلمَاء وَإِن كَانَ نفق بهَا عِنْد الْعَامَّة وَمن لَا بَصِيرَة لَهُ". وَغير ابْن الْأَنْبَارِي وَأبي الطّيب نجد: الْحَاكِم أَبَا عبد الله مُحَمَّد النيسابوي "ت405هـ" الَّذِي يَقُول: "أَجمعت الْأمة على أَن القتيبي كَذَّاب". كَمَا نجد "ابْن تغريبردي" يروي "ت874هـ" "وَكَانَ ابْن قُتَيْبَة خَبِيث اللِّسَان يَقع فِي حق كبار الْعلمَاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وَكَلَام الَّذين ينتقصون ابْن قُتَيْبَة كُله لَا يخرج عَن هذَيْن الشقين، شقّ فِيهِ المآخذ العلمية وشق مَعَه السب والتشهير. وَلَعَلَّ الرَّغْبَة الطامحة من ابْن قُتَيْبَة، هِيَ الَّتِي دَفعته إِلَى أَن ينزل فِي ميادين مُخْتَلفَة حَملته تبعات لم يسْتَطع أَن ينْهض بهَا كلهَا على سَوَاء، وَرُبمَا اضطرته إِلَى شَيْء من الْجمع الَّذِي يفتقد الْإِنْسَان مَعَه التَّحَرِّي والتثبت، وَهَذَا مِمَّا مكن خصومه أَن يتهموه بِالْكَذِبِ وَنَحْوه. عصر ابْن قُتَيْبَة والحياة العلمية: كَانَ الْمَنْصُور هُوَ أول من أسس لحياة علمية أدبية فِي بَغْدَاد وَكَانَ أَو من أنشأ بهَا مدارس للطب والعلوم الدِّينِيَّة أنْفق فِي سَبِيلهَا أَمْوَالًا طائلة. وعَلى هَذِه الْحَال الَّتِي بَدَأَ بهَا أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور سَارَتْ الْحَيَاة فِي "بَغْدَاد" لم يتَخَلَّف عَنْهَا ابْنه "الْمهْدي" فقد كَانَ هُوَ الآخر نقادة للشعر. ثمَّ تعاقب الْخُلَفَاء العباسيون فِي فَتْرَة ازدهر فِيهَا الْعلم وَالْأَدب والفن والفلسفة، فالرشيد "171هـ -193هـ" كَانَ محبًا للْعُلَمَاء ولوعًا بالأدب فأفسح للْعُلَمَاء والحكماء والأدباء، وبذل الْكثير من المَال لنشر الْعُلُوم والفنون، وَبَلغت "بَغْدَاد" فِي أَيَّامه مكانة لم تظفر بهَا مَدِينَة فِي تِلْكَ الفترة من التَّارِيخ. وأصبحت مهد الحضارة، ومركزًا للفنون والآداب، وزخرت بالأدباء وَالشعرَاء وَالْعُلَمَاء، وأنشئت فِيهَا المراصد والمكتبات والبيمارستانات والمدارس، وَإِلَيْهِ يعزى تأسيس بَيت الْحِكْمَة، الَّذِي جمع لَهُ من الْكتب شَيْئا كثيرا، وَكَانَ مُجْتَمع الباحثين والمفكرين وَالْعُلَمَاء والدارسين. وَفِي عهد الْمَأْمُون تتجه الْعِنَايَة إِلَى بَيت الْحِكْمَة فيفرد لكل عَالم ركن وتزدحم جنباتها بالعلماء والفلاسفة والمترجمين والمؤلفين وأئمة الْأَدَب واللغة وَالْعلم. وينتقل المعتصم إِلَى مدينته الجديدة "سر من رأى" فتخبوا الْحَيَاة العلمية والأدبية فِي بَغْدَاد إِلَى أَوَاخِر أَيَّام الْخَلِيفَة "الْمُعْتَمد على الله" حَتَّى إِذا مَا عَاد إِلَيْهَا سنة "279هـ" دبت الْحَيَاة فِيهَا مرّة ثَانِيَة وَعَاد إِلَيْهَا نشاطها العلمي من جَدِيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وعَلى وَجه الْإِجْمَال فَإِن من ولي خلَافَة بَغْدَاد فِي تِلْكَ الفترة كَانُوا من الْخُلَفَاء الْعلمَاء، فرغبوا فِي الْعلم، وأحسنوا إِلَى الْعلمَاء وأكرموهم؛ فازدهرت بَغْدَاد بالعلماء وبالقادمين مِنْهُم إِلَيْهَا وأصبحت ميدانًا للحركة العلمية لَا نَظِير لَهُ فِي الْعَالم. ويبدو أَن الْمَأْمُون كَانَ درة تِلْكَ الفترة من التَّارِيخ بِعِلْمِهِ وشغفه بِالْعلمِ وَأَهله، يحاور الْعلمَاء وَيجْلس إِلَيْهِم. فيسود عصره لون من التسامح الفكري يشجع الْعلمَاء والمفكرين على الإبداع وحرية الرَّأْي، فَكَانَ لذَلِك أَثَره الْكَبِير فِي ظُهُور الْفرق الكلامية واحتدام الجدل بَينهَا، وَظهر فِي هَذَا الْعَصْر نفر من جلة الْعلمَاء ورءوس الْمُتَكَلِّمين أوغلوا فِي الْبَحْث معتمدين على الْعقل مخالفين بِمَا يَقُولُونَ مَا عَلَيْهِ أَكثر عُلَمَاء الْمُسلمين. وَنَشَأ هَذَا الْخلاف أول مَا نَشأ فِي الْبَصْرَة ثمَّ تعداها إِلَى بَغْدَاد، حمل لِوَاءُهُ وَاصل بن عَطاء ثمَّ عَمْرو بن عبيد -الَّذِي قربه الْمَنْصُور إِلَيْهِ- ثمَّ أَبُو الْهُذيْل العلاف، والنظام وَغَيرهم من شُيُوخ الاعتزال. وَمضى الْخلاف بَين الْمُعْتَزلَة وَأهل السّنة يَتَّسِع، حَتَّى توج أخيرًا بِتِلْكَ المشكلة الَّتِي مَال فِيهَا الْمَأْمُون إِلَى رَأْي الْمُعْتَزلَة -وَهِي مشكلة خلق الْقُرْآن- تِلْكَ المشكلة الَّتِي شغلت الْمَأْمُون أَكثر من غَيره، وَأخذ يناصب العداء كل من خَالفه مناقضًا بذلك منهجه الأساسي فِي احترامه لحرية الرَّأْي وَتَقْدِيره لاجتهادات الْعلمَاء، لكنه التعصب الَّذِي قد ينَال بعض الْعلمَاء فيتحمسون لما يرونه إِلَى دَرَجَة لَا يَسْتَطِيعُونَ سَماع رَأْي مُخَالف. وَمن بعد الْمَأْمُون يَجِيء "المعتصم" فيتورط فِيهَا كَمَا تورط أَخُوهُ الْمَأْمُون، وتستمر هَذِه المحنة حَتَّى عهد "الواثق" فيحاول أَن يجد لهَذِهِ المشكلة مخرجا، وتنتهي فِي عهد "المتَوَكل" 247هـ حَيْثُ خلى بَين النَّاس وَبَين مَا يرَوْنَ. وَإِلَى جَانب الْمدَارِس الكلامية تقوم مدارس نحوية وألوان من الْفِكر والثقافة نتيجة لهَذِهِ الْحَرَكَة العلمية الَّتِي ساهم فِيهَا خليط من الشعوب مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الْفرس والرومان وَالتّرْك والصينيون والهنود والبرابرة والزنج والنبط، وَأهل النَّحْل والأديان والمذاهب من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَالْيَهُود والصابئة والسامرة وَالْمَجُوس وَغَيرهم ... هَذَا هُوَ الْعَصْر الَّذِي أقبل عَلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة وَالَّذِي شَارك فِيهِ: عصر نزاع ديني وعصر نزاع نحوي، وعصر عُلُوم مُخْتَلفَة وثقافات مُتعَدِّدَة، وَكَانَ من الطبيعي أَن يَخُوض ابْن قُتَيْبَة فِي غمار هَذِه النزاعات وَأَن يُسهم فِي الإدلاء بدلوه بَين أَرْبَاب الْفِكر والمذاهب، وَأَن يكْتب منتصرًا لما يعْتَقد أَنه حق مذهبا ومعتقدًا، فَلم يكد يفلته ركن لم يُشَارك فِيهِ. وَإِن إِلْقَاء نظرة على عناوين كتبه توضح لنا أَن هَذِه الْكتب كَانَت ثَمَرَة للحركة العلمية فِي عصره، حَيْثُ ساهم فِي الاهتمامات العلمية الثقافية السائدة فِي عصره وشارك فِيهَا جَمِيعهَا: - شَارك فِي محنة خلق الْقُرْآن وَكَانَ لَهُ فِيهَا رَأْي، وصنف فِي هَذِه الْقَضِيَّة كِتَابه: "الرَّد على الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن". - وشارك فِي فتن المشبهة والمجسمة، ورد عَلَيْهِم بكتابه: "الرَّد على الْجَهْمِية والمشبهة". - وشارك فِي الْخلاف النَّحْوِيّ بَين مدرسة الْبَصْرَة ومدرسة الْكُوفَة، وَجعل بَينهمَا مدرسة ثَالِثَة فِي بَغْدَاد، وصنف كتابين فِي النَّحْو هما: "جَامع النَّحْو الْكَبِير" و"جَامع النَّحْو الصَّغِير" وَكَانَ هُوَ فِي بَغْدَاد زعيمًا لتِلْك الْمدرسَة النحوية. - وشارك فِي قَضِيَّة الشعوبية الَّتِي كَانَ خطرها يزْدَاد وينتشر، وانتصر للْعَرَب على الْعَجم لَا تعصبًا وانحيازًا بل اتبَاعا وانقيادًا للنصوص وحبًّا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي نزل كِتَابه باللغة الْعَرَبيَّة على نَبِي عَرَبِيّ، فَوضع فِي ذَلِك كِتَابه: "فضل الْعَرَب على الْعَجم". - وشارك فِي الِانْتِصَار لمَذْهَب أهل السّنة واقتفاء أثر السّلف الصَّالح بالاعتصام بِكِتَاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوضع عدَّة كتب مدافعًا عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 هذَيْن المصدرين ومبينًا وشارحًا لَهما، خدمَة للدّين وجلاء للطريق الْمُسْتَقيم الَّذِي رَآهُ. فَوضع فِي ذَلِك عدَّة كتب: "مُشكل الْقُرْآن" و"الْقرَاءَات" و"إِعْرَاب الْقُرْآن" و"آدَاب الْقِرَاءَة" و"غَرِيب الحَدِيث" و"مُشكل الحَدِيث" و"اخْتِلَاف تَأْوِيل الحَدِيث". - كَمَا شَارك فِي الْحَرَكَة الأدبية، وتقويم اللِّسَان وفْق أصُول اللُّغَة الْعَرَبيَّة، لما فِي ذَلِك من خدمَة لكتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولربط الْأمة بأصولها، ومحافظة على اللُّغَة الَّتِي تنزلت بهَا النُّصُوص. فَوضع فِي ذَلِك عدَّة كتب: تَقْوِيم اللِّسَان" و"فرائد الدُّرَر" و"أدب الْكَاتِب" و"عُيُون الشّعْر" و"طَبَقَات الشُّعَرَاء" و"كتاب الْمعَانِي الْكَبِير". وَهَكَذَا كَانَ ابْن قُتَيْبَة إِمَامًا من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة المشاركين فِي قضايا عصرهم، المهتمين بِخِدْمَة دينهم، العاملين فِي خدمَة الْحق الَّذِي يرَوْنَ بجد وثبات. كلمة شكر وَلَا يفوتني قبل أَن أنهِي مقدمتي من أَن أسجل شكري للْأَخ الْفَاضِل الدكتور منورنينار الَّذِي أحضر لي صُورَة عَن مخطوطة هَذَا الْكتاب من دَار الْكتب القطرية. وَكَذَلِكَ للْأَخ الْأُسْتَاذ عمر عبيد حسنه، الَّذِي أفدت من ملاحظاته الْقيمَة فِي هَذِه الْمُقدمَة، فأجزل الله مثوبتهما وشكر لَهما. وَالله من وَرَاء الْقَصْد وَهُوَ يهدي السَّبِيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 صور المخطوطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَةُ ابْنِ قُتَيْبَةَ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ. مَطَاعِنُ الْمُنَاهِضِينَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ: "أَمَّا بَعْدُ" أَسْعَدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ، وَحَاطَكَ بِكِلَاءَتِهِ، وَوَفَّقَكَ لِلْحَقِّ بِرَحْمَتِهِ وَجَعَلَكَ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تُعْلِمُنِي مَا وَقَفْتَ عَلَيْهِ مِنْ ثَلْبِ1 أَهْلِ الْكَلَامِ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَامْتِهَانِهِمْ، وَإِسْهَابِهِمْ2 فِي الْكُتُبِ بِذَمِّهِمْ وَرَمْيِهِمْ بِحَمْلِ الْكَذِبِ وَرِوَايَةِ الْمُتَنَاقِضِ حَتَّى وَقَعَ الْاخْتِلَافُ وَكَثُرَتِ النِّحَلُ وَتَقَطَّعَتِ الْعِصَمُ وَتَعَادَى الْمُسْلِمُونَ وَأَكْفَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَعَلَّقَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبِهِ بِجِنْسٍ مِنَ الْحَدِيثِ3: 1- فَالْخَوَارِجُ4 تَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ "ضَعُوا سُيُوفكُمْ على عواتقكم ثمَّ   1 ثلبه يثلبه: لامه وعابه. الْقَامُوس. 2 أسهب: أَكثر الْكَلَام. الْقَامُوس. 3 ذكر الْمُؤلف -رَحمَه الله- هُنَا سَبَب تصنيفه هَذَا الْكتاب حَيْثُ كتب لَهُ أحد أنصار مدرسة الحَدِيث فِي عصره يستنجده للنهوض لمطاعن أهل الْكَلَام وَغَيرهم من الْمذَاهب الَّتِي آثرت الْعُدُول عَن بعض الْأَحَادِيث -لما نقل فِيهَا من رِوَايَات كَاذِبَة أَو متناقضة، ويدعوه لإِزَالَة الغموض فِيمَا ذَكرُوهُ من تنَاقض، حَتَّى التمست كل فرقة ضَالَّة دَلِيلا من السّنة تمسكت بِهِ، وظنته مخرجا. 4 يَقُول الْخَوَارِج بِوُجُوب الْخُرُوج على الإِمَام الجائر، كَمَا يجمعُونَ على إكفار الْحكمَيْنِ وَمن رَضِي بحكمهما فِي فتْنَة "عَليّ وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا"، وَأما التَّكْفِير بارتكاب الْمعاصِي فَلم يجمعوا عَلَيْهِ، وهم يَرُدُّون السّنة إِذا لم يرد مَا يؤيدها صَرَاحَة من الْقُرْآن الْكَرِيم، وهم يجوزون الْإِمَامَة فِي غير قُرَيْش "رَاجع الْملَل والنحل للشهرستاني: جا ص105-107". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أبيدوا خضراءهم" 1. "وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ"2. وَ "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" 3. 2- وَالْقَاعِدُ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا" 4. وَ "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" 5. وَ "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مجدّع الْأَطْرَاف" 6.   1 أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الرَّوْض الداني رقم 201 بِلَفْظ: " اسْتَقِيمُوا لقريش مَا استقاموا لكم، فَإِذا لم يَفْعَلُوا فضعوا سُيُوفكُمْ على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، فَإِذا لم تَفعلُوا فكونوا زارعين أشقياء تَأْكُلُونَ من كد أَيْدِيكُم". رَوَاهُ ثَوْبَان. وَلم يروه عَن شُعْبَة إِلَّا أَبُو دَاوُد، وَعباد بن عباد المهلبي. الْإِسْنَاد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط، وَقَالَ الهيثمي: رِجَاله ثِقَات. 2 أخرجه البُخَارِيّ: اعتصام 10، وَمُسلم: إِيمَان 247 وإمارة 170، 173، 174، وَأَبُو دَاوُد: فتن 1، وَالتِّرْمِذِيّ: فتن 27، 51. 3 أخرجه أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة من أوجه مُخْتَلفَة، بِلَفْظِهِ أَو بِمَعْنَاهُ. فَروِيَ فِي فتح الْبَارِي 5/ 93، وَمُسلم 1/ 125، وَأَبُو دَاوُد 5/ 128، وَعون المعبود 4/ 391، وَالتِّرْمِذِيّ 4/ 29، وَالنَّسَائِيّ 2/ 166، وَابْن مَاجَه 2/ 861، وَأحمد 2/ 163. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان 4/ 283 قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: فِي إِسْنَاد الحَدِيث هَارُون بن حبَان الرقي كَانَ يضع الحَدِيث، وَقَالَ البُخَارِيّ: فِي حَدِيثه نظر، وَقَالَ فِي اللِّسَان 6/ 178، وَذكره الْعقيلِيّ فِي الضُّعَفَاء، وَذكره السَّاجِي كَذَلِك فِي الضُّعَفَاء، وَانْظُر لِسَان الْمِيزَان 4/ 209 والمجروحون 3/ 51. 4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: فتن 7، وَالنَّسَائِيّ: تَحْرِيم 6. 5 أخرجه البُخَارِيّ: أَحْكَام 4، والدارمي: سير 76، وَأحمد 1/ 297. 6 أخرجه مُسلم: حج 311، وَالتِّرْمِذِيّ: جِهَاد 38، وَابْن مَاجَه: جِهَاد 39، وَأحمد: 4/ 70، 5/ 381، 6/ 402-403، ومجدّع الْأَطْرَاف: أَي مقطع الْأَعْضَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 و"صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ برٍّ وَفَاجِرٍ"1. وَلَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ بَرٍّ أَو فَاجر. و"كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَقُلْ بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ" 2. وكُنْ عبدَ اللَّهِ المقتولَ، وَلَا تكنْ عبدَ اللَّهِ القاتلَ. 3- وَالْمُرْجِئُ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، قِيلَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" 3. وَ "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -مُخْلِصًا- دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ تَمَسُّهُ النَّارُ" 4. وَ "أَعْدَدْتُ شَفَاعَتِي، لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي" 5. 4- وَالْمُخَالِفُ لَهُ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن" 6.   1 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير للألباني برقم 3477 عَن أبي هُرَيْرَة وَضَعِيف أبي دَاوُد 97. 2 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 4/ 226 بِلَفْظ: "أَوْصَانِي خليلي أَبُو الْقَاسِم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أدْركْت شَيْئا من هَذِه الْفِتَن فاعمد إِلَى أحد فاكسر بِهِ حد سَيْفك ثمَّ اقعد فِي بَيْتك، قَالَ: فَإِن دخل عَلَيْك أحد إِلَى الْبَيْت فَقُمْ إِلَى المخدع، فَإِن دخل عَلَيْك المخدع فاجثُ على ركبتَيك وقلْ: بُؤْ بإثمي وإثمِك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين، فقد كسرت حد سَيفي وَقَعَدت فِي بَيْتِي". 3 أخرجه البُخَارِيّ: جنائز أَو بَدْء الْخلق لِبَاس 24 واستئذان 30 ورقاق 13 وتوحيد 33، وَمُسلم: إِيمَان 153 و154 وَالتِّرْمِذِيّ: إِيمَان 18. 4 أخرجه مُسلم: إِيمَان 47، وَالْبُخَارِيّ: جِهَاد 102، وَالتِّرْمِذِيّ: إِيمَان 17 وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد رُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ أَنه سُئِلَ عَن قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله دخل الْجنَّة، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أول الْإِسْلَام قبل نزُول الْفَرَائِض وَالْأَمر وَالنَّهْي، قَالَ أَبُو عِيسَى: وَوجه هَذَا الحَدِيث عِنْد بعض أهل الْعلم: أَن أهل التَّوْحِيد سيدخلون الْجنَّة، وَإِن عذبُوا بالنَّار بِذُنُوبِهِمْ، فَإِنَّهُم لَا يخلدُونَ فِي النَّار. وَالله أعلم. 5 أخرجه التِّرْمِذِيّ: كتاب 35 بَاب 11، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 39 بَاب 20 وَالطَّيَالِسِي رقم 998 و1669 و2026. 6 ابْن مَاجَه: فتن 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَ "لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" 1. وَ "لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ لَمْ يَأْمَنِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" 2. وَ "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ قَدْ ذَهَبَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ" 3. وَ "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ قَدِ امْتَحَشُوا فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَوْ كَمَا تَنْبُتُ التَّغَارِيزُ" 4. 5- وَالْقَدَرِيُّ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ" 5. وَبِأَنَّ الله تَعَالَى قَالَ: "خَلَقْتُ عِبَادِي جَمِيعًا حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ" 6. 6- وَالْمُفَوِّضُ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خلق لَهُ. أما   1 أخرجه البُخَارِيّ: أدب 29، وَمُسلم: إِيمَان 73، وَالتِّرْمِذِيّ قِيَامَة: 60 وَأحمد 1/ 387 و2/ 288 و336. وبوائقه: شروره وغوائله. 2 أخرجه البُخَارِيّ: إِيمَان 5 ورقاق 26، وَمُسلم: إِيمَان 64 و65، وَأَبُو دَاوُد: جِهَاد 2، وَالتِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 52 وإيمان 12 وَالنَّسَائِيّ: إِيمَان 8 و9 و11، والدرامي: رقاق 4 و8، وَأحمد 2/ 160. 3 الحبر: أثر الْجمال والهيئة الْحَسَنَة، والسبر بِنَفس الْمَعْنى. 4 أخرجه البُخَارِيّ: أَذَان 129 ورقاق 52 وتوحيد 24، وَمُسلم: إِيمَان 299 و304، والدارمي: مُقَدّمَة 8، وَأحمد 1/ 23 و2/ 276 و534 و3/ 56، و144 و326، و5/ 391 و402. وامتحشوا: أَي احترقوا، ويروى بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول كَمَا نَقله النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم عَن القَاضِي عِيَاض. 5 أخرجه البُخَارِيّ: كتاب 23 بَاب 80 و93 وَكتاب 65 وَسورَة 30 وَكتاب 82 بَاب 3، وَمُسلم: كتاب 46 حَدِيث 22 و25 وَقدر 25، وَأَبُو دَاوُد كتاب 39 وَبَاب 17، وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 30 بَاب 5، ومسند أَحْمد: ص233 و253 و275 و282 ومسند الطَّيَالِسِيّ: حَدِيث 2359 و2433 وَمَغَازِي الْوَاقِدِيّ ص361. 6 أخرجه مُسلم: جنَّة 63 وَأحمد 4/ 162. قَوْله: فَاجْتَالَتْهُمْ: أَي استخفتهم فجالوا مَعَهم فِي الضلال، وَفِي رِوَايَة بِالْحَاء، وَالْمعْنَى: نقلتهم من حَال إِلَى حَال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَهُوَ يَعْمَلُ لِلسَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيَعْمَلُ لِلشَّقَاءِ"1. وَ "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَقَبَضَ قَبْضَتَيْنِ، فَأَمَّا الْقَبْضَةُ الْيُمْنَى فَقَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ برحمتي، والقبضة الْأُخْرَى فَقَالَ: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي" 2. و"السعيد مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالشَّقِيُّ، مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ" 3 هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ. 7- وَالرَّافِضَةُ تَتَعَلَّقُ فِي إِكْفَارِهَا صَحَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِوَايَتِهِمْ " لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَقْوَامٌ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّي أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي، فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ" 4. وَ "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 5. وَيَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِرِوَايَتِهِمْ "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي" 6. وَ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فعليٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ والِ مَن وَالَاهُ، وعادِ مَن عَادَاهُ" 7.   1 أخرجه البُخَارِيّ: قدر 4 وَتَفْسِير سُورَة 92/ 4 و5 و7 وتوحيد 54، وَمُسلم: قدر 6 و7 و8، وَالتِّرْمِذِيّ: قدر 3 وَتَفْسِير سُورَة 92 وَأحمد 4/ 67. 2 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده قَرِيبا مِنْهُ: 4/ 176 و177 و5/ 68. 3 وَجَدْنَاهُ فِي صَحِيح مُسلم بِلَفْظ: "السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أمه" وَفِي الْمَقَاصِد 240، والدرر برقم 553 والتمييز 87 والكشف 1/ 452 والأسرار 216. 4 انْظُر: صَحِيح مُسلم: فَضَائِل 40. 5 أخرجه مُسلم: إِيمَان 118 و120 وقسامة 29، وَالْبُخَارِيّ: علم 43 وأضاحي 5، وَأَبُو دَاوُد: سنة 15، وَالتِّرْمِذِيّ: فتن 28، والدارمي: مَنَاسِك 76، وَأحمد 2/ 85 و87 و104، و5/ 37، و39. 6 صَحِيح عِنْد الشَّيْخَيْنِ: مُسلم رقم 2404، وَلَفظ البُخَارِيّ: "أما ترْضى أَن تكون مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي" وَهُوَ أَيْضا لفظ مُسلم، وَأما حَدِيث: "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى" فَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا. 7 انْظُر التِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 19، وَابْن ماجة؛ مُقَدّمَة 11، وَأحمد 1/ 84 و118 و119 و152 و4/ 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 - و "أَنْت وصيِّي" 1. 8- وَمُخَالِفُوهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ الشَّيْخَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِرِوَايَتِهِمْ: "اقْتَدُوا باللذيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ" 2، وَ "يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ" 3. وَ "خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ" 4. 9- وَيَتَعَلَّقُ مُفَضِّلُو الْغِنَى بِرِوَايَتِهِمْ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ غِنَايَ وَغِنَى مَوْلَايَ" 5 "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فَقْرٍ مَرَبٍّ أَوْ مُلِبٍّ" 6. 10- وَيَتَعَلَّقُ مُفَضِّلُو الْفَقْرِ بِرِوَايَتِهِمْ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ" 7. وَ "الْفَقْرُ بِالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ، أَحْسَنُ مِنَ الْعَذَارِ الْحَسَنِ، عَلَى خَدِّ الْفرس" 8.   1 ذكر البُخَارِيّ فِي بَاب الْوَصِيَّة 1، وَمُسلم: الْوَصِيَّة 19 حَدِيثا يَنْفِي هَذِه الْوَصِيَّة المزعومة، وَهُوَ: "ذكرُوا عِنْد عَائِشَة: أَن عليًّا وصيًّا. فَقَالَت: مَتى أوصى إِلَيْهِ؟ فقد كنت مسندته إِلَى صَدْرِي "أَو قَالَت حجري" فَدَعَا بالطست فَلَقَد انخنث فِي حجري، وَمَا شَعرت أَنه مَاتَ. فَمَتَى أوصى لَهُ؟ ". 2 الحَدِيث صَحِيح، صَححهُ الألباني: السلسلة الصَّحِيحَة رقم 1223. مُحَمَّد بدير- وَقد كَانَ سبق فِي الطبعة السَّابِقَة أَن ضعفناه اشتباهًا بروايات أُخْرَى ضَعِيفَة. 3 أخرجه مُسلم: فَضَائِل الصَّحَابَة 11، وَأَبُو دَاوُد: سنة 11، وَأحمد: 1/ 23 و2/ 276 و534 و3/ 56 و144 و326 و5/ 391 و402. 4 أخرجه ابْن ماجة: الْمُقدمَة ب11، وَأحمد: 1/ 106 و110 و1/ 113 و114 و125 و126 و127 و128. انْظُر ضَعِيف الْجَامِع 2903، والسلسلة الضعيفة 3573 - مُحَمَّد بدير. 5 أخرجه أَحْمد: 3/ 452. ضَعِيف رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن أبي صرمة -انْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 1295، والضعيفة 2912. 6 أخرجه النَّسَائِيّ: استعاذة 14 و16، وَأحمد: 2/ 305 و325 و354. 7 أخرجه التِّرْمِذِيّ: زهد 37، وَابْن ماجة: زهد 7. صَحِيح انْظُر صَحِيح الْجَامِع 1261، والصحيحة 308 وَهُوَ عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير والضياء عَن عبَادَة بن الصَّامِت، وَفِي مُسْند عبد بن حميد عَن أبي سعيد -مُحَمَّد بدير. 8 ذكره الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 4033 عَن شَدَّاد بن أَوْس وَسَعِيد بن مَسْعُود بِلَفْظ: "الْفقر بِالرجلِ الْمُؤمن أزين على الْمُؤمن مِنَ الْعَذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْفرس". وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 11- وَيَتَعَلَّقُ الْقَائِلُونَ بِالْبَدَاءِ -بِالْبِرِّ أَنَّهُ يُنْسِئُ الْعُمُرَ وَبِالْعُقُوقِ أَنَّهُ يَخْرِمُ الْعُمُرَ- بِرِوَايَتِهِمْ: "صِلَةُ الرَّحِمِ، تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ وَالصَّدَقَةُ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَ " 1. وَبِقَوْلِ عُمَرَ: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ الشَّقَاءِ فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ". 12- هَذَا مَعَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْأَحْكَامِ، اخْتَلَفَ لَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْفُتْيَا، حَتَّى افْتَرَقَ الْحِجَازِيُّونَ وَالْعِرَاقِيُّونَ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَكُلٌّ يَبْنِي عَلَى أَصْلٍ مِنْ رِوَايَتِهِمْ. قَالُوا وَمَعَ افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحَادِيثِ التَّشْبِيهِ كَحَدِيثِ "عَرَقِ الْخَيْلِ"2 وَ"زَغَبِ الصَّدْرِ"3 وَ"نُورِ الذِّرَاعَيْنِ" وَ"عِيَادَةِ الْمَلَائِكَةِ". وَ "قَفَصِ الذَّهَبِ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، عَشِيَّةَ عَرَفَةَ" 4. وَ "الشَّابِّ الْقَطِطِ، وَدُونَهُ فِرَاشُ الذَّهَبِ" 5 و"كشف السَّاق يَوْم   1 أخرجه البُخَارِيّ: كتاب 78 بَاب 12، وَمُسلم: كتاب 45 حَدِيث 16 و17 و20 و22، وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 25 بَاب 9 و49، وَأحمد 2/ ص189 و484 و3/ ص156. 2 هَذَا الحَدِيث وَضعه بعض الزَّنَادِقَة وَهُوَ: "أَن الله تَعَالَى لما أَرَادَ أَن يخلق نَفسه خلق الْخَيل فأجراها حَتَّى عرقت ثمَّ خلق نَفسه من ذَلِك الْعرق". قَالَ ابْن عَسَاكِر: حَدِيث إِجْرَاء الْخَيل مَوْضُوع، وَضعه بعض الزَّنَادِقَة ليشنع بِهِ على أَصْحَاب الحَدِيث فِي روايتهم المستحيل، فَقبله من لَا عقل لَهُ، وَهُوَ مِمَّا يقطع بِبُطْلَانِهِ شرعا وعقلًا". ا. هـ بِنَقْل السُّيُوطِيّ عَنهُ. 3 وَهَذَا الحَدِيث وَضعه بعض الزَّنَادِقَة أَيْضا، وَهُوَ: "أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَة من شعر ذِرَاعَيْهِ وصدره أَو من نورهما". 4 حَدِيث مَوْضُوع لَا أصل لَهُ. انْظُر الْأَسْرَار المرفوعة فِي الْأَخْبَار الْمَوْضُوعَة لملا عَليّ الْقَارِي، تَحْقِيق د. مُحَمَّد لطفي الصّباغ برقم 209، وَانْظُر اللآلي 1/ 28-31. وَلَفظه: "رَأَيْت رَبِّي يَوْم النَّفر على جمل أَوْرَق عَلَيْهِ جُبَّة صوف أَمَام النَّاس". وَقَالَ ابْن تَيْمِية: هُوَ من أعظم الْكَذِب على الله وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 5 ورد فِي اللآلئ ص 29 و30 عَن ابْن عَبَّاس "رَأَيْت رَبِّي فِي صُورَة شَاب لَهُ وَفْرَةٌ" وَرُوِيَ: "فِي صُورَة شَاب أَمْرَد". قَالَ سُفْيَان بن زِيَاد: فَلَقِيت عِكْرِمَة بعد، فَسَأَلته الحَدِيث فَقَالَ: "نعم كَذَا حَدثنِي إِلَّا أَنه قَالَ: رَآهُ بفؤاده". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الْقِيَامَة"1 إِذَا كَادُوا يُبَاطِشُونَهُ2، وَ"خَلْقِ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" 3 وَ" وَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفِيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيَّ" 4 وَ "قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ تَعَالَى" 5. وَمَعَ رِوَايَتِهِمْ كُلُّ سَخَافَةٍ تَبْعَثُ عَلَى الْإِسْلَامِ الطَّاعِنِينَ، وَتُضْحِكُ مِنْهُ الْمُلْحِدِينَ، وَتُزَهِّدُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ الْمُرْتَادِينَ6، وَتَزِيدُ فِي شُكُوكِ الْمُرْتَابِينَ. كَرِوَايَتِهِمْ: فِي "عَجِيزَةِ7 الْحَوْرَاءِ إِنَّهَا مَيْلٌ فِي مَيْلٍ" وَفِيمَنْ قَرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا، وَمن فعل كَذَا، أُسْكِنَ مِنَ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ أَلْفَ قَصْرٍ، فِي كُلِّ قَصْرٍ سَبْعُونَ أَلِفَ مَقْصُورَةٍ، فِي كُلِّ مَقْصُورَة سَبْعُونَ ألف مهاد، علسى كُلِّ مِهَادٍ سَبْعُونَ أَلْفَ كَذَا. وَكَرِوَايَتِهِمْ: فِي الْفَأْرَةِ "إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، وَإِنَّهَا لَا تَشْرَبُ أَلْبَانَ الْإِبِلِ، كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ لَا تَشْرَبُهَا"8. وَفِي الْغُرَابِ إِنَّهُ فَاسِقٌ، وَفِي السنور إِنَّهَا عطسة   1 حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي الصَّحِيحَيْنِ، ورقمه فِي اللُّؤْلُؤ 115، وَهُنَاكَ مَكَان فِي كل من البُخَارِيّ وَمُسلم. مُحَمَّد بدير. 2 وَفِي نُسْخَة: يواقشونه، وَلَا نجد معنى للكلمتين. 3 أخرجه البُخَارِيّ: اسْتِئْذَان 1، وَمُسلم: بر 115 وجنة 38، وَأحمد 2/ 244 و251 و315 و434 و463 و519. 4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة 3 و4 و38 و2، والدارمي: رُؤْيا 12، وَأحمد 1/ 368 و4/ 66 و5/ 58 و243 و378 وَعَن ابْن عَبَّاس بِإِسْنَاد صَحِيح، انْظُر جَامع الصَّحِيح رقم 59 - والثندوتان: الثديان. 5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: " قلب ابْن آدم على أصبعين من أَصَابِع الْجَبَّار" انْظُر مُسْند أَحْمد: 2/ 173. 6 وَلَعَلَّ الْأَصَح: المترددين. 7 العجيزة: من الْعَجز؛ وَهُوَ مُؤخر الشَّيْء، والعجيزة: خَاصَّة بِالْمَرْأَةِ وَلَا يُقَال للرجل إِلَّا على التَّشْبِيه. وَقد وجدنَا الحَدِيث فِي مُسْند أَحْمد: 2/ 537: ".. وَأَن لَهُ من الْحور الْعين اثْنَيْنِ وَسبعين زَوْجَة سوى أَزوَاجه من الدُّنْيَا وَإِن الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ ليَأْخُذ مقعدها قدر ميل من الأَرْض". 8 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 289 والْحَدِيث أَصله فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان رقم 1886 عَن أبي هُرَيْرَة. -مُحَمَّد بدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الْأسد، وَالْخِنْزِيرِ إِنَّهُ عَطْسَةُ الْفِيلِ، وَفِي الْإِرْبِيَانَةِ1 أَنَّهَا كَانَتْ خَيَّاطَةٌ، تَسْرِقُ الْخُيُوطَ فَمُسِخَتْ، وَأَنَّ الضَّبَّ كَانَ يَهُودِيًّا عَاقًّا فَمُسِخَ، وَأَنَّ سُهَيْلًا كَانَ عَشَّارًا بِالْيَمَنِ، وَأَنَّ الزُّهْرَةَ كَانَتْ بَغِيًّا عَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ2، فَمَسَخَهَا اللَّهُ شِهَابًا، وَأَنَّ الْوَزَغَةَ كَانَتْ تَنْفُخُ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ الْعَظَايَةَ3 تَمُجُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْغُولَ كَانَتْ تَأْتِي مَشْرَبَةَ أَبِي أَيُّوبَ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَارَعَ الْجِنِّيَّ فَصَرَعَهُ4 وَأَنَّ الْأَرْضَ عَلَى ظَهْرِ حُوتٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ مِنْ كَبِدِهِ5؛ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُونَ، وَأَنَّ ذِئْبًا دَخَلَ الْجَنَّةَ لِأَنَّهُ أَكَلَ عشارًا -و"إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الْإِنَاءِ، فَامْقِلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً وَأَنَّهُ يقدم السم، وَيُؤَخر الشِّفَاء6، و"أَن الْإِبِلَ خُلِقَتْ مِنَ الشَّيْطَانِ" مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا7. قَالُوا: وَمِنْ عَجِيبِ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَ الشَّيْخَ8 إِلَى الْكَذِبِ وَلَا يَكْتُبُونَ عَنْهُ مَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ بِقَدْحِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ9 وَعَلِيِّ بن الْمَدِينِيّ وأشباههما.   1 واحده: الإربيان وَهُوَ سمك كالدود. 2 وَفِي نُسْخَة: الْأَكْبَر. 3 العظاية: هِيَ سَام أبرص. والْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ رقم 3359 عَن أم شريك مَرْفُوعا -مُحَمَّد بدير. 4 فصرعه: أَي غَلبه بالمصارعة. 5 هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا، وَهُوَ فِي اللُّؤْلُؤ برقم 1778. -مُحَمَّد بدير. 6 أخرجه البُخَارِيّ: بَدْء الْخلق 17، والموطأ: 58، وَأَبُو دَاوُد: أَطْعِمَة 48، وَالنَّسَائِيّ: فرع 11، وَابْن ماجة: ص311، والدارمي: أسلمة 12، وَابْن حَنْبَل: 2/ 329 و346 و362 و388 و398 و443. 7 وَفِي نُسْخَة: اقتصاصها. 8 قَوْله ينسبون الشَّيْخ إِلَى الْكَذِب: لَا يقْصد شَيخا بِعَيْنِه، بل المُرَاد أَنهم يطعنون بالثقات من الروَاة لمُجَرّد طعن من يثقون فِيهِ. 9 يحيى بن معِين أَبُو زَكَرِيَّا الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ الإِمَام الْعلم، قَالَ أَحْمد: كل حَدِيث لَا يعرفهُ يحيى فَلَيْسَ بِحَدِيث مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة 233هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ويحتجون بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ1 -فِيمَا لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ- وَقَدْ أَكْذَبَهُ عُمَرُ2، وَعُثْمَانُ3، وَعَائِشَةُ4. وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ5 -وَقَدْ أَكْذَبَهَا عُمَرُ، وَعَائِشَةُ- وَقَالُوا: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ. وَيُبَهْرِجُونَ6 الرَّجُلَ بِالْقَدَرِ، فَلَا يَحْمِلُونَ عَنْهُ كَـ "غيلَان"، و"عَمْرو بن عبيد"7 و"معبد الْجُهَنِيّ"8، و"عَمْرو بْنِ فَائِدٍ"، وَيَحْمِلُونَ عَنْ أَمْثَالِهِمْ من   1 هُوَ عبد الرَّحْمَن بن صَخْر الدوسي، أسلم سنة 7هـ، وَلزِمَ صُحْبَة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ من أَكثر الصَّحَابَة حفظا للْحَدِيث وَرِوَايَة لَهُ، ولي أَمر الْمَدِينَة، وَاسْتَعْملهُ عمر على الْبَحْرين، وَكَانَ كثير الْعِبَادَة، توفّي سنة 59هـ. 2 عمر بن الْخطاب أَبُو حَفْص، أحد فُقَهَاء الصَّحَابَة، وَثَانِي الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَأحد الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ، وَأول من سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ، شهد بَدْرًا والمشاهد إِلَّا تَبُوك، فتحت فِي أَيَّامه الْأَمْصَار، اسْتشْهد سنة 24هـ. 3 عُثْمَان بن عُثْمَان أَمِير الْمُؤمنِينَ ذُو النورين، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجنَّةِ جمع النَّاس على مصحف وَاحِد، كَانَ ينْفق مَاله فِي سَبِيل الله، وَهُوَ ثَالِث الْخُلَفَاء الرَّاشِدين اسْتشْهد سنة 35هـ وعمره "82" سنة. 4 عَائِشَة بنت أبي بكر الصّديق، وَأم الْمُؤمنِينَ زوج رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم كَانَت فِي الْعلم بِمَنْزِلَة كَبِيرَة. قَالَ الزُّهْرِيّ: لَو جمع علم عَائِشَة إِلَى جَمِيع أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَعلم جَمِيع النِّسَاء لَكَانَ علم عَائِشَة أفضل. وَتُوفِّي عَنْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي فِي الثَّامِنَة عشرَة. مَاتَت سنة 58هـ بِالْمَدِينَةِ ودفنت بِالبَقِيعِ. 5 فَاطِمَة بنت قيس بن خَالِد القرشية الفهرية، أُخْت الضَّحَّاك بن قيس الْأَمِير، صحابية من الْمُهَاجِرَات الْأَوَائِل. لَهَا رِوَايَة للْحَدِيث. كَانَت ذَات جمال وعقل، وَفِي بَيتهَا اجْتمع أَصْحَاب الشورى عِنْد قتل عمر رَضِي الله عَنهُ. 6 يبهرجون: يعدلُونَ بالشَّيْء عَن الجادة القاصدة إِلَى غَيرهَا كَمَا فِي الْقَامُوس. وَالْقَصْد أَنهم يطعنون فِي عَدَالَة الرجل وَصدقه، فينفر النَّاس مِنْهُ وَلَا يقبلُونَ مِنْهُ علما -مُحَمَّد بدير. 7 عَمْرو بن عبيد بن بَاب التَّيْمِيّ بِالْوَلَاءِ، ولد عَام 80هـ، وَهُوَ شيخ الْمُعْتَزلَة فِي عصره ومفتيها وَأحد الزهاد الْمَشْهُورين. كَانَ جده من سبي فَارس، وَأَبوهُ نساجًا ثمَّ شرطيًّا للحجاج فِي الْبَصْرَة، واشتهر عَمْرو بِعِلْمِهِ وزهده وأخباره مَعَ الْمَنْصُور العباسي وَغَيره. وَفِيه قَالَ الْمَنْصُور: كلكُمْ طَالب صيد غير عَمْرو بن عبيد. توفّي بمران "بِقرب مَكَّة" عَام 144هـ. قَالَ يحيى بن معِين: كَانَ من الدهرية. 8 معبد الْجُهَنِيّ، هُوَ معبد بن عبد الله بن عويم، من الْبَصْرَة أول من قَالَ بِالْقدرِ وانتقل من الْبَصْرَة إِلَى الْمَدِينَة فنشر فِيهَا مذْهبه، وَهُوَ فَقِيه فِي الحَدِيث، قيل قَتله الْحجَّاج صبرا سنة 80هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أهل مَقَالَتِهِمْ، كَـ "قَتَادَةَ"1، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ2، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ3، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ4، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ5. وَيَقْدَحُونَ فِي الشَّيْخِ يُسَوِّي بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، أَوْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَيْهِ. وَيَرْوُونَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ6، صَاحِبِ رَايَةِ الْمُخْتَارِ، وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ7، وَكِلَاهُمَا يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ8. قَالُوا: وَهُمْ مَعَ هَذَا أَجْهَلُ النَّاسِ بِمَا يَحْمِلُونَ، وَأَبْخَسُ النَّاسِ حَظًّا فِيمَا يَطْلُبُونَ، وَقَالُوا فِي ذَلِك:   1 قَتَادَة بن دعامة السدُوسِي، أَبُو الْخطاب الْبَصْرِيّ أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، روى عَن أنس بن مَالك وَابْن الْمسيب وَابْن سِيرِين، توفّي سنة 117هـ. 2 سعيد ابْن أبي عرُوبَة: الْعَدوي بِالْوَلَاءِ الْبَصْرِيّ حَافظ للْحَدِيث لم يكن فِي زَمَانه أحفظ مِنْهُ قَالَ الذَّهَبِيّ: إِمَام أهل الْبَصْرَة فِي زَمَانه، وَرمي بِالْقدرِ، اخْتَلَط فِي آخر عمره، توفّي 156هـ. 3 هُوَ عبد الله بن يسَار، أَبُو يسَار، وَعرف بِعَبْد الله ابْن أبي نجيح، ثِقَة صَالح الحَدِيث، ويذكرون أَنه يَقُول بِالْقدرِ، وَذكره النَّسَائِيّ فِيمَن كَانَ يُدَلس، وَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين وروى عَنهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، مَاتَ سنة 131هـ. 4 مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد الْعُزَّى الْقرشِي التَّيْمِيّ، ولد عَام 54هـ، مدنِي زاهد، من رجال الحَدِيث. أدْرك بعض الصَّحَابَة وروى عَنْهُم، لَهُ نَحْو مِائَتي حَدِيث. قَالَ ابْن عُيَيْنَة: ابْن الْمُنْكَدر من معادن الصدْق توفّي عَام 130هـ. 5 ابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة ولد 80هـ، من قُرَيْش من رُوَاة الحَدِيث وَمن أهل الْمَدِينَة كَانَ يُفْتِي بهَا من أورع النَّاس وأفضلهم فِي عصره توفّي سنة 158هـ. 6 هُوَ عَامر بن وائلة الْكِنَانِي اللَّيْثِيّ، ولد عَام أحد، وَأثبت مُسلم وَابْن عدي صحبته، كَانَ من شيعَة عَليّ، ثمَّ سكن مَكَّة وَمَات سنة 100هـ. 7 جَابر بن يزِيد بن الْحَارِث الْجعْفِيّ، تَابِعِيّ، من فُقَهَاء الشِّيعَة، من أهل الْكُوفَة. أثنى عَلَيْهِ بعض رجال الحَدِيث، واتهمه آخَرُونَ بالْقَوْل بالرجعة. وَكَانَ وَاسع الرِّوَايَة غزير الْعلم. مَاتَ بِالْكُوفَةِ عَام 128هـ. 8 بالرجعة: بالعودة إِلَى الدُّنْيَا بعد الْمَوْت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 زوامِلُ1 لِلْأَشْعَارِ، لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ ... بِجَيِّدِهَا إِلَّا كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي2 الْبَعِيرُ إِذَا غَدَا ... بِأَحْمَالِهِ3 أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ قَدْ قَنِعُوا مِنَ الْعِلْمِ بِرَسْمِهِ، وَمِنَ الْحَدِيثِ بِاسْمِهِ. وَرَضُوا بِأَن يُقَال4: فُلَانٌ عَارِفٌ بِالطُّرُقِ، وَرَاوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ. وَزَهِدُوا فِي أَنْ يُقَالَ: عَالِمٌ بِمَا كَتَبَ، أَوْ عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ. وَقَالَ: وَمَا ظَنُّكُمْ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ، يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَتُضْرَبُ5 إِلَيْهِ أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، سُئِلَ فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فَقَالَ: "الْبِئْرُ جَبَارٌ" 6. وَآخَرَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} 7 فَقَالَ: هُوَ هَذَا الصَّرْصَرُ، يَعْنِي صَرَاصِرَ اللَّيْلِ. وَآخَرَ حَدَّثَهُمْ عَنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ، وَيُرِيد شُعْبَة وسفين8. وَآخَرَ رَوَى لَهُمْ: يَسْتُرُ الْمُصَلِّيَ مِثْلُ آجُرّة الرَّجُلِ، يُرِيدُ: مِثْلَ آخِرَة الرّحل9.   1 الزاملة: بعير يستظهر بِهِ الرجل يحمل عَلَيْهِ مَتَاعه وَطَعَامه. والبيتان لمروان بن سُلَيْمَان بن يحيى بن أبي حَفْصَة، هجا بهما قوما من رُوَاة الشّعْر. 2 وَفِي نُسْخَة: وَمَا تَدْرِي الْمطِي. 3 وَفِي نُسْخَة: بأوساقه. 4 وَفِي نُسْخَة: بِأَن يَقُولُوا. 5 وَفِي نُسْخَة: وَتصرف. 6 انْظُر البُخَارِيّ: مُسَاقَاة 3. والجبار بِالضَّمِّ: البريء من الشَّيْء، وَقد توهم من هَذَا الحَدِيث أَن الْفَأْرَة إِذا وَقعت فِي الْبِئْر لَا تنجسها. 7 الْآيَة 117 من سُورَة آل عمرَان. وَالْآيَة: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ... } "ريح" بِالْكَسْرِ كَمَا وَردت بِالْآيَةِ لَا بِالضَّمِّ. 8 يَعْنِي أَنه تصحف عَلَيْهِ اسْم شُعْبَة، وسفين، بسبعة وَسبعين للقرب الَّذِي بَينهمَا فِي الصُّورَة الخطية. 9 يُرِيد أَنه قد تصحف عَلَيْهِ "الرّحل" "بِالرجلِ"، وتصحف عَلَيْهِ "الْآخِرَة" "وبالآجرة"؛ وَهِي الْخَشَبَة الَّتِي يسْتَند إِلَيْهَا الرَّاكِب من كور الْبَعِير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَسُئِلَ آخَرُ: مَتَى يَرْتَفِعُ هَذَا الْأَجَلُ؟ فَقَالَ: إِلَى قَمَرَيْنِ، يُرِيدُ: إِلَى شَهْرَيْ هِلَالٍ. وَقَالَ آخَرُ: يُدْخِلُ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَيَقْضِمُهَا قَضْمَ الْفُجْلِ، يُرِيدُ: قَضْمَ الْفَحْلِ. وَقَالَ آخَرُ: أَجِدُ فِي كِتَابِي الرَّسُولَ، وَلَا أَجِدُ اللَّهَ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْمُسْتَمْلِي: اكْتُبُوا؛ وَشَكَّ فِي الله تَعَالَى، مَعَ أَشْيَاء يكثر تَعْدَادُهَا. قَالُوا: وَكُلَّمَا كَانَ الْمُحَدِّثُ أَمْوَقَ1 كَانَ عِنْدَهُمْ أَنْفَقَ. وَإِذَا كَانَ كَثِيرَ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ، كَانُوا بِهِ أَوْثَقَ. وَإِذَا سَاءَ خُلُقُهُ، وَكثر غَضَبه، واشتدت2حِدته، وعثر3 فِي الحَدِيث، تهافتوا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ4 كَانَ الْأَعْمَشُ يَقْلِبُ الْفَرْوَ، وَيَلْبَسُهُ، وَيَطْرَحُ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْدِيلَ الْخِوَانِ. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ إِسْنَادِ حَدِيثٍ، فَأَخَذَ بِحَلْقِهِ وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْحَائِطِ، وَقَالَ هَذَا إِسْنَادُهُ. وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّيْخَ لَمْ يَطْلُبِ الْفِقْهَ أَحْبَبْتُ أَنْ أَصْفَعَهُ. مَعَ حَمَاقَاتٍ كَثِيرَةٍ تُؤْثَرُ عَنْهُ لَا نَحْسَبُهُ كَانَ يُظْهِرُهَا إِلَّا لِيَنْفُقَ5 بِهَا عِنْدَهُمْ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ6: هَذَا مَا حَكَيْتَ مِنْ طَعْنِهِمْ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَشَكَوْتَ تَطَاوُلَ الْأَمْرِ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَن ينضح عَنْهُم نَاضِح،   1 أموق أَي أَحمَق وأغبى. 2 لَعَلَّ الصَّحِيح: اشتدت حِدته، وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: وَاشْتَدَّ حِدة. 3 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: وعسرة. 4 وَفِي نُسْخَة: وَلذَلِك. 5 لينفق بهَا عِنْدهم: أَي ليَكُون لَهُ اعْتِبَار بَينهم. 6 يُشِير الْمُؤلف إِلَى الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لتصنيفه هَذَا الْكتاب، بعد أَن تهاون بالنهوض لَهَا من يضع الْحق فِي نصابه ويزيل الغموض ويكشف وَجه الصَّوَاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَيَحْتَجَّ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُحْتَجٌّ، أَوْ يَتَأَوَّلَهَا مُتَأَوِّلٌ، حَتَّى أَنِسُوا بِالْعَيْبِ، وَرَضُوا بِالْقَذْفِ، وَصَارُوا بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْجَوَابِ، كالمسلِّمين، وَبِتِلْكَ الْأُمُورِ مُعْتَرِفِينَ. وَتَذْكُرْ أَنَّكَ وَجَدْتَ فِي كِتَابِي الْمُؤَلَّفِ فِي "غَرِيبِ الْحَدِيثِ" بَابًا ذَكَرْتُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْمُتَنَاقِضِ عِنْدَهُمْ، وَتَأَوَّلْتُهُ فَأَمَّلْتَ بِذَلِكَ أَنْ تَجِدَ عِنْدِي فِي جَمِيعِهِ مِثْلَ الَّذِي وَجَدْتَهُ فِي تِلْكَ1 مِنَ الْحُجَجِ، وَسَأَلْتَ أَنْ أَتَكَلَّفَ ذَلِكَ مُحْتَسِبًا لِلثَّوَابِ. فَتَكَلَّفْتُهُ بِمَبْلَغِ عِلْمِي وَمِقْدَارِ طَاقَتِي، وَأَعَدْتُ مَا ذَكَرْتُ فِي كُتُبِي مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ؛ لِيَكُونَ الْكِتَابُ تَامًّا جَامِعًا لِلْفَنِّ الَّذِي قَصَدُوا الطَّعْنَ بِهِ. وَقَدَّمْتُ -قَبْلَ ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ، وَكَشْفِ مَعَانِيهَا- وَصْفَ أَصْحَابِ الْكَلَامِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، بِمَا أُعَرِّفُ بِهِ كُلَّ فَرِيقٍ. وَأَرْجُو أَنْ لَا يَطَّلِعَ ذُو النُّهَى مِنِّي، عَلَى تَعَمُّدٍ لِتَمْوِيهٍ، وَلَا إِيثَارٍ لِهَوًى، وَلَا ظُلْمٍ لخصم. وعَلى الله أتوكل فيمَ أحاول، وَبِه أستعين.   1 وَفِي نُسْخَة: وجدت فِي ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الرَّد على مطاعن المناهضين: الرَّد على أَصْحَاب الْكَلَام وَأَصْحَاب الرَّأْي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ تَدَبَّرْتُ -رَحِمَكَ اللَّهُ- كَلَامَ الْعَايِبِينَ وَالزَّارِينَ1 فوجدتهم يَقُولُونَ على الله مَا لا يَعْلَمُونَ، وَيَعِيبُونَ2 النَّاسَ بِمَا يَأْتُونَ وَيُبْصِرُونَ الْقَذَى فِي عُيُونِ النَّاسِ، وَعُيُونُهُمْ تَطْرِفُ3 عَلَى الْأَجْذَاعِ4 وَيَتَّهِمُونَ غَيْرَهُمْ فِي النَّقْلِ، وَلَا يَتَّهِمُونَ آرَاءَهُمْ فِي التَّأْوِيلِ. وَمَعَانِي الْكِتَابِ5 وَالْحَدِيثِ، وَمَا أَوْدَعَاهُ مِنْ لَطَائِفِ الْحِكْمَةِ وَغَرَائِبِ اللُّغَةِ، لَا يُدْرَكُ بِالطَّفْرَةِ6 وَالتَّوَلُّدِ وَالْعَرْضِ وَالْجَوْهَرِ، وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ وَالْأَيْنِيَّةِ. وَلَوْ رَدُّوا الْمُشْكَلَ مِنْهُمَا، إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِمَا، وَضَحَ لَهُمُ الْمَنْهَجُ، وَاتَّسَعَ لَهُمُ الْمَخْرَجُ. وَلَكِنْ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ طَلَبُ الرِّيَاسَةِ، وَحُبُّ الْأَتْبَاعِ، وَاعْتِقَادُ الإخوان بالمقالات.   1 وَفِي نُسْخَة: مقَالَة أهل الْكَلَام. 2 وَفِي نُسْخَة: ويفتنون. 3 عيونه تطرف: تطبق أحد جفنيه على الآخر. 4 الأجذاع: جمع جذع: النّخل، وَفِي نُسْخَة: الأجذال. 5 أَي الْقُرْآن الْكَرِيم كتاب الله تَعَالَى. 6 من الْكَلِمَات الَّتِي تجْرِي على أَلْسِنَة الْمُتَكَلِّمين وتذكر فِي كتبهمْ، ومعانيها كَمَا وَردت فِي الْقَامُوس. الطفرة: الوثب فِي ارْتِفَاع. الْعرض من الْكَلَام: فحواه. الْجَوْهَر: كل حجر يسْتَخْرج مِنْهُ شَيْء ينْتَفع بِهِ، ثمَّ اسْتعْمل مجَازًا لكل أَمر أَو شَيْء يسْتَخْرج مِنْهُ شَيْء ينْتَفع بِهِ. والكيفية: مَأْخُوذَة من "كَيفَ"، والكمية: مَأْخُوذَة من "كم" والأينية: مَأْخُوذَة من "أَيْن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَالنَّاسُ أَسْرَابُ1 طَيْرٍ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَلَوْ ظَهَرَ لَهُمْ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ -مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مَنْ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ- لَوَجَدَ عَلَى ذَلِكَ أَتْبَاعًا وَأَشْيَاعًا. وَقَدْ كَانَ يَجِبُ -مَعَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ وَإِعْدَادِ آلَاتِ النَّظَرِ- أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا كَمَا لَا يَخْتَلِفُ الحُسّاب والمُسّاح، وَالْمُهَنْدِسُونَ، لِأَنَّ آلَتَهُمْ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى عَدَدٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا عَلَى شَكْلٍ وَاحِدٍ، وَكَمَا لَا يَخْتَلِفُ حُذَّاقُ الْأَطِبَّاءِ فِي الْمَاءِ وَفِي نَبْضِ الْعُرُوقِ؛ لِأَنَّ الْأَوَائِلَ قَدْ وَقَّفُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فَمَا بَالُهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ اخْتِلَافًا، لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فِي الدِّينِ. فَـ "أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ"2 يُخَالِفُ "النَّظَّامَ"3 و"النجار"4 يخالفهما، و"هِشَام بْنُ الْحَكَمِ"5 يُخَالِفُهُمْ، وَكَذَلِكَ "ثُمَامَةُ" و"مويس" و"هَاشم الأوقص" و"عبيد الله بن الْحسن"6 و"بكر الْعَمى"   1 الأسراب: جمع سرب وَهُوَ القطيع من الْحَيَوَانَات والطيور، تتبع وَاحِدًا مِنْهَا بِدُونِ فهم أَو معرفَة لحقيقة اتجاه. 2 أَبُو الْهُذيْل العلاف: مُحَمَّد بن الْهُذيْل بن عبد الله بن مَكْحُول الْعَبْدي من أَئِمَّة الْمُعْتَزلَة. ولد فِي الْبَصْرَة عَام 135هـ. واشتهر بِعلم الْكَلَام، وَكَانَ حسن الجدل قوي الْحجَّة توفّي بسامرا سنة 235هـ وَله كتب كَثِيرَة. 3 النظام: إِبْرَاهِيم بن سيار بن هَانِئ الْبَصْرِيّ من أَئِمَّة الْمُعْتَزلَة تبحر فِي عُلُوم الفلسفة واطلع على كثير مِمَّا كتبه رجالها، وَله فرقة تابعته سميت "النظامية" نِسْبَة إِلَيْهِ، وَله كتب كَثِيرَة فِي الفلسفة والاعتزال، وَتُوفِّي عَام 231هـ. 4 النجار هُوَ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الله. رَأس الْفرْقَة "النجارية" من الْمُعْتَزلَة وَإِلَيْهِ نسبتها من أهل قُم، وَله مَعَ النظام مناظرات توفّي عَام 220هـ. 5 هِشَام بن الحكم الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ، الْكُوفِي، أَبُو مُحَمَّد مُتَكَلم مناظر، كَانَ شيخ الإمامية فِي وقته. ولد بِالْكُوفَةِ، وَنَشَأ بواسط، وَسكن بَغْدَاد وَانْقطع إِلَى يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي. وصنف كتبا مِنْهَا: "الإمامية" و"الْقدر" و"الشَّيْخ والغلام" و"الدلالات على حُدُوث الْأَشْيَاء" و"الرَّد على الْمُعْتَزلَة فِي طَلْحَة وَالزُّبَيْر" و"الرَّد على هِشَام الجواليقي" و"الرَّد على شَيْطَان الطاق". وَلما حدثت نكبة البرامكة استتر؛ وَتُوفِّي على أَثَرهَا بِالْكُوفَةِ عَام 190هـ وَيُقَال عَاشَ إِلَى خلَافَة الْمَأْمُون. 6 عبيد الله بن الْحسن بن الْحصين الْعَنْبَري من تَمِيم، قَاض من الْفُقَهَاء الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ، من أهل الْبَصْرَة. قَالَ ابْن حبَان: من ساداتها فقهًا وعلمًا، ولد عَام 105هـ وَولي قَضَاء الْبَصْرَة سنة 157هـ وعزل سنة 166هـ وَتُوفِّي فِيهَا عَام 168هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 و"حَفْص"1 و"قبَّة" وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ. لَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ إِلَّا وَلَهُ مَذْهَبٌ فِي الدِّينِ، يُدَانُ بِرَأْيهِ2 وَلَهُ عَلَيْهِ تَبَعٌ. الْاخْتِلَافُ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْأُصُولِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِ وَالسُّنَنِ، لَاتَّسَعَ لَهُمُ الْعُذْرُ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ لَا عُذْرَ لَهُمْ، مَعَ مَا يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا اتَّسَعَ لِأَهْلِ الْفِقْهِ، وَوَقَعَتْ لَهُمُ الْأُسْوَةُ بِهِمْ. وَلَكِنَّ اخْتِلَافَهُمْ، فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قُدْرَتِهِ3، وَفِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَعَذَابِ أَهْلِ النَّارِ، وَعَذَابِ الْبَرْزَخِ، وَفِي اللَّوْحِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا نَبِيٌّ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَنْ4 يَعْدَمَ هَذَا مِنْ رَدِّ مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ إِلَى اسْتِحْسَانِهِ وَنَظَرِهِ وَمَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عُقُولِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ. فَإِنَّكَ لَا تَكَادُ تَرَى رَجُلَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، يَخْتَارُ مَا يَخْتَارُهُ الْآخَرُ، وَيَرْذُلُ مَا يَرْذُلُهُ الْآخَرُ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّقْلِيدِ. وَالَّذِي خَالَفَ بَيْنَ مَنَاظِرِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَخُطُوطِهِمْ وَآثَارِهِمْ -حَتَّى فَرَّقَ الْقَائِفُ5 بَيْنَ الْأَثَرِ والأثر، وَبَين الْأُنْثَى   1 "حفظ" بن أبي الْمِقْدَام الأباضي: رَأس الْفرْقَة الحفصية من فرق الإباضية. انْفَرد بقوله: "من عرف الله تَعَالَى وَكفر بِمَا سواهُ من جنَّة ونار وَرَسُول وَغَيره فَهُوَ كَافِر وَلَيْسَ بمشرك". 2 وَفِي نُسْخَة: بِرَأْيهِ. 3 وَفِي نُسْخَة: وَفِي قدره. 4 وَفِي نُسْخَة: وَلَكِن. 5 الْقَائِف: من يعرف الْآثَار، وَهُوَ جمع قافة، وقاف أَثَره: تبعه. الْقَامُوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وَالذكر -هُوَ الَّذِي خَالَفَ بَيْنَ آرَائِهِمْ، وَالَّذِي خَالَفَ بَيْنَ الْآرَاءِ، هُوَ الَّذِي أَرَادَ الْاخْتِلَافَ لَهُمْ، وَلَنْ تَكْمُلَ الْحِكْمَةُ وَالْقُدْرَةُ إِلَّا بِخَلْقِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ لِيُعْرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ. فَالنُّورُ يُعْرَفُ بِالظُّلْمَةِ، وَالْعِلْمُ يُعْرَفُ بِالْجَهْلِ، وَالْخَيْرُ يُعْرَفُ بِالشَّرِّ، وَالنَّفْعُ يُعْرَفُ بِالضُّرِّ، وَالْحُلْوُ يُعْرَفُ بِالْمُرِّ؛ لِقَوْلِ1 اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} 2. وَالْأَزْوَاجُ: الْأَضْدَادُ وَالْأَصْنَافُ كَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْيَابِسِ وَالرَّطْبِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 3. وَلَوْ أَرَدْنَا -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنْ نَنْتَقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَنَرْغَبَ عَنْهُمْ، إِلَى أَصْحَابِ الْكَلَامِ وَنَرْغَبَ فِيهِمْ، لَخَرَجْنَا مِنِ اجْتِمَاعٍ إِلَى تَشَتُّتٍ، وَعَنْ نِظَامٍ إِلَى تَفَرُّقٍ، وَعَنْ أُنْسٍ إِلَى وَحْشَةٍ، وَعَنِ اتِّفَاقٍ إِلَى اخْتِلَافٍ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ كُلَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ4 لَا يَكُونُ. وَعَلَى أَنَّهُ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى تَقْدِيمِ الشَّيْخَيْنِ، وَعَلَى الْإِيْمَانِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، وَمَنْ فَارَقَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا نَابَذُوهُ وَبَاغَضُوهُ وَبَدَّعُوهُ وَهَجَرُوهُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ، لِغُمُوضٍ وَقَعَ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ: عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ بِكُلِّ حَالٍ -مَقْرُوءًا وَمَكْتُوبًا وَمَسْمُوعًا وَمَحْفُوظًا- غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهَذَا الْإِجْمَاع.   1 وَفِي نُسْخَة: يَقُول. 2 الْآيَة: 36 من سُورَة يس. 3 الْآيَة: 45 من سُورَة النَّجْم. 4 وَفِي نُسْخَة: لَا يَشَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الْاقْتِدَاءُ بِالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ: وَأَمَّا الِايتِّسَاءُ1 فَبِالْعُلَمَاءِ الْمُبَرَّزِينَ، وَالْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْعُبَّادِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ لَا يُجَارَوْنَ، وَلَا يُبْلَغُ شَأْوُهُمْ. مِثْلَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ2، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ3، وَالْأَوْزَاعِيِّ4، وَشُعْبَةَ5، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ6 وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَكَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ7، وَمُسْلِمٍ الْخَوَّاصِ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ8، وَدَاوُدَ الطَّائِيِّ9، وَمُحَمّد بن النَّضر   1 الايتساء: أَي الِاقْتِدَاء من ائتسى بِهِ: جعله إسوة أَي قدوة. الْقَامُوس ص1626. 2 سُفْيَان بن سعيد بن مَسْرُوق الثَّوْريّ الْكُوفِي، أَبُو عبد الله، أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث، كَانَ إِمَامًا من أَئِمَّة الْمُسلمين، وعلمًا من أَعْلَام الدَّين، مجمعا على إِمَامَته، وَكَانَ يحيى بن معِين لَا يقدم عَلَيْهِ فِي زَمَانه أحدا فِي الْفِقْه والْحَدِيث وكل شَيْء، وَكَانَ عابدًا ثبتًا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: هُوَ أجل من أَن يُقَال فِيهِ: ثِقَة، وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة الَّذين أَرْجُو أَن يكون الله مِمَّن جعله لِلْمُتقين إِمَامًا، ولد سنة 97هـ وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ سنة 161هـ. 3 مَالك بن أنس: إِمَام دَار الْهِجْرَة وَأحد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ولد عَام 93هـ فِي الْمَدِينَة وَتُوفِّي فِيهَا عَام 179هـ كَانَ صلبًا فِي دينه بَعيدا عَن الْأُمَرَاء والملوك. صنف الْمُوَطَّأ وكتبًا أُخْرَى. 4 الْأَوْزَاعِيّ: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو ولد عَام 88هـ فِي بعلبك وَنَشَأ فِي الْبِقَاع وَسكن ببيروت وَتُوفِّي بهَا، وَعرض عَلَيْهِ الْقَضَاء فَامْتنعَ، وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ عَظِيم الشَّأْن بِالشَّام، وَكَانَ أمره أعز من أَمر السُّلْطَان توفّي عَام 157هـ. 5 شُعْبَة بن الْحجَّاج أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام. قَالَ فِيهِ أَحْمد: شُعْبَة أمة وَحده، وَقَالَ ابْن معِين فِيهِ: إِمَام الْمُتَّقِينَ. ولد سنة 80هـ وَمَات سنة 160هـ. 6 اللَّيْث بن سعد بن عبد الرَّحْمَن الفهمي وَلَاء، الإِمَام الْعَلامَة، عَالم مصر وفقيهها ورئيسها كَانَ يقرن بِمَالك وَهُنَاكَ من قَالَ: إِنَّه أفقه مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّد بن رمح: كَانَ دخل اللَّيْث ثَمَانِينَ ألف دِينَار مَا وَجَبت عَلَيْهِ زَكَاة قطّ، ولد سنة 94هـ وَتُوفِّي سنة 175هـ. 7 إِبْرَاهِيم بن أدهم بن مَنْصُور، التَّمِيمِي الْبَلْخِي أَبُو إِسْحَاق، زاهد مَشْهُور، كَانَ أَبوهُ من أهل الْغنى فِي بَلخ، فتفقه ورحل إِلَى بَغْدَاد، وَكَانَ يعِيش من عمل يَده، توفّي عَام 161هـ فِي سوقنن على الْأَرْجَح. 8 هُوَ فُضَيْل بن عِيَاض بن مَسْعُود بن بشر التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْخُرَاسَانِي، شيخ الْحرم. قَالَ ابْن الْمُبَارك: أورع من رَأَيْت فُضَيْل بن عِيَاض، كَانَ ثِقَة نبيلًا فَاضلا عابدًا ورعًا كثير الحَدِيث. مَاتَ بِمَكَّة سنة 187هـ عَن ثَمَانِينَ سنة. 9 دَاوُد بن نصير الطَّائِي أَبُو سُلَيْمَان من أَئِمَّة المتصوفين، أَصله من خُرَاسَان ومولده بِالْكُوفَةِ. رَحل إِلَى بَغْدَاد فَأخذ عَن أبي حنيفَة وَغَيره، وَعَاد إِلَى الْكُوفَة فاعتزل النَّاس وَلزِمَ الْعِبَادَة إِلَى أَن مَاتَ فِيهَا عَام 165هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الْحَارِثِيّ، وَأحمد بْنِ حَنْبَلٍ1، وَبِشْرٍ الْحَافِي2، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، مِمَّنْ قَرُبَ مِنْ زَمَانِنَا. فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَبْلُغَهُمُ الْإِحْصَاءُ وَيَحُوزَهُمُ الْعَدَدُ3. ثُمَّ بِسَوَادِ النَّاسِ وَدَهْمَائِهِمْ4 وَعَوَامِّهِمْ، فِي كُلِّ مِصْرٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ. فَإِنَّ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَقِّ، إِطْبَاقَ قُلُوبِهِمْ عَلَى الرِّضَاءِ بِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي مَجَامِعِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، بِمَذَاهِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا إِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهَا، مَا كَانَ فِي جَمِيعِهِمْ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ، وَلَا عَنْهُ نَافِرٌ. وَلَوْ قَامَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ أَصْحَابُ الْكَلَامِ، مِمَّا يُخَالِفُهُ، مَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ إِلَّا مَعَ خُرُوج نَفسه"5. مزاعم النظام وأكاذيبه: فَإِذَا نَحْنُ أَتَيْنَا أَصْحَابَ الْكَلَامِ، لِمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ، وَحُسْنِ النَّظَرِ، وَكَمَالِ الْإِرَادَةِ6، وَأَرَدْنَا أَنْ نَتَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَنَعْتَقِدَ شَيْئًا مِنْ نِحَلِهِمْ، وَجَدْنَا "النَّظَّامَ" شَاطِرًا مِنَ الشُّطَّارِ، يَغْدُو عَلَى سُكْرٍ، وَيَرُوحُ عَلَى سُكْرٍ، وَيَبِيتُ عَلَى جَرَائِرِهَا7 وَيدخل فِي الأدناس   1 أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل الشَّيْبَانِيّ، الْمُحدث الْفَقِيه، ولد فِي بَغْدَاد سنة 164هـ وَكَانَ من أَصْحَاب الإِمَام الشَّافِعِي وخواصه، ارتحل فِي طلب الْعلم، ودعي إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن فَأبى، وَتُوفِّي سنة 241هـ. 2 هُوَ بشر بن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن بن عَطاء الْمروزِي، أَبُو نصر الحافي الزَّاهِد العابد الْقدْوَة، نزيل بَغْدَاد، قَالَ الْحَرْبِيّ: مَا أخرجت بَغْدَاد بَغْدَاد أتم عقلا وَلَا أحفظ لِلِسَانِهِ من بشر. قَالَ الذَّهَبِيّ: كَانَت لَهُ جَنَازَة عَظِيمَة أخرجت غدْوَة فَلم يصل فِي قَبره إِلَى اللَّيْل من الزحام توفّي سنة 237 عَن خمس وَسبعين سنة. 3 وَفِي نُسْخَة: الْعد. 4 الدهماء: الْعدَد الْكثير وَجَمَاعَة النَّاس وسوادهم. 5 كِنَايَة عَن سرعَة بطشهم بِهِ. 6 وَفِي نُسْخَة: الْأَدَاء. 7 جرائر: جمع جريرة، وَهِي الذَّنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ويرتكب الْفَوَاحِشَ وَالشَّائِنَاتِ وَهُوَ الْقَائِلُ: مَا زِلْتُ آخُذُ رُوحَ الزِّقِّ1 فِي لُطْفٍ ... وَأَسْتَبِيحُ دَمًا مِنْ غَيْرِ مَجْرُوحٍ حَتَّى انْثَنَيْتُ وَلِي رُوحَانِ فِي جَسَدِي ... وَالزِّقُّ مُطَّرَحٌ جِسْمٌ بِلَا رُوحٍ ثُمَّ نَجِدُ أَصْحَابَهُ يَعُدُّونَ مِنْ خَطَئِهِ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فِي كُلِّ وَقْتٍ من غير إفنائها2. قَالُوا فَاللَّهُ فِي قَوْلِهِ يُحْدِثُ الْمَوْجُودَ، وَلَوْ جَازَ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ، لَجَازَ إِعْدَامُ الْمَعْدُومِ؛ وَهَذَا فَاحِشٌ فِي ضَعْفِ الرَّأْيِ، وَسُوءِ الْاخْتِيَارِ. مُخَالَفَةُ النَّظَّامِ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَطَعْنُهُ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: وَحَكَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى الْخَطَأِ؛ قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً دُونَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَكُلُّ نَبِيٍّ فِي الْأَرْضِ -بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى-   1 الزق: بِالْكَسْرِ السقا، أَو جلد يحز وَلَا ينتف للشراب وَغَيره. 2 هَذَا كَلَام من بدع الْمُعْتَزلَة الْقَدَرِيَّة الَّذِي يلتقون على مَا يَلِي: أ- ينفون عَن الله عز وَجل صِفَاته الأزلية، وَيَقُولُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لله عز وَجل علم وَلَا قدرية وَلَا حَيَاة وَلَا سمع وَلَا بصر وَلَا صفة أزلية. ب- يَقُولُونَ باستحالة رُؤْيَة الله عز وَجل بالأبصار، وَزَعَمُوا أَنه جلّ جَلَاله لَا يرى نَفسه وَلَا يرَاهُ غَيره، وَاخْتلفُوا فِيهِ هَل هُوَ رَاء لغيره أم لَا؟. فَأَجَازَهُ قوم مِنْهُم وأباه قوم آخَرُونَ. حـ- يتفقون على القَوْل بحدوث كَلَام الله عز وَجل، وحدوث أمره وَنَهْيه وَخَبره، وَكلهمْ يَزْعمُونَ أَن كَلَام الله عز وَجل حَادث. د- يَقُولُونَ بِأَن الله تَعَالَى غير خَالق لأكساب النَّاس، وَلَا لشَيْء من أَعمال الْحَيَوَانَات، وَزَعَمُوا أَن النَّاس هم الَّذين يقدرُونَ على أكسابهم. هـ- يتفقون على دَعوَاهُم فِي الْفَاسِق من أمة الْإِسْلَام بالمنزلة بَين المنزلتين فَهُوَ فَاسق لَا مُؤمن وَلَا كَافِر. و يَقُولُونَ أَن كل مَا لم يَأْمر الله تَعَالَى بِهِ أَو ينْهَى عَنهُ من أَعمال الْعباد لم يَشَأْ الله شَيْئا مِنْهَا ... إِلَخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فَإِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ بَعْثُهُ؛ لِأَنَّ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ -لِشُهْرَتِهَا- تَبْلُغُ آفَاقَ الْأَرْضِ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَتَّبِعَهُ. فَخَالَفَ الرِّوَايَة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ" 1 وأوَّلَ الحديثَ. وَفِي مُخَالَفَةِ الرِّوَايَةِ وَحْشَةٌ، فَكَيْفَ بِمُخَالَفَةِ الرِّوَايَةِ وَالْإِجْمَاع لما اسْتحْسنَ. وَكَانَ يَقُولُ فِي الْكِنَايَاتِ عَنِ الطَّلَاقِ، كَالْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِّيَّةِ، وَحَبْلِكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَالْبَتَّةِ2، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ، نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ. فَخَالَفَ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَالَفَ الرِّوَايَةَ لِمَا اسْتُحْسِنَ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا ظَاهَرَ بالبطن أَو الْفرج، لم يكون مُظَاهِرًا، وَإِذَا آلَى بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا نَامَ الرَّجُلُ أَوَّلَ اللَّيْلِ عَلَى طَهَارَةٍ، مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُتَوَرِّكًا، أَوْ كَيْفَ نَامَ إِلَى الصُّبْحِ، لم ينْتَقض وضوؤه، لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قَالَ: وَإِنَّمَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى الْوُضُوءِ3 مِنْ نَوْمِ الضَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَوَائِلَهُمْ إِذَا قَامُوا بِالْغَدَاةِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ تَطَهَّرُوا؛ لِأَنَّ عَادَاتِ النَّاسِ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ مَعَ الصُّبْحِ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَيْقِظُ وبعينه رمص4 وبفيه   1 "بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود": أَي إِلَى الْعَجم وَالْعرب؛ لِأَن الْغَالِب على ألوان الْعَجم الْحمرَة وَالْبَيَاض، وعَلى ألوان الْعَرَب الأدمة والسمرة. وَقيل: أَرَادَ الْجِنّ وَالْإِنْس. ا. هـ. نِهَايَة. وَقد أخرجه البُخَارِيّ: تيَمّم: 1، صَلَاة: 56، وَالنَّسَائِيّ: غسل: 36، والدارمي: صَلَاة 111. 2 الْبَتَّةَ: من أَلْفَاظ كنايات الطَّلَاق، وَمَعْنَاهَا: مَقْطُوعَة الْوَصْل، وَأَصله من الْبَتّ بِمَعْنى الْقطع، وَاسْتعْمل بِمَعْنى الْمَفْعُول أَي: المبتوتة. 3 وَفِي نُسْخَة: التَّوَضُّؤ. 4 الرمص: وسخ أَبيض يجْتَمع فِي الموق، رمصت عينه كفرح، والنعت: أرمص ورمصاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 خلوف، وَهُوَ مُتَهَيِّجُ الْوَجْهِ، فَيَتَطَهَّرُ لِلْحَدَثِ وَالنُّشْرَةِ1 لَا لِلنَّوْمِ وَكَمَا أَوْجَبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْغَدَاةِ فِي حِيطَانِهِمْ2؛ فَإِذَا أَرَادُوا الرَّوَاحَ اغْتَسَلُوا. فَخَالَفَ بِهَذَا الْقَوْلِ الرِّوَايَةَ وَالْإِجْمَاعَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ" 3. خَطَّأَ النَّظَّامُ أَبَا بَكْرِ وَعُمَرَ: وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ"4. فَقَالَ النَّظَّامُ: كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى عُمَرَ، الْعَمَلُ بِمِثْلِ مَا قَالَ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ قَوْلِهِ: أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْجَدِّ5 أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ ثُمَّ قَضَى فِي الْجَدِّ بِمِائَةِ قَضِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، حِينَ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، أَمْ أَيْنَ أَذْهَبُ؟ أَمْ كَيْفَ أَصْنَعُ إِذَا أَنَا قُلْتُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ. ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ6، فَقَالَ: "أَقُولُ فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا،   1 النشرة: بِالضَّمِّ رقية يعالج بهَا الْمَجْنُون الْمَرِيض، الْقَامُوس ص621 وَلَعَلَّ الْأَصَح: النشور؛ أَي بعد النّوم، كالإحياء بعد الْمَمَات. وَالله أعلم. 2 حياطانهم: أَي بساتينهم. 3 أخرجه ابْن ماجة: فتن 8 بِلَفْظ "إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَة ... " وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَقد جَاءَ الحَدِيث بطرِيق فِي كلهَا نظر، وَإِن كَانَ هَذَا الْمَعْنى حق، وَهُوَ الَّذِي اكْتسب الْإِجْمَاع قوته. 4 وَهَذَا قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ كَمَا ذكره ابْن حجر فِي بُلُوغ المرام، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ فِي جَامع الْأُصُول لِابْنِ الْأَثِير بقم 5277 -مُحَمَّد بدير. 5 وَفِي نُسْخَة: الْفتيا. 6 الْكَلَالَة: من لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد، أَو من تكلل نسبه بنسبك كَابْن الْعم وَشبهه أَو الْأُخوة للْأُم، أَو بَنو الْعم الأباعد، أَو مَا خلا الْوَالِد وَالْولد، أَو هِيَ من الْعصبَة من ورث مَعَه الْإِخْوَة لأم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فَمن اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي -هِيَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ". قَالَ: وَهَذَا خِلَافُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَمَنِ اسْتَعْظَمَ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ ذَلِكَ الْاسْتِعْظَامَ، لَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ هَذَا الْإِقْدَامَ حَتَّى يُنْفِذَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ. وَذَكَرَ قَوْلَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، حِينَ سُئِلَ عَنْ بَقَرَةٍ قَتَلَتْ حِمَارًا، فَقَالَ: "أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ وَافَقَ رَأْيِي قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَقَضَائِي رَذْلٌ فَسْلٌ". قَالَ وَقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ، فَلْيَقُلْ فِي الْجَدِّ" ثُمَّ قَضَى فِيهِ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ. وَكَذَّبَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَاتَّهَمَهُ: وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ1 فِي حَدِيثِ بِرْوع بِنْتِ وَاشِقٍ: "أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا، فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى". قَالَ النظام: وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ، وَالْقَضَاءُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِالظَّنِّ حَرَامًا، فَالْقَضَاءُ بِالظَّنِّ أَعْظَمُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَدَلَ نَظْرِهِ فِي الْفُتْيَا، نَظَرَ فِي الشَّقِيِّ كَيْفَ يَشْقَى، وَالسَّعِيدِ كَيْفَ يَسْعَدُ، حَتَّى لَا يفحُشَ قولُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَشْتَدَّ غلطُه، كَانَ أَوْلَى بِهِ. قَالَ: وَزَعَمَ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ، وَأَنَّهُ رَآهُ، وَهَذَا مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي لَا خَفَاءَ بِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشُقُّ الْقَمَرَ لَهُ وَحده، وَلَا لآخر مَعَه، وَإِنَّمَا   1 عبد الله بن مَسْعُود بن غافل بن حبيب الْهُذلِيّ صَحَابِيّ من السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام وَكَانَ خَادِم رَسُول الله الْأمين وَصَاحب سره ورفيقه فِي حلّه وترحاله وغزواته وَهُوَ أول من جهر بِقِرَاءَة الْقُرْآن. قدم الْمَدِينَة فِي خلَافَة عُثْمَان وَتُوفِّي فِيهَا 32هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 يشقه لِيَكُونَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، وَحُجَّةً لِلْمُرْسَلِينَ، وَمَزْجَرَةً لِلْعِبَادِ، وَبُرْهَانًا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ. فَكَيْفَ لَمْ تَعْرِفْ بِذَلِكَ الْعَامَّةُ، وَلَمْ يُؤَرِّخِ النَّاسُ بِذَلِكَ الْعَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ شَاعِرٌ، وَلَمْ يُسْلِمْ عِنْدَهُ كَافِرٌ، وَلَمْ يَحْتَجُّ بِهِ مُسْلِمٌ عَلَى مُلْحِدٍ؟ قَالَ: ثُمَّ جَحَدَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سُورَتَيْنِ: فَهَبْهُ لَمْ يشهدْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا، فَهَلَّا اسْتَدَلَّ بِعَجِيبِ تَأْلِيفِهِمَا، وَأَنَّهُمَا عَلَى نَظْمِ سَائِرِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبُلَغَاءِ أَنْ يَنْظِمُوا نَظْمَهُ، وَأَنْ يُحْسِنُوا مِثْلَ تَأْلِيفِهِ. قَالَ النظام: وَمَا زَالَ يطبِّق فِي الرُّكُوعِ إِلَى أَنْ مَاتَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كَانَ غَائِبًا. وَشَتَمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ: وَشَتَمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ1 بِأَقْبَحِ الشَّتْمِ، لَمَّا اخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ قِرَاءَتَهُ لِأَنَّهَا آخِرُ الْعَرْضِ. وَعَابَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ: وَعَابَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ بَلَغَهُ أَنه صلى بـ "منى" أَرْبَعًا2، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ:   1 زيد بن ثَابت بن الضَّحَّاك الْأنْصَارِيّ، كَاتب الْوَحْي وَأحد نجباء الْأَنْصَار، شهد بيعَة الرضْوَان وَقَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، وَجمع الْقُرْآن فِي عهد الصّديق توفّي سنة 45هـ. 2 انْظُر صَحِيح مُسلم رقم 695 مُحَمَّد بدير-. فقد أخرج أَحْمد فِي مُسْنده: جـ5 ص165 الحَدِيث بِالنَّصِّ التَّالِي: "كُنَّا قد حملنَا لأبي ذَر شَيْئا نُرِيد أَن نُعْطِيه إِيَّاه فأتينا الربذَة فسألنا عَنهُ فَلم نجده. قيل: اسْتَأْذن فِي الْحَج فَأذن لَهُ، فأتيناه بالبلدة وَهِي مني، فَبينا نَحن عِنْده إِذْ قيل لَهُ: إِن عُثْمَان صلى أَرْبعا فَاشْتَدَّ ذَلِك على أبي ذَر، وَقَالَ قولا شَدِيدا، وَقَالَ: صليت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فصلى رَكْعَتَيْنِ، وَصليت مَعَ أبي بكر وَعمر، ثمَّ قَامَ أَبُو ذَر فصلى أَرْبعا، فَقيل لَهُ عبت على أَمِير الْمُؤمنِينَ شَيْئا ثمَّ صَنعته، قَالَ: الْخلاف أَشد.. إِلَخ" فالاستدلال بِهِ من الْمُؤلف على النظام فِي غير مَوْضِعه. وَالله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الْخِلَافُ شَرٌّ وَالْفُرْقَةُ شَرٌّ، وَقَدْ عَمِلَ بِالْفُرْقَةِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلم يزل يَقُولُ فِي عُثْمَانَ الْقَوْلَ الْقَبِيحَ، مُنْذُ اخْتَارَ قِرَاءَةَ زَيْدٍ. وَرَأَى قَوْمًا مِنَ الزُّطِّ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِالْجِنِّ، لَيْلَةَ الْجِنِّ، ذَكَرَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنِ ابْن مَسْعُود. وَذكر دَاوُد عَنِ الشَّعْبِيِّ1 عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سلم لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا شَهِدَهَا منا أحد. وَذكر حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ2 فَقَالَ: جَعَلَ يَحْلِفُ لِعُثْمَانَ عَلَى أَشْيَاءَ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا قَالَهَا، وَقَدْ سَمِعُوهُ قَالَهَا. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلَّهُ، رَوَاهُ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ3ـ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ. وَطَعَنَ بِأَبِي هُرَيْرَةَ: وَذَكَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ: فَقَالَ النَّظَّامُ: أَكْذَبَهُ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى حَدِيثًا فِي الْمَشْيِ فِي الْخُفِّ الْوَاحِدِ، فَبَلَغَ عَائِشَةَ، فَمَشَتْ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَقَالَتْ: لَأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَة.   1 الشّعبِيّ: هُوَ عَامر بن شُرَحْبِيل الشّعبِيّ، أَبُو عَمْرو الْكُوفِي الإِمَام الْعلم، ولد لست سِنِين خلت من خلَافَة عمر، أدْرك عددًأ من الصَّحَابَة وروى عَنْهُم، توفّي سنة 103هـ. 2 حُذَيْفَة بن الْيَمَان الْعَبْسِي من كبار الصَّحَابَة، أسلم حُذَيْفَة وَأَبوهُ وشهدا أحدا، فاستشهد الْيَمَان بهَا وَشهد حُذَيْفَة الخَنْدَق وَله فِيهَا ذكر حسن، وَشهد مَا بعْدهَا، اسْتَعْملهُ عمر على الْمَدَائِن فَلم يزل بهَا حَتَّى مَاتَ سنة 36هـ. 3 مسعر بن كدام بن ظهير الْهِلَالِي العامري الرواسِي أَبُو سَلمَة من ثِقَات أهل الحَدِيث كُوفِي كَانَ يُقَال لَهُ الْمصرف لعظم الثِّقَة بِمَا يرويهِ، وَكَانَ مرجئًا، وَعِنْده نَحْو ألف حَدِيث وَخرج لَهُ السِّتَّة توفّي عَام 152هـ بِمَكَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وروى أَنَّ الْكَلْبَ وَالْمَرْأَةَ وَالْحِمَارَ، تَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: رُبَّمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَسْطَ السَّرِيرِ، وَأَنَا عَلَى السَّرِيرِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ. قَالَ النَّظَّامُ: وَبَلَغَ عَلِيًّا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَبْتَدِئُ بِمَيَامِنِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي اللِّبَاسِ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، فَبَدَأَ بِمَيَاسِرِهِ، وَقَالَ: لَأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ. وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ حَدَّثَنِي خَلِيلِي، وَقَالَ خَلِيلِي، وَرَأَيْتُ خَلِيلِي. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَتَى كَانَ النَّبِيُّ خَلِيلَكَ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: وَقَدْ رَوَى "مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلَا صِيَامَ لَهُ". فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ فِي ذَلِكَ إِلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، يَسْأَلُهُمَا، فَقَالَتَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَصُومُ. فَقَالَ لِلرَّسُولِ: اذْهَبْ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، حَتَّى تُعْلِمَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّمَا حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ1. فَاسْتَشْهَدَ مَيِّتًا، وَأَوْهَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ. تَفْنِيدُ مَزَاعِمِ النَّظَّامِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا قَوْله فِي جُلَّةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 2 إِلَى آخر السُّورَة.   1 الْفضل بن الْعَبَّاس، أَخُو عبد الله بن الْعَبَّاس، كَانَ أسن ولد الْعَبَّاس. ثَبت يَوْم حنين، وَخرج بعد وَفَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَاهدًا إِلَى الشَّام فاستشهد فِي وقْعَة أجنادين بفلسطين 13هـ. 2 الْآيَة: 29 من سُورَة الْفَتْح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَلَمْ يَسْمَعْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} 1. وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُمْ بِهِ حَقًّا، لَا مَخْرَجَ مِنْهُ وَلَا عُذْرَ فِيهِ، وَلَا تَأْوِيلَ لَهُ، إِلَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لَكَانَ حَقِيقًا بِتَرْكِ ذِكْرِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، إِذْ كَانَ قَلِيلًا يَسِيرًا مَغْمُورًا فِي جَنْبِ مَحَاسِنِهِمْ، وَكَثِيرِ مَنَاقِبِهِمْ، وَصُحْبَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَذْلِهِمْ مُهَجَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. تَفْنِيدُ مَا زَعَمَهُ النَّظَّامُ عَلَى عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ الْجَدِّ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَا شَيْءَ أَعْجَبُ عِنْدِي مِنِ ادِّعَائِهِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَدِّ بِمِائَةِ قَضِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَأَهْلِ الْقِيَاسِ. فَهَلَّا اعْتَبَرَ هَذَا وَنَظَرَ فِيهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْضِيَ عُمَرُ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ بِمِائَةِ قَضِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَأَيْنَ هَذِهِ الْقَضَايَا؟ وَأَيْنَ عُشْرُهَا وَنِصْفُ عُشْرِهَا؟ أَمَا كَانَ فِي حَمَلَةِ الْحَدِيثِ مَنْ يَحْفَظُ مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سِتًّا؟ وَلَوِ اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْقَضَاءِ فِي الْجَدِّ بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ، مِنْ قَوْلٍ وَمِنْ حِيلَةٍ2، مَا كَانَ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِعِشْرِينَ قَضِيَّةً. وَكَيْفَ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا الْحَدِيثَ، إِذْ كَانَ مُسْتَحِيلًا، مِمَّا يُنْكَرُ مِنَ الْحَدِيثِ وَيَدْفَعُ مِمَّا قَدْ أَتَى بِهِ الثِّقَاتُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَغْنٍ يَحْتَمِلُهُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَدَاوَةٍ. مَزَاعِمُهُ فِي أَبِي بَكْرٍ بِشَأْنِ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَمَّا طَعْنُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ بِأَنَّهُ سُئِلَ عَن   1 الْآيَة: 18 من سُورَة الْفَتْح. 2 وَفِي نُسْخَة: حلية. 3 وَفِي نُسْخَة: يتحمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَعْظَمَ أَنْ يَقُولَ فِيهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِهِ. فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مُتَشَابَهِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فَأَحْجَمَ عَنِ الْقَوْلِ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِغَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَفْتَى فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِهِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ نَابَ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي مَوَارِيثِهِمْ، وَقَدْ أُبِيحَ لَهُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ فِي الْكِتَابِ شَيْءٌ كَاشِفٌ، وَهُوَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ وَمَفْزَعُهُمْ فِيمَا يَنُوبُهُمْ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ. وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حِينَ سُئِلُوا، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ وَالْمَفْزَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ النَّوَازِلِ. فَمَاذَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا عِنْدَهُ، أيَدعون النَّظَرَ فِي الْكَلَالَةِ وَفِي الْجَدِّ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ هُوَ وَأَشْبَاهُهُ، فَيَتَكَلَّمُوا فِيهِمَا. تفنيد مطاعته بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: ثُمَّ طَعْنُهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ، وَأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَسَبَهُ فِيهِ إِلَى الْكَذِبِ. وَهَذَا لَيْسَ بِإِكْذَابٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُ بخسٌ لِعَلَمِ النُّبُوَّةِ وَإِكْذَابٌ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 1. فَإِنْ كَانَ الْقَمَرُ لَمْ يَنْشَقَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ مُرَادُهُ: سَيَنْشَقُّ الْقَمَرُ فِيمَا بَعْدُ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} 2 بعقب هَذَا الْكَلَام؟   1 الْآيَة: 1 من سُورَة الْقَمَر. 2 الْآيَة: 2 من سُورَة الْقَمَر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْمًا رَأَوْهُ مُنْشَقًّا فَقَالُوا: "هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ مِنْ سِحْرِهِ، وَحِيلَةٌ مِنْ حِيَلِهِ كَمَا قَدْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَيْفَ صَارَتِ الْآيَةُ مِنْ آيَاتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَلَمُ مِنْ أَعْلَامِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَرَاهَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ والنفر دون الْجَمِيع. أَو لَيْسَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانُ وَالنَّفَرُ وَالْجَمِيعُ، كَمَا أَخْبَرَ مُكَلِّمُ الذِّئْبِ، بِأَنَّ ذِئْبًا كَلَّمَهُ وَأَخْبَرَ آخَرُ بِأَنَّ بَعِيرًا شَكَا إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَ آخَرُ أَنَّ مَقْبُورًا لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ. وَطَعْنُهُ عَلَيْهِ لِجَحْدِهِ سُورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يَعْنِي "الْمُعَوِّذَتَيْنِ" فَإِنَّ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ سَبَبًا، وَالنَّاسُ قَدْ يَظُنُّونَ وَيَزِلُّونَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا عَلَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَجْوَزُ. وَسَبَبُهُ فِي تَرْكِهِ إِثْبَاتِهِمَا فِي مُصْحَفِهِ؛ أَنَّهُ كَانَ يَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ بِهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيُعَوِّذُ غَيْرَهُمَا، كَمَا كَانَ يُعَوِّذُهُمَا بِـ"أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ" فَظَنَّ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُثْبِتْهُمَا فِي مُصْحَفِهِ. وَبِنَحْوِ هَذَا السَّبَبِ أَثْبَتَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ1 فِي مُصْحَفِهِ، افْتِتَاحَ دُعَاءِ الْقُنُوتِ، وَجَعَلَهُ سُورَتَيْنِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْعُو بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ دُعَاءً دَائِمًا فَظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا التَّطْبِيقُ2 فَلَيْسَ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ، الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجل {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 3.   1 هُوَ أبي بن كَعْب بن قيس الْأنْصَارِيّ، سيد الْقُرَّاء، شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا، كَانَ من كتبة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ من أَصْحَاب الْفتيا، وَكَانَ يسْأَل عمر عَن النَّوَازِل ويتحاكم إِلَيْهِ فِي المعضلات. 2 التطبيق فِي الصَّلَاة جعل الْيَدَيْنِ بَين الفخذين فِي الرُّكُوع. الْقَامُوس ص1165. 3 الْآيَة 77 من سُورَة الْحَج وَهِي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فَمن طَبَّقَ فَقَدْ رَكَعَ، وَمَنْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَدْ رَكَعَ، وَإِنَّمَا وضع الْيَدَيْنِ على الركتبين، أَوِ التَّطْبِيقُ مِنْ آدَابِ الرُّكُوعِ. وَقَدْ كَانَ الْاخْتِلَافُ فِي آدَابِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُقْعِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَرِشُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَرَّكُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا1. وَأَمَّا نِسْبَتُهُ إِيَّاهُ إِلَى الْكَذِبِ فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ" 2. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكْذِبَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ الْمَشْهُورِ، وَيَقُولُ: حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، وَلَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؟ وَلِأَيِّ مَعْنًى يَكْذِبُ مِثْلُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ لَا يَجْتَذِبُ بِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا، وَلَا يُدْنِيهِ مِنْ سُلْطَانٍ وَلَا رَعِيَّةٍ، وَلَا يَزْدَادُ بِهِ مَالًا إِلَى مَالِهِ؟ وَكَيْفَ يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ، قَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ، عَدَدٌ مِنْهُمْ أَبُو أُمَامَةَ3 عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَبَقَ الْعِلْمُ، وَجَفَّ الْقَلَمُ، وَقُضِيَ الْقَضَاءُ، وَتَمَّ الْقَدَرُ بِتَحْقِيقِ الْكِتَابِ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ بِالسَّعَادَةِ لِمَنْ آمَنَ وَاتَّقَى، وَالشَّقَاءِ لِمَنْ كَذَّبَ وَكَفَرَ ". وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "ابْنَ آدَمَ بِمَشِيئَتِي كُنْتَ، أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ، لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ، وَبِإِرَادَتِي كُنْتَ. أَنْتَ الَّذِي تُرِيدُ لِنَفْسِكَ مَا تُرِيدُ، وَبِفَضْلِي وَرَحْمَتِي أَدَّيْتَ إِلَيَّ فَرَائِضِي، وَبِنِعْمَتِي قويت على معصيتي".   1 وَفِي نُسْخَة: وَإِن اخْتلف. 2 سبق تَخْرِيجه ص51. 3 أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ هُوَ صُدَيّ بن عجلَان صَحَابِيّ مَشْهُور بكنيته كَانَ لَا يمر بصغير وَلَا كَبِير إِلَّا سلم عَلَيْهِ، مَاتَ سنة 81هـ بحمص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَهَذَا الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: "يَا غُلَامُ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، وَتَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"1. وَكَيْفَ يَكْذِبُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي أَمْرٍ يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ؟! يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2. أَيْ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيْمَانَ كَمَا قَالَ فِي الرَّحْمَةِ: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 3 الْآيَةَ. أَيْ: سَأَجْعَلُهَا: وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ الْإِيْمَانَ، فَقَدْ قَضَى لَهُ بِالسَّعَادَةِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 4. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: إِنَّكَ لَا تُسَمِّي مَنْ أَحْبَبْتَ هَادِيًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَمِّي من يَشَاء هاديًا. وَقَالَ: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 5 كَمَا قَالَ: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} 6 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ ضَالِّينَ، وَمَا سماهم مهتدين.   1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 59، وَأحمد: 1/ 293 و303 و307، والْحَدِيث مَشْهُور عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأما مَا ورد فِي قَول ابْن قُتَيْبَة أَنه عَن الْفضل فَهُوَ وهم مِنْهُ رَحمَه الله تَعَالَى -مُحَمَّد بدير. 2 الْآيَة 22 من سُورَة المجادلة. 3 الْآيَة 156 من سُورَة الْأَعْرَاف. 4 الْآيَة 56 من سُورَة الْقَصَص. 5 الْآيَة 93 من سُورَة النَّحْل. 6 الْآيَة 79 من سُورَة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَقَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 1. وَقَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 2 وَأَشْبَاهُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، يَكْثُرُ وَيَطُولُ: وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْاحْتِجَاجَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، فَنَذْكُرُ مَا جَاءَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَنَذْكُرُ فَسَادَ تَأْوِيلَاتِهِمْ وَاسْتِحَالَتَهَا، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، مِنْ كُتُبِي فِي الْقُرْآنِ. وَكَيْفَ يَكْذِبُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي أَمْرٍ تُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ قَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ: يَا أَيهَا الْمُضمر هما لاتهم ... إِنَّكَ إِنْ تُقْدَر لَكَ الحُمَّى تُحَمْ وَلَوْ عَلَوْتَ شَاهِقًا مِنَ الْعَلَمِ ... كَيْفَ تَوَقِّيكَ وَقَدْ جفَّ الْقَلَمْ "وَقَالَ آخَرُ " هِيَ المقاديرُ فلُمْنِي أَوْ فَذَرْ ... إِنْ كُنْتُ أخطأتُ فَمَا أَخَطَا القدرْ "وَقَالَ لَبِيَدٌ" إِنَّ تقوَى رَبِّنَا خيرُ نَفَلْ4 ... وبأمرِ5 اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ مَن هَدَاهُ سبلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى ... ناعمَ البالِ وَمن شَاءَ أضلّ   1 الْآيَة 125 من سُورَة الْأَنْعَام. 2 الْآيَة 13 من سُورَة السَّجْدَة., 3 لبيد بن ربيعَة بن مَالك، أحد الشُّعَرَاء الفرسان الْأَشْرَاف فِي الْجَاهِلِيَّة من أهل عالية نجد، أدْرك الْإِسْلَام ووفد على النَّبِي ويعد من الصَّحَابَة وَمن الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم وَترك الشّعْر فِي الْإِسْلَام وَسكن الْكُوفَة وَتُوفِّي عَام 41هـ. 4 النَّفَلُ: الْهِبَة وَالْغنيمَة. 5 وَفِي نُسْخَة: وبإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 "وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ"1 نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ2 لَمَّا ... غَدَتْ مِنِّي مَطْلَقَةً نَوَارُ وَكَانَتْ جَنَّةً فَخَرَجْتُ مِنْهَا ... كَآدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ الضِّرَارُ وَلَوْ ضَنَّتْ يَدَايَ بِهَا3 وَنَفْسِي ... لَكَانَ عَلَيَّ لِلْقَدَرِ الْخِيَارُ "وَقَالَ النَّابِغَةُ" وَلَيْسَ امْرُؤٌ نَائِلًا مِنْ هَوَا ... هُ شَيْئًا إِذَا هُوَ لَمْ يُكْتَبْ وَكَيْفَ يَكْذِبُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَمْرٍ تُوَافِقُهُ عَلَيْهِ كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى؟! وَهَذَا وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ5، يَقُولُ: قَرَأْتُ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مِنْهَا مِنَ الْبَاطِنِ، وَخَمْسُونَ مِنَ الظَّاهِرِ، أَجِدُ فِيهَا كُلَّهَا أَنَّ مَنْ أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الِاسْتِطَاعَة فقد كفر.   1 الفرزدق: همام بن غَالب بن صعصعة التَّمِيمِي أَبُو فراس، شَاعِر من النبلاء من أهل الْبَصْرَة عَظِيم الْأَثر فِي اللُّغَة وَهُوَ صَاحب الْأَخْبَار مَعَ جرير والأخطل وَتُوفِّي فِي بادية الْبَصْرَة 110هـ. 2 الكسعي: هُوَ غامد بن الْحَارِث الكسعي، الَّذِي اتخذ قوسًا وَخَمْسَة أسْهم وَكَمن فِي قترة، فَمر قطيع فَرمى عيرًا، فأمخطه السهْم وصدم الْجَبَل، فأورى نَارا، فَظن أَنه قد أَخطَأ فَرمى ثَانِيًا وثالثًا إِلَى آخرهَا، وَهُوَ يظنّ خطأه، فَعمد إِلَى قوسه فَكَسرهَا ثمَّ بَات، فَلَمَّا أصبح نظر فَإِذا الْحمر مطرّقة مصرّعة، وأسهمه بِالدَّمِ مضرجة، فندم فَقطع إبهامه وَأنْشد: نَدِمت ندامة لَو أَن نَفسِي ... تطاوعني إِذا لَقطعت خمسي تبين لي سفاه الرَّأْي مني ... لعمر أَبِيك حِين كسرت قوسي 3 وَفِي نُسْخَة: بهَا كفي. 4 النَّابِغَة الذبياني زِيَاد بن مُعَاوِيَة أَبُو أُمَامَة شَاعِر جاهلي من الطَّبَقَة الأولى من أهل الْحجاز كَانَت تضرب لَهُ قبَّة من جلد أَحْمَر بسوق عكاظ فتقصده الشُّعَرَاء فتعرض عَلَيْهِ أشعارها توفّي 18 ق. هـ. 5 وهب بن مُنَبّه: أَبُو عبد الله مؤرخ يعد فِي التَّابِعين ولد بِصَنْعَاء عَام 34هـ وَمَات فِيهَا عَام 114هـ وولاه عمر بن عبد الْعَزِيز قضاءها. وَذكر أَنه صحب ابْن عَبَّاس ولازمه ثَلَاث عشرَة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَهَذِهِ التَّوْرَاةُ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: "اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ فَقُلْ لَهُ: أَخْرِجْ إِلَيَّ بَنِي بَكْرِيٍّ، بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، لِيَحْمَدُونِي وَيُمَجِّدُونِي، وَيُقَدِّسُونِي، اذْهَبْ إِلَيْهِ فَأَبْلِغْهُ وَأَنَا أُقْسِي قَلْبَهُ، حَتَّى لَا يَفْعَلَ"1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: بَكْرِيٌّ أَيْ: هُوَ لِي: بِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِ2 الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ، وَهُوَ بَكْرِيٌّ أَيْ: أَوَّلُ مَنِ اخْتَرْتُهُ. وَقَالَ حَمَّادٌ3 رِوَايَةً عَنْ مُقَاتِلٍ4، قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: "يَأْمُرُ اللَّهُ بِالشَّيْءِ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ. قَالَ: إِنَّ تِلْكَ رُؤْيَا. قُلْتُ رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وحيٌّ؛ ألم تسمعه يَقُول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ؟ وَهَذِهِ أُمَمُ الْعَجَمِ كُلُّهَا، تَقُولُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْقَدَرِ. فالهند تَقُولُ فِي كِتَابِ "كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ" وَهُوَ مِنْ جَيِّدِ كُتُبِهِمُ الْقَدِيمَةِ: "الْيَقِينُ5 بِالْقَدَرِ، لَا يَمْنَعُ الْحَازِمَ تَوَقِّي الْمَهَالِكِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ النَّظَرُ فِي الْقَدَرِ المغيَّب، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْعَمَل6 بالحزم".   1 وَفِي نُسْخَة: لَا يعقل. 2 لَعَلَّ الصَّحِيح: بِمَنْزِلَة أول أَوْلَاد الرجل، فَسقط من النُّسْخَة "أول"، مُسْتَفَاد من تَتِمَّة كَلَامه: أول من اخترته. وَالله أعلم. 3 حَمَّاد: لَعَلَّه حَمَّاد بن يزِيد وَهُوَ أَبُو إِسْمَاعِيل الْأَزْرَق الْبَصْرِيّ الْحَافِظ أحد الْأَعْلَام من أَئِمَّة الْمُسلمين، قَالَ ابْن الْمهْدي: مَا رَأَيْت أحفظ مِنْهُ وَلَا أعلم بِالسنةِ مِنْهُ وَلَا أفقه بِالْبَصْرَةِ مِنْهُ. مَاتَ فِي أَوَاخِر الْقرن الثَّانِي الهجري قبل سنة197هـ وَقيل سنة 179هـ وَقيل سنة 189هـ. 4 هُوَ مقَاتل بن سُلَيْمَان الْبَلْخِي الْمُفَسّر. لم يوثقه عُلَمَاء الحَدِيث وَإِن كَانُوا قد أثنوا على علمه حَتَّى قَالَ ابْن الْمُبَارك: مَا أحسن تَفْسِيره لَو كَانَ ثِقَة، وَسُئِلَ وَكِيع عَن تَفْسِير مقَاتل فَقَالَ: لَا تنظروا فِيهِ، فَقَالَ السَّائِل: مَا أصنع فِيهِ؟ قَالَ وَكِيع: ادفنه. وَقَالَ أَحْمد: لَا يُعجبنِي أَن أروي عَن مقَاتل شَيْئا. مَاتَ سنة 150هـ. 5 الْيَقِين: أَي الِاعْتِقَاد، والحازم: هُوَ الضَّابِط لأموره المتثبت فِي شؤونه. 6 وَفِي نُسْخَة: النّظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَجْمَعُ، تَصْدِيقًا بِالْقَدَرِ، وَأَخْذًا بِالْحَزْمِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَرَأْتُ فِي كُتُبِ الْعَجَمِ أَنَّ هُرْمُزَ سُئِلَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي بَعَثَ فَيْرُوزَ عَلَى غَزْوِ الْهَيَاطِلَةِ، ثُمَّ الْغَدْرِ بِهِمْ؛ فَقَالَ: إِنَّ الْعِبَادَ يَجْرُونَ مِنْ قَدَرِ رَبِّنَا وَمَشِيئَتِهِ، فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ صُنْعٌ مَعَهُ، وَلَا يَمْلِكُونَ تَقَدُّمًا وَلَا تَأَخُّرًا عَنْهُ. فَمَنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَهُوَ مُسْتَشْعِرٌ لِلْمَعْرِفَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُ بِمَسْأَلَتِهِ إِلَّا عَنِ الْعِلَّةِ الَّتِي جَرَى بِهَا الْمِقْدَارُ1 عَلَى مَنْ جَرَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ الَّذِي أَدْرَكَتْهُ الْأَعْيُنُ مِنْهُ مُتَّبِعٌ2 لِمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ فِي قَوْلِهِمْ: "مَا صَنَعَ فُلَانٌ"؟ وَهُمْ يُرِيدُونَ "مَا صُنِعَ بِهِ" أَوْ "صُنِعَ عَلَى يَدَيْهِ". وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: مَاتَ فُلَانٌ، أَوْ عَاشَ فُلَانٌ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ: فُعِلَ بِهِ، فَذَلِكَ الْقَصْدُ مِنْ مَسْأَلَتِهِ، وَمَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ، كَانَ الْجَهْلُ أَوْلَى بِهِ. وَلَيْسَ حَمْلُنا مَا حَمَلْنا عَلَى الْمَقَادِيرِ فِي قِصَّتِهِ، تحرِّيًا لِمَعْذِرَتِهِ، وَلَا طَلَبًا لِتَحْسِينِ أَمْرِهِ، وَلَا إِنْكَارًا أَنْ يَكُونَ مَا قُدِّرَ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنْ آثَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ دَفْعَ مَكْرُوهِهَا، وَلَا اجْتِلَابَ مَحْمُودِهَا إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي يَجْرِي بِهِ مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنْ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، بِمَا3 حَتَمَ بِهِ عَدْلُ الْمُبْتَدِي لِخَلْقِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُهُ الْآخَرُ الَّذِي نَسَبَهُ فِيهِ إِلَى الْكَذِبِ، فَقَالَ: رَأَى قَوْمًا مِنَ الزُّطِّ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنَّ، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقِيلَ لَهُ: كنتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا شَهِدَهَا مِنَّا أَحَدٌ. فَادَّعَى فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ شَهِدَهَا، وَأَنْكَرَ ذَلِك فِي الحَدِيث الآخر   1 لَعَلَّ الْأَصَح: الْمُقدر. 2 فِي الأَصْل: مُتبعا بِالنّصب، وَلم أجد لَهَا وَجها. 3 وَفِي نُسْخَة: مِمَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وتصحيحه الْخَبَرَيْنِ عَنْهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَعَ ثَاقِبِ فَهْمِهِ، وَبَارِعِ عِلْمِهِ، وَتَقَدُّمِهِ فِي السِّتَّةِ1 الَّذِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمُ الْعِلْمُ بِهَا، وَاقْتَدَتْ بِهِمُ الْأُمَّةُ مَعَ خَاصَّتِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلُطْفِ مَحِلِّهِ. وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنَّ يُقِرَّ بِالْكَذِبِ هَذَا الْإِقْرَارَ؟ فَيَقُولُ: الْيَوْمَ شَهِدْتُ، وَيَقُولُ غَدًا: لَمْ أَشْهَدْ، وَلَوْ جَهَدَ عَدُّوهُ، أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُ مَا بَلَغَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا قَدَرَ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَبَلٌ، أَوْ عَتَهٌ، أَوْ آفَةٌ، مَا زَادَ عَلَى مَا وَسَمَ بِهِ نَفْسَهُ. وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَا يُثْبِتُونَ حَدِيثَ الزُّطِّ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ حُضُورِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَهُمُ الْقُدْوَةُ عِنْدَنَا فِي الْمَعْرِفَةِ بِصَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا، لِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا والمعتنون بِهَا2. وَكُلُّ ذِي صِنَاعَةٍ أَوْلَى بِصِنَاعَتِهِ. غَيْرَ أَنَّا لَا نَشُكُّ فِي بُطْلَانِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ يُخْبِرُ النَّاسَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ كَذَبَ، وَلَا تَسْقُطُ3 عِنْدَهُمْ مَرْتَبَتُهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَقِيلَ لَهُ: فَلِمَ خَبَّرْتَنَا أَمْسِ بِأَنَّكَ شَهِدْتَ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَقَدْ سَقَطَ4 الْخَبَرُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثَانِ جَمِيعًا صَحِيحَيْنِ، فَلَا أَرَى النَّاقِلَ لِلْخَبَرِ الثَّانِي إِلَّا وَقَدْ أَسْقَطَ مِنْهُ حَرْفًا5، وَهُوَ "غَيْرِي"؛ يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لَهُ، أَكُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: "مَا شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا غَيْرِي". فَأَغْفَلَ الرَّاوِي "غَيْرِي" إِمَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، أَوْ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ فَنَسِيَهُ6 أَوْ بِأَنَّ النَّاقِلَ عَنْهُ أَسْقَطَهُ. وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ قَدْ يَقَعُ وَلَا يُؤمن.   1 وَفِي نُسْخَة:: فِي السّنة. 2 وَفِي نُسْخَة: والمعتنون بهَا. 3 وَفِي نُسْخَة: وَلَا يسْقط. 4 وَفِي نُسْخَة: بَطل. 5 لَعَلَّ الْأَصَح: أسقط مِنْهُ كلمة وَهُوَ "غَيْرِي". 6 وَفِي نُسْخَة: فأنسيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ: هَلْ كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: "مَا شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا". وَلَيْسَ هَذَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: "هَلْ كُنْتَ؟ " وَإِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لقَوْل السَّائِلِ: "هَلْ كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ وَإِذَا كَانَ قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ كُنْتَ1 مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ حَسَنٌ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ "مَا شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا غَيْرِي" يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ مُتَقَدِّمِ قَوْله. مَا حَكَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ: وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَشْيَاءَ لِعُثْمَانَ، مَا قَالَهَا، وَقَدْ سَمِعُوهُ قَالَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلَّهُ. فَكَيْفَ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَقْبَحِ وُجُوهِهِ؟ وَلَمْ يَتَطَلَّبْ لَهُ الْعُذْرَ وَالْمَخْرَجَ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ". أَفَلَا تَفَهّم عَنْهُ مَعْنَاهُ، وتدبَّر قَوْلَهُ؟ وَلَكِنَّ عَدَاوَتَهُ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الضِّغْنِ عَلَيْهِمْ، حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّظَرِ. والعداوة البغض، يُعْمِيَانِ وَيُصِمَّانِ، كَمَا أَنَّ الْهَوَى يُعْمِي وَيُصِمُّ. وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنَّ الْكَذِبَ وَالْحِنْثَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْلَى بِالْمَرْءِ وَأَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْبِرِّ فِي الْيَمِينِ. أَلَّا تَرَى رَجُلًا لَوْ رَأَى سُلْطَانًا ظَالِمًا وَقَادِرًا قَاهِرًا، يُرِيدُ سَفْكَ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ حُرَمِهِ، أَوْ إِحْرَاقِ مَنْزِلِهِ، فَتَخَرَّصَ قَوْلًا كَاذِبًا يُنْجِيهِ بِهِ، أَوْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً، كَانَ مَأْجُورًا عِنْدَ اللَّهِ، مَشْكُورًا عِنْدَ عِبَادِهِ؟ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ: لَا يَصِلُ رَحِمًا، وَلَا يُؤَدِّي زَكَاةً، ثُمَّ اسْتَفْتَى الْفُقَهَاءَ، لَأَفْتَوْهُ جَمِيعًا بِأَنْ لَا يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول:   1 وَفِي نُسْخَة: هَل كُنْتُم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} 1. يُرِيدُ: لَا تَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ، مَانِعًا لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ، إِذَا حَلَفْتُمْ أَنْ لَا تَأْتُوهُ، وَلَكِنْ كفِّروا، وَائْتُوا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ، فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَلْيُكَفِّرْ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ 2 ". وَقَدْ رُخِّص فِي الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّهَا خُدْعَةٌ، وَفِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي إِرْضَاءِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ. وَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يُوَرِّيَ فِي يَمِينِهِ إِلَى شَيْءٍ، إِذَا ظُلِمَ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّوْرِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ مَا نَوَى مُسْتَحْلِفُهُ. كَأَنْ كَانَ مُعْسِرًا، أَحْلَفَهُ رَجُلٌ عِنْدَ حَاكِمٍ عَلَى حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ، فَخَافَ الْحَبْسَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِنْظَارِهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ شَيْءٌ، وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: يَوْمِي هَذَا3. أَوْ يَقُولُ وَالَّلاهِ، يُرِيدُ مِنَ اللَّهْوِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْيَاءَ وَأَبْقَى الْكَسْرَةَ مِنْهَا4، دَلِيلًا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} 5   1 الْآيَة 224 من سُورَة الْبَقَرَة. 2 أخرجه مُسلم: أَيْمَان 11 و13 و16، وَالتِّرْمِذِيّ: نذور6، وَالنَّسَائِيّ: أَيْمَان 15 و16، وَابْن ماجة: كَفَّارَات 7، والدارمي: نذور 9، والموطأ: نذور 11، وَأحمد: 4/ 256 و378 و428. 3 لَا نوافق الْمُؤلف رَحمَه الله فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمِثَال لَا ينطبق على الشَّرْط الَّذِي قدمه الْمُؤلف وَهُوَ: "خشيَة الظُّلم أَو الْخَوْف على النَّفس". والإعسار لَا يُبِيح للْمَدِين إِنْكَار الدَّين وَالْحلف على ذَلِك، وَإِنَّمَا يبين حَاله وَيطْلب إمهاله. وَالْقَاضِي ينظر فِي أمره وَقد يحث الدَّائِن على مسامحته أَو إمهاله إِذا لم يكن مُتَعَدِّيا سيء النِّيَّة، وَالله أعلم. 4 هَذَا لون من ألوان المخادعة، وَالَّذِي نعرفه أَن الْيَمين فِي الْحُقُوق والذمم تكون على مَا يُريدهُ المستحلف لَا الْحَالِف، وَالله أعلم، وَقد ورد عَن أبي هُرَيْرَة فِي صَحِيح مُسلم الحَدِيث "يَمِينك على مَا يصدقك عَلَيْهِ صَاحبك" والْحَدِيث "الْيَمين على نِيَّة المستحلف" "مُسلم رقم/ 1653". 5 الْآيَة 10 من سُورَة الزمر. الْآيَة: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ ... } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 و {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} 1 و {يُنَادِ الْمُنَادِ} 2. أَوْ يَقُولُ: كُلُّ مَا لَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ يُرِيدُ كُلُّ مَا لَنْ أَمْلِكَهُ. أَيْ: لَيْسَ أَمْلِكُهُ. وَأَنْ يُحْلِفَهُ رَجُلٌ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدِّيَارِ -وَهُوَ لَهُ ظَالِمٌ- فَيَتَسَوَّرُ الْحَائِطَ وَيَخْرُجُ، مُتَأَوِّلًا بِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَابِ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهُهُ مِنَ التَّوْرِيَةِ. الرُّخْصَةُ فِي الْمَعَارِيضِ: وَجَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِي الْمَعَارِيضِ، وَقِيلَ: إِنَّ فِيهَا عَنِ الْكَذِبِ مَنْدُوحَةً. فَمِنَ الْمَعَارِيضِ، قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِهِ "إِنَّهَا أُخْتِي" يُرِيدُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ. وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} 3. أَرَادَ: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ" فَجَعَلَ النُّطْقَ شَرْطًا لِلْفِعْلِ وَهُوَ لَا يَنْطِقُ وَلَا يَفْعَلُ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} 4 يُرِيدُ "سَأَسْقَمُ"؛ لِأَنَّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَالْفَنَاءُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْقَمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 5. وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: إِنَّكَ سَتَمُوتُ، وَسَيَمُوتُونَ.   1 الْآيَة 6 من سُورَة الْقَمَر. 2 الْآيَة 41 من سُورَة ق. الْآيَة: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ... } . 3 الْآيَة 63 من سُورَة الْأَنْبِيَاء. الْآيَة: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ ... } . 4 الْآيَة 89 من سُورَة الصافات. الْآيَة: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ.. .} . 5 الْآيَة 30 من سُورَة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فَأَيْنَ كَانَ طَلَبِ الْمَخْرَجِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ نَبَّهَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ مَخْرَجًا بِقَوْلِهِ: "أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ". فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَكُونُ طَلَبُ الْمُخْرِجِ، خَبَّرْنَاكَ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ؛ فَمِنْهَا: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ، لَقِيَ رَجُلًا مِنَ الرَّوَافِضِ، فَقَالَ لَهُ: "وَاللَّهِ لَا أُفَارِقُكَ، حَتَّى تَبْرَأَ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَوْ أَقْتُلُكَ". فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ مِنْ عَلِيٍّ، وَمِنْ عُثْمَانَ بَرِيءٌ؛ فَتَخَلَّصَ مِنْهُ. وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَا "مِنْ عَلِيٍّ" يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَوَلَّاهُ "وَمِنْ عُثْمَانَ بَرِيءٌ" فَكَانَتْ بَرَاءَتُهُ مِنْ عُثْمَانَ وَحْدَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، سَأَلَ رَجُلًا كَانَ يَتَّهِمُهُ بِبُغْضِ السُّلْطَانِ وَالْقَدْحِ فِيهِ، عَنِ السَّوَادِ الَّذِي يَلْبَسُهُ أَصْحَابُ السُّلْطَانِ؛ فَقَالَ لَهُ: "النُّورُ -وَاللَّهِ- فِي السَّوَادِ" فَرَضِيَ بِذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ "أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ، فِي سَوَادِ الْحَدَقَةِ" فَلَمْ يَكُنْ فِي يَمِينِهِ آثِمًا وَلَا حَانِثًا. وَمِنْهَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ فَقَالَ: "لَئِنْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ، لَا أَدْخُلُهَا، وَلَئِنْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ إِلَّا مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ، لَا أَدْخُلُهَا"1. فَقِيلَ لَهُ: مَا صَنَعْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَرَّقْتُ النَّاسَ؛ فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: "إِنَّكُمْ قَدْ أَكْثَرْتُمْ عليَّ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، إِلَّا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَتَلَهُ، وَأَنَا مَعَهُ"2. فَأَوْهَمَهُمْ أَنَّهُ قَتَلَهُ مَعَ قَتْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَتَلَهُ، وَسَيَقْتُلُنِي مَعَهُ. وَمِنْهَا أَنَّ شُرَيْحًا3 دَخَلَ عَلَى زِيَادٍ فِي مَرَضِهِ، الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا   1 لم نجد أَن مرجعًا موثوقًا يذكرهُ، وَلَا نطمئن لصِحَّته. وَالله أعلم. 2 نشك فِي صِحَة نِسْبَة هَذَا القَوْل لعَلي رَضِي الله عَنهُ، وَلم نجده فِي مرجع موثوق. وَالله أعلم. 3 شُرَيْح القَاضِي، هُوَ شُرَيْح بن الْحَارِث بن قيس بن جهم الْكِنْدِيّ، أَبُو أُميَّة من أشهر الْقُضَاة الْفُقَهَاء فِي صدر الْإِسْلَام. أَصله من الْيمن، ولي قَضَاء الْكُوفَة فِي زمن عمر وَعُثْمَان وَعلي وَمُعَاوِيَة، واستعفى فِي أَيَّام الْحجَّاج فأعفاه، وَكَانَ ثِقَة بِالْحَدِيثِ. مَاتَ بِالْكُوفَةِ 78هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 خرج بَعَثَ إِلَيْهِ مَسْرُوقٌ1 يَسْأَلُهُ. كَيْفَ تَرَكْتَ الْأَمِيرَ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى. فَقَالَ: إِنَّ شُرَيْحًا صَاحِبٌ عَوِيصٌ، فَاسْأَلُوهُ. فَقَالَ: تَرَكْتُهُ يَأْمُرُ بِالْوَصِيَّةِ وَيَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ. وَسُئِلَ شُرَيْحٌ عَنِ ابْنٍ لَهُ وَقَدْ مَاتَ، فَقَالُوا: كَيْفَ أَصْبَحَ مَرِيضُكَ يَا أَبَا أُمَيَّةَ؟ فَقَالَ: "الْآنَ سَكَنَ عَلَزُه2 وَرَجَاهُ أَهْلُهُ" يَعْنِي: رَجَوْا ثَوَابَهُ. وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ3 بِهِ. وَلَيْسَ يَخْلُو حُذَيْفَةُ فِي قَوْلِهِ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَا قَالَ مِنْ تَوْرِيَةٍ إِلَى شَيْءٍ فِي يَمِينِهِ، وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يُحْكَ لَنَا الْكَلَامُ فَنَتَأَوَّلُهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ مُجْمَلًا. وَسَنَضْرِبُ لَهُ مَثَلًا؛ كَأَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ عِنْدَ الْغَضَبِ، أَقْبَحَ مَا يَعْلَمُونَ، وَعِنْدَ الرِّضَا أَحْسَنَ مَا يَعْلَمُونَ. إِنَّ عُثْمَانَ خَالَفَ صَاحِبَيْهِ، وَوَضَعَ الْأُمُورَ غَيْرَ مَوَاضِعِهَا، وَلَمْ يُشَاوِرْ أَصْحَابَهُ فِي أُمُورِهِ، وَدَفَعَ الْمَالَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. هَذَا وَأَشْبَاهُهُ. فَوَشَى بِهِ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ واشٍ، فَغَلَّظَ الْقَوْلَ وَقَالَ: ذُكِرَ أَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي ظَالِمٌ خَائِنٌ، هَذَا وَمَا أَشْبَهُهُ. فَحَلَفَ حُذَيْفَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا قَالَ ذَلِكَ، وَصَدَقَ حُذَيْفَة أَنه لم يقل: إِن   1 مَسْرُوق بن الأجدع بن مَالك الْهَمدَانِي الوادعي أَبُو عَائِشَة تَابِعِيّ ثِقَة من أهل الْيمن، قدم الْمَدِينَة فِي أَيَّام أبي بكر، وَسكن الْكُوفَة، وَشهد حروب عَليّ، وَكَانَ أعلم بالفتيا من شُرَيْح، وَشُرَيْح أبْصر مِنْهُ بِالْقضَاءِ. 2 العلز: قلق وهلع يُصِيب الْمَرِيض والأسير والمحتضر. الْقَامُوس الْمُحِيط ص666. 3 لَعَلَّ الْأَصَح: أَن يحاط بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 عُثْمَان خَائِنٌ ظَالِمٌ، وَأَرَادَ بِيَمِينِهِ اسْتِلَالَ سَخِيمَتِهِ1، وَإِطْفَاءَ سَوْرَةَ2 غَضَبِهِ وَكَرِهَ أَنْ يَنْطَوِيَ عَلَى سُخْطِهِ عَلَيْهِ. وَسُخْطُ الْإِمَامِ عَلَى رَعِيَّتِهِ، كَسُخْطِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَالسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، وَالْبَعْلِ عَلَى زَوْجِهِ. بَلْ سُخْطُ الْإِمَامِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ حُوبًا3، فَاشْتَرَى الْأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْأَصْغَرِ، وَقَالَ: "أَشْتَرِي بَعْضَ دِينِي بِبَعْضٍ". الرَّدُّ عَلَى مَا قِيلَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ: وَأَمَّا طَعْنُهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِتَكْذِيبِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ لَهُ. فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ وعُمِّرَ بَعْدَهُ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ، سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفِّيَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَبْلَهُمَا بِسَنَةٍ. فَلَمَّا أَتَى مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَا لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهِ مَنْ صَحِبَهُ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِهِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَيْهِ اتَّهَمُوهُ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: كَيْفَ سَمِعْتَ هَذَا وَحْدَكَ؟ وَمَنْ سَمِعَهُ مَعَكَ؟ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَشَدَّهُمْ إِنْكَارًا عَلَيْهِ، لِتَطَاوُلِ الْأَيَّامِ بِهَا وَبِهِ. وَكَانَ عُمَرُ أَيْضًا شَدِيدًا عَلَى مَنْ أَكْثَرَ الرِّوَايَةَ، أَوْ أَتَى بِخَبَرٍ فِي الْحُكْمِ لَا شَاهِدَ لَهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقِلُّوا الرِّوَايَةَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ: أَنْ لَا يَتَّسِع النَّاس فِيهَا،   1 السخيمة والسخمة: الحقد. الْقَامُوس 1446. 2 السَّوْرة: الحدة. الْقَامُوس 527. 3 الحُوب، بِالضَّمِّ: الْهَلَاك، وَالْبَلَاء. الْقَامُوس 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَيَدْخُلُهَا الشَّوْبُ؛ وَيَقَعُ التَّدْلِيسُ وَالْكَذِبُ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالْفَاجِرِ وَالْأَعْرَابِيِّ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ، وَأَهْلِ الْخَاصَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَبِي بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرِ1، وَأَبِي عُبَيْدَةَ2، وَالْعَبَّاسِ3 بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يُقِلُّون الرِّوَايَةَ عَنْهُ. بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَكَادُ يَرْوِي شَيْئًا كَسَعِيدِ4 بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا، نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَدِّثٌ، اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِنْ حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَنِي، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ" ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ. أَفَمَا تَرَى تَشْدِيدَ الْقَوْمِ فِي الْحَدِيثِ وَتَوَقِّيَ مَنْ أَمْسَكَ، كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيفِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الرِّوَايَةِ، أَوِ النُّقْصَانِ، لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده من النَّار" 5.   1 الزبير بن الْعَوام بن خويلد الْأَسدي حوارِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَابْن عمته صَفِيَّة، وَأحد الْعشْرَة السَّابِقين، وَأول من سل سَيْفا فِي سَبِيل الله، هَاجر الهجرتين وَشهد بَدْرًا، والمشاهد كلهَا، توفّي سنة 36هـ. 2 هُوَ عَامر بن عبد الله بن الْجراح، أَمِين هَذِه الْأمة، وَأحد الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ، شهد بَدْرًا، ولي الشَّام، وافتتح اليرموك والجابية والرمادة، وافتتح دمشقًا صلحا وَكتب لأَهْلهَا كتاب الصُّلْح، وَذكروا فِي مناقبه أَنه قتل أَبَاهُ يَوْم بدر، وَنزلت فِيهِ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَة. وَهُوَ فِيمَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِسَنَد جيد عَن عبد الله بن شَوْذَب قَالَ: جعل وَالِد أبي عُبَيْدَة يتَصَدَّى لأبي عُبَيْدَة يَوْم بدر فيحيد عَنهُ فَلَمَّا أَكثر قَصده فَقتله، توفّي أَبُو عُبَيْدَة فِي طاعون عمواس سنة 18هـ. 3 هُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب عَم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَبُو الْفضل، ولد قبل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِسنتَيْنِ، وَكَانَ إِلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة السِّقَايَة والعمارة، وَحضر بيعَة الْعقبَة مَعَ الْأَنْصَار قبل أَن يسلم، هَاجر قبل الْفَتْح بِقَلِيل، وَشهد الْفَتْح، وَثَبت يَوْم حنين، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ 32هـ. 4 سعيد بن زيد الْعَدوي، أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، والمهاجرين الْأَوَّلين شهد الْمشَاهد كلهَا بعد بدر الَّتِي تخلف عَنْهَا فَضرب لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْم، وَذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِيمَن شهد بَدْرًا، توفّي سنة 51هـ. 5 أخرج البُخَارِيّ عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة قَالَ: سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "إِن كذبا عليَّ لَيْسَ ككذب على أحد، من كذب عليَّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار" البُخَارِيّ: جنائز 34، وَأحمد 4/ 245، وَأَبُو دَاوُد: علم 4، وَالتِّرْمِذِيّ: علم 8 وَأما الرِّوَايَة: "من كذب عَليّ فَهُوَ فِي النَّار" فَهِيَ رِوَايَة ضَعِيفَة، وَقد أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير رقم 5830 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 4646. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ رَوَاهُ وَقَالَ: أَرَاهُمْ1 يَزِيدُونَ فِيهِ "مُتَعَمِّدًا" وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُهُ قَالَ: "مُتَعَمِّدًا". وَرَوَى مُطَرِّفُ1 بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمْرَانَ3 بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: وَاللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَى أَنِّي لَوْ شِئْتُ لَحَدَّثْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَلَكِنْ بَطَّأَنِي عَنْ ذَلِكَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعُوا كَمَا سَمِعْتُ، وَشَهِدُوا كَمَا شَهِدْتُ، وَيُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ مَا هِيَ كَمَا يَقُولُونَ، وَأَخَافُ أَنْ يُشَبَّهَ لِي كَمَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَأُعْلِمُكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْلَطُونَ4 لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِخِدْمَتِهِ وَشَبِعَ بَطْنُهُ، وَكَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَشْغَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْسُ الْوَدِيِّ5 وَلَا الصَّفق6 بِالْأَسْوَاقِ، يُعَرِّضُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي التِّجَارَاتِ وَيَلْزَمُونَ الضِّيَاعَ7 فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ لَا يُفَارِقُهُ، فَعَرَفَ مَا لَمْ يَعْرِفُوا، وَحَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظُوا -أَمْسَكُوا عَنْهُ وَكَانَ مَعَ هَذَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنَ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، فَحَكَاهُ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَفْعَلُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا   1 وَفِي نُسْخَة: أَنهم. 2 مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري، أَبُو عبد الله: زاهد من كبار التَّابِعين، ثِقَة فِيمَا رَوَاهُ من الحَدِيث، ولد فِي حَيَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمَّ أَقَامَ وَتُوفِّي فِي الْبَصْرَة 87. 3 عمرَان بن حُصَيْن بن عبيد، أَبُو نجيد الْخُزَاعِيّ، من عُلَمَاء الصَّحَابَة أسلم عَام خَيْبَر سنة 7هـ، بَعثه عمر إِلَى أهل الْبَصْرَة ليفقههم، وولاه زِيَاد قضاءها وَتُوفِّي بهَا عَام 52هـ وَله فِي كتب الحَدِيث 130 حَدِيثا. 4 وَفِي نُسْخَة: يخطئون. 5 الودي: صغَار الفسيل، واحدته: ودية كفينة وزنا. 6 الصفق: الذّهاب والطوف. "الْقَامُوس". 7 الضّيَاع: جمع ضَيْعَة وَهِي: الْعقار، وَالْأَرْض المغلة. "الْقَامُوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 كذبٌ -بِحَمْدِ اللَّهِ- وَلَا عَلَى قَائِلِهِ -إِنْ لَمْ يَفْهَمْهُ السَّامِعُ- جُنَاحٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَالَ خَلِيلِي، وَسَمِعْتُ خَلِيلِي". يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ: "مَتَى كَانَ خَلِيلَكَ"؟ ". فَإِنَّ الْخُلَّةَ بِمَعْنَى الصَّدَاقَةِ وَالْمُصَافَاةِ، وَهِيَ دَرَجَتَانِ، إِحْدَاهُمَا أَلْطَفُ مِنَ الْأُخْرَى. كَمَا أَنَّ الصُّحْبَةَ دَرَجَتَانِ، إِحْدَاهُمَا أَلْطَفُ مِنَ الْأُخْرَى. أَلَّا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ: أَبُو بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى صُحْبَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا صَحَابَةٌ، فَأَيَّةُ فَضِيلَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟. وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّهُ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْأُخُوَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، هِيَ أَلْطَفُ مِنَ الْأُخُوَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1 وَهَكَذَا الْخُلَّةُ. فَمِنَ الْخُلَّةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 2. وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا" 3. يُرِيدُ لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَأَمَّا الْخُلَّةُ، الَّتِي تَعُمُّ، فَهِيَ الْخُلَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} 4.   1 الْآيَة 10 من سُورَة الحجرات. 2 الْآيَة 125 من سُورَة النِّسَاء. 3 أخرجه البُخَارِيّ: صَلَاة 80 ومناقب الْأَنْصَار 45 وفضائل الصَّحَابَة 3 و5 وفرائض 9 وَمُسلم: مَسَاجِد 28 وفضائل الصَّحَابَة 2 و7 وَالتِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 14 و16، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 11، والدرامي: فَرَائض 11 وَأحمد 1/ 270 و359 و3/ 18 و478. 4 الْآيَة 67 من سُورَة الزخرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيٌّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "قَالَ خَلِيلِي، وَسَمِعْتُ خَلِيلِي" وَكَانَ سيء الرَّأْيِ فِيهِ، قَالَ: "مَتَى كَانَ خَلِيلَكَ"؟ يَذْهَبُ إِلَى الْخُلَّةِ الَّتِي لَمْ يُتَّخَذْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مِنْ جِهَتِهَا- خَلِيلًا، وَأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَحَدٍ، لَفَعَلَهُ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذَهَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ، إِلَى الْخُلَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْوِلَايَةِ، فَإِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ- خَلِيلُ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَوَلِيُّ كُلِّ مُسْلِمٍ. وَإِلَى مِثْلِ هَذَا، يُذْهَب فِي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"1؛ يُرِيدُ أَنَّ الْوِلَايَةَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلْطَفُ مِنَ الْوِلَايَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، مَا كَانَ لِعَلِيٍّ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَضْلٌ، وَلَا كَانَ فِي الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيُّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَلِيٍّ وَمَوْلًى. وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} 2 وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَّةُ امْرَأَةٍ نُكِحَتْ، بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ" 3. فَهَذِهِ أَقَاوِيلُ النَّظَّامِ، قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَأَجَبْنَاهُ عَنْهَا. وَلَهُ أَقَاوِيلُ فِي أَحَادِيثَ يدَّعي عَلَيْهَا، أَنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِلْكِتَابِ، وَأَحَادِيثَ يَسْتَبْشِعُهَا4 مِنْ جِهَة حجَّة الْعقل.   1 سبق تَخْرِيجه ص51. 2 الْآيَة 11 من سُورَة مُحَمَّد. 3 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب 12 بَاب 18، وَالتِّرْمِذِيّ كتاب 9 بَاب 15، وَابْن ماجة: كتاب 9 بَاب 15، والدارمي: كتاب 11 بَاب 11، وموطأ مَالك: كتاب 28 حَدِيث 5 و26 ومسند أَحْمد ص 250 جـ1. 4 وَفِي رِوَايَة: يستشنعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَذكر أَن حُجَّةِ الْعَقْلِ قَدْ تَنْسَخُ الْأَخْبَارَ، وَأَحَادِيثَ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَسَنَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. كَذِبُ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى قَوْلِ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ، فَنَجِدُهُ كَذَّابًا، أَفَّاكًا. وَقَدْ حَكَى عَنْهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَقَالَتِهِ أَنَّهُ حَضَرَ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، إِنَّ يَدَيَّ صَنَاعٌ فِي الْكَسْبِ، وَلَكِنَّهَا فِي الْإِنْفَاقِ خَرْقَاءُ1، كَمْ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَسَّمْتَهَا عَلَى الْإِخْوَانِ -أَبُو فُلَانٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ، سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَعْلَمُ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: يَا أَبَا الْهُذَيْلِ مَا أَشُكُّ فِيمَا تَقُولُ. قَالَ: فَلَمْ يَرْضَ أَنْ حَضَرْتُ، حَتَّى اسْتَشْهَدَنِي، وَلَمْ يَرْضَ إِذِ اسْتَشْهَدَنِي2 حَتَّى اسْتَحْلَفَنِي. قَالَ: وَكَانَ أَبُو الْهُذَيْلِ أَهْدَى دَجَاجَةً إِلَى مُوَيْسِ بْنِ عِمْرَانَ، فَجَعَلَهَا مَثَلًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَتَارِيخًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَكَانَ يَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، قَبْلَ أَنْ أَهْدِيَ إِلَيْكَ تِلْكَ الدَّجَاجَةَ وَكَانَ كَذَا، بَعْدَ أَنْ أَهْدَيْتُ إِلَيْكَ تِلْكَ الدَّجَاجَةَ، وَإِذَا رَأَى جَمَلًا سَمِينًا قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَا تِلْكَ الدَّجَاجَةُ الَّتِي أَهْدَيْتُهَا إِلَيْكَ. وَهَذَا نَظَرُ مَنْ لَا يَقْسِمُ عَلَى الْإِخْوَانِ عَشْرَةَ أَفْلُسٍ، فَضْلًا عَنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ. وَحَكَى مِنْ خَطَئِهِ فِي الْاسْتِطَاعَةِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْفَاعِلَ فِي وَقْتِ الْفِعْلِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لِفِعْلٍ آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ الْاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَاعِلٍ مُسْتَطِيعٌ فِي حَالِ فِعْلِهِ فَالْاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ ثَابِتَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا قَبْلَهُ؛ فَنَحْنُ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّهَا قَبْلَ الْفِعْلِ الدليلُ، فَلَجَأَ إِلَى هَذَا القَوْل.   1 خرقاء: لَا تحفظ المَال. 2 وَفِي نُسْخَة: شهِدت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَسُئِلَ عَنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْبَصَرِ فِي حَالِ وُجُودِ الْإِدْرَاكِ، وَعَنْ عَدَمِ الْحَيَاةِ إِنْ كَانَتْ عَرَضًا، فِي حَالِ وُجُودِ الْعِلْمِ، فَلَا هُوَ فَرَّقَ وَلَا هُوَ رَجَعَ. وَزَعَمَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْعَلَ فِي حَالِ بُلُوغِهِ بِالْاسْتِطَاعَةِ الَّتِي أُعْطِيهَا فِي حَالِ الْبُلُوغِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِهَا فِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَمَتَى فَعَلَ بهَا؟ فِي الْحَالِ الَّتِي سُلبها، أَمْ فِي حَالِ الْبُلُوغِ، وَالْفِعْلُ فِيهَا عِنْدَكَ مُحَالٌ، وَقَدْ فُعِلَ بِهَا وَلَا حَالَ إِلَّا حَالُ الْبُلُوغِ؟ وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْلًا مَرْغُوبًا عَنْهُ، مَعَ أَقَاوِيلَ كَثِيرَةٍ فِي فَنَاءِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَفَنَاءِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ. تَنَاقُضُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ"1 وَقَدْ كَانَ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، فَنَهَجَ -مِنْ قَبِيحِ مَذَاهِبِهِ، وَشِدَّةِ تَنَاقُضِ قَوْلِهِ- عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ تَنَاقُضًا مِمَّا أَنْكَرُوهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ2 عَلَى الْاخْتِلَافِ، فَالْقَوْلُ بِالْقَدَرِ صَحِيحٌ، وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَالْقَوْلُ بِالْإِجْبَارِ صَحِيحٌ، وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَهُوَ مُصِيبٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ رُبَّمَا دَلَّتْ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَاحْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ. وَسُئِلَ يَوْمًا؛ عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَأَهْلِ الْإِجْبَارِ3، فَقَالَ: كُلٌّ مُصِيبٌ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ نَزَّهُوا اللَّهَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ؛ فَكُلُّ مَنْ سَمَّى الزَّانِي مُؤمنا فقد   1 وَفِي نُسْخَة: فتهجم. 2 وَفِي نُسْخَة: نزل. 3 الجبرية: هم الَّذين ينفون الْفِعْل حَقِيقَة عَن العَبْد ويضيفونه إِلَى الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم الجبرية الْخَالِصَة: الَّذين لَا يثبتون للْعَبد فعلا وَلَا قدرَة على الْفِعْل أصلا، والجبربة المتوسطة؛ وَهِي الَّتِي تثبت للْعَبد قدرَة غير مُؤثرَة أصلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أصَاب وَمَنْ سَمَّاهُ كَافِرًا فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ فَاسِقٌ -وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ- فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ مُنَافِقٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ فَقَدْ أَصَابَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي. قَالَ: وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الْمُخْتَلِفَةُ، كَالْقَوْلِ بِالْقَرْعَةِ وَخِلَافِهِ، وَالْقَوْلِ بِالسِّعَايَةِ وَخِلَافِهِ، وَقَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَبِأَيِّ ذَلِكَ أَخَذَ الْفَقِيهُ فَهُوَ مُصِيبٌ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ كَانَ مُصِيبًا. وَلَوْ قَالَ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ مُصِيبًا، وَلَوْ وَقَفَ فِيهِ وَأَرْجَأَ أَمْرَهُ كَانَ مُصِيبًا؛ إِذْ كَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِلْمُ الْمَغِيبِ. وَكَانَ يَقُولُ فِي قِتَالِ عليٍّ لِطَلْحَةَ1 وَالزُّبَيْرِ وَقِتَالِهِمَا لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالْخَلَلِ مَا تَرَى، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقِيَاسِ وَأَهْلِ النَّظَرِ. صَاحِبُ الْبَكْرِيَّةِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "بَكْرٍ" صَاحِبُ الْبَكْرِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ حَالًا فِي التَّوَقِّي. فَنَجِدُهُ يَقُولُ: مَنْ سَرَقَ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ، ثُمَّ مَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ أبدا، مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى.   1 هُوَ طَلْحَة بن عبيد الله بن عُثْمَان التَّيْمِيّ، أحد الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ والستة الشورى، وَأحد الثَّمَانِية الَّذين سبقوا إِلَى الْإِسْلَام، وَسَماهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَة الْخَيْر وَطَلْحَة الْجُود وَطَلْحَة الْفَيَّاض، وَاسْتشْهدَ يَوْم الْجمل سنة 36هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ صَدِيقِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. وَوُسَّعَ لِدَاخِلِ الْحَائِطِ1 أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ، وَلَا يَحْمِلَ. وَوُسَّعَ لِابْنِ السَّبِيلِ -إِذَا مَرَّ فِي سَفَرِهِ بِغَنَمٍ وَهُوَ عَطْشَانُ- أَنْ يُصِيبَ مِنْ رِسْلِهَا2. فَكَيْفَ يُعَذِّبُ مَنْ أَخَذَ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ، لَا قَدْرَ لَهَا، وَيُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا؟!! وَأَيُّ ذَنْبٍ هُوَ أَخْذُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ تَوْبَةٌ، أَوْ يَقَعُ فِيهِ إِصْرَارٌ؟ وَقَدْ يَأْخُذُ الرَّجُلُ الْخَلَّالُ مِنْ حَطَبِ أَخِيهِ، والمدَر3 مِنْ مَدَرِهِ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ مِنْ حَوْضِهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ قَدْرًا مِنَ الْحَبَّةِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْأَطْفَالَ لَا تَأَلَّمُ. فَإِذَا سُئِلَ، فَقِيلَ لَهُ: فَمَا بَالُهُ يَبْكِي إِذَا قُرِصَ أَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ شَرَارَةٌ. قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لِأَبَوَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُؤْلِمَ طِفْلًا لَا ذَنْبَ لَهُ. فَإِذَا سُئِلَ عَنِ الْبَهِيمَةِ وَأَلَمِهَا، وَهِيَ لَا ذَنْبَ لَهَا، قَالَ: إِنَّمَا آلَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْفَعَةِ ابْنِ آدَمَ لِتَنْسَاقَ4 وَلِتَقِفَ، وَلِتَجْرِيَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ مِنْهَا. وَكَانَ مِنَ الْعَدْلِ -عِنْدَهُ- أَنْ يُؤْلِمَهَا لِنَفْعِ غَيْرِهَا وَرُبَّمَا قَالَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ خَلَطُوا فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ. وَكَانَ يَقُولُ: شُرْبُ نَبِيذِ السِّقَاءِ5 الشَّدِيدِ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الجدي، وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ.   1 الْحَائِط: الْبُسْتَان. 2 رسلها: أَي لَبنهَا. 3 الْمدر: قطع الطين الْيَابِس. "الْقَامُوس". 4 وَفِي نُسْخَة: لتستاق. 5 وَفِي نُسْخَة: السِّقَايَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَالسُّنَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الدِّينِ لَا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَأْكُلِ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ دَهْرَهُ، وَقَدْ أَكَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لَمْ يَأْكُلِ الْقَرْعَ وَقَدْ كَانَ يُعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لم يقل أَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ1. هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "هِشَامِ بْنِ2 الْحَكَمِ" فَنَجِدُهُ رَافِضِيًّا غَالِيًا. وَيَقُولُ فِي اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَقْطَارِ وَالْحُدُودِ وَالْأَشْبَارِ، وَأَشْيَاءَ يُتَحَرَّجُ مِنْ حِكَايَتِهَا وَذِكْرِهَا، لَا خَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ بِهَا. وَيَقُولُ بِالْإِجْبَارِ الشَّدِيدِ، الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ الْقَائِلُونَ بِالسُّنَّةِ. وَسَأَلَهُ سَائِلٌ فَقَالَ: أَتَرَى اللَّهَ تَعَالَى -مَعَ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ- يُكَلِّفُنَا شَيْئًا، ثُمَّ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَيُعَذِّبُنَا؟ فَقَالَ: قَدْ -وَاللَّهِ- فَعَلَ، وَلَكِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَكَلَّمَ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عَلِيًّا خَاصَمَ الْعَبَّاسَ فِي فَدَكَ3 إِلَى أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَيُّهُمَا كَانَ الظَّالِمُ؟ قَالَ: لم يكن فيهمَا ظَالِم.   1 وَفِي رِوَايَة: وَقَدْ كَانَ يُعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقل أَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ. 2 هِشَامُ بْنُ الحكم الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ الْكُوفِي، أَبُو مُحَمَّد: مُتَكَلم مناظر، كَانَ شيخ الإمامية فِي وقته، ولد بِالْكُوفَةِ وَنَشَأ بواسط. وَسكن بَغْدَاد. توفّي عَام 190هـ. 3 فدك: بَلْدَة بَينهَا وَبَين مَدِينَة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَانِ، تنازعها عليٌّ وَالْعَبَّاس فِي خلَافَة عمر فَقَالَ عَليّ: جعلهَا النَّبِي لفاطمة وَوَلدهَا، وَأنْكرهُ الْعَبَّاس، فسلمها عمر لَهما. كَذَا فِي الْمِصْبَاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: هُمَا كَالْمَلَكَيْنِ الْمُخْتَصِمَيْنِ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا ظَالِمٌ، إِنَّمَا أَرَادَا أَنْ يُعَرِّفَاهُ خَطَأَهُ وَظُلْمَهُ. كَذَلِكَ أَرَادَ هَذَانِ، أَنْ يُعَرِّفَا أَبَا بَكْرٍ خَطَأَهُ وَظُلْمَهُ. وَمِمَّا يَعُدُّهُ أَصْحَابُ الْكَلَامِ مِنْ خَطَئِهِ، قَوْلُهُ: إِنَّ حَصَاةً يَقْلِبُهَا اللَّهُ جَبَلًا فِي رَزَانَتِهِ وَطُولِهِ وَعَرْضِهِ وَعُمْقِهِ، فَتُطَبِّقُ مِنَ الْأَرْضِ فَرْسَخًا، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تُطَبِّقُ أُصْبُعًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا عَرَضًا أَوْ جِسْمًا أَوْ يَنْتَقِصَ مِنْهَا عَرَضًا أَوْ جِسْمًا. ثُمَامَةُ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "ثُمَامَةَ"1 فَنَجِدُهُ مِنْ رِقَّةِ الدِّينِ، وَتَنَقُّصِ الْإِسْلَامِ، وَالْاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَإِرْسَالِهِ لِسَانَهُ عَلَى مَا لَا يَكُونُ عَلَى مِثْلِهِ رَجُلٌ يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُؤْمِنُ بِهِ. وَمِنَ الْمَحْفُوظِ عَنْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يتعادَوْن يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ، لِخَوْفِهِمْ فَوْتَ الصَّلَاةِ. فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى الْبَقَرِ، انْظُرُوا إِلَى الْحَمِيرِ. ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِهِ: مَا صَنَعَ هَذَا الْعَرَبِيُّ2 بِالنَّاسِ؟ مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ الْبَرْمَكِيُّ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ الْبَرْمَكِيِّ" فَنَجِدُ مُصْحَفَهُ كُتُب أَرُسْتَطَالِيسَ فِي الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَالْكِيَانِ، وَحُدُودِ الْمنطق بهَا، يقطع دهره،   1 ثُمَامَة بن أَشْرَس النميري، من كبار الْمُعْتَزلَة، وَأحد الفصحاء والبلغاء المقدمين، كَانَ لَهُ اتِّصَال بالرشيد ثمَّ بالمأمون، وعدَّهُ المقريرزي فِي رُؤَسَاء الْفرق الهالكة، وَأَتْبَاعه يسمون "الثَّمَانِية" نِسْبَة إِلَيْهِ توفّي 213هـ. 2 وَفِي نُسْخَة: الْقرشِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ -فِيمَا ذُكِرَ- لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ. وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ شُكْرًا عَلَى شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهِ، أَوْ خَيْرٍ أَسْدَاهُ إِلَيْهِ. لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا1 إِلَى نَفْسِهِ قَصَدَ. أَوْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِلْمُكَافَأَةِ، فَإِنَّهُ إِلَى الرِّبْحِ ذَهَبَ. أَوْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِلذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، فَفِي حَظِّهِ سَعَى، وَفِي حَبْلِهِ حَطَبَ2. أَوْ فَعَلَهُ رَحْمَةً لَهُ، ورقة وضعت فِي قلبهب، فَإِنَّمَا سكن بِتِلْكَ الْعَطِيَّة علته وَدَاوَى بِهَا مِنْ دَائِهِ. وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ" 3. وَذَكَرَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" 4. وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ ثُلُثَ الثُّلُثِ كَثِيرٌ، وَالْمَسَاكِينَ حُقُوقُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ إِنْ طَلَبُوهُ طَلَبَ الرِّجَالِ أَخَذُوهُ، وَإِنْ قَعَدُوا عَنْهُ سقعود النِّسَاءِ حُرِمُوهُ، فَلَا رَحِمَ اللَّهُ من يرحمهم.   1 وَفِي نُسْخَة: فَإلَى. 2 فِي حبله حطب: كِنَايَة عَن سَعْيه لمصلحته ومنفعته الشخصية، وَقد ورد فِي الْقَامُوس. حطب فِي حبلهم: لضرهم. 3 أخرجه أَبُو دَاوُد: أدب 11، وَالتِّرْمِذِيّ: بر 35، وَأحمد: 3/ 258 و295 و303 و461 و493 و3/ 32 و74، وَالنَّظَر صَحِيح الْجَامِع للألباني رقم7719، وسلسلة الصَّحِيحَيْنِ 416 عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا. 4 أخرجه البُخَارِيّ: جنائز 236 وَصَايَا 2 و3 ومناقب الْأَنْصَار 49، ونفقات 1 وَمرض 13 و16 ودعوات 43 وفرائض 6 وَمُسلم: وَصِيَّة 5 و7 و8 و10 وَأَبُو دَاوُد: فَرَائض 3 وأيمان 23، وَالتِّرْمِذِيّ: جنائز 6 ووصايا 1، وَالنَّسَائِيّ: وَصَايَا 3، وَابْن ماجة: وَصَايَاهُ، والموطأ: وَصِيَّة 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ سَايَرَهُ، فَنَفَرَتْ بِهِ دَابَّتُهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اضْرِبُوهَا عَلَى الْعِثَارِ، وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّفَارِ. وَأَنَا أَقُولُ: لَا تَضْرِبُوهَا عَلَى الْعِثَارِ، وَلَا عَلَى النِّفَارِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَسْتُ أَدْرِي، أَيَصِحُّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ حُكِيَ عَنْهُ وَقَدْ أَخْطَأَ. وَالصَّوَابُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ تَنْفِرُ مِنَ الْبِئْرِ1 أَوْ مِنَ الشَّيْءِ تَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ الرَّاكِبُ فَتَتَقَحَّمُ، وُفِي تَقَحُّمِهَا الْهَلَكَةُ. فَنَهَى عَنْ ضَرْبِهَا عَلَى النِّفَارِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِهَا عَلَى الْعِثَارِ، لِتَجِدَّ فَلَا تَعْثَرَ، لِأَنَّ الْعَثْرَةَ لَا تَكَادُ تَكُونُ إِلَّا عَن توان   1 وَفِي نُسْخَة: من النَّهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الرَّد على أَصْحَاب الرَّأْي: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ، فَنَجِدُهُمْ أَيْضًا يَخْتَلِفُونَ وَيَقِيسُونَ، ثُمَّ يَدَّعُونَ الْقِيَاسَ وَيَسْتَحْسِنُونَ، وَيَقُولُونَ بِالشَّيْءِ وَيَحْكُمُونَ بِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ. أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنِي سَهْلُ1 بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ2 عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مِخْنَفٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ3 بِكِتَابٍ مِنْهُ بِمَكَّةَ، عَامًا أَوَّلَ، فَعَرَضَهُ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَرجع عَن ذَلِك كُله.   1 سهل بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْجُشَمِي السجتساني: من كبار الْعلمَاء باللغة وَالشعر من أهل الْبَصْرَة كَانَ الْمبرد يلازم الْقِرَاءَة عَلَيْهِ، لَهُ نَيف وَثَلَاثُونَ كتابا، وَله شعر جيد توفّي عَام 248هـ. 2 الْأَصْمَعِي: أديب وراوية زَمَانه، اسْمه عبد الْملك بن قريب بن عبد الْملك بن عَليّ بن أصمع، الْمَنْسُوب إِلَيْهِ ابْن أبي مطهر، وَعَن البدالي أَن أصمع وَأَبا مطهر أدْركَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلما، وَلم يذكرَا فِي الصَّحَابَة فِي مُخْتَصر الْإِصَابَة. تحفة الْأَلْبَاب جـ1 ص288. 3 أَبُو حنيفَة: شيخ الْكُوفَة وَهُوَ تَابِعِيّ، لَقِي سِتَّة من الصَّحَابَة واسْمه النُّعْمَان بن ثَابت بن زوطا، مولى بني أَسد بن خُزَيْمَة قيل بِالْعِتْقِ، وَقيل بِالْحلف، وَهُوَ قَول إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد ابْن أبي حنيفَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: لم يتَقَدَّم علينا رق، وَإِنَّمَا أسلم جدي على يَد رجل من أَسد بن خُزَيْمَة. وَكَانَ أَبُو حنفية بالْمقَام الأوفى من الْعلم وَالصَّلَاح، وَيَقُول بِالرَّأْيِ وَكَانَ جَعْفَر بن مُحَمَّد -وَهُوَ جَعْفَر الصَّادِق- ينهاه عَن ذَلِك. وَلم يرجع أَبُو حنيفَة عَن الرآي، ورأي الْأَئِمَّة إِنَّمَا هُوَ الاستنباط من الْأَصْلَيْنِ لَا إِنَّه يَقُول مَا وَافق مَا يرَاهُ من نَفسه. ويروى فِي ورع أبي حنيفَة كثيرا من المواقف الَّتِي تدل على زهده وعدله وخلقه وحبه للْعلم وتقواه وعَلى إِمَامَته وفضله "تحفة الْأَلْبَاب جـ1 ص 243". وَلَعَلَّ مَا أوردهُ الْمُؤلف من هَذِه الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا مطاعن بِدِينِهِ أَو فقهه هِيَ من المبالغات الَّتِي قد لَا يستوعب حَقِيقَتهَا ناقل، أَو يغلو فِيهَا صَاحب مَذْهَب بِسَبَب خلاف علمي، وَالله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فَوضع الرَّجُلُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أَتَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ عَامًا أَوَّلًا، فَأَفْتَانِي بِهَذَا الْكِتَابِ، فَأَهْرَقْتُ بِهِ الدِّمَاءَ، وَأَنْكَحْتُ بِهِ الْفُرُوجَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ الْعَامَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَدثنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ هَذَا؟ قَالَ: كَانَ رَأْيًا رَأَيْتُهُ، فَرَأَيْتُ الْعَامَ غَيْرَهُ. قَالَ: فَتَأْمَنُنِي أَنْ لَا تَرَى مِنْ قَابَلٍ شَيْئًا آخَرَ؟ قَالَ أَبُو حنيفَة: لَا أَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَكِنِّي أَدْرِي أَنَّ عَلَيْكَ لَعْنَةَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ: إِنَّا لَا نَنْقِمُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَأَى؛ كُلُّنَا يَرَى؛ وَلَكِنَّنَا نَنْقِمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجِيئُهُ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ. حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا حَنِيفَةَ سُئِلَ عَنْ مُحْرِم لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلَبِسَ سَرَاوِيلَ، فَقَالَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ1، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ2، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْمحرم:   1 عَمْرو بن دِينَار بن شُعَيْب الْبَصْرِيّ، أَبُو يحيى الْأَعْوَر قهرمان آل الزبير، لَيْسَ بِثِقَة "تَهْذِيب التَّهْذِيب" "8/ 230" "الْخُلَاصَة" 345. 2 جَابر بن زيد الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، أَبُو الشعْثَاء تَابِعِيّ فَقِيه من الْأَئِمَّة من أهل الْبَصْرَة. أَصله من عمان صحب ابْن عَبَّاس. وَكَانَ من بحار الْعلم، وَصفه الشماخي "وَهُوَ من عُلَمَاء الإباضية" بِأَنَّهُ أصل الْمَذْهَب وأسه الَّذِي قَامَت عَلَيْهِ آطامه ولد 21هـ. نَفَاهُ الْحجَّاج إِلَى عمان، وَفِي كتاب الزّهْد للْإِمَام أَحْمد لما مَاتَ جَابر بن زيد قَالَ قَتَادَة: الْيَوْم مَاتَ أعلم أهل الْعرَاق، توفّي 93هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 "إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ خُفَّيْنِ" 1. فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ2 عَنْ أَبِي عَوَانَةَ3 قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ سَرَقَ ودِيًّا4 فَقَالَ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ. فَقُلْتُ لَهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَر" 5. فَقَالَ: مَا بَلَغَنِي هَذَا. قُلْتُ لَهُ: فَالرَّجُلُ الَّذِي أَفْتَيْتَهُ، رُدَّه. قَالَ: دَعْهُ، فَقَدْ جَرَتْ بِهِ الْبِغَالُ الشُّهُبُ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: أَخَافُ أَنْ تَكُونَ إِنَّمَا جَرَتْ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ6: حَدَّثْتُ أَبَا حَنِيفَةَ بِحَدِيث عبد الله، فِي الَّذِي   1 أخرجه مُسلم: حج 4 و5، وَالْبُخَارِيّ: لِبَاس 14 و37 وصيد 15 و16، وَأَبُو دَاوُد: مَنَاسِك 31، النَّسَائِيّ: مَنَاسِك 3. 2 أَبُو عَاصِم: هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد بن الضَّحَّاك بن مُسلم الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ، الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالنبيل شيخ حفاظ الحَدِيث فِي عصره، لَهُ جُزْء فِي الحَدِيث، ولد بِمَكَّة 122هـ وتحول إِلَى الْبَصْرَة وَتُوفِّي بهَا 212هـ. 3 أَبُو عوَانَة: هُوَ الوضاح بن خَالِد الْيَشْكُرِي بِالْوَلَاءِ الوَاسِطِيّ الْبَزَّاز، من حفاظ الحَدِيث الثِّقَات من سبي جرجان، كَانَ مَعَ سَعَة علمه شبه أُمِّي يقْرَأ ويستعين بِمن يكْتب لَهُ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ عَام 179هـ. 4 الودي، بتَشْديد الْيَاء: صغَار النّخل. 5 أخرجه أَبُو دَاوُد: حُدُود 13، وَالتِّرْمِذِيّ: حُدُود 19، وَالنَّسَائِيّ: سَارِق 13، وَابْن ماجة: حُدُود 37، والدارمي: حُدُود 7، والموطأ: حُدُود 32، وَأحمد: 3/ 63 و4/ 140 و142. 6 عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب الوَاسِطِيّ مُسْند الْعرَاق فِي عصره، من حفاظ الحَدِيث، كَانَ صَادِقا ورعًا مُوسِرًا لَهُ صولة، أَصله من وَاسِط ولد عَام 105هـ وَسكن بَغْدَاد وَمَات بهَا عَام 201هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قَالَ: "مَنْ يَذْبَحُ لِلْقَوْمِ شَاةً أُزَوِّجُهُ أَوَّلَ بِنْتٍ تُولَدُ لِي" فَفَعَلَ ذَلِك رجل، فَقَضَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَأَنَّ لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا قَضَاءُ الشَّيْطَانِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَلْهَجَ1 بِذِكْرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وتنقصهم2 والبعث عَلَى قَبِيحِ أَقَاوِيلِهِمْ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ3. وَكَانَ يَقُولُ: نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَنَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَزِمُوا الْقِيَاسَ. اسْتِدْرَاكَاتُ ابْنِ رَاهَوَيْهِ عَلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ: وَكَانَ يُعَدِّدُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَامَ جَالِسًا، وَاسْتَثْقَلَ فِي نَوْمِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ. ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، مُنْتَقَضُ الطَّهَارَةِ، قَالَ: وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ. عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَصْلٌ، فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ. وَفِي النَّوْمِ غَيْرُ حَدِيثٍ -مِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ. فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ انْفَتح الوكاء" 4.   1 وَفِي رِوَايَة: أبهج. 2 وَفِي رِوَايَة: ببغضهم. 3 إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْن رَاهَوَيْه، عَالم خُرَاسَان فِي عصره من سكان مرو ولد عَام 161هـ، وَهُوَ أحد كبار الْحفاظ، طَاف الْبِلَاد لجمع الحَدِيث وَأخذ عَنهُ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم. وَكَانَ إِسْحَاق ثِقَة فِي الحَدِيث. قَالَ الدَّارمِيّ: سَاد إِسْحَاق أهل الْمشرق وَالْمغْرب بصدقه. وَقَالَ فِيهِ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: اجْتمع لَهُ الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْحِفْظ والصدق والورع والزهد، ورحل إِلَى الْعرَاق والحجاز وَالشَّام واليمن وَله تصانيف، استوطن نيسابور وَتُوفِّي بهَا عَام 238هـ. 4 أخرجه الدَّارمِيّ: وضوء 48، وَقد ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي حَدِيث برقم 23195 "من نَام وَهُوَ جَالس فَلَا وضوء عَلَيْهِ، فَإِذا وضع جنبه فَعَلَيهِ الْوضُوء ". وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى، وَإِسْنَاده حسن/ انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 4148، وَله شَاهد صَحِيح من حَدِيث عَليّ عِنْد أَحْمد وَابْن ماجة بِلَفْظ: "الْعين وكاء السه فَمن نَام فليتوطأ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "مَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ" 1. قَالَ: فَأَوْجَبُوا فِي الضَّجْعَةِ الْوُضُوءَ إِذَا غَلَبَهُ النَّوْمُ، وَأَسْقَطُوهُ عَنِ النَّائِمِ الْمُسْتَثْقِلِ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا. قَالَ: وَهَاتَانِ الْحَالَانِ، فِي خَشْيَةِ الْحَدَثِ، أَقْرَبُ مِنَ الضَّجْعَةِ، فَلَا هُمُ اتَّبَعُوا أَثَرًا، وَلَا لَزِمُوا قِيَاسًا. قَالَ: وَقَالُوا مَنْ تَقَهْقَهَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى. قَالَ: فَأَيُّ غَلَطٍ أَبْيَنُ مِنْ غَلَطِ مَن يَحْتَاطُ لِصَلَاةٍ لَمْ تَحْضُرْ، وَلَا يَحْتَاطُ لِصَلَاةٍ هُوَ فِيهَا. قَالَ: وَقَالُوا فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ، وَتَرَكَ جَدَّهُ أَبَا أُمِّهِ وَبِنْتَ بِنْتِهِ -الْمَالُ لِلْجَدِّ دُونَ بِنْتِ الْبِنْتِ. وَكَذَلِكَ هُوَ -عِنْدَهُمْ- مَعَ جَمِيعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. قَالَ: فَأَيُّ خَطَأٍ أَفْحَشُ مِنْ هَذَا، لِأَنَّ الْجَدَّ يُدْلِي بِالْأُمِّ، فَكَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَى بِنْتِ الْبِنْتِ، وَهِيَ تُدْلِي بِالْبِنْتِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَبَّهُوا أَبَا الْأُمِّ بِأَبِي الْأَبِ، إِذِ اتَّفَقَ أَسْمَاؤُهُمَا2. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، وَهُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ3 أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: مَا بَالُهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ؟ أَيُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ4: إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ إِذَا افْتَتَحَ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ إِذا خفض وَرفع.   1 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 79، وَابْن ماجة: طَهَارَة 62، وَأحمد 1/ 111. 2 وَفِي رِوَايَة: أَسمَاؤُهُم. 3 وَكِيع بن الْجراح بن مليح الرُّؤَاسِي حَافظ للْحَدِيث، ثَبْتٌ، كَانَ مُحدث الْعرَاق فِي عصره ولد بِالْكُوفَةِ 129 هـ وَأَبوهُ نَاظر على بَيت المَال فِيهَا، وتفقه وَحفظ الحَدِيث واشتهر، وَأَرَادَ الرشيد أَن يوليه قَضَاء الْكُوفَة فَامْتنعَ ورعًا، وَكَانَ يَصُوم الدَّهْر، لَهُ كتب مِنْهَا "تَفْسِير الْقُرْآن" توفّي بغيد رَاجعا من الْحَج 197هـ. 4 عبد الله بن الْمُبَارك، الْحَنْظَلِي وَلَاء، أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمروزِي، أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وشيوخ الْإِسْلَام كتب عَن أَرْبَعَة آلَاف شيخ، قَالَ فِيهِ ابْن عُيَيْنَة: ابْن الْمُبَارك عَالم الْمشرق وَالْمغْرب وَمَا بَينهمَا، وَقد مَلَأت أخباره الرائعة كتب التراجم. توفّي سنة 181هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قَالَ: هَذَا مَعَ تَحَكُّمِهِ فِي الدِّينِ، كَقَوْلِهِ: أَقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقَنَا، وَلَا أَقْطَعُ فِي الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ وَأَقْطَعُ فِي النَّوْرة، وَلَا أَقْطَعُ فِي الْفَخَّارِ وَالزُّجَاجِ. فَكَأَنَّ الْفَخَّارَ وَالزُّجَاجَ لَيْسَا مَالًا وَكَأَنَّ الْآبِنُوسَ لَيْسَ خَشَبًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: وَسُئِلَ -يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ- عَنِ الشُّرْبِ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ فِي إِصْبَعِكَ، فَتُدْخِلُ يَدكَ الْمَاءَ، فَتَشْرَبُهُ1 بِهَا. وَكَانَ يُعَدِّدُ مِنْ هَذَا، أَشْيَاءَ يَطُولُ الْكِتَابُ بِهَا. وَأَعْظَمُ مِنْهَا، مُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوهُ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَدِي لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَمْدًا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتَصَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَالله تبَارك وَتَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} 2. يُرِيدُ: فَمَنْ عَفَا عَنِ الدَّمِ، فَلْيَتَّبِعْ بِالدِّيَةِ اتِّبَاعًا بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: يُطَالِبُ مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، لَا يُرْهِقُ الْمَطْلُوبَ، وَلْيُؤَدِّ الْمُطَالَبُ الْمَطْلُوبَ، أَدَاءً بِإِحْسَانٍ، لَا مَطْلَ3 فِيهِ وَلَا دِفَاعَ عَنِ الْوَقْتِ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يَعْنِي تَخْفِيفًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أُلْزِمُوه، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيٍّ إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ أَو يعْفُو.   1 وَفِي نُسْخَة: وتشرب بهَا. 2 الْآيَة 178 من سُورَة الْبَقَرَة. 3 المطل: التسويف بالعدة وَالدّين. "الْقَامُوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ: بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَقَتَلَ. {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم} . قَالُوا: يُقْتَلُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أُعَافِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ"1. وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ لَا عُذْرَ فِيهِ، وَلَا عُذْرَ فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ. فَأَمَّا الرَّأْيُ فِي الْفُرُوعِ، فَأَخَفُّ أَمْرًا، وَإِنْ كَانَ مَخَارِجُ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَمَخَارِجُ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَتَقْدِيرِ الْعُقُولِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَدَّثَنِي الزِّيَادِيُّ2 قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى3 بْنُ يُونُسَ عَنِ الْأَعْمَشِ4 عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ5، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كرم الله وَجهه: "مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَعْلَى الْقَدَمِ أَحَقُّ بِالْمَسْحِ مِنْ بَاطِنِهَا، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى أَعْلَى قَدَمَيْهِ"6. وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ زُفَرَ7 بن هُذَيْل يَقُول   1 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 6186، وَفِي تَخْرِيج الْمشكاة 3479 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة للألباني برقم 4767 وَأخرجه الطَّيَالِسِيّ عَن جَابر. 2 الزيَادي: عبد الله ابْن أبي إِسْحَاق الزيَادي الْحَضْرَمِيّ، نحوي من الموَالِي من أهل الْبَصْرَة، ولد عَام 29هـ فرّع النَّحْو وقاسه وَكَانَ أعلم الْبَصرِيين بِهِ توفّي عَام 117هـ. 3 عِيسَى بن يُونُس بن عَمْرو السبيعِي الْهَمدَانِي، أَبُو عَمْرو. مُحدث ثِقَة كثير الْغَزْو للروم، من بَيت علم وَحَدِيث. ولد بِالْكُوفَةِ وَسكن الْحَدث "بِقرب بيروت" مرابطًا، وَكَانَ يَغْزُو عَاما ويحج عَاما توفّي عَام 187هـ. 4 الْأَعْمَش: هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان الْكَاهِلِي وَلَاء أَبُو مُحَمَّد الْكُوفِي أحد الْأَعْلَام الْحفاظ والقراء رأى من الصَّحَابَة أنسا قَالَ عَمْرو بن عَليّ: كَانَ يُسمى الْمُصحف لصدقه، وَكَانَ فصيحًا ثِقَة ثبتًا. توفّي سنة 148هـ. 5 أَبُو إِسْحَاق: هُوَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ولد فِي الْكُوفَة وَقدم دمشق ورحل إِلَى بَغْدَاد فَأكْرمه الرشيد وأجله. كَانَ من الْعلمَاء العاملين، عَاشَ مرابطًا بثغر المصيصة وَمَات بهَا سنة 188هـ. 6 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 63، والدارمي: وضوء 43، وَأحمد 1/ 95 و114 و124 و148. 7 زفر بن الْهُذيْل بن قيس الْعَنْبَري، من تَمِيم، أَبُو الْهُذيْل: فَقِيه كَبِير من أَصْحَاب الإِمَام أبي حنيفَة أَصله من أَصْبَهَان. أَقَامَ بِالْبَصْرَةِ وَولي قضاءها ولد عَام 110هـ فِي أَصْبَهَان وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ عَام 158هـ، وَهُوَ أحد الْعشْرَة الَّذين دوَّنوا الْكتب جمع بَين الْعلم وَالْعِبَادَة. وَكَانَ من أَصْحَاب الحَدِيث، غلب عَلَيْهِ الرَّأْي وَهُوَ قِيَاس الْحَنَفِيَّة، وَكَانَ يَقُول نَحن لَا نَأْخُذ بِالرَّأْيِ مَا وجد أثر، وَإِذا جَاءَ الْأَثر تركنَا الرَّأْي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ، بِمَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ. قَالَ: يُعْطِي تِسْعَةً، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَلَا هَذَا الْعَقْدُ. كَمَا تَقُولُ: "لَهُ مَا بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ" فَلَهُ مَا بَيْنَهُمَا، لَيْسَتْ لَهُ الْأُسْطُوَانَتَانِ. فَقُلْنَا لَهُ: فَرَجُلٌ مَعَهُ ابْنٌ لَهُ مَحْظُوظٌ قِيلَ لَهُ: كَمْ لِابْنِكَ؟ قَالَ: مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ، فَهَذَا -فِي قِيَاسِكُمْ- ابْنُ سَنَةٍ. قَالَ: اسْتُحْسِنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَحَدَّثَنَا عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ1: كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. قُلْتُ: فَكَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ. قُلْتُ: فَكَمْ فِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ. قُلْتُ: فَكَمْ فِي أَرْبَعِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ. قُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جَرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا، نَقَصَ عَقْلُهَا2؟ قَالَ: هِيَ السُّنَّة يَا ابْنَ أَخِي. أَشَدُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَانَ أَشَدُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، الشَّعْبِيَّ، وَأَسْهَلُهُمْ فِيهِ، مُجَاهِد3.   1 سعيد بن الْمسيب بن حزن بن أبي وهب المَخْزُومِي الْقرشِي، سيد التَّابِعين وَأحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ جمع بَين الحَدِيث وَالْفِقْه والزهد والورع، وَكَانَ يعِيش من التِّجَارَة بالزيت ولد عَام 13هـ وَكَانَ أحفظ النَّاس لأحكام عمر بن الْخطاب وَتُوفِّي عَام 94هـ. 2 عقلهَا: دِيَتهَا. 3 مُجَاهِد: بن جبر، المَخْزُومِي وَلَاء، الْمَكِّيّ القرئ الْمُفَسّر الْحَافِظ الإِمَام الثِّقَة، كَانَ أحد أوعية الْعلم توفّي سنة 103هـ، وَقيل إِنَّه كَانَ لَا يسمع بأعجوبة إِلَّا ذهب لينْظر إِلَيْهَا، عرض الْقُرْآن على ابْن عَبَّاس وَأخذ عَنهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ1 قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: نَا الْأَعْمَشُ2 عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ، الرَّأْيُ الْحَسَنُ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن خَالِد مُحَمَّدِ بْنِ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: نَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ -وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ: مَا حَدَّثَكَ هَؤُلَاءِ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْبَلْهُ، وَمَا خَبَّرُوكَ بِهِ عَنْ رَأْيِهِمْ، فَارْمِ بِهِ فِي الحُش3. وَكَانَ يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْقِيَاسَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ، حَرَّمْتُمُ الْحَلَالَ، وَأَحْلَلْتُمُ الْحَرَامَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي الرِّيَاشِيُّ4 قَالَ: نَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ: إِنَّ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقِيَاسِ، فَقَالَ: أَيْرٌ5 فِي الْقِيَاسِ. وَحَدَّثَنِي الرِّيَاشِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْخَطَّابِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْحَدِيثُ ذَكَرٌ، يُحِبُّهُ ذُكُورُ الرِّجَالِ، وَيَكْرَهُهُ مُؤَنَّثُوهُمْ. تَنَاقُضَاتٌ فِي الْقِيَاسِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَيْفَ يَطَّرِدُ لَكَ الْقِيَاسُ فِي فُرُوعٍ، لَا يَتَّفِقُ أُصُولُهَا وَالْفَرْعُ تَابِعٌ للْأَصْل؟   1 أَبُو الْخطاب: عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح الْمعَافِرِي الْحِمْيَرِي اليمني، زعيم الإباضية فِي أفريقية، كَانَ شجاعًا بطلًا حكم إفريقية كلهَا فِي بَدْء سنة 141هـ، وَقد وَجه إِلَيْهِ الْمَنْصُور خمسين ألفا فَقتل 144هـ. 2 الْأَعْمَش: سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَسدي بِالْوَلَاءِ، تَابِعِيّ مَشْهُور، أَصله من بِلَاد الرّيّ، ومنشؤه ووفاته فِي الْكُوفَة، ولد عَام 61هـ وَكَانَ عَالما بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث والفرائض روى نَحْو 1300 حَدِيث، قَالَ الذَّهَبِيّ كَانَ رَأْسا فِي الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح توفّي 148هـ. 3 الحش: المرحاض. 4 الرياشي: هُوَ الْعَبَّاس بن الْفرج بن عَليّ بن عبد الله الرياشي الْبَصْرِيّ، من الموَالِي، لغَوِيّ وراوية عَارِف بأيام الْعَرَب، من أهل الْبَصْرَة ولد عَام 177هـ وَقتل فِيهَا أَيَّام فتْنَة الزنج عَام 257هـ. 5 لَيْسَ من المستحسن نقل زلات الْعلمَاء، وَمثل هَذَا الْكَلَام لَا يعْتد بِهِ وَالله أعلم بِصِحَّتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَكَيْفَ يَقَعُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يُقْطَعَ سَارِقُ عَشْرِ دَرَاهِمَ، وَيُمْسَكَ عَنْ غَاصِبِ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَيُجْلَدَ قَاذِفُ الْحُرِّ الْفَاجِرِ، وَيُعْفَى عَنْ قَاذِفِ الْعَبْدِ الْعَفِيفِ؟ وَتُسْتَبْرَأَ أَرْحَامُ الْإِمَاءِ بِحَيْضَةٍ، وَرَحِمُ الْحُرَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ. وَيُحَصَّنَ الرَّجُلُ بِالْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ السَّوْدَاءِ، وَلَا يُحَصَّنَ بِمِائَةِ أَمَةٍ حَسْنَاءَ؟ وَيُوجَبَ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاء الصَّوْم وَلَا يجب عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ. وَيُجْلَدَ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا أَكْثَرُ مِنَ الْجَلْدِ فِي الْقَذْفِ بِالْكُفْرِ. وَيُقْطَعَ فِي الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنَ، وَلَا يُقْطَعَ فِي الزِّنَا بِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةٍ؟ مُخَالَفَاتُ الْجَاحِظِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى الْجَاحِظِ1، وَهُوَ آخِرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمُعَايِرُ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَحْسَنُهُمْ لِلْحُجَّةِ اسْتِثَارَةً، وَأَشَدُّهُمْ تَلَطُّفًا لِتَعْظِيمِ الصَّغِيرِ، حَتَّى يَعْظُمَ، وَتَصْغِيرِ الْعَظِيمِ حَتَّى يَصْغُرَ، وَيَبْلُغَ بِهِ الْاقْتِدَارُ إِلَى أَنْ يَعْمَلَ الشَّيْءَ وَنَقِيضَهُ، وَيَحْتَجَّ لِفَضْلِ السُّودَانِ عَلَى الْبِيضَانِ. وَتَجِدُهُ يَحْتَجُّ مَرَّةً لِلْعُثْمَانِيَّةِ عَلَى الرَّافِضَةِ، وَمَرَّةً لِلزَّيْدِيَّةِ عَلَى الْعُثْمَانِيَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ. وَمَرَّةً يُفَضِّلُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَرَّةً يُؤَخِّرُهُ، وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُتْبِعُهُ قَالَ: ابْنُ الْجَمَّازِ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ غَزْوَانَ: كَذَا وَكَذَا مِنَ الْفَوَاحِشِ. وَيُجِلُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَنْ يُذْكَرَ فِي كِتَابٍ ذكرا فِيهِ فَكَيْفَ فِي وَرَقَةٍ، أَوْ بعد سطر وسطرين؟   1 الجاحظ: عَمْرو بن بَحر بن مَحْبُوب الْكِنَانِي بِالْوَلَاءِ اللَّيْثِيّ، كَبِير أَئِمَّة الْأَدَب، وَرَئِيس الْفرْقَة الجاحظية من الْمُعْتَزلَة، ولد فِي الْبَصْرَة عَام 163هـ فلج آخر عمره وَكَانَ مُشَوه الْخلقَة، لَهُ مصنفات كَثِيرَة، وَمَات وَالْكتاب على صَدره عَام 255هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَيَعْمَلُ كِتَابًا، يَذْكُرُ فِيهِ حُجَجَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا صَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَجَوَّزَ1 فِي الْحُجَّةِ، كَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ تَنْبِيهَهُمْ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ، وَتَشْكِيكَ الضَّعَفَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَتَجِدُهُ يَقْصِدُ فِي كتبه للمضاحيك2 وَالْعَبَثَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ، اسْتِمَالَةَ الْأَحْدَاثِ، وشُرَّاب النَّبِيذِ. وَيَسْتَهْزِئُ مِنَ الْحَدِيثِ اسْتِهْزَاءً، لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ. كَذِكْرِهِ كَبِدَ الْحُوتِ، وَقَرْنَ الشَّيْطَانِ، وَذِكْرِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَأَنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ فَسَوَّدَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُبَيِّضَهُ الْمُسْلِمُونَ حِينَ أَسْلَمُوا. وَيَذْكُرُ الصَّحِيفَةَ -الَّتِي كَانَ فِيهَا المُنْزَلُ فِي الرَّضَاعِ- تَحْتَ سَرِيرِ عَائِشَةَ فَأَكَلَتْهَا الشَّاةُ. وَأَشْيَاءَ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَنَادُمِ الدِّيكِ وَالْغُرَابِ، وَدَفْنِ الْهُدْهُدِ أُمَّهُ فِي رَأْسِهِ، وَتَسْبِيحِ الضُّفْدَعِ، وَطَوْقِ الْحَمَامَةِ، وَأَشْبَاهَ هَذَا، مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ -مَعَ هَذَا- مِنْ أَكْذَبِ الْأُمَّةِ وَأَوْضَعِهِمْ لِحَدِيثٍ، وَأَنْصَرِهِمْ لِبَاطِلٍ. وَمَنْ عَلِمَ -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ، قَلَّ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ. وَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَمَّا أَلَّفَ، وَعَمَّا كَتَبَ، لَمْ يَعْمَلِ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ، وَلَمْ يَسْتَفْرِغْ مَجْهُودَهُ فِي تَثْبِيتِ الْبَاطِلِ عِنْدَهُ، وَأَنْشَدَنِي الرِّيَاشَيُّ: وَلَا تَكْتُبْ بِخَطِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ ... يَسُرُّكَ فِي الْقِيَامَةِ3 أَنْ تَرَاهُ مِنْ آرَاءِ أَصْحَابِ الْكَلَامِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ، مَنْ يَرَى الْخَمْرَ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا، عَلَى جِهَةِ التَّأْدِيب، كَمَا قَالَ:   1 وَفِي نُسْخَة: تخوَّن. 2 وَفِي رِوَايَة: للمضاحيك. 3 وَفِي نُسْخَة فِي "العواقب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 1. وَكَمَا قَالَ: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} 2. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى نِكَاحَ تِسْعٍ مِنَ الْحَرَائِرِ جَائِزٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 3. قَالُوا: فَهَذَا تِسْعٌ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَلَمْ يُطْلِقِ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا مَا أَطْلَقَ لَنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ حَلَالًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ لَحْمَهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 4 فَلَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا غَيْرَ لَحْمِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ، وَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا حَتَّى يَتَحَرَّى. فَبِمَنْ يُتَعَلَّقُ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ وَمَنْ يُتَّبَعُ وَهَذِهِ نِحَلُهُمْ؟ وَهَكَذَا اخْتِلَافُهُمْ؟. وَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي تَخَلُّصِ الْحَقِّ مِنْ بَيْنِهِمْ؟ وَهُمْ -مَعَ تَطَاوُلِ الْأَيَّامِ بِهِمْ، وَمَرِّ الدُّهُورِ- عَلَى الْمُقَايَسَاتِ وَالْمُنَاظَرَاتِ؟ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا اخْتِلَافًا، وَمِنَ الْحَقِّ إِلَّا بُعدًا؟ وَكَانَ أيو يُوسُفَ يَقُولُ: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كُذِّبَ. رِوَايَاتٌ لِابْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ كُنْتُ فِي عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ وَتَطَلُّبِ الْآدَابِ، أُحِبُّ أَنْ أَتَعَلَّقَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ بِسَبَبٍ، وَأَن أضْرب فِيهِ بِسَهْم.   1 الْآيَة 29 من سُورَة الْإِسْرَاء. 2 الْآيَة 34 من سُورَة النِّسَاء. 3 الْآيَة 3 من سُورَة النِّسَاء. 4 الْآيَة 3 من سُورَة الْمَائِدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فَرُبَّمَا حَضَرْتُ بَعْضَ مَجَالِسِهِمْ، وَأَنَا مُغْتَرٌّ بِهِمْ طَامِعٌ أَنْ أَصْدُرَ عَنْهُ بِفَائِدَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى خَيْرٍ، أَوْ تَهْدِي لِرُشْدٍ. فَأَرَى مِنْ جُرْأَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقِلَّةِ تُوَقِّيهِمْ، وَحَمْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْعَظَائِمِ لِطَرْدِ1 الْقِيَاسِ أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ انْقِطَاعٌ -مَا أَرْجِعُ مَعَهُ خَاسِرًا نَادِمًا. وَقَدْ ذَكَرَهُمْ مُحَمَّدُ2 بْنُ بَشِيرٍ الشَّاعِرُ، وَقَدْ أَصَابَ فِي وَصْفِهِمْ، حِينَ يَقُولُ: دَعْ مَنْ يَقُولُ3 الْكَلَامَ نَاحِيَةً ... فَمَا يَقُولُ الْكَلَامَ ذُو وَرَعِ كُلُّ فَرِيقٍ بَدْوُهُمْ حَسَنٌ ... ثُمَّ يَصِيرُونَ بَعْدُ لِلشُّنَعِ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ ... لَمْ يَكْ فِي قَوْلِهِ بِمُنْقَطِعِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ4 بْنُ مُصْعَبٍ: ترى الْمَرْء بعجبه أَنْ يَقُولَا ... وَأَسْلَمُ لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَقُولَا فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ فُضُولَ الْكَلَامِ ... فَإِنَّ لِكُلِّ كَلَامٍ فُضُولًا وَلَا تَصْحَبَنَّ أَخَا بِدْعَةٍ ... وَلَا تَسْمَعَنَّ لَهُ الدَّهْرَ قِيلًا فَإِنَّ مَقَالَتَهُمْ كَالظِّلَالِ ... يُوشِكُ أَفْيَاؤُهَا أَنْ تَزُولَا وَقَدْ أَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ ... وَكَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهَا دَلِيلًا وَأَوْضَحَ لِلْمُسْلِمِينَ السَّبِيلَ ... فَلَا تَتْبَعَنَّ5 سِوَاهَا سَبِيلا   1 لَعَلَّ الْأَصَح: لاطراد الْقيَاس. 2 مُحَمَّد بن بشير "الشَّاعِر": هُوَ قَاض أندلسي من أهل باجة كَانَ كَاتبا لأحد الوزراء وَحج وَلَقي مَالك بن أنس وَلما عَاد إِلَى الأندلس أصبح قَاضِيا وَبَقِي كَذَلِك إِلَى وَفَاته عَام 198هـ. 3 وَفِي نُسْخَة "يَقُود" فِي الموضوعين. 4 عبد الله بن مُصعب بن ثَابت بن عبد الله بن الزبير ولد بِالْمَدِينَةِ عَام 111هـ، وَولي الْيَمَامَة أَيَّام الْمهْدي العباسي ثمَّ الْهَادِي وَاعْتَزل بِبَغْدَاد فألزمه الرشيد بِولَايَة الْمَدِينَة ثمَّ أضيف إِلَيْهَا الْيمن، توفّي بالرقة عَام 184هـ. 5 وَفِي نُسْخَة: "تبغينّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أنَاس بِهِمْ رِيبَةٌ فِي الصُّدُورِ ... وَيُخْفُونَ فِي الْجَوْفِ مِنْهَا غَلِيلًا إِذَا أَحْدَثُوا بِدْعَةً فِي الْقُرْآنِ ... تَعَادَوْا1 عَلَيْهَا فَكَانُوا عُدُولًا فخلِّهم وَالَّتِي يَهْضِبُونَ2 ... وَوَلِّهِمْ مِنْكَ صَمْتًا طَوِيلًا حَيْرَتُهُمْ وَعَدَمُ اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَى رَأْيٍ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ بِقَوْلِ عُمَرَ3 بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا4 لِلْخُصُومَاتِ، أَكْثَرَ التَّنَقُّلِ". وَكُنْتُ أَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَقَّ يُدْرَكُ بِالْمُقَايَسَاتِ وَالنَّظَرِ، وَيَلْزَمُ مَنْ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ أَنْ يَنْقَادَ لَهَا. ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ، فِي طُولِ تَنَاظُرِهِمْ، وَإِلْزَامِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا الْحُجَّةَ، فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَرَّاتٍ، لَا يَزُولُونَ عَنْهَا، وَلَا يَنْتَقِلُونَ. وَسَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ رَجُلًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْعَالَمِ، هَلْ لَهُ نِهَايَةٌ وَحَدٌّ؟ فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: النِّهَايَةُ -عِنْدِي- عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا نِهَايَةُ الزَّمَانِ، مِنْ وَقْتِ كَذَا إِلَى وَقْتِ كَذَا، وَالْآخَرُ نِهَايَةُ الْأَطْرَافِ وَالْجَوَانِبِ، وَهُوَ مُتَنَاهٍ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَأَخْبِرْنِي عَنَ الصَّانِع عز وَجل، هَل مُتَنَاهٍ؟ فَقَالَ: مُحَالٌ. قَالَ: فَتَزْعُمُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ الْمُتَنَاهِي، مَنْ لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ الشَّيْءَ، مَنْ لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَمَا جَازَ أَنْ يَخْلُقَ الْمُتَنَاهِي من لَيْسَ بمتناه؟   1 وَفِي نُسْخَة: تغاذوا. 2 يهضبون: من هضب بِالْحَدِيثِ: إِذا أَفَاضَ فِيهِ. الْقَامُوس. 3 عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان أَمِير الْمُؤمنِينَ، وخامس الْخُلَفَاء الرَّاشِدين. الْعَالم الْحَافِظ الزَّاهِد الْوَرع الْعَادِل، فضائله كَثِيرَة ولي الْخلَافَة سنة 99 وَمَات سنة 101هـ. 4 أَي: هدفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قَالَ: لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هُوَ عَدَمٌ وَإِبْطَالٌ. قَالَ لَهُ: وَمَا لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ، عَدَمٌ وَإِبْطَالٌ. قَالَ: "لَا شَيْءَ" هُوَ نَفْيٌ. قَالَ لَهُ: وَمَا لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ نَفْيٌ. قَالَ: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ إِلَّا جَهْمًا وَأَصْحَابُهُ. قَالَ: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّهُ مُتَنَاهٍ. قَالَ: وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ مُتَنَاهٍ، مُحْدَثًا مَصْنُوعًا عَاجِزًا؟ قَالَ: وَوَجَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ مُحْدَثًا مصنوعا عَاجِزا. لَمَّا أَنْ وَجَدْتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَصْنُوعَةً، عَلِمْتَ أَنَّ صَانِعَهَا شَيْءٌ؟ قَالَ: وَلَمَّا أَنْ وَجَدْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَنَاهِيَةً، عَلِمْتُ أَنَّ صَانِعَهَا مُتَنَاهٍ. قَالَ: لَوْ كَانَ مُتَنَاهِيًا، كَانَ مُحْدَثًا، إِذْ وَجَدْتُ كُلَّ مُتَنَاهٍ مُحْدَثًا. قَالَ: وَلَوْ كَانَ شَيْئًا، كَانَ مُحْدَثًا عَاجِزًا، إِذْ وَجَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ مُحْدَثًا عَاجِزًا وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟ فَأَمْسَكَ. قَالَ: وَسَأَلَ آخرُ آخرَ عَنِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ: أَتَقُولُ إِنَّ سَمِيعًا فِي مَعْنَى عَلِيمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} 1 هَلْ سَمِعَهُ2 حِينَ قَالُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ سَمِعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ: فَأَرَى فِي "سَمِيعٍ" مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى "عليم" فَلم يجب.   1 الْآيَة 181 من سُورَة آل عمرَان. 2 وَفِي نُسْخَة: سمعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قُلْتُ لَهُ وَلِلْأَوَّلِ: قَدْ لَزِمَتْكُمَا الْحُجَّةُ، فَلِمَ لَا تَنْتَقِلَانِ عَمَّا تَعْتَقِدَانِ إِلَى مَا أَلْزَمَتْكُمَاهُ الْحُجَّةُ. فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، لَانْتَقَلْنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ، وَكَفَى بِذَلِكَ حَيْرَةً. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ وَالْحُجَّةِ، وَكُنْتَ لَا تَنْقَادُ لَهُمَا بِالِاتِّبَاعِ، كَمَا تَنْقَادُ بِالْانْقِطَاعِ، فَمَا تَصْنَعُ بِهِمَا؟ التَّقْلِيدُ أَرْبَحُ لَكَ وَالْمُقَامُ عَلَى أَثَرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْلَى بِكَ. اخْتِلَافُهُمْ فِي ثُبُوتِ الْخَبَرِ: قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخَبَرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَثْبُتُ الْخَبَرُ بِالْوَاحِدِ1 الصَّادِقِ. وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِاثْنَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِشْهَادِ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ. وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} 2. قَالُوا: وَأَقَلُّ مَا تكون الطَّائِفَة، ثَلَاثَة. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَغَلِطُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ تَكُونُ وَاحِدًا، وَاثْنَيْنِ، وَثَلَاثَةً، وَأَكْثَرَ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ، بِمَعْنَى الْقِطْعَةِ، وَالْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ قِطْعَةً مِنَ الْقَوْمِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3 يُرِيدُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ. وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِأَرْبَعَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} 4.   1 أَي بِرِوَايَة الْوَاحِد. 2 الْآيَة 122 من سُورَة التَّوْبَة. 3 الْآيَة 2 من سُورَة النُّور. 4 الْآيَة 13 من سُورَة النُّور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِاثْنَيْ عَشَرَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} 1. وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِعِشْرِينَ رَجُلًا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 2. وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِسَبْعِينَ رَجُلًا، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} 3. فَجَعَلُوا كُلَّ عَدَدٍ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ، حُجَّةً فِي صِحَّةِ الْخَبَرِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْخَبَرَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِثَمَانِيَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَهُمُ الْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} 4 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا ثَمَانِيَةً، حَتَّى يَكُونَ الْكَلْبُ ثَامِنَهُمْ أَوْ قَالَ: لَا يَثْبُتُ الْخَبَرُ إِلَّا بِتِسْعَةَ عَشَرَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي خَزَنَةِ جَهَنَّمَ -حِينَ ذَكَرَهَا- فَقَالَ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} 5 لَكَانَ أَيْضًا قَوْلًا وَعَدَدًا مُسْتَخْرَجًا مِنَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ الْاخْتِيَارَاتُ، إِنَّمَا اخْتَلَفَتْ هَذَا الِاخْتِلَافَ، لِاخْتِلَافِ عُقُولِ النَّاسِ، وَكُلٌّ يَخْتَارُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ. وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً رَسُولًا وَاحِدًا وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اثْنَيْنِ وَلَا أَرْبَعَةً، وَلَا عِشْرِينَ وَلَا سَبْعِينَ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لَدَلَّهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّادِقَ الْعَدْلَ، صَادِقُ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ الْمُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى صَادِقُ الْخَبَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُنَا لِهَذَا الْبَابِ، فَنُطِيلُ فِيهِ.   1 الْآيَة 12 من سُورَة الْمَائِدَة. 2 الْآيَة 65 من سُورَة الْأَنْفَال. 3 الْآيَة 155 من سُورَة الْأَعْرَاف. 4 الْآيَة 22 من سُورَة الْكَهْف. 5 الْآيَة 29 من سُورَة المدثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 تَفْسِيرُهُمُ الْقُرْآنَ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَفَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَعْجَبِ تَفْسِيرٍ، يُرِيدُونَ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَيَحْمِلُوا التَّأْوِيلَ عَلَى نِحَلِهِمْ. فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 1 أَيْ عِلْمُهُ، وَجَاءُوا عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ لَا يُعْرَفُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّاعِرِ. وَلَا يُكَرْسِئُ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوق. والكرسي غير مَهْمُوز، و"يكرسئ" مَهْمُوزٌ، يَسْتَوْحِشُونَ أَنْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ تَعَالَى كُرْسِيًّا، أَوْ سَرِيرًا، وَيَجْعَلُونَ الْعَرْشَ شَيْئًا آخَرَ. وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ الْعَرْشَ إِلَّا السَّرِيرَ، وَمَا عُرِشَ مِنَ السُّقُوفِ وَالْآبَارِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} 2 أَيْ: عَلَى السَّرِيرِ. وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ3 يَقُولُ: مَجِّدُوا اللَّهَ وَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ ... وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا شَرْجَعًا4 مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ ... تَرَى دُونَهُ الْمَلَائِكَ صُوَرًا5 وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} 6، إِنَّهَا هَمَّتْ بِالْفَاحِشَةِ، وَهَمَّ هُوَ بِالْفِرَارِ مِنْهَا أَوِ الضَّرْبِ لَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى   1 الْآيَة 255 من سُورَة الْبَقَرَة. 2 الْآيَة 100 من سُورَة يُوسُف. 3 أُميَّة بن أبي الصَّلْت شَاعِر جاهلي حَكِيم من أهل الطَّائِف، رغب بِالْإِسْلَامِ وَأثْنى على رَسُول الله وَلكنه لم يسلم لما علم بمقتل أهل بدر وَفِيهِمْ ابْنا خَال لَهُ.. وَتُوفِّي عَام 5هـ. 4 شرجعًا: أَي طَويلا. 5 صورًا: جَمْعُ أَصُورٍ، وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ. 6 الْآيَة 24 من سُورَة يُوسُف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يَقُول: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} 1 أَفَتُرَاهُ أَرَادَ الْفِرَارَ مِنْهَا أَوِ الضَّرْبَ لَهَا، فَلَمَّا رَأَى الْبُرْهَانَ أَقَامَ عِنْدَهَا!. وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ تَقُولَ: "هَمَمْتُ بِفُلَانٍ، وَهَمَّ بِي" وَأَنْتَ تُرِيدُ اخْتِلَافَ الْهَمَّيْنِ حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تَهُمُّ بِإِهَانَتِهِ، وَيَهُمُّ هُوَ بِإِكْرَامِكَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا الْكَلَامُ إِذَا اتَّفَقَ الْهَمَّانِ. وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؛ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} 2 إِنَّهُ أُتْخِمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ. فَذَهَبُوا إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: "غَوَى الْفَصِيلُ يغوَى غَوًى" إِذَا أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ، حَتَّى يَبْشَمَ، وَذَلِكَ "غَوَى يَغْوِي غَيًّا". وَهُوَ مِنَ الْبَشَمِ "غَوِيَ يغوَى غَوًى". وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؛ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 3 أَيْ أَلْقَيْنَا فِيهَا. يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ النَّاسِ "ذَرَتْهُ الرِّيحُ". وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَرَأْنَا مِنْ "ذَرَتْهُ الرِّيحُ" لِأَنَّ "ذَرَأْنَا" مَهْمُوز، و"ذرته الرِّيحُ تَذْرُوهُ" غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ نَجْعَلَهُ مِنْ "أَذْرَتْهُ الدَّابَّةُ عَنْ ظَهْرِهَا" أَيْ "أَلْقَتْهُ" لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ "ذَرَأَتْ" تَقْدِيرُ "فَعَلَتْ" بِالْهَمْزِ، وَهَذَا مِنْ "أَذْرَيْتُ" تَقْدِيرُ "أَفْعَلْتُ" بِلَا هَمْزٍ. وَاحْتج بقول المثقب4 الْعَبْدي:   1 الْآيَة 24 من سُورَة يُوسُف. 2 الْآيَة 121 من سُورَة طه. 3 الْآيَة 179 من سُورَة الْأَعْرَاف. 4 المثقب الْعَبْدي "شَاعِر" هُوَ العائذ بن مُحصن بن ثَعْلَبَة شَاعِر جاهلي من أهل الْبَحْرين اتَّصل بِالْملكِ عَمْرو بن هِنْد وَله فِيهِ مدائح، ومدح النُّعْمَان بن الْمُنْذر، وشعره جيد فِيهِ حِكْمَة ورقة توفّي 35ق. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 تَقولُ إِذا دَرَأتُ لَها وَضيني1 ... أَهَذا دِينُهُ2 أَبَداً وَديني وَهَذَا تَصْحِيفٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: تَقُولُ: "إِذَا دَرَأْتُ" أَيْ "دَفَعْتُ" بِالدَّالِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} 3 أَنَّهُ4 ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ اسْتِيحَاشًا مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهُ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، مَعَ عِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ. فَجَعَلُوهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، حِينَ آمَنُوا، فَفَرُّوا إِلَى مِثْلِ مَا اسْتَقْبَحُوا. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَغْضَبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمِهِ حِينَ آمَنُوا؟ وَبِذَلِكَ بُعِثَ، وَبِهِ أُمِرَ؟! وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّ اللَّهِ، إِنْ كَانَ يَغْضَبُ مِنْ إِيْمَانِ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، وَلَا لِقَوْمِهِ؟ وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِي الْمُؤَلَّفِ فِي "مُشْكَلِ الْقُرْآنِ". وَلَمْ يَكُنْ قَصْدِي فِي هَذَا الْكِتَابِ، الْإِخْبَارُ عَنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَأَشْبَاهِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْدُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ جَهْلِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِصَرْفِ الْكِتَابِ إِلَى مَا يَسْتَحْسِنُونَ، وَحَمْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى مَا يَنْتَحِلُونَ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 5 أَيْ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِهِ. وَجَعَلُوا مِنَ "الْخَلَّةِ" بِفَتْحِ الْخَاءِ، اسْتِيحَاشًا مِنْ أَنْ يكون الله تَعَالَى   1 الْوَضِين: بطان عريض منسوج من سيور أَو شعر. 2 دينه: أَي عَادَته. 3 الْآيَة 87 من سُورَة الْأَنْبِيَاء. 4 وَفِي نُسْخَة: أَي. 5 الْآيَة 125 من سُورَة النِّسَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 خَلِيلًا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ زُهَيْرٍ1. وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمَ أَيْ إِنْ أَتَاهُ فَقِيرٌ؛ فَأَيَّةُ فَضِيلَةٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ، لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا، فُقَرَاءٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ وَهَلْ إِبْرَاهِيمُ فِي "خَلِيلِ اللَّهِ" إِلَّا كَمَا قِيلَ "مُوسَى كِلِيمُ الله". و"عِيسَى رَوْحُ اللَّهِ "؟ وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} 2 إِن الْيَد، هَهُنَا النِّعْمَةُ؛ لِقَوْلِ الْعَرَبِ "لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدٌ" أَيْ نِعْمَةٌ وَمَعْرُوفٌ. وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ، هَهُنَا النِّعْمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} 3 مُعَارَضَةً عَمَّا قَالُوهُ فِيهَا4 ثُمَّ قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 5. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ "غُلَّتْ نِعَمُهُمْ، بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" لِأَنَّ النِّعَمَ لَا تُغَلُّ، وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ لَا يُكَنَّى عَنْهُ بِالْيَدَيْنِ، كَمَا يُكَنَّى عَنْهُ بِالْيَدِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ جِنْسَيْنِ مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَيَقُولَ: لِي عِنْدَهُ يَدَانِ. وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهَا. تَفْسِيرُ الرَّوَافِضِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ تَفْسِيرُ الرَّوَافِضِ لِلْقُرْآنِ، وَمَا   1 زُهَيْر: أَي زُهَيْر بن أبي سلمى الْمُزنِيّ من قصيدة لَهُ يمدح فِيهَا هرم بن سِنَان المري. ومطلعها: قف بالديار الَّتِي لم يعفها الْقدَم ... بلَى وَغَيرهَا الْأَرْوَاح والديم 2 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة. 3 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة. 4 أَي: فِي يَد الله، وَفِي نُسْخَة "فِيهِ" أَي "فِي الله". 5 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 يَدعُونَهُ مِنْ عِلْمِ بَاطِنِهِ بِمَا وَقَعَ إِلَيْهِمْ1 مِنَ الْجَفْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَارُونُ2 بْنُ سَعْدٍ الْعِجْلِيُّ وَكَانَ رَأْسَ الزَّيْدِيَّةِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الرَّافِضِينَ تَفَرَّقُوا ... فَكُلُّهُمْ فِي جَعْفَرٍ قَالَ مُنْكَرًا فَطَائِفَةٌ قَالُوا إِمَامٌ وَمِنْهُمْ ... طَوَائِفُ سَمَّتْهُ النَّبِيَّ الْمُطَهَّرَا وَمِنْ عَجَبٍ لَمْ أَقْضِهِ جِلْدُ جَفْرِهِمْ ... بَرِئْتُ إِلَى الرَّحْمَنِ مِمَّنْ تَجَفَّرَا بَرِئْتُ إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ كُلِّ رَافِضٍ ... بَصِيرٍ بِبَابِ الْكُفْرِ فِي الدِّينِ أَعَوَرَا إِذَا كَفَّ أَهْلُ الْحَقِّ عَنْ بِدْعَةٍ مَضَى ... عَلَيْهَا وَإِنْ يَمْضُوا عَلَى الْحَقِّ قَصَّرَا وَلَوْ قَالَ إِنَّ الْفِيلَ ضَبٌّ لَصَدَّقُوا ... وَلَوْ قَالَ زِنْجِيٌّ تَحَوَّلَ أَحَمَرَا وَأَخْلَفَ مِنْ بَوْلِ الْبَعِيرِ فَإِنَّهُ ... إِذَا هُوَ لِلْإِقْبَالِ وُجِّهَ أَدْبَرَا فَقُبِّحَ أَقْوَامٌ رَمَوْهُ بِفِرْيَةٍ ... كَمَا قَالَ فِي عِيسَى الْفِرَى مَنْ تَنَصَّرَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهُوَ جِلْدُ جَفْرٍ، ادَّعُوا أَنَّهُ كَتَبَ فِيهِ لَهُمُ الْإِمَامُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِهِ، وَكُلَّ مَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3 أَنَّهُ الْإِمَامُ، وَوَرِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمَهُ. وَقَوْلُهُمْ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 4 أَنَّهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} 5 أَنه طَلْحَة وَالزُّبَيْر.   1 وَفِي نُسْخَة: عَن. 2 هَارُونُ بْنُ سَعْدٍ الْعِجْلِيُّ: وَكَانَ رَأس الزيدية فِي أَيَّامه. من المتزهدين الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ لَهُ شعر، خرج وَهُوَ شيخ كَبِير مَعَ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْحسن الطَّالِبِيُّ، فولاه إِبْرَاهِيم الْقِتَال بواسط وَاسْتَعْملهُ عَلَيْهَا، وَاجْتمعَ عَلَيْهِ خلق كثير وَقَاتل جيوش الْمَنْصُور وَثَبت إِلَى أَن توفّي بِالْبَصْرَةِ عَام 145هـ. 3 الْآيَة 16 من سُورَة النَّحْل. 4 الْآيَة 67 من سُورَة الْبَقَرَة. 5 الْآيَة 73 من سُورَة الْبَقَرَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وَقَوْلهمْ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: إِنَّهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ: إِنَّهُمَا مُعَاوِيَةُ1 وَعَمْرُو2 بْنُ الْعَاصِ، مَعَ عَجَائِبَ أَرْغَبُ3 عَنْ ذِكْرِهَا، وَيَرْغَبُ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابُنَا هَذَا عَنِ اسْتِمَاعِهِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ يَقُولُ: مَا أَشْبَهُ تَفْسِيرِ الرَّافِضَةِ لِلْقُرْآنِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِلشِّعْرِ، فَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا سَمِعْتُ بِأَكْذَبَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: بَيْتُ زُرَارَةَ مُحْتَبٍ بِفِنَائِهِ ... وَمُجَاشِعٌ وَأَبُو الْفَوَارِسِ نَهْشَلُ أَنَّهُ فِي رِجَالٍ مِنْهُمْ، قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهِمْ4! قَالَ: الْبَيْتُ بَيْتُ اللَّهِ، وَزُرَارَةُ: الْحَجَرُ. قِيلَ: فَمُجَاشِعُ؟ قَالَ: زَمْزَمُ، جَشِعَتْ بِالْمَاءِ. قِيلَ: فَأَبُو الْفَوَارِسِ؟ قَالَ: أَبُو قُبَيْسٍ. قِيلَ لَهُ: فَنَهْشَلُ؟ قَالَ: نَهْشَلُ أَشَدُّهُ، وَفَكَّرَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: نَهْشَلُ مِصْبَاحُ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ طَوِيلٌ أَسْوَدُ، فَذَلِكَ نَهْشَلُ. وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبِدَعِ افْتِرَاقًا وَنِحَلًا. بَعْضُ تَفَاسِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ: فَمِنْهُمْ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ "الْبَيَانِيَّةُ" يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ "بَيَانٌ" قَالَ لَهُمْ: إِلَيَّ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ قَالَ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} 5 وَهُمْ أول من قَالَ بِخلق الْقُرْآن.   1 مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، أسلم زمن الْفَتْح، ولي الشَّام عشْرين سنة وَملك عشْرين سنة، وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلا حسن السياسة، وَكَانَ ذَا دهاء ورأي، توفّي فِي رَجَب سنة 60هـ. 2 عَمْرو بن الْعَاصِ: ولد عَام 50ق. هـ. فاتح مصر وَأحد عُظَمَاء الْعَرَب ودهاتهم وأولي الرَّأْي والحزم والمكيدة فيهم، كَانَ من أُمَرَاء الجيوش فِي الْجِهَاد بِالشَّام فِي زمن عمر، وَولي زمن مُعَاوِيَة على مصر. وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ 43هـ. 3 وَفِي نُسْخَة: ترغب. 4 وَلَعَلَّ الصَّوَاب "فِيهِ". 5 الْآيَة 138 من سُورَة آل عمرَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وَمِنْهُم الْمَنْصُورِيَّةُ 1 أَصْحَابُ أَبِي مَنْصُورٍ الْكِسَفِ وَكَانَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: فيَّ نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} 2. وَمِنْهُمُ الْخَنَّاقُونَ وَالشَّدَاخُونَ: وَمِنْهُمُ الْغُرَابِيَّةُ: وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرُوا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ. فَغَلِطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ بُعِثَ إِلَى عَلِيٍّ لِشَبَهِهِ بِهِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ أَحَدًا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ لِبِشْرٍ غَيْرَهُمْ. فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ3 ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ لَعَلِيٍّ، فَأَحْرَقَ عَلِيٌّ أَصْحَابَهُ بِالنَّارِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا أَجَجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ فَنْبَرَا وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُمْ. فَإِن الْمُخْتَار4 ابْن أَبِي عُبَيْدٍ، ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ وَقَالَ: إِن جِبْرِيل5   1 أَصْحَاب أبي مَنْصُور الْعجلِيّ، وَقد زعم هَذَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الكسف السَّاقِط من السَّمَاء، وَرُبمَا قَالَ هُوَ الله تَعَالَى، وَزعم أَن الرُّسُل لَا تَنْقَطِع، وَزعم أَن الْجنَّة رجل أمرنَا الله تَعَالَى بموالاته، وَالنَّار رجل أمرنَا بمعاداته وَتَأَول الْفَرَائِض بِرِجَال أمرنَا بِمُوَالَاتِهِمْ ... إِلَخ.. من الضلال والمنكرات. 2 الْآيَة 44 من سُورَة الطّور. 3 عبد الله بن سبأ: رَأس الطَّائِفَة السبئية وَكَانَت تَقول بألوهية عَليّ. أَصله من الْيمن، قيل كَانَ يَهُودِيّا أظهر الْإِسْلَام، رَحل إِلَى الْحجاز فالبصرة فالكوفة فدمشق فَأخْرجهُ أَهلهَا، فَانْصَرف إِلَى مصر وجهر ببدعته. قَالَ ابْن حجر: هُوَ من غلاة الزَّنَادِقَة أَحسب أَن عليًّا حرقه بالنَّار توفّي 40هـ. 4 الْمُخْتَار ابْن أبي عبيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ ولد عَام 1هـ فِي الطَّائِف وَأحد الشجعان الأفذاذ وَمن زعماء الثائرين على بني أُميَّة، وَقد انتقم من قاتلي الْحُسَيْن بن عَليّ فَقتل مُعظم رؤوسهم وَقيل ادّعى النُّبُوَّة وَقتل آخر الْأَمر عَام 67هـ. 5 وَفِي نُسْخَة: جِبْرِيل يأتيني، وَمِيكَائِيل، فَصدقهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَمِيكَائِيل يَأْتِيَانِ إِلَى جِهَتِهِ، فَصَدَّقَهُ قَوْمٌ واتبعوه، وهم الكيسانية1.   1 الكيسانية: أَصْحَاب كيسَان مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب، يَزْعمُونَ لَهُ الْعلم بالأسرار المقتبسة من مَوْلَاهُ، وَحَملهمْ ذَلِك على تَأْوِيل الْأَركان الشَّرْعِيَّة وَالْقَوْل بالتناسخ والحلول وَالرَّجْعَة بعد الْمَوْت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ذكر أَصْحَاب الحَدِيث: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمُ الْتَمَسُوا الْحَقَّ مِنْ وِجْهَتِهِ، وَتَتَبَّعُوهُ مِنْ مَظَانِّهِ، وَتَقَرَّبُوا إِلَى1 اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِمْ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَلَبِهِمْ لِآثَارِهِ وَأَخْبَارِهِ، بَرًّا وَبَحْرًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا. يَرْحَلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ رَاجِلًا مُقَوِّيًا2 فِي طَلَبِ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوِ السُّنَّةِ الْوَاحِدَةِ، حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنَ النَّاقِلِ لَهَا مُشَافَهَةً. ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا فِي التَّنْقِيرِ عَنِ الْأَخْبَارِ وَالْبَحْثِ لَهَا، حَتَّى فَهِمُوا صَحِيحَهَا وَسَقِيمَهَا، وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوخَهَا، وَعَرَفُوا مَنْ خَالَفَهَا مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى الرَّأْيِ. فَنَبَهُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَجَمَ3 الْحَقُّ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَافِيًا، وَبَسَقَ4 بَعْدَ أَنْ كَانَ دَارِسًا5، وَاجْتَمَعَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا، وَانْقَادَ لِلسُّنَنِ مَنْ كَانَ عَنْهَا مُعْرِضًا، وَتَنَبَّهَ عَلَيْهَا6 مَنْ كَانَ عَنْهَا غَافِلًا، وَحُكِمَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَإِنْ7 كَانَ فِيهِ خِلَافٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.   1 وَفِي نُسْخَة: من الله. 2 أَي: نازلًا بالقفر من الأَرْض. 3 نجم: أَي ظهر. 4 بسق: أَي علا وارتفع. 5 دارسًا: مطموسًا لَا أثر لَهُ. 6 لَعَلَّ الْأَصَح: وتنبه لَهَا. 7 وَفِي نُسْخَة:؛ بِحَذْف "وَإِن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 تَمْيِيزُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّحْذِيرِ فِيهَا: وَقَدْ يَعِيبُهُمُ الطَّاعِنُونَ بِحَمْلِهِمُ الضَّعِيفَ، وَطَلَبِهِمُ الْغَرَائِبَ، وَفِي الْغَرِيبِ الدَّاءُ. وَلَمْ يَحْمِلُوا الضَّعِيفَ وَالْغَرِيبَ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُمَا حَقًّا، بَلْ جَمَعُوا الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَالصَّحِيحَ وَالسَّقِيمَ، لِيُمَيِّزُوا بَيْنَهُمَا، وَيَدُلُّوا عَلَيْهِمَا، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَالُوا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: "شُرْبُ الْمَاءِ عَلَى الرِّيقِ، يَعْقِدُ الشَّحْمَ"1 هُوَ مَوْضُوعٌ، وَضَعَهُ عَاصِمٌ الْكُوزِيُّ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ كَانَ يَبْصُقُ فِي الدَّوَاةِ، وَيَكْتُبُ مِنْهَا". مَوْضُوعٌ، وَضَعَهُ عَاصِمٌ الْكُوزِيُّ. قَالُوا: وَحَدِيثُ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ يُجِزْ طَلَاقَ الْمَرِيضِ" مَوْضُوعٌ وَضَعَهُ سَهْلٌ السَّرَّاجُ. قَالُوا: وَسَهْلٌ كَانَ2 يُرْوَى أَنَّهُ رَأَى الْحَسَنَ يُصَلِّي بَيْنَ سُطُورِ3 الْقُبُورِ. وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْحَسَنَ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْقُبُورِ"4. قَالُوا: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَزَالُ الرَّجُلُ رَاكِبًا مَا دَامَ مُنْتَعِلًا" بَاطِلٌ، وَضَعَهُ أَيُّوبُ بْنُ خُوطٍ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَارُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ بِالْحِرَابِ" هُوَ بَاطِلٌ وَضَعَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ زِيَادٍ.   1 وَفِي إِسْنَاده: عَاصِم بن سُلَيْمَان، وَضاع. "الْفَوَائِد الْمَجْمُوعَة فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة للشوكاني ص 186 برقم 73". 2 وَفِي نُسْخَة: وَسَهل روى أَن الْحسن كَانَ يُصَلِّي. 3 سطور الْقُبُور: أَي صفوفها. 4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: صَلَاة 141 وَابْن ماجة: مَسَاجِد 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَحَدِيث بن أَبِي أَوْفَى "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ لِحْيَتَهُ فِي الصَّلَاةِ" وَضَعَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ زِيَادٍ. وَحَدِيثُ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "نَهَى عَنِ عَشْرِ كُنًى" مَوْضُوعٌ وَضَعَهُ أَبُو عِصْمَةَ، قَاضِي مَرْوَ. وَقَالُوا فِي أَحَادِيثَ مَوْجُودَةٍ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ. مِنْهَا: "مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ، خِفَّةُ عَارِضَيْهِ". وَمِنْهَا: "سَمُّوهُمْ بِأَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِمْ" وَكَنُّوهُمْ بِأَحَبِّ الْكُنَى إِلَيْهِمْ". وَمِنْهَا: "خَيْرُ تجاراتكم1 الْبَزُّ، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمُ الْخَرْزُ". وَمِنْهَا: "لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ، مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ". وَمِنْهَا: "النَّاسُ أَكْفَاءٌ إِلَّا حَائِكًا، أَوْ حَجَّامًا" مَعَ حَدِيثٍ كَثِيرٍ، لَا يُحَاطُ بِهِ2، قَدْ رَوُوهُ، وَأَبْطَلُوهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي أَحَادِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ كَذَا، فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ كَذَا فَلَهُ كَذَا" أَظُنُّ الزَّنَادِقَةَ، وَضَعَتْهُ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يُشَنَّعُ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنْ عَرَقِ الْخَيْلِ، وَزَغَبِ الصَّدْرِ، وَقَفَصِ الذَّهَبِ، وَعِيَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، هِيَ كُلُّهَا بَاطِلٌ، لَا طُرُقَ لَهَا، وَلَا رُوَاةَ، وَلَا نَشُكُّ فِي وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ لَهَا. تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُشْكِلَةِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، مِثْلَ: "قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَين أصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن"3.   1 وَفِي نُسْخَة: تجارتكم. 2 وَفِي نُسْخَة: لَا نحيط. 3 تقدم ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 و"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ"1 وَ"كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين" "وَيحمل2 اللَّهُ الْأَرْضَ عَلَى أُصْبُعٍ وَيَجْعَلُ كَذَا عَلَى أُصْبُعٍ"3. وَ"لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِنَّهَا مِنْ نفَس الرَّحْمَنِ"4، وَ"كَثَافَةُ جِلْدِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، بِذِرَاعِ الْجَبَّارِ"5. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَخَارِجُ، سَنُخْبِرُ بِهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرُبَّمَا نَسِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ قَدْ حَدَّثَ بِهِ، وَحُفِظَ عَنْهُ وَيُذَاكَرُ بِهِ، فَلَا يَعَرِفُهُ، وَيُخْبَرُ بِأَنَّهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ، فَيَرْوِيهِ عَمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُ، ضَنًا بِالْحَدِيثِ الْجَيِّدِ، وَرَغْبَةً فِي السُّنَّةِ، كَرِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ"6. قَالَ رَبِيعَةُ: ثُمَّ ذَاكَرْتُ سُهَيْلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَحْفَظْهُ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، يَرْوِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَرِوَايَةِ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدِيثَيْنِ: أَحدهمَا: عَن بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حدّثنَاهُ مُحَمَّد بن7 هَارُون   1 تقدم ص54. 2 وَفِي نُسْخَة: وَيجْعَل. 3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "إِن الله يمسك السَّمَوَات على أصْبع" فِي البُخَارِيّ: تَوْحِيد 19 و26 و36، وَمُسلم: المُنَافِقُونَ 19 و21، وَالتِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة 39/ 2. 4 أخرجه أَحْمد: 2/ 250 و268 و409 و437، وَالتِّرْمِذِيّ: فتن 65، وَابْن ماجة: أدب 29. 5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "وكثافة جلده اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا" من مُسْند أَحْمد 2/ 334 و537. 6 أخرجه أَبُو دَاوُد: أقضية 21، وَالتِّرْمِذِيّ: أَحْكَام 13، وَابْن ماجة: أَحْكَام 31، والموطأ: أقضية 5 و6 و7، وَأحمد 3/ 305 و5/ 285. 7 مُحَمَّد بن هَارُون: هُوَ أَبُو عِيسَى الْوراق باحث معتزلي من أهل بَغْدَاد، ووفاته فِيهَا عَام 247هـ. لَهُ تصانيف مِنْهَا: "المقالات فِي الإمامية"، وَكتاب "الْمجَالِس" نقل عَنهُ المَسْعُودِيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قَالَ: نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: نَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة، عَن بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا، وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} 1 قَالَ: تَدُورُ دَوْرًا. وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} 2 قَالَ: الْحُصُونُ. فَسُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْهُمَا، فَلَمْ يَعْرِفْهُمَا، وَحَدَّثَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِهِمَا عَنْهُمَا، عَنْ نَفْسِهِ, وَرَوَى ابْنُ3 عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ4 دِينَارٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ الْمُكْرَهِ شَيْئًا فَسَأَلَ عَنْهُ ابْنَ عُيَيْنَةَ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ، ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ بَعْدُ عَن بن عُلَيَّةَ عَنْ نَفْسِهِ. التَّنْبِيهُ إِلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَانَ مُعْتَمِرُ بْنُ5 سُلَيْمَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُنْقِذٌ عَنِّي، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "وَيْحُ" كَلِمَةُ رَحْمَةٍ. وَقَدْ نَبَّهُوا عَلَى الطُّرُقِ الضِّعَافِ، كَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ6 سَعِيدٍ، عَن   1 الْآيَة 9 من سُورَة الطّور. 2 الْآيَة 26 من سُورَة الْأَحْزَاب. 3 ابْن علية: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مقسم الْأَسدي بِالْوَلَاءِ، أَبُو بشر من أكَابِر حفاظ الحَدِيث كُوفِي الأَصْل، ولد عَام 110 هـ تَاجر، كَانَ حجَّة فِي الحَدِيث ثِقَة مَأْمُونا وَتُوفِّي بِبَغْدَاد فِي عَام 193هـ. 4 عَمْرو بن دِينَار بن شُعَيْب الْبَصْرِيّ أَبُو يحيى الْأَعْوَر قهرمان آل الزبير، لَيْسَ بِثِقَة "تَهْذِيب التَّهْذِيب" "8/ 30" "الْخُلَاصَة 345". 5 مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بن طرخان "من موَالِي بني مرّة" مُحدث الْبَصْرَة فِي عصره. انْتقل إِلَيْهَا من الْيمن. ولد عَام 106هـ وَكَانَ حَافِظًا ثِقَة، حدث عَنهُ كَثِيرُونَ وَتُوفِّي عَام 187هـ. 6 حصل تَصْحِيف فِي الِاسْم، وَالصَّحِيح عَمْرو بن شُعَيْب، وَهَذِه مَجْمُوعَة أَحَادِيث مَشْهُورَة تروى بِهَذَا الْإِسْنَاد، وفيهَا إِشْكَال مَعْرُوف، أما عَمْرو بن سعيد بن أُميَّة بن عبد شمس الْأمَوِي فَلَا يجوز نِسْبَة هَذَا إِلَيْهِ، لِأَن جده الْعَاصِ قتل كَافِرًا ببدر، وَأما أَبوهُ سعيد بن الْعَاصِ فقد كَانَ تسع سِنِين عِنْد وَفَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مُحَمَّد بدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 أَبِيه، عَنْ جَدِّهِ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ كِتَابٍ. وَكَانَ مُغِيرَةُ، لَا يَعْبَأُ بِحَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، وَلَا بِحَدِيثِ خِلَاسٍ، وَلَا بِصَحِيفَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو1. وَقَالَ مُغِيرَةُ: كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو صَحِيفَةٌ، تُسَمَّى الصَّادِقَةَ مَا تَسُرُّنِي أَنَّهَا لِي بِفِلْسَيْنِ. وَقَالَ: حَدِيثُ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَلِيٍّ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ عَنْهُ. وَقَالَ شُعْبَةُ: لأنْ أَزْنِي كَذَا وَكَذَا زَنْيَةً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ أَبَانَ بْنِ أبي عَيَّاش2.   1 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ السَّهْمِي، بَينه وَبَين أَبِيه إِحْدَى عشرَة سنة كَانَ يلوم أَبَاهُ على الْقِتَال فِي الْفِتْنَة بأدب وتؤدة وَتُوفِّي سنة 65هـ روى كثيرا من الْأَحَادِيث. 2 ورد فِي الْأَسْرَار المرفوعة فِي الْأَخْبَار الْمَوْضُوعَة للعلامة نور الدَّين عَليّ بن مُحَمَّد بن سُلْطَان الْمَشْهُور بالملا عَليّ الْقَارِي، تَحْقِيق الدكتور مُحَمَّد لطفي الصّباغ ص410 ط1971م - 1391هـ "مؤسسة الرسَالَة" مَا يَلِي: وَقد حكى السُّيُوطِيّ عَن ابْن الْجَوْزِيّ أَن من وَقع فِي حَدِيثه الْمَوْضُوع وَالْكذب وَالْقلب أَنْوَاع: - وَمِنْهُم: من غلب عَلَيْهِم الزّهْد فَغَفَلَ عَن الْحِفْظ أَو ضَاعَت كتبه فَحدث من حفظه فغلط فِي نَقله. - وَمِنْهُم: قمم ثِقَات، لَكِن اخْتلطت عُقُولهمْ أَوَاخِر أعمارهم. - وَمِنْهُم: من روى الْخَطَأ سَهوا، فَلَمَّا رأى الصَّوَاب، وأيقن بِهِ لم يرجع أَنَفَة أَن ينسبوه إِلَى الْغَلَط. - وَمِنْهُم: زنادقة وضعُوا قصدا إِلَى إِفْسَاد الشَّرِيعَة، وإيقاع الشَّك والتلاعب بِالدّينِ، وَقد كَانَ بعض الزَّنَادِقَة يتغفل الشَّيْخ فيدس فِي كِتَابه مَا لَيْسَ من حَدِيثه. - وَمِنْهُم: من يضع لنصرة مذْهبه. - وَمِنْهُم: من أجَاز وضع الْأَسَانِيد لكَلَام حسن. - وَمِنْهُم: من قصد التَّقَرُّب إِلَى السُّلْطَان. - وَمِنْهُم: الْقصاص لأَنهم يُرِيدُونَ أَحَادِيث ترقق وتنفق. وَمن الْقَوَاعِد الْكُلية أَن نقل الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة والمسائل الْفِقْهِيَّة، والتفاسير القرآنية لَا يجوز إِلَّا من الْكتب المتداولة لعدم الِاعْتِمَاد على غَيرهَا من وضع الزَّنَادِقَة وإلحاق الْمَلَاحِدَة، بِخِلَاف الْكتب المحفوظة فَإِن نسخهَا تكون صَحِيحَة مُتعَدِّدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ضعفهم بِاللُّغَةِ وَالْمَعْرِفَةِ: وَأَمَّا طَعْنُهُمْ عَلَيْهِمْ بِقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ لِمَا يَحْمِلُونَ، وَكَثْرَةِ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَتَسَاوُونَ جَمِيعًا فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْفَضْلِ، وَلَيْسَ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَلَهُ حَشْوٌ وَشَوْبٌ. فَأَيْنَ هَذَا العائب لَهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ النَّاسِ بِكُلِّ فَنٍّ، وَحَمَّادِ بْنِ1 سَلَمَةَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَوْنٍ، وَأَيُّوبَ، وَيُونُسَ بْنِ2 عُبَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ3 سَعِيدٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ4، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَشُعْبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُتْقِنِينَ؟ الْمُنْفَرِدُ بِفَنٍّ لَا يُعَابُ بِالزَّلَلِ فِي غَيْرِهِ: عَلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِفَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ، لَا يُعَابُ بِالزَّلَلِ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُحَدِّثِ عَيْبٌ أَنْ يَزِلَّ فِي الْإِعْرَابِ، وَلَا عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَزِلَّ فِي الشِّعْرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ أَنْ يُتْقِنَ فَنَّهُ، إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَانْعَقَدَتْ لَهُ الرِّئَاسَةُ بِهِ. وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْوَاحِدِ عُلُومٌ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ يُؤْتِي الْفضل من يَشَاء.   1 حَمَّاد بن سَلمَة بن دِينَار الْبَصْرِيّ الربعِي بِالْوَلَاءِ، أَبُو سَلمَة مفتي الْبَصْرَة، وَأحد رجال الحَدِيث، وَمن النُّحَاة، كَانَ حفاظًأ ثِقَة مَأْمُونا إِلَّا أَنه لما كبر سَاءَ حفظه فَتَركه البُخَارِيّ، أما مُسلم فاجتهد وَأخذ من حَدِيثه بعض مَا سمع مِنْهُ قبل تغيره، وَكَانَ فَقِيها فصيحًا مفوهًا شَدِيدا على المبتدع توفّي 167هـ. 2 يُونُس بن عبيد بن دِينَار الْعَبْدي بِالْوَلَاءِ، الْبَصْرِيّ. من حفاظ الحَدِيث الثِّقَات، من أَصْحَاب الْحسن الْبَصْرِيّ، كَانَ من أهل الْبَصْرَة يَبِيع بهَا الْخَزّ ونعته الذَّهَبِيّ بِأحد أَعْلَام الْهدى توفّي 139هـ. 3 يحيى بن سعيد بن قيس الْأنْصَارِيّ البُخَارِيّ قَاض من أكَابِر أهل الحَدِيث من أهل الْمَدِينَة. قَالَ الجُمَحِي: مَا رَأَيْت أقرب شبها من الزُّهْرِيّ من يحيى بن سعيد، ولولاهما لذهب كثير من السّنَن. توفّي عَام 143هـ. 4 ابْن جريج: هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج فَقِيه الْحرم الْمَكِّيّ كَانَ إِمَام أهل الْحجاز فِي عصره، ولد عَام 80هـ وَهُوَ أول من صنف التصانيف فِي الْعلم بِمَكَّة توفّي 150هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ فِي الْفُتْيَا وَلُطْفِ النَّظَرِ وَاحِدُ زَمَانِهِ1، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ تَنَاوَلَ صَخْرَةً فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ، أَتَقِيدُهُ بِهِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَوْ رَمَاهُ بِأَبَا2 قُبَيْسٍ. وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: قَضَى اللَّهُ لَكُمُ الْحَوَائِجَ، عَلَى أَحْسَنِ الْأُمُورِ، وَأَهْنَؤُهَا3. فَنَظَرَ قَاسِمٌ التَّمَّارُ قَوْمًا يَضْحَكُونَ، مِنْ قَوْلِ بِشْرٍ4. فَقَالَ: هَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهِ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا وَبِشْرٌ رَأْسٌ فِي الرَّأْيِ، وَقَاسِمٌ التَّمَّارُ مُتَقَدِّمٌ فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ وَاحْتِجَاجُهُ لِبِشْرٍ أَعْجَبُ مِنْ لَحْنِ بِشْرٍ. وَقَالَ بِلَالٌ لِشَبِيبِ بْنِ5 شَيْبَةَ، وَهُوَ يَسْتَعْدِي6 عَلَى عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ: أَحْضِرْنِيهِ فَقَالَ: قَدْ دَعَوْتُهُ، فكلَّ ذَلِكَ يَأْبَى عَلَي، قَالَ بِلَال: فالذنب لكل7.   1 عَاد الْمُؤلف هُنَا إِلَى إنصاف أبي حنيفَة وَالشَّهَادَة لَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أهل، وَهَذَا الْحق الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، ويدحض مَا سبق من انتقاص. 2 وَالصَّحِيح: بِأبي قيس. لِأَن الْأَسْمَاء الْخَمْسَة تجر بِالْيَاءِ. 3 وَالصَّحِيح: وأهنئها، بِكَسْر الْهمزَة المتوسطة لعطفها على مجرور. 4 بشر المريسي: ابْن غياث، فَقِيه معتزلي عَارِف بالفلسفة يرْمى بالزندقة هُوَ رَأس طَائِفَة المريسية القائلة بالإرجاء، وَقَالَ بِرَأْي الْجَهْمِية وأوذي فِي دولة هَارُون الرشيد وَهُوَ من أهل بَغْدَاد توفّي عَام 218هـ. 5 شبيب بن شيبَة بن عبد الله التَّمِيمِي، أديب الْمُلُوك وجليس الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من أهل الْبَصْرَة توفّي 170هـ. 6 يَسْتَعْدِي: أَي يَسْتَعِين عَلَيْهِ. 7 يَعْنِي بِهِ الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي التَّعْبِير بِلَفْظ: "كل" فِي قَوْله: "فَكل ذَلِك" لِأَنَّهَا لَا تدخل إِلَّا على ذِي أَفْرَاد أَو أَجزَاء، والحضور فِي مجْلِس الحكم لَيْسَ كَذَلِك "قَالَه الأسعردي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ إِلَّا وَقَدْ أَسْقَطَ1 فِي عِلْمِهِ كَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَسِيبَوَيْهِ2، وَالْأَخْفَشِ3، وَالْكِسَائِيِّ4، وَالْفَرَّاءِ5، وَأَبِي6 عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَكَالْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَالْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ عَلَى الشُّعَرَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ الْخَطَأَ فِي الْمَعَانِي وَفِي الْإِعْرَابِ، وَهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَبِهِمْ يَقَعُ الْاحْتِجَاجُ. فَهَلْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فِي سَقَطِهِمْ إِلَّا كَصِنْفٍ مِنَ النَّاسِ؟ عَلَى أَنَّا لَا نُخَلِّي أَكْثَرَهُمْ مِنَ الْعَذْلِ7 فِي كُتُبِنَا، فِي تَرْكِهِمُ الْاشْتِغَالَ بِعِلْمِ مَا قَدْ كَتَبُوا، وَالتَّفَقُّهَ بِمَا جَمَعُوا وَتَهَافُتِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ، أوعشرين وَجْهًا. وَقَدْ كَانَ فِي الْوَجْهِ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ، وَالْوَجْهَيْنِ مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ أَعْمَارُهُمْ، وَلَمْ يَحِلُّوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَسْفَارٍ8 أَتْعَبَتِ الطَّالِب، وَلم تَنْفَع الْوَارِث.   1 أسقط: أَي وَقع فِي السقط: أَي الْخَطَأ. 2 سِيبَوَيْهٍ: عَمْرو بن عُثْمَان بن قنبر الْحَارِث بِالْوَلَاءِ ولد فِي إِحْدَى قرى شيراز عَام 148هـ، وَهُوَ إِمَام النُّحَاة، وَأول من بسط علم النَّحْو وصنف كِتَابه الْمُسَمّى "كتاب سِيبَوَيْهٍ فِي النَّحْو" توفّي شَابًّا عَام 180هـ. 3 الْأَخْفَش: هَارُون بن مُوسَى بن شريك التغلبي، شيخ الْقُرَّاء بِدِمَشْق ولد عَام 201هـ، كَانَ عَارِفًا بالنحو وَالتَّفْسِير والمعاني والغريب وَالشعر وصنف كتبا فِي الْقرَاءَات توفّي 292هـ. 4 الْكسَائي: عَليّ بن حَمْزَة بن عبد الله الْأَسدي بِالْوَلَاءِ الْكُوفِي، إِمَام فِي النَّحْو واللغة وَالْقِرَاءَة، ولد فِي إِحْدَى قراها سكن بَغْدَاد وَتُوفِّي بِالريِّ عَام 189هـ. 5 الْفراء: يحيى بن زِيَاد بن عبد الله بن مَنْظُور الديملي، إِمَام الْكُوفِيّين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الْأَدَب. كَانَ مَعَ تقدمه فِي اللُّغَة فَقِيها متكلمًا عَالما بأيام الْعَرَب ولد عَام 144هـ وَتُوفِّي 207هـ. 6 أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: إِسْحَاق بن مرار الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ. لغَوِيّ أديب، ولد بِالْكُوفَةِ عَام 94هـ وَسكن بَغْدَاد، جمع أشعار نَيف وَثَمَانِينَ قَبيلَة من الْعَرَب، أَخذ عَنهُ جمَاعَة من كبار الْعلمَاء توفّي 206هـ. 7 العذل: اللوم. 8 جمع سفر: وَهُوَ الْكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، فَهُوَ عِنْدَنَا مُضَيِّعٌ لِحَظِّهِ، مُقْبِلٌ عَلَى مَا كَانَ غَيْرُهُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْهُ. وَقَدْ لَقَّبُوهُمْ بِالْحَشْوِيَّةِ، وَالنَّابِتَةِ، وَالْمُجَبِّرَةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: الْجَبْرِيَّةَ. وَسَمَّوْهُمُ الْغُثَاءَ1 وَالْغُثْرَ2. عُيُوبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بَسِيطَةٌ لَا تُقَارَنُ بِغَيْرِهِمْ: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَنْبَازٌ3 لَمْ يَأْتِ بِهَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَتَى عَنْهُ فِي الْقَدَرِيَّةِ: "أَنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ" 4. وَفِي الرَّافِضَةِ: بِرِوَايَةِ مَيْمُون بن مهْرَان عَن بن عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يُسَمَّوْنَ الرَّافِضَةَ، يَرْفُضُونَ الْإِسْلَامَ وَيَلْفِظُونَهُ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ" 5. وَفِي الْمُرْجِئَةِ: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي، لَا تَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي، لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ"6. وَفِي الْخَوَارِجِ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ، وَهُمْ كِلَابُ أهل النَّار" 7.   1 الغثاء: مَا يَجِيء فَوق السَّيْل من الزّبد والأوساخ، وينصرف هُنَا -على الْمجَاز- إِلَى الوضيع من النَّاس الَّذِي لَا قيمَة لَهُ. 2 الغثر: جمع أغثر وهم سفلَة النَّاس وَأَرَاذِلهمْ. 3 أنباز: أَي ألقاب. 4 أخرجه أَبُو دَاوُد: سنة 16، وَأحمد: 2/ 86 و5/ 407. 5 وجدنَا الحَدِيث فِي مُسْند أَحْمد 1/ 103 بِلَفْظ: "يظْهر فِي آخر الزَّمَان قوم يسمون الرافضة يرفضون الْإِسْلَام". 6 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 3495 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة 662 للألباني. 7 أخرجه البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 6 ومناقب 25 وَمَغَازِي 61 وفضائل الْقُرْآن 36 وأدب 95 وتوحيد 23 و57 واستتابة 95، وَمُسلم: زَكَاة 142 و144 و147 و148، وَسنَن أبي دَاوُد سنة 28، وَسنَن التِّرْمِذِيّ: فتن 24، وَالنَّسَائِيّ: زَكَاة 79 وَتَحْرِيم 26، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 12 والدارمي: مُقَدّمَة 21، والموطأ: مس الْقُرْآن 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتِلْكَ أَسْمَاءٌ مَصْنُوعَةٌ. وَقَدْ يَحْمِلُ بَعْضَهُمُ الْحَمِيَّةُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: الْجَبْرِيَّةُ، هُمُ الْقَدَرِيَّةُ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْاسْمُ يَلْزَمُهُمْ، لَاسْتَغْنَوْا بِهِ عَنِ الْجَبْرِيَّةِ. وَلَوْ سَاغَ هَذَا لِأَهْلِ الْقَدَرِ، لَسَاغَ مِثْلُهُ لِلرَّافِضَةِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ مِثْلَ الَّذِي قَالَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ. وَالْأَسْمَاءُ لَا تَقَعُ غَيْرَ مَوَاقِعِهَا، وَلَا تَلْزَمُ إِلَّا أَهْلَهَا. وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الصَّيَاقِلَةُ هُمُ الْأَسَاكِفَةُ، وَالنَّجَّارُ هُوَ الْحَدَّادُ. وَالْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرَ الناسُ عَلَيْهَا، وَالنَّظَرُ، يُبْطِلُ مَا قَذَفُوهُمْ بِهِ1. أَمَّا الْفِطَرُ، فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ دَخَلَ الْمِصَرَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِيهِ، أَوِ الْمُرْجِئَةِ، لَدَلَّهَ الصَّبِيُّ وَالْكَبِيرُ، وَالْمَرْأَةُ وَالْعَجُوزُ، وَالْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ، وَالْحَشْوَةُ وَالرَّعَاعُ، عَلَى الْمُسَمِّينَ بِهَذَا الْاسْمِ، وَلَوِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، لَدَلُّوهُ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَلَوْ مَرَّتْ جَمَاعَةٌ فِيهِمُ الْقَدَرِيُّ، وَالسُّنِّيُّ، وَالرَّافِضِيُّ، وَالْمُرْجِئُ، وَالْخَارِجِيُّ، فَقَذَفَ رَجُلٌ الْقَدَرِيَّةَ، أَوْ لَعَنَهُمْ، لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِالشَّتْمِ أَوِ اللَّعْنِ عِنْدَهُمْ، أَصْحَابَ الْحَدِيثِ. هَذَا أَمْرٌ، لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ، وَلَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ. وَأَمَّا النَّظَرُ، فَإِنَّهُمْ أَضَافُوا الْقَدَرَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، دُونَ نَفْسِهِ. وَمُدَّعِي الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ، أَوْلَى بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ، مِمَّنْ جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ. وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَنَا: "بِأَنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ"2 وهم أشبه قوم   1 قذفوهم: أَي رموهم. 2 الحَدِيث: "إِن لكل أمة مجوسًا، وَإِن مجوس هَذِه الْأمة: الْقَدَرِيَّة، فَلَا تعودوهم إِن مرضوا، وَلَا تصلوا عَلَيْهِم إِن مَاتُوا" "الْفَوَائِد الْمَجْمُوعَة فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة ص502" وَفِي إِسْنَاده: جَعْفَر بن الْحَارِث، وَلَيْسَ بِشَيْء، وَله طرق أوردهَا صَاحب اللآلئ وَأطَال الْكَلَام، ورد على ابْن الْجَوْزِيّ حَيْثُ زعم أَنه مَوْضُوع فَليُرَاجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بالمجوس، لِأَنَّ الْمَجُوسَ تَقُولُ بِإِلَهَيْنِ، وَإِيَّاهُمْ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1. هَفَوَاتُ الْقَدَرِيَّةِ وَضَلَالُهُمْ: وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: نَحْنُ نَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ. وَبَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ، قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ: "أَلَّا تُسْلِمُ يَا فُلَانُ"؟ فَقَالَ: حَتَّى يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَرَادَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ إِبْلِيسَ لَا يَدَعُكَ. فَقَالَ لَهُ الذِّمِّيُّ: فَأَنَا مَعَ أَقْوَاهُمَا. وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأُقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَيَقُولُ لِي: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ؟ فَأَقُولُ: أَنْتَ قُلْتَهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} 2. قُلْتُ لَهُ -وَمَا فِي الْبَيْتِ أَصْغَرُ مِنِّي: أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ قَدْ قَلْتُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ؟ قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَرُدَّ عليَّ شَيْئًا. حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: نَا دَاوُدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمفضل4   1 الْآيَة 51 من سُورَة النَّحْل. 2 الْآيَة 93 من سُورَة النِّسَاء. 3 الْآيَة 116 من سُورَة النِّسَاء. 4 مُحَمَّد بن الْمفضل بن سَلمَة الضَّبِّيّ: فَقِيه شَافِعِيّ من أهل بَغْدَاد لَهُ تصانيف توفّي عَام 390هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 عَن مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ جَامِعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْبَيْتِ، فَأَتَى الْمُلْتَزِمُ، بَيْنَ الْبَابِ وَالْحِجْرِ، فَأَلْصَقَ بِهِ بَطْنَهُ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَضَيْتَهُ عليَّ، وَلَا تَغْفِرُ لِي مَا لَمْ تَقِضْهِ عليَّ". وَحَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: نَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ1، قَالَ: سَمِعَ الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ2 رَجُلًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مُسْلِمًا". فَقَالَ: هَذَا مُحَالٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 3. وَحَدَّثَنِي سَهْلٌ قَالَ: نَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: "الْعِبَادُ أَذَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ هُوَ كَارِهٌ أَنْ يَكُونَ". وَحَدَّثَنِي سَهْلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلِلَّهِ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ، وَمَنْ قَالَ: تَعَالَ أُخَاصِمَكَ، قُلْتُ لَهُ: أَعِزْ عَنَّا نَفْسَكَ. وَحَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: نَا أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعت الْحجَّاج يخْطب، وَهُوَ بـ "وَاسِط"، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَرِنِي الْهُدَى هُدًى فَأَتْبَعُهُ، وَأَرِنِي الضَّلَالَةَ ضَلَالَةً فَأَجْتَنِبُهَا، وَلَا تُلُبِسْ عليَّ هُدَايَ فأضلَّ ضلالا بَعيدا.   1 معَاذ بن معَاذ بن نصر بن حسان الْعَنْبَري التَّيْمِيّ قَاض بَصرِي من الْأَثْبَات فِي الحَدِيث قَالَ ابْن حَنْبَل: مَا رَأَيْت أَعقل من معَاذ كَأَنَّهُ صَخْرَة ولد عَام 119هـ وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ عَام 196هـ. 2 الْفضل الرقاشِي: بن عبد الصَّمد بن الْفضل شَاعِر مجيد، من أهل الْبَصْرَة، فَارسي الأَصْل انْتقل إِلَى بَغْدَاد مدح الْخُلَفَاء وَكَانَت بَينه وَبَين أبي نواس مهاجاة ومباسطة توفّي 200هـ. 3 الْآيَة 128 من سُورَة الْبَقَرَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 1. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الْقَيْسِيُّ -وَكَانَ مِنَ الْبَكَّائِينَ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ- سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ يَقُولُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ قَوْلِ مُوسَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 2. فَقُلْتُ لَهُ: فَالْقُرْآنُ يَشْتَدُّ عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً أَبَدًا، فَمَا كَلَّمْتُهُ3 حَتَّى مَاتَ. طَعْنُ الْقَدَرِيَّةِ بِالثِّقَاتِ: وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ النَّضْرِ قَالَ: مَرَرْتُ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ شَيْئًا، فَقُلْتُ: مَا هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا. قَالَ: وَمَنْ أَصْحَابُكَ؟ قُلْتُ: أَيُّوبُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَيُونُسُ، وَالتَّيْمِيُّ. فَقَالَ: أُولَئِكَ أَرْجَاسٌ أَنْجَاسٌ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ، غُرَّةُ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فِي الْعِلْمِ، وَالْفِقْهِ، وَالْاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَطِيبِ الْمَطْعَمِ، وَقَدْ دَرَجُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ أَيْضًا عِنْدَهُ أَرْجَاسٌ أَنْجَاسٌ. فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ الَّذِينَ دَرَجُوا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، لَمْ يَكُونُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِمثل مقالتهم فِي الْقدر.   1 الْآيَة 9 من سُورَة الْأَنْعَام. 2 الْآيَة 155 من سُورَة الْأَعْرَاف. 3 وَفِي نُسْخَة: فَمَا كَلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قُلْنَا لَهُمْ: فَلِمَ تَعَلَّقْتُمْ بِالْحَسَنِ، وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَغَيْلَانَ؟ أَلَا تَعَلَّقْتُمْ بـ "عليّ" وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ فِي الْقُدْوَةِ، وَأَثْبَتَ فِي الْحُجَّةِ، مِنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رجال من مخالفيهم، كـ "قَتَادَة"، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ1 وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الْكِتَابَةِ عَنْ مِثْلِهِمْ، مِثْلَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَمْرِو2 بْنِ فَائِدٍ، وَمَعْبَدٍ3 الْجُهَنِيِّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا عَنْهُمْ، أَهْلُ عِلْمٍ وَأَهْلُ صِدْقٍ فِي الرِّوَايَةِ. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَلَا بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ، وَالْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، إِلَّا فِيمَا اعْتَقَدَهُ مِنَ الْهَوَى، فَإِنَّهُ لَا يَكْتُبُ عَنْهُ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ. كَمَا أَنَّ الثِّقَةَ الْعَدْلَ، تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِابْنِهِ، وَلَا لِأَبِيهِ، وَلَا فِيمَا جرَّ إِلَيْهِ نَفَعًا، أَوْ دَفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا. وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الصَّادِقِ، فِيمَا وَافَقَ نِحْلَتَهُ، وَشَاكَلَ هَوَاهُ، لِأَنَّ نَفْسَهُ تُرِيهِ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا اعتقده، وَأَن الْقرب إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَثْبِيتِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَلَا يُؤْمَنُ مَعَ ذَلِكَ، التَّحْرِيفُ، وَالزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ. فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا اعْتَقَدَهُ وَأَنَّ مُخَالِفَهُ عَلَى ضَلَالٍ وَهَوًى، وَكَذَلِكَ أَصْحَاب الحَدِيث، فِيمَا انتحلوا.   1 ابْن أبي نجيح: هُوَ عبد الله بن يسَار، ثِقَة صَالح الحَدِيث، ويذكرون أَنه كَانَ يَقُول بِالْقدرِ. وَذكره النَّسَائِيّ فِيمَن كَانَ يُدَلس، وثقَّه أَحْمد وَابْن معِين، وروى عَنهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، مَاتَ سنة 131هـ. 2 عَمْرو بن فائد. جَاءَ فِي الْمِيزَان: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: ذَاك عندنَا ضَعِيف يَقُول بِالْقدرِ، وَقَالَ الْعقيلِيّ: كَانَ يذهب إِلَى الْقدر والاعتزال وَلَا يُقيم الحَدِيث. 3 معبد الْجُهَنِيّ: قدري بَصرِي. وَجَاء فِي الْمِيزَان: "صَدُوق فِي نَفسه وَلكنه سنّ سنة سَيِّئَة فَكَانَ أول من تكلم فِي الْقدر، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، هُوَ ضالٌّ مُضِلّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فَمِنْ أَيْنَ عَلِمُوا عِلْمًا يَقِينًا، أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ؟ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا، وَرَأَى كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ1 لَا يَخْتَلِفُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَصَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَمَسَّكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِ اسْتَضَاءَ بِالنُّورِ وَاسْتَفْتَحَ بَابَ الرُّشْدِ، وَطَلَبَ الْحَقَّ مِنْ مَظَانِّهِ. وَلَيْسَ يَدْفَعُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا ظَالِمٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، إِلَى اسْتِحْسَانٍ، وَلَا إِلَى قِيَاسٍ وَنَظَرٍ، وَلَا إِلَى كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَا إِلَى أَصْحَابِ الْكَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَإِنِ ادَّعَوْا عَلَيْهِمُ الْخَطَأَ بِحَمْلِهِمُ الْكَذِبَ وَالْمُتَنَاقِضَ، قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا الْكَذِبُ وَالْغَلَطُ وَالضَّعِيفُ، فَقَدْ نُبِّهُوا عَلَيْهِ، عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ. وَأَمَّا الْمُتَنَاقِضُ، فَنَحْنُ مُخْبِرُوكَ بِالْمَخَارِجِ مِنْهُ، وَمُنَبِّهُوكَ عَلَى مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ عِلْمُكَ، وَقَصُرَ عَنْهُ نَظَرُكَ، وَبِاللَّهِ الثِّقَة، وَهُوَ الْمُسْتَعَان.   1 وَفِي نُسْخَة: مجتمعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ادَّعَوْا عَلَيْهَا التَّنَاقُض: قَالُوا: حَدِيثٌ يُخَالِفُ آيَةً 1- أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ: فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ، ذَكَرُوا أَنَّهُ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: رَوَيْتُمْ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ عَلَى ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ 1، وَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمْثَالَ الذَّرِّ، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ". وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 2 لِأَنَّ الْحَدِيثَ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَالْكِتَابُ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوا، بَلِ الْمَعْنَيَانِ مُتَّفِقَانِ، بِحَمْدِ اللَّهِ ومنِّه، صَحِيحَانِ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَأْتِي بِجُمَلٍ، يَكْشِفُهَا الْحَدِيثُ، واختصارٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ. أَلَّا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ مَسَحَ ظَهَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا جَاءَ   1 أخرجه أَبُو دَاوُد: ج5 رقم 4703، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير حَدِيث 3076 تَفْسِير سُورَة الْأَعْرَاف وَقَالَ: "هَذَا حَدِيث حسن" وَنسبه الْمُنْذِرِيّ للنسائي أَيْضا، وَقد صَححهُ الألباني: انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 5208. غير أَن مَا وَجَدْنَاهُ فِي سنَن أبي دَاوُد بِلَفْظ: "أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدم ثمَّ مسح على ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة، فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ ". 2 الْآيَة 172 من سُورَة الْأَعْرَاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فِي الْحَدِيثِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنَّ فِي تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ الْأَبْنَاءَ، وَأَبْنَاءَ الْأَبْنَاءِ، وَأَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَإِذَا أَخَذَ مِنْ جَمِيعِ أُولَئِكَ الْعَهْدَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ أَخَذَ مِنْ بَنِي آدَمَ جَمِيعًا، مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} 1 فَجَعَلَ قَوْلَهُ لِلْمَلَائِكَةِ: "اسجدوا لآدَم" بعد "خَلَقْنَاكُمْ" و"صورناكم". وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى "خَلَقْنَاكُمْ" وَ"صَوَّرْنَاكُمْ" خَلَقْنَا آدَمَ، وَصَوَّرْنَاهُ، ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَجَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ حِينَ خَلَقَ آدَمَ، خَلَقَنَا فِي صُلْبِهِ، وَهَيَّأَنَا كَيْفَ شَاءَ. فَجَعَلَ خَلْقَهُ لِآدَمَ، خَلْقَهُ لَنَا، إِذْ كُنَّا مِنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا، مِثْلُ رَجُلٍ أَعْطَيْتَهُ مِنَ الشَّاءِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى، وقلتَ لَهُ: قَدْ وَهَبْتُ لَكَ شَاءً كَثِيرًا -تُرِيدُ أَنِّي وَهَبْتُ لَكَ بِهِبَتِي هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ، مِنَ النِّتَاجِ، شَاءً كَثِيرًا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهَبَ لِدُكَيْنٍ الرَّاجِزِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى بِهِ دُكَيْنٌ عِدَّةً مِنَ الْإِبِلِ، فَرَمَى اللَّهُ تَعَالَى فِي أَذْنَابِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَنَمَتْ وَكَثُرَتْ. فَكَانَ دُكَيْنٌ يَقُولُ: هَذِهِ مَنَائِحُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَلَمْ تَكُنْ كُلُّهَا عَطَاءَهُ، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ، فَنَسَبَهَا إِلَيْهِ؛ إِذْ كَانَتْ نَتَائِجَ مَا وَهَبَ لَهُ. وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا، قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِن قَبلِها طِبتَ فِي الظِلالِ وَفي ... مُستَودَعٍ حَيثُ يُخصَفُ الوَرَقُ   1 الْآيَة 11 من سُورَة الْأَعْرَاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يُرِيد: طِبْتَ فِي ظِلَالِ الْجَنَّةِ، وَفِي مُسْتَوْدَعٍ، يَعْنِي: الْمَوْضِعَ الَّذِي اسْتُودِعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ، أَيْ: حَيْثُ خَصَفَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ، طَيِّبًا فِي صُلْبِ آدَمَ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لَا بَشَرٌ ... أَنتَ وَلا نُطفَةٌ وَلا عَلَقُ يُرِيدُ أَنَّ آدَمَ هَبَطَ الْبِلَادَ، فَهَبَطْتَ فِي صُلْبِهِ، وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ، لَا بَشَرٌ وَلَا مُضْغَةٌ، وَلَا دَمٌ. ثُمَّ قَالَ: بَلْ نُطْفَةٌ تَركَبُ السَفينَ وَقَد ... أَلجَمَ نَسْرًا1 وَأَهلَهُ الغَرَقُ يُرِيدُ أَنَّكَ نُطْفَةٌ فِي صُلْبِ نُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ رَكِبَ الْفُلْكَ ثُمَّ قَالَ: تُنْقَلُ مِن صالِبٍ إِلى رَحِم ... إِذَا مَضى عَلَمٌ بَدا طَبَقُ يُرِيدُ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ: فَجَعَلَهُ طَيِّبًا وَهَابِطًا لِلْبِلَادِ، وَرَاكِبًا لِلسُّفُنِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ. وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ آبَاءَهُ، الَّذِينَ اشْتَمَلَتْ أَصْلَابُهُمْ عَلَيْهِ.   1 النَّسْر: صنم من أصنام قوم نوح عَلَيْهِ السَّلَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 2- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ" 1. وَرَوَيْتُمْ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحِذَّاءِ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قَوْمًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَلَائِهِ، فَاسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ" 2. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ ذَاكَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ، يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّسْخُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَكَيْفَ لَمْ يَذْهَبُوا إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ، وَالْآخَرَ مَنْسُوخٌ؟ إِذْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَلَيْهِمُ الْمَعْنَى فِيهِمَا. وَلَيْسَا عِنْدَنَا مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعٌ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ. فَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةُ فِيهِ بِالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، هِيَ الصَّحَارِي والبراحات3.   1 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 4، وَابْن ماجة طَهَارَة 18، وَأحمد 5/ 415 و430 و438 و439، وأصل الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي أَيُّوب، وَفِي مُسلم من حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي. 2 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 6/ 183. 3 البراحات: الْأَرَاضِي الَّتِي لَا شجر فِيهَا وَلَا زرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا فِي أَسْفَارِهِمْ لِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ، اسْتَقْبَلَ بَعْضُهُمُ الْقِبْلَةَ بِالصَّلَاةِ، وَاسْتَقْبَلَهَا بَعْضُهُمْ بِالْغَائِطِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ إِكْرَامًا لِلْقِبْلَةِ، وَتَنْزِيهًا لِلصَّلَاةِ. فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا أَيْضًا، يُكْرَهُ فِي الْبُيُوتِ وَالْكُنُفِ الْمُحْتَفَرَةِ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَلَائِهِ، فَاسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ. يُرِيدُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْبُيُوتِ، وَالْآبَارِ الْمُحْتَفَرَةِ، الَّتِي تَسْتُرُ الْحَدَثَ، وَفِي الْخَلَوَاتِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يجوز فِيهَا الصَّلَاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 3- الْمَشْيُ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَة" 1. ورويتم عَن منْدَل، عَن اللَّيْث، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَشَى فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ، حَتَّى يُصْلِحَ الْأُخْرَى" 2. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَنحن نقُول: لَيْسَ هَهُنَا خِلَافٌ، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَنْقَطِعُ شِسْعُ نَعْلِهِ، فَيَنْبِذُهَا، أَوْ يُعَلِّقُهَا بِيَدِهِ، وَيَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، إِلَى أَنْ يَجِدَ شِسْعًا. وَهَذَا يَفْحُشُ وَيَقْبُحُ فِي النَّعْلَيْنِ وَالْخُفَّيْنِ، وَكُلِّ زَوْجَيْنِ مِنَ اللِّبَاسِ يُسْتَعْمَلُ فِي اثْنَيْنِ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي وَاحِدٍ وَيُتْرَكُ الْآخَرُ. وَكَذَلِكَ الرِّدَاءُ، يُلْقَى عَلَى أَحَدِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَيُتْرَكُ الْآخَرُ. فَأَمَّا أَنْ يَنْقَطِعَ شِسْعُ الرَّجُلِ، فَيَمْشِي خُطْوَةً أَو خطوتين أَو ثَلَاثًا، إِلَى   1 أخرجه أَبُو دَاوُد: لِبَاس 41، وَمُسلم: لِبَاس 69 و71، وَالنَّسَائِيّ: زِينَة 116، ومسند أَحْمد: 2/ 245 و314 و434 و443 و477 و480 و3/ 293 و327. 2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: لِبَاس 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 أَن يُصْلِحَ الْآخَرَ1 فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُنْكِرٍ وَلَا قَبِيحٍ. وَحُكْمُ الْقَلِيلِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْكَثِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَمْشِيَ خُطْوَةً، وَخُطْوَتَيْنِ، وَخُطُوَاتٍ، وَهُوَ رَاكِعٌ إِلَى الصَّفِّ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ؟ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْشِيَ -وَهُوَ رَاكِعٌ- مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ؟ وَيجوز لَهُ أَن يردئ الرِّدَاءَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، إِذَا سَقَطَ عَنْهُ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطْوِيَ ثَوْبَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يَتَطَاوَلُ. وَيَبْتَسِمُ فَلَا تَنْقَطِعُ صَلَاتُهُ، وَيُقَهْقِهُ فَتَنْقَطِعُ؟   1 وَفِي نُسْخَة "ذَلِك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 4- الْبَوْلُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا بَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا قَطُّ"1. ثُمَّ رَوَيْتُمْ عَنْ حُذَيْفَةَ "أَنَّهُ بَالَ قَائِمًا" وَهَذَا خِلَافُ ذَاكَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَنحن نقُول: لَيْسَ هَهُنَا -بِحَمْدِ اللَّهِ- اخْتِلَافٌ، وَلَمْ يَبْلُ قَائِمًا قَطُّ فِي مَنْزِلِهِ وَالْمَوْضِعِ3 الَّذِي كَانَتْ تَحْضُرُهُ فِيهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَبَالَ قَائِمًا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَطْمَئِنَّ فِيهَا، إِمَّا لِلَثَقٍ4 فِي الْأَرْضِ وَطِينٍ، أَوْ قَذِرٍ. وَكَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي رَأَى فِيهِ حُذَيْفَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبُولُ قَائِمًا، كَانَ مَزْبَلَةً لِقَوْمٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْقُعُودُ فِيهِ، وَلَا الطُّمَأْنِينَةُ. وَحُكْمُ الضَّرُورَةِ خلاف حكم الِاخْتِيَار.   1 أخرجه النَّسَائِيّ: طَهَارَة 24، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 8، وَابْن ماجة: طَهَارَة 14، وَأحمد: 6/ 192 و213. 2 أخرجه أَحْمد: 5/ 382 وَقد ورد بِلَفْظ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَال وَهُوَ قَائِم، ثمَّ دَعَاني فَأَتَيْته فَتَوَضَّأ وَمسح عل خفيه "، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، ورقمه فِي اللُّؤْلُؤ المرجان 5208. 3 وَفِي نُسْخَة: والمواضع الَّتِي. 4 اللثق: البلل والندى، وطائر لثق: أَي مبتل. "الْقَامُوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الزِّيَادَيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى عَنْ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا، فَذَهَبْتُ أَتَنَحَّى. فَقَالَ: "ادْنُ مِنِّي" فَدَنَوْتُ مِنْهُ، حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. وَالسُّبَاطَةُ: المزبلة، وَكَذَلِكَ الكساحة، وَالْقُمَامَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 قَالُوا: حَدِيثٌ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى 5- رَجْمُ الزَّانِي: قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ1 عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ2، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ3 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ4 خَالِدٍ، وَشِبْلٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، إِلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي. فَقَالَ: قُلْ. قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بامرأته فَأخْبرت أَن على ابْني الرَّجْم، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثمَّ سَأَلت رجَالًا من أهل   1 سُفْيَان بن عُيَيْنَة: أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام، قَالَ ابْن وهب: مَا رَأَيْت أعلم بِكِتَاب الله من ابْن عُيَيْنَة، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَوْلَا مَالك وسُفْيَان لذهب علم الْحجاز، توفّي بِمَكَّة سنة 198هـ. 2 الزُّهْرِيّ: هُوَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُسلم بن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن شهَاب الزُّهْرِيّ الْمدنِي أول من دون الحَدِيث، وَأحد أكَابِر الْحفاظ وَالْفُقَهَاء، تَابِعِيّ من أهل الْمَدِينَة اسْتَقر بِالشَّام وَتُوفِّي 124هـ. 3 عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبَة بن مَسْعُود الْهُذلِيّ، مفتي الْمَدِينَة من أَعْلَام التَّابِعين لَهُ شعر جيد، وَهُوَ مؤدب عمر بن عبد الْعَزِيز. قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة عَالما فَقِيها كثير الحَدِيث مَاتَ بِالْمَدِينَةِ 98هـ. 4 زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الْمدنِي: صَحَابِيّ شهد الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ مَعَه لِوَاء جُهَيْنَة يَوْم الْفَتْح لَهُ 81 حَدِيثا. توفّي فِي الْمَدِينَة عَام 78هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الْعلم، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْمِائَةُ شَاةٍ، وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" 1. فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَكَذَا حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ". ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ، وَلَيْسَ لِلرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، أَوْ يَكُونَ حَقًّا. وَقَدْ نَقَصَ مِنْ كِتَابِ تَعَالَى، ذِكْرُ الرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: "لَأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله" هَهُنَا، الْقُرْآنَ وَإِنَّمَا أَرَادَ: "لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى" وَالْكِتَابُ يُتَصَرَّفُ على وُجُوه. مِنْهَا للْحكم، وَالْفَرْضُ، كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} 3 أَي: فرض عَلَيْكُم.   1 أخرجه البُخَارِيّ: صلح 5 وشروط 9 وأيمان 3 وحدود 30 و34 و38 و46 وَأَحْكَام 39 وآحادًا واعتصام 2، وَمُسلم: حُدُود 25، وأو دَاوُد: أقضية 11 وحدود 24، وَالتِّرْمِذِيّ: أَحْكَام 3، وَالنَّسَائِيّ: قَضَاء 22، وَابْن ماجة: حُدُود 7، والدارمي: مُقَدّمَة 20 وحدود 12، والموطأ: حُدُود 6. 2 الْآيَة 24 من سُورَة النِّسَاء. 3 الْآيَة 178 من سُورَة الْبَقَرَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَقَالَ: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} 1 أَيْ: فَرَضْتَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 2 أَيْ: حَكَمْنَا، وَفَرَضْنَا. وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: وَمَالَ الْوَلَاءُ بِالْبَلَاءُ فَمِلْتُمْ ... وَمَا ذَاكَ قَالَ الْلَّه إِذْ هُوَ يَكْتُبُ أَرَادَ: مَالَتِ الْقَرَابَةُ بِأَحْسَابِنَا إِلَيْكُمْ، وَمَا ذَاكَ أَوْجَبَ اللَّهُ إِذْ هُوَ يحكم.   1 الْآيَة 77 من سُورَة النِّسَاء. 2 الْآيَة 45 من سُورَة الْمَائِدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ 6- لَا قطع على الْمُسْتَعِير: الوا: رَوَيْتُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ حُلِيًّا مِنْ أَقْوَامٍ، فَتَبِيعُهُ فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا"1. قَالُوا: وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ2 عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ.   1 أخرجه أَبُو دَاوُد: فِي كتاب الْحُدُود برقم "4395" عَن ابْن عمر ورقم "4396" بِلَفْظ: كَانَ عُرْوَة يحدث إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: "استعارت امْرَأَة، تَعْنِي حُلِيًّا على السّنة أنَاس يُعْرَفُونَ وَلَا تُعْرَفُ هِيَ، فباعته، فَأخذت، فَأتي بهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأمر بِقطع يَدهَا، وَهِي الَّتِي شفع فِيهَا أُسَامَة بن زيد، وَقَالَ فِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ". وَأخرجه النَّسَائِيّ "منذري". 2 مَذْهَب أهل الْعلم أَن الْمُسْتَعِير إِذا جحد الْعَارِية لم يقطع؛ لِأَن الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أوجب الْقطع على السَّارِق، وَهَذَا خائن لَيْسَ بسارق، وَقد قيل: إِن الْقطع إِنَّمَا سقط عَن الخائن، لِأَن صَاحب المَال قد أعَان على نَفسه فِي ذَلِك بإتمانه إِيَّاه. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "لَيْسَ على الخائن قطع" أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب الْحُدُود رقم 4392. وَقد ذهب الإِمَام أَحْمد وَإِسْحَاق وَزفر وَأهل الظَّاهِر إِلَى إِيجَاب الْقطع عملا بِظَاهِر الحَدِيث. أما مَا ورد فِي الحَدِيث بشأن الْمَرْأَة المخزومية الَّتِي أَمر بِقطع يَدهَا لِأَنَّهَا استمرت بِهَذَا الصَّنِيع حَتَّى ترقت إِلَى السّرقَة وتجرأت حَتَّى سرقت فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بقطعها ... "وَإِنَّمَا خلا بعض الرِّوَايَات عَن ذكر السّرقَة، لِأَن الْقَصْد إِنَّمَا كَانَ فِي سِيَاق هَذَا الحَدِيث إِلَى إبِْطَال الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود والتغليظ فِيهَا لمن رام تعطيلها، وَلم تقع الْعِنَايَة بِذكر السّرقَة وَبَيَان حكمهَا، وَمَا يجب على السَّارِق الْقطع -إِذْ كَانَ من الْعلم الْمَشْهُور المتسفيض فِي الْخَاص وَالْعَام- وَقد أَتَى مَا يجب على السَّارِق من الْقطع، إِذْ كَانَ قد أَتَى الْكتاب على بَيَانه فَلم يضر ترك ذكره وَالسُّكُوت عَنهُ هَهُنَا. وَالله أعلم" "خطابي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُكْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: إِنَّهُ قَطَعَهَا، وَإِنَّمَا قِيلَ أَمَرَ بِقَطْعِهَا. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَفْعَلَ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ إِيقَاعُ الْفِعْلِ. وَمِثْلُهُ: الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ1 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمن تجدع عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ"2. وَالنَّاسُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ رَجُلٌ بِعَبْدِهِ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِعَبْدِهِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ. وَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرْهِيبَ السَّيِّدِ وَتَحْذِيرَهُ، أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ، أَوْ يُمَثِّلَ بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ إِيقَاعَ الْفِعْلِ. وَكَانَ الْحُكْمُ، يَجِبُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بِعَبْدِهِ، أَوِ اقْتَصَّ مِنْهُ لِعَبْدِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ فَعَلَ فَعَلْنَا بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْذِيرٌ وَتَرْهِيبٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ" 3 إِنَّمَا هُوَ تَرْهِيبٌ، لِئَلَّا يُعَاوِدَهُ. وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ. وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْوَعِيدِ كُلِّهِ: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ لَا يَقَعَ، عَلَى حَدِيثِ4 أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا، فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ"5.   1 سَمُرَة بن جُنْدُب الْفَزارِيّ، صَحَابِيّ من صغَار الصَّحَابَة، وَنزل الْبَصْرَة وَكَانَ شَدِيدا على الْخَوَارِج قَالَ ابْن عبد الْبر سقط فِي قدر مَمْلُوء مَاء حارًّا فَمَاتَ سنة 58هـ. 2 ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير رقم 5761-948 عَن سَمُرَة، وتحرير الْمشكاة 3473. 3 سنَن أبي دَاوُد: حُدُود 36، وَالتِّرْمِذِيّ: حُدُود 15، وَالنَّسَائِيّ: أشربة 43، وَابْن ماجة: حُدُود 17 و18، والدارمي: أشربة 10، وَأحمد 2/ 136، 166، 191، 211، 214، 280. 4 أبي بِنَاء على مَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة. 5 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 23245 وَقَالَ: أخرجه أَبُو يعلى فِي مُسْنده والخرائطي فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث، وَابْن عَسَاكِر عَن أنس وَضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قَالُوا: الطعْن بالأنبياء 7- حَدِيثٌ يَدْفَعُهُ النَّظَرُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَرَحِمَ اللَّهُ لُوطًا، إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ" 1. قَالُوا: وَهَذَا طَعْنٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَطَعْنٌ عَلَى لُوطٍ، وَطَعْنٌ عَلَى نَفْسِهِ2 عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوا، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَنِعْمَتِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: "أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 3 قَالَ قَوْمٌ سَمِعُوا الْآيَةَ: شَكَّ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَشُكُّ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ".   1 البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 11 تَفْسِير سُورَة 3/ 46 وَمُسلم: إِيمَان 238، فَضَائِل 153، وَابْن ماجة: فتن 23، وَأحمد 3/ 326. وَقد ورد الحَدِيث فِي البُخَارِيّ بِلَفْظ: "نَحن أَحَق من إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، وَيرْحَم الله لوطًا لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد، وَلَو لبثتُ فِي السجْن طول مَا لبث يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي" ج4 ص119. 2 وَالأَصَح: وَطعن على يُوسُف. 3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " تَوَاضُعًا مِنْهُ، وَتَقْدِيمًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ. يُرِيدُ: أَنَّا لَمْ نَشُكُّ، وَنَحْنُ دُونَهُ، فَكَيْفَ يَشُكُّ هُوَ؟ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . أَيْ: يَطْمَئِنَّ بِيَقِينِ النَّظَرِ -وَالْيَقِينُ جِنْسَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقِينُ السَّمْعِ، وَالْآخَرُ يَقِينُ الْبَصَرِ. وَيَقِينُ الْبَصَرِ أَعْلَى الْيَقِينَيْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ المخبَر كَالْمُعَايِنِ" 1 حِينَ ذَكَرَ قَوْمَ مُوسَى وَعُكُوفَهُمْ عَلَى الْعِجْلِ. قَالَ: أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَهُمْ عَاكِفِينَ، غَضِبَ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ، حَتَّى انْكَسَرَتْ. وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْقِيَامَةِ، وَالْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، مُسْتَيْقِنُونَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقٌّ، وَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ -عِنْدَ النَّظَرِ وَالْعَيَانِ- أَعْلَى يَقِينًا. فَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِالنَّظَرِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْيَقِينَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" فَإِنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 2 يُرِيدُ: سَهْوَهُ3 فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي ضَاقَ فِيهِ صَدْرُهُ، وَاشْتَدَّ جَزَعُهُ، بِمَا دَهَمَهُ مِنْ قَوْمِهِ، حَتَّى قَالَ: {أَوْ آوِِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وَهُوَ يَأْوِي إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَشَدِّ الْأَركان.   1 الْمَقَاصِد 351، والتمييز: 135، والكشف 2/ 168، وصحيح الْجَامِع: 5/ 87 والدرر برقم 352، والتدريب 370 والْحَدِيث بِلَفْظ: "لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة ". 2 سُورَة هود: الْآيَة 80. 3 أَي: هُوَ لوط عَلَيْهِ السَّلَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 قَالُوا1: فَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ لُوطٍ، إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ2 مِنْ قَوْمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ"، يَعْنِي حِينَ دُعِيَ لِلْإِطْلَاقِ مِنَ الْحَبْسِ، بَعْدَ الْغَمِّ الطَّوِيلِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} 3 وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَبْسِ فِي وَقْتِهِ يَصِفُهُ بِالْأَنَاةِ وَالصَّبْرِ. وَقَالَ: "لَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ، ثُمَّ دُعِيتُ إِلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْحَبْسِ، لَأَجَبْتُ، وَلَمْ أَتَلَبَّثُ ". وَهَذَا أَيْضًا جِنْسٌ مِنْ تَوَاضُعِهِ، لَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ، لَوْ كَانَ مَكَانَ يُوسُفَ فَبَادَرَ وَخَرَجَ، أَوْ عَلَى يُوسُفَ لَوْ خَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ مَعَ الرَّسُولِ، نَقْصٌ وَلَا إِثْمٌ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَثْقِلُ مِحْنَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فَيُبَادِرُ وَيَتَعَجَّلُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ صَابِرًا محتسبًا.   1 أَي: أَئِمَّة فقه الحَدِيث. 2 كَثْرَة عدد وَقُوَّة شكيمة. 3 سُورَة يُوسُف: الْآيَة 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْعَيَانُ 8- لَا تَبْقَى نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ1 الْخُدْرِيِّ، وَجَابِرِ2 بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسِ3 بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ، وَذَكَرَ سَنَةَ مِائَةٍ: "إِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى ظهرهَا يَوْمئِذٍ، نفس منفوسة" 4.   1 أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: هُوَ سعد بن مَالك بن سِنَان الْخُدْرِيّ، بَايع تَحت الشَّجَرَة، وَشهد مَا بعد أحد وَكَانَ من عُلَمَاء الصَّحَابَة، وروى أَحَادِيث كَثِيرَة، توفّي سنة 74هـ. 2 جَابر بن عبد الله بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ صَحَابِيّ شهد الْعقبَة وغزا تسع عشرَة غَزْوَة توفّي فِي الْمَدِينَة سنة 78هـ. 3 أنس بن مَالك صَحَابِيّ جليل، من الْخَزْرَج، ظلّ خَادِم النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَن قبض ثمَّ رَحل إِلَى دمش، وانتقل إِلَى الْبَصْرَة فَمَاتَ سنة 93هـ وَهُوَ آخر من مَاتَ بِالْبَصْرَةِ من الصَّحَابَة. 4 وَجَدْنَاهُ فِي مُسْند أَحْمد 3/ 326 بِلَفْظ: "مَا أعلم الْيَوْم نفسا منفوسة يَأْتِي عَلَيْهَا مائَة سنة ". يَقُول ابْن قُتَيْبَة: قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَذَكَرَ سَنَةَ مِائَةٍ: "إِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِهَا يَوْمَئِذٍ نَفْسٌ منفوسة ". قَالُوا: وَهَذَا بَاطِل بَين للعيان ... إِلَخ. وَجعل يرد على هَذَا الْكَلَام بِأَن الروَاة نسوا مِنْهُ حرفا أَو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أخفاه فَلم يسمعوه ثمَّ نرَاهُ بَلْ لَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مِنْكُمْ يَوْمئِذٍ نفس منفوسة ". أَقُول: هَذَا الْكَلَام من ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى فِيهِ تَقْصِير وَاضح، وَيُشِير إِلَى أَن محفوظاته من الحَدِيث لم تكن وَاسِعَة؛ لِأَن الْأَحَادِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا بِالذَّاتِ فِي صَحِيح مُسلم لَفظهَا وَاضح بِمَا يدْفع الْإِشْكَال وَلَا يحْتَاج إِلَى افتراض نسيانهم أَو أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخْفى كلمة أَو أَن المنسي لفظ مِنْكُم كل هَذَا مُخَالف لنَصّ الْأَحَادِيث، وَلَو ذكر وَاحِدًا مِنْهَا لتم الْجَواب بِنَصّ كَلَام النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير هَذَا التَّطْوِيل بِغَيْر طائل. وَإِلَيْك نُصُوص الْأَحَادِيث: روى مُسلم عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا. سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُول -قبل أَن يَمُوت بِشَهْر: "تَسْأَلُونِي عَن السَّاعَة؟ وَإِنَّمَا علمهَا عِنْد الله. وَأقسم بِاللَّه مَا على الأَرْض من نفس منفوسة تَأتي عَلَيْهَا مائَة سنة ". مُسلم رقم 2538- وَفِي لفظ آخر فِي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 قَالُوا: وَهَذَا بَاطِلٌ، بَيِّنٌ لِلْعَيَانِ، وَنَحْنُ طَاعِنُونَ فِي سِنِيِّ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَالنَّاسُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانُوا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا حَدِيثٌ قَدْ أَسْقَطَ الرُّوَاةُ مِنْهُ حَرْفًا. إِمَّا لِأَنَّهُمْ نَسَوْهُ، أَوْ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْفَاهُ، فَلَمْ يَسْمَعُوهُ. وَنَرَاهُ -بَلْ لَا نَشُكُّ- أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ ". يَعْنِي، مِمَّنْ حَضَرَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَوْ يَعْنِي الصَّحَابَةَ فَأَسْقَطَ الرَّاوِي "مِنْكُم". وَهَذَا مثل قَول بن مَسْعُودٍ فِي لَيْلَةِ الْجِنِّ "مَا شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا غَيْرِي"1 فَأَسْقَطَ الرَّاوِي "غَيْرِي".   = مُسلم أَيْضا نَصه: "مَا من نفس منفوسة الْيَوْم تَأتي عَلَيْهَا مائَة سنة وَهِي حَيَّة يَوْمئِذٍ ". وَهَذَا لفظ وَاضح فِي غَايَة الْبَيَان رَوَاهُ مُسلم من عدَّة طرق وَهُوَ أوضح جَوَاب وأخصره. وَأما حَدِيث أبي سعيد فَهَذَا نَصه لما رَوَاهُ مُسلم برقم 1519. "لَا تَأتي مائَة سنة وعَلى الأَرْض نفس منفوسة الْيَوْم ". كَمَا روى البُخَارِيّ وَمُسلم جَمِيعًا عَن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه؟ فَإِن على رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أحد ". مُسلم رقم 2537 وَفِي اللُّؤْلُؤ 1648 وَفِي لفظ لمُسلم هَذَا نَصه: "لَا يبْقى مِمَّن هُوَ الْيَوْم على ظهر الأَرْض أحد يُرِيد بذلك أَن ينخرم ذَلِك الْقرن ". -أَقُول: الإدراج الَّذِي فِي عجز الحَدِيث من قَول ابْن عمر نَفسه رَاوِي الحَدِيث؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَهل النَّاس فِي مقَالَة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فِيمَا يتحدثون من هَذِه الْأَحَادِيث. ثمَّ سَاقه يُرِيد تَفْسِير الْمَعْنى وَلَا شكّ أَن قَول الصَّحَابِيّ وفهمه أَحَق لِأَنَّهُ الَّذِي سمع وروى ووعى مَا لم نَعِ. وَلذَلِك فسر الْعلمَاء هَذِه الْأَحَادِيث على تَفْسِير ابْن عمر. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نَص الحَدِيث ونصوص الْأَحَادِيث الْأُخْرَى وَهِي فِي غَايَة الوضوح وَهِي مُخَالفَة لكَلَام ابْن قُتَيْبَة كُله ولرده واقتراحاته رَحمَه الله تَعَالَى. فَأَي إِنْسَان يقْرَأ وَاحِدًا من هَذِه النُّصُوص لَا يبْقى عِنْده سُؤال وَلَا اعْتِرَاض وَلَا أَي إِشْكَال. لِأَن الْمَقْصُود أَن ينقرض كل الْبشر الَّذِي كَانُوا أَحيَاء على الارض فِي تِلْكَ اللَّيْلَة قبل تَمام مائَة سنة. فَهُوَ إِخْبَار عَن ذَلِك الْقرن بِالذَّاتِ. عامًّا فِي كل الْبشر وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَقَوْلِي إِنَّه قصر لِأَنَّهُ لَو رَجَعَ إِلَى صَحِيح مُسلم لوجد الرَّد الصَّحِيح الْوَاضِح الْكَافِي الشافي الْمقنع. -الشَّيْخ مُحَمَّد مُحَمَّد بدير. 1 مُسلم: صَلَاة 150، 152، 153، البُخَارِيّ: مَنَاقِب الْأَنْصَار 32، سنَن أبي دَاوُد: طَهَارَة 43، التِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 14 -تَفْسِير سُورَة 46- سُورَة 55، ابْن ماجة: طَهَارَة 27، وَأحمد 1/ 398، 402، 449، 455، 457، 458. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَمِمَّا يَشْهَدُ عَلَى مَا أَقُولُ: أَنَّ أَبَا كُدَيْنَةَ، رَوَى عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ: إِنَّكَ تُفْتِي النَّاسَ؟ قَالَ: أَجَلْ وَأُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْآخَرَ شَرٌّ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي، هَلْ سَمِعَتْ مِنْهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَةُ مِائَةٍ، وَعَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تطْرِف ". فَقَالَ عليٌّ: أخطأتْ أُسْتُكَ الحفرةَ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ لِمَنْ حَضَرَهُ، وَهَلِ الرَّجَا1 إِلَّا بَعْدَ الْمِائَةِ. ونحوٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ، حَدِيثٌ حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ صَخْرِ بْنِ قُدَامَةَ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُولَدُ بَعْدَ سَنَةِ مِائَةٍ مَوْلُودٌ، لِلَّهِ فِيهِ حَاجَةٌ"2. قَالَ أَيُّوبُ: فَلَقِيتُ صَخْرَ بْنَ قُدَامَةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ3. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا هُوَ ذَاكَ الْحَدِيثُ وَقَعَ فِيهِ الْغَلَط، وَاخْتلفت فِيهِ الرِّوَايَات.   1 "وَهل الرجا" لَعَلَّ الْمَقْصُود بِهَذَا القَوْل: الرجا فِي تَكْمِيل الْفتُوح الإسلامية وَنشر الدَّين. 2 انْظُر تَنْزِيه الشَّرِيعَة 2/ 354، وَقد ورد فِي الْأَسْرَار الْمَوْضُوعَة فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة ص470 بِلَفْظ: "لَا يُولد بعد الستمائة مَوْلُود لله فِيهِ حَاجَة". 3 وَفِي نُسْخَة "فَلم يعرفهُ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قَالُوا: حَدِيثٌ يَدْفَعُهُ النَّظَرُ وَحُجَّةُ النّظر 9- الشَّمْس وَالْقَمَر ثوران: الوا: رَوَيْتُمْ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ1 قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ. وَجَاءَ الْحَسَنُ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 2. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ قَالَ: إِنِّي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَكَتَ. قَالُوا: قَدْ صَدَقَ الْحَسَنُ "مَا ذَنْبُهُمَا". وَهَذَا مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ رَدٌّ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لم يعذبا بالنَّار حِين   1 كلمة فارسية معربة "دانا عرب" بِزِيَادَة الْجِيم، كنظائره من صغائر التَّابِعين. وَاسم أَبِيه: "فَيْرُوز الْبَصْرِيّ" ا. هـ. من هَامِش الدمشقية. 2 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث رقم "5103" للسيوطي بِلَفْظ: "إِن الشَّمْس وَالْقَمَر ثوران عقيران فِي النَّار" وَأخرجه الطَّيَالِسِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا يَصح، وَقَالَ اللآلئ: لم يتهم بكذب، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَوَثَّقَهُ ابْن عدي فَقَالَ: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بتوثيق، وَابْن عدي يذكر مُنكرَات الرَّاوِي ثمَّ يَقُول: "أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ" يَعْنِي بالبأس تعمد الْكَذِب، ودرست واهٍ جدًّا وَالله أعلم. والْحَدِيث ورد فِي صَحِيح البُخَارِيّ بِلَفْظ: "الشَّمْس وَالْقَمَر مكوران يَوْم الْقِيَامَة" بَدْء الْخلق4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أدخلاها، فَيُقَالُ مَا ذَنْبُهُمَا، وَلَكِنَّهُمَا خُلِقَا مِنْهَا، ثُمَّ رُدَّا إِلَيْهَا. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّمْسِ -حِينَ غَرَبَتْ فِي نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ: "لَوْلَا مَا يَزَعُها مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَأَهْلَكَتْ مَا عَلَى الْأَرْضِ" 1. وَقَالَ: "مَا تَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ قَصْمَةً 2 إِلَّا فُتِحَ لَهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَإِذَا قَامَتِ الظَّهِيرَةَ، فُتِحَتِ الْأَبْوَابُ كُلُّهَا ". وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ شِدَّةَ حَرِّهَا مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ" 3. فَمَا كَانَ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى النَّارِ لَمْ يُقَلْ: إِنَّهُ يُعَذَّبُ. وَمَا كَانَ مِنَ الْمُسَخَّرِ الْمَقْصُورِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، كَالنَّارِ، وَالْفُلْكِ الْمُسَخَّرِ الدَّوَّارِ4، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، لَا يَقَعُ بِهِ تعذيبٌ، وَلَا يَكُونُ لَهُ ثوابٌ. وَمَا مِثْلُ هَذَا إِلَّا مِثْلُ رَجُلٍ سَمِعَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 5 فَقَالَ: مَا ذَنْب الْحِجَارَة؟.   1أخرجه أَحْمد جـ2 ص207. 2 مَا ترْتَفع: أَي الشَّمْس، والقصمة: الدرجَة. 3 أخرجه البُخَارِيّ: كتاب 9 بَاب 9 و10 و12 وَكتاب 59 بَاب 10. وَمُسلم: كتاب 5 حَدِيث 180-187، وَأَبُو دَاوُد كتاب 2 بَاب 4، وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 2 بَاب 5، وَالنَّسَائِيّ كتاب 6 بَاب 4 و5، وَابْن ماجة كتاب 2 بَاب 4. فوح: شدَّة الْحر. 4 فِي نُسْخَة أُخْرَى: للدوران. 5 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 10- الْعَدْوَى وَالطِّيَرَةُ: الوا: رَوَيْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ" 1. وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النُّقْبَةَ2 تَقَعُ بِمِشَفَرِ الْبَعِيرِ، فَتَجْرَبُ لِذَلِكَ الْإِبِلُ. فَقَالَ: "فَمَا أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ قَالَ: هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ. ثُمَّ رَوَيْتُمْ فِي خِلَافِ ذَلِكَ: "لَا يُورِدَنَّ ذُو عاهة على مصحّ" 3. "وفر مِنَ الْمَجْذُومِ، فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ" 4. وَأَتَاهُ رَجُلٌ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْبَيْعَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْانْصِرَافِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: "الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ" 5. قَالُوا: وَهَذَا كُلُّهُ مُخْتَلِفٌ، لَا يشبه بعضه بَعْضًا.   1 البُخَارِيّ: طب 19، 43، 44، 54، وَمُسلم 102 و107 و110 وَأَبُو دَاوُد: طب 24، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 10، طب 43، 55، وَأحمد 1/ 174، 180. 2 النقبة: الْبقْعَة الصَّغِيرَة. 3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "لَا يوردن ممرض على مصح" البُخَارِيّ طب 53، وَمُسلم: سَلام 104، وَأَبُو دَاوُد: طب 24، وَأحمد 2/ 406. 4 البُخَارِيّ: 7/ 109، ومسند أَحْمد: 2/ 443، والمقاصد: 299، والتمييز: 110، والأسرار: 79، والكشف: 2/ 85، والدرر برقم 313. 5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "الشؤم فِي الدَّار وَالْمَرْأَة وَالْفرس" أَبُو دَاوُد: 4/ 3922 وَالْبُخَارِيّ: طب 7/ 174 وَفِي النِّكَاح 7/ 10، وَمُسلم: فِي السَّلَام حَدِيث 2225 بَاب الطَّيرَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ، وَلِكُلِّ مَعْنًى مِنْهَا وَقْتٌ وَمَوْضِعٌ، فَإِذَا وُضِعَ بِمَوْضِعِهِ زَالَ الْاخْتِلَافُ. وَالْعَدْوَى جِنْسَانِ: أَحَدُهُمَا: عَدْوَى الْجُذَامِ، فَإِنَّ الْمَجْذُومَ، تَشْتَدُّ رَائِحَتُهُ حَتَّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُؤَاكَلَتَهُ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ، تَكُونُ تَحْتَ الْمَجْذُومِ، فَتُضَاجِعُهُ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ، فَيُوَصِّلُ إِلَيْهَا الْأَذَى، وَرُبَّمَا جُذِمَتْ. وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ ينزِعُون -فِي الْكَثِيرِ1- إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ سُلٌّ2 وَدَقٌّ، ونَقْب. وَالْأَطِبَّاءُ تَأْمُرُ بِأَنْ لَا يُجَالَسَ الْمَسْلُولُ ُولا الْمَجْذُومُ. لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَعْنَى الْعَدْوَى، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ تُسْقِمُ مَنْ أطالَ اشْتِمَامَهَا. وَالْأَطِبَّاءُ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ الْإِيْمَانِ بِيُمْنٍ أَوْ شُؤْمٍ. وَكَذَلِكَ النُّقْبَةُ، تَكُونُ بِالْبَعِيرِ، وَهِيَ جربٌ رَطْبٌ، فَإِذَا خَالَطَهَا الْإِبِلُ، وَحَاكَهَا، وَأَوَى فِي مُبَارِكِهَا، أَوْصَلَ إِلَيْهَا، بِالْمَاءِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ وَالنُّطَفُ نَحْوًا مِمَّا بِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُورِدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ". كَرِهَ أَنْ يُخَالِطَ الْمَعْيُوهُ3 الصَّحِيحَ، فَيَنَالُهُ مِنْ نَطفه وحِكَّته، نَحْو مِمَّا بِهِ.   1 وَفِي نُسْخَة: فِي الْكبر. 2 السل: بِالْكَسْرِ وَالضَّم: قرحَة تحدث فِي الرئة بتأثير جرثوم، وَقد تنْتَقل بعدوى المخالطة. 3 المعيوه: الْمُصَاب بالعاهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُظَنَّ أَنَّ الَّذِي نَالَ إِبِلَهُ مِنْ ذَوَاتِ الْعَاهَةِ، فَيَأْثَمَ. قَالَ: وَلَيْسَ لِهَذَا -عِنْدِي- وَجْهٌ، لِأَنَّا نَجِدُ الَّذِي أَخْبَرْتُكَ بِهِ عَيَانًا. وَأَمَّا الْجِنْسُ الْآخَرُ مِنَ الْعَدْوَى: فَهُوَ الطَّاعُونُ، يَنْزِلُ بِبَلَدٍ، فَيُخْرَجُ مِنْهُ، خَوْفًا مِنَ الْعَدْوَى. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ1 هَرَبَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَرَكِبَ حِمَارًا، وَمَضَى بِأَهْلِهِ نَحْوَ سفوان2 فَسمع حَادِيًا يَحْدُو خَلْفَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ يُسْبَقَ اللَّهُ عَلَى حِمَارِ ... وَلَا عَلَى ذِي مَيْعَةٍ3 مُطَارِ أَوْ يَأْتِيَ الْحَتْفُ عَلَى مِقْدَارِ ... قَدْ يُصْبِحُ اللَّهُ أَمَامَ السَّارِي وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ بِالْبَلَدِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ، فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ" 4. وَقَالَ أَيْضًا: "إِذَا كَانَ بِبَلَدٍ، فَلَا تُدْخُلُوهُ". يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ فِيهِ كَأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الْفِرَارَ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، يُنْجِيكُمْ مِنَ اللَّهِ. وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ: "وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ" أَنَّ مُقَامَكُمْ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا طَاعُونَ فِيهِ، أَسْكَنُ لِأَنْفُسِكُمْ، وَأَطْيَبُ لِعَيْشِكُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ تُعْرَفُ الْمَرْأَةُ بِالشُّؤْمِ، أَوِ الدَّارُ، فَيَنَالُ الرَّجُلَ مَكْرُوهٌ، أَوْ جَائِحَةٌ، فَيَقُولُ: "أَعْدَتْنِي بِشُؤْمِهَا" فَهَذَا هُوَ الْعَدْوَى، الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا عَدْوَى ".   1 فِي الدمشقية: أَن رجلا. 2 سفوان: مَوضِع بِالْبَصْرَةِ. 3 ذِي ميعة: أَي ذِي جَرَيَان، كالفرس سريع الجريان. 4 البُخَارِيّ: طب 30، وَمُسلم: سَلام 92، 93، 94، 98، 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ" 1. فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ، يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْغَلَطُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِهِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَا إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالدَّابَّةِ، وَالدَّارِ". فَطَارَتْ شَفَقًا- ثُمَّ قَالَتْ: "كَذِبَ -وَالَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ- عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ، مَنْ حَدَّثَ بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الطِّيَرَةَ فِي الدَّابَّةِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ" ثُمَّ قَرَأَتْ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} 2. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ النَّهْدَيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَن إِسْحَاق عَن بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَّا إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَزَلْنَا دَارًا، فَكَثُرَ فِيهَا عَدَدُنَا وَكَثُرَتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا، ثُمَّ تَحَوَّلْنَا عَنْهَا إِلَى أُخْرَى، فَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا، وَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا. فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْحَلُوا عَنْهَا، وَذَرُوهَا، وَهِيَ ذَمِيمَةٌ" 3، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَيْسَ هَذَا ينْقض للْحَدِيث الْأَوَّلُ بِنَقْضٍ لِهَذَا. وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ فِيهَا على استثقال   1 سبق تَخْرِيجه ص167. 2 سُورَة الْحَدِيد: الْآيَة 22. 3 أَبُو دَاوُد: طب 34، والموطأ: اسْتِئْذَان 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 لظلها، وَاسْتِيحَاشٍ بِمَا نَالَهُمْ فِيهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَرَائِزِ النَّاسِ وَتَرْكِيبِهِمُ، اسْتِثْقَالَ مَا نَالَهُمُ السُّوءُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا سَبَبَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَحُبَّ مَنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ الْخَيْرُ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُمْ بِهِ، وَبُغْضَ مَنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ الشَّرُّ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُمْ بِهِ. وَكَيْفَ يَتَطَيَّرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالطِّيَرَةُ مِنَ الْجِبْتِ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَرَوْنَهَا شَيْئًا، وَيَمْدَحُونَ مَنْ كَذَّبَ بِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ1 يَمْدَحُ رَجُلًا: وليسَ بهيَّابٍ إِذَا شّدَّ رحلَه ... يقولُ عَدَانِي اليومَ واقٌ وحاتِمُ وَلَكِنَّهُ يَمْضِي عَلَى ذَاكَ مُقْدِما ... إِذَا صَدَّ عَنْ تِلْكَ الهَناتِ الخُثارِمُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْخُثَارِمُ، هُوَ الَّذِي يَتَطَيَّرُ، وَالَوَاقُ الصَّرْدُ، وَالْحَاتِمُ: الْغُرَابُ. وَقَالَ الْمُرَقِّشُ2: وَلَقدْ غدوتُ وكنتُ لَا ... أغدُو عَلَى واقٍ وحاتمْ فَإِذا الأشائمُ كالأيا ... مِنِ والأيامنُ كالأشائمْ وَكَذَاكَ لَا خيرٌ وَلَا ... شرٌّ عَلَى أحدٍ بدائمْ وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثلاثةٌ لَا يَسلمُ مِنْهُنَّ أحدٌ، الطِّيَرَةُ، وَالظَّنُّ، وَالْحَسَدُ"3.   1 هُوَ الرقاص الْكَلْبِيّ على الصَّحِيح، قَالَه ابْن السيرافي والمخاطب هُوَ مَسْعُود بن بَحر. 2 وتروي الأبيات: لخزز بن لوذان السدُوسِي. 3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "ثَلَاث لم تسلم مِنْهَا هَذِه الْأمة: الْحَسَد وَالظَّن والطيرة" ضَعِيف الْجَامِع رقم 2526 رُوِيَ عَن الْحسن مُرْسلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قِيلَ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهُنَّ؟ قَالَ: "إِذَا تَطَيَّرْتَ فَلَا تَرْجِعُ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقُ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ" هَذِهِ الْأَلْفَاظُ1 أَوْ نَحْوُهَا. وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَعْجَبُ، مِمَّنْ يُصَدِّقُ بِالطِّيَرَةِ، وَيَعِيبُهَا أَشَدَّ الْعَيْبِ. وَقَالَ: فَرَقَتْ2 لَنَا نَاقَةٌ: وَأَنَا بِالطَّفِّ، فَرَكِبْتُ فِي أَثَرِهَا، فَلَقِيَنِي هَانِئُ بْنُ عُبَيْدٍ مِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَهُوَ مُسْرِعٌ يَقُولُ: وَالشَّرُّ يُلْفَى3 مطالعَ الْأَكَمْ ثُمَّ لَقِيَنِي رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْحَيِّ فَقَالَ: وَلَئِنْ بغيتَ لَنَا4 بُغَاةً ... مَا البغاةُ بِوَاجِدِينَا5 ثُمَّ دَفَعْنَا إِلَى غُلَامٍ قَدْ وَقَعَ فِي صِغَرِهِ فِي نَارٍ، فَأَحْرَقَتْهُ، فَقَبُحَ وَجْهُهُ، وَفَسَدَ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ ذَكَرْتَ مِنْ نَاقَةٍ فَارِقٍ؟ قَالَ: هَهُنَا أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَانْظُرْ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هِيَ عِنْدَهُمْ وَقَدْ أَنْتَجَتْ، فَأَخَذْتُهَا وَوَلَدَهَا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْفَارِقُ: الَّتِي قَدْ حَمَلَتْ، فَفَارَقَتْ صَوَاحِبَهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَمَرَّ طَائِرٌ يَصِيحُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: "خَيْرٌ خَيْرٌ". فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْتَحِبُّ الْاسْمَ الْحَسَنَ والفأل الصَّالح.   1 وَفِي نُسْخَة: "هَذِه أَلْفَاظ الحَدِيث". 2 فرقت: أَي أَخذهَا الْمَخَاض فجرت. 3 وَفِي نُسْخَة: "يلقى". 4 وَفِي نُسْخَة: "لَهُم". 5 قيل إِنَّه من شعر: لبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وَحَدَّثَنِي الرِّيَاشَيُّ1 قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ سَأَلت بن عَوْنٍ عَنِ الْفَأْلِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا، فَيُسْمَعَ "يَا سَالِمُ" أَوْ يَكُونَ بَاغِيًا2 فَيُسْمَعُ "يَا وَاجِدُ". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا أَيْضًا، مِمَّا جُعِلَ فِي غرائز النَّاس تستحبه وتأنس بِهِ، كَمَا جُعِلَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ التَّحِيَّةِ بِالسَّلَامِ، وَالْمَدِّ فِي الْأُمْنِيَةِ، وَالتَّبْشِيرِ بِالْخَيْرِ. وَكَمَا يُقَالُ: "انْعَمْ وَاسْلَمْ" وَ"انْعَمْ صَبَاحًا" وَكَمَا تَقُولُ الْفُرْسُ: "عِشْ أَلْفَ نوروز". وَالسَّامِعُ لِهَذَا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ وَلَا يُؤَخِّرُ، وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَلَكِنْ جُعِلَ فِي الطِّبَاعِ مَحَبَّةُ الْخَيْرِ وَالْارْتِيَاحُ لِلْبُشْرَى، وَالْمَنْظَرِ الْأَنِيقِ، وَالْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَالْاسْمِ الْخَفِيفِ. وَقَدْ يَمُرُّ الرَّجُلُ بِالرَّوْضَةِ الْمُنَوِّرَةِ3 فَتَسُرُّهُ، وَهِيَ لَا تَنْفَعُهُ، وَبِالْمَاءِ الصَّافِي فَيُعْجَبُ بِهِ4 وَهُوَ لَا يَشْرَبُهُ وَلَا يُورِدُهُ5. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ يُعْجَبُ بِالْأُتْرُجِّ، وَيُعْجِبُهُ الْحَمَامُ الْأَحْمَرُ"6. "وَتُعْجِبُهُ الْفَاغِيَةُ"7 وَهِيَ نَوْرُ الْحِنَّاءِ. وَهَذَا مِثْلُ إِعْجَابِهِ بِالْاسْمِ الْحَسَنِ، وَالْفَأْلِ الْحَسَنِ. وَعَلَى مِثْلِ هَذَا، كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِلْاسْمِ الْقَبِيحِ، كَـ"بَنِي النَّارِ" وَ"بَنِي حِرَاقٍ" وَ"بَنِي زِنْيَةٍ" وَ"بَنِي حزن" وَأَشْبَاه هَذَا.   1 وَفِي نُسْخَة: الرقاشِي. 2 بَاغِيا: أَي يطْلب ضَالَّة. 3 المنورة: المزهرة. 4 وَفِي نُسْخَة: فيعجب بِهِ. 5 وَلَا يُورِدهُ: من الْإِيرَاد، من أوردت الْإِبِل المَاء: إِذا جَعلتهَا وَارِدَة عَلَيْهِ لتشرب. 6 ورد بِلَفْظ: "كَانَ يُعجبهُ النّظر إِلَى الأترج وَكَانَ يعجه النّظر إِلَى الْحمام الْأَحْمَر" وَهُوَ مَوْضُوع كَمَا ذكر الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع برقم 4584 وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة 1393. 7 ضَعِيف: ذكره الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع برقم 4583 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة 4278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قَالُوا: حديثان متناقضان 11- الْإِيرَاد فِي الصَّلَاةِ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ قَالَ: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّمْضَاءَ، فَلَمْ يُشْكِنَا"1. يَعْنِي أَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ شِدَّةَ الْحَرِّ وَمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَسَأَلُوهُ الْإِبْرَادَ بِالصَّلَاةِ، فَلَمْ يُشْكِهِمْ، أَيْ "لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى تَأْخِيرِهَا". ثُمَّ رَوَيْتُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ" 2. قَالُوا: وَهَذَا اخْتِلَافٌ، لَا خَفَاءَ بِهِ، وَتَنَاقُضٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا -بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى- اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ. لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَوْقَاتِ، رِضْوَانُ اللَّهِ. وَآخِرَ الْأَوْقَاتِ، عَفْوُ اللَّهِ، وَالْعَفْوُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ تَقْصِيرٍ. فَأَوَّلُ الْأَوْقَاتِ أَوْكَدُ أَمْرًا، وَآخِرُهَا رُخْصَةٌ. وَلَيْسَ يَجُوزُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ فِي نَفْسِهِ إِلَّا بِأَعْلَى الْأُمُورِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.   1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة فِي الرمضاء فَلم يشكنا" مُسلم: مَسَاجِد 189، 190، النَّسَائِيّ: مَوَاقِيت 2، وَابْن ماجة: صَلَاة 3 وَأحمد: 5/ 108، 110. 2 سبق تَخْرِيجه ص166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي نَفْسِهِ بِالرُّخْصَةِ، مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، لِيَدُلَّ بِذَلِكَ النَّاسَ عَلَى جَوَازِهَا. فَأَمَّا أَنْ يَدُومَ عَلَى الْأَمْرِ الْأَخَسِّ، وَيَتْرُكَ الْأَوْكَدَ وَالْأَفْضَلَ، فَذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ. فَلَمَّا شَكَا إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ الرَّمْضَاءَ، وَأَرَادُوا مِنْهُ التَّأْخِيرَ إِلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحُرُّ، لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، إِذْ كَانُوا مَعَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِبْرَادِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ، تَوْسِعَةً عَلَى أُمَّتِهِ، وَتَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ تَغْلِيسُهُ بِالْفَجْرِ، وَقَوْلُهُ: "أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ" 1. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ لِلزَّوَالِ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا، حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عُلَيَّةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأُولَى، حِينَ تَدْحَضُ2 الشَّمْسُ" يَعْنِي: حِين تَزُول.   1 التِّرْمِذِيّ: صَلَاة3، النَّسَائِيّ: مَوَاقِيت 27، الدَّارمِيّ: صَلَاة 31، وَأحمد 5/ 429. 2 ورد فِي سنَن أبي دَاوُد ج1 ص285 مَا نَصه: "أَن بِلَالًا كَانَ يُؤذن الظّهْر إِذا دحضت الشَّمْس"، وَأَصله فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَهُمَا عَن جَابر نَحوه: انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان -الْأَحَادِيث رقم 378 - 379 وَمعنى دحضت الشَّمْس: أَي زَالَت، وأصل الدحض، الزلق، يُقَال: دحضت رجله: أَي زلت عَن موضعهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 12- هَلْ كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ قَبْلَ الْبِعْثَةِ؟ قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا كَفَرَ بِاللَّهِ نَبِيٌّ قَطُّ، وَأَنَّهُ بُعِثَ إِلَيْهِ مَلَكَانِ، فَاسْتَخْرَجَا مِنْ قَلْبِهِ -وَهُوَ صَغِيرٌ- عَلَقَةً ثُمَّ غَسَلَا قَلْبَهُ، ثُمَّ رَدَّاهُ إِلَى مَكَانِهِ" 1. ثُمَّ رَوَيْتُمْ، أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَتَيْهِ: عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ، وَأَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، وَهُمَا كَافِرَانِ. قَالُوا: وَفِي هَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ، وَتَنَقُّصٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ، بِنِعْمَةِ اللَّهِ، مُتَعَلَّقٌ وَلَا مَقَالٌ، إِذَا عَرَفَ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ جَمِيعًا، مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، خَلَا الْيَمَنَ. وَلَمْ يَزَالُوا عَلَى بَقَايَا مِنْ دَيْنِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ حَجُّ الْبَيْتِ وَزِيَارَتُهُ، وَالْخِتَانُ، وَالنِّكَاحُ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ، إِذَا كَانَ ثَلَاثًا، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ فِي الْوَاحِدَةِ وَالْاثْنَتَيْنِ، وَدِيَةُ النَّفْسِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ2، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَاتِّبَاعُ الْحُكْمِ فِي الْمُبَالِ فِي الْخُنْثَى، وَتَحْرِيمُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ وَالنَّسَبِ -وَهَذِهِ أُمُور مَشْهُورَة عَنْهُم.   1 رَوَاهُ أَبُو نعيم وَالْإِمَام أَحْمد وَصَححهُ الْحَاكِم عَن عتبَة بن عبد الله. وَجَاءَت قصَّة الشق فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأما ذكر اسْتِخْرَاج الْعلقَة فلمسلم من حَدِيث أنس بن مَالك رقم 162 الراوية الثَّالِثَة مِنْهُ رِوَايَة مُطَوَّلَة جدًّا من حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس، رَوَاهَا أَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل وَرَوَاهَا الطَّبَرِيّ فِي التَّارِيخ والقسطلاني فِي الْمَوَاهِب وَجمع غَيرهم. 2 وَفِي نُسْخَة زِيَادَة: "وتفريق الْفراش، فِي وَقت الْحيض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وَكَانُوا -مَعَ ذَلِكَ- يُؤْمِنُونَ بِالْمَلَكَيْنِ الْكَاتِبَيْنِ. قَالَ الْأَعْشَى1 وَهُوَ جَاهِلِيٌّ: فَلَا تَحْسَبَنِّي كَافِرًا لَكَ نِعْمَةً ... عَلَى شَاهِدِي يَا شَاهِدَ اللَّهِ فَاشْهَدِ يُرِيدُ: عَلَى لِسَانِي، يَا مَلَكَ اللَّهِ،، فَاشْهَدْ بِمَا أَقُولُ. وَيُؤْمِنُ بَعْضُهُمْ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ. -قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى2، وَهُوَ جَاهِلِيٌّ لَمْ يَلْحَقِ الْإِسْلَامَ- فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي تُعَدُّ مِنَ السَّبْعِ: يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ ... لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي الْبَلِيَّةِ -وَهِيَ النَّاقَةُ تُعْقَلُ عِنْدَ قَبْرِ صَاحِبِهَا، فَلَا تُعْلَفُ وَلَا تُسْقَى حَتَّى تَمُوتَ-: "إِنَّ صَاحِبَهَا يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَاكِبَهَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَوْلِيَاؤُهُ ذَلِكَ بَعْدَهُ، جَاءَ حَافِيًا رَاجِلًا". وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو زُبَيْدٍ فَقَالَ: كَالْبَلَايَا رُءُوسُهُا فِي الولايا ... مانحات السُّمُومِ حَرَّ الْخُدُودِ وَالْوَلَايَا: الْبَرَاذِعُ. وَكَانُوا يُقَوِّرُونَ الْبَرْذعَةَ، وَيُدْخِلُونَهَا فِي عُنُقِ تِلْكَ النَّاقَةِ، فَقَالَ النَّابِغَةُ: مَحَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ يُرِيدُ الْجَزَاء بأعمالهم، ومحلتهم الشَّام3.   1 الْأَعْشَى: عَامر بن الْحَارِث النميري شَاعِر وصاف أدْرك الْإِسْلَام وَسمع الْقُرْآن واقتبس مِنْهُ كَلِمَات. 2 زُهَيْر بن أبي سلمى: من مُضر حَكِيم الشُّعَرَاء فِي الْجَاهِلِيَّة، وَفِي أَئِمَّة الْأَدَب من يفضله على شعراء الْعَرَب كَافَّة. ولد فِي بِلَاد "مزينة" بنواحي الْمَدِينَة، كَانَ ينظم القصيدة فِي شهر وينقحها ويهذبها فِي سنة فَكَانَت قصائده تسمى "الحوليات" وَترْجم كثير من شعره إِلَى الألمانية. توفّي 13 ق. هـ. 3 قَالَ أَبُو مُحَمَّد: ويروى "مجلتهم" بِالْجِيم، فالمحلة بِالْحَاء: الأَرْض، والمجلة: الصَّحِيفَة الَّتِي فِيهَا الْحِكْمَة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: مَعْنَاهُ أَنهم يحجون فيملون مَوَاضِع مُقَدَّسَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ؛ يُرَادُ: عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيْمَانِ بِاللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِمْ: فِي الْخِتَانِ، وَالْغُسْلِ، وَالْحَجِّ، وَالْمَعْرِفَةِ بِالْبَعْثِ، وَالْقِيَامَةِ وَالْجَزَاءِ وَكَانَ -مَعَ هَذَا- لَا يقرب الْأَوْثَان، ويعيبها، وَقَالَ: "بُغِّضَتْ إِلَيَّ" غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ فَرَائِضَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّرَائِعَ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، عَلَى لِسَانِهِ حَتَّى أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} 1. يُرِيدُ: ضَالًّا عَنْ تَفَاصِيلِ الْإِيْمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، فَهَدَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} 2 يُرِيدُ مَا كُنْتَ تَدْرِي، مَا الْقُرْآنُ، وَلَا شَرَائِعُ الْإِيْمَانِ. وَلَمْ يُرِدِ الْإِيْمَانَ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ، لِأَنَّ آبَاءَهُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَحُجُّونَ لَهُ، وَيَتَّخِذُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ، يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَيْهِ تَعَالَى وتقربه فِيمَا ذَكَرُوا مِنْهُ، ويَتَوَقّوْنَ الظُّلْمَ، وَيَحْذَرُونَ عَوَاقِبَهُ، وَيَتَحَالَفُونَ عَلَى أَنْ لَا يُبغى عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يُظْلَمَ. وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ3 لِمَلِكِ الْحَبَشَةِ، حِينَ سَأَلَهُ حَاجَتَهُ فَقَالَ: "إِبِلٌ ذَهَبَتْ لِي". فَعَجِبَ مِنْهُ، كَيْفَ لَمْ يَسْأَلْهُ الْانْصِرَافَ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ: "إِنَّ لِهَذَا الْبَيْتِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْهُ" أَوْ كَمَا قَالَ.   1 سُورَة الضُّحَى: الْآيَة 7. 2 سُورَة الشورى: الْآيَة 52. 3 عبد الْمطلب: جد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لِأَبِيهِ، وَكَانَ سيد قومه واسْمه الْكَامِل: عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف، مولده فِي الْمَدِينَة 127ق. هـ. ومنشأه بِمَكَّة، وَكَانَ أَبيض مديد الْقَامَة ذَا أَنَاة ونجده فصيح اللِّسَان حَاضر الْقلب مَاتَ بِمَكَّة عَام 45ق. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ الْمُطَهَّرُ يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ الْوَحْيِ؟! وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْهِ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} أَنَّ الْإِيْمَانَ، شَرَائِعُ الْإِيْمَانِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَوْمِهِ هَؤُلَاءِ، لَا أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وَقَالَ لِنُوحٍ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} 2 يَعْنِي: ابْنَهُ، لَمَّا كَانَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ. وَأَمَّا تَزْوِيجُهُ ابْنَتَيْهِ كَافِرَيْنَ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي كَانَ لَا يَعْلَمُهَا. وَإِنَّمَا تَقْبُحُ الْأَشْيَاءُ بِالتَّحْرِيمِ، وَتَحْسُنُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّحْلِيلِ. وَلَيْسَ فِي تَزْوِيجِهِمَا كَافِرَيْنَ، قَبْلَ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ إنكاح الْكَافرين، وَقيل أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، مَا يُلْحِقُ بِهِ كُفْرًا بِاللَّهِ تَعَالَى.   1 سُورَة إِبْرَاهِيم: الْآيَة 36. 2 سُورَة هود: الْآيَة 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 13- خَيْرُ الْقُرُونِ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ أُمَّتِي، مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ، أَمْ آخِرُهُ"1. ثُمَّ رَوَيْتُمْ "إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا" 2. وَأَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ أُمَّتِي، الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِ" 3. قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا" أَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ حِينَ بَدَأَ قَلِيلٌ، وَهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَلِيلٌ إِلَّا أَنَّهُمْ خِيَارٌ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا، مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، أَو عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خِيَارُ أُمَّتِي أَوَّلُهُا وَآخِرُهَا"، وَبَيْنَ ذَلِكَ ثَبَجٌ أَعْوَجُ، لَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ"4 وَالثَّبَجُ: الْوَسَطُ.   1 مُسْند أَحْمد 3/ 143، وَالتِّرْمِذِيّ 4/ 40، والفوائد للكرمي 74، والدرر برقم 364، وفتاوى النَّوَوِيّ 121، والمقاصد 374، والتمييز 147، والكشف 2/ 197 وَهُوَ حَدِيث حسن. وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع للألباني رقم 5854. 2 مُسلم: ك1 ح232، وَالتِّرْمِذِيّ: ك38 ب13، والدارمي ك20 ب42، وَابْن ماجة: ك36 ب15 ومسند أَحْمد 1/ 398، 4/ 73. 3 الْمَقَاصِد الْحَسَنَة ص104 وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. 4 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "خِيَار أمتِي أَولهَا، وَآخِرهَا نهج أَعْوَج، لَيْسُوا مني وَلست مِنْهُم" ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير للألباني برقم 2866 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 3559. وَقد ورد فِي مَكَان آخر بِلَفْظ: "خير أمتِي أَولهَا وَآخِرهَا، وَفِي سوطها الكدر ". عَن أبي الدَّرْدَاء. ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير للألباني برقم 2902 وَالْأَحَادِيث الضعيفة برقم 3572. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذَا آثَارٌ. مِنْهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ آخِرَ الزَّمَانِ، فَقَالَ: "الْمُتَمَسِّكُ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ، كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ" 1. وَمِنْهَا حَدِيثٌ آخَرُ، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الشَّهِيدَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، كَشَهِيدِ بَدْرٍ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغُرَبَاءِ، فَقَالَ: "الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي" 2. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "خَيْرُ أُمَّتِي، الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِ" 3 فَلَسْنَا نَشُكُّ فِي أَنَّ صَحَابَتَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، مِثْلُ الْفَضْلِ الَّذِي أُوتُوهُ. وَإِنَّمَا قَالَ: "مَثَلُ أُمَّتِي، مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ" 4 عَلَى التَّقْرِيبِ لَهُمْ مِنْ صَحَابَتِهِ كَمَا يُقَالُ: مَا أَدْرِي، أَوَجْهُ هَذَا الثَّوْبِ أَحْسَنُ أَمْ مُؤَخَّرُهُ. وَوَجْهُهُ أَفْضَلُ إِلَّا أَنَّكَ أَرَدْتَ التَّقْرِيبَ مِنْهُ. وَكَمَا تَقُولُ: مَا أَدْرِي، أَوَجْهُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَحْسَنُ، أَمْ قَفَاهَا. وَوَجْهُهَا أَحْسَنُ إِلَّا أَنَّكَ أَرَدْتَ تَقْرِيبَ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْحُسْنِ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ فِي تِهَامَةَ: إِنَّهَا كَبَدِيعِ الْعَسَلِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ، وَالْبَدِيعُ: الزِّقُّ. وَإِذَا كَانَ الْعَسَلُ فِي زِقٍّ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ اخْتِلَافَ اللَّبَنِ فِي الْوَطْبِ5 فَيَكُونُ أَوَّلُهُ خَيْرًا مِنْ آخِرِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَقَارَبُ فَلَا يَكُونُ لِأَوَّلِهِ كَبِيرُ فضل، على آخِره.   1 التِّرْمِذِيّ: فتن 73، وَأحمد 2/ 390، 391. 2 التِّرْمِذِيّ: إِيمَان13، وَابْن ماجة: فتن15، والدارمي رقاق 42، وَأحمد 1/ 184، 398، 2/ 177، 389، 4/ 73، وَقد ورد فِي صَحِيح مُسلم أصل الحَدِيث "طُوبَى للغرباء" برقم 145. 3 حَدِيث صَحِيح، مَقَاصِد ص 104. 4 حَدِيث حسن، أَحْمد؛ 3/ 143، وَالتِّرْمِذِيّ: 4/ 40، والفوائد للكرمي 74 والدرر برقم 364، وفتاوى النَّوَوِيّ 121 والمقاصد 374 والتمييز: 147، والكشف 2/ 197. 5 الوطب: سقاء اللَّبن، وَهُوَ جلد الْجذع فَمَا فَوْقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 14- تَفْضِيلُ النَّبِيِّ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَلَا تُخَايِرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَلَا فَخْرَ" 2. قَالُوا: وَهَذَا، اخْتِلَافٌ وَتَنَاقُضٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ الشَّافِعُ يَوْمَئِذٍ، وَالشَّهِيدُ، وَلَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَالْحَوْضُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُس" طَرِيقِ التَّوَاضُعِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وُلِّيتُكُمْ، وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ". وَخَصَّ يُونُسَ لِأَنَّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. يُرِيدُ فَإِذَا كُنْتُ لَا أُحِبُّ أَنْ أُفَضَّلَ عَلَى يُونُسَ، فَكَيْفَ غَيْرُهُ، مِمَّنْ هُوَ فَوْقه   1 البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 35، وَمُسلم: فَضَائِل 159. 2 طَبَقَات ابْن سعد جـ1 ق1 ص1، 3. وَهُوَ فِي صَحِيح مُسلم رقم 2278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} 1 أَرَادَ أَنَّ يُونُسَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْرٌ كَصَبْرِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا دَلَّكَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: لَا تَكُنْ مِثْلَهُ. وَذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ" طَرِيقَ التَّوَاضُعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: لَا تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ، فَلَعَلَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا مِنِّي، وَلَا فِي الْبَلْوَى وَالِامْتِحَانِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنِّي مِحْنَةً. وَلَيْسَ مَا أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ السُّؤْدُدِ، وَالْفَضْلِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ بِعَمَلِهِ، بَلْ بِتَفْضِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَاخْتِصَاصِهِ لَهُ، وَكَذَلِكَ أُمَّتُهُ أَسْهَلُ الْأُمَمِ مِحْنَةً. بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ2، وَوَضَعَ عَنْهَا الْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي فَرَائِضِهِمْ. وَهِيَ -مَعَ هَذَا- خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس، بِفضل الله تَعَالَى.   1 سُورَة الْقَلَم: الْآيَة 48. 2 وَفِي نُسْخَة: السمحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 15- دُخُولُ الْجَنَّةِ وَدُخُولُ النَّارِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" 2. وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالُوا: وَهَذَا اخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ وَهَذَا الْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحُكْمِ. يُرِيدُ: لَيْسَ حُكْمَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ؛ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ. فَإِذَا نَازَعَهَا اللَّهَ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ.   1 مُسلم: إِيمَان 147، 148، 149، وَأَبُو دَاوُد: لِبَاس 26، وَالتِّرْمِذِيّ بر 61، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 29، زهد 16، ومسند أَحْمد 1/ 399، 412-416. 2 البُخَارِيّ: جنائز 1، بَدْء الْخلق 6، لِبَاس 24، اسْتِئْذَان 30، رقاق 13، 14، تَوْحِيد 3533، وَمُسلم: إِيمَان 153، 154، زَكَاة 33، وَالتِّرْمِذِيّ: إِيمَان 18 وَأحمد 5/ 152، 159، 161، 385، 6/ 166، 442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، قَوْلُكَ -فِي دَارٍ رَأَيْتَهَا صَغِيرَةً- لَا يَنْزِلُ فِي هَذَا الدَّارِ أَمِيرٌ. تُرِيدُ: حُكْمَهَا وَحُكْمَ أَمْثَالِهَا أَنْ لَا يَنْزِلَهَا الْأُمَرَاءُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلُوهَا. وَقَوْلُكَ: هَذَا بَلَدٌ لَا يَنْزِلُهُ حُرٌّ؛ تُرِيدُ لَيْسَ حُكْمُهُ أَنْ يَنْزِلَهُ الْأَحْرَارُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلُوهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ" 1 لِأَنَّهُ رَغِبَ عَنْ هَدِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَدَقَتِهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِرُخْصَتِهِ وَيُسْرِهِ. وَالرَّاغِبُ عَنِ الرُّخْصَةِ، كَالرَّاغِبِ عَنِ الْعَزْمِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، إِنْ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 2. أَيْ: حُكْمُهُ أَنْ يَجْزِيَهُ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ"3. وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأُقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ لِي: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ؟ فَأَقُولُ: أَنْتَ قُلْتَهُ يَا رَبِّ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} . فَقُلْتُ لَهُ -وَمَا فِي الْبَيْتِ أَصْغَرُ مِنِّي- أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ: فَإِنِّي قَدْ قَلْتُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ؟ قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا.   1 أَحْمد: 4/ 25، 26، 414. 2 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 93. 3 سبق تَخْرِيجه ص 158. 4 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ 16- الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِبَنِيهِ: " إِذَا أَنَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الْيَمِّ، لَعَلِّي أُضِلُّ اللهَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ -أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ- عَلَى مَا فعلتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ" 1. قَالُوا: وَهَذَا كَافِرٌ، وَاللَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْكَافِرِ، وَبِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ فِي: "أُضِلُّ اللَّهَ"2 إِنَّهُ بِمَعْنَى "أَفُوتُ اللَّهَ" تَقُولُ: ضَلَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَأَضْلَلْتُهُ. -وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 3 أَيْ لَا يَفُوتُ رَبِّي. وَهَذَا رجل مُؤمن بِاللَّه، مقربه، خَائِفٌ لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُ إِذْ أحرق وذري الرِّيحِ أَنَّهُ يَفُوتُ اللَّهَ تَعَالَى، فَغَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِمَعْرِفَتِهِ مَا بِنِيَّتِهِ وَبِمَخَافَتِهِ مِنْ عَذَابِهِ جَهْلَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ صِفَاتِهِ. وَقَدْ يَغْلَطُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِالنَّارِ، بَلْ تُرْجَأُ أُمُورُهُمْ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بهم وبنياتهم.   1 البُخَارِيّ: تَوْحِيد 35، أَنْبيَاء 54، رقاق 35، وَمُسلم: تَوْبَة 35، 37، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 117، وَابْن ماجة: زهد 30، والدارمي: رقاق 93، والموطأ: جنائز 53، ومسند أَحْمد: 1/ 5، 298، 2/ 269، 304. 2 وَقد وَجَدْنَاهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ بِلَفْظ: عَن حُذَيْفَة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "كَانَ رجل مِمَّن كَانَ قبلكُمْ يسيء الظَّن بِعَمَلِهِ فَقَالَ لأَهله: إِذا أَنا مت فخذوني فذروني فِي الْبَحْر فِي يَوْم صَائِف، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمعه الله، ثمَّ قَالَ: مَا حملك على الَّذِي صنعت. قَالَ: مَا حَملَنِي عَلَيْهِ إِلَّا مخافتك. فغفر لَهُ ". وَقد تتبعنا رِوَايَات البُخَارِيّ الثَّلَاث فَلم نجد عبارَة: "لعَلي أضلّ الله" والْحَدِيث بروايات البُخَارِيّ لَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل، وَالله أعلم. 3 سُورَة طه: الْآيَة 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ 17- مَفْهُومُ الْكُفْرِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ تَرَكَ قَتْلَ الْحَيَّاتِ مَخَافَةَ الثَّأْرِ فَقَدْ كَفَرَ" 1. وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 2. وَهَذَا إِنْ كَانَ ذَنْبًا، فَهُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، فَكَيْفَ نُكَفِّرُهُ3؟ وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ مَنْ زَنَى، وَمَنْ سَرَقَ إِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ"4 ثُمَّ تَكْفُرُونَ بِتَرْكِ قَتْلِ الْحَيَّاتِ؟ وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ وَتَنَاقُضٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ. وَلَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ لِتَرْكِ قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَلَا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَظِيمًا مِنَ الذُّنُوبِ، يَخْرُجُ بِهِ الرَّجُلُ إِلَى الْكُفْرِ. وَإِنَّمَا الْعَظِيمُ، أَنْ يَتْرُكَهَا خَشْيَةَ الثَّأْرِ. وَكَانَ هَذَا أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ إِن الْجِنّ تطلب بثأر الجان إِذا قتل.   1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "من ترك الْحَيَّات مَخَافَة طلبهن فَلَيْسَ منا" أَبُو دَاوُد: أدب 162 ومسند أَحْمد 1/ 230، 348. 2 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 31. 3 وَفِي نُسْخَة: لَا يكفره. 4 سبق تَخْرِيجه ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فَرُبَّمَا قَتَلَتْ قَاتِلَهُ، وَرُبَّمَا أَصَابَتْهُ بِخَبَلٍ، وَرُبَّمَا قَتَلَتْ وَلَدَهُ. فَأَعْلَمَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وَقَالَ: "مَنْ صَدَّقَ بِهَذَا فَقَدْ كَفَرَ" يُرِيدُ بِمَا أَتَيْنَا بِهِ1 مِنْ بُطْلَانِهِ. وَالْكُفْرُ عِنْدَنَا صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكُفْرُ بِالْأَصْلِ كَالْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِرُسُلِهِ، أَوْ مَلَائِكَتِهِ أَوْ كُتُبِهِ، أَوْ بِالْبَعْثِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي مَنْ كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ مَاتَ، لَمْ يَرِثْهُ ذُو قَرَابَتِهِ الْمُسْلِمُ2 وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ. وَالْآخَرُ: الْكُفْرُ بِفَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ، عَلَى تَأْوِيلِ: الْكُفْرِ بِالْقَدَرِ، وَالْإِنْكَارِ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَتَرْكِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَأَشْبَاهِ هَذَا. وَهَذَا لَا يُخْرَجُ بِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ: كَافِرٌ. كَمَا أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُنَافِقِ آمِنٌ، وَلَا يُقَالُ مُؤمن.   1 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى "بِمَا أنبأناه بِهِ". 2 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى "من الْمُسلمين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ وَالْعِيَانُ، وَالْخَبَرُ وَالْقُرْآنُ 18- مَوْضِعُ الْجَنَّةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْبَرِي هَذَا، عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ" 1 " وَمَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ" 2. وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} 3. وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 4. وَرُوِّيتُمْ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ" 5. قَالُوا: وَهَذَا، اخْتِلَافٌ وَتَنَاقُضٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِقَوْلِهِ: "مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ" أَنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ رَوْضَةٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالذِّكْرَ فِيهِ، يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ، فَهُوَ قِطْعَةٌ مِنْهَا، وَمِنْبَرِي هَذَا هُوَ عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ ترع الْجنَّة، والترعة بَاب المشرعة إِلَى الْمَاءِ، أَيْ: إِنَّمَا هُوَ بَاب إِلَى الْجنَّة.   1 ابْن ماجة: مَنَاسِك 104، ومسند أَحْمد 2/ 360، 406، 412، 450، 534، 3/ 399. 3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "مَا بَين بَيْتِي ومنبري" البُخَارِيّ 2/ 54، وَمُسلم 4/ 123 والمقاصد 364، والتمييز 140، والكشف 2/ 183. 3 سُورَة النَّجْم: الْآيَة 14. 4 سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 133. 5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: " الْجنَّة فِي السَّمَاء، وَالنَّار فِي الأَرْض" الديلمي عَن عبد الله بن سَلام، جَامع الْأَحَادِيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى غُفْرَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "ارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ" قَالُوا: وَأَيْنَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَجَالِسُ الذِّكْرِ" 1. وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "عَائِدُ الْمَرِيضِ، عَلَى مَخَارِفِ الْجَنَّةِ" 2 وَالْمَخَارِفُ: الطُّرُقُ، وَأَحَدُهَا: مَخْرَفَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ مَخْرَفَةِ النَّعَمِ" أَيْ طَرِيقِهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ تُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَيْهَا. وَكَذَلِكَ مَجَالِسُ الذِّكْرِ، تُؤَدِّي إِلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَهِيَ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ3: "الْجَنَّةُ تَحْتَ الْبَارِقَةِ" -يَعْنِي السُّيُوفَ، وَ "الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ" 4. يُرِيدُ أَنَّ الْجِهَادَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَهُ. وَقَدْ يَذْهَبُ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا بَيْنَ قَبْرِهِ وَمِنْبَرِهِ، حِذَاءَ رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مِنْبَرَهُ حِذَاءَ تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ، فَجَعَلَهُمَا مِنَ الْجنَّة، إِذْ كَانَا فِي الْأَرْضِ، حِذَاءَ ذَيْنِكَ فِي السَّمَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ -عِنْدِي- وَالله أعلم.   1 ورد فِي التِّرْمِذِيّ دعوات 83 بِلَفْظ: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "إِذا مررتم برياض الْجنَّة فارتعوا" قَالَ: وَمَا رياض الله؟ قَالَ: " حلق الذّكر ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث ثَابت عَن أنس. وَأحمد 3/ 150. 2 مُسلم ك6 ب2 وَمَالك 50 ح17،، ومسند زيد بن عَليّ: ح347 و348، وَأحمد 1/ 81 و91 و118 و119 و120 و121 و138 و195 و196، 2/ ص326. 3 عمار بن يَاسر من السَّابِقين الْأَوَّلين هُوَ وَأَبوهُ وَأمه، وَكَانُوا مِمَّن عُذِّبَ فِي الله شَهِدَ الْمشَاهد كلهَا، ثمَّ شهد الْيَمَامَة فَقطع أُذُنه، وَاسْتَعْملهُ عمر على الْكُوفَة، وَقد اسْتشْهد مَعَ عَليّ بصفين سنة 87هـ وعمره "93" سنة. 4 رَوَاهُ مُسلم برقم 1902. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 19- الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ" 1 وَرُوِّيتُمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى الْأَنْصَارِ، يَوْمَ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: "لَوْ كَانَ سَالِمٌ، مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا، مَا تَخَالَجَنِي فِيهِ الشَّكُّ". وَسَالِمٌ لَيْسَ مَوْلًى لِأَبِي حُذَيْفَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهِيَ أَعْتَقَتْهُ وَرَبَّتْهُ2 وَنُسِبَ إِلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بِحِلْفٍ. فَجَعَلْتُمُ الْإِمَامَةَ3، تَصْلُحُ لِمَوَالِي الْأَنْصَارِ، وَلَوْ كَانَ مَوْلًى لِقُرَيْشٍ، لَأَمْكَنَ أَنْ تَحْتَجُّوا بِأَنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ. قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ تَنَاقُضٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ4 تَنَاقُضًا، لَوْ قَالَ عُمَرُ: "لَوْ كَانَ سَالِمٌ حَيًّا مَا تَخَالَجَنِي الشَّكُّ فِي تَوْلِيَتِهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ فِي تَأْمِيرِهِ". فَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَا تَخَالَجَنِي الشَّكُّ فِيهِ" فَقَدْ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.   1 مُسْند الطَّيَالِسِيّ: رقم 926، 2133. 2 وَفِي نُسْخَة: وورثته. 3 وَفِي نُسْخَة: الْخلَافَة. 4 لَعَلَّ الْأَفْضَل أَن يُقَال: وَإِنَّمَا يكون تناقضًا بِحَذْف "كَانَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَكَيْفَ يُظَنُّ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَقِفُ فِي خِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَالَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، فَلَا يَخْتَارُ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَلَا يَتَخَالَجُهُ الشَّكُّ فِي تَوْلِيَتِهِ سَالِمًا عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَضَعْفٌ فِي الرَّأْيِ. وَلَكِنَّ عُمَرَ لَمَّا جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ، ارْتَادَ لِلصَّلَاةِ مَنْ يَقُومُ بِهَا أَنْ يَخْتَارُوا الْإِمَامَ مِنْهُمْ وَأَجَّلَهُمْ فِي الِاخْتِيَارِ ثَلَاثًا، وَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ1 ابْنَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ سَالِمًا فَقَالَ: لَوْ كَانَ حَيًّا، مَا تَخَالَجَنِي فِيهِ الشَّكُّ. وَذَكَرَ الْجَارُودَ الْعَبْدِيَّ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ أُعَيْمِشُ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ حَيًّا، لَقَدَّمْتُهُ". وَقَوْلُهُ: "لَقَدَّمْتُهُ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ فِي سَالِمٍ مِثْلَ ذَلِكَ، مِنْ تَقْدِيمِهِ لِلصَّلَاةِ بِهِمْ. ثُمَّ أَجْمَعَ عَلَى صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ فَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ، إِلَى أَنْ يَتَّفِقَ الْقَوْمُ، على اخْتِيَار رجل مِنْهُم2.   1 عبد الله بن عمر هَاجر مَعَ أَبِيه كَانَ إِمَامًا عَظِيم الْقدر شهد الخَنْدَق وبيعة الرضْوَان وَكَانَ مكثرًا من الحَدِيث إِمَامًا متينًا وَاسع الْعلم كثير الِاتِّبَاع كَبِير الْقدر عَظِيم الْحُرْمَة وافر النّسك كثير الْعِبَادَة توفّي سنة 74هـ. 2 وجدنَا فِي المخطوطة الَّتِي قابلنا عَلَيْهَا الْكتاب الزِّيَادَة التالية: قَالَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن عبد الله بن مُسلم: إِنَّمَا جعل عمر صُهَيْب الرُّومِي إِمَامًا يُصَلِّي بهم إِلَى أَن يجمعوا على خلَافَة رجل مِنْهُم أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الْأَئِمَّة من قُرَيْش، وَلَو جعل الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة إِلَى قُرَيْش يجوز لَهُ أَن يكون خَليفَة لقَالَ قوم: إِنَّه يجوز أَن يكون خَليفَة إِذْ كَانَ قرشيًا، وَكَانَ عمر قد اخْتَارَهُ للصَّلَاة، فَفعل عمر ذَلِك لِأَن لَا يَقُولُوا هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ وَالْخَبَرُ 20- الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنْ بَيْنِ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، فَلَا تُصَلُّوا لِطُلُوعِهَا"1. قَالُوا: فَجَعَلْتُمْ لِلشَّيْطَانِ قُرُونًا تَبْلُغُ السَّمَاءَ، وَجَعَلْتُمُ الشَّمْسَ الَّتِي هِيَ مِثْلُ الْأَرْضِ مَرَّاتٍ، تَجْرِي بَيْنَ قَرْنَيْهِ. وَأَنْتُمْ -مَعَ هَذَا- تَزْعُمُونَ أَنَّ: "الشَّيْطَان يجْرِي من بن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ" 2 فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، أَلْطَفُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَجَعَلْتُمْ عِلَّةَ تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، طُلُوعَهَا مِنْ بَيْنِ قَرْنَيْهِ. وَمَا عَلَى الْمُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا جَرَتِ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ؟ وَمَا فِي هَذَا، مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ إِنْكَارَهُمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ، إِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِخَلْقِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ، وَبِأَن الله تَعَالَى جعل فِي   1 مُسْند أَحْمد: 2/ 86، وَمُسلم ك1 حَدِيث 81 و6/ 290 وَالطَّيَالِسِي رقم 896، 1117 وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 1472-443. 2 البُخَارِيّ: أَحْكَام 21، اعْتِكَاف 11، 12، بَدْء الْخلق 11، أدب 121، وَمُسلم: سَلام 23، 25 وَأَبُو دَاوُد: سنة 17، 18، أدب 81، صَوْم: 79، وَابْن ماجة: صِيَام 65، والدارمي: رقاق 66، وَأحمد 3/ 156، 285، 309، 6/ 337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 تركيبها أَنْ تَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَتَتَمَثَّلَ مَرَّةً فِي صُورَةِ شَيْخٍ، وَمَرَّةً فِي صُورَةِ شَابٍّ، وَمَرَّةً فِي مِثَالِ نَارٍ، وَمَرَّةً فِي مِثَالِ كَلْبٍ، وَمَرَّةً فِي مِثَالِ جَانٍّ، وَمَرَّةً تَصِلُ إِلَى السَّمَاءِ وَمَرَّةً تَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، وَمَرَّةً تَجْرِي مَجْرَى الدَّمِ. فَهَؤُلَاءِ مُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ، وَبِمَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَكُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَقْعُدُونَ مِنَ السَّمَاءِ مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، وَأَنَّهُمْ يُرْمَون بِالنُّجُومِ. وَأَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ قَالَ: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} 1 وَهُوَ لَا يَظْهَرُ لَنَا. فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لَوْلَا أَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْقُلُوبِ، بِالسُّلْطَانِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، فَيُوَسْوِسُ بِذَلِكَ وَيُزَيِّنُ وَيُمَنِّي، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ؟ وَكَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ رُئِيَ مَرَّةً، فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ، وَمَرَّةً فِي صُورَةِ ضُفْدَعٍ، وَمَرَّةً فِي صُورَةِ جَانٍّ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجِنَّ رِجَالًا، كَمَا سَمَّانَا رِجَالًا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} 2. وَقَالَ فِي الْحُورِ الْعِينِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} 3. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ تَطْمِثُ كَمَا يَطْمِثُ الْإِنْس. والطمث: الْوَطْء بالتدمية4.   1 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 119. 2 سُورَة الْجِنّ: الْآيَة 6. 3 سُورَة الرَّحْمَن: الْآيَة 74. 4 أَي بِإِخْرَاج الدَّم؛ وَهُوَ وَطْء الْأَبْكَار من النِّسَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ لَمْ نُرِد فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَنْ نَرُدّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَلَا الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرُسُلِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُنَا الرَّدَّ عَلَى مَنِ ادَّعَى عَلَى الْحَدِيثِ التَّنَاقُضَ وَالِاخْتِلَافَ، وَاسْتِحَالَةَ الْمَعْنَى مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ رَآهُ لَا يَقُومُ فِي وَهْمِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَرْكِ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، فَنَحْنُ نُرِيهِ الْمَعْنَى، حَتَّى يَتَصَوَّرَ فِي وَهْمِهِ لَهُ -بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى- وَيُحْسِنَ عِنْدَهُ، وَلَا يَمْتَنِعَ عَلَى نَظَرِهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَبَدَةُ الشَّمْسِ، يَسْجُدُونَ فِيهِ لِلشَّمْسِ. وَقَدْ دَرَجَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، عَلَى عِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالسُّجُودِ لَهَا. فَمِنْ ذَلِكَ، مَا قَصَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْنَا فِي نَبَأِ مَلِكَةِ سَبَأٍ: أَنَّ الْهُدْهُدَ قَالَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} 1. وَكَانَ فِي الْعَرَبِ، قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَيُعَظِّمُونَهَا، وَيُسَمُّونَهَا، الْإِلَاهَةَ، قَالَ الْأَعْشَى: فَلَمْ أَذْكُرِ الرُّهْبَ حَتَّى انفتَلْتُ ... قُبَيْلَ الْإِلَاهَةِ مِنْهَا قَرِيبَا يَعْنِي الشَّمْسَ. وَكَانَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ يَقْرَأُ: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ} 2 يُرِيدُ: وَيَذَرُكَ، وَالشَّمْسَ الَّتِي تَعْبُدُ. فَكَرِهَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْجُدُ فِيهِ عَبدة الشَّمْس للشمس.   1 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 14. 2 سُورَة الْأَعْرَاف: الْآيَة 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وَأَعْلَمَنَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ حِينَئِذٍ -أَوْ أَنَّ إِبْلِيسَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ- فِي جِهَةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ، فَهُمْ يَسْجُدُونَ لَهُ بِسُجُودِهِمْ لِلشَّمْسِ، ويؤمُّونه. وَلَمْ يُرِدْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقَرْنِ: مَا تَصَوَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، مِنْ قُرُونِ الْبَقَرِ، وَقُرُونِ الشَّاءِ. وَإِنَّمَا الْقرن -هَهُنَا- حَرْفُ الرَّأْسِ، وَلِلرَّأْسِ قَرْنَانِ: أَيْ حَرْفَانِ وَجَانِبَانِ. وَلَا أَرَى الْقَرْنَ الَّذِي يَطْلُعُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، سُمِّيَ قَرْنًا إِلَّا بِاسْمِ مَوْضِعِهِ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الشَّيْءَ، بِاسْمِ مَا كَانَ لَهُ مَوْضِعًا أَوْ سَبَبًا. فَيَقُولُونَ: "رَفَعَ عَقِيرَتَهُ" يُرِيدُونَ: صَوْتَهُ، لِأَنَّ رَجُلًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَرَفَعَهَا، وَاسْتَغَاثَ مِنْ أَجْلِهَا، فَقِيلَ لِمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ: "رَفَعَ عَقِيرَتَهُ". وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْمَشْرِقِ: "من هَهُنَا، يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ". لَا يُرِيدُ بِهِ، مَا يَسْبِقُ إِلَى وَهْمِ السَّامِعِ مِنْ قُرُونِ الْبَقَرِ، وَإِنَّمَا يُرِيد "من هَهُنَا يَطْلُعُ رَأْسُ الشَّيْطَانِ". وَكَانَ وَهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَقُولُ؛ فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ: إِنَّهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَاسْمُهُ "الْإِسْكَنْدَرُوسُ" وَأَنَّهُ كَانَ حَلَمَ حُلْمًا، رَأَى فِيهِ أَنَّهُ دَنَا مِنَ الشَّمْسِ، حَتَّى أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا فِي شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا. فَقَصَّ رُؤْيَاهُ على قومه، فَسَموهُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَأَرَادَ بِأَخْذِهِ بِقَرْنَيْهَا، أَنَّهُ أَخَذَ بِجَانِبَيْهَا. وَالْقُرُونُ أَيْضًا، خُصَلُ الشَّعْرِ، كُلُّ خُصْلَةٍ قَرْنٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرُّومِ: "ذَاتُ الْقُرُونِ". يُرَادُ: أَنَّهُمْ يُطَوِّلُونَ الشُّعُورَ. فَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَلِّمَنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ، فِي وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ سُجُودِ عَبَدَتِهَا لَهَا، مَائِلٌ مَعَ الشَّمْسِ؛ فَالشَّمْسُ تَجْرِي مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُصَلِّيَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي يَكْفُرُ فِيهِ هَؤُلَاءِ، وَيُصَلُّونَ لِلشَّمْسِ وَلِلشَّيْطَانِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَذَا أَمْرٌ مُغَيَّبٌ عَنَّا، لَا نَعْلَمُ مِنْهُ، إِلَّا مَا عَلِمْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وَالَّذِي أَخْبَرْتُكَ بِهِ، شَيْءٌ يَحْتَمِلُهُ التَّأْوِيلُ، وَيُبَاعِدُهُ عَنِ الشَّنَاعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ يَأْتِ أَهْلُ التَّكْذِيبِ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ، إِلَّا لِرَدِّهِمُ الْغَائِبَ عَنْهُمْ، إِلَى الْحَاضِرِ عِنْدَهُمْ، وَحَمْلِهِمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ وَالْمَوَاتِ، وَاسْتِعْمَالِهِمْ حُكْمَ ذَوِي الْجُثَثِ1 فِي الرُّوحَانِيِّينَ. فَإِذَا سَمِعُوا بِمَلَائِكَةٍ عَلَى كَوَاهِلِهَا الْعَرْشُ، وَأَقْدَامُهَا فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، اسْتَوْحَشُوا مِنْ ذَلِكَ، لِمُخَالَفَتِهِ مَا شَاهَدُوا -وَقَالُوا: كَيْفَ تَخْرِقُ جُثَثُ هَؤُلَاءِ السَّمَاوَاتِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَالْأَرْضِينَ وَمَا فَوْقَهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نَرَى لِذَلِكَ أَثَرًا؟ وَكَيْفَ يَكُونُ خَلْقٌ لَهُ هَذِهِ الْعَظَمَةُ؟ وَكَيْفَ تكون أرواحًا وَلها كواهل وأقدام2. وَإِذَا سَمِعُوا بِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَرَّةً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَمَرَّةً فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَمَرَّةً فِي صُورَةِ شَابٍّ، وَمَرَّةً سَدَّ بِجَنَاحَيْهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالُوا: كَيْفَ يَتَحَوَّلُ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ مَرَّةً فِي غَايَةِ الصِّغَرِ؟ وَمَرَّةً فِي غَايَةِ الْكِبَرِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزَادَ فِي جِسْمِهِ وَلَا جُثَّتِهِ وَأَعْرَاضِهِ؟ لِأَنَّهُمْ لَا يُعَايِنُونَ إِلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ. وَإِذَا سَمِعُوا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَصِلُ إِلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، حَتَّى يُوَسْوِسَ لَهُ وَيَخْنِسَ. قَالُوا: مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ؟ وَهَلْ يَجْتَمِعُ رُوحَانِ فِي جِسْمٍ؟ وَكَيْفَ يَجْرِي مَجْرَى الدَّمِ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَوِ اعْتَبَرُوا مَا غَابَ عَنْهُمْ، بِمَا رَأَوْهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، لَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يُفَجِّرَ مِيَاهَ الْأَرْضِ كلهَا إِلَى الْبَحْر،   1 وَفِي نُسْخَة: الْخبث. 2 وَفِي نُسْخَة: وأقدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا، فَهِيَ تُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ. وَلَوْ جُعِلَ لِنَهْرٍ مِنْهَا مِثْلِ "دِجْلَةَ" أَوِ "الْفُرَاتِ" أَوِ "النِّيلِ" سَبِيلٌ إِلَى مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى وَالْعِمَارَاتِ وَالْخَرَابِ شَهْرًا، لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا شَيْءٌ إِلَّا هَلَكَ، هُوَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى مَا أَنْكَرُوا، وَأَنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ يُحَرِّكَ هَذِهِ الْأَرْضَ، عَلَى عِظَمِهَا وَكَثَافَتِهَا، وَبِحَارِهَا، وَأَطْوَادِهَا، وَأَنْهَارِهَا حَتَّى تَتَصَدَّعَ الْجِبَالُ، وَحَتَّى تَغِيضَ الْمِيَاهُ، وَحَتَّى يَنْتَقِلَ جَبَلٌ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ -هُوَ الَّذِي لَطَفَ لِمَا قَدَّرَ. وَأَنَّ الَّذِي وَسَّعَ إِنْسَانَ الْعَيْنِ، مَعَ صِغَرِهِ وَضَعْفِهِ، لِإِدْرَاكِ نِصْفِ الْفَلَكِ عَلَى عِظَمِهِ، حَتَّى رَأَى النَّجْمَ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَرَقِيبَهُ مِنَ الْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَحَتَّى خَرَقَ مِنَ الْجَوِّ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ؛ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مَلَكًا، مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. فَهَلْ مَا أَنْكَرَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَا عَرَفَ؟ وَهَلْ مَا رَأَى إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَرَهُ؟ فَتَعَالَى اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 21- الْفِطْرَةُ وَالشَّقَاءُ وَالسَّعَادَةُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ، يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمُ "الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بطن أمه" 2. "وَأَن النُّطْفَةَ إِذَا انْعَقَدَتْ، بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهَا مَلَكًا يَكْتُبُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ" 3. وَأَنه مَسَحَ عَلَى ظَهْرِ آدَمَ، فَقَبَضَ قَبْضَةً، فَقَالَ: "إِلَى الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي" وَقَبَضَ أُخْرَى فَقَالَ: "إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي" 4. قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ، فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْقَدَرِ، وَأَهْلُ الْإِثْبَاتِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا تَنَاقُضٌ، وَلَا اخْتِلَافٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.   1 صَحِيح مُسلم: قدر 25 ص2048. 2 صَحِيح مُسلم: قدر 3، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 7، والدارمي: مُقَدّمَة 23، وَأحمد 3/ 176. 3 صَحِيح البُخَارِيّ: تَوْحِيد 28، قدر، بَدْء الْخلق 6، أَنْبيَاء1، وصحيح مُسلم: قدر1، وَأَبُو دَاوُد: سنة 16، وَالتِّرْمِذِيّ، قدر 4، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 10، وَأحمد: 5/ 197. 4 رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع برقم 1758 والسلسلة الصَّحِيحَة برقم 48. -مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَلَو عرفت الْمُعْتَزلَة معنى ذَلِك، مَا فَارَقَتِ الْمُثْبِتَةَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ الِاخْتِلَافُ إِلَّا لِهَذَا الْحَدِيثِ. والفطرة -هَهُنَا- الِابْتِدَاءُ وَالْإِنْشَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1 أَي مبتدئهما. وَكَذَلِكَ قَوْله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 2 يُرِيدُ جِبِلَّتَهُ الَّتِي جَبَلَ النَّاسَ عَلَيْهَا. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ" أَخَذَ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 3. فَلَسْتُ وَاجِدًا أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّ لَهُ صَانِعًا وَمُدَبِّرًا، وَإِنْ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، أَوْ عَبَدَ شَيْئًا دُونَهُ، لِيُقَرِّبَهُ مِنْهُ عِنْدَ نَفْسِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ، أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ مَا تَعَالَى عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 4. فَكُلُّ مَوْلُودٍ فِي الْعَالَمِ عَلَى ذَلِكَ الْعَهْدِ وَالْإِقْرَارِ، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ، وَجَرَتْ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي جَمِيعًا حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ يُهَوِّدُ الْيَهُودُ أَبْنَاءَهُمْ، وَيُمَجِّسُ الْمَجُوسَ أَبْنَاءَهُمْ" 5 أَيْ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ.   1 سُورَة فاطر: الْآيَة 1. 2 سُورَة الرّوم: الْآيَة 30. 3 سُورَة الْأَعْرَاف: الْآيَة 172. 4 سُورَة الزخرف: الْآيَة 87. 5 مُسلم: جنَّة 63، وَأحمد 4/ 162 وَقد وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "إِنِّي خلقت عبَادي حنفَاء كلهم، وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم، وحرَّمَت عَلَيْهِم مَا أحللتُ لَهُم، وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا، وَإِن الله نظر إِلَى أهل الأَرْض فمقتهم عربهم وعجمهم إِلَّا بقايا من أهل الْكتاب. وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عَلَيْك كتابا لَا يغسلهُ المَاء، تقرؤه نَائِما ويقظان .... " إِلَخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ مِمَّا يَقَعُ بِهِ حُكْمٌ، أَوْ عَلَيْهِ ثَوَابٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الطِّفْلَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، مَا كَانَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَهُوَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِدِينِهِمَا، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ. ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ كَنَفِهِمَا إِلَى مَالِكٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِدِينِ مَالِكِهِ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ؟! وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ علمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ. وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْقَدَرِ وَأَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ أَنَّ الْفِطْرَةَ -عِنْدَ أَهْلِ الْقَدَرِ- الْإِسْلَامُ، فَتَنَاقَضَ عِنْدَهُمُ الْحَدِيثَانِ. وَالْفِطْرَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ فُطِرُوا. فَاتَّفَقَ الْحَدِيثَانِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا، وَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوضِع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قَالُوا: حَدِيثٌ يُفْسِدُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ 22- غَسْلُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنَ النّوم: الوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" 1. قَالُوا: وَهَذَا حَدِيثٌ جَائِزٌ، لَوْلَا قَوْلُهُ: "فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ". وَمَا مَنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ دَرَى أَنَّ يَدَهُ بَاتَتْ حَيْثُ بَاتَ بَدَنُهُ، وَحَيْثُ بَاتَتْ رِجْلُهُ وَأُذُنُهُ وَأَنْفُهُ، وَسَائِرُ أَعْضَائِهِ، وَأَشَدُّ الْأُمُورِ أَنْ يَكُونَ مَسَّ بِهَا فَرْجَهُ فِي نَوْمِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَسَّ فَرْجَهُ فِي يَقَظَتِهِ، لَمَا نَقَضَ ذَلِكَ طَهَارَتَهُ. فَكَيْفَ بِأَنْ يَمَسَّهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ؟ وَاللَّهُ لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ. فَإِنَّ النَّائِمَ قَدْ يَهْجُرُ2 فِي نَوْمِهِ، فَيُطَلِّقُ، وَيَكْفُرُ، وَيَفْتَرِي، وَيَحْتَلِمُ عَلَى امْرَأَةِ جَارِهِ، وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ فِي نَوْمِهِ زَانٍ ثُمَّ لَا يَكُونُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُؤَاخَذًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِن هَذَا النظار، عَلِمَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْهُ أَشْيَاءُ. أَمَا عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ، قَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَن الْوضُوء يجب على   1 صَحِيح مُسلم: طَهَارَة 87، وَسنَن أبي دَاوُد: طَهَارَة 49، وَالتِّرْمِذِيّ: طَاهِرَة 19 وَالنَّسَائِيّ: طَهَارَة 1، وَأحمد: 2/ 241، 289، 405، 471، 471، 507. 2 يهجر فِي نَومه: أَي يهذي بِكَلَام سيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 من مَسَّ الْفَرْجَ فِي الْمَنَامِ وَالْيَقَظَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِالْحَدِيثِ الْآخَرِ: "مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ" 1. وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَنَرَى أَنَّ الْوُضُوءَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ غَسْلُ الْيَد، لِأَن الْفروج مخارج الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَاتِ. وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ عِنْدَنَا، مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ إِنَّمَا هُوَ غَسْلُ الْيَدِ مِنَ الزَّهَمِ2 وَالْأَطْبِخَةِ وَالشِّوَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأَتَيْنَا بِالدَّلَائِلِ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ هُوَ غَسْلَ الْيَدَيْنِ، تَبَيَّنَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُسْتَيْقِظَ مِنْ مَنَامِهِ أَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ، قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الْإِنَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ. يَقُولُ: لَعَلَّهُ فِي مَنَامِهِ مَسَّ بِهَا فَرْجَهُ، أَوْ دُبُرَهُ، وَلَيْسَ يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَ يَدَهُ قَاطِرُ بَوْلٍ، أَوْ بَقِيَّةُ مَنِيٍّ، إِنْ كَانَ جَامَعَ قَبْلَ الْمَنَامِ. فَإِذَا أَدْخَلَهَا فِي الْإِنَاءِ -قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا- أَنْجَسَ الْمَاءَ3 وَأَفْسَدَهُ. وَخُصَّ النَّائِمُ بِهَذَا، لِأَنَّ النَّائِمَ قَدْ تَقَعُ يَدُهُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَعَلَى دُبُرِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. فَأَمَّا الْيَقْظَانُ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمَسَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، فَأَصَابَ يَدَهُ مِنْهُ أَذًى، عَلِمَ بِهِ، وَلَمْ يذهب عَلَيْهِ غسلهَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي الْإِنَاءِ، أَو يَأْكُل أَو يُصَافح.   1 صَحِيح البُخَارِيّ: علم53، صَلَاة9، حج21، وَسنَن أبي دَاوُد: طَهَارَة 69، وَسنَن التِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 61، وَالنَّسَائِيّ: طَهَارَة 117، غسل 70، وَابْن ماجة: طَهَارَة 63، والدارمي: وضوء 50، والموطأ: طَهَارَة 60، 61. 2 أَي من الدسومة. 3 ونجاسة الْمَنِيّ مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة، وَمذهب الشَّافِعِي وَأحمد على القَوْل بِطَهَارَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قَالُوا: حَدِيثٌ يُفْسِدُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ 23- الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل: الوا: رُوِّيتُمْ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ"1. وَنَهْيُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ لَا يُنْكَرُ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي التَّعَبُّدِ، فَلَمَّا وَصَلْتُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، عِلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِبِلَ خُلِقَتْ مِنَ الْإِبِلِ، كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ خُلِقَتْ مِنَ الْبَقَرِ، وَالْخَيْلَ مِنَ الْخَيْلِ وَالْأُسْدَ مِنَ الْأُسْدِ، وَالذُّبَابَ مِنَ الذُّبَابِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرَ النَّبِيِّ، يَعْلَمُ أَنَّ الْبَعِيرَ تَلِدُهُ النَّاقَةُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةٌ تَلِدُ جَمَلًا، وَلَا أَنَّ نَاقَةً تَلِدُ شَيْطَانًا. وَإِنَّمَا أَعْلَمَنَا أَنَّهَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ خُلِقَتْ مِنْ جِنْسٍ، خُلِقَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِين.   1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 142، وَالنَّسَائِيّ مَسَاجِد 41، وَابْن ماجة مَسَاجِد 12، والدارمي: صَلَاة 112، وَأحمد 3/ 404-405، 4/ 85، 86، 150، 303، 5/ 54، 55. وَقد ورد الحَدِيث بِلَفْظ: "صلوا فِي مرابض الْغنم، وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين " ابْن ماجة مَسَاجِد12. وَفِي الزَّوَائِد: إِسْنَاد المُصَنّف فِيهِ مقَال. و"أعطان الْإِبِل" أَي مباركها حول المَاء. قَالَ فِي النِّهَايَة؛ "لم ينْه عَن الصَّلَاة فِيهَا من جِهَة النَّجَاسَة فَإِنَّهَا مَوْجُودَة فِي مرابض الْغنم، وَقد أَمر بِالصَّلَاةِ فِيهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن الْإِبِل تزدحم فِي المنهل، فَإِذا شربت رفعت رؤسها، وَلَا يُؤمن من تقاربها وتفرقها فِي ذَلِك الْموضع فتؤذي الْمُصَلِّي عِنْدهَا، أَو تلهيه عَن صلَاته، أَو تنجسه برشاش أبوالها". وَهَذَا التَّعْلِيل أقرب للصَّوَاب، وَالله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ أَعَنَانِ الشَّيَاطِينِ" يُرِيدُ: مِنْ جَوَانِبِهَا وَنَوَاحِيهَا، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ فَلَانٌ أَعَنَانَ السَّمَاءِ، أَيْ نَوَاحِيَهَا وَجَوَانِبَهَا. وَلَوْ كَانَتْ مِنْ نَسْلِهَا، لَقَالَ: فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ نَسْلِهَا، أَوْ بطونها أَو أصلابها، وَأما يُشْبِهُ هَذَا. وَلَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ تَنْسُبُ جِنْسًا مِنَ الْإِبِلِ إِلَى الْحُوشِ، فَتَقُولُ: نَاقَةٌ حُوشِيَّةٌ، وَإِبِلٌ حُوشِيَّةٌ، وَهِيَ أَنْفَرُ الْإِبِلِ وَأَصْعَبُهَا. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْجِنِّ نَعَمًا، بِبِلَادِ الْحُوشِ1 وَأَنَّهَا ضَرَبَتْ فِي نَعَمِ النَّاسِ، فَنَتَجَتْ هَذِهِ الْحُوشِيَّةَ، قَالَ رُؤْبَةُ: جَرَتْ رَحَانَا2 مِنْ بِلَادِ الْحُوشِ وَقَدْ يَجُوزُ -عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ- أَنْ تَكُونَ فِي الْأَصْلِ، مِنْ نِتَاجِ نَعَمِ الْجِنِّ، لَا مِنَ الْجِنِّ أَنْفُسِهَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: "مِنْ أَعْنَانِ الشَّيَاطِينِ". أَيْ: مِنْ نَوَاحِيهَا. وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مَنْ أَنْكَرَ الْجِنَّ أَنْفُسَهَا وَالشَّيَاطِينَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ إِلَّا بِمَا رَأَتْهُ عَيْنُهُ، وَأَدْرَكَتْهُ حَوَاسُّهُ، وَهُوَ مَنْ عَقْد قَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ، يُقَالُ لَهُمُ: الدَّهْرِيَّةُ، وَلَيْسَ من عقد الْمُسلمين.   1 بِلَاد الحوش: بِلَاد الْجِنّ، والحوش والحوشية: إبل الْجِنّ وَقيل هِيَ الْإِبِل المتوحشة، وَقيل: هم حَيّ من الْجِنّ، وَأنْشد لرؤبة: إِلَيْك سَارَتْ من بِلَاد الحوش. "لِسَان الْعَرَب". 2 الرَّحَى: الْكثير من الْإِبِل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قَالُوا: حَدِيثٌ يُفْسِدُ بَعْضُهُ بَعْضًا 24- قتل الْكلاب: الوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ، لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، وَلَكِنِ اقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدٍ بَهِيمٍ" 1. وَقَالَ: "الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ" 2. قَالُوا: فَكَأَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ، أَوْ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ، مَعَ عَفْوِهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْكِلَابِ، لِأَنَّهَا أُمَّةٌ، وَلَيْسَ فِي كَوْنِهَا أُمَّةً عِلَّةٌ تَمْنَعُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا تُوجِبُهُ. قَالُوا: ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ كَلْبٌ فَكَيْفَ قَتَلَهَا، وَهِيَ أُمَّةٌ، أَوَلا مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهَا؟. قَالُوا: وَقَدْ صَارَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي بِهَا عَفَا عَنْهَا، هِيَ الْعِلَّةَ الَّتِي قَتَلَهَا لَهَا. قَالَ: أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ كُلَّ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْحَيَوَانِ أُمَّةٌ، كَالْكِلَابِ، والأسُد، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالنَّمْلِ، وَالْجَرَادِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، كَمَا أَنَّ النَّاسَ أُمَّةٌ. وَكَذَلِكَ الْجِنُّ أُمَّةٌ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ   1 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 17724 وَقَالَ أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن عبد الله بن مُغفل، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم "5321، 5322". 2 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 16091 مَا يَلِي: "الْكَلْب الْأسود البهيم شَيْطَان" وَقد أخرجه أَحْمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَرَاه مُسلم عَن أبي ذَر برقم 510. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 1 يُرِيد: أَنَّهَا مِثْلُنَا فِي طَلَبِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، وَابْتِغَاءِ الرِّزْقِ2، وَتَوَقِّي الْمَهَالِكِ. وَكَذَلِكَ الْجِنُّ، قَدْ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا خَاطَبَنَا، إِذْ يَقُولُ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} 3. وَلَوْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَأَفْنَى أُمَّةً، وَقَطَعَ أَثَرَهَا. وَفِي الْكِلَابِ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فِي حِرَاسَةِ مَنَازِلِهِمْ، وَحِفْظِ نَعَمِهِمْ، وَحَرْثِهِمْ مَعَ الِارْتِفَاقِ بِصَيْدِهَا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَعْرَابِ وَنَازِلَةِ الْقَفْرِ، لَا غِذَاءَ لَهُمْ وَلَا مَعَاشَ إِلَّا بِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 4 وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لِمَنَافِعِنَا. وَقَدْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَافَرَا، وَمَعَ أَحَدِهِمَا كَلْبٌ لَهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهِمَا اللُّصُوصُ، فَقَاتَلَ أَحَدُهُمَا حَتَّى غُلِبَ وَأُخِذَ فَدُفِنَ، وَتُرِكَ رَأْسُهُ بَارِزًا، وَجَاءَتِ الْغِرْبَانُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ، فَحَامَتْ حَوْلَهُ تُرِيدُ أَنْ تَنْهَشَهُ وَتَقْلَعَ عَيْنَيْهِ، وَرَأَى ذَلِكَ كَلْبٌ كَانَ مَعَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْبُشُ التُّرَابَ عَنْهُ، حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، قَدْ فَرَّ صَاحِبُهُ وَأَسْلَمَهُ5. قَالَ: فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ: يُعَرِّدُ عَنْهُ جارُه ورفيقُه ... وَيَنْبُشُ عَنْهُ كلبُه وَهُوَ ضاربُه وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ مِثْلُ مُحَامَاتِهِ عَلَى أَهْلِهِ، وَذَبِّهِ عَنْهُمْ مَعَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، وَالطَّرْدِ وَالضَّرْب.   1 سُورَة الْأَنْعَام: الْآيَة 38. 2 وَفِي نُسْخَة: وابتغاء الذَّر. 3 سُورَة الْأَنْعَام: الْآيَة 130. 4 سُورَة الْمَائِدَة: الْآيَة 4. 5 أسلمه: خذله وَترك نصرته. 6 يعرد: أَي يهرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وَالْأَخْبَارُ عَنِ الْكِلَابِ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ -وَنَكْرَهُ الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا. وَلَيْسَتْ تَخْلُو الْكِلَابُ مِنْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةً مِنْ أُمَمِ السِّبَاعِ، أَوْ تَكُونَ أُمَّةً مِنَ الْجِنِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْكِلَابُ أُمَّةٌ مِنَ الْجِنِّ1 وَهِيَ ضَعَفَةُ الْجِنِّ، فَإِذَا غَشِيَتْكُمْ عِنْدَ طَعَامِكُمْ، فَأَلْقُوا لَهَا، فَإِنَّ لَهَا أَنْفُسًا، يَعْنِي: أَنَّ لَهَا عُيُونًا، تُصِيبُ بِهَا". وَالنَّفْسُ: الْعَيْنُ، يُقَالُ: أَصَابَتْ فَلَانَا نَفْسٌ، أَيْ: عَيْنٌ. وَقَالَ أَيْضًا: "الْجَانُّ مَسِيخُ الْجِنِّ، كَمَا مُسِخَتِ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ". وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا، أَنْ تَكُونَ الْكِلَابُ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ، لَا تُدْرَكُ بِالنَّظَرِ وَالْقِيَاسِ وَالْعُقُولِ، وَإِنَّمَا يُنتهى فِيهَا إِلَى مَا قَالَهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَا قَالَهُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَشَاهَدَهُ. فَإِنَّهُمْ لَا يَقْضُونَ عَلَى مَثَلِهِ إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنْهُ أَوْ سَمَاعٍ مِمَّنْ سَمِعَهُ، أَوْ بِخَبَرٍ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أُمُورِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ. وَلَيْسَ عَلَيْنَا وَكْفٌ2 وَلَا نَقْصٌ، مِنْ أَنْ تَكُونَ الْكِلَابُ مِنَ السِّبَاعِ، أَوِ الْجِنِّ، أَوِ الْمَمْسُوخِ. فَإِنْ كَانَتْ مِنَ السِّبَاعِ، فَإِنَّمَا أُمِرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدِ مِنْهَا، وَقَالَ: "هُوَ شَيْطَانٌ"؛ لِأَنَّ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ مِنْهَا أَضَرُّهَا وَأَعْقَرُهَا، وَالْكَلْبُ إِلَيْهِ أَسْرَعُ مِنْهُ إِلَى جَمْعِهَا، وَهُوَ -مَعَ هَذَا أَقَلُّهَا نَفْعًا وَأَسْوَؤُهَا حِرَاسَةً، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الصَّيْدِ، وَأَكْثَرُهَا نُعَاسًا. وَقَالَ: "هُوَ شَيْطَانٌ" يُرِيدُ: أَنَّهُ أَخْبَثُهَا، كَمَا يُقَالُ فَلَانٌ شَيْطَانٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا شَيْطَانٌ مَارِدٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا أَسَدٌ عَادٍ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِئْبٌ عَادٍ -يُرَادُ: أَنَّهُ شَبيه بذلك.   1 الْجِنّ: بِالْكَسْرِ، حَيّ من الْجِنّ، مِنْهُم الْكلاب السود البهم، أَو سفلَة الْجِنّ وضعفاؤهم، أَو كلابهم، أَو خلق من الْجِنّ وَالْإِنْس "الْقَامُوس الْمُحِيط". 2 وكف: أَي عيب أَو إِثْم أَو جور "الْقَامُوس الْمُحِيط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَإِنْ كَانَتِ الْكِلَابُ مِنَ الْجِنِّ، أَوْ كَانَتْ مَمْسُوخًا مِنَ الْجِنِّ، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْأَسْوَدَ مِنْهَا شَيْطَانُهَا، فَاقْتُلُوهُ لِضُرِّهِ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ: مَارِدُ الْجِنِّ. وَالْجِنُّ هُمُ الضَّعَفَةُ، وَالْجِنُّ1 أَضْعَفُ مِنَ الْجِنِّ. وَأَمَّا قَتْلُهُ كِلَابَ الْمَدِينَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِقَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا"، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ فِي وَقْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَلَائِكَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَة، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْكَ الْبَارِحَةَ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى بَابِ بَيْتِكَ سِتْرٌ، فِيهِ تَصَاوِيرُ، وَكَانَ فِي بَيْتِكَ كَلْبٌ، فَمُرْ بِهِ، فَلْيَخْرُجْ" 2. وَكَانَ الْكَلْبُ جَرْوًا لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، تَحْتَ نَضَدٍ لَهُمْ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَمَا تُكْرَهُ الْكِلَابُ فِي الْبُيُوتِ، تُكْرَهُ أَيْضًا فِي الْمِصْرِ. فَأَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا، أَوْ بِالتَّخْفِيفِ مِنْهَا، فِيمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَأَمْسَكَ عَنْ سَائِرِهَا، مِمَّا بَعُدَ مِنْ مَهْبِطِ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْزِلِ الْوَحْيِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: النضد3 السرير، لِأَن الثِّيَاب تنضدد فَوْقه.   1 وَفِي نُسْخَة: والجان أَضْعَف من الشَّيْطَان. 2 أخرجه مُسلم: لِبَاس 81، وَأحمد 2/ 478. 3 النضد: مَا نضد من مَتَاع، أَو خِيَار الْمَتَاع. ونضد مَتَاعه ينضده جعل بعضه فَوق بعض. "الْقَامُوس الْمُحِيط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قَالُوا: حَدِيثٌ يُفْسِدُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ 25- قَتْلُ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "خَمْسٌ فَوَاسَقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحل وَالْحرم الْغُرَابُ، وَالْحِدْأَةُ، وَالْكَلْبُ، وَالْحَيَّةُ، وَالْفَأْرَةُ" 1. قَالَ: فَلَوْ قَالَ: اقْتُلُوا هَذِهِ الْخَمْسَةَ وَخَمْسَةً مَعَهَا، لَجَازَ ذَلِكَ فِي التَّعَبُّدِ. فَأَمَّا أَنْ تُقْتَلَ لِأَنَّهَا فَوَاسَقُ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْفِسْقَ وَالْهُدَى، لَا يَجُوزُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَالْهَوَامُّ، وَالسِّبَاعُ، وَالطَّيْرُ، غَيْرُ الشَّيَاطِينِ، وَغَيْرُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، الَّذِينَ يَكُونُ مِنْهُمُ الْفِسْقُ وَالْهِدَايَةُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمُعْتَقِدَ أَنَّ الْهَوَامَّ وَالسِّبَاعَ وَالطَّيْرَ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا عِصْيَانٌ وَلَا طَاعَةٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَأَنْبِيَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَكُتُبِ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَنَا عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} 2 أَيْ بِعُذْرٍ بَيِّنٍ، وَحُجَّةٍ فِي غَيْبَتِهِ وَتَخَلُّفِهِ.   1 مُسلم: حج 67، 68، 69، وَالنَّسَائِيّ: مَنَاسِك 113، 114، 118، 119، وَابْن ماجة: مَنَاسِك 91، والموطأ: حج 290، وَأحمد: 6/ 23، 87، 97، 122، 164، 259، 261. 2 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَهُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَالذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي تُسَمَّى فُسُوقًا وَمَا جَازَ أَنْ يُسَمَّى عَاصِيًا، جَازَ أَنْ يُسَمَّى فَاسِقًا. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْهُدْهُدِ، بَعْدَ أَنِ اعْتَذَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} 1. وَهَذَا لَوْ كَانَ مِنْ أَقَاوِيلِ الْحُكَمَاءِ، بَلْ لَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، لَكَانَ كَلَامًا حَسَنًا، وَعِظَةً بَلِيغَةً، وَحُجَّةً بَيِّنَةً، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا مُطِيعٌ وَعَاصٍ، وَفَاسِقٌ وَمُهْتَدٍ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا عَنِ النَّمْلِ مَا حَكَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} 2 فَجَعَلَهَا تَنْطِقُ كَمَا يَنْطِقُ النَّاسُ. وَقَالَ: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} 3 الْآيَةَ فَجَعَلَهَا تَنْطِقُ كَمَا يَنْطِقُ النَّاسُ. وَقَالَ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 4. وَقَالَ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} 5 أَيْ سَبِّحِي. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَتَحَ كُوَّةَ الْفُلْكِ الَّتِي صنع.   1 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 22. 2 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 16. 3 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 18. 4 سُورَة الْإِسْرَاء: الْآيَة 44. 5 سُورَة سبأ: الْآيَة 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ثُمَّ أَرْسَلَ الْغُرَابَ، فَخَرَجَ وَلَمْ يَرْجِعْ، حَتَّى يَبِسَ الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَرَجَعَتْ حِينَ أَمْسَتْ وَفِي مِنْقَارِهَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ، فَعَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ قَلَّ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ. فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى لَهَا بِالطَّوْقِ فِي عُنُقِهَا، وَالْخِضَابِ فِي رِجْلَيْهَا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَرَأَتُ أَيْضًا فِي التَّوْرَاةِ: "أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، قَالَ لِآدَمَ -حِينَ خَلَقَهُ- كُلْ مَا شِئْتَ مِنْ شَجَرِ الْفِرْدَوْسِ، وَلَا تَأْكُلْ مِنْ شَجَرَةِ عِلْمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَإِنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا تَمُوتُ، يُرِيدُ: "أَنَّكَ تَتَحَوَّلُ إِلَى حَالِ مَنْ يَمُوتُ". وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَعْزَمَ1 دَوَابِّ الْبَرِّ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ، إِنَّكُمَا لَا تَمُوتَانِ. إِنْ أَكَلْتُمَا مِنْهَا، وَلَكِنْ أَعْيُنُكُمَا تَنْفَتِحُ، وَتَكُونَانِ كَالْإِلَهِ، تَعْلَمَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَمَرَتِهَا فَأَكَلَتْ، وَأَطْعَمَتْ بَعْلَهَا، فَانْفَتَحَتْ أَبْصَارُهُمَا، وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَوَصَلَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ، وَاصْطَنَعَاهُ إِزَارًا، ثُمَّ سَمِعَا صَوْتَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ، حِينَ تَوَرَّكَ2 النَّهَارُ فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ فَدَعَاهُمَا. فَقَالَ آدَمُ: سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْفِرْدَوْسِ، وَرَأَيْتَنِي عُرْيَانًا، فَاخْتَبَأْتُ مِنْكَ. فَقَالَ: وَمَنْ أَرَاكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ، لَقَدْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكَ عَنْهَا. فَقَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ أَطْعَمَتْنِي. وَقَالَتِ الْمَرْأَة: إِن الْحَيَّة أطغتني.   1 أعزم: أقوى عَزِيمَة وَأكْثر جدية فِي الْأَمر. 2 تورك النَّهَار: بسط ضوءه، وَتمّ جلاؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لِلْحَيَّةِ: مِنْ أَجْلِ فِعْلِكِ هَذَا، فَأَنْتِ مَلْعُونَةٌ، وَعَلَى بَطْنِكِ تَمْشِينَ، وَتَأْكُلِينَ التُّرَابَ، وَسَأُغْرِي بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَوَلَدِهَا، فَيَكُونُ يَطَأُ رَأْسَكِ، وَتَكُونِينَ أَنْتِ تَلْدَغِينَهُ بِعَقِبِهِ1. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: وَأَمَّا أَنْتِ فَأُكْثِرُ أَوْجَاعَكِ وَإِحْبَالَكِ، وَتَلِدِينَ الْأَوْلَادَ بِالْأَلَمِ، وَتُرَدِّينَ إِلَى بَعْلِكِ حَتَّى يَكُونَ مُسَلَّطًا عَلَيْكِ. وَقَالَ لِآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَلْعُونَةٌ الْأَرْضُ مِنْ أَجْلِكَ وَتُنْبِتُ الْحَاجَّ2 وَالشَّوْكَ، وَتَأْكُلُ مِنْهَا بِالشَّقَاءِ وَرَشْحِ جَبِينِكَ، حَتَّى تَعُودَ إِلَى التُّرَابِ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ تُرَابٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَفَمَا تَرَى أَنَّ الْحَيَّةَ أَطْغَتْ وَاخْتَدَعَتْ، فَلَعَنَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَغَيَّرَ خَلْقَهَا، وَجَعَلَ التُّرَابَ رِزْقَهَا3. أَفَمَا يَجُوزُ أَنَّ تُسَمَّى هَذِهِ فَاسِقَةً وَعَاصِيَةً، وَكَذَلِكَ الْغُرَابُ بِمَعْصِيَتِهِ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَرَى أَهْلُ النَّظَرِ أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ غُرَابَ الْبَيْنِ، لِأَنَّهُ بَانَ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَذَهَبَ، وَلِذَلِكَ تَشَاءَمُوا بِهِ، وَزَجَرُوا فِي نَعِيقِهِ بِالْفِرَاقِ وَالِاغْتِرَابِ، وَاسْتَخْرَجُوا مِنَ اسْمِهِ الْغُرْبَةَ، وَقَالُوا: "قَذَفته نوى غربَة" و"هَذَا شَاءَ مغرب" و"هَذِه عَنْقَاءُ مُغْرِبٌ" أَيْ: جَائِيَةٌ مِنْ بُعْدٍ؛ يَعْنُونَ: الْعُقَابَ. وَكُلُّ هَذَا مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْغُرَابِ، لِمُفَارَقَتِهِ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُبَايَنَتِهِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا، حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَان الْعَوْفِيّ،   1 لَا نستحسن مثل هَذِه الاستشهادات بأقوال التَّوْرَاة، وَنحن نعلم التحريف الَّذِي أوجده أَتْبَاعه فِيهَا؛ إِذْ كَيفَ يستساغ قَول آدم: "اخْتَبَأْت مِنْك"، وَهُوَ يعلم أَنه لَا يغيب عَن علم الله شَيْء، وَلَا يخفي عَلَيْهِ أمرا.. "الْمُحَقق". 2 الْحَاج: أَي الشوك. وَفِي النِّهَايَة: ضرب من الشوك، واحده: حَاجَة. 3 لَا أجد مناسبًا أَن نعتبر مَا فِي التَّوْرَاة حقائق نَبْنِي عَلَيْهَا حجَّة ونتخذ مِنْهَا دَلِيلا؛ وَالْأَظْهَر مِنْهُ عِنْدِي: أَن يستشهد الْمُؤلف بِمَا ورد فِي الْقُرْآن الْكَرِيم من قصَّة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام والهدهد. "الْمُحَقق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبْزَى الْمَكِّيِّ، عَنْ أُمِّهِ رَائِطَةَ بِنْتِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا فَقَالَ لِي: "مَا اسْمُكَ"؟ قُلْتُ: غُرَابٌ. فَقَالَ: "أَنْتَ مُسْلِمٌ" كَرِهَ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ غُرَابًا، لِفِسْقِ الْغُرَابِ وَمَعْصِيَتِهِ1، فَسَمَّاهُ مُسْلِمًا، ذَهَبَ إِلَى ضِدِّ مَعْنَى الْغُرَابِ؛ لِأَنَّ الْغُرَابَ عَاصٍ وَالْمُسْلِمَ مُطِيعٌ، مَأْخُوذٌ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ. وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ، وَيَكْرَهُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَلَوْ أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْمَذْهَبَ -الَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ- فِي تَجْوِيزِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى الْحَيَّةِ وَالْغُرَابِ وَالْفَأْرَةِ، إِلَى مَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي اللُّغَةِ، لَجَازَ لَنَا أَنَّ نُسَمِّيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ فَاسِقًا، لِأَنَّ الْفِسْقَ الْخُرُوجُ عَلَى النَّاسِ وَالْإِيذَاءُ عَلَيْهِمْ. يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرِهَا، وَكُلُّ خَارِجٍ عَنْ شَيْءٍ، فَهُوَ فَاسِقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} 2 أَيْ: خَرَجَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ. فَالْحَيَّةُ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ مِنْ جُحْرِهَا، فَتَعْبَثُ بِطَعَامِ النَّاسِ، وَتَنْهَشُ وَتَكْرَعُ فِي شَرَابِهِمْ، وَتَمُجُّ فِيهِ رِيقَهَا. وَالْفَأْرَةُ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنْ جُحْرِهَا، فَتُفْسِدُ أَطْعِمَتَهُمْ، وَتَقْرِضُ ثِيَابَهُمْ وَتُضْرِمُ بِالذُّبَالَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ، وَلَا شَيْءَ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْهَا ضَرَرًا. وَالْغُرَابُ، يَقَعُ عَلَى دَآءِ الْبَعِيرِ الدُّبُرِ3 فَيَنْقُرُهُ حَتَّى يقْتله، وَلذَلِك   1 رُبمَا كَانَ تَبْدِيل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام اسْم الرجل بِسَبَب مَا اعْتَادَ النَّاس عَلَيْهِ من التشاؤم بالغراب، لَا لسَبَب مَعْصِيّة الْغُرَاب لِأَنَّهُ غير مُكَلّف شرعا فَكيف تنْسب إِلَيْهِ الْمعْصِيَة؟! "الْمُحَقق" وَالله أعلم. 2 سُورَة الْكَهْف: الْآيَة 50. 3 الدبر: قرحَة الدَّابَّة، وَمِنْه الْمثل: "هان على الأملس مَا لَاقَى الدبر" "الْقَامُوس الْمُحِيط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 تسميه الْعَرَب: بن دَايَةَ، وَيَنْزِعُ عَنِ الْخَيْرِ، وَيَخْتَلِسُ أَطْعِمَةَ النَّاسِ. وَالْكَلْبُ: يَعْقِرُ وَيَجْرَحُ، وَكَذَلِكَ السِّبَاعُ الْعَادِيَّةُ. وَكُلُّ هَذِهِ، قَدْ يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى فَوَاسِقَ، لِخُرُوجِهَا عَلَى النَّاسِ، وَاعْتِرَاضِهَا بِالْمَضَارِّ عَلَيْهِمْ. فَأَيْنَ كَانُوا عَنْ هَذَا الْمَخْرَجِ، إِذْ قَبُحَ -عِنْدَهُمْ- أَنْ يَنْسُبُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ إِلَى طَاعَة أَو مَعْصِيّة؟!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ 26- رَهْنُ دِرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِأَصْوَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ"1. فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ مُوَاسٍ، وَلَا مُؤْثِرٌ، وَلَا مُقْرِضٌ. وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَيْرَ، وَفَتَحَ عَلَيْهِمُ الْبِلَادَ، وَجَبَوْا مَا بَيْنَ أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى أَقْصَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَقْصَى عُمَانَ، ثُمَّ بَيَاضِ نَجْدٍ وَالْحِجَازِ، وَهَذَا مَعَ أَمْوَالِ الصَّحَابَةِ، كَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَأَيْنَ كَانُوا؟ قَالُوا: وَهَذَا كَذِبٌ. وَقَائِلُهُ أَرَادَ مَدْحَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزُّهْدِ، وَبِالْفَقْرِ، وَلَيْسَ هَكَذَا تُمْدَحُ الْأَنْبِيَاء. وَكَيْفَ يَجُوعُ مَنْ يُجَهِّزُ الْجُيُوشَ، وَمَنْ يَسُوقُ الْمِئِينَ مِنَ الْبُدْنِ، وَلَهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، مِثْلُ "فَدَكٍ"2 وَغَيْرِهَا؟!! وَذَكَرَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "نَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، كُلَّ بَدَنَةٍ عَنْ سَبْعَةٍ"3 وَاسْتَاقَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَكَانَ عُمْرَتِهِ الَّتِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ سِتِّينَ بَدَنَة.   1 البُخَارِيّ: جِهَاد 89، مغازي 86، وَالتِّرْمِذِيّ: بُيُوع 7، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 58، 83 وَابْن ماجة: رهون 1، والدارمي: بُيُوع 44، وَأحمد: 1/ 326، 300، 301، 361. 2 فدك على ثَلَاث مراحل من الْمَدِينَة -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 3 وَجَدْنَاهُ بالدارمي: كتاب الْأَضَاحِي 5 بِلَفْظ: عَن جَابر قَالَ: "نحرنا يَوْم الْحُدَيْبِيَة سبعين بَدَنَة الْبَدنَة عَن سَبْعَة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "اشْتَركُوا فِي الْهَدْي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وَكَيْفَ يَجُوعُ، مَنْ وَقَفَ سَبْعَ حَوَائِطَ مُتَجَاوِرَةٍ بِالْعَالِيَةِ1. ثُمَّ لَا يَجِدُ -مَعَ هَذَا- مِنْ يُقْرِضُهُ أَصْوَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، حَتَّى يَرْهَنَ دِرْعَهُ؟!! قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يُسْتَعْظَمُ، بَلْ مَا يُنْكَرُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمْوَالِهِ، وَيُفَرِّقُهَا عَلَى الْمُحِقِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ، وَفِي النَّوَائِبِ الَّتِي تَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَلَا يُعْطِي إِذَا وَجَدَ إِلَّا كَثِيرًا، وَلَا يَضَعُ دِرْهَمًا فَوْقَ دِرْهَمٍ، وَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ سَاهِمَ2 الْوَجْهِ، أَمِنْ عِلَّةٍ؟ فَقَالَ: "لَا، وَلَكِنَّهَا السَّبْعَةُ الدَّنَانِيرُ، الَّتِي أَتَيْنَا بِهَا أَمْسِ، نَسِيتُهَا فِي خصم 3 الفراس فَبِتُّ وَلَمْ أُقَسِّمْهَا" 4. وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ فِي بُكَائِهَا عَلَيْهِ: "بِأَبِي، مَنْ لَمْ يَنَمْ عَلَى الْوَثِيرِ5 وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ"6. وَلَيْسَ يَخْلُو قَوْلُهَا هَذَا، مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ يُؤْثِرُ بِمَا عِنْدَهُ، حَتَّى لَا يَبْقَى عِنْدَهُ مَا يُشْبِعُهُ -وَهَذَا بَعْضُ صِفَاتِهِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 7، أَوْ يَكُونُ لَا يَبْلُغُ الشِّبَعَ مِنَ الشَّعِيرِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ إِفْرَاطَ الشِّبَعِ، وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْلَاهُمْ بِالْفَضْلِ، وأحراهم بِالسَّبقِ،   1 الْعَالِيَة: مَا فَوق نجد إِلَى أَرض تهَامَة إِلَى مَا وَرَاء مَكَّة، وقرى بِظَاهِر الْمَدِينَة وَهِي: العوالي. "قَامُوس الْمُحِيط". 2 ساهم الْوَجْه: متغير لون الْوَجْه لعَارض. 3 الْخصم: الْجَانِب. 4 مُسْند أَحْمد 6/ 293، 314. 5 الوثير: اللَّبن. 6 البُخَارِيّ: أَطْعِمَة 23. 7 سُورَة الْحَشْر: الْآيَة 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَحَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: أَنَا أَبُو عَاصِمٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَنَا الْمُحَبِّرُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ وِعَاءً مُلِئَ شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ، وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ، وَثُلُثًا لِلرِّيحِ" 1. وَقَدْ قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ2: إِنَّمَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، مَثَلُ الْمَأْبُورَةِ؟ يُرِيدُ أَكَلَتْ فِي الْعَلَفِ إِبْرَةً، فَهِيَ لَا تَأْكُلُ إِذَا أَكَلَتْ فِي الْعَلَفِ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَا يَنْجَعُ فِيهَا الْعَلَفُ. وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ فِي الْجُوَارِشْنِ3 شَيْءٌ؟ فَقَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِهِ، وَأَنَا لَمْ أَشْبَعْ مُنْذُ كَذَا؟! يُرِيدُ: أَنَّهُ كَانَ يَدَعُ الطَّعَامَ، وَبِهِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ لِرَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَأْكُلُ "كُلْ". فَقَالَ: قَدْ أَكَلْتُ، فَمَا أَشْتَهِي شَيْئًا. قَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهَلْ يَأْكُلُ أَحَدٌ، حَتَّى لَا يَشْتَهِيَ شَيْئًا؟! وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، أَوْ غَيْرُهُ: "لَوَدِدْتُ أَنَّ رِزْقِي فِي حَصَاةٍ أَمُصُّهَا، وَلَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ دُخُولِي إِلَى الْخَلَاءِ". وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ أَجِدْ طَعْمَ الْعَيْشِ، حَتَّى اسْتَبْدَلْتُ الْخَمْصَ4 بِالْكِظَّةِ5 وَحَتَّى لَمْ أَلْبَسْ مِنْ ثِيَابِي، مَا يَسْتَخْدِمُنِي، وَحَتَّى لَمْ آكُلْ إِلَّا مَا لَا أَغْسِلُ يَدي مِنْهُ.   1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: عَن مِقْدَام بن معد يكر قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول؛ "مَا مَلأ آدَمِيّ وعاة شرا من بطن، بِحَسب ابْن آدم أكلات يقمن صلبه، فَإِن كَانَ لَا محَالة فثلث لطعامه وَثلث لشرابه وَثلث لنَفسِهِ ". التِّرْمِذِيّ: زهد 47، وَأحمد: 4/ 132. 2 مَالك بن دِينَار السّلمِيّ: هُوَ أَبُو يحيى الْبَصْرِيّ الزَّاهِد، كَانَ أَبوهُ من سبي سجستان قَالَ النَّسَائِيّ فِيهِ: ثِقَة، وَكَانَ يكْتب الْمَصَاحِف بِالْأُجْرَةِ ويتقوت من ذَلِك توفّي سنة 127هـ. 3 الجوارشن: دَوَاء يسْتَعْمل لعلاج الهضم. مُعرب. 4 الخمص: الْجُوع. 5 الكظة: امتلاء الْمعدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فَلَمَّا بَكَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: "بِأَبِي، مَنْ يَشْبَعُ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ". وَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَخُبْزَ الشَّعِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الشِّبَعَ مِنْهُ، إِمَّا لِلْحَالِ الْأُولَى، أَوْ لِلْحَالِ الْأُخْرَى. فَذَكَرَتْ أَخَسَّ الطَّعَامَيْنِ، وَأَرَادَتْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ، عَلَى خَسَاسَتِهِ فَغَيْرُهُ أَحْرَى أَنْ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ بِصِلَاءٍ وَصِنَابٍ وَكَرَاكِرَ1 وَأَسْنِمَةٍ". وَقَالَ: لَوْ شِئْتُ لَأَمَرَتُ بِفَتِيَّةٍ2 فَذُبِحَتْ، وَأَمَرْتُ بِدَقِيقٍ فَنُخِلَ، وَأَمَرْتُ بِزَبِيبٍ فَجُعِلَ فِي سَعْنٍ3 حَتَّى يَصِيرَ كَدَمِ الْغَزَالِ، هَذَا وَأَشْبَاهُهُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِقَوْمٍ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} 4. وَقَدْ يَأْتِي على الْبَخِيل الموسى تَارَاتٌ، لَا يَحْضُرُهُ فِيهَا مَالٌ، وَلَهُ الضَّيْعَةُ وَالْأَثَاثُ وَالدُّيُونُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَقْتَرِضَ، وَإِلَى أَنْ يَرْهَنَ. فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَبْقَى لَهُ دِرْهَمٌ، وَلَا يَفْضُلُ عَنْ مُوَاسَاتِهِ وَنَوَائِبِهِ -زَادٌ؟!! وَكَيْفَ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَهْلُ الْيَسَارِ مِنْ صَحَابَتِهِ، بِحَاجَتِهِ إِلَى الطَّعَامِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُمْ، وَلَا يَنْشَطُ5 فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ نَجِدُ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي أَنْفُسِنَا وَأَشْبَاهِنَا مِنَ النَّاسِ. وَنَرَى الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّيْءِ، فَلَا يَنْشَطُ فِيهِ إِلَى وَلَده، وَلَا إِلَى   1 الصلاء: الشواء، وَالصِّنَاب: من الْخَرْدَل وَالزَّبِيب، والكراكر: صدد كل ذِي خف. 2 الْفتية: الصَّغِير من الدَّوَابّ. 3 السعن: الودك: أَي الدسم. 4 سُورَة الْأَحْقَاف: الْآيَة 20. 5 وَفِي نُسْخَة: ينبسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 أَهله وَلَا إِلَى جَاره وَيَبِيعُ الْعَلَقَ1 وَيَسْتَقْرِضُ مِنَ الْغَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. وَإِنَّمَا رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، لِأَنَّ الْيَهُودَ فِي عَصْرِهِ، كَانُوا يَبِيعُونَ الطَّعَامَ وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يَبِيعُونَهُ، لِنَهْيِهِ عَنْ الِاحْتِكَارِ. فَمَا الَّذِي أَنْكَرُوهُ مِنْ هَذَا، حَتَّى أَظْهَرُوا التَّعَجُّبَ مِنْهُ، وَحَتَّى رَمَى بَعْضُ الْمَرَقَةِ2 الْأَعْمَشَ بِالْكَذِبِ من أَجله؟!   1 العلق: النفيس من كل شَيْء، جمع أعلاق وعلوق. 2 المرقة: الخارجين عَن الدَّين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقِيَاسُ 27- الِاجْتِهَادُ فِي الْقَضَاءِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ قَوْمٍ، وَأَنَّ عَمْرًا قَالَ لَهُ: أَقْضِي -يَا رَسُولَ اللَّهِ- وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟! فَقَالَ لَهُ: "اقْضِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ أَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ" 1. قَالُوا: وَهَذَا الْحُكْمُ، لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الَّذِي يُوَافِقُ الصَّوَابَ مِنْ عَمْرٍو، هُوَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي يُوَافِقُ الْخَطَأَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَ، إِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَلَيْسَ يَنَالُهُ فِي مُوَافَقَةِ الصَّوَابِ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْقَصْدِ، وَالْعِنَايَةِ، وَاحْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ، إِلَّا مَا يَنَالُهُ مِثْلُهُ، فِي مُوَافَقَتِهِ الْخَطَأَ. فَبِأَيِّ مَعْنًى يُعْطَى فِي أَحَدِ الِاجْتِهَادَيْنِ حَسَنَةً، وَفِي الْآخَرِ عَشْرًا؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الِاجْتِهَادَ مَعَ مُوَافَقَةِ الصَّوَابِ، لَيْسَ كَالِاجْتِهَادِ مَعَ مُوَافَقَةِ الْخَطَأِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا عَلَى مَا أُسِّسَ؛ كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس،   1 ابْن ماجة: أَحْكَام 3، وَالنَّسَائِيّ: قُضَاة 3، وَأحمد: 3/ 187، 4/ 205. وَقد رَوَاهُ ابْن ماجة بِلَفْظ: عَن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا حكم فاجتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر ". وَقد ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي رقم 3805 عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا بِلَفْظ: "اقْضِ بَينهمَا على أَنَّك إِن أصبت فلك عشر وَإِن اجتهدت فأخطأت فلك أجر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والمسلمون سَوَاءً، وَأَهْلُ الْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ سَوَاءٌ إِذا اجتهدوا، وآراءهم وأنفسهم، فأدتهم عُقُولُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ مُخَالِفِيهِمْ عَلَى الْخَطَأِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ مِنْ وَرَاء اجْتِهَاد كل امرء تَوْفِيقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا كَلَامٌ يَطُولُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا، وَجَّهَ رَسُولَيْنِ فِي بِغَاءِ1 ضَالَّةٍ لَهُ، وَأَمْرَهُمَا بِالِاجْتِهَادِ وَالْجِدِّ فِي طَلَبِهَا، وَوَعَدَهُمُ الثَّوَاب، إِن وجداها، فَمضى أَحدهَا خَمْسِينَ فَرْسَخًا فِي طَلَبِهَا، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ، وَأَسْهَرَ لَيْلَهُ، وَرَجَعَ خَائِبًا. وَمَضَى الْآخَرُ فَرْسَخًا وَادِعًا2 وَرَجَعَ واجدًا، لم يَكُنْ3 أَحَقَّهُمَا بِأَجْزَلِ الْعَطِيَّةِ وَأَعْلَى الْحِبَاءِ الْوَاجِدُ. وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ قَدِ احْتَمَلَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا احْتَمَلَهُ الْآخَرُ. فَكَيْفَ بِهِمَا إِذَا اسْتَوَيَا؟! وَقَدْ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي الْأَعْمَالِ، وَيُفَضِّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يَشَاءُ فَإِنَّهُ لَا دَيْنَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ قِبَلَهُ4. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَرَأْتُ فِي الْإِنْجِيلِ: أَنَّ الْمَسِيحَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: "مَثَلُ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، مَثَلُ رَجُلٍ، خَرَجَ غَلَسًا5 يَسْتَأْجِرُ عُمَّالًا لِكَرْمِهِ، فَشَرَطَ لِكُلِّ عَامِلٍ دِينَارًا فِي الْيَوْمِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. ثُمَّ خَرَجَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ، فَرَأَى قَوْمًا بَطَّالِينَ فِي السُّوقِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ، فَإِنِّي سَوْفَ أُعْطِيكُمُ الَّذِي يَنْبَغِي لَكُمْ، فَانْطَلَقُوا. ثُمَّ خَرَجَ فِي سِتِّ سَاعَاتٍ، وَفِي تِسْعِ سَاعَاتٍ، وَفِي إِحْدَى عَشَرَ سَاعَةٍ، فَفعل مثل ذَلِك.   1 بغاء: طلب. 2 وادعًا: أَي براحة وَعدم مشقة. 3 وَفِي نُسْخَة: لم يَك. 4 قبله: أَي جهه وناحيته. 5 غلسًا: فِي ظلمَة اللَّيْل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فَلَمَّا أَمْسَى، قَالَ لِأَمِينِهِ: "أَعْطِ الْعُمَّالَ أُجُورَهُمْ، ثُمَّ ابْدَأْ بِآخِرِهِمْ، حَتَّى تَبْلُغَ أَوَّلَهُمْ. فَأَعْطَاهُمْ فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ". فَلَمَّا أَخَذُوا حُقُوقَهُمْ، سَخِطُوا عَلَى رَبِّ الْكَرْمِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا عَمِلَ هَؤُلَاءِ سَاعَةً وَاحِدَةً، فَجَعَلْتَهُمْ أُسْوَتَنَا1 فِي الْأُجْرَةِ. فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَظْلِمْكُمْ، أَعْطَيْتُكُمُ الشَّرْطَ، وَجُدْتُ2 لِهَؤُلَاءِ، وَالْمَالُ مَالِي، أَصْنَعُ بِهِ مَا أَشَاءُ. كَذَلِكَ يَكُونُ الْأَوَّلُونَ الْآخِرِينَ، والاخرون الْأَوَّلين.   1 وَفِي نُسْخَة: أسوتنا. 2 جدت: من الْجُود: وَهُوَ الْكَرم والسخاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ 28- النِّيَّةُ وَالْعَمَلُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً، وَمَنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ "نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ" 2. فَصَارَتِ النِّيَّةُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ دُونَ الْعَمَلِ، وَصَارَتْ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي خَيْرًا مِنَ الْعَمَلِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا تَنَاقُضٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْهَامُّ بِالْحَسَنَةِ إِذَا لَمْ يَعْمَلْهَا خِلَافُ الْعَامِلِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْهَامَّ لَمْ يَعْمَلْ، وَالْعَامِلَ لَمْ يَعْمَلْ حَتَّى هَمَّ ثُمَّ عَمِلَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ" فَإِنَّ الله تَعَالَى تخلد الْمُؤْمِنَ فِي الْجَنَّةِ بِنِيَّتِهِ لَا بِعَمَلِهِ. وَلَوْ جُوزِيَ بِعَمَلِهِ، لَمْ يَسْتَوْجِبِ التَّخْلِيدَ، لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي سِنِين مَعْدُودَة.   1 البُخَارِيّ: رقاق 31، وَمُسلم: إِيمَان 203، 204، 206، 207، والدارمي: رقاق 70 وَأحمد: 1/ 227، 279، 310، 361، 2/ 234، 410. 2 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "نِيَّة الْمُؤمن خير من عمله" وَهُوَ حسن لغيره. انْظُر: الْمَقَاصِد 450 والدرر برقم 426، والتمسسز 180، والأسرا: 375، والكشف: 2/ 324، والفوائد للكرمي: 87، والفوائد للشوكاني: 250، وَضَعِيف الْجَامِع 6 برقم 5188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا يَقَعُ بِمِثْلِهَا وَبِأَضْعَافِهَا. وَإِنَّمَا يُخَلِّدُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنِيَّتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا، أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى أَبَدًا لَوْ أَبْقَاهُ أَبَدًا فَلَمَّا اخْتَرَمَهُ1 دُونَ نِيَّتِهِ جَزَاهُ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ نِيَّتُهُ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ نَاوِيا أَن يُقيم على كفره، لَوْ أَبْقَاهُ أَبَدًا، فَلَمَّا اخْتَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ نِيَّتِهِ، جَزَاهُ عَلَيْهَا.   1 اخترامه: أَمَاتَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْكِتَابُ وَالنَّظَرُ 29- سَمَاعُ الْمَوْتَى: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ1 بَدْرٍ، فَقَالَ: "يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا فُلَانُ، وَيَا فُلَانُ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا"2 فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ كَمَا تَسْمَعُونَ" وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ؛ {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 3وَيَقُولُ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} 4. ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ -يَوْمَ الْأَحْزَابِ-: "اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ وَالْأَرْوَاحِ الْفَانِيَةِ ". وَأَن بن عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنِ الْأَرْوَاحِ: أَيْنَ تَكُونُ إِذَا فَارَقَتِ الْأَجْسَادَ؟ وَأَيْنَ تَذْهَبُ الْأَجْسَادُ إِذَا بَلِيَتْ؟ فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ السِّرَاجُ إِذَا طُفِئَ، وَأَيْنَ يَذْهَبُ الْبَصَرُ إِذَا عَمِيَ، وَأَيْنَ يَذْهَبُ لَحْمُ الصَّحِيحِ إِذَا مَرِضَ؟ قَالَ: لَا أَيْنَ، قَالَ: فَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ، إِذَا فَارَقَتِ الْأَجْسَادَ. وَهَذَا لَا يُشْبِهُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ كَمَا تَسْمَعُونَ" وَمَا تروونه5 فِي عَذَاب الْقَبْر.   1 قليب: بِئْر. 2 البُخَارِيّ: جنائز 87، مغازي 8، 12، وَمُسلم: جنَّة 76، 77، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 117. 3 سُورَة فاطر: الْآيَة 22. 4 سُورَة الرّوم: الْآيَة 52. 5 أَي وَلَا يشبه مَا تَرَوْنَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا جَازَ فِي الْمَعْقُولِ، وَصَحَّ فِي النَّظَرِ، وَبِالْكِتَابِ وَالْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْأَجْسَادُ قَدْ بَلِيَتْ، وَالْعِظَامُ قَدْ رَمَّتْ1، جَازَ أَيْضًا فِي الْمَعْقُولِ، وَصَحَّ فِي النَّظَرِ، وَبِالْكِتَابِ وَالْخَبَرِ، أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي الْبَرْزَخِ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 2. فَهُمْ يُعْرَضُونَ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ عَلَى النَّارِ، غُدُوًّا وَعَشِيًّا، قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْخُلُونَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3. وَهَذَا شَيْءٌ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ شُهَدَاءَ بَدْرٍ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أُخْرِجُوا عِنْدَ حَفْرِ الْقَنَاةِ رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ، حَتَّى قَالَ قَائِلٌ: لَا نُنْكِرُ4 بَعْدَ هَذَا شَيْئًا. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُجْرِيَ الْعَيْنَ الَّتِي حَفَرَهَا -قَالَ سَفِينٌ: تُسَمَّى عَيْنُ أَبِي زِيَادٍ بِالْمَدِينَةِ- نَادَوْا بِالْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ، فَلْيَأْتِ قَتِيلَهُ. قَالَ جَابِرٌ: فَأَتَيْنَاهُمْ فَأَخْرَجْنَاهُمْ رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ، وَأَصَابَتِ الْمِسْحَاةُ رِجْلَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فانفطرت دَمًا. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: لَا يُنْكِرُ بَعْدَهَا مُنْكِرٌ أَبَدًا. وَرَأَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ أَبَاهَا فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ5 حَوِّلِينِي مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، فقد أضرّ بِي الندى.   1 رمت: أَصبَحت رميمًا. 2 سُورَة غَافِر: الْآيَة 46. 3 سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 196. 4 وَفِي نُسْخَة: لَا تنكروا. 5 وَفِي نُسْخَة: يَا بِنْتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فَأَخْرَجَتْهُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوِهَا، فَحَوَّلَتْهُ مِنْ ذَلِكَ النَّزِّ1 وَهُوَ طَرِيٌّ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَدُفِنَ بِالْهَجَرِيِّينَ2 بِالْبَصْرَةِ. وَتَوَلَّى إِخْرَاجَهُ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَامَةَ التَّيْمِيُّ. وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مَشْهُورَةٌ، كَأَنَّهَا عِيَانٌ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ، أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَجَازَ أَنْ يَكُونُوا فَرِحِينَ وَمُسْتَبْشِرِينَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْدَاؤُهُمُ الَّذِينَ حَارَبُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، أَحْيَاءً فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَ؟ وَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ؟ وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ3 "إِنَّهُ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ" 4 وَتَسْمِيَتُهُ لَهُ ذَا الْجَنَاحَيْنِ، وَكَثْرَةُ الْأَخْبَارِ عَنْهُ فِي مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَفِي عَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِي دُعَائِهِ: "أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ" 5. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ صِحَاحٌ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهَا التَّوَاطُؤُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِثْلُهَا، لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ دِينِنَا، وَلَا شَيْءَ أَصَحُّ مِنْ أَخْبَارِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي   1 النز: الندى أَو الرُّطُوبَة. 2 بالهجريين: أَي مَعَ موتى الْمُهَاجِرين، نِسْبَة إِلَى الْهِجْرَة. 3 جَعْفَر بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم: صَحَابِيّ هاشمي من شجعانهم. يُقَال لَهُ جَعْفَر الطيار لِأَنَّهُ فقد يَدَيْهِ وَهُوَ يحمل الرَّايَة فِي وقْعَة مُؤْتَة ثمَّ اسْتشْهد عَام 8هـ، من السَّابِقين الْأَوَّلين هَاجر إِلَى الْحَبَشَة فِي الْهِجْرَة الثَّانِيَة ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَقيل إِن الله عوضه عَن يَدَيْهِ جناحين فِي الْجنَّة. 4 التِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 29. 5 البُخَارِيّ: دعوات 37، 38، 39، 41، 44، 45، 46، 57، مُسلم: ذكر 48، 76، التِّرْمِذِيّ: دعوات 76، النَّسَائِيّ: استعاذة 17، 26، 51، 52، 56، ابْن ماجة: دُعَاء 3، وَأحمد: 1/ 305، 2/ 314، 6/ 57 وَفِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 3431 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الْقُبُورِ} فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بالموتى هَهُنَا الْجُهَّالَ، وَهُمْ أَيْضًا أَهْلُ الْقُبُورِ. يُرِيدُ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِفْهَامِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَاهِلًا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى إِسْمَاعِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصَمَّ عَنِ الْهُدَى. وَفِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، دَلِيلٌ عَلَى مَا نَقُولُ، لِأَنَّهُ قَالَ: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} 2 يُرِيدُ بِالْأَعْمَى: الْكَافِرَ، وَبِالْبَصِيرِ: الْمُؤْمِنَ. {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّور} 3 يَعْنِي بِالظُّلُمَاتِ: الْكُفْرَ، وَبِالنُّورِ: الْإِيمَانَ. {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُور} 4 يَعْنِي بِالظِّلِّ: الْجَنَّةَ، وَبِالْحَرُورِ: النَّارَ. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} 4 يَعْنِي بِالْأَحْيَاءِ: الْعُقَلَاءَ، وَبِالْأَمْوَاتِ: الْجُهَلَاءَ. ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 5 يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْجُهَلَاءَ، الَّذِينَ كَأَنَّهُمْ مَوْتَى فِي الْقُبُورِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَوْتَى، الَّذِينَ ضَرَبَهُمْ مَثَلًا للجهلاء شَهدا بَدْرٍ6، فَيُحْتَجَّ بِهِمْ عَلَيْنَا أُولَئِكَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ، وَالْأَرْوَاحِ الْفَانِيَةِ" فَإِنَّهُ قَالَه   1 سُورَة فاطر: الْآيَة 19. 2 سُورَة فاطر: الْآيَة 20. 3 سُورَة فاطر: الْآيَة 21. 4 سُورَة فاطر: الْآيَة 22. 5 سُورَة فاطر: الْآيَة 22. 6 وَفِي نُسْخَة: شُهَدَاء أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 على مَا يَعْرِفُ النَّاسُ، وَعَلَى مَا شَاهَدُوا، لِأَنَّهُمْ يَفْقِدُونَ الشَّيْءَ فَيَكُونُ مُبْطَلًا عِنْدَهُمْ وَفَانِيًا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْلُومٌ، وَغَيْرُ فَانٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ السَّمِينَ الضَّخْمَ الْعَظِيمَ الصَّحِيحَ، يَعْتَلُّ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَيَذْهَبُ مِنْ جِسْمِهِ نِصْفُهُ، أَوْ ثُلُثَاهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَيْنَ ذَهَبَ ذَلِكَ، فَهُوَ عِنْدَنَا فَانٍ مُبْطَلٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَيْنَ ذَهَبَ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ صَارَ. وَأَنَّ الْإِنَاءَ الْعَظِيمَ مِنَ الزُّجَاجِ يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ أَيَّامًا؛ فَيَذْهَبُ بِالْحَرِّ بَعْضُهُ. وَإِنْ تَطَاوَلَتْ بِهِ الْمُدَّةُ، ذَهَبَ كُلُّهُ، وَالزُّجَاجُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّشَفُ1 وَلَا الرَّشْحُ، وَلَا نَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَ مَا فِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُ. وَأَنَّا نُطْفِئُ بِالنَّفْخَةِ نَارَ الْمِصْبَاحِ، فَتَذْهَبُ وَتَكُونُ عِنْدَنَا فَانِيَةً، وَلَا نَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَتْ وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كَيْفَ ذَهَبَتْ، وَأَيْنَ حَلَّتْ. كَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ -عِنْدَنَا- فَانِيَةٌ وَهِيَ -بِقَولِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ، وَفِي عِلِّيِّينَ، وَفِي سِجِّينٍ، وَتُشَامُّ2 فِي الْهَوَاء، وَأَشْبَاه ذَلِك.   1 النشف: ذهَاب المَاء. 2 تشائم: لَعَلَّهَا من الشمامات: وَهُوَ مَا يتشمم من الْأَرْوَاح الطّيبَة. وَفِي نُسْخَة: تسام فِي الْهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 30- الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لِيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَصَلَاتُكُمْ قُرْبَانُكُمْ، وَلَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا خِيَارَكُمْ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ: "صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ"2. وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا -بِنِعْمَةِ اللَّهِ- اخْتِلَافٌ. وَلِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مَوْضِعٌ، وَلِلثَّانِي مَوْضِعٌ. وَإِذَا وُضِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ، زَالَ الِاخْتِلَافُ. أَمَّا قَوْلُهُ: "لِيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا خِيَارَكُمْ" فَإِنَّهُ أَرَادَ أَئِمَّةَ الْمَسَاجِدِ فِي الْقَبَائِلِ وَالْمَحَالِّ، وَأَنْ لَا تُقَدِّمُوا3 مِنْهُمْ إِلَّا الْخَيِّرَ التَّقِيَّ الْقَارِئَ، وَلَا تقدمُوا الْفَاجِر الْأُمِّي.   1 لم نجد الحَدِيث بنصه هَذَا فِي الْكتب التِّسْعَة وَلَكنَّا وجدنَا حَدِيثا بِلَفْظ: "يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأقدمهم فِي الْهِجْرَة، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ، فَإِن كَانُوا فِي السّنة سَوَاء فأقدمهم سنا وَلَا تؤم الرجل فِي سُلْطَانه وَلَا تقعد على تكرمته إِلَّا أَن يَأْذَن لَك" النَّسَائِيّ ج2/ ص76 بَاب من أَحَق بِالْإِمَامَةِ. 2 رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِسَنَد ضَعِيف، وَمَعْنَاهُ صَحِيح لصَلَاة ابْن عمر، وَبَعض عُلَمَاء السّلف خَالف الْحجَّاج، وَلَيْسَ هَذَا فِي حَال الِاخْتِيَار بل الِاخْتِيَار تَقْدِيم الْأَقْرَاء والأورع والأعلم -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير. 3 وَفِي نُسْخَة: وَلَا يقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وَأَمَّا قَوْلُهُ: صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ" فَإِنَّهُ يُرِيدُ السُّلْطَانَ، الَّذِي يَجْمَعُ النَّاسَ وَيَؤُمُّهُمْ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ يُرِيدُ: لَا تَخْرُجُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَشُقُّوا الْعَصَا، وَلَا تُفَارِقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ سُلْطَانُكُمْ1 فَاجِرًا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَلَا يَصْلُحُ النَّاسُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَنْتَظِمُ أَمْرُهُمْ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْحَسَنِ: "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزَعَةٍ"2 يُرِيدُ سُلْطَانًا يَزَعُهُمْ عَنِ التَّظَالُمِ وَالْبَاطِلِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ بِغَيْر حق.   1 وَفِي نُسْخَة: سلطانهم. 2 وزعة: من الْوَازِع وَهُوَ الَّذِي يمْنَع من وُقُوع الشَّرّ وَالْمَقْصُود هُنَا السُّلْطَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 31- قِتَالُ الْمُسْلِمِ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ "كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ لَكُمْ -يَا بَنِي آدَمَ- مَثَلًا، فَخُذُوا خَيْرَهُمَا، وَدَعُوا شَرَّهُمَا" 2. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ حَدِيثٍ مَوْضِعًا، غَيْرَ مَوْضِعِ الْآخَرِ، فَإِذَا وُضِعَا بِمَوْضِعَيْهِمَا، زَالَ الِاخْتِلَافُ. لِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" مَنْ قَاتَلَ اللُّصُوصَ عَنْ مَالِهِ، حَتَّى يُقْتَلَ فِي مَنْزِلِهِ، وَفِي أَسْفَاره.   1 أَحْمد 2/ 221، 223، وَأَصْحَاب السّنَن عَن سعد بن زيد وَهُوَ صَحِيح، كَمَا أَنه فِي الصَّحِيحَيْنِ من رِوَايَة عبد الله بن عَمْرو، وَقد رُوِيَ فِي دواوين السّنة عَن غَيرهمَا أَيْضا -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 2 وَجَدْنَاهُ فِي مُسْند أَحْمد 4/ 226 بِلَفْظ: " أَوْصَانِي خليلي أَبُو الْقَاسِم إِن أدْركْت شَيْئا من هَذِه الْفِتَن فاعمد إِلَى أحد فاكسر بِهِ حد سَيْفك ثمَّ اقعد فِي بَيْتك، قَالَ: فَإِن دخل عَلَيْك أحد إِلَى الْبَيْت فَقُمْ إِلَى المخدع فَإِن دخل عَلَيْك المخدع فاجث على ركبتك وَقل بؤ بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين، قد كسرت حد سَيفي وَقَعَدت فِي بَيت ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِذَا رَأَيْتَ سَوَادًا فِي مَنْزِلِكَ، فَلَا تَكُنْ أَجْبَنَ السَّوَادَيْنِ ". يُرِيدُ: تَقَدَّمْ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ" أَيِ: افْعَلْ هَذَا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَتَنَازُعِ سُلْطَانَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْأَمْرَ، وَيَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ بِحُجَّةٍ، يَقُولُ: فَكُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَا تَسُلَّ سَيْفًا، وَلَا تَقْتُلْ أَحَدًا، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ الْمُحِقُّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَنِ الْمُبْطِلُ، وَاجْعَلْ دَمَكَ دُونَ دِينِكَ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَالَ: "الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ ". فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 1 فَإِنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ الْجَمِيعَ مِنَّا، بَعْدَ الْإِصْلَاحِ، وَبَعْدَ الْبَغْيِ -وَأَمَرَ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، إِذَا لم يجْتَمع ماؤنا عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، أَنْ نَلْزَمَ مَنَازِلَنَا، وَنَقِيَ أَدْيَانَنَا بِأَمْوَالِنَا، وَأَنْفُسِنَا.   1 سُورَة الحجرات: الْآيَة 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ وَالْخَبَرُ 32- دُعَاءُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَلِيٍّ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَعَثَنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ لِأَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ لَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ صَدْرِي وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ، وَثَبِّتْ لِسَانَهُ" 1 فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ، حَتَّى جَلَسْتُ مَجْلِسِي هَذَا. ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّهُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَقَالَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَقَضَى فِي الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ، مَعَ قَوْلِهِ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَقَحَّمَ 2 جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ، فَلْيَقُلْ فِي الْجَدِّ". وَنَدِمَ عَلَى إِحْرَاقِ الْمُرْتَدِّينَ، بَعْدَ الَّذِي بَلَغَهُ مِنْ فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ. وَجَلَدَ رَجُلًا فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، فَمَاتَ، فواده3 وَقَالَ: "وَدَيْتُهُ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ جَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا". وَهُوَ كَانَ أَشَارَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَلْدِ ثَمَانِينَ فِي الْخَمْرِ. وَرَأَى الرَّجْمَ عَلَى مَوْلَاةِ حَاطِبٍ، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ   1 أخرجه أَبُو دَاوُد: أقضية 6، وَأحمد 1/ 83 و136 و149 و150. 2 يتقحم: يدْخل. 3 وداه: دفع دينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 "إِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَعْرِفُهُ" وَهَذِهِ لَا تَعْرِفُهُ، وَكَانَتْ أَعْجَمِيَّةً، تَابَعَهُ. وَنَازَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الْمُكَاتِبِ، فَأَفْحَمَهُ. وَقَالَ فِي أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ" لَقَدْ عَثَرْتُ عَثْرَةً لَا أَجْتَبِرْ ... سَوْفَ أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرْ وَأَجْمَعُ الرَّأْيَ الشَّتِيتَ الْمُنْتَشِرْ قَالَ: وَذَكَرَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الْحَرَامِ "إِنَّهَا ثَلَاثٌ" وَقَطَعَ الْيَدَ مِنْ أُصُولِ الْأَصَابِع، وحك أَصَابِعَ الصِّبْيَانِ فِي السَّرَقِ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1 وَقَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2. وَجَهَرَ فِي قُنُوتِ الْغَدَاةِ بِأَسْمَاءِ رِجَالٍ، وَأَخَذَ نِصْفَ دِيَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ. وَأَخَذَ نِصْفَ دِيَةِ الْعَيْنِ مِنَ الْمُقْتَصِّ مِنَ الْأَعْوَرِ. وَخَلَّفَ رَجُلًا يُصَلِّي الْعِيدَ بِالضُّعَفَاءِ، فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَى الْمُصَلَّى. وَقَالُوا: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، خِلَافٌ3 عَلَى جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، وَجَمِيعِ الْأُمَرَاءِ مِنْ نُظَرَائِهِ. وَلَا يُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ: مَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ، حَتَّى جَلَسْتُ مَجْلِسِي هَذَا. وَلَا يُشْبِهُ دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، أَنْ يُثَبِّتَ اللَّهُ لِسَانَهُ وَقَلْبَهُ، بَلْ يُشْبِهُ دُعَاءَهُ عَلَيْهِ، بِضِدِّ مَا قَالَ.   1 سُورَة الطَّلَاق: الْآيَة 2. 2 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 282. 3 خلاف عَليّ: لَعَلَّ الْأَصَح: خَالف عَليّ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا لَهُ بِتَثْبِيتِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، لَمْ يُرِدْ أَنْ لَا يَزَلَّ أَبَدًا، وَلَا يَسْهُوَ، وَلَا يَنْسَى، وَلَا يَغْلَطَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ، لَا تَكُونُ لِمَخْلُوقٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَزَّ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَبِمَا لَا يَجُوزُ مِنْ1 أَنْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ بِأَنْ لَا يَمُوتَ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى الْمَوْتَ عَلَى خَلْقِهِ وَبِأَنْ لَا يَهْرَمَ إِذَا عَمَّرَهُ، وَقَدْ جَعَلَ الْهَرَمَ فِي تَرْكِيبِهِ، وَفِي أَصْلِ جِبِلَّتِهِ. وَكَيْفَ يَدْعُو لَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَنَالُهَا بِدُعَائِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ رُبَّمَا سَهَا وَكَانَ يَنْسَى الشَّيْءَ مِنَ الْقُرْآنِ، حَتَّى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} 2 وَقَبِلَ الْفِدْيَةَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فَنَزَلَ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 وَقَالَ: "لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مَا نَجَا إِلَّا عُمَرُ" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَتَرْكِ أَخْذِ الْفِدَاءِ. وَأَرَادَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ أَنْ يَتَّقِيَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، حَتَّى قَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ مَا قَالَ. وَكَادَ يُجِيبُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا أَرَادُوهُ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} 4. وَهَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فِي السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ. وَتَعْدَادُ هَذَا يَطُولُ، وَيَكْثُرُ وَلَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ. وَإِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، بِأَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الْقَضَاء أَكثر مِنْهُ.   1 بنسخة أُخْرَى: لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَدْعُو. 2 سُورَة الْأَعْلَى: الْآيَة 6. 3 سُورَة الْأَنْفَال: الْآيَة 68. 4 سُورَة الْإِسْرَاء: الْآيَة 74-75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وَمثل هَذَا، دُعَاؤُهُ لِابْنَ عَبَّاسٍ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ، وَيُفَقِّهَهُ فِي الدَّين. وَكَانَ بن عَبَّاسٍ -مَعَ دُعَائِهِ- لَا يَعْرِفُ كُلَّ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: لَا أَعْرِفُ "حَنَانًا" وَلَا "الْأَوَّاهُ" وَلَا "الْغِسْلِينَ" وَلَا "الرَّقِيمَ". وَلَهُ أَقَاوِيلُ فِي الْفِقْهِ مَنْبُوذَةٌ، مَرْغُوبٌ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ، وَقَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ، وَقَوْلِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْأَمَتَيْنِ. وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا دَعَا بِهِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ، أَعْطوهُ أجِيبُوا إِلَيْهِ. فَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لِأَبِي طَالِبٍ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 1. وَكَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2. وَبَعْدُ، فَإِنَّ أَقَاوِيلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ كُلُّهَا، لَيْسَتْ مَنْبُوذَةً، يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْخَطَأِ فِيهَا. وَمِنْ أَغْلَظِهَا، بَيْعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَقَدْ كُنَّ يُبَعْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدَّيْنِ، وَعَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ. حَتَّى نَهَى عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ أَوْلَادِهِنَّ، وَلِئَلَّا تَلْحَقَهُمُ السُّبَّةُ، وَيَرْجِعَ عَلَيْهِمُ الشَّيْنُ بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ، من الْأُمَّهَات جِهَة إِذا ملكن.   1 سُورَة التَّوْبَة: الْآيَة 113. 2 سُورَة الْقَصَص: الْآيَة 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَالنَّاسُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهَا إِلَّا بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ. وَأُمُّ الْوَلَدِ لَمْ يَنَلْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَحْكَامُ الْإِمَاءِ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ سَيِّدُهَا. فَبِأَيِّ مَعْنًى يُزِيلُ الْوَلَدُ عَنْهَا الْبَيْعَ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ، اسْتَحْسَنَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا1 أَرَادَ النَّظَرِ لِلْأَوْلَادِ. وَلَسْنَا نَذْهَبُ إِلَى هَذَا وَلَا نَعْتَقِدُهُ، وَلَكِنَّا أَرَدْنَا بِهِ التَّنْبِيهَ، عَلَى حُجَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ، وَحُجَّةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، فِي إِطْلَاقِ ذَلِكَ، وَتَرْكِ النَّهْيِ عَنْهُ. فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَضَايَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّطِيفَةِ، الَّتِي تَغْمُضُ وَتَدِقُّ، وَتَعْجَزُ عَنْ أَمْثَالِهَا جُلَّةُ الصَّحَابَةِ، كَقَضَائِهِ فِي الْعَيْنِ إِذَا لُطِمَتْ، أَوْ بُخِصَتْ2 أَوْ أَصَابَهَا مُصِيبٌ، بِمَا يَضْعُفُ مَعَهُ الْبَصَرُ3 بِالْخُطُوطِ عَلَى الْبَيْضَةِ. وَكَقَضَائِهِ فِي اللِّسَانِ إِذَا قُطِعَ، فَنَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ شَيْءٌ، فَحَكَمَ فِيهِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَكَقَضَائِهِ فِي الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ، وَهُنَّ ثَلَاثُ جَوَارٍ، كُنَّ يَلْعَبْنَ، فَرَكِبَتْ إِحْدَاهُنَّ صَاحِبَتَهَا، فَقَرْصَتْهَا الثَّالِثَةُ، فَقَمَصَتِ4 الْمَرْكُوبَةُ، فَوَقَعَتِ الرَّاكِبَةُ، فَوُقِصَتْ5 عُنُقُهَا. فَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا، وَأَسْقَطَ حِصَّةَ الرَّاكِبَةِ لِأَنَّهَا أَعَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا.   1 فِي نُسْخَة "لما". 2 بخصت الْعين: أَدخل الْأصْبع فِيهَا وفقأها. 3 وَفِي نُسْخَة "النّظر". 4 قمص: وثب. 5 وقص: دق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وَكَقَضَائِهِ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي ابْنِ امْرَأَةٍ وَقَعَا عَلَيْهَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا أَنَّهُ ابْنُهُمَا جَمِيعًا، يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، وَهُوَ لِلْبَاقِي1 مِنْهُمَا. وَقَدْ رَوَى حَمَّادٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ قَضَى بِمِثْلِ ذَلِكَ، مُوَافِقًا لَهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِحُكْمِهِ، وَيَفْرَقُ2 الشَّيْطَانُ مِنْ حِسِّهِ، وَالسَّكِينَةُ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ. وَذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: "كَانَ -وَاللَّهِ- أَحْوَذِيَّا3، نَسِيجَ وَحْدِهِ4 قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا" تُرِيدُ حَسَنَ السياسة. وَذكر الْمُغِيرَةُ فَقَالَ: كَانَ -وَاللَّهِ- أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَخْدَعَ، وَأَعْقَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ. وَقَالَ فِيهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ" "وَاللَّهِ، لَهْوَ بِمَا يَكُونُ، أَعْلَمُ مِنَّا بِمَا كَانَ". يُرِيدُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِظَنِّهِ، فَلَا يُخْطِئُ. وَقَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مُحَدَّثِينَ 5 أَوْ مُرَوَّعِينَ 6 فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أحد مِنْهُم، فَهُوَ عمر "7.   1 أَي بعد مَوته أَحدهمَا. 2 يفرق: يخَاف. 3 الأحوذي: الحاذق، المشمر للأمور القاهر لَهَا، لَا يشذ عَلَيْهِ شَيْء كالحويذا "الْقَامُوس الْمُحِيط". 4 نَسِيج وَحده: أَي لَا نَظِير لَهُ فِي الْعلم وَغَيره، وَذَلِكَ لِأَن الثَّوْب إِذا كَانَ رفيعًا لم ينسج على منواله، غَيره "الْقَامُوس الْمُحِيط". 5 محدثين: أَي ملهمين. 6 مروعين: أَي مِمَّن يلقى فِي روعه، وهم الَّذين تصدق فراستهم. 7 أخرجه البُخَارِيّ: فَضَائِل الصَّحَابَة 6 وأنبياء 54، وَمُسلم: فَضَائِل الصَّحَابَة 23 وَالتِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 17، وَأحمد 6/ 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وَقَالَ لِسَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ الدُّؤَلِيِّ: "يَا سَارِيَةَ، الْجَبَلَ الْجَبَلَ". وَسَارِيَةُ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ سَارِيَةَ مَا قَالَ، فَاسْتَنَدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَقَاتَلَ الْعَدُوَّ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ. وَعُمَرُ مَعَ هَذَا يَقُولُ فِي قَضِيَّةٍ1 نَبَّهَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا: "لَوْلَا قَوْلُ عَلِيٍّ، لَهَلَكَ عُمَرُ". وَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مُعْضِلَةٍ، لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ. حَدَّثَنَا الزِّيَادِيُّ قَالَ: أَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ وَقَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَمَّ بِهَا. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَدْ يَكُونُ هَذَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} 2 وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 3.   1 وَفِي نُسْخَة: فِي قَضِيَّة -شبهت عَلَيْهِ- نبهه. 2 سُورَة الْأَحْقَاف: الْآيَة 15. 3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 33- كَرَاهَةُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمُسَافِرِ وَحْدَهُ شَيْطَانٌ، وَفِي الِاثْنَيْنِ شَيْطَانَانِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ رَكْبٌ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ، مُهَاجِرَيْنِ. قَالُوا: كَيفَ يكون الْوَاحِد شَيْطَان إِذَا سَافَرَ؟ وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْطَانِ، أَوْ يَتَحَوَّلَ شَيْطَانًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "الْمُسَافِرُ وَحْدَهُ شَيْطَانٌ" مَعْنَى الْوَحْشَةِ بِالِانْفِرَادِ وَبِالْوَحْدَةِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَطْمَعُ فِيهِ، كَمَا يَطْمَعُ فِيهِ اللُّصُوصُ، وَيَطْمَعُ فِيهِ السَّبُعُ. فَإِذَا خَرَجَ وَحْدَهُ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلشَّيْطَانِ، وَتَعَرَّضَ لِكُلِّ عَادٍ عَلَيْهِ مِنَ السِّبَاعِ أَوِ اللُّصُوصِ، كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ. ثُمَّ قَالَ: "وَالِاثْنَانِ شيطانان" لِأَن كل واح مِنْهُمَا مُتَعَرِّضٌ لِذَلِكَ، فَهُمَا شَيْطَانَانِ، فَإِذا تناموا ثَلَاثَةً، زَالَتِ الْوَحْشَةُ، وَوَقَعَ الْأُنْسُ، وَانْقَطَعَ طَمَعُ كُلِّ طَامِعٍ فِيهِمْ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ إِيمَاءٌ وَإِشَارَةٌ وَتَشْبِيهٌ. يَقُولُونَ: "فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ" وَالنِّجَادُ: حمائل السَّيْف، وَهُوَ لم   1 التِّرْمِذِيّ: الاسْتِئْذَان 14، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي 15 كتاب الْجِهَاد، 79 -بَاب الرجل يُسَافر وَحده، وَالتِّرْمِذِيّ فِي: 21 -كتاب الْجِهَاد، 4- بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَة أَن يُسَافر الرجل وَحده، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 3524. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 يتقلد سَيْفًا قَطُّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ: أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ، فَيَدُلُّونَ بِطُولِ نِجَادِهِ عَلَى طُولِهِ، لِأَنَّ النِّجَادَ الْقَصِيرُ لَا يَصْلُحُ عَلَى الرَّجُلِ الطَّوِيلِ. وَيَقُولُونَ: "فُلَانٌ عَظِيمُ الرَّمَادِ" وَلَا رَمَادَ فِي بَيْتِهِ وَلَا عَلَى بَابِهِ؛ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ كَثِيرُ الضِّيَافَةِ، فَنَارُهُ وَارِيَةٌ أَبَدًا، وَإِذَا كَثُرَ وَقُودُ النَّارِ كَثُرَ الرَّمَادُ. وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 2. فَدَلَّنَا بِأَكْلِهِمَا الطَّعَامَ، عَلَى مَعْنَى الْحَدَثِ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُحْدِثَ. وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} 2. فَكَنَّى بِمَشْيِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، عَنِ الْحَوَائِجِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّاسِ، فَيَدْخُلُونَ لَهَا الْأَسْوَاقَ. كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَغْنَاهُ عَنِ النَّاسِ، وَعَنِ الْحَوَائِجِ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ وَحْدَهُ" وَالْبَرِيدُ الرَّسُولُ، يَبْعَثُ بِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيَكْتُبُ مَعَهُ، وَهُوَ الْفَيْجُ3 فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَحْدَهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَنْضَمَّ فِي الطَّرِيقِ، إِلَى الرَّفِيقِ يَكُونُ مَعَهُمْ، وَيَأْنَسُ بِهِمْ. وَهَذَا شَيْءٌ يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا، وَيُنْفِذَهُ مَعَ رَسُولٍ إِلَى بَلَدٍ شَاسِعٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتَرِيَ ثَلَاثَةً؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَاحِدُ شَيْطَانٌ، وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَة ركب" 4.   1 سُورَة الْمَائِدَة: الْآيَة 75. 2 سُورَة الْفرْقَان: الْآيَة 7. 3 الفيج: رَسُول السُّلْطَان. 4 سبق تَخْرِيجه ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا عَلَى الرَّسُولِ -إِذَا هُوَ خَرَجَ- أَنْ يَلْتَمِسَ الصُّحْبَةَ، وَيَتَوَقَّى الْوِحْدَةَ. وَأَمَّا خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، حِينَ هَاجَرَ، فَإِنَّهُمَا كَانَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَائِفَيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَجِدَا بُدًّا مِنَ الْخُرُوجِ. وَلَعَلَّهُمَا أَمَلَا أَنْ يُوَافِقَا رَكْبًا، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ وَحْدَهُ، عَلَى تَأْمِيلِ وِجْدَانِ الصَّحَابَةِ فِي الطَّرِيقِ. فَلَمَّا أَمْكَنَهُمَا أَنْ يستزيدًا فِي الطَّرِيق عددا، اسْتَأْجَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَادِيًا، مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَاسْتَصْحَبَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 34- حَدُّ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ" 1. وَرُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ" 2. هَذَا، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حُجَّةٌ لِلْخَوَارِجِ، لِأَنَّهَا تَقُولُ: إِنَّ الْقَطْعَ عَلَى السَّارِقِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} 3 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ" عَلَى ظَاهِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ. وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ جُمْلَةً، بَلْ يُنَزِّلُهُ شَيْئًا بعد شَيْء.   1 مُسلم: حُدُود 7، وَابْن ماجة: حُدُود 22، وَالنَّسَائِيّ: سَارِق 1، وَأحمد 2/ 253، انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان 1099. 2 أَبُو دَاوُد: حُدُود 12، وَالنَّسَائِيّ: سَارِق 9، 10، والموطأ: حُدُود 24-25، وَانْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان 1097. 3 سُورَة الْمَائِدَة: الْآيَة 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ويأتيه جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسُّنَنِ، كَمَا كَانَ يَأْتِيهِ بِالْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ" يَعْنِي مِنَ السُّنَنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ -فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ- قَطَعَ أَيْدِيَ الْعُرَنِيِّينَ1 وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ2 أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بِالْحَرَّةِ، حَتَّى مَاتُوا -ثُمَّ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ، فَاقْتَصَّ مِنْهُمْ بِأَشَدِّ الْقِصَاصِ لِغَدْرِهِمْ، وَسُوءِ مُكَافَأَتِهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَقَتْلِهِمْ رِعَاءَهُ وَسَوْقِهِمُ الْإِبِلَ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْحُدُودُ، وَنُهِيَ عَنِ الْمُثْلَةِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ، مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْبَيْضَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بَيْضَةُ الْحَدِيدِ، الَّتِي تَغْفِرُ الرَّأْسَ فِي الْحَرْبِ، وَأَنَّ الْحَبْلَ مِنْ حِبَالِ السُّفُنِ. قَالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنَ، يَبْلُغُ دَنَانِيرَ كَثِيرَةً. وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَمَخَارِجَ كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ تَكْثِيرٍ لِمَا يَسْرِقُ السَّارِقُ، فَيُصْرَفُ إِلَى بَيْضَةٍ تُسَاوِي دَنَانِيرَ، وَحَبْلٍ عَظِيمٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ السَّارِقُ. وَلَا مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، أَنْ يَقُولُوا: قَبَّحَ اللَّهُ فَلَانًا، فَإِنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلضَّرْبِ فِي عِقْدِ جَوْهَرٍ، وَتَعَرَّضَ3 لِعُقُوبَةِ الْغُلُولِ فِي جِرَابِ مِسْكٍ. وَإِنَّمَا الْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا، أَنْ يُقَالَ: لَعَنَهُ اللَّهُ، تَعَرَّضَ لِقَطْعِ الْيَدِ فِي حَبْلٍ رَثٍّ، أَوْ كُبَّةِ شَعْرٍ، أَوْ إداوة4 خلق، وَكلما كَانَ من هَذَا أَحْقَر، كَانَ أبلغ.   1 العرنيين: نِسْبَة إِلَى قَبيلَة عرينة وَقد ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام. 2 سمل: فَقَأَ. 3 وَفِي نُسْخَة: وَعرض نَفسه. 4 وَفِي نُسْخَة: أَو إِزَار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 35- التَّعَوُّذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفَقْرِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ الْفَقْرِ1، وَقَالَ: "أَسْأَلُكَ غِنَايَ، وَغِنَى مَوْلَايَ"2. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ" 3. وَقَالَ: "الْفَقْرُ بِالْمُؤْمِنِ، أَحْسَنُ مِنَ الْعِذَارِ الْحَسَنِ، عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ"4. وَقَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ -بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى-. وَقَدْ غَلَطُوا فِي التَّأْوِيلِ، وَظَلَمُوا فِي الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُمْ عَارَضُوا الْفَقْرَ بِالْمَسْكَنَةِ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي فَقِيرًا، وَأَمِتْنِي فَقِيرًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْفُقَرَاءِ" كَانَ ذَلِكَ تَنَاقُضًا، كَمَا ذَكَرُوا. وَمَعْنَى الْمَسْكَنَةِ فِي قَوْلِهِ: "احْشُرْنِي مِسْكِينًا" التَّوَاضُع والإخبات.   1 أَبُو دَاوُد: أدب 101، وَأحمد 6/ 57، 207، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 1287. 2 رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن أبي صرمة مَرْفُوعا، وَإِسْنَاده ضَعِيف، انْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 1295، والسلسلة الضعيفة رقم 1912 -الشخ مُحَمَّد بدير-. 3 التِّرْمِذِيّ: زهد 37، وَابْن ماجة: زهد 7، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح عَن عبَادَة بن الصَّامِت، صَحِيح الْجَامِع برقم 1261 والصحيحة برقم 308. 4 وَجَدْنَاهُ فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 4033 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 564 عَن شَدَّاد بن أَوْس وَعَن سعيد بن مَسْعُود بِلَفْظ: "الْفقر بِالرجلِ الْمُؤمن أزين على الْمُؤمن من الْعذر الْحسن على خد الْفرس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 كَأَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى، أَنْ لَا يَجْعَلَهُ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ، وَلَا يَحْشُرَهُ فِي زُمْرَتِهِمْ. وَالْمَسْكَنَةُ، حَرْفٌ مَأْخُودٌ مِنَ "السُّكُونِ" يُقَالُ: "تَمَسْكَنَ الرِّجْلُ" إِذَا لَانَ وَتَوَاضَعَ، وَخَشَعَ، وَخَضَعَ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُصَلِّي: "تبأس وَتَمَسْكَنْ وَتُقَنِّعْ رَأْسَكَ" 1. يُرِيدُ: تَخَشَّعْ، وَتَوَاضَعْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بِي الْمِسْكِينَ2 نَزَلَ الْأَمْرُ، لَا يُرِيدُونَ مَعْنَى الْفَقْرِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ مَعْنَى الذِّلَّةِ وَالضَّعْفِ. وَكَذَلِكَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَيْلَةَ: "يَا مِسْكِينَةُ " لَمْ يُرِدْ: يَا فَقِيرَةُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ، مَعْنَى الضَّعْفِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا أَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ كَانَ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الْمَسْكَنَةَ، الَّتِي هِيَ الْفَقْرُ، لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ مَنَعَهُ مَا سَأَلَهُ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ غَنِيًّا مُوسِرًا، بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَضَعْ دِرْهَمًا عَلَى دِرْهَمٍ. وَلَا يُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ مِثْلَ بَسَاتِينِهِ بِالْمَدِينَةِ، وأمواله، وَمثل فدك: إِنَّه   1 أخرجه أَبُو دَاوُد: تطوع 17 وَأخرجه ابْن مَاجَه، إِقَامَة 172 بِلَفْظ: "صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، وَتشهد فِي كل رَكْعَتَيْنِ وتباءس وتمسكن وتقنع، وَتقول: اللَّهُمَّ اغْفِر لي فَمن يفعل ذَلِك فَهِيَ خداج". قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْعِرَاقِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ: الْمَشْهُور فِي هَذِه الرِّوَايَة أَنَّهَا أَفعَال مضارعة حذف مِنْهَا إِحْدَى التَّاءَيْنِ. قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْعِرَاقِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ: الْمَشْهُور فِي هَذِه الرِّوَايَة أَنَّهَا أَفعَال مضارعة حذف مِنْهَا أحدى التَّاءَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التباؤس: التفاقر، وَأَن يرى من نَفسه تخشع الْفُقَرَاء إخباتا وتضرعًا. والتمسكن: من الْمِسْكِين وَهُوَ مفعيل من السّكُون لِأَنَّهُ يسكن إِلَى النَّاس كثيرا. وَزِيَادَة الْمِيم فِي الْفِعْل شَاذَّة لم يروها سِيبَوَيْهٍ إِلَّا فِي هَذَا الْموضع وَفِي تمدرع وتجندل. وَكَانَ الْقيَاس تسكن وتدرع. وتقنع: من الْإِقْنَاع وَهُوَ رفع الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاء قبل الرّفْع بعد الصَّلَاة لأَخِيهَا. 2 وَفِي نُسْخَة: بالمسكين نزل الْأَمر، وَلَعَلَّ أصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 مَاتَ فَقِيرًا، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} 1. وَالْعَائِلُ: الْفَقِيرُ كَانَ لَهُ عِيَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ -وَالْمُعيِلُ: ذُو الْعِيَالِ، كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَحَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَبْعَثِهِ وَحَالُهُ عِنْدَ مَمَاتِهِ؛ يَدُلَّانِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ فَقِيرًا، وَقُبِضَ غَنِيًّا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكَنَةَ الَّتِي كَانَ يَسْأَلُهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَيْسَتْ بِالْفَقْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إِنَّ الْفَقْرُ بِالْمُؤْمِنِ أَحْسَنُ مِنَ الْعِذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ" فَإِنَّ الْفَقْرَ مُصِيبَةٌ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا عَظِيمَةٌ وَآفَةٌ مِنْ آفَاتِهَا أَلِيمَةٌ2، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَرَضِيَ بِقَسْمِهِ3 زَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْظَمَ لَهُ الثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ. وَإِنَّمَا مَثَلُ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، مَثَلُ السُّقْمِ وَالْعَافِيَةِ. فَمَنِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالسُّقْمِ فَصَبَرَ، كَانَ كَمَنِ ابْتُلِيَ بِالْفَقْرِ فَصَبَرَ. وَلَيْسَ مَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَانِعِنَا مِنْ أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَنَرْغَبَ إِلَيْهِ فِي السَّلَامَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ يُفَضِّلُونَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى، إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَقْرِ النَّفْسِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّاسِ: "فُلَانٌ فَقِيرُ النَّفْسِ" وَإِنْ كَانَ حسن الْحَال و"غَنِي النَّفْسِ" وَإِنْ كَانَ سَيِّءَ الْحَالِ، وَهَذَا غَلَطٌ. وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مِنْ صحابتهم، وَلَا الْعباد، وَلَا   1 سُورَة الضُّحَى: الْآيَة 6. 2 أليمة: مؤلمة. 3 قسمه: قسمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الْمُجْتَهدين، كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَفْقِرَنِي، وَلَا أَزْمِنِّي"1 وَلَا بِذَلِكَ اسْتَعْبَدَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بَلِ اسْتَعْبَدَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا: "اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، اللَّهُمَّ2 عَافِنِي". وَكَانُوا يَقُولُونَ: "اللَّهُمَّ لَا تَبْلُنَا إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". يُرِيدُونَ: لَا تَخْتَبِرْنَا إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَلَا تَخْتَبِرْنَا بِالشَّرِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِهِمَا، لِيَعْلَمَ كَيْفَ شكرهم وصبرهم. وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} 3 أَيِ: اخْتِبَارًا. وَكَانَ مُطَرِّفٌ يَقُولُ: لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا فِي كِتَابِ "غَرِيبِ الْحَدِيثِ" بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ وَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ إِيدَاعِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا، لِيَكُونَ جَامِعًا، لِلْفَنِّ الَّذِي قصدنا لَهُ.   1 أزمني: أَمْرَضَنِي. 2 فِي نُسْخَة: اللَّهُمَّ ارزقنا، اللَّهُمَّ عافنا. 3 سُورَة الْأَنْبِيَاء: الْآيَة 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 36- هَلْ يَجْتَمِعُ إِيمَان مَعَ ارْتِكَاب الْكَبَائِر؟: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" 2. وَفِي هَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا -بِنِعْمَةِ اللَّهِ- تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 3 أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ: "مَا أُومِنُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقُولُ" أَيْ: مَا أُصَدِّقُ بِهِ. وَالْمَوْصُوفُونَ بِالْإِيمَانِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ. 1- رَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ، كَالْمُنَافِقِينَ، فَيَقُول: قد آمن؛ كَمَا   1 البُخَارِيّ: مظالم 30 حُدُود 1، 6، 19، ابْن ماجة: فتن 3 وَأَبُو دَاوُد: كتاب السّنة 15 برقم 4689. 2 البُخَارِيّ: جنائز 1 وبدء الْخلق 6 ولباس 24، واستئذان 30 ورقاق 13، 14، تَوْحِيد 33، وَمُسلم: إِيمَان 153، 154، زَكَاة 33. وَالتِّرْمِذِيّ: إِيمَان 18، وَأحمد: 3/ 357، و4/ 360، 5/ 152، 159، 162. 3 سُورَة يُوسُف: الْآيَة 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} 1، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} 2. ثُمَّ قَالَ: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3 لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِالَّذِينِ آمنُوا -هَهُنَا- الْمُسلمُونَ، لم يقل: "من آمن بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى. وَلَا نَقُولُ لَهُ مُؤْمِنٌ؛ كَمَا أَنَّا لَا نَقُولُ لِلْمُنَافِقِينَ: مُؤْمِنُونَ، وَإِنْ قُلْنَا: قَدْ آمَنُوا، لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَقْدٍ وَلَا نِيَّةٍ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ لِعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "عَصَى وَغَوَى" وَلَا نَقُولُ: "عَاصٍ وَلَا غَاوٍ"؛ لِأَنَّ ذَنْبَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ إِرْهَاصٍ وَلَا عَقْدٍ، كَذُنُوبِ أَعْدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. 2- وَرَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، مَعَ تَدَنُّسٍ بِالذُّنُوبِ، وَتَقْصِيرٍ فِي الطَّاعَاتِ مِنْ غَيْرِ إِصْرَارٍ فَنَقُولُ: "قَدْ آمَنَ" وَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا تَنَاهَى عَنِ الْكَبَائِرِ، فَإِذَا لَابَسَهَا لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ الملابسة مؤمنصا؛ "يُرِيدُ" مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ" يُرِيدُ فِي وقته ذَلِك؛ لِأَنَّهُ قيل ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ مُصِرٍّ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ مُصِرٍّ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ تَائِبٌ. وَمِمَّا يَزِيدُ فِي وُضُوحِ هَذَا، الْحَدِيثُ الْآخَرُ: "إِذَا زَنَى الزَّانِي، سُلِبَ الْإِيمَان، فَإِن تَابَ ألبسهُ" 4.   1 سُورَة المُنَافِقُونَ: الْآيَة 3. 2 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 62. 3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة. وَردت الْآيَة خطأ بِزِيَادَة "مِنْهُم" من آمن مِنْهُم ... " فحذفناها من النَّص. 4 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة: كتاب السّنة 15، برقم 4690 بِلَفْظ: "إِذا زنى الرجل خرج مِنْهُ الْإِيمَان وَكَانَ عَلَيْهِ كالظلة، فَإِذا انقلع رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَان". وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 586، والسلسلة الصَّحِيحَة رقم 509. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وَرَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، وَأَدَّى الْفَرَائِضَ، وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا، الْمُسْتَكْمِلُ شَرَائِطَ الْإِيمَانِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ يُؤْمِنْ، مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" 1 يُرِيدُ: لَيْسَ بِمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ: "لَمْ يُؤْمِنْ، مَنْ لَمْ يَأْمَنِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" 2 أَيْ لَيْسَ بِمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ: "لَمْ يُؤْمِنْ، مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَبَاتَ جَارُهُ طَاوِيًا" 3 أَيْ: لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ" 4. يُرِيدُ: لَا كَمَالَ وُضُوءٍ، وَلَا فَضِيلَةَ وُضُوءٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ"؛ يُرِيدُ: لَا كَمَالَ إِيمَانٍ. وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: "فُلَانٌ لَا عَقْلَ لَهُ"؛ يُرِيدُونَ: لَيْسَ هُوَ مُسْتَكْمِلَ الْعَقْلِ. و"لَا دِينَ لَهُ" أَيْ: لَيْسَ بِمُسْتَكْمَلِ الدِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ" فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ:   1 سبق تَخْرِيجه ص50. 2 سبق تَخْرِيجه ص51. 3 رَوَاهُ الْبَزَّار عَن أنس مَرْفُوعا، وَهُوَ صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 5505، والصحيحة 149 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير.- وَقد وَجَدْنَاهُ فِي مُسْند الإِمَام أَحْمد: 1/ 55 بِلَفْظ: "لَا يشْبع الرجل دون جَاره". 4 الدَّارمِيّ: وضوء 25، وَأَبُو دَاوُد: طَهَارَة 48، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 20 وَابْن ماجة: طَهَارَة 41. وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 7573. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى الْعَاقِبَةِ؛ يُرِيدُ: أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ عُذِّبَ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ. وَالْآخَرُ أَنْ تَلْحَقَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَفَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ، بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ لَا اللَّهُ. حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثَمَنُ الْجَنَّةِ". وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، قَالَ: أَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُوسَى بْنِ الْمُسَيَّبِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ، يُحَدِّثُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوِيدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ1، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَقُول ربكُم: بن آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تَأْتِنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً، بَعْدَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، جَعَلْتُ لَكَ قُرَابَهَا مَغْفِرَةً، وَلَا أُبَالِي" 2. وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ الدَّارِمِيُّ، هُوَ مِنْ وَلَدِ خِرَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ شَطْرُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ، لَعَلَّكُمْ تَرَوْنَ أَنَّ شَفَاعَتِي لِلْمُتَّقِينَ لَا، وَلَكِنَّهَا لِلْمُتَلَطِّخِينَ بِالذُّنُوبِ" 3.   1 أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ: هُوَ جُنْدُب بن جُنَادَة. قَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أظلت الخضراء وَلَا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذَر" ومناقبه كَثِيرَة قَالَ ابْن الْمَدَائِنِي: مَاتَ بالربذة سنة 32هـ. 2 أَحْمد: 5/ 147، 148، 153، وَمُسلم: ذكر 22، وَالتِّرْمِذِيّ: دعوات 98، وَابْن ماجة: أدب 58. 3 التِّرْمِذِيّ: كتاب 35 بَاب 13، ومسند أَحْمد 2/ 75، 4/ 404، 415، 5/ 232، 325، 413، 6/ 23، 28، 427، وَالطَّيَالِسِي: حَدِيث 998، وَقد رَوَاهُ ابْن ماجة عَن أبي مُوسَى وَرَوَاهُ أَحْمد عَن ابْن عمر. انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 3335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 37- فَرْكُ الْمَنِيِّ وَغَسْلُهُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُصَلِّي فِيهِ"1. فَاسْتَجَازَ بِرِوَايَتِكُمْ هَذِهِ قَوْمٌ فَرْكَ الْمَنِيِّ مِنَ الثَّوْبِ، وَالصَّلَاةَ فِيهِ، وَجَعَلُوهُ سُنَّةً. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: "إِنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ أَثَرَ الْمَنِيِّ، مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا"2. فَأَبَى قَوْمٌ فَرْكَ الْمَنِيِّ، بِرِوَايَتِكُمْ هَذِهِ، وَلَمْ يَسْتَجِيزُوا إِلَّا غَسْلَهُ مِنَ الثَّوْبِ إِذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ فِيهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَالْفَرْكُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى يَابِسٍ، وَكَانَ رُبَّمَا بَقِيَ فِي شِعَارِهِ حَتَّى يَيْبَسَ وَهُوَ يَيْبَسُ، فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ لَا سِيَّمَا فِي الصَّيْفِ. وَكَانَتْ تَغْسِلُهُ إِذَا رَأَتْهُ رَطْبًا، وَالرَّطْبُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَكَ، وَلَا بَأْسَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ إِلَى أَنْ يَجِفَّ، ثُمَّ فَرَكَهُ. أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ؛ أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِفَرْكِ الْمَنِيِّ.   1 أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 134، أَحْمد 6/ 125، 132، 213، 239، 263. 2 البُخَارِيّ: وضوء 65، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 86 وَأحمد 6/ 47، 142، 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 38- جِلْدُ الْمَيْتَةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" 1. وَأَنَّهُ مَرَّ بِشَاةٍ مَيْتَةٍ فَقَالَ: "أَلَا انْتَفِعُوا بِإِهَابِهَا" 2 فَأَخَذَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِذَلِكَ، وَأَفْتَوْا بِهِ. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ"3. فَأَخَذَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِهَذَا وَأَفْتَوْا بِهِ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا -بِحَمْدِ اللَّهِ- تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ الْإِهَابَ فِي اللُّغَةِ: الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ، فَإِذَا دُبِغَ، زَالَ عَنهُ هَذَا الِاسْم.   1 صَحِيح مُسلم: حيض 105، وَأَبُو دَاوُد: لِبَاس 38، وَالتِّرْمِذِيّ: لِبَاس 7، وَالنَّسَائِيّ: فرع 4، والدارمي: أضاحي 20، والموطأ: صيد 17. 2 أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه: كتا 3 رقم الحَدِيث 100 بِلَفْظ: عَن ان عَبَّاس قَالَ: تصدق على مولاة لميمونة بِشَاة، فَمَاتَتْ، فَمر بهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: "هلا أَخَذْتُم إهابها فدبغتموه فانتفعتم بِهِ؟ " فَقَالُوا: إِنَّا ميتَة. فَقَالَ: "إِنَّمَا حرم أكلهَا" وَأخرجه البُخَارِيّ: كتاب 72 بَاب 30، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 31 بَاب 38 وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 22 بَاب 7 وَابْن ماجة: 32 بَاب 25. 3 أخرجه التِّرْمِذِيّ: لِبَاس 7، وَالْبُخَارِيّ: بُيُوع 151، ذَبَائِح 30 وَأَبُو دَاوُد: لِبَاس 38، 39، وَالنَّسَائِيّ: فرع 4، 5، 10، وَابْن ماجة: لِبَاس 25، 26، والدارمي: أضاحي: 20، وَأحمد 4/ 210، 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ أُهُبٌ عَطِنَةٌ"1 يُرِيدُ: جُلُودٌ مُنْتِنَةٌ لَمْ تُدْبَغْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي أَبِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "قَرَّرَ الرُّءُوس عَلَى كَوَاهِلِهَا، وَحَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا" يَعْنِي فِي الْأَجْسَادِ. فَكَنَّتْ عَنِ الْجَسَدِ بِالْإِهَابِ، وَلَوْ كَانَ الْإِهَابُ مَدْبُوغًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُكَنِّيَ بِهِ عَنِ الْجَسَدِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ يَذْكُرُ بَقَرَةً وَحْشِيَّةً، أَكَلَ الذِّئْبُ وَلَدَهَا، وَهِيَ غَائِبَةٌ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَتْهُ: فَلَاقَتْ بَيَانًا عِنْدَ أَوَّلِ مَعْهَدٍ ... إِهَابًا وَمَعْبُوطًا2 مِنَ الْجَوْفِ أَحْمَرَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ". ثُمَّ مَرَّ بِشَاةٍ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: "أَلَا انْتَفَعَ أَهْلُهَا بِإِهَابِهَا"؟ يُرِيدُ أَلَا دَبَغُوهُ، فَانْتَفَعُوا بِهِ؟ ثُمَّ كَتَبَ3: "لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ ". يُرِيدُ لَا تَنْتَفِعُوا بِهِ وَهُوَ إِهَابٌ، حَتَّى يُدْبَغَ. وَيَدُلَّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَلَا عَصَبٍ" لِأَنَّ الْعَصَبَ لَا يَقْبَلُ الدِّبَاغَ، فَقَرَنَهُ بِالْإِهَابِ قَبْلَ أَنْ يُدْبَغَ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُبَيَّنًا فِي الْحَدِيثِ. رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ لِمَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ، فَقَالَ: "أَلَا أَخَذُوا إهابها، فدبغوه، وانتفوا بِهِ" 4.   1 أخرجه البُخَارِيّ: تَفْسِير سُورَة 66، وَأَبُو لِبَاس 38 فِي التَّرْجَمَة. 2 معبوطًا أَي مذبوحًا من غير عِلّة. 3 والْحَدِيث مَشْهُور عِنْد أَصْحَاب السّنَن عَن عبد الله بن حَكِيم قَالَ: أنانًا كتاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قبل مَوته: "أَلا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عصب" -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 4 سبق تَخْرِيجه ص256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ 39- صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعَارِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ1، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِنَا، أَوْ لُحُفِنَا"2. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ لِي وَعَلَيْهِ3 بَعْضُهُ". وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ، لِأَنَّهُ قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَانَ لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِنَا، وَهُوَ جَمْعُ "شِعَارٍ" وَالشِّعَارُ مَا وَلِيَ الْجَسَدَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا يُسَمَّى شِعَارًا، حَتَّى يَلِيَ الْجَسَدَ. وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للْأَنْصَار: "أَنْتُم لي شعار،   1 مُحَمَّد بن سِيرِين الْبَصْرِيّ الْأنْصَارِيّ ولد عَام 33هـ إِمَام وقته فِي عُلُوم الدَّين بِالْبَصْرَةِ تَابِعِيّ من أَشْرَاف الْكتاب، نَشأ بزازًا وتفقه وروى الحَدِيث واشتهر بالورع وتعبير الرُّؤْيَا واستكتبه أنس بن مَالك بِفَارِس توفّي عَام 110هـ. 2 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب الطَّهَارَة برقم 367، وَكتاب الصَّلَاة برقم 645. 3 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب الطَّهَارَة: 369، 370، ابْن ماجة: تَمِيم برقم 653، وَالنَّسَائِيّ برقم 285، 272، 769، وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم. والمرط: ثوب يلْبسهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء يكون إزازًا أَو يكون رداة وَقد يتَّخذ من صوف وَمن خَز وَغَيره "خطابي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وَالنَّاسُ دِثَارٌ" 1؛ يُرِيدُ: أَنَّكُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيَّ، كَالشِّعَارِ الَّذِي يَلِي الْجَسَدَ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، أَيْ: أَبْعَدُ مِنْكُمْ، كَمَا أَنَّ الدِّثَارَ فَوْقَ الشِّعَارِ، وَالشِّعَارُ يُصِيبُهُ الْمَنِيُّ وَالْعَرَقُ وَالنَّدَى، إِذَا كَانَ بِالْمَرْءِ قَاطِرُ بَوْلٍ، أَوْ بَدَرَتْ مِنْهُ بَادِرَةٌ، فَكَانَ لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِ نِسَائِهِ، لِمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنَالَهَا، إِذَا هُوَ جَامَعَ، أَوْ إِذَا اسْتَثْقَلَتِ الْمَرْأَةُ، أَوْ إِذَا حَاضَتْ مِنَ الدَّمِ. وَقِيلَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ لِي، وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ؛ وَالْمِرْطُ لَا يَكُونُ شِعَارًا، كَمَا يَكُونُ الْإِزَارُ شِعَارًا، لِأَنَّهُ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ شَعْرٍ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ خَزٍّ، وَإِنَّمَا يُلْقَى فَوْقَ الْإِزَارِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ هَذَا حَدِيثٌ حَدَّثَنِيهِ عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ ذَاتَ غَدَاةٍ، وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ"2. وَالْمُرَحَّلُ: الْمُوَشَّى، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ: التَّرْحِيلُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ، وَذَكَرَ امْرَأَتَهُ: فَقُمْتُ بِهَا أَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا ... عَلَى أَثَرَيْنَا ذَيْلُ3 مِرْطٍ مُرَحَّلِ وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الْمِرْطَ لَمْ يَكُنْ شِعَارًا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ يُصَلِّي، وَعَلَيْهِ بَعْضُ الْمِرْطِ، وَعَلَيْهَا بَعْضُهُ"4. وَلَوْ كَانَ شِعَارًا، لَانْكَشَفَتْ مِنْهُ لِأَنَّ الشِّعَارَ لَطِيفٌ، لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُصَلَّى فِيهِ، وَتَكُونُ هِيَ مَسْتُورَةً بِهِ.   1 البُخَارِيّ مغازي 56، وَمُسلم: زَكَاة 139، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 11 وَأحمد 2/ 419، 3/ 242، 4/ 42، 5/ 307. 2 مُسلم: لِبَاس 36، فَضَائِل الصَّحَابَة 61، أَبُو دَاوُد: لِبَاس 5، وَالتِّرْمِذِيّ: أدب 49، وَأحمد: 6/ 162. 3 المرط: بِالْكَسْرِ، كسَاء من صوف أَو خَز. 4 أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 123، وَابْن ماجة: طَهَارَة 131، وَأحمد: 6/ 67، 146، 99، 129، 137، 199، 220، 249، 330، 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 قَالُوا: حَدِيثٌ تُكَذِّبُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ 40- هَلْ سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟: قَالُوا: "رُوِّيتُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ، وَجُعِلَ سِحْرُهُ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ1 وَأَنَّ عَلِيَّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ اسْتَخْرَجَهُ، وَكُلَّمَا حَلَّ مِنْهُ عُقْدَةً، وَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ"2. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ، وَعَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ فِيمَا يَذْكُرُونَ. فَكَيْفَ يَصِلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ حِيَاطَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَتَسْدِيدِهِ إِيَّاهُ بِمَلَائِكَتِهِ، وَصَوْنِهِ الْوَحْيَ عَنِ الشَّيْطَانِ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 3. وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَن الْبَاطِل هَهُنَا هُوَ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} 4 أَيْ: يَجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ رَصَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ، وَيَصُونُونَ الْوَحْيَ، عَنْ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ الشَّيْطَانُ مَا لَيْسَ مِنْهُ.   1 بِئْر ذِي أروان: بِئْر فِي الْمَدِينَة. 2 البُخَارِيّ: بَدْء الْخلق 11، جِزْيَة 14 49، 50، دعوات 58، أَحْمد: 6/ 50، 96. 3 سُورَة فصلت: الْآيَة 46. 4 سُورَة الْجِنّ: الْآيَة 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وَذَهَبُوا فِي السِّحْرِ إِلَى أَنَّهُ حِيلَةٌ يُصْرَفُ بِهَا وَجْهُ الْمَرْءِ عَنْ أَخِيهِ، وَيُفَرَّقُ بِهَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ كَالتَّمَائِمِ1 وَالْكَذِبِ، وَقَالُوا: هَذِهِ رُقًى2، وَمِنْهُ السُّمُّ يُسْقَاهُ الرَّجُلُ فَيَقْطَعُهُ عَنِ النِّسَاءِ، وَيُغَيِّرُ خُلُقَهُ، وَيَنْثُرُ شَعْرَهُ وَلِحْيَتَهُ. وَإِلَى أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ خَيَّلُوا لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَرَوْهُ. قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ؛ أَنَّا نَأْخُذُ الزِّئْبَقَ، فَنُفْرِغُهُ فِي وِعَاءٍ كَالْحَيَّةِ، ثُمَّ نُرْسِلُهُ فِي مَوْضِعٍ حَارٍّ، فَيَنْسَابُ انْسِيَابَ الْحَيَّةِ. قَالُوا: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 3، إِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ، وَلَيْسَ ثَمَّ شَيْءٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَالُوا: فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} 4 هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ. أَيْ: لَمْ يَنْزِلْ ذَلِكَ. وَقَالُوا: الْمَلِكَيْنِ، بِكَسْرِ اللَّامِ. وَذَكَرُوا عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، وَيَقُولُ: عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَى هَذَا، مُخَالِفٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَجَمِيعِ أَهْلِ الْكُتُبِ، وَمُخَالِفٌ لِلْأُمَمِ كُلِّهَا، الْهِنْدُ، وَهِيَ أَشَدُّهَا إِيمَانًا بِالرُّقَى، وَالرُّومُ وَالْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْإِسْلَامِ، وَمُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ مُعَانِدٌ لَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ   1 تمائم: جمع تَمِيمَة وَهِي خرزة رقطاء تنظم فِي السّير ثمَّ يعْقد فِي الْعُنُق، أَو مَا شابه ذَلِك، لدفع الْعين أَو جلب الْخَيْر وَهَذَا من عمل الْجَاهِلِيَّة. 2 رقي: جمع رقية وَهِي مَا يرقى بِهِ الْمَرِيض وَغَيره. 3 سُورَة طه: الْآيَة 66. 4 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 1 فأعلمنا أَنَّ السَّوَاحِرَ، يَنْفُثْنَ فِي عُقَدٍ يَعْقِدْنَهَا كَمَا يَتْفُلُ الرَّاقِي وَالْمُعَوِّذُ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ، تُسَمِّي السِّحْرَ الْعَضْهَ2. وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَاضِهَةَ وَالْمُسْتَعْضِهَةَ. يَعْنِي بِالْعَاضِهَةِ: السَّاحِرَةَ، وَبِالْمُسْتَعْضِهَةِ: الَّتِي تَسْأَلُهَا أَنْ تَسْحَرَ لَهَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أعوذ بربي من النافثا ... ت فِي عَقْدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ يَعْنِي: السواحر. وَقد روى بن نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهَذَا طَرِيقٌ مَرْضِيُّ صَحِيحٌ أَنَّهُ قَالَ -حِينَ سُحِرَ3-: "جَاءَنِي رَجُلَانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ 4 فَقَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمَشَّاطَةٍ، وَجُفِّ 5 طَلْعَةِ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ". وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَجْتَرُّ6 النَّاسُ بِهِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ نَفْعًا، وَلَا يَصْرِفُونَ عَنْهَا ضُرًّا، وَلَا يُكْسِبُونَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَنَاءً وَمَدْحًا، وَلَا حَمَلَةُ هَذَا الْحَدِيثِ كَذَا بَين، وَلَا مُتَّهَمِينَ، وَلَا مُعَادِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لَبِيدُ بن الأعصم -هَذَا الْيَهُودِيّ- سحر   1 سُورَة الفلق. 2 العضة: الْكَذِب والبهتان وَالسحر والنميمة، والعاضهة: الساحرة. 3 البُخَارِيّ: بَدْء الْخلق 11، جِزْيَة 14، طب49، 50، دعوات 58، أَحْمد 6/ 50، 96. 4 مطبوب: أَي مسحور. 5 الجف: وعَاء النخيل وهوس الغشاء الَّذِي كَون فَوْقه. 6 يجتر: أَي يجلب ويجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَتَلَتِ الْيَهُودُ قَبْلَهُ، زَكَرِيَّا بْنَ آذَنَ فِي جَوْفِ شَجَرَةٍ، قَطَّعَتْهُ قِطَعًا بِالْمَنَاشِيرِ. وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَوْ غَيْرُهُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا وَصَلَ الْمِنْشَارُ إِلَى أَضْلَاعِهِ أَنَّ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِمَّا أَنْ تَكُفَّ عَنْ أَنِينِكَ، وَإِمَّا أَنْ أُهْلِكَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَقَتَلَتْ بَعْدَهُ ابْنَهُ يَحْيَى بِقَوْلِ بَغِيٍّ، وَاحْتِيَالِهَا فِي ذَلِكَ، وَادَّعَتْ "يَعْنِي الْيَهُودَ" أَنَّهَا قَتَلَتِ الْمَسِيحَ وَصَلَبَتْهُ. وَلَوْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} 1 لَمْ نَعْلَمْ نَحْنُ، أَنَّ ذَلِكَ شَبَهُهُ لِأَنَّ الْيَهُودَ أَعْدَاؤُهُ، وَهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاؤُهُ وَهُمْ يُقِرُّونَ لَهُمْ بِهِ. وَقَتَلَتِ الْأَنْبِيَاءَ، وَطَبَخَتْهُمْ2، وَعَذَّبَتْهُمْ أَنْوَاعَ الْعَذَابِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ، لَعَصَمَهُمْ مِنْهُمْ. وَقَدْ سُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِرَاعِ شَاةٍ مَشْوِيَّةٍ، سَمَّتْهُ يَهُودِيَّةٌ، فَلَمْ يَزَلِ السُّمُّ يعاده حَتَّى مَاتَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَر تعادني، فَهَذَا أَوَان انْقِطَاع أَبْهَري" 3   1 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة157. 2 طبختهم: أَي هجرتهم من الطابخة: أَي الهاجرة. 3 الحَدِيث علقه البُخَارِيّ بِصِيغَة الحزم برقم 4428 فَهُوَ صَحِيح، وَصَححهُ الألباني: انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 5629، وَهُوَ عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَقد ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث برقم 18600 ورقم 21689، وَأخرجه ابْن السّني وَأَبُو نعيم فِي الطِّبّ عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: "مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فِي كل عَام حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَان قطع أَبْهَري". وَأخرج الدَّارمِيّ فِي الْمُقدمَة 11 ص32 الحَدِيث بِلَفْظ: عَن أبي سَلمَة قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل الْهَدِيَّة وَلَا يقبل الصَّدَقَة فَأَهْدَتْ لَهُ امْرَأَة من يهود خَيْبَر شَاة مصلية فَتَنَاول مِنْهَا، وَتَنَاول مِنْهَا بشر بن الْبَراء، ثمَّ رفع النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَده، ثمَّ قَالَ: إِن هَذِه تُخبرنِي أَنَّهَا مَسْمُومَة فَمَاتَ بشر بن الْبَراء فَأرْسل إِلَيْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا حملك على مَا صنعت؟ فَقَالَت: إِن كنت نبيًّا لم يَضرك شَيْء، وَإِن كنت ملكا أرحت النَّاس مِنْك، فَقَالَ فِي مَرضه: مَا زلت من الْأكلَة الَّتِي أكلت بِخَيْبَر فَهَذَا أَوَان انْقِطَاع أَبْهَري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فَجعل اللَّهُ تَعَالَى لِلْيَهُودِيَّةِ عَلَيْهِ السَّبِيلَ، حَتَّى قَتَلَتْهُ. وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ السَّبِيلَ عَلَى النَّبِيِّينَ. وَالسِّحْرُ أَيْسَرُ خَطْبًا مِنَ الْقَتْلِ وَالطَّبْخِ وَالتَّعْذِيبِ. فَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجْعَلُ لِلشَّيْطَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلًا، وَلَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فقد قرؤوا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 1. يُرِيدُ: إِذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ -يُعَزِّيهِ، عَمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، حِينَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: "تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَجَى". غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ، أَنْ يَزِيدَ فِيهِ، أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ. أَمَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} 2. أَيْ: يُبْطِلُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ. ثُمَّ قَالَ: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} 3. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 4. أَيْ: لَا يَقْدِرُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ أَوَّلًا، وَلَا آخِرًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَقَالَ: إِنْ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَكِيدُكَ، فَإِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تختم آيَة الْكُرْسِيّ"5.   1 سُورَة الْحَج: الْآيَة 52. 2 سُورَة الْحَج: الْآيَة 52. 3 سُورَة الْحَج: الْآيَة 53. 4 سُورَة فصلت: الْآيَة 42. 5 لم نجده بِهَذَا اللَّفْظ، وَقد وَجَدْنَاهُ فِي البُخَارِيّ: بُد الْخلق 11 بِلَفْظ: "إِذا أويت إِلَى فراشك فاقرأ آيَة الْكُرْسِيّ لن يزَال من الله حَافظ وَلَا يقربك شَيْطَان حَتَّى تصبح.. ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَيُّوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} 1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي السِّحْرِ الَّذِي رَآهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَمَا نُنْكِرُ هَذَا وَلَا نَدْفَعُهُ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ الْخَلَائِقَ كُلَّهَا، لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى خَلْقِ بَعُوضَةٍ، لَمَا اسْتَطَاعُوا؛ غَيْرَ أَنَّا لَا نَدْرِي، أَهُوَ بِالزِّئْبَقِ الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ فِي سُلُوخِ الْحَيَّاتِ حَتَّى جَرَتْ، أَمْ بِغَيْرِهِ؟ وَلَا يَعْلَمُ هَذَا، إِلَّا مَنْ كَانَ سَاحِرًا، أَوْ مَنْ سَمِعَ فِيهِ شَيْئًا مِنَ السَّحَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} 2، ثُمَّ قَالَ: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} 1 إِنَّ تَأْوِيلَهُ "وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ" فَلَيْسَ هَذَا بِمُنْكَرٍ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِمُ الْمُسْتَحِيلَةِ الْمَنْكُوسَةِ. فَإِذَا كَانَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ، هَارُوتَ، وَمَارُوتَ، صَارَ الْكَلَامُ فَضْلًا، لَا مَعْنًى لَهُ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ3 بِأَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّ السِّحْرَ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَيَكُونُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، أَوْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "اتَّبِعُوا ذَلِكَ" وَلِمَ يَنْزِلُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، كَمَا ذَكَرُوا. وَمِثَالُ هَذَا؛ أَنْ يَقُولَ مُبْتَدِئًا: عَلَّمْتُ هَذَا الرَّجُلَ الْقُرْآنَ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَا يَتَوَهَّمُ سَامِعُ هَذَا، أَنَّكَ أَرَدْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ قَوْلُ أَحَدٍ: أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّكَ عَلمته الْقُرْآن والتوراة.   1 سُورَة ص: الْآيَة 41. ومطلع الْآيَة: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ... } . 2 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 102. 3 أَي: مَا ذَكرُوهُ من التأويلات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وَتَأْويل هَذَا، عندنَا، مُبين بِمَعْرِفَةِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ. وَجُمْلَتُهُ -على مَا ذكر بن عَبَّاسٍ- أَنَّ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا عُوقِبَ، وَخَلَفَهُ الشَّيْطَانُ فِي مُلْكِهِ، دَفَنَتِ الشَّيَاطِينُ فِي خِزَانَتِهِ، وَمَوْضِعِ مُصَلَّاهُ، سِحْرًا وأخذًا1 ونيرنجات2. فَمَا مَاتَ سُلَيْمَانُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: أَلَا نَدُلُّكُمْ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي سُخِّرَتْ بِهِ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ وَالْجِنُّ، وَدَانَتْ لَهُ بِهِ الْإِنْسُ؟ قَالُوا: بَلَى. فَأَتَوْا مُصَلَّاهُ، وَمَوْضِعَ كُرْسِيِّهِ، فَاسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: "مَا هَذَا مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ سَاحِرًا". وَقَالَ سَفَلَةُ النَّاسِ: "سُلَيْمَانُ كَانَ أَعْلَمَ مِنَّا، فَسَنَعْمَلُ بِهَذَا، كَمَا عَمِلَ". فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} 3 أَيْ اتَّبَعَتِ الْيَهُودُ، مَا تَرْوِيهِ الشَّيَاطِينُ. وَالتِّلَاوَةُ وَالرِّوَايَةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} 4 وَهُمَا مَلَكَانِ أُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، حِينَ عَمِلَ بَنُو آدَمَ بِالْمَعَاصِي لِيَقْضِيَا بَيْنَ النَّاسِ، وَأُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمَا شَهْوَةُ النِّسَاءِ، وَأُمِرَا أَنْ لَا يَزْنِيَا، وَلَا يَقْتُلَا، وَلَا يَشْرَبَا خَمْرًا فَجَاءَتْهُمَا الزُّهَرَةُ5 تُخَاصِمُ إِلَيْهِمَا، فَأَعْجَبَتْهُمَا فَأَرَادَاهَا، فَأَبَتْ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُعَلِّمَاهَا الِاسْمَ الَّذِي يَصْعَدَانِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَعَلَّمَاهَا، ثُمَّ أَرَادَاهَا، فَأَبت حَتَّى يشربا الْخمر، فشرباها،   1 الأخذة: خرزة يُؤْخَذ بهَا، أَو رقية كالسحر. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص 421". 2 نيرنجات: جمع نيرنج، والنيرنج: أَخذ كالسحر وَلَيْسَ بِهِ. 3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 102. 4 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 102. 5 الزهرة: نجم مَعْرُوف فِي السَّمَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقضيا حَاجَتَهُمَا، ثُمَّ خَرَجَا، فَرَأَيَا رَجُلًا، فَظَنَّا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ1 عَلَيْهِمَا، فَقَتَلَاهُ. وَتَكَلَّمَتِ الزُّهَرَةُ بِذَلِكَ الِاسْمِ، فَصَعِدَتْ، فَخَنَسَتْ2 وَجَعَلَهَا اللَّهُ شِهَابًا. وَغَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَلَكَيْنِ، فَسَمَّاهُمَا: هَارُوتَ، وَمَارُوتَ. وَخَيَّرَهُمَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا. فَهُمَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ3. وَالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، فِيمَا يَرَى أَهْلُ النَّظَرِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ. الَّذِي صَعِدَتْ بِهِ الزُّهَرَةُ، وَكَانَا بِهِ -قَبْلَهَا وَقَبْلَ السُّخْطِ عَلَيْهِمَا- يَصْعَدَانِ إِلَى السَّمَاءِ. فَعَلِمَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فَهِيَ4 تُعَلِّمُهُ أَوْلِيَاءَهَا، وَتُعَلِّمُهُمُ السِّحْرَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ السَّاحِرَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ، فَيَطِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيَطْفُو عَلَى الْمَاءِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، أَنَّ عَامِلَ عُمَانَ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنَّا أَتَيْنَا بِسَاحِرَةٍ، فَأَلْقَيْنَاهَا فِي الْمَاءِ، فَطَفَتْ". فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "لَسْنَا مِنَ الْمَاءِ فِي شَيْءٍ، إِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، وَإِلَّا فَخَلِّ5 سَبِيلَهَا".   1 ظهر: أَي اطلع. 2 خنست: غَابَتْ. 3 هَذِه الرِّوَايَة -فِي قصَّة الْملكَيْنِ والزهرة- وَغَيرهَا من الرِّوَايَات سَاقهَا ابْن كثير فِي تَفْسِيره "الْقُرْآن الْعَظِيم" ص123 وأكثرها غَرِيب مُنكر، وَالله أعلم. يَقُول سيد قطب رَحمَه الله فِي ظلال الْقُرْآن ج1 ص97: "وَلَا أحب أَن نجري نَحن -فِي ظلال الْقُرْآن- خلف الأساطير الْكَثِيرَة الَّتِي وَردت حول قصَّة الْملكَيْنِ. فَلَيْسَتْ هُنَالك رِوَايَة وَاحِدَة مُحَققَة يوثق بهَا. وَلَقَد مضى فِي تَارِيخ البشرية من الْآيَات والابتلاءات مَا يُنَاسب حالتها وإدراكها فِي كل طور من أطوارها". 4 فَهِيَ: أَي الشَّيَاطِين. 5 أَي إِن قَامَت الْبَيِّنَة على تعاطيها السحر فعاقبها وَإِلَّا فاتركها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَيْرَةُ بْنُ شُكَيْرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ بِالْبَحْرَيْنِ، فَأُتِيَ بِسَاحِرَةٍ، فَأَمَرَ بِهَا، فَأُلْقِيَتْ فِي الْمَاءِ فَطَفَتْ، فَأَمَرَ بِصَلْبِهَا فَنَحَتْنَا جِذْعًا. فَجَاءَ زَوْجُهَا كَأَنَّهُ سَفُّودٌ1 مُحْتَرِقٌ فَقَالَ: "مُرْهَا فَلْتُطْلِقْ عَنِّي" فَقَالَ لَهَا: أَطْلِقِي عَنْهُ. فَقَالَتْ: نَعَمْ، ائْتُونِي بِبَابٍ وَغَزْلٍ. فَقَعَدَتْ عَلَى الْبَابِ، وَجَعَلَتْ تَرْقِي فِي الْغَزْلِ وَتَعْقِدُ، فارتفع الْبَاب، فأخذا يَمِينا وَشمَالًا، فَلم يقدر عَلَيْهَا. وَحَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِيُّ2 فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ: "إِنَّ الشَّيَاطِينَ، لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّرَ خَلْقَهَا، وَلَكِنَّهَا تَسْحَرُهُ". وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: "إِنَّ الْغُولَ سَاحِرَةُ الُجِنِّ". وَحَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، يَذْكُرُ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ، إِنَّ مَعَهُ نَارًا تَحْرِقُ، وَنَهْرَ مَاءٍ بَارِدٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلَا يَهْلِكَنَّ بِهِ وَلْيُغْمِضْ عَيْنَهُ، وَلْيَقَعْ فِي الَّتِي يَرَاهَا نَارًا، فَإِنَّهَا نَهْرُ مَاءٍ بَارِدٍ"3. وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَفْتِي، فَوَجَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تُوُفِّيَ، وَلَمْ تَجِدْ إِلَّا امْرَأَة من نِسَائِهِ يُقَال:   1 سفود: تنور. 2 كَذَا فِي البغدادية، وَلَكِن فِي الدمشقية والمصرية: "مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي" وَلَيْسَ فِي الْخُلَاصَة لَا مُحَمَّد بن سليم الطَّائِي، وَلَا مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، بل فِيهَا: مُحَمَّد بن مُسلم بن سِنِين الطابعي، وَلَا يبعد أَن يكون الصَّوَاب مَا فيهمَا، وَيكون تحرف على بعض الناسخين الطابعي بالطائفي وَالله أعلم. "الأسعردي". 3 البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 50، فتن 26، وَمُسلم: فتن 104، 106، 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أَنَّهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهَا: "يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ لِيَ امْرَأَةٌ: "هَلْ لَكِ أَنْ أَعْمَلَ لَكِ شَيْئًا يَصْرِفُ وَجْهَ زَوْجِكِ إِلَيْكِ؟ "، وَأَظُنُّهُ قَالَ: فَأَتَتْ بِكَلْبَيْنِ، فَرَكِبَتْ وَاحِدًا، وَرَكِبْتُ الْآخَرَ، فَسِرْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَتْ: "أَتَدْرِينَ أَيْنَ أَنْتِ؟ إِنَّكِ بِبَابِلَ" وَدَخَلَتْ عَلَى رَجُلٍ، أَوْ قَالَتْ "رَجُلَيْنِ" فَقَالَا لَهَا: "بُولِي عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ" قَالَتْ: "فَذَهَبْتُ فَلَمْ أَبُلْ، وَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا" فَقَالَا لِي: "مَا رَأَيْتِ؟ " قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ شَيْئًا". قَالَا: "أَنْتِ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكِ". قَالَتْ: فَرَجَعْتُ فَتَشَدَّدْتُ، ثُمَّ بُلْتُ، فَخَرَجَ مِنِّي مِثْلُ الْفَارِسِ الْمُقَنَّعِ، فَصَعِدَ فِي السَّمَاءِ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا، فَقَالَا لِي: "مَا رَأَيْتِ؟ " فَأَخْبَرْتُهُمَا. فَقَالَا: "ذَلِكَ إِيمَانُكِ قَدْ فَارَقَكِ". فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا عَلَّمَانِي شَيْئًا، وَلَا قَالَا لِي كَيْفَ أَصْنَعُ. قَالَتْ: فَمَا رَأَيْتِ؟ قَلَتُ: كَذَا، قَالَتْ: أَنْتِ أَسْحَرُ الْعَرَبِ، عَمَلي وَتَمَنَّيْ. قَالَتْ: فَقَطَعْتُ جَدَاوِلَ، وَقَالَتْ: احْقُلْ1؛ فَإِذَا هُوَ زَرَعٌ يَهْتَزُّ. فَقَالَتِ: افْرُكْ2 فَإِذَا هُوَ قَدْ يَبِسَ قَالَتْ: فَأَخَذْتُهُ، فَفَرَكْتُهُ، وَأَعْطَتْنِيهِ فَقَالَتْ: جُشِّي3 هَذَا، وَاجْعَلِيهِ سَوِيقًا، وَاسْقِيهِ زَوْجَكِ فَلَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَانْتَهَى الشَّأْنُ إِلَى هَذَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَتْ: وَرَأَتْ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ كَانَ يَسْكُنُ أَمَجَ4 فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا أَشْبَهُ النَّاسِ بهاروت وماروت.   1 أحقل: بِصِيغَة الْأَمر، والحقل: "هُوَ الزَّرْع الَّذِي تشعب ورقه وَظهر وَكثر مَا دَامَ أَخْضَر" كَمَا فِي الْقَامُوس. 2 افرك: بِصِيغَة الْأَمر، يُقَال للحب إِذا يبس. 3 جشي: أَي دقيه. 4 أمج: اسْم مَوضِع مَاء بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، "نِهَايَة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ رَوَى هَذَا، بن جريج، عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ نُؤْمِنْ بِهِ، مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ حُجَّةِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا آمَنَّا بِهِ مِنْ جِهَةِ الْكُتُبِ وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، وَتَوَاطُؤِ الْأُمَمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَيْهِ، خَلَا هَذِهِ الْعِصَابَةَ، الَّتِي لَا تُؤْمِنُ إِلَّا بِمَا أَوْجَبَهُ النَّظَرُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ، فِيمَا شَاهَدُوا، وَرَأَوْا. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّهُمَا عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، وَقِرَاءَتُهُ "الْمَلِكَيْنِ" بِالْكَسْرِ، فَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَلَا الْمُتَأَوِّلِينَ فِيمَا أَعْلَمُ، وَهُوَ أَشَدُّ اسْتِكْرَاهًا، وَأَبْعَدُ مَخْرَجًا. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى عِلْجَيْنِ شَيْءٌ، يُفَرِّقَانِ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وزوجه؟!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَدَافِعَانِ مُتَنَاقِضَانِ 41- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا أُمَّةَ بَعْدَ أُمَّتِي، فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ: "أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَزِيدُ فِي الْحَلَالِ"2. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: "قُولُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم،   1 الدَّارمِيّ: الْمُقدمَة 39 وَقد ورد بِلَفْظ. "عَن عبد الله بن عمر أَن عمر بن عبد الْعَزِيز خطب فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِن الله لم يبْعَث بعد نَبِيكُم نبيًّا، وَلم ينزل بعد هَذَا الْكتاب الَّذِي أنزلهُ عَلَيْهِ كتابا فَمَا أحل الله على لِسَان نبيه فَهُوَ حَلَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمَا حرم على لِسَان نبيه فَهُوَ حرَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَلا وَإِنِّي لست بقاض وَلَكِنِّي منفذ وَلست بِمُبْتَدعٍ وَلَكِنِّي مُتبع، وَلست بِخَير مِنْكُم غير أَنِّي أثقلكم حملا أَلا وَإنَّهُ لَيْسَ لأحد من خلق الله أَن يطاع فِي مَعْصِيّة الله أَلا هَل أسمعت". وَورد فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة للشوكاني ص320 الحَدِيث بِلَفْظ: "أَنا خَاتم النَّبِيين، لَا نَبِي بعدِي إِلَّا أَن يَشَاء الله" رَوَاهُ الجوزقاني عَن أنس مَرْفُوعا، قَالَ: وَالِاسْتِثْنَاء مَوْضُوع وَضعه أحد الزَّنَادِقَة. 2 لَا يُوجد هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ فِي دواوين السّنة المتيسرة لدينا، وَمِنْهَا الكت التِّسْعَة، والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِ لَفْظَة "وَيزِيد فِي الْحَلَال"، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاك -للشَّيْخ مُحَمَّد بدير- حفظه الله. وَقد أخرجه البُخَارِيّ: بُيُوع 102، مظالم 31، أَنْبيَاء 49، وَمُسلم: إِيمَان 242، 243، وَأَبُو دَاوُد: ملاحم 14، وَالتِّرْمِذِيّ: فتن 54، وَابْن ماجة فتنم 33، وَأحمد 2/ 240، 272، 290، 394، 406، 411. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا تَقُولُوا لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ"1 وَهَذَا تَنَاقُضٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ الْمَسِيحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ مُتَقَدِّمٌ، رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يُنْزِلُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، عِلْمًا لِلسَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} 2 وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} . وَإِذَا نَزَلَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَنْسَخْ شَيْئًا مِمَّا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمِ الْإِمَامَ مِنْ أُمَّتِهِ، بَلْ يُقَدِّمُهُ، وَيُصَلِّي خَلْفَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَيَزِيدُ فِي الْحَلَالِ" فَإِنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: "مَا يَزِيدُ فِي الْحَلَالِ3 إِلَّا النِّسَاءُ" فَقَالَ: "وَذَاكَ"4؛ ثُمَّ ضَحِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ "يَزِيدُ الْحَلَّالَ" أَنَّهُ يُحِلُّ لِلرَّجُلِ، أَنْ يَتَزَوَّجَ خَمْسًا، وَلَا سِتًّا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْكِحِ النِّسَاءَ، حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، فَإِذَا أَهْبَطَهُ، تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَزَادَ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، أَيِ ازْدَادَ مِنْهُ. فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ بَشَرٌ. وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "قُولُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا تَقُولُوا لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ"؛ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِهَا، نَاقِضًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نَبِيَّ بَعْدِي" لِأَنَّهُ أَرَادَ: لَا نَبِيَّ بَعْدِي، يَنْسَخُ مَا جِئْتُ بِهِ، كَمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَبْعَثُ بِالنُّسَخِ، وَأَرَادَتْ هِيَ: "لَا تَقُولُوا إِنَّ الْمَسِيح لَا ينزل بعده".   1 لَا يُوجد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أصل الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ، بل يُوجد عَن أبي هُرَيْرَة وَغَيره قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نَبِي بعدِي" -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 2 الْآيَة 61 من الزخرف. 3 وَفِي نُسْخَة: مَا يزِيد فِي الْحَلَال؟ قَالَ: مَا يَزِيدُ فِي الْحَلَالِ إِلَّا النِّسَاء. 4 وَفِي نُسْخَة، فَقَالَ: وَمَا ذَاك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَدَافِعَانِ مُتَنَاقِضَانِ 42- مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى الْمَدِينِ، إِذَا لَمَّ يَتْرُكْ وَفَاءً لدينِهِ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ" 2. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ "مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ" 3. يَعْنِي: عِيَالًا فُقَرَاءَ، وَأَطْفَالًا لَا كَافِلَ لَهُمْ. فَكَيْفَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، عَلَى مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْهُ، وَالْقِيَامَ بِأَمْرِ وَلَدِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَهُ؟ وَهَذَا تَنَاقُضٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا -بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى- تَنَاقُضٌ، لِأَنَّ تَرْكَهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَدِينِ، إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِدَيْنِهِ، كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، قَبْلَ أَنْ يُفْتَحَ عَلَيْهِ الْفُتُوحُ، وَيَأْتِيَهِ الْمَالُ. وَأَرَادَ أَنْ لَا يَسْتَخِفَّ النَّاسُ بِالدّينِ، وَلَا يَأْخُذُوا مَالا يَقْدِرُونَ عَلَى قَضَائِهِ. فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَفَتَحَ لَهُ الْفُتُوحَ، وَأَتَتْهُ الْأَمْوَالُ، جَعَلَ لِلْفُقَرَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ نَصِيبًا فِي الْفَيْءِ، وَقضى مِنْهُ دين الْمُسلم.   1 البُخَارِيّ: كتاب 38 بَاب 3، وَكتاب 39 بَاب 3 و5 وَكتاب 19 بَاب 15. وَأَبُو دَاوُد: كتاب 22 بَاب 9، وَسنَن ابْن ماجة: كتاب 15 بَاب 9، وَسنَن الدَّارمِيّ: كتاب 18 بَاب 53، وَأحمد: 2/ 290، 380، 399، 453، 3/ 330، 4/ 47، 50، 5/ 297. 2 البُخَارِيّ: فَرَائض 4، وَمُسلم: جُمُعَة 43، فَرَائض 14-17، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع9، وَالتِّرْمِذِيّ: فَرَائض 1، جنائز69، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 67، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 7 صدقَات 13 فَرَائض 9. 3 البُخَارِيّ: نفقات 15، وَمُسلم: فَرَائض 15-17، أَبُو دَاوُد: بُيُوع9، وَالتِّرْمِذِيّ: فَرَائض 1، وَابْن ماجة: فَرَائض 9، 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قَالُوا: حديثان مُتَنَاقِضَانِ 43- تَكْرَارُ الِاعْتِرَافِ بِالزِّنَا: قَالُوا: رَوَيْتُمْ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا، حَتَّى أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ ثُمَّ رَجَمَهُ فِي الرَّابِعَةِ" 1. فَأَخَذَ بِهَذَا قَوْمٌ مِنْ فُقَهَائِكُمْ، وَقَالُوا: لَا نَرْجُمُ حَتَّى يَكُونَ إِقْرَارُهُ فِي عَدَدِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يَقُولُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّ رَجُلَيْنِ تَقَدَّمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا2 عَلَى هَذَا وَأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ. ثُمَّ إِنَّا سَأَلْنَا رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمُ ". فَقَضَى بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ وَقَالَ: "اغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فارجمها" 3.   1 البُخَارِيّ: أَحْكَام 21، وَأَبُو دَاوُد: حُدُود 23، وَأحمد: 1/ 238، 5/ 179. 2 العسيف: الْأَجِير. 3 سبق تَخْرِيجه ص106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فَاعْترفت، فَرَجَمَهَا. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّهُ قَالَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ، وَلَا فِي مَجَالِسَ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ مَاعِزٍ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا -بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى- اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ، لِأَنَّ إِعْرَاضَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ مَاعِزٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، إِنَّمَا كَانَ كَرَاهِيَةً مِنْهُ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، وَهَتْكِهِ سِتْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، لَا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَأَرَادَ أَيْضًا أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمْرَهُ، وَيَعْلَمَ: أَصَحِيحٌ هُوَ؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ فَوَافَقَ مَا أَرَادَ مِنَ اسْتِبْرَائِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَلَوْ وَافَقَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا أَوْ سِتًّا، مَا كَانَ فِيهِ بَيِّنَةٌ تَلْزَمُ. وَيَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ لِإِقْرَارِ الزَّانِي عِنْدَهُ بِالزِّنَا، رِوَايَةُ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي رَجُلٍ اعْتَرَفَ بِالزِّنَا، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 1. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِرَافَ، قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعِ وَأَقَلَّ -إِذَا زَالَتِ الشُّبْهَةُ فِي أَمْرِ الْمُقِرِّ- حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زِنًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَّهَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا، فَإِذا وضعت حملهَا،   1 الْمُوَطَّأ: حُدُود 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أَتَاهُ بِهَا، فَأَتَاهُ بِهَا وَقَدْ وَضَعَتْ، فَأَمَرَهَا أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا، فَإِذَا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ، فَفَعَلَتْ، فَأَتَاهُ بِهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَشُقَّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ رُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا1. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا اعْتَرَفَتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَهَذَا شَاهِدٌ لِلْحَدِيثِ، الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "اغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا، أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، لَمَّا رُجِمَ جَزِعَ، فَفَرَّ فَرَجَمُوهُ، وَأَعْلَمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَعَهُ، فَقَالَ: "هَلَّا رَدَدْتُمُوهُ، حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ". وَلَوْ كَانَ إِقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ الْحَدَّ، لَمَا كَانَ لِقَوْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَّا رَدَدْتُمُوهُ" مَعْنًى، لِأَنَّهُ قَدْ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَجُوزُ -بَعْدَ إِقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ- أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ رُجُوعَهُ. إِنْ رَجَعَ وَإِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، مَتَى شَاءَ، وَأَنْ يَقْبَلَ ذَلِك مِنْهُ.   1 البُخَارِيّ: حُدُود 27، وَمُسلم؛ تَوْبَة 44، 45 حُدُود 24، وَأَبُو دَاوُد: حُدُود 10، والدارمي: حُدُود 17، وَأحمد 3/ 491ـ 4/ 435، 437، 440، 5/ 251، 252، 262، 263، 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قَالُوا: أَحْكَامٌ قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهَا، يُبْطِلُهَا الْقُرْآنُ، وَيَحْتَجُّ بِهَا الْخَوَارِجُ: 1- حُكْمٌ فِي الرَّجْمِ، يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجَمَ وَرَجَمَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 1. وَالرَّجْمُ إِتْلَافٌ لِلنَّفْسِ لَا يَتَبَعَّضُ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى الْإِمَاءِ نِصْفُهُ؟ وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ: ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ قَالُوا: وَفِي هَذَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَةَ حَدُّهَا الْجَلْدُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمُحْصَنَاتِ لَوْ كُنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ، لَكَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ صَحِيحًا، وَلَزِمَتْ بِهِ هَذِهِ الْحجَّة -وَلَيْسَ الْمُحْصنَات- هَهُنَا إِلَّا الْحَرَائِرُ. وَسُمِّينَ مُحْصَنَاتٍ، وَإِنْ كُنَّ أَبْكَارًا، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ يَكُونُ لَهُنَّ وَبِهِنَّ، وَلَا يَكُونُ بِالْإِمَاءِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: "فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْعَذَابِ" يَعْنِي: الْأَبْكَارَ. وَقَدْ تُسَمِّي الْعَرَبُ الْبَقَرَةَ "الْمُثِيرَةَ" وَهِيَ لَمْ تُثِرْ مِنَ الأَرْض شَيْئا.   1 الْآيَة 25 سُورَة النِّسَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 لِأَنَّ إِثَارَةَ الْأَرْضِ تَكُونُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَنْعَامِ. وَتُسَمِّي الْإِبِلَ فِي مَرَاعِيهَا "هَدْيًا" لِأَنَّ الْهَدْيَ إِلَى الْكَعْبَةِ يَكُونُ مِنْهَا فَتُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنْ لَمْ تُهْدَ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلْنَاهُ فِي الْمُحْصَنَاتِ، وَأَنَّهُنَّ -فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- الْحَرَائِرُ الْأَبْكَارُ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1 وَالْمُحصنَات -هَهُنَا- الْحَرَائِرُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُنَّ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ لِأَنَّ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ لَا ينكحن.   1 الْآيَة 25 سُورَة النِّسَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 2- حُكْمٌ فِي الْوَصِيَّةِ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" 1. وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 2. وَالْوَالِدَانِ وَارِثَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا يَحْجُبُهُمَا أَحَدٌ عَنِ الْمِيرَاثِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ، خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ. فَإِنْ قَالَ: وَمَا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ مِنْ نَسْخِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْأَبَوَانِ حَظَّهُمَا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَيُعْطَيَا أَيْضًا الْوَصِيَّةَ الَّتِي يُوصَى بِهَا لَهُمَا. قُلْنَا لَهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَظَّهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْمِيرَاثِ، الْمِقْدَارَ الَّذِي نَالَهُمَا بِالْوِرَاثَةِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3.   1 الدَّارمِيّ: وَصَايَا 28. 2 الْآيَة 180 سُورَة الْبَقَرَة. 3 الْآيَة 13-14 سُورَة النِّسَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فَوَعَدَ عَلَى طَاعَتِهِ -فِيمَا حَدَّ مِنَ الْمَوَارِيثِ- أَعْظَمَ الثَّوَابِ، وَأَوْعَدَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ -فِيمَا حَدَّ مِنَ الْمَوَارِيثِ- بِأَشَدِّ الْعِقَابِ. فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَن يُوصل إِلَى وَارِثٍ مِنَ الْمَالِ، أَكْثَرَ مِمَّا حَدَّ اللَّهُ تَعَالَى وَفَرَضَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ". وَسَنُبَيِّنُ نَسْخَ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ كَيْفَ يَكُونُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 3- حُكْمٌ فِي النِّكَاحِ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا"1 وَأَنَّهُ قَالَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ، مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" 2. وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} 3 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا -وَلَمْ يُحَرِّمْ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا الْأُمَّ الْمُرْضِعَةَ، وَالْأُخْتَ بِالرَّضَاعِ. ثُمَّ قَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 3 فَدخلت الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَكُلِّ رَضَاعٍ، سِوَى الْأُمِّ وَالْأُخْتِ فِيمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْفَرَائِضِ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ طَاعَتُهُمْ أَوْ مَعْصِيَتُهُمْ، وَلِيُجَازِيَ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ مِنْهُمْ، مَنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا أَحَلَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ عِلَّةٌ تُوجِبُ التَّحْلِيلَ أَوِ التَّحْرِيمَ. وَإِنَّمَا يَقْبُحُ كُلُّ قَبِيحٍ، بِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَيَحْسُنُ الْحَسَنُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، خَلَا أَشْيَاءَ جَعَلَ اللَّهُ فِي الْفِطَرِ اسْتِقْبَاحَهَا، كَالْكَذِبِ، وَالسِّعَايَةِ، وَالْغِيبَةِ، وَالْبُخْلِ، وَالظُّلْمِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِك.   1 أخرجه البُخَارِيّ: نِكَاح 27، وَمُسلم: نِكَاح 37، 39، وَأَبُو دَاوُد: نِكَاح 12، وَالتِّرْمِذِيّ: نِكَاح 30، وَالنِّسَاء: نِكَاح 47، 48، وَابْن ماجة: نِكَاح 31، والدارمي: نِكَاح 8، وَأحمد: 1/ 78، 372. 2 أخرجه أَحْمد: 4/ 4. 3 الْآيَة 23 من سُورَة النِّسَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فَإِذَا جَازَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولًا بِشَرِيعَةٍ، فَتُسْتَعْمَلُ حِقَبًا مِنَ الدَّهْرِ، وَيَكُونُ الْمُسْتَعْمِلُونَ لَهَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَبْعَثُ رَسُولًا ثَانِيًا بِشَرِيعَةٍ ثَانِيَةٍ، تَنْسَخُ تِلْكَ الْأُولَى وَيَكُونُ الْمُسْتَعْمِلُونَ لَهَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، كَبَعْثِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسَّبْتِ، وَنُسِخَ السَّبْتُ بِالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْثِهِ إِيَّاهُ بِالْخِتَانِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَنُسِخَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَازَ أَيْضًا أَنْ يَفْرِضَ شَيْئًا عَلَى عِبَادِهِ فِي وَقْتٍ، ثُمَّ يَنْسَخُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَالرَّسُولُ وَاحِدٌ. وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 1 يُرِيدُ، بِخَيْرٍ مِنْهَا أَسْهَلَ مِنْهَا. وَإِذَا جَازَ أَنْ يُنْسَخَ الْكِتَابُ بِالْكِتَابِ، جَازَ أَنْ يُنْسَخَ الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ يَأْتِيهِ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ قُرْآنٌ، بِنَاسِخٍ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي لَيْسَ بِقُرْآنٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" 2. يُرِيدُ أَنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَابَ وَمِثْلَ الْكِتَابِ مِنَ السُّنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّا نَقْبَلُ مِنْهُ مَا بَلَغَنَا عَنْهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْسَخُ بَعْضَ الْقُرْآنِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ. فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ، قَدَحَ فِي بَعْضِ الْقُلُوبِ، وَأَثَّرَ فِي بَعْضِ الْبَصَائِرِ فَقَالَ لَنَا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أَيْ: مَا آتَاكُمْ بِهِ الرَّسُولُ، مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ مِمَّا ينْسَخ الْقُرْآن، فاقبلوه.   1 الْآيَة 106 من سُورَة الْبَقَرَة. 2 أخرجه أَحْمد: 2/ 129، 4/ 131. 3 الْآيَة 7 من سُورَة الْحَشْر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالسُّنَنُ -عِنْدَنَا- ثَلَاثٌ: "الْأُولَى" سُنَّةٌ أَتَاهُ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتهَا وخالتها" 1، و "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ، مَا يَحْرُمُ من النّسَب" 2. و"لَا تحرم المصة وَلَا المصتان" 3، و"الدِّيَة عَلَى الْعَاقِلَةِ" 4 وَأَشْبَاهُ هَذِهِ مِنَ الْأُصُول. و"السّنة الثَّانِيَةُ" سُنَّةٌ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَسُنَّهَا، وَأَمَرَهُ بِاسْتِعْمَالِ رَأْيِهِ فِيهَا فَلَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ فِيهَا لِمَنْ شَاءَ، عَلَى حَسَبِ الْعِلَّةِ وَالْعُذْرِ، كَتَحْرِيمِهِ الْحَرِيرَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِذْنِهِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِيهِ، لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِهِ. وَكَقَوْلِهِ فِي مَكَّةَ: "لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا"5. فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ6 فَإِنَّهُ لِقُيُونِنَا7 فَقَالَ: "إِلَّا الْإِذْخِرَ". وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ جَمِيعَ شَجَرِهَا، لَمْ يَكُنْ يُتَابَعُ الْعَبَّاسُ عَلَى مَا أَرَادَ، مِنْ إِطْلَاقِ الْإِذْخِرِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ أَنْ يُطْلِقَ مِنْ ذَلِكَ مَا رَآهُ صَلَاحًا، فَأَطْلَقَ الْإِذْخِرَ لِمَنَافِعِهِمْ.   1 سبق تَخْرِيجه ص281. 2 سبق تَخْرِيجه ص281. 3 أخرجه مُسلم: وَضاع 17، 20، 23، وَأَبُو دَاوُد: نِكَاح 10، وَالتِّرْمِذِيّ: رضَاع 3، وَالنَّسَائِيّ: نِكَاح 51، وَابْن ماجة: نِكَاح 31، والدرامي: نِكَاح 8، وَأحمد: 1/ 78، 372. 4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: كتاب 14 بَاب 1، وَابْن ماجة: كتاب 21 بَاب 7. 5 أخرجه البُخَارِيّ: جنائز 77، 76، علم 39، صيد 9-10 بُيُوع 28، لقطَة، جِزْيَة 22 مغازي 53، ديات 8، وَمُسلم: حج 445، والدرامي: بُيُوع 60، وَأحمد 1/ 119، 253، 259، 216-318-348. وَالنَّسَائِيّ: حج 110. 6 الْإِذْخر: نَبَات طيب الرَّائِحَة تسقف بِهِ الْبيُوت فَوق الْخشب. 7 القيون: جمع فين وَهُوَ الْحداد والصائغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَنَادَى مُنَادِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ"1 ثُمَّ أَتَاهُ الْعَبَّاسُ شَفِيعًا، فِي أَخِي مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ، لِيَجْعَلَهُ مُهَاجِرًا بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ: "أُشَفِّعُ عَمِّي وَلَا هِجْرَةَ"2. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ نَزَلَ لَمْ تَجُزْ فِيهِ الشَّفَاعَاتُ وَقَالَ: "عَادِيُّ الْأَرْضِ، لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي، فَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ"3. وَقَالَ فِي الْعُمْرَةِ: "وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لأهللت بِعُمْرَة" 4.   1 أخرجه: البُخَارِيّ صيد 10 جِهَاد 1-27-194، مَنَاقِب الْأَنْصَار 45، مغازي 53، وَمُسلم: إِمَارَة 86، وَالتِّرْمِذِيّ: سير 33، وَالنَّسَائِيّ: بيعَة 15، وَابْن ماجة: كَفَّارَات 12، والدرامي: 69، وَأحمد 1/ 226. 2 الرِّوَايَة الَّتِي سَاقهَا الْمُؤلف "أشفع عمي وَلَا هِجْرَة" لم يبين من رَوَاهَا حَتَّى يَبْنِي عَلَيْهَا كَلَامه، وَلم أَجدهَا بعد الْبَحْث. وَهِي متعارضة مَعَ مَا هُوَ أصح مِنْهَا بِكَثِير وَهُوَ مَجْمُوعَة أَحَادِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن إبِْطَال الْهِجْرَة بعد الْفَتْح عُمُوما. وَحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أخي مجاشع بن مَسْعُود الْمَذْكُور رَضِي الله عَنهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لم يبايعه على الْهِجْرَة فَقَالُوا لَهُ: على مَا بايعته يَا رَسُول الله قَالَ: "على الْإِسْلَام وَالْجهَاد وَالْخَيْر ". والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعًا وَهُوَ فِي اللُّؤْلُؤ المراجلان "برقم 1218 وَهُنَاكَ تعرف مَكَانَهُ فِي كل من الصَّحِيحَيْنِ" وَعَلِيهِ فَلَا نَتْرُك مَا نَعْرِف صِحَّته لما لَا نَدْرِي مَا هُوَ وَهَذَا كَفِعْلِهِ فِي ذكر حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا ص220 فِي التَّعْلِيق رقم 58 فِي الملاحظات فَإِنَّهُ أَتَى بِرِوَايَة لم نجدها وَلم يبين هُوَ مَا مصدرها وَهِي مناقضة لظَاهِر الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث الثَّابِتَة الصَّحِيحَة. فَيجب التَّنْبِيه إِلَى أَنه لَا نَخُوض مشكلة لَا وجود لَهَا وَلَا نتشاغل بِرِوَايَة قبل معرفَة مصدرها. لِأَنَّهَا لَو لم تثبت لكَانَتْ مُجَرّد فرض أَو إحْيَاء لشُبْهَة لَيْسَ لَهَا وجود صَحِيح. فَلَو كَانَ لَهَا وجود واه كَانَ يَكْفِي فِي ردهَا أَن يُقَال إِنَّهَا لم تثبت حَتَّى نهتم بمعارضتها. -للشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.د 3 ورد فِي الْأَحَادِيث الضعيفة للألباني برقم 553، والإرواء برقم 1547 وَهُوَ عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا. وَقد ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 3671 عَن طَاوُوس بِزِيَادَة: "ثمَّ لكم من بعدِي فَمن أَحْيَا شَيْئا من موَات الأَرْض لَهُ رقبَتهَا". وعادي الأَرْض: أَي قديم الأَرْض، نِسْبَة لقوم هود عَلَيْهِ السَّلَام "عَاد" على عَادَتهم نِسْبَة كل قديم إِلَى عَاد. 4 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "لَو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لم أسق الْهَدْي ولجعلتها عمْرَة، فَمن كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَه هدي فليحل وليجعلها عمْرَة" جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 17601 وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَقَالَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَجَعَلْتُ وَقْتَ هَذِهِ الصَّلَاةِ، هَذَا الْحِينَ" 1. "وَنَهَى عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَعَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَعَنِ النَّبِيذِ فِي الظُّرُوفِ"2. ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنَّ النَّاسَ يُتْحِفُونَ ضَيْفَهُمْ، وَيَحْتَبِسُونَ لِغَائِبِهِمْ فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُم" 3. وَقَالَ: "وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا فَإِنَّهُ بَدَا لِي أَنَّهُ يُرِقُّ الْقُلُوبَ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ فِي الظُّرُوفِ فَاشْرَبُوا ولَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا" 4. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمِمَّا يَزِيدُ فِي وُضُوحِ هَذَا، حَدِيثٌ حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَرَأَى رَجُلًا مَعَهُ نَبِيذٌ فِي نَقِيرٍ، فَقَالَ: أَهْرِقْهُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَو تَأذن لِي أَنْ أَشْرَبَهُ ثُمَّ لَا أَعُودُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْرَبْهُ وَلَا تَعُدْ" 5.   1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمرتهم أَن يصلوها هَكَذَا -يَعْنِي الْعشَاء نصف اللَّيْل".. جَامع الْأَحَادِيث برقم 17714 عَن ابْن عَبَّاس وَأخرجه أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وقريبًا من مَعْنَاهُ برقم 17713 فِي رِوَايَة عَن أبي هُرَيْرَة. 2 أخرجه الدَّارمِيّ: أضاحي 10، وَالنَّسَائِيّ: أضاحي 37، وَأحمد 6/ 51. 3 أخرجه ابْن ماجة: أضاحي 16. 4 هجرًا: فحشًا. والْحَدِيث أخرجه مُسلم جنائز 106، أضاحي 37، وَأَبُو دَاوُد: جنائز 77، أشربة 7، وَالتِّرْمِذِيّ: جنائز 7، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 10، ضحايا 39، أشربة 40، وَابْن ماجة: جنائز 47، وَأحمد 1/ 145، 452، 3/ 38-63-237-350، 5/ 350-355-357-359-361. 5 لم نجد هَذَا الحَدِيث فِيمَا لدينا من مراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَطْلَقَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَحْظُرَ وَأَنْ يُطْلِقَ بَعْدَ أَنْ حَظَرَ، لِمَنْ شَاءَ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، لَتَوَقَّفَ عَنْهَا، كَمَا تَوَقَّفَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ، وَقَالَ لِلسَّائِلِ "هَذَا مَا أُوتِيتُ، وَلَسْتُ أَزِيدُكَ حَتَّى أُزَادَ"1. وَكَمَا تَوَقَّفَ حِينَ أَتَتْهُ الْمُجَادِلَةُ2 فِي زَوْجِهَا، تَسْأَلُهُ عَنِ الظِّهَارِ، فَلَمْ يُرْجِعْ إِلَيْهَا قَوْلًا، وَقَالَ: "يَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ". وَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَبِهِ أَثَرُ طِيبٍ فَاسْتَفْتَاهُ، فَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ قَوْلًا، حَتَّى تَغَشَّى ثَوْبَهُ وَغَطَّ غَطِيطَ الْفَحْلِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَفْتَاهُ، "وَالسُّنَّةُ الثَّالِثَةُ" مَا سَنَّهُ لَنَا تَأْدِيبًا، فَإِنْ نَحْنُ فَعَلْنَاهُ، كَانَتِ الْفَضِيلَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ نَحْنُ تَرَكْنَاهُ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَأَمْرِهِ فِي الْعِمَّةِ بِالتَّلَحِّي، وَكَنَهْيِهِ عَنْ لُحُومِ الْجَلَالَةِ، وَكَسْبِ الْحَجَّامِ3. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي تَحْرِيمِهِ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، مَعَ قَوْلِ اللَّهِ عز: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 4.   1 أخرجه مَالك فِي الْمُوَطَّأ: فَرَائض 7، والدارمي: فَرَائض 26، وَأحمد: 1/ 26، 38، 4/ 293. وَقد وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ. عَن مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَن عمر بن الْخطاب سَأَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الْكَلَالَة؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "يَكْفِيك من ذَلِك الْآيَة الَّتِي أنزلت فِي الصَّيف آخر سُورَة النِّسَاء ". 2 هِيَ خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة: اشتكت زَوجهَا أَوْس بن الصَّامِت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم واستفتته فِي ظِهَاره لَهَا، وجادلته فِي ذَلِك فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهَا قَوْله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} سُورَة المجادلة. 3 الْحجام: المصاص، وحرفته الْحجامَة كالكتابة، وَكَانَ النَّاس قَدِيما يتداوون بهَا لإِخْرَاج الدِّمَاء الْفَاسِدَة من ظُهُورهمْ. 4 الْآيَة 145 من سُورَة الْأَنْعَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي التَّحْرِيمِ. ثُمَّ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ، وَنَزَلَ فِيهَا تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقَةِ، وَالْمَوْقُوذَةِ، وَالْمُتَرَدِّيَةِ، وَالنَّطِيحَةِ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ. فَزَادَنَا اللَّهُ تَعَالَى، فِيمَا حَرُمَ بِالْكِتَابِ، وَزَادَنَا فِي ذَلِكَ -عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْرِيمَ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمْنِ، مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1. أَعْلَمَنَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْنَا فِي قَصْرِنَا مَعَ الْخَوْفِ. وَأَعْلَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْقَصْرِ فِي الْأَمْنِ أَيْضًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} 2. وَقَدْ رَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ. أَرَادَ: أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ، مُنْبِئَةٌ عَمَّا أَرَادَ الله تَعَالَى فِيهِ.   1 الْآيَة 101 من سُورَة النِّسَاء. 2 الْآيَة 6 من سُورَة الْمَائِدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 4- حُكْمٌ فِي الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُخْتَلِفٌ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلِيمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ" 2. قَالُوا: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ فَرْضٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَجِبُ غُسْلُ الْعِيدَيْنِ، عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالِاخْتِيَارِ، لِيَشْهَدُوا الْمَجْمَعَ بِأَبْدَانٍ نَقِيَّةٍ مِنَ الدَّرَنِ3 سَلِيمَةً مِنَ التَّفْلِ4. وَقَدْ أَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِالتَّطَيُّبِ، وَتَنْظِيفِ الثَّوْبِ، وَأَنْ يَلْبَسْ ثَوْبَيْنِ لَجُمْعَتِهِ سوى ثوبي مهنته.   1 حَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ. اُنْظُرْهُ فِي اللُّؤْلُؤ والمرجان برقم 487. 2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: جُمُعَة 5، وَأَبُو دَاوُد: طَهَارَة 128، وَالنَّسَائِيّ: جُمُعَة 9، وَابْن ماجة: إِقَامَة 81، والدرامي: صَلَاة 190 وَأحمد 5/ 8-11-15-16-22-40. 3 الدَّرن: الْوَسخ. 4 التفل: تغير الرَّائِحَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وَهَذَا كُلُّهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ، وَإِيجَابٌ عَلَى الْفَضِيلَةِ، لَا عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِ. ثُمَّ عَلِمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ الْعَلِيلُ وَالْمَشْغُولُ، وَيَكُونُ فِي الْبَلَدِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الْغُسْلُ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ، فَقَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ" أَيْ فَجَائِزٌ. ثُمَّ بَيَّنَ -بَعْدَ ذَلِكَ- أَنَّ الْغُسْلَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ. كَمَا نَهَى عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ: "بَدَا لِي أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُتْحِفُونَ ضَيْفَهُمْ، وَيُخَبِّئُونَ لِغَائِبِهِمْ، فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ"1. وَنَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ قَالَ: "بدالي أَنَّ ذَلِكَ يُرِقُّ الْقُلُوبَ، فَزُورُوهَا وَلَا تَقولُوا هجرًا"2.   1 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 9، 3/ 85،-368، 386، 5/ 277-281، 6/ 150. 2 كنز الْعمَّال برقم 42590، وَقد عزاهُ إِلَى مُسْند أَحْمد عَن أنس بل مَالك، وَلم أَجِدهُ فِي صَحِيح الْجَامِع وَلَا فِي ضعيفه. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 5- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْعِيَانُ احْتِرَاقُ وَرَقِ الْمُصْحَفِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ بن لُهَيْعَةَ1 عَنْ مِشْرَحِ بْنِ عَاهَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ2 قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، مَا احْتَرَقَ" 3. قَالُوا: وَهَذَا خَبَرٌ لَا نَشُكُّ فِي بُطْلَانِهِ، لِأَنَّا قَدْ نَرَى الْمَصَاحِفَ تَحْتَرِقُ، وَيَنَالُهَا مَا يَنَالُ غَيْرَهَا مِنَ الْعُرُوضِ وَالْكُتُبِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِهَذَا تَأْوِيلًا، ذَهَبَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، وَأَنَا مُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو4 قَالَ: سَأَلَتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: يَعْنِي لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِنْسَانٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّار، مَا احْتَرَقَ.   1 ابْن لَهِيعَة: هُوَ عبد الله بن لَهِيعَة بن عقبَة الْحَضْرَمِيّ الغافقي الْمصْرِيّ، قَاضِي مصر وعالمها، قَالَ أَحْمد: احترقت كتبه فَمن كتب عَنهُ قَدِيما فسماعه صَحِيح. مَاتَ سنة 174هـ. 2 عقبَة بن عَامر بن عبس بن عَمْرو الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، روى كثيرا من الْأَحَادِيث، كَانَ قَارِئًا عَالما بالفرائط وَالْفِقْه، فصيح اللِّسَان شَاعِرًا كَاتبا وَهُوَ أحد من جمع الْقُرْآن، مَاتَ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنْهُمَا. 3 أخرجه الدَّارمِيّ: فَضَائِل الْقُرْآن 1، وَأحمد 4/ 151-155. 4 يزِيد بن عَمْرو بن ربيعَة من بني زيد مَنَاة، الْحَنْظَلِي التَّمِيمِي: من شعراء الْعَصْر الْأمَوِي، كَانَ لَهُ أَخَوان هما: صَخْر والمغيرة وَكِلَاهُمَا شَاعِر أَيْضا. فَرُبمَا اخْتَلَط على الروَاة شعر أحدهم بِشعر آخر. توفّي عَام 90هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وَأَرَادَ الْأَصْمَعِيُّ، أَنَّ مِنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَفَّظَهُ إِيَّاهُ، لَمْ تَحْرِقْهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنْ أُلْقِيَ فِيهَا بِالذُّنُوبِ كَمَا قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: "احْفَظُوا الْقُرْآن، أَو اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ" وَجَعَلَ الْجِسْمَ ظَرْفًا لِلْقُرْآنِ كَالْإِهَابِ. وَالْإِهَابُ: الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ. وَلَوْ كَانَ الْإِهَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْبُوغًا، مَا جَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ كِنَايَةً عَنِ الْجِسْمِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -حِينَ خَطَبَتْ وَوَصَفَتْ أَبَاهَا فَقَالَتْ: "قَرَّرَ الرُّءُوس عَلَى كَوَاهِلِهَا، وَحَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا" تَعْنِي: فِي الْأَجْسَادِ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ هَذَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَمًا لِلنُّبُوَّةِ، وَدَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ عِنْدِهِ نَزَلَ، أَبَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي وَقْتٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَعِنْدَ طَعْنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَكُونُ الْآيَاتُ فِي عُصُورِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنْ مَيِّتٍ يَحْيَا، وَذِئْبٍ يَتَكَلَّمُ، وَبَعِيرٍ يَشْكُو، وَمَقْبُورٍ تَلْفِظُهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ يُعْدَمُ ذَلِكَ بَعْدَهُمْ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُرَدَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: "مَا احْتَرَقَ" إِلَى الْقُرْآنِ لَا إِلَى الْإِهَابِ. يُرِيدُ: أَنَّهُ إِنْ كُتِبَ الْقُرْآنُ فِي جِلْدٍ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، احْتَرَقَ الْجِلْدُ وَالْمِدَادُ، وَلَمْ يَحْتَرِقِ الْقُرْآنُ، كَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْفَعُهُ مِنْهُ، وَيَصُونُهُ عَنِ النَّارِ. وَلَسْنَا نَشُكُّ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَا عَلَى الْمَجَازِ، كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُ الْكَلَامِ: "إِنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ، دَلِيلٌ عَلَى الْقُرْآن وَلَيْسَ بِهِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} 1. النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو" 2 يُرِيد الْمُصحف.   1 الْآيَة 79 من سُورَة الْوَاقِعَة. 2 أخرجه البُخَارِيّ: جِهَاد 129، وَمُسلم: إِمَارَة 92-93-94، وَأَبُو دَاوُد: جِهَاد 81، وَابْن ماجة: جِهَاد 45، والموطأ: جِهَاد 7، وَأحمد 2/ 6-7-10 - 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 6- قَالُوا: حَدِيثٌ يَنْقُضُهُ الْقُرْآنُ: هَلْ تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي الْأَجَلِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ" 1. وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 2. قَالُوا: فَكَيْفَ تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي أَجَلٍ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَلَا يَتَقَدَّمُ؟!! قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ، تَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: السَّعَةُ وَالزِّيَادَةُ فِي الرِّزْقِ، وَعَافِيَةِ الْبَدَنِ، وَقَدْ قِيلَ: الْفَقْرُ هُوَ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُمِيتُ عَدُوَّهُ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدُ يَسَفُّ الْخُوصَ3. فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي أَنْ تُمِيتَهُ. قَالَ: "قَدْ فَعَلْتُ، قَدْ أَفْقَرْتُهُ" وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ... إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاء يَعْنِي الْفَقِير.   1 سبق تَخْرِيجه ص53. 2 الْآيَة 61 من سُورَة النَّمْل. 3 يسف الخوص: أَي ينسج ورق النّخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُسَمَّى الْفَقْرُ مَوْتًا، وَيُجْعَلَ نَقْصًا مِنَ الْحَيَاةِ، جَازَ أَنْ يُسَمَّى الْغِنَى حَيَاةً، وَيُجْعَلَ زِيَادَةً فِي الْعُمْرِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْتُبُ أَجَلَ عَبْدِهِ عِنْدَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، وَيَجْعَلُ بِنْيَتَهُ وَتَرْكِيبَهُ وَهَيْئَتَهُ، لِتَعْمِيرِ ثَمَانِينَ سَنَةً، فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ، زَادَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ التَّرْكِيبِ وَفِي تِلْكَ الْبِنْيَةِ، وَوَصَلَ ذَلِكَ النَّقْصُ، فَعَاشَ عِشْرِينَ أُخْرَى حَتَّى يَبْلُغَ الْمِائَةَ، وَهِيَ الْأَجَلُ الَّذِي لَا مُسْتَأْخَرَ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 7- قَالُوا حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ: الصَّدَقَةُ وَالْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ2. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: إِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِالذُّنُوبِ قَضَاءً مِنَ الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا هُوَ تَصَدَّقَ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا قَدِ اسْتَحَقَّ مِنْ ذَلِكَ. يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ"3 أَفَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ تَعَرَّضَ لِعِقَابِهِ، فَإِذَا أَزَالَ ذَلِكَ الْغَضَبَ بِصَدَقَتِهِ، أَزَالَ الْعِقَابَ. وَمَثْلُ هَذَا، رَجُلٌ أَجْرَمْتُ4 عَلَيْهِ جُرْمًا عَظِيمًا، فَخِفْتُ بَوَائِقَهُ وَعَاجِلَ جَزَائِهِ، فَأَهْدَيْتُ لَهُ هَدِيَّةً كَفَفْتُهُ بِهَا، وَقُلْتُ الْهَدِيَّةُ تدفع الْعقَاب الْمُسْتَحق.   1 الْآيَة 40 من سُورَة النَّحْل. 2 البُخَارِيّ: زَكَاة 13. 3 أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن مُعَاوِيَة بن حيدة، وَفِيه صَدَقَة بن عبد الله السمعين، وَلَا بَأْس بِهِ فِي الشواهد. 4 فِي نسختين "إِلَيْهِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 8- قَالُوا حَدِيثٌ يُبْطِلُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ- طَاعَةُ الْأَئِمَّةِ: قَالُوا: "رُوِّيتُمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ، إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ غَوَيْتُمْ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ ضَلَلْتُمْ"1. وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَعْقُولِ، وَكَيْفَ يَكُونُونَ بِمَعْصِيَتِهِمْ ضَالِّينَ، وَبِطَاعَتِهِمْ غَاوِينَ؟!! قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَنَاقُضٌ مَعَ التَّأْوِيلِ. وَمَعْنَاهُ فِيمَا يَرَى: أَنَّهُمْ إِنْ أُطِيعُوا فِي الَّذِي يأرون بِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَظُلْمِ الرَّعِيَّةِ؛ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، غَوَى مُطِيعُهُمْ، وَإِنْ عُصُوا، فَخُرِجَ عَلَيْهِمْ، وَشُقَّتْ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ الْخَوَارِجُ، ضَلَّ عَاصِيهِمْ. وَالَّذِي يَؤُولُ إِلَيْهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ، أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ لَهُمْ، وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ، أَرَادَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ عَلَى الْمَنَابِرِ مِنَ الْخَيْرِ، إِنْ عُصُوا فِيهِ ضَلَّ عَاصِيهِمْ وَمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، إِنْ أُطِيعُوا فِيهِ غوى مطيعهم.   1 لم نجده بِهَذَا اللَّفْظ، وَوجدنَا فِي صَحِيح مُسلم حَدِيثا قَرِيبا مِنْهُ: كتاب الْإِمَارَة 16 مَا يَلِي: إِنَّه يسْتَعْمل عَلَيْكُم أُمَرَاء فتعرفون وتنكرون، فَمن كره فقد برِئ، وَمن أنكر فقد سلم، وَلَكِن من رَضِي وتابع" قَالُوا: يَا رَسُول الله! أَلا نقاتلهم؟ قَالَ: لَا مَا صلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 9- قَالُوا حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ- رُؤْيَةُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ" 1. وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 2 وَيَقُولُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3. قَالُوا: وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي حُجَّةِ الْعَقْلِ، أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَ، فِي شَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ، وَقَدْ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 4. قَالُوا: فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحًا، فَالرُّؤْيَةُ فِيهِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} 5 وَقَالَ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6.   1 أخرجه البُخَارِيّ: مَوَاقِيت 16 - 26، أَذَان 129، رقاق 53، تَوْحِيد؛ 24 وَذَلِكَ بِلَفْظ: "إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر" وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: جنَّة 16، بَاب مَا جَاءَ فِي رُؤْيَة الرب تبَارك وَتَعَالَى بِلَفْظ: "إِنَّكُم ستعرضون على ربكُم فترونه كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر لَا تضَامون فِي رُؤْيَته، فَإِن اسْتَطَعْتُم أَن لَا تغلبُوا على صَلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس وَصَلَاة قبل غُرُوبهَا فافعلوا، ثمَّ قَرَأَ: "فسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب ". وَأخرجه أَحْمد 3/ 9، 17، 26. 2 الْآيَة 103 من سُورَة الْأَنْعَام. 3 الْآيَة 11 من سُورَة الشورى. 4 الْآيَة 143 من سُورَة الْأَعْرَاف. 5 الْآيَة 45 من سُورَة الْفرْقَان. 6 الْآيَة 106 من سُورَة الْبَقر. وجدنَا الْآيَة خطأ بِالْكتاب: "ألم تَرَ أَن الله.." فصححناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِ الْكَذِبُ، لِتَتَابُعِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ بِهِ، مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ كَذِبًا، جَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِنَا فِي التَّشَهُّدِ -الَّذِي لَمْ نَعْلَمْهُ إِلَّا بِالْخَبَرِ، وَفِي صَدَقَةِ النَّعَمِ، وَزَكَاةِ النَّاضِّ1 مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِتَاقِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْنَا عِلْمُهَا بِالْخَبَرِ، وَلَمْ يَأْتِ لَهَا بَيَانٌ فِي الْكِتَابِ -بَاطِلًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وَقَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي" فَلَيْسَ نَاقِضًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" لِأَنَّهُ أَرَادَ -جَلَّ وَعَزَّ- بِقَوْلِهِ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ" فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَنْ تَرَانِي" يُرِيدُ: فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ -جَلَّ وَعَزَّ- احْتَجَبَ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَيَوْمَ الْجَزَاءِ وَالْقِصَاصِ، فَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، كَمَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْقَمَرِ. وَلَمْ يَقَعِ التَّشْبِيهُ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالَاتِ الْقَمَرِ، فِي التَّدْوِيرِ، وَالْمَسِيرِ وَالْحُدُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهَا، عَلَى أَنَّا نَنْظُرُ إِلَيْهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا نَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا يُخْتَلَفُ فِي الْقَمَرِ. وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِالْقَمَرِ فِي الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا أَبْيَنُ مِنَ الشَّمْسِ، وَمِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَأَشْهَرُ مِنَ الْقَمَرِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَقَدْ بَهَرْتَ فَمَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ... إِلَّا عَلَى أَحَدٍ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "لَا تُضَامُّونَ 2 فِي رُؤْيَتِهِ" دَلِيلٌ؛ لِأَن التضام من   1 الناض: إِذا تحول عينا بعد أَن كَانَ مَتَاعا "لقاموس الْمُحِيط 2/ 358". 2 "تضَامون" الرِّوَايَة الْمُشَدّدَة لِابْنِ ماجة فِي الْمُقدمَة بَاب 13 وَقد ورد فِي الْحَاشِيَة: تضَامون أَي تردحمون، وروى "تضَامون" أَي يلحقكم ضيم ومشقة. وَكَذَلِكَ ورد فِي هَامِش الصفحة 139 من المجلد الأول من صَحِيح البُخَارِيّ للعلامة أَحْمد بن مُحَمَّد الْخَطِيب الْقُسْطَلَانِيّ فِي تَعْلِيقه على الحَدِيث قَوْله: "لَا تضَامون" بِضَم أَوله وَتَخْفِيف الْمِيم: أَي لَا ينالكم ضيم أَي تَعب أَو ظلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 النَّاس يَكُونُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ -عِنْدَ طَلَبِهِمُ الْهِلَالَ- فَيَجْتَمِعُونَ، وَيَقُولُ وَاحِدٌ: "هُوَ ذَاكَ هُوَ ذَاكَ" وَيَقُولُ آخَرُ: "لَيْسَ بِهِ وَلَيْسَ الْقَمَرُ كَذَلِكَ" لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَرَاهُ بِمَكَانِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ لِطَلَبِهِ. وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاضٍ عَلَى الْكِتَابِ، وَمُبَيِّنٌ لَهُ. فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، وَجَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّحِيحِ مِنَ الْخَبَرِ: تَرَوْنَ1 رَبَّكُمْ تَعَالَى فِي الْقِيَامَةِ؛ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي فَهْمٍ وَنَظَرٍ وَلُبٍّ وَتَمْيِيزٍ، أَنَّهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. وَفِي قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أَبْيَنُ الدِّلَالَةِ2 عَلَى أَنَّهُ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ. وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ. لَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى مَا عَلِمُوهُ. وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ حَدَّهُ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ مَحْدُودًا، فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْمَخْلُوقِينَ، وَمَنْ شَبَّهَهُ عِنْدَهُمْ بِالْخَلْقِ فَقَدْ كَفَرَ. فَمَا يَقُولُونَ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّأَهُ، وَكَلَّمَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ لَهُ فِيهِ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أَيَقْضُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ مُشَبِّهًا لِلَّهِ مُحَدِّدًا؟ لَا، لَعَمْرُ اللَّهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَ هَذَا، لَو كَانَ على تقديرهم.   1 وَفِي نسختين: ترَوْنَ الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة. 2 وَفِي نُسْخَة: أبين الْأَدِلَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَلَكِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، يَرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، مَا أَجَّلَهُ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ لَهُ: {لَنْ تَرَانِي} يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} . أَعْلَمَهُ أَنَّ الْجَبَلَ لَا يَقُومُ لِتَجَلِّيهِ حَتَّى يَصِيرَ دَكًّا، وَإِنَّ الْجِبَالَ إِذَا ضَعُفَتْ عَنِ احْتِمَالٍ ذَلِكَ، فَابْنُ آدَمَ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ؛ إِلَى أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى النَّظَرِ، وَيَكْشِفَ عَنْ بَصَرِهِ الْغِطَاءَ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا. وَالتَّجَلِّي: هُوَ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: "جَلَوْتُ الْعَرُوس" إِذا أبرزتها و"جلوت الْمِرْآةَ وَالسَّيْفَ" إِذَا أَظْهَرْتُهُمَا مِنَ الصَّدَأِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرُّؤْيَةَ فِي قَوْلِهِ: "تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: "ألم تَرَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يُرِيدُ: "أَلَمْ تَعْلَمْ" فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ، لِأَنَّا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا؛ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي الدُّنْيَا وَاحِدًا. وَقَرَأْتُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ فَتَحَ فَاهُ بِالْوَحْيِ قَالَ: "طُوبَى لِلَّذِينِ يَرْحَمُونَ، فَعَلَيْهِمْ تَكُونُ الرَّحْمَةُ، طُوبَى لِلْمُخْلِصَةِ قُلُوبُهُمْ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى"، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1. وَيَقُولُ فِي قَوْمٍ سَخِطَ عَلَيْهِمْ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} 2.   1 الْآيَة 22 من سُورَة الْقِيَامَة. 2 الْآيَة 15 من سُورَة المطففين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 أَفَمَا فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوهَ النَّاضِرَةَ -الَّتِي هِيَ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ- هِيَ الَّتِي لَا تُحْجَبُ إِذَا حُجِبَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ؟ فَإِنْ قَالُوا لَنَا: كَيْفَ ذَلِكَ النَّظَرُ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَنْتَهِي فِي صِفَاتِهِ -جَلَّ جَلَالُهُ- إِلَّا إِلَى حَيْثُ انْتَهَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَدْفَعُ مَا صَحَّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ فِي أَوْهَامِنَا، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى نَظَرِنَا، بَلْ نُؤْمِنُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ فِيهِ بِكَيْفِيَّةٍ أَوْ حَدٍّ، أَوْ أَنْ نَقِيسَ عَلَى مَا جَاءَ مَا لَمْ يَأْتِ. وَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَقْدِ سَبِيلُ النَّجَاةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْأَهْوَاءِ كُلِّهَا غَدًا، إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 10- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ حَوْلَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ: قَالُوا: "رُوِّيتُمْ أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله عز وَجل" 1. فَإِن كنت أردتم بالأصابع هَهُنَا النِّعَمَ، وَكَانَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا فَهُوَ مَذْهَبٌ. وَإِنْ كُنْتُمْ أَرَدْتُمُ الْأَصَابِعَ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَحِيلُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُوَصَفُ بِالْأَعْضَاءِ، وَلَا يُشَبَّهُ بِالْمَخْلُوقِينَ. وَذَهَبُوا فِي تَأْوِيلِ الْأَصَابِعِ إِلَى أَنَّهُ النِّعَمُ لِقَوْلِ الْعَرَبِ "مَا أَحْسَنَ إِصْبَعَ قلان عَلَى مَالِهِ" يُرِيدُونَ أَثَرَهُ، وَقَالَ الرَّاعِي فِي وَصْفِ إِبِلِهِ: ضَعِيفُ الْعَصَا بَادِي الْعُرُوقِ تَرَى لَهُ ... عَلَيْهَا إِذَا مَا أَمْحَلَ النَّاسُ أُصْبُعَا أَيْ: تَرَى لَهُ عَلَيْهَا أَثَرًا حَسَنًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَإِنَّ الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ الْإِصْبَعِ لَا يُشْبِهُ الْحَدِيثَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي دُعَائِهِ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" 2. فَقَالَتْ لَهُ إِحْدَى أَزوَاجه: "أَو تخَاف -يَا رَسُولَ اللَّهِ- عَلَى نَفْسِكَ"؟   1 سبق تَخْرِيجه الحَدِيث ص54. 2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: قدر 7، دعوات 89، 124، وَابْن ماجة: دُعَاء 2، وَأحمد: 4/ 182 - 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فَقَالَ: "إِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ، بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". فَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَحْفُوظٌ بِتَيْنِكَ النِّعْمَتَيْنِ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا بِالتَّثْبِيتِ؟ وَلِمَ احْتَجَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ لَهُ: "أَتَخَافُ عَلَى نَفْسِكَ" بِمَا يُؤَكِّدُ قَوْلَهَا؟ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافَ إِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَحْرُوسًا بِنِعْمَتَيْنِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا: مَا الإصبع عنْدك هَهُنَا؟ قُلْنَا: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ يَحْمِلُ الْأَرْضَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَكَذَا عَلَى أُصْبُعَيْنِ. وَلَا يجوز أَن تكون الإصبع -هَهُنَا- نِعْمَةً. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 1 وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَلَا نَقُولُ أُصْبُعٌ كَأَصَابِعِنَا، وَلَا يَدٌ كَأَيْدِينَا، وَلَا قَبْضَةٌ كَقَبَضَاتِنَا، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يشبه شَيْئا منا.   1 الْآيَة 67 من سُورَة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 11- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ "أَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ"1 وَهَذَا يَسْتَحِيلُ إِنْ كُنْتُمْ أَرَدْتُمْ بِالْيَدَيْنِ الْعُضْوَيْنِ، وَكَيْفَ تَعْقِلُ يَدَانِ كِلْتَاهُمَا يَمِينٌ؟ ". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحِيلًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَعْنَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، لِأَنَّ كُلَّ2 شَيْءٍ؛ فَمَيَاسِرُهُ تَنْقُصُ عَنْ مَيَامِنِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَالتَّمَامِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحِبُّ التَّيَامُنَ، وَتَكْرَهُ التَّيَاسُرِ، لِمَا فِي الْيَمِينِ مِنَ التَّمَامِ، وَفِي الْيَسَارِ مِنَ النَّقْصِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: "الْيُمْنُ وَالشُّؤْمُ". فَالْيُمْنُ مِنَ الْيَدِ: الْيُمْنَى، وَالشُّؤْمُ مِنَ الْيَدِ: الشُّؤْمَى، وَهِيَ الْيَدُ الْيُسْرَى، وَهَذَا وَجْهٌ بَيِّنٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: الْعَطَاءَ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْيُمْنَى هِيَ الْمُعْطِيَةُ. فَإِذَا كَانَتِ الْيَدَانِ يَمِينَيْنِ، كَانَ الْعَطَاءُ بِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَمِينُ اللَّهِ سَحَّاءٌ لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"3. أَيْ تَصُبُّ الْعَطَاءَ وَلَا يَنْقُصُهَا ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمِرَّارُ حِينَ قَالَ: وَإِنَّ عَلَى الْأَوَانَةِ مِنْ عَقِيلِ ... فَتًى كِلْتَا الْيَدَيْنِ لَهُ يَمِين   1 أخرجه مُسلم: فِي بَاب الْإِمَارَة حَدِيث رقم 18. 2 لَعَلَّ الْأَصَح: لَا كل شَيْء. 3 أخرجه التِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة 5/ 3 وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 13، وَأحمد 2/ 242، 312، 500. سحاء: أَي دائمة الصب بالعطاء، لَا يغيضها: أَي لَا ينقصها، غاض المَاء، قل ونضب، وغاضه الله: يتَعَدَّى وَيلْزم "اللَّيْل وَالنَّهَار" ظرف لـ "سحاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 12- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- عَجَبُ الرَّبِّ وَضَحِكُهُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ، وَسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ إِيَّاكُمْ"1 و"ضحك مِنْ كَذَا". وَإِنَّمَا يَعْجَبُ وَيَضْحَكُ، مَنْ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ يَعْلَمُ فَيَعْجَبُ وَيَضْحَكُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعَجَبَ وَالضَّحِكَ، لَيْسَ عَلَى مَا ظَنُّوا، وَإِنَّمَا هُوَ "عَلَى حَلٍّ عِنْدَهُ كَذَا، بِمَحَلِّ مَا يَعْجَبُ مِنْهُ، وَبِمَحَلِّ مَا يَضْحَكُ مِنْهُ". لِأَنَّ الضَّاحِكَ إِنَّمَا يَضْحَكُ لِأَمْرٍ مُعْجِبٍ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِيِّ الَّذِي ضَافَهُ ضَيْفٌ، وَلَيْسَ فِي طَعَامِهِ فَضْلٌ عَنْ كِفَايَتِهِ، فَأَمَرَ امْرَأَتَهُ بِإِطْفَاءِ السِّرَاجِ لِيَأْكُلَ الضَّيْفُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّ الْمُضِيفَ لَهُ لَا يَأْكُل.   1 أخرج ابْن ماجة الحَدِيث فِي الْمُقدمَة بَاب "13" برقم 181 بِلَفْظ: عَن وَكِيع بن حرس عَن عَمه أبي رزين قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: "ضحك رَبنَا من قنوط عباده وَقرب غَيره" قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَو يضْحك الرب؟ قَالَ: "نعم" قلت: لن نعدم من رب يضْحك خيرا. "والقنوط" كالجلوس وَهُوَ الْيَأْس، "غَيره" الْغَيْر بِمَعْنى تعير الْحَال وَهُوَ اسْم من قَوْلك غيرت الشرء فَتغير حَاله من الْقُوَّة إِلَى الضعْف وَمن الْحَيَاة إِلَى الْمَوْت. وَالْمعْنَى أَن الله تَعَالَى يضْحك من أَن العَبْد يصير مأيوسًا من الْخَيْر بِأَدْنَى شَرّ وَقع عَلَيْهِ مَعَ قرب تَغْيِيره تَعَالَى الْحَال من شَرّ إِلَى خير. والإل: مشدة الْقنُوط، وَيجوز أَن يكون من رفع الصَّوْت بالبكاء، وَذكر فِي الْقَامُوس فِي مَعَاني الإل: الْجزع عِنْد الْمُصِيبَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 "لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ صَنِيعِكُمَا الْبَارِحَةَ" أَيْ حَلَّ عِنْدَهُ مَحَلَّ مَا يَعْجَبُ النَّاسُ مِنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} 1. لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ عِنْدِي عَجَبٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّهُ عَجِيبٌ عِنْد من سَمعه.   1 الْآيَة 5 من سُورَة الرَّعْد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 13- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- الرِّيحُ مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَنِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِنَّهَا مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَنِ" 1. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الرِّيحُ عِنْدَكُمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الرَّحْمَنِ، جَلَّ وَعَزَّ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنَّفَسِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الرِّيحَ مِنْ فَرَجِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرُوحِهِ. يُقَالُ: اللَّهُمَّ نَفِّسْ عَنِّي الْأَذَى، وَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّيحِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} 2. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "إِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ رَبِّكُمْ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ" 3. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا مِنَ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي شِدَّةٍ وَكَرْبٍ وَغَمٍّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي بِالْأَنْصَارِ. يَعْنِي: أَنَّهُ يَجِدُ الْفَرَجَ مِنْ قِبَلِ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ مِنَ الْيَمَنِ.   1 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 250 - 268 - 409 - 437 - وَالتِّرْمِذِيّ فِي سنَنه: فتن 65، وَابْن ماجة: أدب 29. 2 الْآيَة 9 فِي سُورَة الْأَحْزَاب. 3 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 541. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فَالرِّيحُ مِنْ فَرَجِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَوْحِهِ، كَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ مِنْ فَرَجِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذَا فِي كِتَابِ "غَرِيبِ الْحَدِيثِ" بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ، وَلَمْ أَجِدْ بُدًّا من ذكره هَهُنَا، لِيَكُونَ الْكِتَابُ جَامِعًا لِلْفَنِّ الَّذِي قصدُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 14- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- آخَرُ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِوَجَّ قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ لِأَحَدِ ابْنَيِ ابْنَتِهِ: "وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتُجَبِّنُونَ وَتُبَخِّلُونَ، وَإِنَّكُمْ مِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ، وَإِنَّ آخِرَ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِـ"وَجَّ" 1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَخْرَجًا حَسَنًا قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالُوا: إِنَّ آخَرَ مَا أَوْقَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ بِالطَّائِفِ، وَكَانَتْ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِـ"وَجَّ". وَ"وَجَّ" وَادٍ قَبِلَ الطَّائِفِ. وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا -قَالَ: وَهُوَ مثل قَوْله فِي   1أخرجه أَحْمد عَن أم حَكِيم: 6/ 409، وَالتِّرْمِذِيّ: بر11. وَقد ذكر الفيروز آبادي فِي الْقَامُوس الْمُحِيط مَا نَصه: ""وَج" اسْم وَاد بِالطَّائِف لَا بلد بِهِ -وَغلط الْجَوْهَرِي- وَهُوَ مَا بَين جبلي المحترق والأحيحدين، وَمِنْه: "آخر وَطْأَة وطنها الله تَعَالَى بوج" يُرِيد غَزْوَة حنين لَا الطَّائِف، وحنين وَاد قبل وَج، وَأما غَزْوَة الطَّائِف فَلم يكن فِيهَا قتال. ثمَّ أَشَارَ بالحاشية إِلَى غلط الْجَوْهَرِي فَقَالَ: أَي حَيْثُ قَالَ: يُرِيد غزَاة الطَّائِف قَالَ الشَّارِح: وَنقل عَن الْحَافِظ عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ فِي معنى الحَدِيث: أَي آخر غَزْوَة وطأ الله بهَا أهل الشّرك غَزْوَة الطَّائِف بإثر فتح مَكَّة، وَهَكَذَا فسره أهل الْغَرِيب وَقَالَ بعد قَوْله: فَلم يكن فِيهَا قتال: قد يُقَال: إِنَّه لَا يشْتَرط فِي الْغَزْوَة الْقِتَال". طبعه مؤسسة الرسَالَة 1986م صفحة 266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ" 1. فَتَتَابَعَ الْقَحْطُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْقَدَّ2 وَالْعِظَامَ. وَتَقُولُ فِي الْكَلَامِ: اشْتَدَّتْ وَطْأَةُ السُّلْطَانِ عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَقَدْ وَطِئَهُمْ وَطْئًا ثَقِيلًا، وَوَطْءَ الْمُقَيَّدِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَوَطِئْتَنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ ... وَطْءَ الْمُقَيَّدِ ثَابِتَ الْهَرْمِ وَالْمُقَيَّدُ أَثْقَلُ شَيْءٍ وَطْئًا، لِأَنَّهُ يَرْسُفُ فِي قَيده، فَيَضَع رجلَيْهِ مَعًا، و"الْهَرم" نَبْتٌ ضَعِيفٌ، فَإِذَا وَطِئَهُ كَسَرَهُ، وَفَتَّهُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ بَعِيدٌ مِنَ الِاسْتِكْرَاهِ، قَرِيبٌ مِنَ الْقُلُوبِ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَقْضِي بِهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنِّي قَرَأْتُ فِي الْإِنْجِيلِ الصَّحِيحِ، أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: "أَلَمْ تَسْمَعُوا أَنَّهُ قِيلَ لِلْأَوَّلِينَ: لَا تَكْذِبُوا إِذَا حَلَفْتُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنِ اصْدُقُوا". وَأَنَا أَقُولُ لَكُمْ: "لَا تَحْلِفُوا بِشَيْءٍ، لَا بِالسَّمَاءِ، فَإِنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلَا بِأُورْشَلِيمَ3 "بَيْتِ الْمَقْدِسِ" فَإِنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْأَكْبَرِ، وَلَا تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ شَعْرَةً سَوْدَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ، وَلَكِنْ، ليكن قَوْلكُم "نعم - نعم" و"لَا، لَا" وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا مَعَ حَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ يزِيد بن عَمْرو، قَالَ: حَدثنَا   1 أخرجه البُخَارِيّ: أَذَان 128 استسقاء جِهَاد 98 أَنْبيَاء 19 تَفْسِير سُورَة 3 - 4 - 9، وَمُسلم: مَسَاجِد 294، 295، وَأَبُو دَاوُد: صَلَاة 16، وتر 10، وَالنَّسَائِيّ: تطبيق 27، وَابْن ماجة: إِقَامَة 145. 2 الْقد: جلد السخلة. 3 ورد فِي الْقَامُوس الْمُحِيط صفحة 1455 "شلم" كبقم وككتف وجبل: اسْم بَيت الْمُقَدّس، مَمْنُوع من الصّرْف للعجمة، وَهُوَ بالعبرانية: أورشليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 عبد اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ1 عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: "إِنَّ وَجًّا مُقَدَّسٌ، مِنْهُ عَرَجَ الرَّبُّ إِلَى السَّمَاءِ يَوْمَ قَضَاءِ خَلْقِ الأَرْض".   1 عبد الله بن الْحَارِث: الْقرشِي الْأَسدي الْحميدِي الْمَكِّيّ أَبُو بكر ثِقَة حَافظ وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَمن شُيُوخه مَالك وَاللَّيْث بن سعد وطبقتهم. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 15- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ "كَثَافَةُ جِلْدِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ" قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ضِرْسُ الْكَافِرِ فِي النَّارِ، مِثْلُ أُحُدٍ، وَكَثَافَةُ جلده أَرْبَعُونَ ذِرَاعا بباع الْجَبَّارِ" 1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَخْرَجًا حَسَنًا، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَهُ وَهُوَ أَن يكون الْجَبَّار -هَهُنَا- الْمَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} 2 أَيْ: بِمَلِكٍ مُسَلَّطٍ، وَالْجَبَابِرَةُ: الْمُلُوكُ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ النَّاسُ: هُوَ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلِكِ. يُرِيدُونَ: بِالذِّرَاعِ الْأَكْبَرِ. وَأَحْسَبُهُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، كَانَ تَامَّ الذِّرَاعِ، فنسب إِلَيْهِ.   1 أخرجه مُسلم: جنَّة 44، وَأحمد: 2/ 328 - 334 - 357، وَلم يرد فِي صَحِيح مُسلم "وَكَثَافَةُ جِلْدِهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْجَبَّار" لَكِن هَذِه الرِّوَايَة للبزار عَن ثَوْبَان مَرْفُوعا، وَهِي الَّتِي صححها الألباني، وَرِوَايَة مُسلم ذكرت بعْدهَا "وَغلظ جلده مسيرَة ثَلَاثَة". وَرِوَايَة أَحْمد: ... وكثافة جلده اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا بِذِرَاع الْجَبَّار". وَقد أوردهُ الألباني فِي صَحِيح الْجَامِع الصَّغِير برقم 3888 وَفِي الصَّحِيحَة برقم 1105. 2 الْآيَة 45 من سُورَة ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 16- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلِقِهِ"1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ. وَأَصْلُهُ: أَنَّ الْمَلِكَ كَانَ إِذَا صَافَحَ رَجُلًا، قَبَّلَ الرَّجُلُ يَدَهُ، فَكَأَنَّ الْحَجَرَ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ لِلْمَلِكِ تُسْتَلَمُ وَتُلْثَمُ. وَبَلَغَنِي عَنْ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَتَا: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى -حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ بَنَى آدَمَ وأشهدهم على أنفبسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى -جَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَقَالَ: أَمَا سَمِعْتُمْ إِذَا اسْتَلَمُوهُ2؟ يَقُولُونَ: إِيمَانًا بِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ"، أَيْ: قَدْ وَفَّيْنَا بِعَهْدِكَ، أَنَّكَ أَنْتَ رَبُّنَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ قَدِ اسْتَلَمُوهُ، وَكَانُوا مُشْرِكِينَ، لَمْ يَسْتَلِمُوهُ بِحقِّهِ لأَنهم كَانُوا كفَّارًا.   1 انْظُر التَّمْيِيز 66 والكشف 1/ 348، وَضَعِيف الْجَامِع 3/ 109 برقمين 2770، 2771. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَانْظُر تَارِيخ بَغْدَاد 6/ 328، فَالْحَدِيث ضَعِيف جدا. ز 2 فِي نسختين: "المسوء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 17- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ "رُؤْيَةُ الرَّبِّ" قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيَّ" 1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَقَدْ سَأَلَهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2. يُرِيدُ أَنْ يَتَعَجَّلَ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. فَقَالَ: {لَنْ تَرَانِي} ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ قَوْمٌ: إِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَهُ إِلَّا فِي الْمَنَامِ، وَعِنْدَ تَغَشِّي الْوَحْيِ لَهُ، وَإِنَّ الْإِسْرَاءَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جِسْمِهِ، أَلَا تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآن} 3.   1 أخرجه التِّرْمِذِيّ وَعبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 59، والدارمي: رُؤْيا 12، وَأحمد 1/ 368، 4/ 88. وَقد أوردهُ الدَّارمِيّ بِلَفْظ: عَن عبد الرَّحْمَن بن عائش قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَ: فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ فَقلت: أَنْت أعلم يَا رب، قَالَ: فَوضع كَفه بَين كَتِفي فَوجدت بردهَا بَين ثديي فَعلمت مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض"، وتلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} . 2 الْآيَة: 143 من سُورَة الْأَعْرَاف. 3 الْآيَة: 60 من سُورَة الْإِسْرَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 يَعْنِي بِالرُّؤْيَا: مَا رَآهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فَارْتَدَّ بِهِ قَوَّمٌ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ يَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فِي لَيْلَةٍ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ ادَّعَى الْإِسْرَاءَ بِجِسْمِهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ صَدَّقَ بِذَلِكَ، وَحَاجَّ فِيهِ فَسُمِّيَ الصِّدِّيقَ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَتْ إِحْدَى أَزْوَاجِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ: إِنَّا مَا فَقَدْنَا جِسْمَهُ. وَحَدَّثَنَا أَبُو الْخطاب قَالَ: حَدثنَا مَالك بن سعيد قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْعَيْزَارِ، يَذْكُرُ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} 1، قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سَبْعُمِائَةُ2 جَنَاحٍ. قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، حَدِيثٌ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أُمِّ الطُّفَيْلِ، امْرَأَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ: "أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فِي صُورَةِ شَابٍّ مُوَفَّرٍ فِي خُضْرَةٍ، عَلَى فِرَاشِهِ فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، فِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ ذَهَبٍ"3. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ لَمْ نَذْكُرْ قَوْلَ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّنَا رَأَيْنَاهُ صَوَابًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ تَأَوَّلَهُ قَوْمٌ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا تَأَوَّلُوا، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ يَقُولُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} 4 الْآيَة؟   1 الْآيَة: 23 من سُورَة التكوير. 2 وَفِي الدمشقية: "تِسْعمائَة". 3 انْظُر الحَدِيث فِي "اللآلئ" 1/ 28 - 31، والْحَدِيث مَوْضُوع كَمَا قَالَ ذَلِك الْأَئِمَّة الثِّقَات، وَسُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: مُنكر. 4 الْآيَة: 1 من سُورَة الْإِسْرَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَأَوَّلَ فِيهِ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَلَا يُدْفَعَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَعَسَّفَ، فَنَتَأَوَّلَ فِيمَا جعله الله فَضِيلَة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلَكنَّا نُسَلِّمُ لِلْحَدِيثِ، وَنَحْمِلُ الْكِتَابَ عَلَى ظَاهره1.   1 فِي اللآلئ 1/ 30 ورد بشأن هَذِه الرُّؤْيَة مَا يَلِي: "قَالَ سُفْيَان بن زِيَاد: فَلَقِيت عِكْرِمَة بعد، فَسَأَلته الحَدِيث، فَقَالَ: نعم كَذَا حَدثنِي إِلَّا أَنه قَالَ: رَآهُ بفؤاده". وَمن العجيب أَن يتَمَسَّك الْمُؤلف رَحمَه الله بِالْحَدِيثِ وَيسلم لَهُ، على الرغم من طعن الْعلمَاء بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 18- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- خَلْقُ آدَمَ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" 1. وَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجِلُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صُورَةٌ، أَوْ مِثَالٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَهُ الْحَمْدُ، يَجِلُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صُورَةٌ أَوْ مِثَالٌ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ أَلِفُوا الشَّيْءَ وَأَنِسُوا بِهِ، فَسَكَتُوا عِنْدَهُ، وَأَنْكَرُوا مِثْلَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي وَصْفِهِ نَفْسَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. وَظَاهِرُ هَذَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ، فَقَدْ صَارَ -عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ- لِلَّهِ تَعَالَى مِثْلٌ. وَمَعْنَى ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، أَنَّهُ يُقَامُ الْمِثْلُ مَقَامَ الشَّيْءِ نَفْسِهِ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ: مِثْلِي لَا يُقَالُ لَهُ هَذَا الْكَلَامُ، وَمِثْلِي لَا يُفْتَأَتُ عَلَيْهِ. لَا يُرِيدُ: أَنَّ نَظِيرِي لَا يُقَالُ لَهُ وَلَا يُفْتَأَتُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ: أَنَا نَفْسِي لَا يُقَالُ لِي كَذَا وَكَذَا. وَكَذَلِكَ قَوْله وَتَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، يُرِيدُ: لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ، فَخَرَجَ هَذَا مَخْرَجَ كَلَام الْعَرَب.   1 سبق تَخْرِيجه صفحة: 54. 2 الْآيَة: 11 من سُورَة الشورى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ زَائِدَةً، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: كَلَّمَنِي بِلِسَانٍ كَمِثْلِ السِّنَانِ، وَلَهَا بَنَانٌ كَمِثْلِ الْعَنَمِ1. "وَكَقَوْلِ2 الرَّاجِزِ": وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنَ فَأَدْخَلَ الْكَافَ عَلَى الْكَافِ، وَهِيَ بِمَعْنَى مِثْلِ. وَقَدِ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ ". فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ: أَرَادَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا، مَا كَانَ فِي الْكَلَامِ فَائِدَةٌ. وَمَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ، وَالسِّبَاعَ عَلَى صُوَرِهَا، وَالْأَنْعَامَ عَلَى صُوَرِهَا؟! وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةٍ عِنْدَهُ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مِثَالٍ. وَقَالَ قَوْمٌ فِي الْحَدِيثِ: "لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صورته" 3.   1 العنم: شَجَرَة حجازية لَهَا ثَمَرَة حَمْرَاء، يشبه بهَا البنان المخضوب، أَو أَطْرَاف الخروب الشَّامي. "الْقَامُوس الْمُحِيط" صفحة 1473. 2 هُوَ للخطام الْمُجَاشِعِي وَقَبله: لم يبْق من آي بهَا بحلين ... غير حطام ورماد كتفين وَغير عود جاذل أَو دين وَالْوَاو وَاو الْعَطف أَي غير صاليات، والصاليات الأثافي المسودات قد صليت بالنَّار، وكـ" كَمَا" أَي كَمثل مَا يؤثفين، أَي يجعلن فِي مَوضِع الطَّبْخ أَي: كَأَنَّهَا كَمَا وَضعهَا أَهلهَا لم يتَغَيَّر مِنْهَا شَيْء. و"مَا" مَصْدَرِيَّة ويؤثفين: من أثفيت الْقدر: جعلت لَهَا أثافي، وَكَانَ الْقيَاس يثفين، كـ"يكرمن"، لكنه اسْتَعْملهُ على الأَصْل المرفوض اضطرارًا. ا. هـ. بِاخْتِصَار على شرح مَحل الشَّاهِد هُنَا، واختصار من شرح شَوَاهِد الْمُغنِي للسيوطي. 3 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 251، 434 عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: "إِذا ضرب أحدكُم فليجتنب الْوَجْه وَلَا تقل قبح الله وَجهك وَوجه من أشبه وَجهك، فَإِنَّهُ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صورته". وَقد أوردهُ أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 244 بِصِيغَة أُخْرَى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا ضرب أحدكُم فليجتنب الْوَجْه، فَإِنَّهُ الله خلق آدم على صورته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 يُرِيد أَنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَزَّ- خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الْوَجْهِ. وَهَذَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ، عَلَى خَلْقِ وَلَدِهِ، وَوَجْهَهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَزَادَ قَوْمٌ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَرَّ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ وَجْهَ رَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ: "لَا تَضْرِبْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، خَلَقَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى صُورَتِهِ"، أَيْ صُورَةِ الْمَضْرُوبِ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْخَلَلِ، مَا فِي الْأَوَّلِ. وَلَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ الْمُسْتَكْرَهَةُ، وَكَثُرَ التَّنَازُعُ فِيهَا، حَمَلَ قَوْمًا اللَّجَاجُ عَلَى أَنْ زَادُوا فِي الْحَدِيثِ، فَقَالُوا: رَوَى بن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا1: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ". يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ2 فِي "صُورَتِهِ" لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِأَنْ يَجْعَلُوا الرَّحْمَنَ مَكَانَ الْهَاءِ كَمَا تَقُولُ: "إِنَّ الرَّحْمَنَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ"، فَرَكِبُوا قَبِيحًا مِنَ الْخَطَأِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ" وَلَا على إِرَادَة الرَّحْمَن3.   1 لَعَلَّ الْأَصَح: فَقَالَ بَدَلا من فَقَالُوا. 2 أَي: هَاء الضَّمِير الَّتِي تعود على لفظ الْجَلالَة الْمُتَقَدّمَة. 3 قَول ابْن قُتَيْبَة: "وَزَادَ قَوْمٌ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَرَّ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ وَجْهَ رَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ: "لَا تضربه فغن الله خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صورته"، أَي: صُورَة الْمَضْرُوب، قَالَ: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْخَلَلِ مَا فِي الأول". أَقُول: أَخطَأ ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى فِي هَذَا الْمقَال من موضِعين وسع بهما بَاب الْمَحْذُور، وَلم يحسن جَوَابا بل أَضْعَف الْجَواب الصَّحِيح وهاك الْبَيَان. أَولا: الْموضع الأول فِي خطأ ابْن قُتَيْبَة أَنه أورد أصل الحَدِيث نَاقِصا فِي اللَّفْظ حَيْثُ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319   = لَفظه الَّذِي أوردهُ هُوَ: "أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدم على صورته"، والْحَدِيث لَهُ بَقِيَّة توجه مَعْنَاهُ يَقِينا وَكَانَ يجب على ابْن قُتَيْبَة ذكرهَا، حَتَّى لَو لم يذكرهَا المعارضون كَانَ من واجبه ردهَا إِلَى الحَدِيث والتأكيد عَلَيْهَا، وَقد فعل الْعَكْس فَقَالَ مَا يوحي بِعَدَمِ ثُبُوتهَا حَيْثُ أصل الحَدِيث مَا ذكره وَزَاد قوم كَذَا وَكَذَا. وَأَقل مَا يُقَال فِي ذكل أَنه تَقْصِير بليغ مِنْهُ وَهَذَا مَعَ إِحْسَان الظَّن بِهِ؛ لِأَن أصل الحَدِيث كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من جَمِيع الرِّوَايَات مَذْكُور سَبَب هَذَا القَوْل. وَقد رَوَاهُ مُسلم من سبع طرق كلهَا تذكر ذَلِك: "إِذا قَاتل أحدكُم أَخَاهُ فليتق الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدم على صورته"، وَكَذَلِكَ رِوَايَة البُخَارِيّ بِنَفس اللَّفْظ، والملابسة قاضية بِعُود الضَّمِير على الْمَضْرُوب أَو الْمقَاتل قطعا. وَسبب الْقطع أَن الله تَعَالَى يَقُول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فَلَا يحوم حول التَّشْبِيه ذُو علم مُؤمن قطّ. إِمَّا أَن يكون لقلَّة علم أَو لنَقص يَقِين، فَالَّذِي أَشَارَ إِلَى توهِينه هُوَ حق صَحِيح وَهُوَ أصل الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاقْتصر عَلَيْهِ البُخَارِيّ، وَلم يرد: "إِن الله خلق آدم على صورته"، فَهِيَ لمُسلم وَحده فِي بعض أَلْفَاظه. ثَانِيًا: الْموضع الثَّانِي من خطأ ابْن قُتَيْبَة قَوْله: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْخَلَلِ مَا فِي الأول، وَهَذَا تغفيل وَاضح. فَالْقَوْل الأول الَّذِي صرح بخطئه أَن يكون الْمَعْنى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ يَعْنِي عود الضَّمِير على نفس آدم، وَهَذَا فعلا لَا تتضح فَائِدَته. أما أَن يَقُول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "إِذا قَاتل أحدكُم أَخَاهُ فليجتنب الْوَجْه، فَإِن الله خلق آدم على صورته"، فَلَا يَسْتَقِيم فِي لُغَة الْعَرَب أَن يعود الضَّمِير إِلَّا على الْمَضْرُوب لِأَنَّهُ الرابط بَين الجملتين، وَإِلَّا كَانَ الْكَلَام غير مُفِيد، فَإنَّك إِذا قلت: رَأَيْت زيدا مَعَ أَبِيه يمشيان وَزيد يُشبههُ، لم يبْق أحد عِنْده قطّ من الْفَهم إِلَّا علم أَنَّك تَعْنِي أَن الضَّمِير من يُشبههُ يعود على أبي زيد لِأَنَّهُ الرابط بَين الجملتين، وَإِلَّا كَانَ الْكَلَام من الهذيان الَّذِي لَا يُفِيد معنى صَحِيحا. وَلَو قَالَ قَائِل: إِن هَذَا الضَّمِير فِي يُشبههُ يعود على زيد، قيل: ابْتَغوا لَهُ الطِّبّ فَإِنَّهُ مَجْنُون. أما إِذا شطر الحَدِيث وَقطعت مِنْهُ الْجُمْلَة الأولى وَاقْتصر فَقَط على هَذَا اللَّفْظ: "إِن الله خلق آدم على صورته"، فأقرب الْوُجُوه فِي لُغَة الْعَرَب هُوَ عود الضَّمِير على الله تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ يكون أمامنا الْمَانِع اليقيني الْقَاطِع الَّذِي لَا يرتاب فِيهِ مُؤمن قطّ، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يَسْتَحِيل أَن يكون لَهُ شَبيه أَو مثيل؛ لقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .... } ، وَيكون الْمَعْنى الضَّرُورِيّ لَو كَانَ الحَدِيث هَكَذَا أَنَّهَا هَاء الملكية، يعين خلق آدم على الصُّورَة الَّتِي شَاءَ الله تَعَالَى وَأَرَادَهَا لَهُ ... وَلَكِن تَتِمَّة الحَدِيث تقضي أَن الْهَاء عئدة على الْأَخ وَمَعْنَاهَا أوضح من الشَّمْس. وَقد أَخطَأ ابْن قُتَيْبَة يَقِينا فِيمَا قَالَ من أَن هَذَا الْمَعْنى فِيهِ مِنَ الْخَلَلِ مَا فِي الْأَوَّلِ، وَالَّذِي رَجحه من أَن الْمَقْصُود صورته فِي الدُّنْيَا كصورته فِي الْجنَّة لَيْسَ يراجح، بل فِيهِ تكلّف. وَمَا اسْتشْهد بِهِ من التَّوْرَاة لإِثْبَات الشُّبْهَة بَاطِل؛ لِأَن مَا فِي التَّوْرَاة أَو من أَن يستشهد بِهِ فِي الحكم تكليفي بله أصُول العقيدة، وَقد تعمد الْيَهُود تَحْرِيف العقيدة أَكثر مَا حرفوا وَإِلَّا فيستشهدج بمصارعة آدم لرَبه وَأَنه غلب الرب؛ تَعَالَى الله عَن كفرهم علوا كَبِيرا، وَغَيره من الشيطنة الَّتِي كتبوها عَن الله تَعَالَى وَرُسُله. وَلَا شكّ أَن هَذِه زلَّة من ابْن قُتَيْبَة، وَقد اتهمَ الجاحظ أَنه عِنْد محاورة أهل الْكتاب ذكر شبههم مستوفاة وَاسْتدلَّ لَهَا كالمنبه لَهُم إِلَيْهَا وَقصر فِي الرَّد عَلَيْهِم، فَكَانَ كَلَامه يوحي بتثبيت شبههم أَكثر من أَن يكون ردا عَلَيْهِم، وَهُوَ غفر الله لَهُ فعل ذَلِك هُنَا، عَفا الله عَنَّا وَعنهُ، وَالله تَعَالَى أعلم وَأحكم. "الْإِضَافَة للشَّيْخ مُحَمَّد بدير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا، إِذَا كَانَ الِاسْمُ الثَّانِي غَيْرَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ، أَوْ لَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ: "لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ، فَإِنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ"، فَكَانَ الرَّحْمَنُ غَيْرَ اللَّهِ، أَوِ اللَّهُ غَيْرَ الرَّحْمَنِ. فَإِن صحت رِوَايَة بن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَأْوِيلَ، وَلَا تَنَازُعَ فِيهِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَمْ أَرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ شَيْئًا أَقْرَبَ مِنَ الِاطِّرَادِ، وَلَا أَبْعَدَ مِنَ الِاسْتِكْرَاهِ، مِنْ تَأْوِيلِ بَعْضِ أَهْلِ النَّظَرِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: "أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى صُورَتِهِ فِي الْأَرْضِ". كَأَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إِنَّ آدَمَ كَانَ مِنْ طُولِهِ فِي الْجَنَّةِ كَذَا، وَمِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا، وَمِنْ نُورِهِ كَذَا، وَمَنْ طِيبِ رَائِحَتِهِ كَذَا لِمُخَالَفَةِ مَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ" يُرِيدُ فِي الْجَنَّةِ "عَلَى صُورَتِهِ" يَعْنِي فِي الدُّنْيَا. وَلَسْتُ أُحَتِّمُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا أَقْضِي بِأَنَّهُ مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، لِأَنِّي قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: "أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، لَمَّا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ قَالَ: نَخْلُقُ بَشَرًا بِصُورَتِنَا، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ أُدْمَةِ1 الْأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي وَجْهِهِ نَسَمَةَ الْحَيَاةِ"، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لَهُ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ. وَكَذَلِكَ حَدِيث بن عَبَّاسٍ "أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضَرَبَ الْحَجَرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَفَجَّرَ2، وَقَالَ: اشْرَبُوا يَا حمير"3.   1 أدمة الأَرْض: أَي بَاطِنهَا. 2 وَفِي نُسْخَة: فانجر. 3 لم نجده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فَأَوْحَى اللَّهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِلَيْهِ: "عَمَدْتَ إِلَى خَلْقٍ مِنْ خَلْقِي، خَلَقْتُهُمْ عَلَى صُورَتِي، فَشَبَّهْتَهُمْ بِالْحَمِيرِ"، فَمَا بَرِحَ حَتَّى عُوقِبَ1. هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالَّذِي عِنْدِي -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنَّ الصُّورَةَ لَيْسَتْ بِأَعْجَبَ مِنَ الْيَدَيْنِ، وَالْأَصَابِعِ، وَالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِلْفُ لِتِلْكَ، لِمَجِيئِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ مِنْ هَذِهِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِالْجَمِيعِ، وَلَا نَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِكَيْفِيَّةٍ وَلَا حَدٍّ.   1 لَعَلَّ الصَّوَاب: "عوتب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 19- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- كَانَ فِي عَمَاءٍ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَقَالَ: "كَانَ فِي عَمَاءٍ، فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ"1. قَالُوا: وَهَذَا تَحْدِيدٌ وَتَشْبِيهٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ هَذَا، مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ بِأَلْفَاظٍ تُسْتَشْنَعُ أَيْضًا، وَالنَّقَلَةُ لَهُ أَعْرَابٌ، وَوَكِيعُ بْنُ حُدُسٍ الَّذِي رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا لَا يُعْرَفُ. غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ. حَدَّثَنَا عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ اللِّحْيَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: "الْعَمَاءُ" السَّحَابُ، وَهُوَ كَمَا ذُكِرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِنْ كَانَ الْحَرْفُ مَمْدُودًا. وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا كَأَنَّهُ كَانَ فِي عَمَى، فَإِنَّهُ أَرَادَ كَانَ فِي عَمَى عَنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ، كَمَا تَقُولُ: "عَمِيتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَأَنَا أَعْمَى عَنْهُ عَمًى" إِذَا أُشْكِلَ عَلَيْكَ فَلَمْ تَعْرِفْهُ وَلَمْ تَعْرِفْ جِهَتَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَفِيَ عَلَيْكَ، فَهُوَ فِي عَمًى عَنْكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ" فَإِنَّ قَوْمًا زَادُوا فِيهِ "مَا" فَقَالُوا: "مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ"، اسْتِيحَاشًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَيَكُونَ بَيْنَهُمَا -وَالرِّوَايَةُ هِيَ الْأَوْلَى-. وَالْوَحْشَةُ لَا تَزُولُ بِزِيَادَةِ "مَا" لِأَنَّ "فَوْقَ" و"تَحت" باقيان، وَالله أعلم.   1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة 11، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 13 وَقد ورد بِلَفْظ: "كَانَ فِي عماء مَا تَحْتَهُ هَوَاء وَمَا فَوْقه هَوَاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 20- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ "سَبُّ الدَّهْرِ" قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الدَّهْرُ" 1، فَوَافَقْتُمْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، الدَّهْرِيَّةَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَقُولُ: "أَصَابَنِي الدَّهْرُ فِي مَالِي بِكَذَا" وَنَالَتْنِي قوارع الدَّهْر وبواثقه وَمَصَايِبُهُ". وَيَقُولُ الْهَرَمَ: "حَنَانِي2 الدَّهْرُ"، فَيَنْسُبُونَ كُلَّ شَيْءٍ تَجْرِي بِهِ أَقْدَارُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِمْ، مِنْ مَوْتٍ، أَوْ سَقَمٍ، أَوْ ثَكَلٍ، أَوْ هَرَمٍ، إِلَى الدَّهْرِ. وَيَقُولُونَ: لَعَنَ اللَّهُ هَذَا الدَّهْرَ، وَيُسَمُّونَهُ الْمَنُونَ، لِأَنَّهُ جَالِبُ الْمَنُونِ عَلَيْهِمْ عِنْدَهُمْ، وَالْمَنُونُ: الْمَنِيَّةُ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ3: أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَكَذَا أَنْشَدَنِيهِ الرِّيَاشِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، عَنِ بن أبي   1 أخرجه أَحْمد: 5/ 299 - 311، والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ بِنَحْوِهِ، انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان رقم 1449، وهنالك مَكَانَهُ من الصَّحِيحَيْنِ. 2 حناني الدَّهْر: أَي عطفني فانحنيت، أَي بقوارعه ومصائبه. 3 أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ: خويلد بن خالج بن محرث، من بني هُذَيْل بن مدركة من مُضر، شَاعِر فَحل مخضرم أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَسكن الْمَدِينَة واشترك فِي الْغَزْو والفتوح. قَالَ الْبَغْدَادِيّ: هُوَ أشعر هُذَيْل من غير مدافعة توفّي 27هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 طرفَة الْهُذَلِيِّ، عَنْ أَبِي ذُؤَيْبِ1. وَالنَّاسُ يَرْوُونَهُ "وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ" وَيَجْعَلُونَ الْمَنُونَ: الْمَنِيَّةَ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ"، كَأَنَّهُ قَالَ: أَمِنَ الدَّهْرِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ، أَيْ رَيْبَ الدَّهْرِ وَحَوَادِثَهُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ: "لَا أَلْقَاكَ آخِرَ الْمَنُونِ" أَيْ آخِرَ الدَّهْرِ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ نَسْبِ أَقْدَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَفْعَالِهِ إِلَى الدَّهْرِ، فَقَالَ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 2. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ إِذَا أَصَابَتْكُمُ الْمَصَايِبُ، وَلَا تَنْسُبُوهَا إِلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذَلِكَ لَا الدَّهْرُ فَإِذَا سَبَبْتُمُ الْفَاعِلَ وَقَعَ السَّبُّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ، إِذَا أَصَابَتْهُ نَائِبَةٌ، أَوْ جَائِحَةٌ فِي مَالٍ أَوْ وَلَدٍ، أَوْ بَدَنٍ، فَسَبَّ فَاعِلَ ذَلِكَ بِهِ -وَهُوَ يَنْوِي الدَّهْرَ- أَنَّ الْمَسْبُوبَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَسَأُمَثِّلُ لِهَذَا الْكَلَامِ مِثَالًا أُقَرِّبُ بِهِ عَلَيْكَ مَا تَأَوَّلْتُ، وَإِنْ كَانَ   1 قَول ابْن قُتَيْبَة عَن بَيت الشّعْر الْمَذْكُور أَنْشَدَنِيهِ الرِّيَاشِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ عَنِ أبي طرفَة الْهُذلِيّ عَن أبي ذُؤَيْب، وَكَون أبي ذُؤَيْب صحابيًا توفّي سنة 27هـ، والأصمعي من الطَّبَقَة التَّاسِعَة ولد حوالي سنة 126، وَتُوفِّي سنة 216 عَن تسعين سنة فَيجب أَن يكون أَبُو طرفَة لَهُ سَماع وأهلية للتحمل قبل سنة 27هـ، وَأَن يكون مَاتَ بعد أَن صَار الْأَصْمَعِي أَهلا للتحمل وَالسَّمَاع وَذَلِكَ قريب من سنة 140هـ، وَيكون مولد أبي طرفَة حوالي 10هـ، وَفِي هَذَا نظر على أَنِّي لم أعثر لأبي طرفَة الْهُذلِيّ على تَرْجَمَة، إِنَّمَا التَّرْجَمَة لأبي طريف الْهُذلِيّ وَهُوَ من الطَّبَقَة الثَّالِثَة مِمَّا يؤكذ انْقِطَاع طَوِيل بَينه وَبَين الْأَصْمَعِي إِذا كَانَ هُوَ الْمَقْصُود، فَهَذَا تحفظ على سِيَاق هَذَا السَّنَد. "الشَّيْخ مُحَمَّد بدير". 2 الْآيَة: 24 من سُورَة الجاثية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 -بِحَمْد اللَّهِ تَعَالَى قَرِيبًا- كَأَنَّ رَجُلًا يُسَمَّى "زَيْدًا" أَمَرَ عَبْدًا لَهُ يُسَمَّى "فَتْحًا" أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَسَبَّ النَّاسُ فَتْحًا، وَلَعَنُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ قَائِلٌ: "لَا تَسُبُّوا فَتْحًا، فَإِنَّ زَيْدًا هُوَ فَتْحٌ". يُرِيدُ أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْقَاتِلُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْقَاتِلَ زَيْدٌ، لَا فَتْحٌ. وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ تَكُونُ فِيهِ الْمَصَايِبُ وَالنَّوَازِلُ، وَهِيَ بِأَقْدَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسُبُّ النَّاسُ الدَّهْرَ، لِكَوْنِ تِلْكَ الْمَصَايِبِ وَالنَّوَازِلَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ صُنْعٌ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 21- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ أَبِي ذَرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" 1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: مَنْ أَتَانِي مُسْرِعًا بِالطَّاعَةِ، أَتَيْتُهُ بِالثَّوَابِ أَسْرَعَ مِنْ إِتْيَانِهِ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِالْمَشْيِ وَبِالْهَرْوَلَةِ. كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ مُوضِعٌ فِي الضَّلَالِ -وَالْإِيضَاعُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ- لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَسِيرُ ذَلِكَ السَّيْرَ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَى الضَّلَالِ، فَكَنَّى بِالْوَضْعِ عَنِ الْإِسْرَاعِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} 2، وَالسَّعْيُ: الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، وَلَيْسَ يُرَادُ أَنَّهُمْ مَشَوْا دَائِمًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ: أَنَّهُمْ أَسْرَعُوا بِنِيَّاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالله أعلم.   1 البُخَارِيّ: تَوْحِيد 15، 50، وَمُسلم: ذكر 20، 21، 22، تَوْبَة: 1، التِّرْمِذِيّ: دعوات 131، وَابْن ماجة: أدب 58، وَأحمد: 2/ 413 - 435 - 480 - 482 - 509 - 524 - 534، 3/ 40 - 122 - 130 - 373، 5/ 153 - 155 - 169 - 351. 2 الْآيَة: 51 من سُورَة الْحَج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 22- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْكِتَابُ- احْتِجَابُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَأَمَرَهُمَا بِالِاحْتِجَابِ، فَقَالَتَا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَعْمَى"، فَقَالَ: "أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا ". وَالنَّاسُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ يَنْظُرْنَ إِلَى الرِّجَالِ إِذَا اسْتَتَرْنَ، وَقَدْ كُنَّ يَخْرُجْنَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَيُصَلِّينَ مَعَ الرِّجَالِ. وَقُلْتُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 2، إِنَّهُ الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاحْتِجَابِ؛ إِذَا أَمَرَنَا أَنْ لَا نُكَلِّمَهُنَّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَقَالَ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 3. وَسَوَاءٌ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَكُونَانِ عَاصِيَيْنِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُنَّ أَيْضًا عَاصِيَاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى، إِذَا أَذِنَ لَهُمَا فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ. وَهَذِهِ خَاصَّةٌ لِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا خُصِصْنَ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ عَلَى جَمِيع الْمُسلمين.   1 أَبُو دَاوُد لِبَاس 34، وَالتِّرْمِذِيّ: أدب 29، وَأحمد 6/ 296. 2 الْآيَة: 31 من سُورَة النُّور. 3 الْآيَة: 35 من سُورَة الْأَحْزَاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فَإِذَا خَرَجْنَ عَنْ مَنَازِلِهِنَّ -لِحَجٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوضِ أَوِ الْحَوَائِجِ، الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ لَهَا- زَالَ فَرْضُ الْحِجَابِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ حِينَئِذٍ دَاخل؛ فيحجب أَنْ يَحْتَجِبْنَ مِنْهُ، إِذَا كُنَّ فِي السَّفَرِ بَارِزَاتٍ، وَكَانَ الْفَرْضُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْمَنَازِلِ، الَّتِي هن بهَا نازلات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 23- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ"1. يُرِيدُ: الْعَبْدَ يَشْتَرِيهِ مُشْتَرِيهِ، فَيَسْتَغِلُّهُ حِينًا، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَى عَيْبٍ بِهِ، فَيَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ، أَنَّهُ لَا يَرُدُّ مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ، وَهُوَ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَلَوْ مَاتَ، مَاتَ مِنْ مَالِهِ. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَرَدَ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ" 2. قَالُوا: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ لَبَنِهَا غَلَّةٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَا ضَامِنًا، لَوْ مَاتَتِ الشَّاةُ مَاتَتْ مِنْ مَالِهِ؛ فَهُوَ وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا بَيِّنًا؛ لِأَنَّ الْمُصراة3 من   1 أخرجه أَبُو دَاوُد: بُيُوع 71، وَالتِّرْمِذِيّ: بُيُوع 53، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 15، وَابْن ماجة: تِجَارَات 43، وَأحمد: 6/ 49 - 208 - 237. 2 أخرجه البُخَارِيّ: بُيُوع 65، وَمُسلم: بُيُوع 23 - 26 - 28، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع 43، وَالتِّرْمِذِيّ: بُيُوع 29، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 14، وَابْن ماجة: تِجَارَات 43، والدارمي: بُيُوع 19، وَأحمد 3/ 248 - 259 - 273 - 317- 386 -394 - 406 - 410 - 417 - 420 - 430 - 463 - 469- 481 - 507، 4/ 314، وجامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 21322 و21333. 3 وأصل التصرية: حبس المَاء، والمصراة من الْبَهَائِم: هِيَ الَّتِي حبس لَبنهَا لتبدو للْمُشْتَرِي غزيرة اللَّبن كَمَا ذكر الْمُؤلف رَحمَه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الشَّاة وَالْمُحَفَّلَةَ، شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهِيَ الَّتِي جُمِّعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا، فَلَمْ تُحْلَبْ أَيَّامًا، حَتَّى عَظُمَ الضَّرْعُ، لِاجْتِمَاعِ اللَّبَنِ فِيهِ. فَإِذَا اشْتَرَاهَا مُشْتَرٍ، وَاحْتَلَبَ مَا فِي ضَرْعِهَا، اسْتَوْعَبَهُ فِي حَلْبَةٍ أَوْ حَلْبَتَيْنِ. فَإِذَا انْقَطَعَ اللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَظَهَرَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُحَفَّلَةً، رَدَّهَا وَرَدَ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، لِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي ضَرْعِهَا، كَانَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لَا فِي مِلْكِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ1. وَالْعَبْدُ إِذَا بِيعَ وَبِهِ عَيْبٌ -وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى ذَلِكَ الْعَيْبِ- لَا يُبَاعُ وَمَعَهُ غَلَّةٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْغَلَّةُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَجِبُ أَنْ يرد عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْئا.   1 تَعْلِيل ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله فِي رد الْمُصراة وَمَعَهَا صَاع منتمر، ورد العَبْد بِالْعَيْبِ مَعَ حبس غَلَّته بِأَن اللَّبن الَّذِي كَانَ فِي الضَّرع حصل فِي ملك البَائِع. كَلَامه هَذَا غير وَاضح لِأَن الْمُصراة اشترها المُشْتَرِي من مَالِكهَا، فَوَقَعت الضفقة عَلَيْهَا وعَلى لَبنهَا المتجمع فِي الضَّرع، فاللبن من حَقه لِأَنَّهُ دَاخل فِي الضفقة وَهُوَ الْمَقْصُود فِي البيع أَرَادَ البَائِع بتجميعه بيعهَا وترويجها، وَأَرَادَ المُشْتَرِي شِرَاء الشَّاة من أجل كَثْرَة لَبنهَا وَكبر ضرْعهَا، فاللبن مَقْصُود فِي البيع لكل مِنْهُمَا، وعندما اكتشف المُشْتَرِي أَنَّهَا كَانَت مصراة وَأَن حَقِيقَتهَا لَيست كَمَا كَانَ ظَاهرهَا، فَإِن الشَّارِع أعطَاهُ مهلة ثَلَاثَة أَيَّام يختبر حَقِيقَة درها ويحتلبها وحلابها فِي الثَّلَاثَة أَيَّام هُوَ مُقَابل الضَّمَان كغلة العَبْد سَوَاء، فَإِذا استبان لَهُ أَنَّهَا كَانَت مصراة وأنلبنها قَلِيل وعزم على ردهَا، فَإِنَّهُ يردهَا بِغَيْر اللَّبن الَّذِي كَانَ فِيهَا وَوَقعت عَلَيْهِ الصَّفْقَة وَعَلِيهِ فَرده لَهَا بِدُونِهِ بخس. فَجعل الشَّارِع عوضه صَاع تمر؛ وَذَلِكَ لِأَن الْخِيَار محدد بِثَلَاثَة أَيَّام، وَلَو لم تكن مُدَّة الْخِيَار محددة بِثَلَاثَة أَيَّام لوسع المُشْتَرِي أَن يحبس لَبنهَا أَيَّامًا فَتكون كَمَا كَانَت مصراة ويردها كَمَا أَخذهَا، وَلَكِن ذَلِك يفوت مُدَّة الْخِيَار، فَلَزِمَ دفع الْبَدَل عَن اللَّبن الَّذِي هُوَ جُزْء من صَفْقَة البيع. أما كَون الْخراج بِالضَّمَانِ فَلم يتعارض مَعَ خبر الْمُصراة؛ لِأَن المُشْتَرِي فعلا احتلبها ثَلَاثَة أَيَّام وَأخذ غَلَّتهَا الَّتِي هِيَ بِمَثَابَة خراجها مُقَابل الضَّمَان وَلَكِن اللَّبن الأول الْمَجْمُوع لم يكن من غَلَّتهَا الْمُعْتَادَة بل هُوَ غلَّة أَيَّام مَجْمُوعَة، فَكَانَ الْقيَاس إِمَّا أنيردها مصراة كَمَا كَانَت وَهَذَا يَقْتَضِي حَبسهَا أَيَّامًا أُخْرَى، ويفضي إِلَى مشاكل ونزاعات من نوع آخر ويخول للْبَائِع أَن يَدعِي عجفها أَو مَرضهَا بِسَبَب سوء الرِّعَايَة، وَأَن قلَّة الدّرّ حصل بِسَبَب المُشْتَرِي لإهمالها، فَكَانَ لَا بُد من حسم مَادَّة النزاع فِي وَقت لَا يخول للْبَائِع ادِّعَاء سَبَب آخر، وَهَذَا وَالله أعلم هُوَ وَجه الْقَضِيَّة وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى. "الشَّيْخ مُحَمَّد مُحَمَّد بدير" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 24- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- الشُّفْعَةُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ سَمِعَ أَبَا رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ" 1. وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَارُ الدَّارِ، أَحَقُّ بِدَارِ الْجَارِ، أَوِ الْأَرْضِ" 2. ثُمَّ رَوَيْتُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ"3. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَابِرًا سَمِعَ مَا قَالَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: "إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ"، فَهُوَ حُكْمٌ مِنْهُ، وَظَنٌّ مِنْهُ، أَوْ سَمَاعٌ مِنْ رَجُلٍ عَنْهُ. وَالْحَدِيثَانِ الْأَوَّلَانِ مُتَّصِلَانِ، وَعَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا يرجعان إِلَى تَأْوِيل وَاحِد.   1 أخرجه البُخَارِيّ: شُفْعَة 2، حيل 14 - 15، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع 73، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 109، وَابْن ماجة: شُفْعَة 2، وَأحمد 6/ 10 - 390. 2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: أَحْكَام 31 - 33، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع 73، وَأحمد: 4/ 388 - 390، 5/ 8 - 12 - 13 - 18. 3 أخرجه البُخَارِيّ: شركَة 8- 9، حيل 14، والدارمي: بُيُوع 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَعْنَاهُ: الْجَارُّ أَحَقُّ بملاصقه1 من دَار جَاره. و"الصقب" الدُّنُوُّ بِالْمُلَاصَقَةِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: كُوفِيَّةٌ نَازِحٌ2 مَحِلَّتُهَا ... لَا أَمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: "لَا أَمَمٌ دَارُهَا" أَيْ: لَا قَرِيبٌ، "وَلَا صقب" أَي: لَا مُلَاصَقَةٌ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: "إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، فَلَا شُفْعَةَ". كَأَنَّ رَبْعًا فِيهِ مَنَازِلُ، وَهُوَ لِأَقْوَامٍ عَشَرَةٍ مُشْتَرِكِينَ فِيهِ، فَإِنْ بَاعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حِصَّةً مِنْ تِلْكَ الْمَنَازِلِ، كَانَتِ الشُّفْعَةُ لِجَمِيعِهِمْ فِي الْحِصَّةِ وَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُسْعُهَا، فَإِنْ قُسِّمَتْ تِلْكَ الْمَنَازِلُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَبِيعَ مَنْزِلَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ شُفْعَةٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِجَارِهِ الْمُلَاصِقِ لَهُ. فَدَلَّنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ إِذَا وَقَعَتْ، زَالَ حكم الْمشَاع.   1 وَفِي نُسْخَة: بِمَا لَا صقه، وَلَعَلَّ هَذَا أصح. 2 نازح: أَي بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 - 25- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الْإِنَاءِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ، وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ" 1. قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، سُمٌّ وَشِفَاءٌ؟ وَكَيْفَ يَعْلَمُ الذُّبَابُ بِمَوْضِعِ السُّمِّ، فَيُقَدِّمُهُ، وَبِمَوْضِعِ الشِّفَاءِ فَيُؤَخِّرُهُ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. حَدثنَا أَبُو الْخطاب: حَدثنَا أَبُو عَتَّابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ قَالَ: وَقَعَ ذُبَابٌ فِي إِنَاءٍ، فَقَالَ أَنَسٌ2 بِأُصْبُعِهِ، فَغَمَزَهُ فِي الْمَاءِ، وَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ"، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ إِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَقَالَ: "فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمٌّ، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءٌ ". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ حَمَلَ أَمْرَ الدِّينِ عَلَى مَا شَاهَدَ، فَجَعَلَ الْبَهِيمَةَ لَا تَقُولُ، وَالطَّائِرَ لَا يُسَبِّحُ، وَالْبُقْعَةَ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ لَا تَشْكُو إِلَى أُخْتِهَا، وَالذُّبَابَ لَا يَعْلَمُ مَوْضِعَ السُّمِّ وَمَوْضِعَ الشِّفَاءِ، وَاعْتَرَضَ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، مِمَّا لَا يَفْهَمُهُ، فَقَالَ: "كَيْفَ يَكُونُ قِيرَاطٌ مثل أحد؟ "   1 سبق تَخْرِيجه صفحة: 55. 2 قَالَ فِي النِّهَايَة: الْعَرَب تجْعَل القَوْل عبارَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال وتطلقه على غير الْكَلَام؛ فَتَقول "قَالَ بِيَدِهِ" أَي أَخذ، و"قَالَ بِرجلِهِ" أَي مَشى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 و"كَيفَ يتَكَلَّم بَيت الْمُقَدّس؟ " و"كَيفَ يَأْكُلُ الشَّيْطَانُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ؟ " و"أَي شمال لَهُ؟ " و"كَيفَ لَقِيَ آدَمُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، حَتَّى تَنَازَعَا فِي الْقدر، وَبَينهمَا أحقاب؟ " و"وَأَيْنَ تَنَازَعَا؟ 1" فَإِنَّهُ مُنْسَلِخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، مُعَطِّلٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَعِدُّ2 بِمِثْلِ هَذَا وَشِبْهِهِ، مِنَ الْقَوْلِ وَاللَّغْوِ وَالْجِدَالِ، وَدَفْعِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ -مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ مِنْ صَحَابَتِهِ وَالتَّابِعُونَ. وَمَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ كَمَنْ كَذَّبَ بِهِ كُلِّهِ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى دِينٍ لَا يُؤْمِنُ فِيهِ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ، لَمْ يَجِدْ مُنْتَقَلًا؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالصَّابِئِينَ وَالْوَثَنِيَّةَ، يُؤْمِنُونَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا قوم مِنَ الدَّهْرِيَّةِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَهْمِيَّةِ. "وَبَعْدُ" فَمَا3 يُنْكَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الذُّبَابِ سُمٌّ وَشِفَاءٌ، إِذَا نَحْنُ تَرَكْنَا طَرِيقَ الدِّيَانَةِ، وَرَجَعْنَا4 إِلَى الْفَلْسَفَةِ؟ وَهَلِ الذُّبَابُ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَيَّةِ؟ فَإِنَّ الْأَطِبَّاءَ يَذْكُرُونَ أَنَّ لَحْمَهَا شِفَاءٌ مِنْ سُمِّهَا، إِذَا عُمِلَ مِنْهُ التِّرْيَاقُ الْأَكْبَرُ، وَنَافِعٌ مِنْ لَدْغِ الْعَقَارِبِ وَعَضِّ الْكِلَابِ الْكَلِبَةِ، وَالْحُمَّى الرِّبْعِ5، وَالْفَالِجِ وَاللَّقْوَةِ6، وَالِارْتِعَاشِ وَالصَّرَعِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْعَقْرَبِ: إِنَّهَا إِذَا شُقَّ بَطْنُهَا، ثُمَّ شُدَّتْ عَلَى مَوْضِعِ اللَّسْعَةِ، نَفَعت.   1 فِي نُسْخَة: وَأَيْنَ تلاقيا. 2 لَعَلَّ الصَّوَاب: يسْتَتر. 3 "مَا" استفهامية، و"يُنكر" بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول، وَفِي نُسْخَة "نكر" بالنُّون". 4 فِي نُسْخَة: "ودفعنا". 5 وَهِي الَّتِي تَجِيء فِي الرَّابِع من الْأَيَّام، فتأخذ يَوْمًا وَتَدَع يَوْمَيْنِ ثمَّ تَجِيء فِي الرَّابِع. 6 اللقوة: دَاء فِي الْوَجْه، يشل بعض عضلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وَإِذَا أُحْرِقَتْ، فَصَارَتْ رَمَادًا، ثُمَّ سُقِيَ مِنْهَا مَنْ بِهِ الْحَصَاةُ، نَفَعَتْهُ. وَرُبَّمَا لَسَعَتِ الْمَفْلُوجَ، فَأَفَاقَ. وَتُلْقَى فِي الدُّهْنِ حِينًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الدُّهْنُ مُفَرِّقًا لِلْأَوْرَامِ الْغَلِيظَةِ. وَالْأَطِبَّاءُ الْقُدَمَاءُ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الذُّبَابَ إِذَا أُلْقِيَ فِي الْإِثْمِدِ1، وَسُحِقَ مَعَهُ، ثُمَّ اكْتُحِلَ بِهِ زَادَ ذَلِكَ فِي نُورِ الْبَصَرِ، وَشَدَّ مَرَاكِزَ الشَّعْرِ مِنَ الْأَجْفَانِ، فِي حَافَّاتِ الْجُفُونِ. وَحَكَوْا عَنْ صَاحِبِ الْمَنْطِقِ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْأُمَمِ، كَانُوا يَأْكُلُونَ الذُّبَابَ فَلَا يَرْمَدُونَ. وَقَالُوا فِي الذُّبَابِ: إِذَا شُدِخَ، وَوُضِعَ عَلَى مَوْضِعِ لَسْعَةِ الْعَقْرَبِ، سَكَنَ الْوَجَعُ. وَقَالُوا: مَنْ عَضَّهُ الْكَلْبُ، احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَسْتُرَ وَجْهَهُ مِنْ سُقُوطِ الذُّبَابِ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَقْتُلَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طبيعة شِفَاء فِيهِ أَوْ سُمٍّ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَيْفَ تَكُونُ الْبَهَائِمُ وَالْحَشَرَاتُ لَا تَفْهَمُ إِذَا نَحْنُ تَرَكْنَا طَرِيقَ الدِّيَانَةِ، وَقُلْنَا بِالْفَلْسَفَةِ، وَبِمَا يُلْحِقُهُ الْعِيَانُ، وَنَحْنُ نَرَى الذَّرَّةَ تَدَّخِرُ فِي الصَّيْفِ لِلشِّتَاءِ، فَإِذَا خَافَتِ الْعَفَنَ عَلَى مَا ادَّخَرَتْ مِنَ الْحَبِّ، أَخْرَجَتْهُ إِلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ، فَنَشَرَتْهُ لَيْلًا فِي الْقَمَرِ، وَإِذَا خَافَتْ نَبَاتَ الْحَبِّ، نَقَرَتْ2 وَسَطَ الْحَبَّةِ، لِئَلَّا تَنْبُتَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَيْسَ شَيْءٌ يَدَّخِرُ إِلَّا الْإِنْسَان، والنملة والفأرة3.   1 الإثمد: حجر للكحل. 2 كَذَا بنسختين بالنُّون، وَفِي نُسْخَة: "بفرت" بِالْمُوَحَّدَةِ، وَمعنى "النقر" بالنُّون: النكت، وَمعنى: "الْبَقر" الشق. 3 تكلم ابْن قُتَيْبَة فِي رد شُبْهَة المعترضين على حَدِيث وُقُوع الذُّبَاب فِي الشَّرَاب وغمسه من نَاحيَة الشَّرْع فَأحْسن، وَمن نَاحيَة الفلسفة أَو الْوَاقِع أَو الْمُشَاهدَة وَضرب أَمْثِلَة كَثِيرَة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَهَذِهِ الْغِرْبَانُ، لَا تَقْرَبُ نَخْلَةٌ1، مُوقَرَةٌ فَإِذَا صُرِمَتِ النَّخْلَةُ سَقَطَتْ عَلَيْهَا، فَلَقَطَتْ مَا فِي الْقُلْبَةِ2، يَعْنِي: الْكَرْبَ. وَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ: إِذَا نَهَشَتِ الْإِبِلَ حَيَّةٌ أَكَلَتِ السَّرَاطِينَ. وَقَالَ بن مَاسَوَيْهِ: فَلِذَلِكَ نَظُنُّ السُّرَاطِينَ، صَالِحَةً لِلْمَنْهُوشِينَ. قَالُوا: وَالسُّلَحْفَاةُ، إِذَا أَكَلَتْ أَفْعَى أكلت سعترًا جبليًا.   = من ذَلِك على أَن بعض الدَّوَابّ والحشرات لَهَا شَيْء من الْفَهم، فَلَا يُنكر أَن يكون للذباب نوع تَمْيِيز بَين مَا تحمل من السم والشفاء، فَتقدم السم أَولا. وأضيف إِلَى هَذَا من الدرسات الحديثة على سلوكيات الحشرات كَمَا درسوها لنا فِي الجامعة قسم الحشرات، أَن كثيرا من الْحَيَوَانَات الْحَيَّة وَمِنْهَا الحشرات عِنْدهَا سلوكيات فطرية يسمونها فِي علم الْحَيَوَان بالغزائر .... وَهِي تَصَرُّفَات فطرية يعملها الْحَيَوَان بِدُونِ تَعْلِيم، لِأَنَّهَا مغروسة فِي فطرته وَلَا يملك التخلي عَنْهَا. وَهِي مَأْخُوذَة من الْمُشَاهدَة فعلا، فَلَو نظرت إِلَى أَوْلَاد القطة الصغار العميان إِذا بَال أحدهم ترَاهُ يتَنَحَّى عَن مَوضِع الْبَوْل أَو الْغَائِط بِقَلِيل جدا ويحفر من الأَرْض ليغطي بَوْله أَو برازه ثمَّ يلْتَفت فيشم الْموضع فَإِذا كَانَت الرَّائِحَة انْقَطَعت توقف، وَإِلَّا عَاد يحْفر ويردم. وَلَقَد رَأَيْته بنفسي يفعل ذَلِك على أَرض صلبة مبلطة، فيحفر بِرجلِهِ وطبعًا لَا يخرج مَعَه شَيْء ثمَّ يستدير فيشم الرَّائِحَة ثمَّ يعود فيحفر ويكرر ذَلِك وقتا طَويلا؛ لِأَن الرَّائِحَة لَا تَنْقَطِع لعدم وجود تُرَاب يغطيها، هَذَا كُله وَهُوَ أعمى لَا يُمكن أَن تكون عَلمته أمه. وَفِي الحشرات تتجلى ظَاهِرَة الغرائز الفطرية بِصُورَة وَاضِحَة، فحشرة كالصرصور مثلا لَو ألقِي عَلَيْهَا شَيْء من الدَّقِيق تقوم بعملية التَّنْظِيف وَلها قرنان وَثَلَاثَة أَزوَاج من الأرجل فتتبع نظامًا ثَابتا موحدًا فِي جَمِيع الْجِنْس لَا يتَغَيَّر، فتبدأ بتنظيف قرن معِين الْيَمين مثلا، ثمَّ تنظف الآخر تبدأ بِرَجُل مُعينَة ثمَّ بِرَجُل من النَّاحِيَة الْأُخْرَى، ثمَّ تعود فتنظف رجلا من الْجِهَة الْمُقَابلَة. وَيتبع الصرصور نفس التَّرْتِيب لَا يُخَالِفهُ أبدا. وَلَو وَقع التُّرَاب أَو الدَّقِيق على جَانب وَاحِد من جِسْمه وَأَرَادَ تنظيفه فَلَا بُد من اتِّبَاع تَرْتِيب تنظيف كل الْجِسْم بِنَفس التَّرْتِيب كل عُضْو فِي ترتيبه وَلَو كَانَ نظيفًا. وَهَذَا عَام فِي كل جنس الصراصير لَا يُخَالف وَاحِد مِنْهَا، ويستحيل أَن تكون تعلمت هَذَا من معلم يوحد صبغتها فِي عُمُوم الْجِنْس مَعَ كثرته وشيوعه. أفيبعد أَن تكون الذبابة قد غرس فِي فطرتها تَقْدِيم الدَّاء عِنْد الْخطر وَتَأْخِير الشِّفَاء؟ بل هَذَا أَمر عادي كَغَيْرِهِ مَعْلُوم بِالْمُشَاهَدَةِ. "الشَّيْخ مُحَمَّد مُحَمَّد بدير" 1 موقرة: من الوقر "بِكَسْر الْوَاو": الْحمل الثقيل. الْقَامُوس الْمُحِيط ص635. 2 القلبة: شحمة النّخل أَو أَجود خوصها، كَمَا فِي الْقَامُوس الْمُحِيط ص163. وَالْكرب: مايتلقط من التَّمْر فِي أصُول السعف، كَمَا فِي الْقَامُوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وَابْنُ عُرْسٍ1 إِذَا قَاتَلَ الْحَيَّةَ أَكَلَ السَّذَابَ2. وَالْكِلَابُ إِذَا كَانَ فِي أَجْوَافِهَا دُودٌ، أَكَلَتْ سُنْبُلَ الْقَمْحِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَأَرَى هَذِهِ عَلَى مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ، تُفْهَمُ وَتُحْسِنُ الطِّبَّ أَيْضًا، وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الذُّبَابِ بِالسُّمِّ وَالشِّفَاءِ فِي جَنَاحَيْهِ. وَكَيْفَ لَا يَعْجَبُونَ مِنْ حَجَرٍ يَجْذِبُ الْحَدِيدَ مِنْ بُعْدٍ وَيُطِيعُهُ، حَتَّى يَذْهَبَ بِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا بِذَهَابِهِ، وَهَذَا حَجَرُ المغناطيس. وَكَيف صدقُوا بقول أرسطاطا لَيْسَ فِي حَجَرِ السِّنْفِيلِ أَنَّهُ إِذَا رُبِطَ عَلَى بَطْنِ صَاحِبِ الِاسْتِسْقَاءِ نَشَّفَ مِنْهُ الْمَاءَ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُوزَنُ بَعْدَ أَنْ يُشَدَّ عَلَى بَطْنِهِ، فَيُوجَدَ قَدْ زَادَ فِي وَزْنِهِ. وَذَاكَرْتُ أَيُّوبَ الْمُتَطَبِّبَ بِهَذَا، أَوْ حُنَيْنًا، فَعَرَفَهُ وَقَالَ: هَذَا الْحَجَرُ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ قَالَ فِي غَيْرِهَا، مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِقَوْلِهِ فِي حَجَرٍ يَسْبَحُ فِي الْخَلِّ كَأَنَّهُ سَمَكَةٌ -وَخَرَزَةٍ تَصِيرُ فِي حَقْوِ الْمَرْأَةِ فَلَا تَحْبَلُ- وَحَجَرٍ يُوضَعُ عَلَى حَرْفِ التَّنُّورِ، فَيَتَسَاقَطُ خُبْزُ التَّنُّورِ كُلُّهُ، وَحَجَرٍ يَقْبِضُ عَلَيْهِ الْقَابِضُ بِكَفَّيْهِ، فَيُلْقِي كُلَّ شَيْءٍ فِي جَوْفِهِ، وَبِالصَّعِيدِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ شَجَرَةٌ تُعْرَفُ بِالسَّنْطَةِ يُشْهُرُ عَلَيْهَا السَّيْفُ، وَتُتَوَعَّدُ بِالْقَطْعِ فَتَذْبُلُ. وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ لَنَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا، إِنِّي اسْتَوْدَعْتُ هَذَا وَدِيعَةً، فَأَبَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيَّ. فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: رد على الرجل وديعته.   1 ابْن عرس: دويبة أشتر أصلم أسك؛ وَجمعه: بَنَات عرس. الْقَامُوس. 2 السذاب: الفيجن وَهُوَ بقل مَعْرُوف، الْقَامُوس الْمُحِيط ص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ، إِنَّهُ حَجَرٌ، إِذَا رَأَتْهُ الْحُبْلَى أَلْقَتْ وَلَدهَا، وَإِذا وَقع فِي الْحل غَلِيَ، وَإِذَا وُضِعَ فِي التَّنُّورِ بَرَدَ. فَسَكَتَ شُرَيْحٌ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، حَتَّى قَامَا. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ -رَحِمَكَ اللَّهُ- لَا يَضْبُطُهَا وَهْمٌ، وَلَا يُعْرَفُ أَكْثَرُهَا بِقِيَاسٍ. وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مِثْلَ هَذَا مِنْ عَجَائِبِ الْخلق لكثر وَطَالَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 26- قَالُوا: حَدِيثٌ يَحْتَجُّ بِهِ الرَّوَافِضُ فِي إكفار أَصْحَاب محد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَقْوَامٌ، ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي ". فَيُقَالُ لِي: "إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ" 1. قَالُوا: وَهَذِهِ حُجَّةٌ لِلرَّوَافِضِ فِي إِكْفَارِهِمْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا عَلِيًّا2، وَأَبَا ذَرٍ، وَالْمِقْدَادَ، وَسَلْمَانَ، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَحُذَيْفَةَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوا الْحَدِيثَ، وَفَهِمُوا أَلْفَاظَهُ، لَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلَ. يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَقْوَامٌ". وَلَوْ كَانَ أَرَادَهُمْ جَمِيعًا إِلَّا مَنْ ذُكِرُوا لَقَالَ: "لَتَرِدُنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ، ثُمَّ لَتَخْتَلِجُنَّ دُونِي". أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: "أَتَانِي الْيَوْمَ أَقْوَامٌ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَأَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ"، فَإِنَّمَا يُرِيدُ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ؟ وَلَوْ أَرَادَ أَنَّهُمْ أَتَوْهُ إِلَّا نَفرا   1 سبق تَخْرِيجه صفحة: 51. 2 عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب "أَبُو الْحسن" ابْن عَم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم نَشأ فِي بَيت النَّبِي وآمن بِهِ وَهُوَ صَغِير، شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا عدا تَبُوك، فقد اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَة، وَهُوَ رَابِع الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، قتل غيلَة لَيْلَة الْجُمُعَة 17 رَمَضَان سنة 40هـ، وروى عَنهُ الحَدِيث: بنوه الْحسن وَالْحُسَيْن وَعمر وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة وَخلق كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 يَسِيرا قَالَ: أَتَانِي بَنُو تَمِيمٍ، وَأَتَانِي أَهْلُ الْكُوفَةِ"، وَلَمْ يَجِزْ أَنْ يَقُولَ "قَوْمٌ"؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا. وَيَدُلُّكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: "يَا رَبِّ، أُصَيْحَابِي" بِالتَّصْغِيرِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَقْلِيلَ الْعَدَدِ، كَمَا تَقول: "مَرَرْت بِأَبْيَات مُتَفَرِّقَة" و"مَرَرْت بِجُمَيْعَةٍ". وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَشْهَدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ، وَيَحْضُرُ مَعَهُ الْمَغَازِيَ الْمُنَافِقُ؛ لِطَلَبِ الْمَغْنَمِ، وَالرَّقِيقُ الدِّينِ، وَالْمُرْتَابُ، وَالشَّاكُّ. وَقَدِ ارْتَدَّ بَعْدَهُ أَقْوَامٌ، مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِطُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، حِينَ تَنَبَّأَ وَآمَنَ بِهِ، فَلَمَّا هُزِمَ طُلَيْحَةُ، هَرَبَ، فَأَسَرَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَثَاقٍ، فَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ غِلْمَانُ الْمَدِينَةِ يَنْخُسُونَهُ بِالْجَرِيدِ، وَيَضْرِبُونَهُ وَيَقُولُونَ: "أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، كَفَرْتَ بِاللَّهِ بَعْدَ إِيمَانِكَ؟ ". فَيَقُولُ عَدُوُّ اللَّهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ آمَنْتُ. فَلَمَّا كَلَّمَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَبِلَ مِنْهُ، وَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، وَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ رَقِيقَ الدِّينِ حَتَّى مَاتَ. وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَغَارَ عَلَى لِقَاحِ1 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَابَةِ فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: مَا جَزَيْتَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَنْتَ2 فِي بِلَادِهِ، ثُمَّ غَزَوْتَهُ؟ فَقَالَ: هُوَ مَا تَرَى. وَفِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ". وَلِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ أَشْبَاهٌ، ارْتَدُّوا حِينَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى النِّفَاقِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} 3 الْآيَةَ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَخْتَلِجُونَ دونه.   1 لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: أَي إيله. 2 أسمنت: أَي أسمنت مَا شيتك بالرعي فِي بِلَاده. 3 الْآيَة: 101 من سُورَة التَّوْبَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وَأَمَّا جَمِيعُ أَصْحَابِهِ، إِلَّا السِّتَّةَ الَّذِينَ ذُكِرُوا -فَكَيْفَ يَخْتَلِجُونَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1 إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 2. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، قَالَ: أَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، كَمْ كَانُوا فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: أَوْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي حَدَّثَنِي، أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً3. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرْضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَقْوَامٍ، وَيَحْمَدَهُمْ وَيَضْرِبَ لَهُمْ مَثَلًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا هُوَ شَرُّ الْكَافرين.   1 الْآيَة: 29 من سُورَة الْفَتْح. 2 الْآيَة: 18 من سُورَة الْفَتْح. 3 أخرجه البُخَارِيّ: الْمَغَازِي 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 27- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي الْقَدَرِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدَرِيًّا، وَحَاجَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَجَّهُ1، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ قَدَرِيًّا، وَحَاجَّ عُمَرَ، فَحَجَّهُ عُمَرُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَخَرُّصٌ وَكَذِبٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ جَاءَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدَرِيًّا، وَلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَدَرِيًّا. حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَقِيَ مُوسَى آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ، الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَلَسْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَلَيِسَ تَجِدُ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَنَّهُ سَيُخْرِجُنِي مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَنِيهَا؟ قَالَ: بلَى، قَالَ فَخص م 2 آدَمُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ" 3. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ على أَن مُوسَى عَلَيْهِ   1 حجه: أَي غَلبه بِالْحجَّةِ. 2 خَصمه: غَلبه بِالْحجَّةِ وَالْخُصُومَة. 3 أخرجبه البُخَارِيّ: تَوْحِيد 19 - 24 - 37، أَنْبيَاء 3 رقاق 51، وَالتِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 10، قدر 3، وَابْن ماجة: زهد 37، وَأحمد 2/ 435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 السَّلَام كَانَ قَدَرِيًّا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، غَيْرَ أَنَّا نَنْسُبُ الْأَفْعَالَ إِلَى فَاعِلِيهَا، وَنَحْمَدُ الْمُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَنَلُومُ الْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَنَعْتَدُّ عَلَى الْمُذْنِبِ بِذُنُوبِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَدَرِيًّا"، فَهُوَ أَيْضًا تَحْرِيفٌ وَزِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعَا فِي الْقَدَرِ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ، فَلَمَّا عَلِمَا كَيْفَ ذَلِكَ؟ اجْتَمَعَا فِيهِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، كَمَا كَانَا لَا يَعْلَمَانِ أُمُورًا كَثِيرَةً مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَأَمْرِ التَّوْحِيدِ، حَتَّى أَعْلَمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ الْكِتَابُ وحدت السُّنَنُ، فَعَلِمَا بَعْدَ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ- ضَعِيفٌ، يَرْوِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَيَرْوِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَهَؤُلَاءِ لَا يعرف أَكْثَرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 28- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- الْحَيَاءُ شُعْبَةُ مِنَ الْإِيمَانِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" 1. قَالُوا: وَالْإِيمَانُ اكْتِسَابٌ، وَالْحَيَاءُ غَرِيزَةٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الْمَرْءِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْغَرِيزَةُ اكْتِسَابًا؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمُسْتَحْيِيَ يَنْقَطِعُ بِالْحَيَاءِ عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا يَنْقَطِعُ بِالْإِيمَانِ عَنْهَا فَكَأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْهُ، وَالْعَرَبُ تُقِيمُ الشَّيْءَ، مَقَامَ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، أَوْ شَبِيهًا بِهِ، أَوْ كَانَ سَبَبًا لَهُ. أَلَّا تَرَاهُمْ سَمَّوُا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ صَلَاةً؟ وَأَصْلُ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ. وَسَمَّوُا الدُّعَاءَ صَلَاةً؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} 2، أَيِ: ادْعُ لَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} 3، أَيْ: لَوْلَا صَلَاتُكُمْ. وَقَالَ بن عُمَرَ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا دُعِيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى وَلِيمَةٍ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا أَكَلَ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا صَلَّى، أَيْ: دَعَا. وَأَصْلُ الصَّلَاةِ: الدُّعَاءُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 4، أَي: ادْع لَهُم.   1 أخرجه البُخَارِيّ: 1/ 11، وَمُسلم 1/ 46، وَالْأَدب الْمُفْرد 190، والمقاصد 195، والدرر برقم 196، والتمييز 70، والكشف 1/ 369. 2 الْآيَة: 103 من سُورَة التَّوْبَة. 3 الْآيَة: 77من سُورَة الْفرْقَان، وَالْآيَة من بدايتها: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} . 4 الْآيَة: 103 من سُورَة التَّوْبَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1، أَيِ: ادْعُوا لَهُ، وَمَا جَاءَ فِي هَذَا كَثِيرٌ. فَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ، سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ بِهِ. وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَهِيَ تَطْهِيرُ الْمَالِ وَنَمَاؤُهُ، فَلَمَّا كَانَ النَّمَاءُ يَقَعُ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ عَنِ الْمَالِ سُمِّيَ زَكَاةً -وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ بْنَ أَبِي سُلَيْمٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ بن مَسْعُودٍ: قَالَ كَانَ آخِرُ مَا حُفِظَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ: "إِذَا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"2. يُرَادُ بِهِ أَنه من لم يستحي، وَكَانَ فَاسِقًا، رَكِبَ كُلَّ فَاحِشَةٍ، وَقَارَفَ كُلَّ قَبِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ دِينٌ، وَلَا حَيَاءٌ. أَفَمَا تَرَى أَنَّ الْحَيَاءَ قَدْ صَارَ وَالْإِيمَانُ يَعْمَلَانِ عَمَلًا وَاحِدًا، فكأنهما شَيْء وَاحِد؟!   1 الْآيَة: 56 من سُورَة الْأَحْزَاب. 2 حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ 9/ 25، وَانْظُر الدُّرَر رقم 7، وَالْأَدب الْمُفْرد 88 و190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 -29- قَالُوا: أَحَادِيثُ فِي الصَّلَاةِ مُتَنَاقِضَةٌ- إِعَادَةُ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا رَجُلَانِ لَمْ يُصَلِّيَا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِد، فَدَعَا بهَا فَجَاءَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا1. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ " قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَةٌ" 2. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ الطَّائِفِيِّ، عَنْ نُوحِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: جِئْتُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، فَجَلَسْتُ وَلَمْ أَدْخُلْ مَعَهُمْ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَلَمْ تُسْلِمْ يَا يَزِيدُ"؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَعَ النَّاسِ فِي صَلَاتِهِمْ؟ ". قُلْتُ: إِنِّي كُنْتُ صَلَّيْتُ فِي مَنْزِلِي، وَأَنَا أَحْسَبُ أَنْ قَدْ صَلَّيْتُمْ. فَقَالَ: "إِذَا جِئْتَ لِلصَّلَاةِ، فَوَجَدْتَ النَّاسَ يُصَلُّونَ، فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَة، وَهَذِه مَكْتُوبَة" 3.   1 كِنَايَة عَن الْخَوْف، والفرائض جمع فرْصَة وَهِي أوداج الْعُنُق. 2 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: صَلَاة 49، وَالنَّسَائِيّ: إِمَامَة 54، وَقَالَ الألباني: صَلَاة 97، وَأحمد: 4/ 161. 3 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 545، وَقَالَ الألباني: وَهُوَ ضَعِيف جدا. وَكَذَا أوردهُ فِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 2126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ثُمَّ رُوِّيتُمْ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى مَيْمُونَة قَالَ: أتيت بن عُمَرَ وَهُوَ عَلَى الْبَلَاطِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَقُلْتُ: أَلَا تُصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَالَ: قَدْ صَلَّيْتُ، أَوَمَا1 سَمِعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؟ ". قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ، وَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا يُوجِبُ غَيْرَ مَا يُوجِبُهُ الْآخَرُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ. أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ قَالَ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَةٌ ". يُرِيدُ: أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ نَافِلَةٌ، وَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ تَقَدَّمَتْ بِأَدَائِهَا حَتَّى كَمَلَتْ وَتَقَضَّتْ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي، فَقَالَ: "إِذَا جِئْتَ لِلصَّلَاةِ، فَوَجَدْتَ النَّاسَ يُصَلُّونَ، فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً، وَهَذِهِ مَكْتُوبَةٌ ". كَأَنَّهُ قَالَ: تَكُنْ لَكَ هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ مَعَ الْإِمَامِ نَافِلَةً، وَهَذِهِ الْأُخْرَى الَّتِي صَلَّيْتَهَا فِي بَيْتِكَ مَكْتُوبَةٌ. وَلَوْ جُعِلَ مَكَانَ2 قَوْلِهِ "هَذِهِ" وَ"تِلْكَ" مَكْتُوبَةٌ، كَانَ أَوْضَحَ لِلْمَعْنَى وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يُشْكَلُ بِقَوْلِهِ: "وَهَذِهِ" فَأَغْفَلَ بَعْضُ الرُّوَاةِ "هَذِهِ" فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ، وَذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، وَجَعَلَهُ مَكَانَ "تِلْكَ".   1 وَفِي نسختين: إِنِّي سَمِعت. 2 أَي أبدل اسْم إِشَارَة الْقَرِيب باسم إِشَارَة الْبعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وَقَدْ ذَكَرْتُ لَكَ مِثْلَ هَذَا مِنْ إِغْفَالِ النَّقَلَةِ لِلْحَرْفِ، وَالشَّيْءُ الْيَسِيرُ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ"؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُصَلُّوا فَرِيضَةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ"؛ كَأَنَّكَ صَلَّيْتَ فِي مَنْزِلِكَ الظُّهْرَ مَرَّةً، ثُمَّ صَلَّيْتَهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ صَلَّيْتَهَا مَعَ إِمَامٍ، ثُمَّ أَعَدْتَهَا مَعَ إِمَامٍ آخَرَ. فَاسْتَعْمِلْ مَا سُمِعَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَطْلَقَ فِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَيَجْعَلَهُ نَافِلَةً -وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ هَذَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ. وَمَنْ صَلَّى فِي مَنْزِلِهِ الْفَرِيضَةَ، وَصَلَّى مَعَ الْإِمَامِ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَجَعَلَهَا نَافِلَةً، لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، إِحْدَاهمَا فَرِيضَة، وَالْأُخْرَى نافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 -30- قَالُوا: أَحَادِيثُ فِي الْوُضُوءِ مُتَنَاقِضَةٌ- الْوُضُوءُ مِنَ الْجَنَابَةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ، تَوَضَّأَ وَضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ"1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ، تَوَضَّأَ، تَعْنِي وَهُوَ جُنُبٌ"2. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً"3. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ جَائِزٌ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الْجِمَاعِ ثُمَّ يَنَامُ. وَمَنْ شَاءَ غَسَلَ يَدَهُ وَذَكَرَهُ وَنَامَ. وَمَنْ شَاءَ نَامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً، غَيْرَ أَنَّ الْوُضُوءَ أَفْضَلُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ هَذَا مَرَّةً، لِيَدُلَّ عَلَى الْفَضِيلَةِ، وَهَذَا مَرَّةً لِيَدُلَّ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَيَسْتَعْمِلَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَفْضَلِ، أَخَذَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِالرُّخْصَةِ أَخذ.   1 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 16183، من جَامع الْأَحَادِيث "ق، د، ن، ح" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِلَفْظ: "كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جنب غسل فرجه وَتَوَضَّأ للصَّلَاة". 2 رَوَاهُ الدِّرَامِي: كتاب الْأَطْعِمَة 36، وَفِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 16183 وبرقم 16182. 3 رَوَاهُ ابْن ماجة: طَهَارَة 98، وَأحمد 6/ 43 و111 و171 و260 و298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 -31- قَالُوا حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- بَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ"، أَوْ قَالَ: "ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: "خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ، فَأَلْقُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى مَكَانِهِ مَاءً"2. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي هَذَا مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ حَضَرَ الْأَمْرَ وَرَآهُ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ، لَيْسَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا نَجْعَلُ قَوْلَهُ مُكَافِئًا لِقَوْلِ مَنْ حَضَرَ وَرَأَى. وَكَانَ أَبُوهُ مَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ، أَبُو عَمْرَةَ الْمُزَنِيُّ، يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ ابْنه، فَلَا نعلمهُ.   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: وضوء 58، أدب 80، طَهَارَة 136، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 112، وَأحمد: 2/ 239، 283، 503، 3/ 111. 2 رَوَاهُ ابْن ماجة: طَهَارَة 78، وَأحمد 1/ 76، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 32- قَالُوا: حَدِيثَانِ فِي الصَّوْمِ مُتَنَاقِضَانِ- الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ أُسَامَة بن زيد2، عَن بن شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صِيَامُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، كَفِطْرِهِ فِي الْحَضَرِ" 3. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِقَوْمٍ رَغِبُوا عَنْ رُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا وُهِبَ لَهُمْ مِنَ الرَّفَاهَةِ فِي السَّفَرِ، وَتَجَشَّمُوا الْمَشَقَّةَ وَالشِّدَّةَ. فَأَعَلَمَهُمْ أَنَّ إِثْمَهُمْ فِي الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ كَإِثْمِهِمْ فِي الْفِطْرِ فِي الْحَضَرِ. وَسَمَّاهُمْ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عُصَاةً، لِتَرْكِهِمْ قَبُولَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَيسر فِيهِ.   1 أخرجه البُخَارِيّ: 4/ 179 بَاب الصَّوْم فِي السّفر، وَمُسلم 2/ 789، وَأَبُو دَاوُد 2/ 793، وَالتِّرْمِذِيّ: 3/ 397، وَالنَّسَائِيّ: 4/ 158، وَابْن ماجة: 1/ 531، وَمَالك فِي الْمُوَطَّأ: 1/ 295. 2 أُسَامَة بن زيد اللَّيْث مَوْلَاهُم، يروي عَن الزُّهْرِيّ، وَهُوَ رجل صَدُوق، كَمَا قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بحَديثه بَأْس، وَقَالَ ابْن حبَان فِي الثِّقَات: يُخطئ وَهُوَ مُسْتَقِيم الْأَمر صَحِيح الْكتاب، وَمَات سنة "153هـ". 3 النَّسَائِيّ: صِيَام 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وَمَنْ رَغِبَ عَنْ يُسْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَانَ كَمَنْ قَصَّرَ فِي عَزَائِمِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَائِمِ الدَّهْرِ: "لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ" 1. وَقَالَ: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ" 2. وَأَمَّا مَنْ سَافَرَ فِي الزَّمَنِ الْبَارِدِ وَالْأَيَّامِ الْقِصَارِ، أَوْ كَانَ فِي كِنٍّ وَسَعَةٍ، وَكَانَ مَخْدُومًا، فَالصَّوْمُ عَلَيْهِ سَهْلٌ، فَذَلِكَ الَّذِي خَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصم، وَإِن شِئْت فَأفْطر ".   1 أخرجه مُسلم: فِي كتاب الصّيام 13 و36، وَأَبُو دَاوُد: فِي كتاب الصَّوْم 14 و53، وَالنَّسَائِيّ: 22 كتاب الصّيام، قَالَ أَبُو يحيى: وَهُوَ حَدِيث حسن. 2 رَوَاهُ أَحْمد: 4/ 25 و26 و214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 33- قَالُوا: حَدِيثَانِ فِي الصَّوْمِ مُتَنَاقِضَانِ- التَّقْبِيلُ فِي الصِّيَامِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ"1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ2، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الضَّبِّيِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ: "قَدْ أَفْطَرَ"3. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْقُبْلَةَ لِلصَّائِمِ تُفْسِدُ الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهَا تَبْعَثُ الشَّهْوَةَ وَتَسْتَدْعِي الْمَذْيَ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمُبَاشَرَةِ. فَأَمَّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ، وَتَقْبِيلُهُ فِي الصَّوْمِ أَهْلَهُ، كَتَقْبِيلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ، وَالْأَخِ أَخَاهُ. وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يملك إربه؟ "4.   1 أخرجه البُخَارِيّ: 30 كتاب الصَّوْم و24 بَاب الْقبْلَة للصَّائِم حَدِيث رقم 981، وَمُسلم: 13 كتاب الصَّوْم و12 بَاب بَيَان أَن الْقبْلَة فِي الصَّوْم لَيست مُحرمَة على من لم تحرّك شَهْوَته، حَدِيث رقم62. 2 أَبُو نعيم: أَحْمد بن عبد الله الْأَصْبَهَانِيّ، كَانَ من أَعْلَام الْمُحدثين، وأكابر الْحفاظ، ترك كتبا عديدة، وَتُوفِّي بأصبهان سنة 430هـ. 3 أخرجه ابْن ماجة: كتاب الصّيام رقم1686، وَفِي الزَّوَائِد: إِسْنَاده ضَعِيف، وَقَالَ الزبيرِي: حَدِيث مُنكر. 4 أخرجه البُخَارِيّ: حيض 5 صَوْم 33، وَمُسلم: حيض2، وَصِيَام 64 و66 و68، وَأَبُو دَاوُد: طَهَارَة 106 وَصَوْم 33، وَالتِّرْمِذِيّ: صَوْم 33، وَابْن ماجة: طَهَارَة 121 وَصِيَام 219، وَأحمد 6/ 40 و42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي نَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ لِقَوْلِهِ: "إِنَّ عَيْنِي تَنَامُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي" 1. وَلِذَلِكَ كَانَ يَنَامُ حَتَّى يُسْمَعَ فَخِيخُهُ2، ثُمَّ يُصَلِّي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَأَحْكَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُخَالِفُ أَحْكَامَ أُمَّتِهِ فِي غَيْرِ مَوضِع.   1 أخرجه البُخَارِيّ: تهجد 16 تراويح 1 ومناقب 24، وَمُسلم: مسافرين 125، وَأَبُو دَاوُد: طَهَارَة 79 وتطوع 26، وَالتِّرْمِذِيّ: مَوَاقِيت 208 وَفتن63، وَالنَّسَائِيّ: ليل 36، والموطأ: ليل 9، وَأحمد: 1/ 220، 217 و2/ 251. 2 فخيخه: من فخ النَّائِم يفخ فخًا وفخيخًا: غط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 34- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ النَّظَرُ- الْمِعْزَى مَالٌ رَقِيقٌ مِنَ الْجَنَّةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اسْتَوْصُوا بِالْمِعْزَى خَيْرًا، فَإِنَّهُ مَالٌ رَقِيقٌ، وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ"1. قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا يُولَدُ؟ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ مِعْزَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَقَرٌ، وَإِبِلٌ، وَحَمِيرٌ، وَخَيْلٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْمِعْزَى بِأَعْيَانِهَا فِي الْجَنَّةِ، وَكَيْفَ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ عِنْدَنَا؟ وَإِنَّمَا أَرَادَ فِي الْجَنَّةِ مِعْزَى، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ فِي الدُّنْيَا لَهَا مِثَالًا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا الضَّأْنُ وَالْإِبِلُ، وَالْخَيْلُ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا وَلَهَا فِي الْجَنَّةِ مِثَالٌ. وَإِنَّمَا تَخْلُو الْجَنَّةُ مِنَ الْخَبَائِثِ، كالقرود، والخنازير، والعقارب، والحيات.   1 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث برقم "44" ح1 من الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة و"ابْن طب عد" قَالَ "عد" فِيهِ حَمْزَة البضي كَذَّاب، وَقد ورد بِلَفْظ: "اسْتَوْصُوا بالمعزى خيرا فَإِنَّهَا مَال رَقِيق وَهُوَ من الْجنَّة وَأحب المَال إِلَى الله الضَّأْن، وَعَلَيْكُم بالبياض فَإِن الله خلق الْجنَّة بَيْضَاء فليلبسه أحياءكم وكفنوا فِيهِ مَوْتَاكُم، وَإِن دم الشَّاة الْبَيْضَاء أعظم عِنْد الله من دم السَّوْدَاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ لَحْمٌ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مِعْزَى وَضَأْنٌ. وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا طَيْرٌ يُؤْكَلُ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَعَمٌ يُؤْكَلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} 1. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: حَدثنِي أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ2 بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ3 إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيِّدُ إِدَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ، وَسَيِّدُ رَيْحَانِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَهْلِ الْجَنَّةِ الْفَاغِيَةُ"4. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "امْسَحُوا الرَّغَامَ عَنْ أُنُوفِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ" 5. يُرِيدُ: أَنَّهَا مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي خُلِقَتْ فِي الْجنَّة.   1 الْآيَة: 21 من سُورَة الْوَاقِعَة: 2 عبد الله بن بُرَيْدَة: ولد عَام 14هـ فِي الْكُوفَة وَسكن الْبَصْرَة وَولي الْقَضَاء بمرو إِلَى أَن توفّي عَام 115هـ. 3 بُرَيْدَة بن الْحصيب بن عبد الله الْأَسْلَمِيّ غزا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم 16 غَزْوَة، وَاسم بُرَيْدَة عَامر، وَبُرَيْدَة لقب، مَاتَ سنة 63هـ. 4 رَوَاهُ ابْن ماجة 2/ 1099، وَفِي الْمَقَاصِد 244، والتمييز 88، والكشف 1/ 461، والأسرار 220، وَفِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير للألباني برقم 3326 وَقَالَ فِيهِ: ضَعِيف جدا وَأوردهُ فِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 3724. 5 رَوَاهُ أَحْمد 2/ 436، وَفِي الْمُوَطَّأ: صفة النَّبِي 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 35- قَالُوا حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ مِنْ جِهَتَيْنِ- هَلْ يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ؟ قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ" 1. وَهَذَا يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ: "أَحَدُهُمَا": بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2. "وَالْآخَرُ": بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 3. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى، يَذْكُرُ أَحْوَالَ الْمَخْلُوقِ مُنْذُ كَانَ طِينًا إِلَى أَنْ يَبْعَثَهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 4. قَالُوا: وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِيهِ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْتِ والبعث، وَلَا أَنه   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: كتاب 23 بـ33 و34 و45 وَكتاب 64 بـ8، وَفِي صَحِيح مُسلم: كتاب 11 حَدِيث رقم 16 - 28، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 20 ب24 وَالتِّرْمِذِيّ كتاب 8 ب23 - 25، وَالنَّسَائِيّ: كتاب 21 ب14 و15. 2 الْآيَة: 18 من سُورَة فاطر. 3 الْآيَة: 26 من سُورَة الجاثية. 4 الْآيَة: 12 - 16 من سُورَة الْمُؤْمِنُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 يعذبه، وَلَا أَنَّهُ يُثِيبُهُ حِينَ أَجْمَلَ، وَلَا حِينَ فَصَّلَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، يَأْتِي بِالْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، وَبِالْإِشَارَةِ، وَالْإِيمَاءِ، وَيَأْتِي بِالصِّفَةِ فِي مَوْضِعٍ، وَلَا يَأْتِي بِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى حَذْفِهَا مِنْ أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ بِظُهُورِهَا فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ. وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنٌ لِلْكِتَابِ، وَدَالٌّ عَلَى مَا أُرِيدُ فِيهِ. فَمِنَ الْمَحْذُوفِ فِي كِتَابِ -اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1. وَظَاهِرُ هَذَا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ، صَامَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَإِنْ صَامَ فِي السَّفَرِ، وَعَلَى حَالِ الْمَرَضِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ: "فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ"، فَحَذَفَ "فَأَفْطَرَ". وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 2. وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ أَوِ الْقَمِلَ3 فِي رَأْسِهِ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَإِنَّمَا أَرَادَ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ: مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ. وَمِمَّا أَتَتْ فِيهِ الصِّفَةُ، وَلَمْ تَأْتِ فِي مَثَلِهِ، فَاسْتُدِلَّ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4.   1 الْآيَة: 184 من سُورَة الْبَقَرَة. 2 الْآيَة: 196 من سُورَة الْبَقَرَة. 3 وصف من قمل رَأسه: إِذا كثر عَلَيْهِ الْقمل. 4 الْآيَة: 2 من سُورَة الطَّلَاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 1. وَلَمْ يَقُلْ عَدْلَيْنِ، اقْتِصَارًا عَلَى مَا وَصَفَ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 2، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 3، وَلَمْ يَقُلْ مُؤْمِنَةٍ. وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصِفَاتُ الصَّلَوَاتِ، وَكَيْفَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَالتَّشَهُّدُ، وَكَمِ الْعَدَدُ. وَمَا فِي الْمَالِ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمِقْدَارُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، أَنَّهُ يُعَذِّبُ قَوْمًا، قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ إِذْ يَقُولُ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 4. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَضَ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّارِ، غُدُوًّا وَعَشِيًّا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} . وَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَ فِيهَا غُدُوٌّ وَلَا عَشِيٌّ، إِلَّا عَلَى مَجَازٍ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 5،يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ أَخْبَرْتُ بِهِ، فِي كِتَابِي الْمُؤَلَّفِ فِي: "تَأْوِيلِ مُشْكَلِ الْقُرْآنِ". وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ   1 الْآيَة: 282 من سُورَة الْبَقَرَة. 2 الْآيَة: 92 من سُورَة النِّسَاء. 3 الْآيَة: 3 من سُورَة المجادلة. 4 الْآيَة: 46 من سُورَة غَافِر. 5 الْآيَة: 62 من سُورَة مَرْيَم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 1. قد تَتَابَعَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ، بِنَقْلِ الثِّقَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَمِنْ ذَلِكَ، حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ2، عَنْ طَاوُسٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ" 3. وَمِنْ ذَلِكَ، حَدِيثُ شُعْبَةَ، عَنْ بَدِيلِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ" 4. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَمَاتِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ" 5، هَذَا مَعَ أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ فِي "مُنكر" و"نَكِير" وَمَسْأَلَتِهِمَا. مِنْهَا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ6 عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُجْلَسُ فِي قَبْرِهِ إِجْلَاسًا، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: "صَدَقْتَ"، فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَيَرَى مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ". "وَأَمَّا الْآخَرُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَال لَهُ: لَا   1 الْآيَة: 47 من سُورَة الطّور. 2 أَبُو الزبير: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الْأَسدي الْمَكِّيّ أَحْمد الْأَئِمَّة، مَاتَ سنة 128هـ. 3 رَوَاهُ النَّسَائِيّ: استعاذة 47، وَأحمد 6/ 200 - 201. 4 رَوَاهُ أَحْمد: 6/ 53. 5 أخرجه النَّسَائِيّ: استعاذة 47، وَأحمد 6/ 200 و201. 6 حَمَّاد بن سَلمَة بن دِينَار الْبَصْرِيّ الربعِي بِالْوَلَاءِ مفتي الْبَصْرَة، وَأحد رجال الحَدِيث وَمن النُّحَاة كَانَ حَافِظًا ثِقَة مَأْمُونا فَقِيها فصيحًا مفوهًا شَدِيدا على المبتدعة، توفّي عَام 167هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 دَريت، فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أضلاعه"1. وَهَذَا مِمَّا لَا يعمله إِلَّا نَبِيٌّ، وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ لِيَحْكِيَهُ إِلَّا وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ، أَنَّ الْمَلَكَ يَأْتِي الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ كَافِرًا، أَوْ مُنَافِقًا، فَيُقَالُ لَهُ: "مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ"، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ". فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ، وَلَا ائتليت، وَلَا اهتديت". قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ لِلْكَافِرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "كَيْفَ يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ؟ " وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، فَإِنَّا أَيْضًا نَظُنُّ أَنَّ التَّعْذِيبَ لِلْكَافِرِ بِبُكَاءِ أَهله عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ بن عَبَّاسٍ إِنَّهُ مَرَّ بِقَبْرِ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: إِنَّه ليعذب، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ كَذَلِك، فَهَذَا مَالا يُوحِشُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يُعَذَّبُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمُسْلِمَ الْمُقَصِّرَ؛ كَمَا قَالَ فِي الْمُعَذَّبِ بِالْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ، فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، إِنَّمَا هُوَ فِي أَحْكَام الدُّنْيَا.   1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي عَذَاب الْقَبْر، حَدِيث رقم 1071. 2 الْآيَة: 164 من سُورَة الْأَنْعَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطْلُبُونَ بِثَأْرِ الْقَتِيلِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ، أَوْ أَبَاهُ، أَوْ ذَا رَحِمٍ بِهِ. فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عَصَبَتِهِ، وَلَا ذَوِي الرَّحِمِ بِهِ، قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وَأُخْبِرْنَا أَيْضًا أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ رَأَى مَعَهُ ابْنَهُ: "لَا تَجْنِي عَلَيْهِ، وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ" 1. فَأَمَّا عِقَابُ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا هُوَ أَتَى، فَيَعُمُّ وَيَنَالُ الْمُسِيءَ وَالْمُحْسِنَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 2. يُرِيدُ: أَنَّهَا تَعُمُّ، فَتُصِيبُ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} 3. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" 4. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَرَّقَ أُمَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّهَا، وَفِيهِمُ الْأَطْفَالُ والبهائم، بذنوب الْبَالِغين.   1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: ديات 2 ترجل 18، وَالنَّسَائِيّ: قسَامَة 42، وَابْن ماجة: ديات 26، والدرامي: ديات 25، وَأحمد: 3/ 499، 4/ 163 - 345، 5/ 81. 2 الْآيَة: 25 من سُورَة الْأَنْفَال. 3 الْآيَة: 41 من سُورَة الرّوم. 4 رَوَاهُ البُخَارِيّ: فتن 4/ 28، ومناقب 25 وأنبياء 7، وَمُسلم: قتن 1، وَالتِّرْمِذِيّ: قتن 21 و23، وَابْن ماجة: قتن 9، والموطأ: كَلَام 22، وَأحمد 6/ 428 - 429، وَقد أَخطَأ ابْن قُتَيْبَة -رَحمَه الله- فِي جعل السائلة أم سَلمَة، وَإِنَّمَا هِيَ زَيْنَب بنت جحش، وحديثها مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي اللُّؤْلُؤ والمرجان برقم 1829، وهنالك بَيَان مَوْضِعه من الصَّحِيحَيْنِ -الِاسْتِدْرَاك من عمل الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وَأَهْلَكَ قَوْمَ عَادٍ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَثَمُودَ بِالصَّاعِقَةِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْحِجَارَةِ، وَمَسَخَ أَصْحَابَ السَّبْتِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَعَذَّبَ بِعَذَابِهِمُ الْأَطْفَالَ. وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، قَرَأَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَدَ فِي كِتَابٍ مِنْهَا: "أَنَا اللَّهُ الْحَقُودُ آخُذُ الْأَبْنَاءَ بِذُنُوبِ الْآبَاء"1.   1 هَذَا الْمِثَال يتناقض مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْأَنْعَام: 31] . وَلَا يعْتد بِمَا ورد فِي كتب الْمُتَقَدِّمين إِذا خَالَفت الْقُرْآن الْكَرِيم. نقل ابْن قُتَيْبَة عَن مَجْهُول من كتاب مَجْهُول يزْعم أَنه مِمَّا نزل من السَّمَاء فوصف الله تَعَالَى بِوَصْف نجزم يَقِينا أَنه بَاطِل وعلق عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيقِ رقم 5 بِمَا يردهُ، وَأَرَدْت تَفْصِيل ذَلِك لأهمية وخطورة مَا قَالَ. فَأَقُول: إِن مَا نَقله ابْن قُتَيْبَة واه سندًا بَاطِل يَقِينا متْنا. فَأَما عَن السَّنَد فَلَو كَانَ يعزوه إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيقه هَذَا الْمَجْهُول مَا كَانَ لَهُ وزن وَلَا اعْتِبَار لِأَنَّهُ حَدِيث مَجَاهِيل وَسَنَد مظلم لم يسم فِيهِ غير ابْن قُتَيْبَة وَحده وشيوخه وَسَنَده مَجَاهِيل. وَابْن قُتَيْبَة نَفسه مُخْتَلف فِي توثيقه من جِهَة الْحِفْظ وإتقان الرِّوَايَة، وَإِن كَانَ الْجُمْهُور على أَنه كَانَ فَاضلا دينا وَلم يكن من المتمكنين فِي رِوَايَة الحَدِيث، وَفِيه طعون من بعض الْعلمَاء. والمهم أَن هَذَا النَّقْل الَّذِي نَقله هُنَا من سقطاته المريبة كَيفَ يقبل وصف الله الْعلي الْعَظِيم الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى وَالصِّفَات الْعليا كَيفَ يقبل من مَجْهُول وصف رب الْعَالمين بِوَصْف خَبِيث مصادم لنصوص الْكتاب الْحَكِيم وَالسّنة المطهرة، الَّتِي تَنْفِي عَن رب الْعِزَّة كل شين وعيب، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَاف: 180] ، وَقَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الأسراء: 110] ، فَهَل الحقود اسْم حسن أم قَبِيح؟ وَهل يطيب لعبد أَن يُوصف بِهَذِهِ الصّفة أَو أَنه يهجر من وَصفه بهَا ويعاديه؟ ش فَكيف طَابَ لِابْنِ قُتَيْبَة أَن يقبل من مَجْهُول عَن مَجْهُول وصف رب الْعِزَّة بِهَذَا الشين الْعَظِيم وَالْفُحْش الْبَالِغ وَلم يلْتَفت إِلَى نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنة المتوافرة ويعارضها بباطل أَتَى بِهِ مَجْهُول من زبالة الْكفَّار الَّذين بدلُوا كتبهمْ وَكَفرُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ؟ هَذِه وَالله سقطة عَظِيمَة لَا يقوم لَهَا الكتا كُله وَلَا كل كتبه. وَكَيف يرد إشكالات الحَدِيث واختلافه ويدافع عَن السّنة من أَرَادَ الطعْن فِيهَا ويغفل عَن هَذِه الطَّاقَة حَتَّى يسْقط هَذِه السقطة الَّتِي تدل على خفَّة قدمه فِي الرِّوَايَة لِأَنَّهَا لَا سَنَد لَهَا يقوم لَهُ وزن عِنْد النّظر وَهِي من أفحش مَا يكون من الْمعَانِي، إِلَّا أَن تكون مدسوسة فِي كِتَابه وَهُوَ مِنْهَا بَرِيء، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وروى بن عَبَّاسٍ، أَنَّ دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "يَحِقُّ لَكُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي بِذُنُوبِكُمْ أُعَذَّبُ". وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: "إِنَّ الضَّبَّ فِي جُحْرِهِ، لَيَمُوتُ هَزِلًا، بِذَنْبِ بن آدَمَ". وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُضَرَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ" 1. فَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِمُ الْجُدُوبَةُ وَالْقَحْطُ، سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْقد وَالْعِظَام   = فو الله مَا يَقُول مثلهَا تَقِيّ وَلَا ورع وَلَا ذُو علم صَحِيح. ثمَّ كَيفَ ألغى الشَّيْخ نُصُوص الْقُرْآن المتوافرة فِي عدم أَخذ الْمَرْء بجريمة غَيره، وَهِي كَثِيرَة وَقدم عَلَيْهَا هَذَا الْبُهْتَان وَهُوَ أَنه تَعَالَى يُؤَاخذ الْأَبْنَاء بذنوب الْآبَاء، فَأَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْبَقَرَة: 141] ، وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْمَائِدَة: 105] ن وَقَوله تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى .... } الْآيَة [فاطر: 18] ، وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ... } [لُقْمَان: 34] ، والآيات فِي هَذَا كَثِيرَة وَلَا يتَّفق مَعَ عدل الله تَعَالَى إِلَّا هَذَا. وَأما تَأْوِيله بِأَن اللَّهَ تَعَالَى لَهُ كُلُّ شَيْءٍ فمهما فعل لَا يكون ظلما فَهُوَ تمويه، وَلَو كَانَ فعل لَا يكون ظلما مَا حرم الله تَعَالَى الظُّلم على نَفسه وَجعله محرما بَين عباده، والمادة وَاحِدَة وَهِي الظُّلم كَمَا فِي حَدِيث أبي ذَر عِنْد مُسلم رقم 3577، وَكَيف فهم هَذَا مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ... } الْآيَة [الْبَقَرَة: 286] ، وَهل فِي وسع الْأَبْنَاء تَقْوِيم الْآبَاء الَّذِي خلو وَلم يروهم؟ وَهل جرم الْآبَاء مِمَّا اكْتسب الْأَبْنَاء؟ وَمَا حاجتنا إِلَى خرم ميزَان الْعدْل وتقويض قَوَاعِد الْحق ونصوص الدَّين بقرية شيطانية كهذه؟ وَلَقَد روى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي رمثة الصَّحَابِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ وَمَعَهُ ابْنه: "أما إِن ابْنك هَذَا لَا يجني عَلَيْك وَلَا تجني عَلَيْهِ"، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 1317. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: أَذَان 128 واستسقاء 2 وَجِهَاد 98 وأنبياء 19 وأدب 110، وَمُسلم: مَسَاجِد 294 - 295، وَأَبُو دَاوُد: صَلَاة: 216 وتر 10، وَالنَّسَائِيّ: تطبيق 27، وَابْن ماجة: إِقَامَة 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وَالْعِلْهِز1، فَنَالَ ذَلِكَ الْجَدَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَبِدُعَائِهِ عُوقِبُوا، حَتَّى شَدَّ وَشَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بُطُونِهِمُ الْحِجَارَةَ مِنَ الْجُوعِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ رَأَيْنَا بِعُيُونِنَا، مَا أَغْنَى عَنِ الْأَخْبَارِ، فَكَمْ مِنْ بَلَدٍ فِيهِ الصَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَالْأَطْفَالُ وَالصِّغَارُ، أَصَابَتْهُ الرَّجْفَةُ، فَهَلَكَ بِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُسِيءُ وَالْمُحْسِنُ، وَالطِّفْلُ وَالْكَبِيرُ كَـ"قومس"2 ومهرجان، و"قذق" و"الرّيّ"، وَمُدُنٍ كَثِيرَةٍ مِنْ مُدُنِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ. وَهَذَا شَيْءٌ يَعْرِفُهُ، كُلُّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمَنْصُورَ سَمَرَ3 ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَذَكَرَ خُلَفَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ وَسِيرَتَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، حَتَّى أَفْضَى أَمْرُهُمْ إِلَى أَبْنَائِهِمُ الْمُتْرَفِينَ، فَكَانَ هَمُّهُمْ مِنْ عَظِيمِ شَأْنِ الْمُلْكِ، وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ قَصْدَ الشَّهَوَاتِ وَإِيثَارَ4 اللَّذَّاتِ، وَالدُّخُولَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَسَاخِطِهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِاسْتِدْرَاجِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْنًا مِنْ مَكْرِهِ تَعَالَى، فَسَلَبَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى الْمُلْكَ وَالْعِزَّ، وَنَقَلَ عَنْهُمُ النِّعْمَةَ. فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ5: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَرْوَانَ، لَمَّا دَخَلَ أَرْضَ النُّوبَةِ هَارِبًا، فِيمَنِ اتَّبَعَهُ، سَأَلَ مَلِكُ النُّوبَةِ عَنْهُمْ، فَأُخْبِرَ فَرَكِبَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَكَلَّمَهُ بِكَلَامٍ عَجِيبٍ فِي هَذَا النَّحْوِ، لَا أَحْفَظُهُ، وَأَزْعَجَهُ عَنْ بَلَدِهِ.   1 العلهز: القراد الضخم، وَطَعَام من الدَّم والوبر كَانَ يتَّخذ فِي المجاعة. 2 قومس: صقع كَبِير بَين خُرَاسَان وبلاد الْجَبَل، وإقليم بالأندلس. 3 السمر: سهر اللَّيْل وَحَدِيثه، وظل الْقَمَر، والدهر "الْقَامُوس". 4 وَفِي نُسْخَة: وإتيان. 5 صَالح بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس الْهَاشِمِي الْأَمِير عَم السفاح والمنصور، ولد عَام 96هـ، وَأول من ولي مصر من قبل الْخُلَفَاء العباسيين تعقب مَرْوَان بن مُحَمَّد لما فر من الشَّام وَقَتله ببوصير سنة 132هـ، فولاه السفاح مصر ثمَّ ولاه أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور بِلَاد الشَّام، وَكَانَ شجاعًا حازمًا وَتُوفِّي بِقِنِّسْرِينَ عَام 151هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ مِنَ الْحَبْسِ بِحَضْرَتِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَيَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ. فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِإِحْضَارِهِ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْقِصَّةِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدِمْتُ أَرْضَ النُّوبَةِ1 بِأَثَاثِ سَلَمٍ لِي، فَافْتَرَشْتُهُ بِهَا، وَأَقَمْتُ ثَلَاثًا، فَأَتَانِي مَلِكُ النُّوبَةِ وَقَدْ خُبِّرَ أَمْرَنَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ طُوَالٌ، أَقْنَى2، حَسَنُ الْوَجْهِ، فَقَعَدَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَقْرَبِ الثِّيَابَ. فَقُلْتُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَقْعُدَ عَلَى ثِيَابِنَا؟ فَقَالَ: إِنِّي مَلِكٌ، وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مَلِكٍ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِعَظَمَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، إِذْ رَفَعَهُ اللَّهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ لِي: لِمَ تَشْرَبُونَ الْخُمُورَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ؟ فَقُلْتُ: اجْتَرَأَ عَلَى ذَلِكَ عبيدنا وسفهاؤنا. قَالَ: فَلم تطؤون الزَّرْعَ بِدَوَابِّكُمْ! وَالْفَسَادُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ؟ قُلْتُ: يَفْعَلُ ذَلِكَ جُهَّالُنَا. قَالَ فَلِمَ تَلْبَسُونَ الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ، وَتَسْتَعْمِلُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ؟ فَقُلْتُ: زَالَ عَنَّا الْمُلْكُ، وَقَلَّ أَنْصَارُنَا، فَانْتَصَرْنَا بِقَوْمٍ مِنَ الْعَجَمِ دَخَلُوا فِي دِينِنَا، فَلَبِسُوا ذَلِكَ عَلَى الْكُرْهِ مِنَّا. فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، وجلع يُقَلِّبُ يَدَهُ، وَيَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ.   1 النّوبَة: بِلَاد وَاسِعَة للسودان بجنوب الصَّعِيد، مِنْهَا بِلَاد الحبشي والمحدثان: عبد الصَّمد بن أَحْمد النوبي، وَهبة الله بن أَحْمد بن نوبا النوبي. "الْقَامُوس الْمُحِيط". 2 أقنى: ارْتِفَاع أَعلَى الْأنف، وَاحِد يداب وَسطه وسبوغ طرفه، أَو نتوسط القصبة، وضيق المنخرين، هُوَ أقنى، وَهِي قنواء، فِي الْفرس عيب، وف الصَّقْر والبازي مدح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ثُمَّ قَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْتَ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ اسْتَحْلَلْتُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَرَكِبْتُمْ مَا عَنْهُ نُهِيتُمْ، وَظَلَمْتُمْ فِيمَا مَلَكْتُمْ فَسَلَبَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْعِزَّ، وَأَلْبَسَكُمُ الذُّلَّ بِذُنُوبِكُمْ، وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيكُمْ نِقْمَةٌ لَمْ تَبْلُغْ نِهَايَتَهَا، وَأَخَافُ أَنْ يَحِلَّ بِكُمُ الْعَذَابُ، وَأَنْتُمْ بِبَلَدِي، فَيُصِيبُنِي مَعَكُمْ وَإِنَّمَا الضِّيَافَةُ ثَلَاثٌ، فَتَزَوَّدُوا مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، وَارْتَحِلُوا عَنْ بَلَدِي"، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يَحْفَظُ الْأَبْنَاءَ فِي الْآبَاءِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةًرَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} 1. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ -يَوْمَ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ-: اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَّةِ آبَائِهِ وَكُبَرَاءِ رِجَالِهِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ وَقَوْلُكُ الْحَقُّ: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} ، فَحَفِظْتَهُمَا لِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، فَاحْفَظِ اللَّهُمَّ نَبِيَّكَ فِي عَمِّهِ، فَقَدْ دَلَوْنَا بِهِ إِلَيْكَ، مُسْتَشْفِعِينَ وَمُسْتَغْفِرِينَ. وَقَدْ يَجُوزُ كَمَا حَفِظَ أَبْنَاءَ أَوْلِيَائِهِ لِآبَائِهِمْ، أَنْ لَا يَحْفَظَ أَبْنَاءَ أَعْدَائِهِ لِآبَائِهِمْ2، وَهُوَ الْفَعَّالُ لما يَشَاء.   1 الْآيَة: 83 من سُورَة الْكَهْف. 2 وَأما قَول ابْن قُتَيْبَة: "وَقَدْ يَجُوزُ كَمَا حَفِظَ أَبْنَاءَ أَوْلِيَائِهِ لِآبَائِهِمْ أَنْ لَا يَحْفَظَ أَبْنَاءَ أَعْدَائِهِ لِآبَائِهِمْ وَهُوَ الْفَعَّالُ لما يَشَاء"، أَقُول: حقًّا إِن الله تَعَالَى هُوَ الفعال لما يَشَاء، وَلكنه تَعَالَى لَا يفعل الظُّلم وَلَا يَلِيق بجلاله الْكَرِيم فَإِن كَانَ أَبنَاء أعدائه من الْكفَّار فيعذبهم بكفرهم وجرمهم وَإِن كَانُوا مُؤمنين فَالله تَعَالَى أجل وَأكْرم وَأَعْدل وأقسط من أنم يُؤَاخذ مُؤمنا بجريرة كَافِر وَإِلَّا فخليله ومصطفاه كِلَاهُمَا أَبوهُ كَافِر وَلَا ينالهما من كفر أبويهما شَيْء قطّ، وَكَذَا كل أحد لَا يحمل من عمل أَبِيه شَيْئا وَقد مَضَت الْآيَات فِي ذَلِك الملحوظة السَّابِقَة ص364 رقم "1"، وَمَعْلُوم أَن مجازاة الْمُحْسِنِينَ يجْرِي فِيهَا جَانب الْفضل فَيعْطى المحسن أَضْعَاف مَا يسْتَحق وَأَقل ذَلِك عشرَة أَمْثَاله إِلَى سَبْعمِائة إِلَى مَا هُوَ أَكثر وَلَا يجْرِي مضاعفة عِقَاب الْمُجْرمين وَلَا مرّة وَاحِدَة بل لَا يعاقبون إِلَّا بِمَا يُقَابل جرمهم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَتَقُولُ: "مَنْ قَالَ بِهِ فَقَدْ فَجَرَ". وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَائِشَةَ، وَتَأْوِيلٌ، وَلَا يجوز حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِظَنِّهَا. وَلَوْ كَانَتْ حَكَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فِي مُخَالَفَتِهِ، كَانَ قَوْلُهَا مَقْبُولًا. وَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ نَقَلَهُ وَحْدَهُ تُوُهِّمَ عَلَيْهِ -كَمَا قَالَتِ- الْغَلَطُ. وَلَكِنْ قَدْ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عُمَرُ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ1. فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ، وَقَدْ تَبَرَّأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الظُّلْمِ؛ إِذْ يَقُولُ: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 2. أَجَبْنَاهُمْ بِقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِبَعْضِهِمْ، مَا الظُّلْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؟ فَقَالَ: أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مَا لَيْسَ لَهُ. قُلْتُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ كل شَيْء.   = فَقَط، فافترق أَمر المجازاة بِالنِّسْبَةِ للمحسنين والمجرمين فَلَا يُقَاس أَحدهمَا على الآخر، فَلَو حفظ الله تَعَالَى أَوْلَاد الْمُحْسِنِينَ بفضله وبدعائهم فَلَا يهْلك وَلَا يعذب أَبنَاء الْكفَّار بِمُجَرَّد كفر آبَائِهِم إِلَّا أَن يستوجبوا هم الْعَذَاب بأعمالهم. أما الإهلاك فِي الدُّنْيَا بالمجاورة وشؤم الصُّحْبَة فَهَذَا يجْرِي على الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار ثمَّ يبعثون على نياتهم، كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "يَغْزُو جَيش الْكَعْبَة فَإِذا كَانُوا ببيداء من الأَرْض يخسف بأولهم وَآخرهمْ، قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله كَيفَ يخسف بأولهم وَآخرهمْ وَفِيهِمْ أسواقهم وَمن لَيْسَ مِنْهُم؟ قَالَ: يخسف بأولهم وَآخرهمْ ثمَّ يبعثون على نياتهم"، فإهلاك المحسن مَعَ المسيئين فِي الدُّنْيَا بشؤم الْمُجَاورَة لَيْسَ خَاصّا بالكفار بل هُوَ جَار على الْمُؤمنِينَ أَيْضا. -مُحَمَّد بدير-. 1 أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: هُوَ عبد الله بن قيس بن سليم، أسلم وَرجع إِلَى بِلَاده، وَقدم الْمَدِينَة بعد فتح خَيْبَر، اسْتَعْملهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعض الْيمن، وَاسْتَعْملهُ عمر على الْبَصْرَة فَافْتتحَ الأهواز ثمَّ أَصْبَهَان، وَاسْتَعْملهُ عُثْمَان على الْكُوفَة، ثمَّ كَانَ أحد الْحكمَيْنِ بصفين، ثمَّ اعتزل الْفَرِيقَيْنِ، كَانَ من عُلَمَاء الصَّحَابَة، وَكَانَ حسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ توفّي سنة 44هـ. 2 الْآيَة: 29 من سُورَة ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 36- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ النَّظَرُ- الْأَجْرُ فِي مُبَاضَعَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ أَبَا ذَرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُبَاضَعَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ: "يَلَذُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَيُؤْجَرُ؟ ". قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعْتَهُ فِي حَرَامٍ، أَلَسْتَ تَأْثَمُ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَكَذَلِكَ تُؤْجَرُ فِي وَضْعِكَ إِيَّاهُ فِي الْحَلَالِ"1. قَالُوا: وَالْوَضْعُ فِي الْحَرَامِ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَضْعُ فِي الْحَلَالِ إِبَاحَةٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ فِي الْإِبَاحَةِ؟ وَلَوْ جَازَ هَذَا، لَجَازَ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى أَكْلِ الطَّعَامِ إِذَا جَاعَ، وَعَلَى شُرْبِ الْمَاءِ إِذَا عَطِشَ. وَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْكَلَامِ وَبِمَا يَجُوزُ، وَبِمَا لَا يَجُوزُ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ أَوِ الْقَبِيحَةُ، فَتَطْمَحُ نَفْسُهُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ لَهُ مُعْتَرِضٌ وَمُمْكِنٌ، فَيَدَعُهُ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكُونُ فِي إِتْيَانِ الْحَلَالِ -وَهُوَ لَهُ غَيْرُ مُشْتَهٍ- مَأْجُورًا. وَتَكُونُ لَهُ الْمَرْأَتَانِ، إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ شوهاء، وَالْأُخْرَى بَيْضَاء حسناء.   1 رَوَاهُ مُسلم: زَكَاة 52، وَأَبُو دَاوُد: تطوع 12، أدب 160، وَأحمد 5/ 167 و168 و178، وَلَا يُوجد لفظ الحَدِيث كَمَا ورد فِي صَحِيح مُسلم وَلكنه حَدِيث آخر بِمَعْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا، وَهُوَ فِي الْوَاحِدَةِ مِنْهُمَا رَاغِبٌ، وَلِمَا يَأْتِيهِ إِلَى الْأُخْرَى مُتَجَشِّمٌ فَيُؤْجَرُ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ خُبْزَ الشَّعِيرِ الْحَلَالَ وَتَرَكَ النَّقِيَّ الْحَرَامَ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، كَانَ عِنْدَ النَّاسِ مَأْجُورًا عَلَى أَكْلِ خُبْزِ الشَّعِيرِ. بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْجُورٌ عَلَى أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَجِمَاعِهِ، مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي رَفْعِ اللُّقْمَةِ إِلَى فِيهِ" 1، مَا كَانَ -فِيمَا أرى- إِلَّا مصيبًا.   1 لقد فحصت صَحِيح الْجَامِع وضعيفه فَلم أَجِدهُ وفحصت كنز الْعمَّال فَلم أَجِدهُ بِهَذَا اللَّفْظ، وأخشى أَن يكون ابْن قُتَيْبَة ذكره بِالْمَعْنَى مَعَ نِسْيَان لفظ الحَدِيث الْأَصْلِيّ. والْحَدِيث فِي البُخَارِيّ مُخَالف لهَذَا جدا وَهُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن خباب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "إِن الْمُسلم ليؤجر فِي كل شَيْء يُنْفِقهُ إِلَّا فِي شَيْء يَجعله فِي هَذَا التُّرَاب"، رَوَاهُ البُخَارِيّ رقم 5672، وَلَا يشابهه فِي اللَّفْظ إِلَّا حَدِيث سعد بن أبي وَقاص فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ تبَاين الْمَعْنى، فَفِيهِ: "إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله إِلَّا أجرت بهَا حَتَّى مَا تجْعَل فِي امْرَأَتك ... " الحَدِيث، وَلمُسلم: "حَتَّى اللُّقْمَة تجعلها فِي فِي امْرَأَتك"، وعَلى كل حَال فَهُوَ مُخْتَلف عَنهُ. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 37- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- رَجْمُ قردة فِي زنى: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ قُرُودًا رَجَمَتْ قردة فِي زنى. فَإِنْ كَانَتِ الْقُرُودُ إِنَّمَا رَجَمَتْهَا فِي الْإِحْصَان، فَذَلِك أظرف للْحَدِيث. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ، لَعَلَّ الْقُرُودَ تُقِيمُ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَلَعَلَّ دِينَهَا الْيَهُودِيَّةُ بَعْدُ. وَإِنْ كَانَتِ الْقُرُودُ يَهُودًا، فَلَعَلَّ الْخَنَازِيرَ نَصَارَى. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ فِي جَوَابِ هَذَا الِاسْتِهْزَاءِ، إِنَّ حَدِيثَ الْقُرُودِ لَيْسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ ذُكِرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: زَنَتْ قِرْدَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَجَمَتْهَا الْقُرُودُ، وَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْقُرُودَ تَرْجُمَ قِرْدَةً، فَظَنَّ أَنَّهَا تَرْجُمُهَا لِأَنَّهَا زَنَتْ، وَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا ظَنًّا لِأَنَّ الْقُرُودَ لَا تُنْبِئُ عَنْ أَنْفُسِهَا وَالَّذِي يَرَاهَا تَتَسَافَدُ، لَا يَعْلَمُ أَزَنَتْ، أَمْ لَمْ تَزْنِ؟ هَذَا ظَنٌّ. وَلَعَلَّ الشَّيْخَ عَرَفَ أَنَّهَا زَنَتْ بِوَجْهٍ مِنَ الدَّلَائِل لَا نعلمهُ، فَإِن القرود   1 من الْمَعْلُوم أَن التَّكْلِيف مُرْتَبِط بِالْعقلِ وبلوغ سنّ الرشد، وَذَلِكَ غير مُتَحَقق بالحيوانات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أزنى الْبَهَائِمِ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِهَا الْمَثَلَ، فَتَقُولُ: أَزَنَى مِنْ قِرْدٍ، وَلَوْلَا أَنَّ الزِّنَا مِنْهُ مَعْرُوفٌ، مَا ضُرِبَتْ بِهِ الْمَثَلَ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَشْبَهَ بِالْإِنْسَانِ فِي الزَّوَاجِ وَالْغَيْرَةِ مِنْهُ. وَالْبَهَائِمُ قَدْ تَتَعَادَى، وَيَثِبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيُعَاقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَمِنْهَا مَا يَعَضُّ، وَمِنْهَا مَا يَخْدِشُ، وَمِنْهَا مَا يَكْسِرُ وَيُحَطِّمُ. وَالْقُرُودُ تَرْجُمُ بِالْأَكُفِّ، الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهَا، كَمَا يَرْجُمُ الْإِنْسَانُ. فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا رَجَمَ بَعْضهَا بَعْضًا لغير زنى، فتوهمه الشَّيْخ لزنى، فَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ. وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ اسْتَدَلَّ عَلَى الزِّنَا مِنْهَا بِدَلِيلٍ، وَعَلَى أَنَّ الرَّجْمَ، كَانَ مِنْ أَجْلِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا بِبَعِيدٍ، لِأَنَّهَا -عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ- أَشَدُّ الْبَهَائِمِ غَيْرَةً، وَأَقْرَبُهَا مِنْ بَنِي آدَمَ أَفْهَامًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهَا الْمَمْسُوخُ بِأَعْيَانِهَا تَوَالَدَتْ. وَاسْتَدْلَلْتُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير} 1. فَدُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي "القردة" و"الْخَنَازِير" يَدُلُّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا هِيَ القردة الَّتِي نعاين2.   1 الْآيَة: 60 من سُورَة الْمَائِدَة. 2 وَلم يُؤَيّد ابْن كثير فِي تَفْسِيره لهَذِهِ الْآيَة "ج2 ص66"، مَا ذكره الْمُؤلف رَحمَه الله بل أورد مَا يَلِي: "وَقد قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَلْقَمَة بن يزِيد عَن الْمُغيرَة بن عبد الله عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوِيدٍ عَنْ ابْن مَسْعُود قَالَ: سُئِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن القردة والخناذير أُمِّي مِمَّا مسخ الله فَقَالَ: "إِن الله لم يهْلك قوما أَو قَالَ: لم يمسخ قوما فَيجْعَل لَهُم نَسْلًا وَلَا عقبًا، وَإِن القردة والخناذير كَانَت قبل ذَلِك ". وَقد رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ ومسعر كِلَاهُمَا عَن مُغيرَة بن عبد الله الْيَشْكُرِي بِهِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا دَاوُد بن أبي الْفُرَات عَن مُحَمَّد بن زيد عَن أبي الْأَعْين المعبدي عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: "سَأَلنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن القردة والخناذير: أَهِي من نسل الْيَهُود، فَقَالَ: لَا، إِن الله يلعن قوما قطّ فيمسخهم فَكَانَ لَهُم نسل وَلَكِن هَذَا خلق كَانَ فَلَمَّا غضب الله على الْيَهُود فمسخهم جعلهم مثلهم"، وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث دَاوُد بن أبي الْفُرَات بِهِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وَلَوْ كَانَ أَرَادَ شَيْئًا انْقَرَضَ وَمَضَى، لَقَالَ: "وَجَعَلَ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ". إِلَّا أَنْ يَصِحَّ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي الْمَمْسُوخِ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَسْنَا نَقُولُ إِنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا عَلِمَتْ1 بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ كَمَا يَقُولُ الْمُسْتَهْزِئُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّهَا عَاقَبَتْ بِالرَّجْمِ، إِمَّا على الزِّنَى، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَكُفِّهَا، كَمَا يَخْدِشُ غَيْرُهَا وَيَعَضُّ وَيَكْسِرُ، إِذَا كَانَتِ أَكُفُّهَا كأكف بني آدام، وَكَانَ بن آدَمَ لَا يَنَالُ مَا يُرِيدُ أَذَاهُ إِذَا بَعُدَ عَنْهُ إِلَّا بِالرَّجْمِ. وَمِمَّا يَزِيدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرُودَ هِيَ الْمَمْسُوخُ بِأَعْيَانِهَا، إِجْمَاعُ النَّاسِ عَلَى تَحْرِيمِهَا بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا أَثَرٍ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ لُحُومِ النَّاسِ بِغَيْر كتاب وَلَا أثر.   1 فِي نسختين: عملت، بِتَقْدِيم الْمِيم على اللَّام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 38- قَالُوا: أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ- قَلْبُ الْقُرْآنِ وَسَنَامُهُ ... : قَالُوا: رُوِّيتُمْ "قَلْبُ الْقُرْآنِ يس، وَسَنَامُ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ، وَتَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مَنْ طير صواف"1. و"يَأْتِي الْقُرْآنُ الرَّجُلَ، فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولُ لَهُ: كَيْتَ وَكَيْتَ". وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. وَلَا يجوز أَن يكون مَاله قَلْبٌ وَسَنَامٌ، وَمَا كَانَ غَمَامَةً أَوْ غَيَايَةً، غَيْرَ مَخْلُوقٍ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ -إِذَا كَانُوا أَصْحَابَ كَلَامٍ وَقِيَاسٍ- أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ حسمًا وَلَا ذَا حُدُود وأقطار.   1 الغيايتان: تَثْنِيَة غياية وَهِي كل مَا أظل الْإِنْسَان من فَوق رَأسه كالسحابة وَنَحْوهَا، وَالْفرْقَان: قطيعان وجماعتان. وَالطير الصَّواف: جمع صافة، وَهِي الطُّيُور مَا يبسط أَجْنِحَتهَا فِي الْهَوَاء. وَقد رَوَاهُ مُسلم: مُخْتَصر الألباني برقم 2097، وَأحمد 5/ 26. الشّطْر الْأَخير من الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: "تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غمامتان.." إِلَخ، أما الشّطْر الأول فقد ذكر جُزْء مِنْهُ التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: "لكل شَيْء سَنَام وَإِن سَنَام الْقُرْآن سُورَة الْبَقَرَة"، الحَدِيث، وَهُوَ ضَعِيف. انْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 4728 والسلسلة الضعيفة رقم 1328، وَالزِّيَادَة من قَوْله "والشطر الْأَخير ... إِلَخ، من تَخْرِيجه الشَّيْخ مُحَمَّد بدير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "سَنَامُ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ" أَعْلَاهُ، كَمَا أَنَّ السَّنَامَ مِنَ الْبَعِيرِ أَعْلَاهُ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "قَلْبُ الْقُرْآنِ يس" أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، كَمَحَلِّ الْقَلْبِ مِنَ الْبَدَنِ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ" أَنَّ ثَوَابَهُمَا يَأْتِي قَارِئَهُمَا، حَتَّى يُظِلَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَأْتِيَ ثَوَابُهُ الرَّجُلَ فِي قَبْرِهِ، وَيَأْتِي الرَّجُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُجَادِلَ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ لَهُ مِثَالًا، يُحَاجُّ عَنْهُ وَيَسْتَنْقِذَهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ زِيَادٍ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ1، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ2، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ، وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ كَانَ يُضَيِّعُ فَرَائِضَهُ، وَيَتَعَدَّى حُدُودَهُ، وَيُخَالِفُ طَاعَتَهُ، وَيَرْكَبُ مَعْصِيَتَهُ ". قَالَ: "فَيَنْتَتِلُ3 خَصْمًا لَهُ -فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، حَمَّلْتَ إِيَّايَ شَرَّ حَامِلٍ، تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَتَرَكَ طَاعَتِي، وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي". فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ بِالْحُجَجِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُقَالَ لَهُ: فَشَأْنَكَ بِهِ. قَالَ: فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ، فَلَا يُفَارِقُهُ، حَتَّى يَكُبَّهُ عَلَى مَنْخَرِهِ فِي النَّارِ. وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ كَانَ يَحْفَظُ حُدُوده، وَيعْمل بِفَرَائِضِهِ، وَيَأْخُذ   1 مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار المطلبي بِالْوَلَاءِ الْمدنِي من أقدم مرخي الْعَرَب من أهل الْمَدِينَة، لَهُ السِّيرَة النَّبَوِيَّة رَوَاهَا عَنهُ ابْن هِشَام، وَكتاب الْخُلَفَاء وَكتاب المبدأ، وَكَانَ قدريًا من حفاظ الحَدِيث. وَسكن بَغْدَاد وَتُوفِّي فِيهَا عَام 151هـ. 2 عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، نزيل الْمَدِينَة ومعظم رواياته عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ الْقطَّان: إِذا روى عَن الثِّقَات فَهُوَ ثِقَة يحْتَج بِهِ، نزل فِي الطَّائِف وَتُوفِّي عَام 118هـ. 3 فيتنقل: يتَقَدَّم ويستعد لخصامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 بِطَاعَتِهِ، وَيَجْتَنِبُ مَعْصِيَتَهُ، فَيَنْتَتِلُ خَصْمًا لَهُ فَيَقُولُ: "أَيْ رَبِّ حَمَّلْتَ إِيَّايَ خَيْرَ حَامِلٍ، اتَّقَى حُدُودِي، وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي، وَاتَّبَعَ طَاعَتِي، وَتَرَكَ مَعْصِيَتِي". فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ لَهُ بِالْحُجَجِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُقَالَ: "فَشَأْنَكَ بِهِ". قَالَ: "فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ، فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يَكْسُوَهُ حُلَّةَ الْإِسْتَبْرَقِ، وَيَعْقِدَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجَ الْمُلْكِ وَيَسْقِيَهَ بِكَأْسِ الْخُلْدِ"1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَفَمَا فِي قَوْلِهِ: "يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُجْعَلُ لَهُ مِثَالٌ، لِيَعْلَمَ صَاحِبُهُ التَّالِي لَهُ وَالْعَامِلُ بِهِ، أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُسْتَنْقِذُ لَهُ. وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ رَجُلًا وَلَا جِسْمًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ2. وَلَوْ أَمْعَنَ هَؤُلَاءِ النَّظَرَ، وَأُوتُوا طَرَفًا مِنَ التَّوْفِيقِ، لَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامُ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِرَدِّ الْأَمْرِ إِلَى مَا يَفْهَمُونَ مِنْ كَلَامِنَا، لِأَنَّ كَلَامَنَا لَيْسَ عَمَلًا لَنَا، إِنَّمَا هُوَ صَوْتٌ وَحُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِعْلًا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا خَلْقُ اللَّهِ. وَإِنَّمَا لَنَا مِنَ الْعَمَلِ فِيهِمَا الْأَدَاءُ، وَالثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَقَعُ عَلَيْهِ. وَمَثَلُ ذَلِكَ، مِثْلُ رَجُلٍ أَوْدَعْتَهُ مَالًا، ثُمَّ اسْتَرْجَعْتَهُ مِنْهُ، فأداه إِلَيْك بِيَدِهِ.   1 رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه، وَابْن الغويسي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيه عَن جده. انْظُر نَصه فِي كنز الْعمَّال 1/ 2444، وَيشْهد لمعناه حَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد مُسلم الَّذِي جَاءَ فِيهِ: "اقرؤوا الْقُرْآن فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة شَفِيعًا لأَصْحَابه"، وَكَذَا حَدِيث أنس فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ حَدِيث الشَّفَاعَة: "حَتَّى مَا يبْق فِي النَّار إِلَّا من حَبسه الْقُرْآن"، اللؤل والمرجان رقم 118 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 2 فِي نُسْخَة: لِأَنَّهُ كَلَام الله تَعَالَى غير مَخْلُوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 فَلَيْسَ لَهُ فِي الْمَالِ، وَلَا فِي الْيَدِ ثَوَابٌ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ، فِي تَأْدِيَةِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ الثَّوَابُ لَكَ، فِي تَأْدِيَةِ الْقُرْآنِ بِالصَّوْتِ، وَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَالْقُرْآنُ -بِهَذَا النَّظْمِ، وَهَذَا التَّأْلِيفِ -كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ بَدَا. وَكُلُّ مَنْ أَدَّاهُ فَهُوَ مُؤَدٍّ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَارِئُ لَهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَلَّفَ خُطْبَةً، أَوْ عَمِلَ قَصِيدَةً، ثُمَّ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ، لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ، وَلَا الشِّعْرُ، عَمَلًا لِلنَّاقِلِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الشِّعْرُ لِلْمُؤَلِّفِ، وَلَيْسَ لِلنَّاقِلِ مِنْهُ إِلَّا الْأَدَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 39- قَالُوا: أَحَادِيثُ يُخَالِفُهَا الْإِجْمَاعُ- الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ أَيُّوب، عَن بن سِيرِينَ1، عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ2 شُعْبَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى عِمَامَتِهِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ"3. وَرُوِّيتُمْ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ بِلَالٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخِمَارِ"4. وَرُوِّيتُمْ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ، فَمَسَحَ عَلَى الْعِمَامَة"5.   1 مُحَمَّد بن سِيرِين الْبَصْرِيّ، إِمَام وقته فِي عُلُوم الدينك بِالْبَصْرَةِ ولد عَام 33هـ، تَابِعِيّ من أشرف الْكتاب مولده ووفاته بِالْبَصْرَةِ نَشأ بزازًا تفقه وروى الحَدِيث واشتهر بالورع وتعبير الرُّؤْيَا، واستكتبه أنس بن مَالك بِفَارِس توفّي سنة 110هـ. 2 الْمُغيرَة بن شُعْبَة بن أبي عَامر مَسْعُود الثَّقَفِيّ ولد 20ق. هـ، أحد دهاة الْعَرَب وَقَادَتهمْ وولاتهم صَحَابِيّ يُقَال لَهُ "مُغيرَة الرَّأْي"، ولد فِي الطَّائِف أسلم 5هـ، ولاه عمر بن الْخطاب الْبَصْرَة ثمَّ الْكُوفَة وأقزه عُثْمَان ثمَّ عَزله ثمَّ ولاه مُعَاوِيَة الْكُوفَة، فَلم يزل فِيهَا إِلَى أَن مَاتَ عَام 50هـ. 3 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: ك1 بَاب 58 و60، وَالتِّرْمِذِيّ: ك1 بَاب 75، وَالنَّسَائِيّ: ك1 بَاب85 و86. 4 رَوَاهُ مُسلم: طَهَارَة 84، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 75، وَالنَّسَائِيّ: طَهَارَة 85، وَابْن ماجة: طَهَارَة 89، وَأحمد 4/ 135 و281 - 288 - 439 - 440 و6/ 12 - 13. 5 رَوَاهُ ابْن ماجة: ك1 بَاب 99، والدرامي: ك1 بَاب38، والموطأ: ك2 ح38 - 40، وَالْبُخَارِيّ: وضوء 48، وَأحمد 2/ 244 - 248 - 250 -251 و6/ 13 - 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 قَالُوا: وَهَذِهِ طُرُقٌ جِيَادٌ عِنْدَكُمْ، وَقَدْ تَرَكْتُمُ الْعَمَلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْوُوا لِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِالْإِجْمَاعِ، أَكْثَرَ مِنْ ثُبُوتِهِ بِالرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ تَعْتَرِضُ فِيهِ عَوَارِضُ مِنَ السَّهْوِ وَالْإِغْفَالِ، وَتَدْخُلُ عَلَيْهِ الشُّبَهُ وَالتَّأْوِيلَاتُ وَالنَّسْخُ، وَيَأْخُذُهُ الثِّقَةُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَةِ. وَقَدْ يَأْتِي بِأَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَهُمَا -جَمِيعًا- جَائِزَانِ، كَالتَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالتَّسْلِيمَتَيْنِ. وَقَدْ يَحْضُرُ الْأَمْرَ -يَأْمُرُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ ثُمَّ يَأْمُرُ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَحْضُرُهُ هُوَ، فَيَنْقُلُ إِلَيْنَا الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، وَلَا يَنْقُلُ إِلَيْنَا الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَالْإِجْمَاعُ سَلِيمٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَقُولُ: "وَالْعَمَلُ بِبَلَدِنَا، عَلَى كَذَا؛ لِأَمْرٍ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، لِأَنَّ بَلَدَهُ، بَلَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ فِي عَصْرِهِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، صَارَ الْعَمَلُ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ جَمِيعًا يَنْتَقِلُونَ عَنْ شَيْءٍ كَانُوا عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ وَعَصْرِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَرْنٌ عَنْ قَرْنٍ، أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَنْ وَاحِدٍ. وَقَدْ رَوَى النَّاسُ أَحَادِيثَ مُتَّصِلَةً، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا. مِنْهَا: حَدِيثُ سُفْيَانَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَار، عَن جَابر، عَن بن عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، آمِنًا لَا يَخَافُ"1. وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا، عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَذَا، إِمَّا لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، أَوْ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ ضَرُورَةٍ -إِمَّا لِمَطَرٍ أَو شغل.   1 البُخَارِيّ: تَقْصِير الصَّلَاة 14 و6 و13، ومواقيت 18، والدامي: مَنَاسِك 56 و64، وَالنَّسَائِيّ: مَوَاقِيت 43 - 45، وَابْن ماجة: إِقَامَة 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وَمِنْهَا: حَدِيثُ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَوْسَجَةَ، عَنِ بن عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا مَوْلًى هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ"1. وَالْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِ ذَلِك، إِمَّا لاتهامهم عَوْسَجَة هَذَا، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ. وَإِمَّا لِتَحْرِيفٍ فِي التَّأْوِيلِ، كَأَنَّ تَأْوِيلَهُ: "لَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا مَوْلًى هُوَ أَعْتَقَ الْمَيِّتَ". فَيَجُوزُ -عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ- أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، لِأَنَّهُ مَوْلَى الْمُتَوَفَّى. وَإِمَّا النَّسَخُ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ2 مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ: "أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنَتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ"3. وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي تَرْكِهِ فِي الْمَغْرِبِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْخِمَارِ -وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى ذَلِكَ- مَعَ مَجِيئِهِ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُرْتَضَى عِنْدَهُمْ- إِلَّا لِنَسْخٍ، أَوْ لِأَنَّهُ رُئِيَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ. فَنَقَلَ النَّاقِلُ أَغْرَبَ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الرَّأْسِ، لَا يُنْكَرُ وَلَا يُسْتَغْرَبُ؛ إِذْ كَانَ النَّاسُ جَمِيعًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يستغرب الْخمار.   1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: فَرَائض 8، وَالتِّرْمِذِيّ: فَرَائض 14، وَابْن ماجة: فَرَائض 11، وَأحمد: 1/ 28 - 46، 4/ 131. 2 عَمْرو بن مرّة بن صعصعة من سلول من عدنان جد جاهلي من نَسْله "قردة بن نفاثة" من الصَّحَابَة، وَعبد الله بن همام من الشُّعَرَاء. 3 رَوَاهُ مُسلم: مَسَاجِد 306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثٍ آخَرَ لِلْمُغِيرَةِ، رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ1 مُسْلِمٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ وَرَّادٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ"2. وَالْمَسْحُ بِالنَّاصِيَةِ فَرْضٌ فِي الْكِتَابِ، فَلَا يَزُولُ بِحَدِيثٍ مُخْتَلِفٍ فِي لَفْظِهِ، وَنَحْوُ هَذَا رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ، وَرِوَايَةُ آخَرَ، أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَإِنَّمَا مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ، فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ، أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ.   1 الْوَلِيد بن مُسلم الْأمَوِي بِالْوَلَاءِ الدِّمَشْقِي أَبُو الْعَبَّاس عَالم الشَّام فِي عصره ولد عَام 119هـ، من حفاظ الحَدِيث، لَهُ 70 تصنيفًا فِي الحَدِيث والتاريخ توفّي بِذِي الْمَرْوَة قَافِلًا من الْحَج سنة 195هـ. 2 مشكاة المصابيح بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ رقم الحَدِيث 518، والْحَدِيث أخرجه مُسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 -40- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ "فِي ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ" قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ1 جَثَّامَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ تَطَؤُهُمْ خَيْلُنَا فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْغَارَةِ، قَالَ: "هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ" 2. قَالُوا: ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ بَعَثَ سَرِيَّةً فَقَتَلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْكَارًا شَدِيدًا. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ ذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: "أَو لَيْسَ خياركم، ذَرَارِي الْمُشْركين؟ " 3.   1 الصعب بن جثامة بن قيس اللَّيْثِيّ صَحَابِيّ من شجعانهم شهد الوقائع فِي عصر النُّبُوَّة وَحضر فتح اصطخر وَفَارِس. وَفِي الحَدِيث يَوْم حنين: لَوْلَا الصعب بن جثامة لفضحت الْخَيل. مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، وَقيل قبلهَا، وَله أَحَادِيث فِي الصَّحِيح توفّي سنة 25هـ. 2 أخرجه البُخَارِيّ: جِهَاد 146،كم وَأَبُو دَاوُد: جِهَاد 121 الحَدِيث رقم 2672. 3 أخرجه مُسلم: النَّهْي عَن قتل صبيانمك الْمُشْركين ضمنك حَدِيث بُرَيْدَة الطَّوِيل فِي وَصِيَّة الْقَائِد رقم 1731، وَابْن قُتَيْبَة لم يعز شَيْئا من ذَلِك إِلَى مصدر. وَقد نَص الْقُرْآن الْكَرِيم على وجوب التبين عِنْد قتل الْمُشرك إِذا أبدى قرينَة توهم إِسْلَامه، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النِّسَاء: 94] ، فَالْمَعْنى غير مستنكر لَكِن اللَّفْظ غير مَوْجُود فِيمَا عزى إِلَيْهِ، وَمن النكارة فِيهِ لفظ: "أَو لَيْسَ خياركم.."؛ لِأَن الْوَاقِع أَن جلّ الصَّحَابَة إِلَّا الْقَلِيل جدا كَانَ آباؤهم مُشْرِكين، لِأَن الْخطاب للمجاهدين الْكِبَار وَلَيْسَ لمُطلق الصَّحَابَة، فَكَانَ ينْدر فِي الْكِبَار من أَبوهُ مُسلم، فَلَو قَالَ: "أَو لَيْسَ آباؤكم مُشْرِكين" لَكَانَ أولى، غير أَن الحكم للرواية إِذا ثبتَتْ، فالقصد الْخِيَار الْكِبَار وَلَا مُنَافَاة. -للشَّيْخ مُحَمَّد بدير- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ اخْتِلَافٌ. لِأَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ، أَعْلَمَهُ أَنَّ خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ تَطَؤُهُمْ فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْغَارَةِ، فَقَالَ: "هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ". يُرِيدُ: أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حُكْمُ آبَائِهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَكَانَتِ الْغَارَةُ، وَوَقَعَتِ الْفُرْصَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَلَا تَكُفُّوا مِنْ أَجْلِ الْأَطْفَالِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَعَمَّدُوا قَتْلَهُمْ. ثُمَّ أَنْكَرَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي عَلَى السَّرِيَّةِ، قَتْلَهُمُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، لِأَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ لِشِرْكِ آبَائِهِمْ، فَقَالَ: "أَوَلَيَسَ خِيَارُكُمْ ذَرَارِيَّ الْمُشْرِكِينَ". يُرِيدُ: فَلَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ يُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ وَيحسن إِسْلَامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 -41- قَالُوا: حَدِيثٌ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا "مَوْتُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ" قَالَ: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَعْدِ بْنِ1 مُعَاذٍ: "لَقَدِ اهْتَزَّ لِمَوْتِهِ الْعَرْشُ، وَلَقَدْ تَبَادَرَ إِلَى غُسْلِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَمَا كِدْتُ أَصِلُ إِلَى جِنَازَتِهِ" 2. ثُمَّ رُوِّيتُمْ، أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، لَنَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَلَقَدْ ضُغِطَ ضَغْطَةً اخْتَلَفَتْ لَهَا أَضْلَاعُهُ" 3. قَالُوا: كَيْفَ يَتَحَرَّكُ عَرْشُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَوْتِ أَحَدٍ؟ وَإِنْ كَانَ هَذَا جَائِزًا، فَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى بِهِ. وَقَدْ رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ" 4. وَإِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ وَكَانَ الْقَمَرُ1، وهما -على مَا رويتم- ثوران   1 سعد بن معَاذ بن النُّعْمَان بن امْرِئ الْقَيْس، الأوسي الْأنْصَارِيّ: صَحَابِيّ من الْأَبْطَال من أهل الْمَدِينَة، كَانَت لَهُ سيادة الْأَوْس، وَحمل لؤاءهم يَوْم بدر، وَشهد أحدا فَكَانَ مِمَّن ثَبت فِيهَا. وَكَانَ من أطول النَّاس وأعظمهم جسمًا، وَرمي بِسَهْم يَوْم الخَنْدَق فَمَاتَ من أثر جرحه وَدفن بِالبَقِيعِ سنة 5هـ. 2 رَوَاهُ البُخَارِيّ: مَنَاقِب الْأَنْصَار 12، وَمُسلم: فَضَائِل الصَّحَابَة 123 - 125، وَالتِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 50، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 11، وَأحمد 3/ 234 - 296 - 316 - 349، 4/ 352، 6/ 329، وَالَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ"، أما بَقِيَّة الحَدِيث فَلَا يُوجد فِي الصَّحِيحَيْنِ. هـ -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 3 رَوَاهُ أَحْمد 6/ 55 - 98. 4 رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، اللُّؤْلُؤ والمرجان رقم 520، وَابْن عَبَّاس رقم 525، وَابْن مَسْعُود رقم 527، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رقم 528، وَابْن عمر رقم 529، وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رقم 530، وَذكره الألباني فِي صَحِيح الْجَامِع رقم 1644 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 مكوران فِي النَّارِ، فَكَيْفَ بِالْعَرْشِ الْمَجِيدِ؟ وَعَلَى أَنَّ الْعَرْشَ لَوْ تَحَرَّكَ، لَتَحَرَّكَ بِحَرَكَتِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ -وَكَيْفَ يَتَحَرَّكُ الْعَرْشُ لِمَوْتِ مَنْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَضُمُّ عَلَيْهِ قَبْرَهُ، حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ؟ وَكَيْفَ يُعَذِّبُ مَنْ يُغَسِّلُهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ، وَلَا يَصِلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِنَازَتِهِ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ تَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْمٌ. فَذَهَبُوا فِيهِ، إِلَى أَنَّ الِاهْتِزَازَ مِنَ الْعَرْشِ إِنَّمَا هُوَ الْحَرَكَةُ، كَمَا يَهْتَزُّ الرُّمْحُ، وَكَمَا تَهْتَزُّ الشَّجَرَةُ، إِذَا حَرَّكَتْهَا الرِّيحُ. وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا، وَقَعْتِ الشَّنَاعَةُ، وَوَجَبَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا هَؤُلَاءِ. وَقَالَ قوم: الْعَرْش -هَهُنَا- السَّرِيرُ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، تَحَرَّكَ. وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا، لَمْ يَكُنْ لِسَعْدٍ -فِي هَذَا الْقَوْلِ- فَضِيلَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ كُلَّ سَرِيرٍ مِنْ سُرُرِ الْمَوْتَى، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَحَرَّكَ، لِتَجَاذُبِ النَّاسِ إِيَّاهُ. وَبَعْدُ: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ السَّرِيرُ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لمَوْته " 1.   1 "اهتز ... "، أخرجه البُخَارِيّ عَن جَابر وَهُوَ فِي الْفَتْح "7/ 123" 3803 بَاب مَنَاقِب سعد بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ، وَمُسلم أَيْضا فِي فَضَائِل الصَّحَابَة "4/ 1915" رقم 123 و125، وَالتِّرْمِذِيّ فِي المناقب "5/ 289" 3848، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَابْن ماجة "1/ 55"، وَأحمد "3/ 234" وَفِي مَوَاطِن أخر. وَقَالَ ابْن حجر فِي الْفَتْح "7/ 124": وَقد جَاءَ حَدِيث "اهتز الْعَرْش لسعد بن معَاذ" عَن عشرَة من الصَّحَابَة أَو أَكثر، وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم "16/ 22": اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيله، فَقَالَت طَائِفَة: هُوَ على ظَاهره، وَقَالَ الْحَرْبِيّ: هُوَ كِنَايَة عَن تَعْظِيم شَأْن وَفَاته، وَالْعرب تنْسب الشَّيْء الْمُعظم إِلَى أعظم الْأَشْيَاء فَيَقُولُونَ: أظلمت بِمَوْت فلَان الأَرْض، وَقَامَت لَهُ الْقِيَامَة. انْظُر فتح الْبَارِي "7/ 124". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وَلَيْسَ الِاهْتِزَازُ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَلَا الْعَرْشُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْآخَرُونَ. بَلِ الِاهْتِزَازُ: الِاسْتِبْشَارُ وَالسُّرُورُ، يُقَالُ: "إِنَّ فُلَانًا لَيَهْتَزُّ لِلْمَعْرُوفِ" أَيْ يَسْتَبْشِرُ وَيُسَرُّ. "إِن فُلَانًا لَتَأْخُذُهُ لِلثَّنَاءِ هِزَّةٌ"، أَيِ ارْتِيَاحٌ وَطَلَاقَةٌ. وَمِنْهُ قِيلَ فِي الْمَثَلِ: "إِنْ فُلَانًا إِذَا دُعِيَ اهْتَزَّ، وَإِذَا سُئِلَ، ارْتَزَّ"1. وَالْكَلَامُ لأبي الْأسود الدؤَلِي، يُرِيد: أَنَّهُ إِذَا دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ يَأْكُلُهُ اهْتَزَّ، أَيِ: ارْتَاحَ وَسُرَّ. وَإِذَا سُئِلَ الْحَاجَةَ، ارْتَزَّ: أَيْ ثَبَتَ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يَطْلُقْ. فَهَذَا مَعْنَى الِاهْتِزَازِ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَمَّا الْعَرْشُ، فَعَرْشُ الرَّحْمَنِ، جَلَّ وَعَزَّ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِاهْتِزَازِهِ، اسْتِبْشَارَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُ وَيَحُفُّونَ حَوْلَهُ، بِرُوحِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. فَأَقَامَ الْعَرْشَ مَقَامَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَيُحِيطُ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} 2. يُرِيدُ: مَا بَكَى عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَلَا أَهْلُ الْأَرْضِ. فَأَقَامَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، مَقَامَ أَهْلِهِمَا. وَكَمَا قَالَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 3، أَيْ: سَلْ أَهْلَهَا.   1 ارتز: الْبَخِيل عِنْد الْمَسْأَلَة: بَقِي وبخل، والسهم فِي القرطاس: ثَبت. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص658". 2 الْآيَة: 29 من سُورَة الدُّخان. 3 الْآيَة: 82 من سُورَة يُوسُف. الْآيَة: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ... } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُحُدٍ: "هَذَا جَبَلٌ، يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" 1. يُرِيدُ: "يُحِبُّنَا أَهْلُهُ" يَعْنِي: الْأَنْصَارَ، "وَنُحِبُّهُ" أَيْ: نُحِبُّ أَهْلَهُ2. كَذَلِكَ أَقَامَ الْعَرْشَ، مَقَامَ حَمَلَتِهِ وَالْحَافِّينَ مِنْ حَوْلِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَبْشِرُ بِرُوحِ الْمُؤْمِنِ، وَأَنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بَابًا فِي السَّمَاءِ، يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ وَيَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، وَيُعْرَجُ فِيهِ بِرُوحِهِ إِذَا مَاتَ، ثُمَّ يُرَدُّ" 3. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ تَبَادَرَ إِلَى غُسْلِهِ، سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ". وَهَذَا التَّأْوِيلُ -بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى- سَهْلٌ قَرِيبٌ. كَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدِ اسْتَبْشَرَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ، بِرُوحِ سَعْدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يُعَذَّبُ مَنْ تَبَادَرَ إِلَى غسله سَبْعُونَ ألف ملك؟   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: اعتصام 16، وَجِهَاد 71 - 74، وأطعمة 38، وَزَكَاة 54، وأنبياء 10، وَرَوَاهُ مُسلم: فَضَائِل 10 وَحج 363 و503 و504، وَرَوَاهُ ابْن ماجة: مَنَاسِك 104، الْمُوَطَّأ: مَدِينَة 10 و20، وَرَوَاهُ أَحْمد 3/ 140-149-159-140-243-443. 2 قَول ابْن قُتَيْبَة فِي معنى حَدِيث أَن أحدا جبل يحبنا ونحبه، يَعْنِي أَهله الْأَنْصَار. هُوَ قَول بَاطِل، ومخالف لظَاهِر النَّص ولنصوص عديدة، قَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرحه مَا نَصه: "الصَّحِيح الْمُخْتَار أَن مَعْنَاهُ أَن أحدا يحبنا حَقِيقَة جعل الله فِيهِ تمييزًا يحب بِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، وكما حن الْجذع الْيَابِس، وكما سبح الْحَصَى، وكما فر الْحجر يثوب مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عَليّ" "رَوَاهُ مُسلم"، وكما دَعَا الشجرتين المفترقتين فَاجْتَمَعْنَا "رَوَاهُ مُسلم أَيْضا"، وكما رجف حراء ... وَذكر أَشْيَاء كَثِيرَة كلهَا صَحِيحَة. رَاجع مُسلم بشرح النَّوَوِيّ 9/ 139-140، وَمَا بَين المعكوفتين من كَلَامي، وَهُوَ "رَوَاهُ مُسلم". "الشَّيْخ مُحَمَّد مُحَمَّد بدير". 3 روى التِّرْمِذِيّ الحَدِيث فِي كتاب تَفْسِير الْقُرْآن بَاب 46 بِحَدِيث رقم 3255 بِلَفْظ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: مَا من مُؤمن إِلَّا وَله بَابَانِ، بَاب يصعد مِنْهُ عمله، وَبَاب ينزل مِنْهُ رزقه، فَإِذا مَاتَ بكيا عَلَيْهِ، فَذَلِك قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، ومُوسَى بن عُبَيْدَة وَيزِيد بن أبان الرقاشِي يُضعفَانِ الحَدِيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فَإِنَّ لِلْمَوْتِ وَلِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، زَلَازِلًا شِدَادًا، وَأَهْوَالًا، لَا يَسْلَمُ مِنْهَا نَبِيٌّ وَلَا وَلِيٌّ. يَدُلُّكَ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَلَوْ كَانَ يَسْتَحِيلُ مَا تَعَوَّذَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ خَافَ مَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ، وَأَخْفَاهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَجْعَلْ مِنْهُمْ أَحَدًا عَلَى أَمْنٍ وَلَا طُمَأْنِينَةٍ، وَيَدُلُّكَ قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "يَا رَبِّ، نَفْسِي نَفْسِي". وَقَوْلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي" 1. وَيَدُلُّكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وَجل: {إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} 2. علمنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا يرد النَّار ثمَّ يُنجي الله الَّذين اتَّقوا، ويذر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. وَقَالَ عُمَرُ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ كَانَ لِي طِلَاعُ الْأَرْضِ3 ذَهَبًا، لَافْتُدِيَتْ بِهِ مِنْ هَوْلِ المطلع"4. وَقَالَ بن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 5، تَدْخُلُهُمْ دَهْشَةٌ مِنْ أَهْوَالِ يَوْم الْقِيَامَة.   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: تَوْحِيد 36، وَتَفْسِير سُورَة 17/ 5، وَفتن1، وَمُسلم: إِيمَان 326 و327 و346، وَالتِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 10، والدارمي: مُقَدّمَة 8. 2 الْآيَة: 71 من سُورَة مَرْيَم. 3 طلاع الأَرْض: ملؤُهَا. 4 هول المطلع: مَا يشرف عَلَيْهِ من أُمُور الْآخِرَة، رَوَاهُ البُخَارِيّ: قضائل الصَّحَابَة 6. 5 الْآيَة: 109 من سُورَة الْمَائِدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 42- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- أَكْلُ الضَّبِّ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن بن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الضَّبِّ: "لَا آكُلُهُ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ، وَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ" 1. وَقَالُوا: إِذَا كَانَ هُوَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَأْكُلُ وَلَا يَنْهَى، وَلَا يُحَلِّلُ وَلَا يُحَرِّمُ، فَإِلَى مَنِ الْمَفْزَعُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ؟ وَالْأَعْرَابُ تَأْكُلُ الضِّبَابَ وَتُعْجَبُ بِهَا؟ قَالَ أَبُو وَائِلٍ ضَبَّةٌ مُكَوِّنٌ2 أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ دَجَاجَةٍ سَمِينَةٍ.   1 ورد فِي صَحِيح مُسلم: "لَا آكله وَلَا أحرمهُ"، أما لفظ ابْن قُتَيْبَة وَالَّذِي فِيهِ: "وَلَا أحله وَلَا أحرمهُ"، فَهُوَ فِي غَايَة النكارة لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم معلم ومبين عَن الله تَعَالَى وَإِذا سُئِلَ عَن حل شَيْء أَو حرمته فَلَا بُد من جَوَاب، وَلَا يجوز أَن يتْرك النَّاس بِلَا بَيَان فَلَا يعلمُونَ هَل الشَّيْء حَلَال أم حرَام إِذا سَأَلُوهُ عَن شَيْء معِين، ثمَّ إِن هَذَا اللَّفْظ معَارض للأحاديث الصَّحِيحَة، فقد نَص النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حلّه لما قدم لَهُ ضَب هُوَ وَأَصْحَابه فَكف يَده فكفوا أَيْديهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَلكنه لَيْسَ من طَعَامي" رَوَاهُ مُسلم رقم 1944، وَقدم لَهُ ضَب أَو ضباب مشوية وَمَعَهُ خَالِد بن الْوَلِيد فَلَمَّا أخبر أَنَّهَا ضباب رفع رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَده، فَقَالَ خَالِد: أحرام هُوَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: "لَا وَلكنه لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه"، قَالَ خَالِد: فاجتررته فأكلته، وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر. وَلَقَد راجعت بضعًا وَثَلَاثِينَ حَدِيثا فِي الضَّب فِي كنز الْعمَّال وَفِي صَحِيح مُسلم وَفِي الْجَامِع فَلم أجد هَذَا اللَّفْظ الَّذِي أوردهُ ابْن قُتَيْبَة، وَإنَّهُ لمشكل فِي مَتنه حقًّا، وَحَدِيث خَالِد بن الْوَلِيد الْمَذْكُور رَوَاهُ مُسلم رقثم 1945. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 2 الضبة الَّتِي جمعت بيضها فِي بَطنهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وَقَدْ أَكَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَهُ، وَأَكَلَهُ عُمَرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ، أَقْدَمُوا عَلَى الشُّبْهَةِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ وَقَعَ فِيهِ سَهْوٌ مِنْ بَعْضِ النَّقَلَةِ، وَكَانَ1: "لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ" حَسْبُ. فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّهُ وَلَا يُحَرِّمُهُ، كَمَا أَنه لايأكله وَلَا يَنْهَى عَنْهُ، وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُ مِنْ جِهَةِ التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ، لِأَنَّهُ عَافَهُ2. وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أُتِيَ بِضَبٍّ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي كُشْيَتِهِ3 وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْهُ وَلَكِنَّهُ قَذِرَهُ4. وَيُوَضِّحُ لَكَ هَذَا أَيْضًا أَنَّ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ، رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، عَن الشّعبِيّ، عَن بن عُمَرَ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُونَ شَيْئًا، وَفِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، فَنَادَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ ضَبٌّ"، فَأَمْسَكُوا. فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا، فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي" 5. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى غلط النَّاقِل عَن بن عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ. وَأَمَّا تَرْكُهُ أَكْلَهُ وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَهُ، فَلَيْسَ كُلُّ الْحَلَالِ تَطِيبُ النُّفُوسُ بِهِ، وَلَا يَحْسُنُ بِالْمَرْءِ أَنْ يَفْعَلَهُ. فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الشَّاءَ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا مِنْهَا إِلَّا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ.   1 وَكَانَ: أَي هَذَا الحَدِيث. 2 عافه: كرهه فَلم يَأْكُلهُ. 3 الكشية: شحمة بطن الضَّب. 4 قذره كرهه تقذرًا: ويتقذر الشَّيْء فَلَا يَأْكُلهُ. "الْقَامُوس الْمُحِيط" ص592. 5 الحَدِيث: أخرجه البُخَارِيّ فِي الذَّبَائِح بَاب الضَّب، وَمُسلم حَدِيث رقم 1946، وَالنَّسَائِيّ رقم 4322، وَابْن ماجة رقم 3241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَكْرَهُ مِنْهَا الْمَثَانَةَ وَالْغُدَّةَ، وَالْمُصْرَانَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالطِّحَالَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ"، وَالنُّفُوسُ لَا تَطِيبُ بِأَكْلِهِ. وَمِنَ الْمُحَرَّمِ شَيْءٌ لَمْ يَنْزِلْ بِتَحْرِيمِهِ تَنْزِيلٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَكُلُّ النَّاسِ فِيهِ إِلَى فِطَرِهِمْ وَمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ، كَلَحْمِ الْإِنْسَانِ، وَلَحْمِ الْقِرْدِ، وَلُحُومِ الْحَيَّاتِ، وَالْأَبَارِصِ، وَالْعِظَاءِ، وَالْفَأْرِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ إِلَّا وَالنُّفُوسُ تَعَافُهُ وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّمُ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ1، وَهَذِهِ كُلُّهَا خَبِيثَةٌ فِي الْفِطَرِ. وَأَمَّا مَا لَا يَحْسُنُ بِالْمَرْءِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنَ الْحَلَالِ، فَعَدْوُ الْكَهْلِ فِي الطَّرِيقِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْفِزَهُ2 أَمْرٌ وَالْخُصُومَةُ فِي مَهْرِ الْأُمِّ، وَإِلْقَاءُ الرِّدَاءِ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَغَزْلُ الْقُطْنِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَالتَّحَلِّي بِالشَّيْءِ مِنْ حُلِيِّ الْمَرْأَةِ، وَالْأَكْلُ فِي الْأَسْوَاقِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ لُقْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ" 3. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سِفْسَافَهَا" 4.   1 قَالَ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الْآيَة 157 من سُورَة الْأَعْرَاف". 2 يحفزه: يدفعهم من خَلفه، وبالرمح: طعنه، وَعَن الْأَمر: أعجله وأزعجه. 3 رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن الْفُرَات، كَذَّاب وَرَوَاهُ الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ فِيهِ الْهَيْثَم بن سهل، وَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ العقيقي: لَا يثبت فِي هَذَا الْبَاب شَيْء. 4 ورد الحَدِيث فِي صَحِيح الْجَامِع الصَّغِير برقم 1889 بِلَفْظ: "إِن الله يحب معالى الْأَخْلَاق، وَيكرهُ سفسافها"، وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة للألباني برقم 1378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 43- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ نُزُولُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَقُولُ: "هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ أَوْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ"؟ 1. وَيَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إِلَى أَهْلِ عَرَفَةَ، وَيَنْزِلُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ. وَهَذَا خِلَافٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2. وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 3. وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} : إِنَّهُ مَعَهُمْ بِالْعِلْمِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ وَجَّهْتَهُ إِلَى بَلَدٍ شَاسِعٍ، وَوَكَّلْتَهُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ: احْذَرِ التَّقْصِيرَ والإغفال لشَيْء مِمَّا   1 رَوَاهُ الدَّارمِيّ: صَلَاة 168، البُخَارِيّ: تهجد 14، وَمُسلم: مسافرين 168-170، وَأَبُو دَاوُد: سنة 19، وَالتِّرْمِذِيّ: صَلَاة 211 دعوات 78، وَابْن ماجة: إِقَامَة 182، والموطأ: قُرْآن 30. 2 الْآيَة: 7 من سُورَة المجادلة. 3 الْآيَة: 84 من سُورَة الزخرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 تقدّمت فِيهِ إِلَيْكَ فَإِنِّي مَعَكَ. تُرِيدُ: أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ تَقْصِيرُكَ أَوْ جِدُّكَ لِلْإِشْرَافِ عَلَيْكَ، وَالْبَحْثِ عَنْ أُمُورِكَ. وَإِذَا جَازَ هَذَا فِي الْمَخْلُوقِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَهُوَ فِي الْخَالِقِ الَّذِي يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَجْوَزُ. وَكَذَلِكَ "هُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ"، يُرَادُ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْأَمَاكِنِ، فَهُوَ فِيهَا بِالْعِلْمِ بِهَا وَالْإِحَاطَةِ. وَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ عَلَى الْحُلُولِ مَعَ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، أَيِ: اسْتَقَرَّ؛ كَمَا قَالَ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 2، أَي: استقررت. وَمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3. وَكَيْفَ يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ هُوَ مَعَهُ؟ أَوْ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلٌ وَهُوَ عِنْدُهُ؟ وَكَيْفَ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَتَعْرُجُ بِمَعْنَى تَصْعَدُ -يُقَالُ: عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ إِذَا صَعِدَ. وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "ذُو المعارج"، و"المعارج": الدَّرَجُ. فَمَا هَذِهِ الدَّرَجُ؟ وَإِلَى مَنْ تُؤَدِّي الْأَعْمَالَ الْمَلَائِكَةُ، إِذَا كَانَ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى، مِثْلَهُ بِالْمَحَلِّ الْأَدْنَى؟ وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَجَعُوا إِلَى فِطَرِهِمْ وَمَا رُكِّبَتْ عَلَيْهِ خِلْقَتُهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْعَلِيُّ، وَهُوَ الْأَعْلَى، وَهُوَ بِالْمَكَانِ الرَّفِيعِ، وَإِنَّ الْقُلُوبَ عِنْدَ الذِّكْرِ تَسْمُو نَحْوَهُ، وَالْأَيْدِي تُرْفَعُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ. وَمِنَ الْعُلُوِّ يُرْجَى الْفَرَجُ، ويتوقع النَّصْر، وَينزل الرزق.   1 الْآيَة: 5 من سُورَة طه. 2 الْآيَة: 28 من سُورَة الْمُؤْمِنُونَ. 3 الْآيَة: 10 من سُورَة فاطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وَهُنَالِكَ الْكُرْسِيُّ وَالْعَرْشُ وَالْحُجُبُ وَالْمَلَائِكَةُ. يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 1. وَقَالَ فِي الشُّهَدَاءِ: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 2. قيل لَهُمْ شُهَدَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَلَكُوتَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاحِدُهُمْ "شَهِيدٌ" كَمَا يُقَال "عليم" و"عُلَمَاء" و"كَفِيل" و"كفلاء". وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} 3، أَيْ: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ امْرَأَةً وَوَلَدًا، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ عِنْدَنَا لَا عِنْدَكُمْ؛ لَأَنَّ زَوْجَ الرَّجُلِ وَوَلَدَهُ، يَكُونَانِ عِنْدَهُ وَبِحَضْرَتِهِ، لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَالْأُمَمُ كُلُّهَا -عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا- تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ مَا تُرِكَتْ عَلَى فِطَرِهَا وَلَمْ تُنْقَلْ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ لِلْعِتْقِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَ اللَّهُ تَعَالَى؟ ". فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: "فَمَنْ أَنَا؟ " قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "هِيَ مُؤْمِنَةٌ وَأَمَرَهُ بِعِتْقِهَا" 4، هَذَا أَوْ نَحوه.   1 الْآيَة: 206 من سُورَة الْأَعْرَاف، قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ، وَقد ورد فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء الْآيَة 19-20 نصف آيَة مَعَ آيَة أُخْرَى، قَوْله تَعَالَى: { ... وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ .... ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} ، وَقد أَخطَأ ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله، فلفق بَين آيَتَيْنِ. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 2 الْآيَة: 169 من سُورَة آل عمرَان. 3 الْآيَة: 17 من سُورَة الْأَنْبِيَاء. 4 رَوَاهُ مُسلم: مَسَاجِد 33، وَأَبُو دَاوُد: صَلَاة 167 وأيمان 16، وَالنَّسَائِيّ: وَصَايَا 8 وَصَوْم 20، والموطأ: عتق 9، وَأحمد: 3/ 291 و3/ 451 و4/ 222 و388 و389 و5/ 447-449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: مَجِّدُوا اللَّهَ وَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ ... وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ ... تَرَى دونه الملائك صورا و"صور" جَمْعُ "أَصُورٍ"، وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ. وَهَكَذَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ صُوَرٌ"، وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ شَيْئًا ثَقِيلًا عَلَى كَاهِلِهِ أَوْ عَلَى مَنْكِبِهِ، لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمِيلَ عُنُقُهُ. وَفِي الْإِنْجِيلِ الصَّحِيحِ، أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "لَا تَحْلِفُوا بِالسَّمَاءِ، فَإِنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ تَعَالَى". وَقَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: "إِنْ أَنْتُمْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ رَبَّكُمُ2 الَّذِي فِي السَّمَاءِ، يَغْفِرُ لَكُمْ ظُلْمَكُمْ، انْظُرُوا إِلَى طَيْرِ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَزْرَعْنَ وَلَا يَحْصُدْنَ وَلَا يَجْمَعْنَ فِي الْأَهْوَاءِ، وَرَبُّكُمُ2 الَّذِي فِي السَّمَاءِ، هُوَ يَرْزُقُهُنَّ، أَفَلَسْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُنَّ". وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الشَّوَاهِدِ كَثِيرٌ، يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 3، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُلُولِ بِهِمَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: أَنَّهُ إِلَهُ السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِيهَا، وَإِلَهُ الْأَرْضِ وَإِلَهُ مَنْ فِيهَا. وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ قَوْلُكُ: "هُوَ بِخُرَاسَانَ أَمِيرُ، وَبِمِصْرَ أَمِيرُ". فَالْإِمَارَةُ تَجْتَمِعُ لَهُ فِيهِمَا، وَهُوَ حَالٌّ بِإِحْدَاهُمَا أَوْ بِغَيْرِهِمَا، وَهَذَا وَاضح لَا يخفى.   1 الشرجع: الطَّوِيل. 2 ربكُم: فِي نسختين: فَإِنَّهُ أَبَاكُم. 3 الْآيَة: 84 من سُورَة الزخرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فَإِنْ قِيلَ لَنَا: كَيْفَ النُّزُولُ مِنْهُ جَلَّ وَعَزَّ؟ قُلْنَا: لَا نُحَتِّمِ عَلَى النُّزُولِ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنَّا نُبَيِّنُ كَيْفَ النُّزُولُ مِنَّا، وَمَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ. وَالنُّزُولُ مِنَّا يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ: "أَحَدُهُمَا": لانتقال عَنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ؛ كَنُزُولِكَ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْحَضِيضِ، وَمِنَ السَّطْحِ إِلَى الدَّارِ. "وَالْمَعْنَى الْآخَرُ": إِقْبَالُكَ عَلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ الْهُبُوطُ وَالِارْتِقَاءُ، وَالْبُلُوغُ وَالْمَصِيرُ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَكَ سَائِلٌ عَنْ مَحَالِّ قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْمَصِيرَ إِلَيْهِمْ، فَتَقُولُ لَهُ: "إِذَا صِرْتَ إِلَى جَبَلِ كَذَا، فَانْزِلْ مِنْهُ وَخُذْ يَمِينًا، وَإِذَا صِرْتَ إِلَى وَادِي كَذَا، فَاهْبِطْ فِيهِ، ثُمَّ خُذْ شِمَالًا، وَإِذَا صِرْتَ إِلَى أَرْضِ كَذَا، فَاعْتَلِ هَضْبَةً هُنَاكَ، حَتَّى تُشْرِفَ عَلَيْهِمْ". وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ فِي شَيْءٍ، مِمَّا تَقُولُهُ، افْعَلْهُ بِبَدَنِكَ إِنَّمَا تُرِيدُ افْعَلْهُ بِنِيَّتِكَ وَقَصْدِكَ. وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: "بَلَغْتَ إِلَى الْأَحْرَارِ تَشْتُمُهُمْ، وَصِرْتَ إِلَى الْخُلَفَاءِ تَطْعَنُ عَلَيْهِمْ، وَجِئْتَ إِلَى الْعِلْمِ تَزْهَدُ فِيهِ، وَنَزَلْتَ عَنْ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ إِلَى الدَّنَاءَةِ". وَلَيْسَ يُرَادُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، انْتِقَالُ الْجِسْمِ. وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1.   1 الْآيَة: 128 من سُورَة النَّحْل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لَا يُرِيدُ أَنَّهُ مَعَهُمْ بِالْحُلُولِ، وَلَكِنْ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْحِيَاطَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" 1. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَحدثنَا عَن عَبْدُ الْمُنْعِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ: "اخْلَعْ نَعْلَيْكَ" أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ، وَتَابَعَ التَّلْبِيَةَ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا اسْتِئْنَاسًا مِنْهُ بِالصَّوْتِ، وَسُكُونًا إِلَيْهِ. وَقَالَ: "إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ، وَأُحِسُّ وَجْسَكَ2 وَلَا أَرَى مَكَانَكَ، فَأَيْنَ أَنْتَ؟ ". فَقَالَ: "أَنَا فَوْقَكَ، وَأَمَامَكَ، وَخَلْفَكَ، وَمُحِيطٌ بِكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ". يُرِيدُ: إِنِّي أَعْلَمُ بِكَ مِنْكَ بِنَفْسِكَ، لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، خَفِيَ عَنْكَ مَا وَرَاءَكَ، وَإِذَا سَمَوْتَ بِطَرْفِكَ إِلَى مَا فَوْقَكَ، ذَهَبَ عَنْكَ عِلْمُ مَا تَحْتَكَ، وَأَنَا لَا تَخْفَى عَلَيَّ خَافِيَةٌ مِنْكَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكَ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ رَابِعَةَ الْعَابِدَةِ: "شَغَلُوا قُلُوبَهُمْ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِحُبِّ الدُّنْيَا، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَجَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ بِطُرَفِ الْفَوَائِدِ ". وَلَمْ تَرِدْ أَنَّ أَبْدَانَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ، تَجُولُ فِي السَّمَاءِ بِالْحُلُولِ، وَلَكِنْ تَجُولُ هُنَاكَ بِالْفِكْرَةِ وَالْقَصْدِ وَالْإِقْبَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مَهْدِيَّةَ الْأَعْرَابِيِّ: "اطَّلَعْتُ فِي النَّارِ، فَرَأَيْتُ الشُّعَرَاءَ لَهُمْ كَصِيصٌ"3، يَعْنِي الْتِوَاءً وَأَنْشَدَ:   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: تَوْحِيد 15 و50، وَمُسلم: ذكر 20 و21 و22 وتوبة 1، وَالتِّرْمِذِيّ: دعوات 131، وَابْن ماجة: أدب 58، وَأحمد: 2/ 413-435، 480، 484-509-524- 3/ 40-122-127-130-373-5/ 153-155-169-351. 2 الوجس: الصَّوْت الْخَفي. 3 كصيص: رعدة وتحرك والتواء من الْجهد والانقباض والذعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 جَنَادِبُهَا صَرْعَى لَهُنَّ كَصِيصُ أَيِ: الْتِوَاءٌ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْبُلْهَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ"1، إِنَّ اطِّلَاعَهُ فِيهِمَا كَانَ بِالْفِكْرِ وَالْإِقْبَالِ، كَانَ تَأْوِيلًا حَسَنًا.   1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: جَهَنَّم 11. عَن ابْن عَبَّاس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا الْفُقَرَاء، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهلهَا النِّسَاء" ... ورد فِي "الْأَسْرَار المرفوعة فِي الْأَخْبَار الْمَوْضُوعَة" رقم 53 لملا عَليّ الْقَارِي، تَحْقِيق د. مُحَمَّد لطفي الصّباغ: "أَكثر أهل الْجنَّة البله"، وَرَوَاهُ الْبَزَّار مضعفًا والقرطبي مصححًا، وَقَالَ ابْن عدي: إِنَّه مُنكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 44- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- لَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَلَكَ الْمَوْتِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَطَمَ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَأَعْوَرَهُ" 1، فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى مَلَكِ الْمَوْتِ الْعَوَرُ، جَازَ عَلَيْهِ الْعَمَى. وَلَعَلَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ لَطَمَ الْأُخْرَى فَأَعْمَاهُ؛ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ أَشَدَّ لِلْمَوْتِ كَرَاهِيَةً مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ صَارِفًا هَذِهِ الْكَأْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَاصْرِفْهَا عَنِّي". قَالَ أَبُو مُحَمَّد: نَحن نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَسَنُ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَحْسَبُ لَهُ أصلا فِي الْأَخْبَارِ الْقَدِيمَةِ، وَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيح لَا يَدْفَعهُ النّظر.   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: جنائز 69 أَنْبيَاء 31، وَمُسلم: فَضَائِل 157، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 121، وَأحمد 2/ 269-315-351. قَول الْمُؤلف: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَن أبي هُرَيْرَة وَذكر قصَّة ملك الْمَوْت مَعَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ علق عَلَيْهِ بعد ذَلِك بِأَنَّهُ حَدِيث حسن. أَقُول: فِي سِيَاق الْمُؤلف تَقْصِير وَفِي رده عَلَيْهِ تَقْصِير أكبر، فَالْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي موضِعين من طَرِيق معمر عَن ابْن طَاوس عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعا، وَهَذِه طَرِيق صَحِيحَة كَالشَّمْسِ، وَرَوَاهُ مِنْهَا مُسلم وَذكر لَهُ طَرِيقا أخر عَن معمر عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ذكر طَرِيق حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بن أبي عمار الَّتِي ذكرهَا ابْن قُتَيْبَة، والْحَدِيث لَيْسَ كَمَا قَالَ إِنَّه حسن بل هُوَ صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ وتأويله سَائِغ مَعْقُول لَا إِشْكَال فِيهِ، انْظُر: فتح الْبَارِي. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِيهِ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ تَعَالَى رُوحَانِيُّونَ، وَالرُّوحَانِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الرُّوحِ، نِسْبَةَ الْخِلْقَةِ، فَكَأَنَّهُمْ أَرْوَاحٌ لَا جُثَثَ لَهُمْ، فَتَلْحَقُهَا الْأَبْصَارُ، وَلَا عُيُونَ لَهَا كَعُيُونِنَا، وَلَا أَبْشَارَ كَأَبْشَارِنَا. وَلَسْنَا نَعْلَمُ كَيْفَ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا شَاهَدْنَا، وَإِلَّا مَا رَأَيْنَا لَهُ مِثَالًا، وَكَذَلِكَ الْجِنُّ، وَالشَّيَاطِينُ، وَالْغِيلَانُ هِيَ أَرْوَاحٌ، وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا. وَإِنَّمَا تَنْتَهِي فِي صِفَاتِهَا إِلَى حَيْثُ مَا وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَنَا، وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 1. ثُمَّ قَالَ: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ، كَأَنَّهُ يَزِيدُ فِي تِلْكَ الْأَجْنِحَةِ مَا يَشَاءُ وَفِي غَيْرِهَا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَدْعُو الْمَلَائِكَةَ جِنًّا؛ لِأَنَّهُمُ اجْتَنُّوا عَنِ الْأَبْصَارِ، كَمَا اجْتَنَّتِ الْجِنُّ. قَالَ الْأَعْشَى يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرٍ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ، أَنْ تَتَمَثَّلَ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَتَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَفِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَرَآهُ مَرَّةً قَدْ سَدَّ بِجَنَاحَيْهِ مَا بَيْنَ الْأُفُقَيْنَ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِلْجِنِّ أَنْ تَتَمَثَّلَ وَتَتَخَيَّلَ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا جَعَلَ للْمَلَائكَة.   1 الْآيَة: 1 من سُورَة فاطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 1. لَيْسَ مَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْحَقَائِقِ، إِنَّمَا هِيَ تَمْثِيلٌ وَتَخْيِيلٌ، لِتَلْحَقَهَا الْأَبْصَارُ. وَحَقَائِقُ خَلْقِهَا، أَنَّهَا أَرْوَاحٌ لَطِيفَةٌ، تَجْرِي مَجْرَى الدَّمِ، وَتَصِلُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَتَدْخُلُ فِي الثَّرَى، وَتَرَى وَلَا تُرَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِبْلِيسَ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} 2، يُرِيدُ: أَنَّا لَا نَرَاهُمْ فِي حَقَائِقِ هَيْئَاتِهِمْ. وَقَالَ أَيْضًا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} 3. يُرِيدُ: لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا، لَمْ تُدْرِكْهُ حَوَاسُّهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَلْحَقُ حَقَائِقَ هَيْئَاتِ الْمَلَائِكَةِ، فَكُنَّا نَجْعَلُهُ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لِيَرَوْهُ، وَيَفْهَمُوا عَنهُ. وَقد ذكر بن عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الزُّهْرَةِ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ الْمَلَكَيْنِ إِلَى الْأَرْضِ لِيَحْكُمَا بَيْنَ أَهْلِهَا، نَقَلَهُمَا إِلَى صُوَرِ النَّاسِ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ يَرَوْنَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، وَإِلَّا مَنْ شَاكَلَهُمْ وَأَشْبَهَهُمْ" 4. وَلَمَّا تَمَثَّلَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا مَلَكُ اللَّهِ، وَهَذَا نَبِيُّ اللَّهِ، وَجَاذَبَهُ لَطَمَهُ مُوسَى لَطْمَةً أَذْهَبَتِ الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ تَخْيِيلٌ وَتَمْثِيلٌ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً، وَعَادَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى حَقِيقَةِ خِلْقَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ كَمَا كَانَ، لَمْ ينتقص مِنْهُ شَيْء.   1 الْآيَة: 17 من سُورَة مَرْيَم. 2 الْآيَة: 27 من سُورَة الْأَعْرَاف. 3 الْآيَة: 8، 9 من سُورَة الْأَنْعَام. 4 رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه مطولا عَن أبي زَكَرِيَّا الْعَنْبَري عَن مُحَمَّد بن عبد السَّلَام عَن إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ عَن حكام بن سَالم الرَّازِيّ، وَكَانَ ثِقَة عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 45- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- قَصَصٌ وَأَخْبَارٌ قَدِيمَةٌ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ عِوَجًا اقْتَلَعَ جَبَلًا، قَدْرُهُ فَرْسَخٌ، فِي فَرْسَخٍ عَلَى قَدْرِ عَسْكَرِ مُوسَى، فَحَمَلَهَ عَلَى رَأْسِهِ لِيُطْبِقَهُ عَلَيْهِمْ، فَصَارَ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ حَتَّى مَاتَ. وَأَنَّهُ كَانَ يَخُوضُ الْبَحْرَ، فَلَا يُجَاوِزُ رُكْبَتَيْهِ. وَكَانَ يَصِيدُ الْحِيتَانَ مِنْ لُجَجِهِ، وَيَشْوِيهَا فِي عَيْنِ الشَّمْسِ. وَأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ، وَقَعَ عَلَى نِيلِ مِصْرَ، فَجَسَرَ لِلنَّاسِ سَنَةً "أَيْ صَارَ جِسْرًا لَهُمْ يَعْبُرُونَ عَلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ". وَأَنَّ طُولَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَطُولَ عَصَاهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، ووثب من الأَرْض عشرَة لِيَضْرِبَهُ، فَلَمْ يَبْلُغْ عُرْقُوبَهُ. قَالُوا: وَهَذَا كَذِبٌ بَيِّنٌ، لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، وَلَا عَلَى جَاهِلٍ. وَكَيْفَ صَارَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ الزَّمَانِ هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ؟ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، مَنْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ هَذَا التَّفَاوُتُ؟!! وَكَيْفَ يُطِيقُ آدَمِيٌّ، حَمْلَ جَبَلٍ عَلَى رَأْسِهِ، قَدْرُهُ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ؟!! قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَأْتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ صَحَابَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الْقَدِيمَةِ، الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الْكُتُبِ، سَمِعَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ عَلَى قَدِيمِ الْأَيَّامِ، فَتَحَدَّثُوا بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وَالْحَدِيثُ يَدْخُلُهُ الشَّوْبُ وَالْفَسَادُ، مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ. أَمْثِلَةٌ مِنْ فُسَّادِ الْحَدِيثِ: مِنْهَا: الزَّنَادِقَةُ وَاجْتِيَالُهُمْ لِلْإِسْلَامِ، وَتَهْجِينُهُ بِدَسِّ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَشْنَعَةِ وَالْمُسْتَحِيلَةِ: كَالْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا1 مِنْ عَرَقِ الْخَيْلِ، وَعِيَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَفَصِ الذَّهَبِ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، وَزَغَبِ الصَّدْرِ، وَنُورِ الذِّرَاعَيْنِ، مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، لَيْسَتْ تَخْفَى عَلَى أَهْلِ الحَدِيث. مِنْهُم بن أَبِي الْعَوْجَاءِ الزِّنْدِيقُ، وَصَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ الدَّهْرِيُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْقُصَّاصُ عَلَى قَدِيمِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّهُمْ يُمِيلُونَ وُجُوهَ الْعَوَامِّ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَدِرُّونَ2 مَا عِنْدَهُمْ: بِالْمَنَاكِيرِ، وَالْغَرِيبِ، وَالْأَكَاذِيبِ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَمِنْ شَأْنِ الْعَوَامِّ، الْقُعُودُ عِنْدَ الْقَاصِّ، مَا كَانَ حَدِيثُهُ عَجِيبًا، خَارِجًا عَنْ فِطَرِ الْعُقُولِ، أَوْ كَانَ رَقِيقًا يُحْزِنُ الْقُلُوبَ، وَيَسْتَغْزِرُ الْعُيُونَ. فَإِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ، قَالَ فِيهَا الْحَوْرَاءُ مِنْ مِسْكٍ، أَوْ زَعْفَرَانٍ، وَعَجِيزَتُهَا مِيلٌ فِي مِيلٍ. وَيُبَوِّئُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِيَّهُ قَصْرًا مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ، فِيهِ سَبْعُونَ أَلِفَ مَقْصُورَةٍ، فِي كُلِّ مَقْصُورَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ قُبَّةٍ ... فِي كُلِّ قُبَّةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ فِرَاشٍ عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ سَبْعُونَ أَلْفَ كَذَا، فَلَا يَزَالُ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ كَذَا، وَسَبْعِينَ أَلْفًا؛ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فَوْقَ السَّبْعِينَ وَلَا دونهَا.   1 يَقُول إِسْمَاعِيل الأسعردي: أَنه نظر فِي ملل الشهرستاني فِي الْكَلَام على المشبهة فَوجدَ مَا نَصه: -فِي أثْنَاء كَلَامه على مشبهة الحشوية:"وَزَادُوا فِي الْأَخْبَار أكاذيب وضعوها ونسبوها إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وأكثرها مقتبسة من الْيَهُود، فَإِن التَّشْبِيه فيهم طباع، حَتَّى قَالُوا: اشتكت عَيناهُ فعادته الْمَلَائِكَة" ا. هـ. كتبه إِسْمَاعِيل الأسعردي. أَقُول: وَمثل هَذَا من تلفيق الزَّنَادِقَة واقتباسهم عَن الْكفَّار من أهل الْكتاب وَعَبدَة الْأَوْثَان. 2 أَي: يستنزلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وَيَقُولُ: لَأَصْغَرُ مَنْ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ، مَنْ يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ الدُّنْيَا كَذَا وَكَذَا ضِعْفًا، وَكُلَّمَا كَانَ مِنْ هَذَا أَكْثَرَ، كَانَ الْعَجَبُ أَكْثَرَ، وَالْقُعُودُ عِنْدَهُ أَطْوَلَ، وَالْأَيْدِي بِالْعَطَاءِ إِلَيْهِ أَسْرَعَ. كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنِ الْجَنَّةِ: وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُخْبِرُنَا فِي كِتَابِهِ، بِمَا فِي جَنَّتِهِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ عَنْ أَخْبَارِ الْقَصَّاصِ، وَسَائِرِ الْخَلْقِ، حِينَ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَنَّ عَرْضَهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، يُرِيدُ: سِعَتَهَا. وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ السِّعَةِ بِالْعَرْضِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا اتَّسَعَ عَرُضَ، وَإِذَا دَقَّ وَاسْتَطَالَ ضَاقَ. وَتَقُولُ: "ضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ الْعَرِيضَةُ" أَيِ: الْوَاسِعَةُ، وَفِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ مَذْهَبٌ "أَيِ الْوَاسِعَةُ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ: "لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً" "أَيْ وَاسِعَةً". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيض} 1 أَيْ "كَثِيرٍ". فَكَيْفَ يَكُونُ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيُعْطِي اللَّهُ تَعَالَى أَخَسَّ مَنْ فِيهَا مَنْزِلَةً فِيهَا مِثْلَ الدُّنْيَا أَضْعَافًا؟!! وَيَقُولُ تَعَالَى، حِينَ شَوَّقَنَا إِلَيْهَا: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} 2. وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الْمُقَرَّبِينَ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ، وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 3.   1 الْآيَة: 51 سُورَة فصلت. 2 الْآيَة: 71 من سُورَة الزخرف. 3 الْآيَة: 18-26 من سُورَة الْوَاقِعَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} 1. وَقَالَ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} 2. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا يَنَالُهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا، وَيَتَنَعَّمُ بِهِ الْمُتْرَفُونَ، خَلَا مَا فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَا فِي الْجنَّة، وخلا الخلود. عود إِلَى الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ: ثُمَّ يَذْكُرُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَصِفُهُ، فَيَقُولُ: "كَانَ رَأْسُهُ يَبْلُغُ السَّحَابَ أَوِ السَّمَاءَ، وَيُحَاكُّهَا، فَاعْتَرَاهُ لِذَلِكَ الصَّلَعُ، وَلَمَّا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ، بَكَى عَلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى بَلَغَتْ دُمُوعُهُ الْبَحْرَ، وَجَرَتْ فِيهَا السُّفُنُ". وَيَذْكُرُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: "سَجَدَ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَبَكَى حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ زَفَرَ زَفْرَةً، هَاجَ لَهُ ذَلِكَ النَّبَاتُ". وَيَذْكُرُ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولُ: "كَانَ نَابُهَا كَنَخْلَةِ سَحُوقٍ، وَعَيْنُهَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، وَعُرْفُهَا كَذَا". وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} 3، و"الجان" خَفِيفُ الْحَيَّاتِ. وَذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ: {ثُعْبَانٌ مُبِين} ، {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} 4. وَيَذْكُرُ عِبَادًا أَتَاهُمْ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَبَلِ لبنان، فيخبرهم عَن   1 الْآيَة: 28 من سُورَة الْوَاقِعَة. 2 الْآيَة: 33 من سُورَة فاطر. 3 الْآيَة: 10 من سُورَة النَّمْل. 4 الْآيَة: 107 من سُورَة الْأَعْرَاف، وجدناها خطأ بِلَفْظ "فَإِذا هِيَ ثعبان"، وَالصَّوَاب: فَإِذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الرجل مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَرْكَعُ رَكْعَةً فِي سَنَةٍ، وَيَسْجُدُ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا فِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الزَّمَانِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِينَ قَبْلَنَا، فَقَالَ: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا} 1. وَقَالَ تَعَالَى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} 2، وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} 3. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ قَبْلَنَا، مَا يُقَارِبُ هَذَا الْإِفْرَاطَ. وَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ مِنَّا أَجْسَامًا، وَأَشَدَّ قُوَّةً، غَيْرَ أَنَّ الْمِقْدَارَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِقْدَارُ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَعْمَارِنَا وَأَعْمَارِهِمْ. فَهَذَا آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا عَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ بِذَلِكَ تَتَابَعَتِ الْأَخْبَارُ، وَوَجَدْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَهَذَا نُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا. ثُمَّ انْتَقَصَتِ الْأَعْمَارُ بَعْدَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ فِي عُمُرِ لُقْمَانَ، صَاحِبِ النُّسُورِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ عَاشَ أَعْمَارَ سَبْعَةِ أَنْسُرٍّ. وَكَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ ألفي سنة، وَأَرْبع مائَة سَنَةٍ وَنَيِّفًا، وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَهَذَا شَيْءٌ مُتَقَادِمٌ، لَمْ يَأْتِ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا ثِقَةٌ4، وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَحْكِيهِ عُبَيْدُ بْنُ شَرِيَّةَ الْجُرْهُمِيُّ5 وَأَشْبَاهُهُ من النساب،   1 الْآيَة: 69 من سُورَة التَّوْبَة. 2 الْآيَة: 347 من سُورَة الْبَقَرَة. 3 الْآيَة: 128 من سُورَة الشُّعَرَاء. 4 لَعَلَّ الْأَصَح: وَلَا سنة. 5 عبيد الله بن شرية الجرهمي: راوية من المعمرين، إِن صَحَّ خَبره فَهُوَ أول من صنف الْكتب من الْعَرَب. قيل فِي تَرْجَمته: من الْحُكَمَاء والخطباء فِي الْجَاهِلِيَّة أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، واستحضره مُعَاوِيَة فَسَأَلَهُ عَن أَخْبَار الأقدمين فأملى كتابين، وعاش إِلَى أَيَّام عبد الْملك بن مَرْوَان، توفّي سنة 67هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وَكَذَلِكَ أَعْمَارُ مُلُوكِ الْيَمَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ مُلُوكُ الْعَجَمِ. وَقَدْ عُمِّرَ قَوْمٌ قَرَبُوا مِنْ زَمَانِنَا، أَعْمَارًا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا صَحَّ مِنْ عُمُرِ آدَمَ وَنُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ تَفَاوُتٌ شَدِيدٌ، كَتَفَاوُتِ هَذَا الْخَلْقِ. حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ1، قَالَ: مَرَّ الْمُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ2 فِي سوق عكاظ، وَمَعَهُ بن ابْنِهِ خَرِفًا3، وَمُسْتَوْغِرٌ يَقُودُهُ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: يَا هَذَا أَحْسِنْ إِلَيْهِ، فَطَالَمَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَبُوكَ أَوْ جَدُّكَ. فَقَالَ الْمُسْتَوْغِرُ: هُوَ -وَاللَّهِ- ابْنُ ابْنِي. فَقَالَ الرَّجُلُ: تَاللَّهِ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا مُسْتَوْغِرِ بْنِ رَبِيعَةَ. قَالَ: فَأَنَا مُسْتَوْغِرٌ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: عَاشَ مُسْتَوْغِرٌ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مُعْتَبَرًا بِآثَارِهِمْ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا بَنَوْهُ مِنْ مُدُنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَنَقَبُوهُ4 فِي الْجِبَالِ الصُّمِّ مِنْ أَبْوَابِهِمْ، وَنَحَتُوهُ مِنْ دَرَجِهِمْ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، إِلَّا كَمَا بَيْنَ أعمارنا وأعمارهم، وَكَذَلِكَ الْخلق.   1 أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: هُوَ زيان بن عمار التَّمِيمِي الْمَازِني الْبَصْرِيّ ولد عَام 70هـ من أَئِمَّة اللُّغَة وَالْأَدب، وَأحد الْقُرَّاء السَّبْعَة، ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بِالْبَصْرَةِ وَمَات بِالْكُوفَةِ سنة 154هـ. 2 المستوغر بن ربيعَة: هُوَ عَمْرو بن ربيعَة بن كَعْب التَّمِيمِي السَّعْدِيّ أَبُو بيهس: شَاعِر من المعمرين الفرسان فِي الْجَاهِلِيَّة، قيل: أدْرك الْإِسْلَام، وَأمر بهدم الْبَيْت الَّذِي كَانَت تعظمه ربيعَة فِي الْجَاهِلِيَّة. 3 الخرف: فَسَاد الْعقل. 4 النقب: الثقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وَلَا أَعْلَمُنِي سَمِعْتُ فِي التَّفَاوُتِ بِأَشَدَّ مِنْ شَيْءٍ حَدَّثَنِيهِ الرِّيَاشِيُّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: وَلَّانِي خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ1 "حَفْرَ الْمَبَارِكِ"2، فَجَاءَنِي الْعُمَّالُ بِضِرْسٍ، فَوَزَنْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ، وَلَسْنَا نَدْرِي أَهْوَ ضِرْسُ إِنْسَانٍ أَوْ ضِرْسُ جَمَلٍ، أَوْ فِيلٍ؟ وَحَدَّثَنِي الرِّيَاشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: وُجِدَ فِي حَجَاجِ3 رَجُلٍ مِنَ الْعَمَالِيقِ ضَبْعٌ وَجِرَاؤُهَا4. قَالَ: وَهَذَا قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَجَاجَ جَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَظَنَّهُ الرَّائِي لَهُ أَنَّهُ حَجَاجُ رَجُلٍ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَجَاجُ رَجُلٍ، مَا وَقَعَ فِيهِ التَّفَاوُتُ؛ لَأَنَّ الْحَجَاجَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا خَلَا وَاسِعٌ، ثُمَّ هُوَ يُفْضِي إِلَى الْقِحْفِ5، وَلَا يُنْكَرُ -فِي قَدْرِ أَجْسَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ- أَنْ يَكُونَ فِي الْحَجَاجِ وَالْقِحْفِ، مَا ذُكِرَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الَّذِي يَقَعُ فِيهِ فَسَادُ الْحَدِيثِ فَأَخْبَارٌ مُتَقَادِمَةٌ كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَرْوُونَهَا: تُشْبِهُ أَحَادِيثَ الْخُرَافَةِ، كَقَوْلِهِمْ: "إِنَّ الضَّبَّ كَانَ يَهُودِيًّا عَاقًّا، فَمَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى ضَبًّا"، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّاسُ: "أَعَقُّ مِنْ ضَبٍّ". وَلَمْ تَقُلِ الْعَرَبُ: "أَعَقُّ مِنْ ضَبٍّ" لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ حُسُولَهُ6 إِذا جَاع، قَالَ الشَّاعِر:   1 خَالِد بن عبد الله بن يزِيد بن أَسد الْقَسرِي من بجيلة أَبُو الْهَيْثَم أَمِير العراقين، وَأحد خطباء الْعَرَب وأجوادهم يماني الأَصْل ولد عَام 66هـ، استوطن دمشق ولي مَكَّة سنة 89هـ، ثمَّ الْكُوفَة وَالْبَصْرَة ثمَّ عزل وسجن وَقتل فِي أَيَّام الْوَلِيد 126هـ، وَكَانَ يرْمى الزندقة. 2 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "حفر الْمنَازل". 3 الْحجَّاج: عظمم ينْبت عَلَيْهِ الْحَاجِب. 4 الجراء: جمع جرو وَهُوَ صَغِير الْحَيَوَانَات. 5 القحف: بِكَسْر الْقَاف: الْعظم فَوق الدِّمَاغ، وَمَا انْفَلق من الجمجمة فَبَان، وَلَا يدعى قحفًا حَتَّى يبين أَو ينكسر مِنْهُ شَيْء. ج: أقحاف وقحوف وقحفة. 6 حُصُول: جمع حسل، وَهُوَ ولد الضَّب حَيْثُ يخرج من بيضته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أَكَلْتَ بَنِيكَ أَكْلَ الضَّبِّ حَتَّى ... تَرَكْتَ بَنِيكَ لَيْسَ لَهُمْ عَدِيدُ وَكَقَوْلِهِمْ فِي الْهُدْهُدِ: "إِنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ" فَدَفَنَهَا فِي رَأْسِهِ، فَلِذَلِكَ أُنْتِنَتْ رِيحُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، فَقَالَ: غَيْمٌ وَظَلْمَاءُ وَفَضْلُ سَحَابَةٍ ... أَيَّامَ كُفِّنَ وَاسْتَزَادَ الْهُدْهُدُ يَبْغِي الْقَرَارَ لِأُمِّهِ لِيُجِنَّهَا ... فَبَنَى عَلَيْهَا فِي قَفَاهُ يُمَهِّدُ فَيَزَالُ يُدْلِجُ مَا مَشَى بِجَنَازَةٍ ... مِنْهَا وَمَا اخْتَلَفَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ وَكَقَوْلِهِمْ فِي الدِّيكِ وَالْغُرَابِ: إِنَّهُمَا كَانَا مُتَنَادِمَيْنِ، فَلَمَّا نَفِدَ شَرَابُهُمَا، رَهَنَ الْغُرَابُ الدِّيكَ عِنْدَ الْخَمَّارِ، وَمَضَى فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَبَقِيَ الدِّيكُ عِنْدَ الْخَمَّارِ حَارِسًا. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: بِآيَةٍ قَامَ يَنْطِقُ كُلُّ شَيْءٍ ... وَخَانَ أَمَانَهُ الدِّيكَ الْغُرَابُ وَكَقَوْلِهِمْ فِي السِّنَّوْرِ إِنَّهَا عَطْسَةُ الْأَسَدِ، وَفِي الْخِنْزِيرِ إِنَّهُ عَطْسَةُ الْفِيلِ، وَفِي الْإِرْبِيَانَةِ1 إِنَّهَا خَيَّاطَةٌ كَانَتْ تَسْرِقُ الْخُيُوطَ فَمُسِخَتْ، وَإِنَّ الْجَرِيَّ2 كَانَ يَهُودِيًّا فَمُسِخَ، وَحَدِيثُ عِوَجٍ عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ عِوَجًا هَذَا، كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ، وَلَهُ هَذَا الطُّولُ الْعَجِيبُ. وَفِرْعَوْنُ فِي زَمَنِهِ، وَهُوَ ضِدُّهُ فِي الْقَصَرِ، عَلَى مَا ذَكَرَ الْحَسَنُ. حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، أَوْ رَجُلٌ عِنْدَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّحْوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا كَانَ طُولُ فِرْعَوْنَ إِلَّا ذِرَاعًا، وَكَانَتْ لحيته ذِرَاعا.   1 الإربيانة: سَمَكَة كالدودة. 2 الجري: نوع من السّمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 46- قَالُوا: أَحَادِيث متناقضة- كِتَابَة الحَدِيث: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ1 أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ، فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا فَلْيَمْحُهُ" 2. ثمَّ رويتم عَن بن جريج، عَن عَطاء عَن بن عَمْرٍو، قَالَ: قَلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَيِّدُ الْعِلْمَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قِيلَ وَمَا تَقْيِيدُهُ؟ قَالَ: "كِتَابَتُهُ" 3. وَرُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ ". قُلْتُ: فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا الْحَقَّ" 4. قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا مَعْنيين:   1 زيد بن أسلم الْعَدوي الْعمريّ مَوْلَاهُم أَبُو أُسَامَة أَو أَبُو عبد الله فَقِيه مُفَسّر من أهل الْمَدِينَة، كَانَ مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز أَيَّام خِلَافَته. واستقدمه الْوَلِيد بن يزِيد فِي جمَاعَة من فُقَهَاء الْمَدِينَة إِلَى دمشق مستفتيًا فِي أَمر، وَكَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، توفّي 136هـ. 2 رَوَاهُ مُسلم: زهد72، والدارمي: مُقَدّمَة 42، وَأحمد 3/ 12-21-39. 3 رَوَاهُ الدَّارمِيّ: مُقَدّمَة 43. 4 رَوَاهُ الدِّرَامِي: مُقَدّمَة43، وَأَبُو دَاوُد: علم3، وَأحمد 2/ 1962، 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أحداهما: أَنْ يَكُونَ مِنْ مَنْسُوخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، كَأَنَّهُ نَهَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ أَنْ يُكْتَبَ قَوْلُهُ، ثُمَّ رَأَى بَعْدُ -لَمَّا عَلِمَ أَنَّ السُّنَنَ تَكْثُرُ وَتَفُوتُ الْحِفْظَ- أَنْ تُكْتَبَ وَتُقَيَّدَ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ خَصَّ بِهَذَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، لِأَنَّهُ كَانَ قَارِئًا لِلْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيَكْتُبُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَكَانَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أُمِّيِّينَ، لَا يَكْتُبُ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، وَإِذَا كَتَبَ لَمْ يُتْقِنْ، وَلَمْ يُصِبِ التَّهَجِّيَ. فَلَمَّا خَشِيَ عَلَيْهِمُ الْغَلَطَ فِيمَا يَكْتُبُونَ نَهَاهُمْ، وَلَمَّا أَمِنَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ذَلِكَ، أَذِنَ لَهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَن يفِيض المَال، وَيظْهر الْعلم، وَيَفْشُوَ التُّجَّارُ"1. قَالَ عَمْرٌو: إِنْ كُنَّا لَنَلْتَمِسُ فِي الْحِوَاءِ2 الْعَظِيمِ الْكَاتِبَ، وَيَبِيعُ الرَّجُلُ الْبَيْعَ فَيَقُولُ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ تَاجِرَ بَنِي فُلَانٍ.   1 أخرجه ابْن ماجة: فتن 25، وَأحمد 2/ 313-417-457-530، وَقد أخرجه النَّسَائِيّ "7/ 215" فِي بَاب التِّجَارَة بِلَفْظ: "إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يفشو المَال وَيكثر، وتفشو التِّجَارَة، وَيظْهر الْعلم، وَيبِيع الرجل البيع فَيَقُول لَا حَتَّى أَسْتَأْمِرَ تَاجِرَ بَنِي فُلَانٍ، ويلتمس فِي الْحَيّ الْعَظِيم الْكَاتِب فَلَا يُوجد"، وَرِجَاله كلهم ثِقَات، وَأخرجه أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَهُوَ فِي منحة المعبود "2/ 212" برقم2763 قَالَ: حَدثنَا ابْن فضَالة عَن الْحسن بِهِ نَحوه، وَقد ضعفه الأرناؤوط فِي جَامع الْأُصُول برقم7935 عَن عَمْرو بن تغلب 10/ 415ط. الأوناؤوط. 2 الحواء: أَي الْحَيّ فِيهِ جمَاعَة الْبيُوت المتدانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 47- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ"1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّ بن الْحَنَفِيَّةِ سُئِلَ عَنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ"، قَالُوا: وَهَذَا اخْتِلَافٌ. وَبُعْدٌ: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى حَجَرًا مِنَ الْجَنَّةِ؟ وَهَلْ فِي الْجَنَّةِ حِجَارَةٌ؟ وَإِنْ كَانَتِ الْخَطَايَا سَوَّدَتْهُ فَقَدْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْيَضَّ، لَمَّا أَسْلَمَ النَّاسُ، وَيَعُودَ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى. الِاخْتِلَافُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، أَن يُخَالف بن الْحَنَفِيَّة بن عَبَّاسٍ، وَيُخَالِفَ عَلِيٌّ عُمَرَ، وَزَيْدُ بن ثَابت بن مَسْعُودٍ فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الْأَحْكَامِ. وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ أَنْ يَحْكُوا عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَكَثِيرٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ سَمِعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ ظَنَّهُ وَمِنْهُم من يجْتَهد رَأْيه.   1 انْظُر التَّمْيِيز66، والكشف: 1/ 348، وَضَعِيف الْجَامِع 3/ 109 برقمين 2770، 2771، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَانْظُر تَارِيخ بَغْدَاد 6/ 328، الحَدِيث ضَعِيف جدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ. غَيْرَ أَنَّ بن عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْحَجَرِ بِقَوْلٍ سَمِعَهُ، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُولَ: "كَانَ أَبْيَضَ، وَهُوَ مِنَ الْجَنَّةِ" بِرَأْيِ نَفسه. وَإِنَّمَا الظَّان بن الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهُ رَآهُ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ، فَقَضَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ حَيْثُ أُخِذَتْ. وَالْأَخْبَار المقوية لقَوْل بن عَبَّاسٍ فِي الْحَجَرِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ، يَشْهَدُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا. وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ لُؤْلُؤَةً بَيْضَاءَ، فَسَوَّدَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "هَلْ فِي الْجَنَّةِ حِجَارَةٌ"؟ فَمَا الَّذِي أَنْكَرُوهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ حِجَارَةٌ، وَفِيهَا الْيَاقُوتُ، وَهُوَ حَجَرٌ، وَالزُّمُرُّدُ حَجَرٌ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مِنَ الْحِجَارَةِ؟ وَمَا الَّذِي أَنْكَرُوهُ مِنْ تَفْضِيلِ اللَّهِ تَعَالَى حَجَرًا، حَتَّى لُثِمَ وَاسْتُلِمَ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَعْبِدُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ من الْعَمَل وَالْقَوْل، وَيُفَضِّلُ بَعْضَ مَا خَلَقَ عَلَى بَعْضٍ. فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، لَيْسَتْ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَالسَّمَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْكُرْسِيُّ أَفْضَلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْعَرْشُ أَفْضَلُ مِنَ الْكُرْسِيِّ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالشَّامُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِرَاقِ. وَهَذَا كُلُّهُ مُبْتَدَأٌ بِالتَّفْضِيلِ، لَا بِعَمَلٍ عَمِلَهُ، وَلَا بِطَاعَةٍ كَانَتْ مِنْهُ. كَذَلِكَ الْحَجَرُ أَفْضَلُ مِنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ أَفْضَلُ مِنْ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ، وَالْمَسْجِدُ أَفْضَلُ مِنَ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ أَفْضَلُ مِنْ بِقَاعِ تِهَامَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنْ كَانَتِ الْخَطَايَا سَوَّدَتْهُ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَبْيَضَّ لَمَّا أَسْلَمَ النَّاسُ. فَمَنِ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ يَبْيَضَّ بِإِسْلَامِ النَّاسِ؟ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَفَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ. وَبَعْدُ: فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ وَفَلْسَفَةٍ، فَكَيْفَ ذَهَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ السَّوَادَ يَصْبُغُ وَلَا يَنْصَبِغُ، وَالْبَيَاضَ يَنْصَبِغُ وَلَا يصْبغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 48- قَالُوا أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ- مَزْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِدُّهُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الْدَّدُ مِنِّي" 1. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ لَهُ: "أَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ؟ ". فَقَالَ: "نَعَمْ، إِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا الْحَقَّ" 2. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ كَانَ يَمْزَحُ، وَأَنَّهُ اسْتَدْبَرَ رَجُلًا مِنْ وَرَائِهِ فَأَخَذَ بِعَيْنَيْهِ وَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ" 3، وَوَقَفَ عَلَى وَفْدِ الْحَبَشَةِ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَزْفِنُونَ4، وَعَلَى أَصْحَابِ الدِّرْكِلَةِ5 وَهُمْ يَلْعَبُونَ. وَسَابَقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَسَبَقَهَا تَارَةً، وَسَبَقَتْهُ أُخْرَى.   1 غَرِيب الحَدِيث لِابْنِ الْأَثِير، والدد: اللَّهْو واللعب، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد وَالْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى، وَابْن عَسَاكِر عَن أنس وَهُوَ ضَعِيف. ضَعِيف الْجَامِع رقم 4676 و4677. -مُحَمَّد بدير-. 2 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: علم3، وَأحمد: 2/ 207، والدارمي: مُقَدّمَة 43، ومشكاة المصابيح: بَاب المزاح برقم 4885، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 1196، والصحيحة رقم 1532. 3 مشكاة المصابيح: كتاب الْآدَاب، بَاب المزاح حَدِيث رقم 4889. 4 يزفنون: أَي يرقصون من زفن يزفن: رقص. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص1553". 5 الدركلة: لعبة الْعَجم أَو ضرب من الرقص. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص1291". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 جَاءَ النَّبِيُّ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَوَضَعَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ الْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي دِينِهِمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي عَدَّدَهَا، وَأَوْجَبَ الشُّكْرَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مَنْ أَحَدٍ فِيهِ غَرِيزَةٌ، إِلَّا وَلَهَا ضِدٌّ فِي غَيْرِهِ. فَمِنَ النَّاسِ الْحَلِيمُ، وَمِنْهُمُ الْعَجُولُ، وَمِنْهُمُ الْجَبَانُ، وَمِنْهُمُ الشُّجَاعُ، وَمِنْهُمُ الْحَيِيُّ، وَمِنْهُمُ الْوَقَاحُ، وَمِنْهُمُ الدَّمِثُ، وَمِنْهُمُ الْعَبُوسُ. وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي حِينَ خَلَقْتُ آدَمَ، رَكَّبْتُ جَسَدَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَسُخْنٍ وَبَارِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنِّي خَلَقْتُهُ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ، ثُمَّ جَعَلْتُ فِيهِ نَفْسًا وَرُوحًا. فَيُبُوسَةُ كُلِّ جَسَدٍ خَلَقْتُهُ مِنَ التُّرَابِ، وَرُطُوبَتُهُ مِنْ قِبَلِ الْمَاءِ، وَحَرَارَتُهُ مِنْ قِبَلِ النَّفَسِ، وَبُرُودَتُهُ مِنْ قِبَلِ الرُّوحِ. وَمِنَ النَّفْسِ حِدَّتُهُ وَخِفَّتُهُ، وَشَهْوَتُهُ وَلَهْوُهُ، وَلَعِبُهُ وَضَحِكُهُ، وَسَفَهُهُ وَخِدَاعُهُ، وَعُنْفُهُ وَخَرْقُهُ. وَمِنَ الرُّوحِ، حِلْمُهُ وَوَقَارُهُ، وَعَفَافُهُ وَحَيَاؤُهُ، وفهمه وتكرمه، وَصدقه صبره. أَفَمَا تَرَى أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ مِنْ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ! وَالْغَرَائِزَ لَا تُمْلَكُ! وَإِنْ مَلَكَهَا الْمَرْءُ بِمُغَالَبَةِ النَّفْسِ وَقَمْعِ الْمُتَطَلِّعِ مِنْهَا، لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الطَّبْعِ. الطَّبْعُ أَمْلَكُ: وَكَانَ يُقَالُ: "الطَّبْعُ أَمْلَكُ"، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ يَبْتَدِعْ مَا لَيْسَ مِنْ سُوسِ1 نَفْسِهِ ... يَدَعْهُ وَيَغْلِبْهُ عَلَى النَّفس خيمها   1 سوس نَفسه: من سجيته أَو طَبِيعَته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 "وَقَالَ آخَرُ": يَا أَيُّهَا الْمُتَحَلِّي غَيْرَ شِيمَتِهِ ... وَمَنْ خَلِيقَتُهُ الْإِقْصَادُ1 وَالْمَلَقُ ارْجِعْ إِلَى خُلْقِكَ الْمَعْرُوفِ دَيْدَنُهُ ... إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْبَى2 دُونَهُ الْخُلُقُ وَقَالَ آخَرُ: كُلُّ امْرِئٍ رَاجِعٌ يَوْمًا لِشِيمَتِهِ ... وَإِنْ تَخَلَّقَ أَخْلَاقًا إِلَى حِينِ "وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ": لَا تصحبن امْرَءًا عَلَى حَسَبٍ ... إِنِّي رَأَيْتُ الْأَحْسَابَ قد دُخِلَتْ3 مَالك مِنْ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لَهُ ... أَبًا كَرِيمًا فِي أُمَّةٍ سَلَفَتْ بَلْ فَاصْحَبْنَهُ عَلَى طَبَائِعِهِ ... فَكُلُّ نَفْسٍ تَجْرِي كَمَا طُبِعَتْ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} 4. وَقَالَ تَعَالَى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 5. النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ: وَكَانَ النَّاسُ يَأْتَسُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَشَكْلِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} 6. فَلَوْ تَرَكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرِيقَ الطَّلَاقَةِ وَالْهَشَاشَةِ وَالدَّمَاثَةِ، إِلَى الْقُطُوبِ وَالْعُبُوسِ وَالزَّمَاتَةِ7 أَخَذَ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، عَلَى مَا فِي مُخَالَفَةِ الْغَرِيزَةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ والعناء.   1 كَذَا وَجَدْنَاهُ بالأصول، وَلَعَلَّ الصَّحِيح: الْإِفْسَاد. 2 وبالدمشقية: يَأْبَى من الإباء: وَهُوَ الِامْتِنَاع، وَفِي نسختين: يَأْتِي، وَالْأولَى أصح. 3 دُخلت: أَصبَحت مدخولة أَي مطعون بهَا. 4 الْآيَة: 19 من سُورَة المعارج. 5 الْآيَة: 37 من سُورَة الْأَنْبِيَاء. 6 الْآيَة: 21 من سُورَة الْأَحْزَاب. 7 الزماتة: أَي الوقر، والزميت: الوقور. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 فَمَزَحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَمْزَحُوا، وَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الدِّرْكِلَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ: "خُذُوا يَا بَنِي أَرْفِدَةَ " 1، لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً. يُرِيدُ مَا يَكُونُ فِي الْعُرُسَاتِ، لِإِعْلَانِ النِّكَاحِ، وَفِي الْمَآدِبِ، لِإِظْهَارِ السُّرُورِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الْدَّدُ مِنِّي"، فَإِنَّ الْدَّدَ: اللَّهْوُ وَالْبَاطِلُ. وَكَانَ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ فِي مِزَاحِهِ إِلَّا حَقًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمِزَاحُ دَدًا وَلَا بَاطِلًا. قَالَ لِعَجُوزٍ: "إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعُجُزُ" 2، يُرِيدُ أَنَّهُنَّ يَعُدْنَ شَوَابَّ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُخْرَى: "زَوْجُكِ فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ"، يُرِيدُ: مَا حَوْلَ الْحَدَقَةِ مِنْ بَيَاضِ الْعَيْنِ، فَظَنَّتْ هِيَ أَنَّهُ الْبَيَاضُ الَّذِي يَغْشَى الْحَدَقَةَ. وَاسْتَدْبَرَ رَجُلًا مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ"؟ يَعْنِي: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ. وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ لَيْسَ فِيهِ -بِحَمْدِ اللَّهِ، وَنِعْمَتِهِ- حَرَجٌ، وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ. تَكْلِيفُ النَّفْسِ بِمَا تُطِيقُ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا الزِّيَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن طحلا، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قل" 3.   1 أرفدة: لقب لأبناء الْحَبَشَة وَقيل هُوَ اسْم لجد من جدودهم الأقدمين، ذكره فِي النِّهَايَة. 2 مشكاة المصابيح: بَاب المزاح رقم الحَدِيث 4888. 3 رَوَاهُ البُخَارِيّ: كتاب 19 بَاب 18 و20 وَكتاب 30 بَاب20 و48 و55 و57، وَمُسلم: كتاب 6 ح219 و223، وَكتاب 13 ح181 و182، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 5 بَاب 29 وَكتاب 14 بَاب 54. وكلف بِهِ: أولع، والتكليف: الْأَمر بِمَا يشق، وتكلفه: تجشمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ، عَنْ مَعْنٍ الْغِفَارِيِّ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا" 1. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رُفْقَةً مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ كَانُوا فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ فُلَانٍ، يَصُومُ النَّهَارَ، فَإِذَا نَزَلْنَا، قَامَ يُصَلِّي حَتَّى نَرْتَحِلَ. قَالَ: "مَنْ كَانَ يَمْهُنُ لَهُ، وَيَكْفِيهُ، أَوْ يَعْمَلُ لَهُ"؟ قَالُوا: نَحْنُ، قَالَ: "كُلُّكُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ" 2. وَقَدْ دَرَجَ الصَّالِحُونَ وَالْخِيَّارُ، عَلَى أَخْلَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّبَسُّمِ وَالطَّلَاقَةِ وَالْمِزَاحِ، بِالْكَلَامِ الْمُجَانِبِ للقدع3 وَالشَّتْمِ وَالْكَذِبِ. فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكْثِرُ الدُّعَابَةَ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَضْحَكُ حَتَّى يَسِيلَ لُعَابُهُ، وَقَالَ جَرِيرٌ فِي الْفَرَزْدَقِ: لَقَدْ أَصْبَحَتْ عِرْسُ4 الْفَرَزْدَقِ نَاشِزًا ... وَلَوْ رَضِيَتْ رُمْحَ اسْتِهِ لَاسْتَقَرَّتِ "وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ، وَتَمَثَّلَ بِهِ ابْنُ سِيرِينَ": نُبِّئْتُ أَنَّ فَتَاةً كُنْتُ أَخْطُبُهَا ... عُرْقُوبُهَا مِثْلُ شَهْرِ الصَّوْمِ فِي الطُّولِ أَسْنَانُهَا مِائَةٌ أَوْ زِدْنَ وَاحِدَةً ... وَسَائِرُ الْخَلْقِ مِنْهَا بعد مبطول5   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: إِيمَان 29، وَالنَّسَائِيّ: إِيمَان 28، وَأحمد 5/ 69. 2 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مراسيله عَن أبي قلَابَة. 3 القذع: أَي الْخَنَا وَالْفُحْش. 4 الْعرس: الزَّوْجَة. 5 لَعَلَّ الْأَصَح: "بعد بالطول"، أَي أقل بالطول أسنانًا، وَلم نجده فِي ديوَان الفرزدق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ1، فَقَالَ: "تُوُفِّيَ الْبَارِحَةَ، أَمَا شَعَرْتَ؟ " فَجَزَعَ الرَّجُلُ وَاسْتَرْجَعَ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعَهُ قَرَأَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} 2. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَزْمَتِ3 النَّاسِ إِذَا خَرَجَ، وَأَفْكَهِهِمْ فِي بَيْتِهِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنِّي لَأَسْتَجِمُّ4 نَفْسِي بِبَعْضِ الْبَاطِلِ، كَرَاهَةَ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ مَا يُمِلُّهَا. وَكَانَ شُرَيْحٌ يَمْزَحُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ، وَكَانَ صُهَيْبٌ مَزَّاحًا، وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ مَزَّاحًا. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ إِذَا مَزَحَ لَمْ يُفْحِشْ، وَلَمْ يَشْتُمْ، وَلَمْ يَغْتَبْ، وَلَمْ يَكْذِبْ. وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنَ الْمِزَاحِ مَا خَالَطَتْهُ هَذِهِ الْخِلَالُ، أَوْ بَعْضُهَا. وَأَمَّا الْمَلَاعِبُ، فَلَا بَأْسَ بِهَا فِي الْمَآدِبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ" 5. اللَّعِبُ وَالْغِنَاءُ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: خَتَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَنِيهِ، فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ اللَّعَّابِينَ، فَلَعِبُوا فَأَعْطَاهُمْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِم.   1 هِشَام بن حسان الْأَزْدِيّ: مُحدث من أهل الْبَصْرَة، وَكَانَ يكْتب حَدِيثه وَهُوَ من المكثرين عَن الْحسن الْبَصْرِيّ توفّي سنة 147هـ. 2 الْآيَة: 42 من سُورَة الزمر. 3 أزمت النَّاس: أَي أوقرهم. 4 أستجم نَفسِي: أريحها من التَّعَب. من جم الْفرس: ترك فَلم يركب فَعَفَا من تَعبه، "الْقَامُوس الْمُحِيط ص1408". 5 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: كتاب 9 بَاب6، وَالنَّسَائِيّ: كتاب26 بَاب72، وَابْن ماجة: كتاب9 بَاب20، ومسند أَحْمد 4/ 5 و77، وَانْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 1065، وَأما صدر الحَدِيث وَحده فَهُوَ صَحِيح، وَهُوَ قَوْله: "أعْلنُوا النِّكَاح ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: هَلْ كَانَ الْغِنَاءُ يَكُونُ فِي الْعُرُسَاتِ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَاكَ، وَلَا يَحْضُرُ بِمَا يَحْضُرُ بِهِ الْيَوْمَ مِنَ السَّفَهِ، دَعَانَا أَخْوَالُنَا بَنُو نَبِيطٍ فِي مَدْعَاةٍ لَهُمْ، فَشَهِدَ الْمَدْعَاةَ، حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَإِذَا جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ: انْظُرْ خَلِيلِي بِبَابِ جَلِّقَ هَلْ ... تُونِسُ دُونَ الْبَلْقَاءِ مِنْ أَحَدٍ فَبَكَى حَسَّانُ وَهُوَ مَكْفُوفٌ وَجَعَلَ يَوْمِي إِلَيْهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ زِيدَا، فَلَا أَدْرِي مَاذَا يُعْجِبُهُ مِنْ أَنْ يُبْكِيَا أَبَاهُ. حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: كَانَ طُوَيْسٌ1 يَتَغَنَّى فِي عُرْسٍ، فَدَخَلَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْعُرْسَ2، وَطُوَيْسٌ يَقُولُ: أَجَدَّ بِعَمْرَةَ غُنْيَانُهَا3 ... فَتَهْجُرَ أَمْ شَأْنُنَا شَأْنُهَا وَعَمْرَةُ أُمُّ النُّعْمَانِ فَقِيلَ لَهُ: اسْكُتِ اسْكُتْ. فَقَالَ النُّعْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، إِنَّمَا قَالَ: وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ4 النِّسَا ... ء تنفح5 بالمسك أردانها   1 طويس: مخنث كانك يُسمى طاووسًا، فَلَمَّا تخنث أسمي بطويس، وَهُوَ أول من غنى بِالْإِسْلَامِ، وَيُقَال: أشأم من طويس، فقد كَانَ يَقُول: إِن أُمِّي كَانَت تمشي بالتمائم بَين نسَاء الْأَنْصَار ثمَّ ولدتني فِي اللَّيْلَة الَّتِي مَاتَ فِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، وفطمتني يَوْم مَاتَ أَبُو بكر، وَبَلغت الْحلم يَوْم مَاتَ عمر، وَتَزَوَّجت يَوْم قتل عُثْمَان، وَولد لي يَوْم قتل عَليّ، فَمن مثلي؟! 2 النُّعْمَان بن بشير بن سعد الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَهُوَ وَأَبوهُ صحابيان، كَانَ أول مَوْلُود فِي الْإِسْلَام من الْأَنْصَار بعد الْهِجْرَة، اسْتَعْملهُ مُعَاوِيَة على الْكُوفَة، وَكَانَ أول مَوْلُود مفوهًا، ثمَّ دا النُّعْمَان إِلَى ابْن الزبير، ثمَّ دَعَا إِلَى نَفسه، فواقعه مَرْوَان بن الحكم فَقتل النُّعْمَان سنة 65هـ. 3 أَي استفتاؤها. 4 سروات: سيدان. 5 تنفح: تهدي وَتُعْطِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 49- قَالُوا أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ- الْحَيَاءُ وَالْبَيَانُ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَيِيَّ الْعَيِيَّ الْمُتَعَفِّفَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَهُ، فَقَالَ: مَا الْجَمَالُ؟ فَقَالَ: "فِي اللِّسَانِ". وَأَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا" 2، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 3، فَجَعَلَ الْبَيَانَ، نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي عَدَّدَهَا. وَذَكَرَ النِّسَاءَ بِقِلَّةِ الْبَيَانِ فَقَالَ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 4، فَدَلَّ عَلَى نَقْصِ النِّسَاءِ، بِقِلَّةِ الْبَيَانِ، وَهَذِه أَشْيَاء مُخْتَلفَة.   1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "الْحيَاء والعي شعبتان من الْإِيمَان، وَالْبذَاء وَالْبَيَان شعبتان من النِّفَاق" رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: بر 80، وَأحمد: 5/ 269، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع برقم 3201 عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا. وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، إِنَّمَا نعرفه من حَدِيث أبي غَسَّان مُحَمَّد بن مطرف، قَالَ: والعي: قلَّة الْكَلَام، وَالْبذَاء: هُوَ الْفُحْش فِي الْكَلَام. وَالْبَيَان: هُوَ كَثْرَة الْكَلَام مثل هَؤُلَاءِ الخطباء الَّذِي يخطبون فيرسعون فِي الْكَلَام ويتفصحون فِيهِ من مدح النَّاس فِيمَا لَا يُرْضِي الله. وَقد وجدنَا الحَدِيث أَيْضا بِلَفْظ: "إِن اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ" منفضلًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: أدب 86، وَالتِّرْمِذِيّ: أدب 72، وَأحمد: 2/ 165 و187. 2 ذكره الألباني فِي صَحِيح الْجَامِع الصَّغِير برقم 2216 -مُحَمَّد بدير-. 3 الْآيَة: 3 من سُورَة الرَّحْمَن. 4 الْآيَة: 18 من سُورَة الزخرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ -هَهُنَا- اخْتِلَافٌ، بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعٌ، فَإِذَا وُضِعَ بِهِ زَالَ الِاخْتِلَافُ. أَمَّا قَوْلُهُ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَيِيَّ الْعَيِيَّ الْمُتَعَفِّفَ"، فَإِنَّهُ يُرِيدُ: السَّلِيمَ الصَّدْرِ، الْقَلِيلَ الْكَلَامِ، الْقَطِيعَ1 عَنِ الْحَوَائِجِ، لِشِدَّةِ الْحَيَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بِعَقِبِ هَذَا الْكَلَامِ: "وَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ السأَّال الْمُلْحِفَ"، وَهَذَا ضِدُّ الْأَوَّلِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ عِبَادَهُ عَلَى فَضْلِ اللَّدِّ2 وَطُولِ اللِّسَانِ، وَلُطْفِ الْحِيلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَنَافِعُ، وَفِي بَعْضِهِ زِينَةٌ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ"3، يُرَادُ: الَّذِينَ سَلِمَتْ صُدُورُهُمْ لِلنَّاسِ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْغَفْلَةُ. وَأَنْشَدْنَا لِلنَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ: وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ مَيَّالَةٍ ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا وَذَكَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَمَانًا فَقَالَ: "خَيْرُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كُلُّ نُوَّمَةٍ" يَعْنِي: الْمَيِّتَ الدَّاءِ "أُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ، لَيْسُوا بِالْعُجُلِ الْمَذَايِيعِ البُذُر"5. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ6، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِن الله يحب الأخفياء   1 القطيع: أَي الْمَقْطُوع. 2 اللد: أَي زِيَادَة الْخُصُومَة، وَلَده: أَي خَصمه. 3 حَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ الْبَزَّار عَن أنس، انْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 1194، وتأ, يل ابْن قُتَيْبَة للْحَدِيث متكلف بعيد. -مُحَمَّد مُحَمَّد بدير- 4 وَفِي نُسْخَة: "مَرَرْت". 5 المذابيع الْبذر: الَّذين يذيعون أَي يفشون الْكَلَام بَين النَّاس وينقلون الحَدِيث على وَجه النميمة، وَذَلِكَ كَمَا تبذر الْحُبُوب. 6 معَاذ بن جبل الْأنْصَارِيّ الخزرجي، الإِمَام الْمُقدم فِي علم الْحَلَال وَالْحرَام، شهد الْمشَاهد كلهَا، أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم على الْيمن، كَانَ من أفضل الْأَنْصَار حلمًا وحياة وسخاة، قدم من الْيمن فِي خلَافَة أبي بكر، كَانَت وَفَاته بالطاعون فِي الشَّام سنة 17هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الأتقياء الْأَبْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا" 1. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَةِ لَهُ: "أَلَا إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا، كَمَنْ رَأَى أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ، وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ، شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، وَحَوَائِجُهُمْ خَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّامًا يَسِيرَةً، لِعُقْبَى رَاحَةٍ طَوِيلَةٍ. أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، مِمَّا يَجْأَرُونَ2 إِلَى رَبِّهِمْ "رَبَّنَا رَبَّنَا". وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ، كَأَنَّهُمُ الْقِدَاحُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَقُولُ: مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، وَخُولِطُوا، وَلَقَدْ خَالَطَ الْقَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ". وَذكر بن عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْفَتَى الَّذِي كَلَّمَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَلَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ عَيٍّ بِهِمْ، وَلَا بَكَمٍ، وَأَنَّهُمْ لَهُمُ النُّبَلَاءُ النُّطَقَاءُ الْفُصَحَاءُ، الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَيَّامِهِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ فَرَقًا3 مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَيْبَةً لَهُ". فَهَذِهِ الْخِلَالُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يُنْكَرُ -مَعَ هَذَا- أَنْ يَكُونَ الْجَمَالُ فِي اللِّسَانِ، وَلَا أَنْ تَكُونَ الْمُرُوءَةُ فِي الْبَيَانِ، وَلَا أَنَّهُ زِينَةٌ مِنْ زِيَنِ الدُّنْيَا، وَبَهَاءٌ مِنْ بَهَائِهَا، مَا صَحِبَهُ الِاقْتِصَادُ، وَسَاسَهُ الْعَقْلُ، وَلَمْ يَمِلْ بِهِ الِاقْتِدَارُ عَلَى الْقَوْلِ إِلَى أَنْ يُصَغِّرَ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُعَظِّمَ صَغِيرًا، أَوْ يَنْصُرَ الشَّيْءَ وَضِدُّهُ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ. وَهَذَا هُوَ الْبَلِيغُ الَّذِي يَبْغَضُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْغَضُكُمْ إِلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ" 4.   1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "إِن الله يحب الْأَبْرَار الأتقياء الأخفياء"، رَوَاهُ ابْن ماجة: فتن 16، وَأحمد: 3/ 462. 2 يجأرون: يَتَضَرَّعُونَ بِالدُّعَاءِ وَذَلِكَ بِرَفْع الصَّوْت والاستغاثة. 3 فرقا: أَي خوفًا وفزعًا. 4 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: بر 71، وَأحمد 3/ 369، 4/ 193، 194، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع برقم 535 = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِلِسَانِهِ. وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"، يُرِيدُ: أَنَّ مِنْهُ مَا يُقَرِّبُ الْبَعِيدَ، وَيُبَاعِدُ الْقَرِيبُ، وَيُزَيِّنُ الْقَبِيحَ وَيُعَظِّمُ الصَّغِيرَ، فَكَأَنَّهُ سِحْرٌ وَمَا قَامَ مَقَامَ السِّحْرِ، أَوْ أَشْبَهَهُ، أَوْ ضَارَعَهُ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا أَنَّ السِّحْرَ مُحَرَّمٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُخْتَارِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "إِذَا شِئْتَ لَقِيتَهُ أَبْيَضَ بَضًّا1، حَدِيدَ النَّظَرِ، مَيِّتَ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ، أَنْتَ أَبْصَرَ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ، تَرَى أَبْدَانًا وَلَا قُلُوبَ، وَتَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا أَنِيسَ، أَخْصَبُ أَلْسِنَة، وأجدب قلوبًا".   = والصحيحة برقم 791، وَقد رَوَاهُ ابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان كلهم عَن ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيب عَن جَابر فَلَعَلَّ طرقه عِنْد غير التِّرْمِذِيّ أصح، وَالله أعلم. وَقد رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: "إِن من أحبكم إِلَى وأقربكم مني مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة أحاسنكم أَخْلَاقًا، وَإِن أبغضكم إِلَيّ وأبعدكم مني مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قَالُوا: يَا رَسُول الله قد علمنَا الثرثارون والمتشدقون، فَمَا المتفيهقون؟ قَالَ: المتكبرون". قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وروى بَعضهم هَذَا الحَدِيث عَن الْمُبَارك بن فضَالة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم. والثرثار: هُوَ الْكثير الْكَلَام. والمتشدق: الَّذِي يَتَطَاوَل على النَّاس فِي الْكَلَام ويبدو عَلَيْهِم. 1 البض: الرُّخص الْجَسَد، الرَّقِيق الْجلد، الممتلئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 50- قَالُوا: حَدِيثٌ يَنْقُضُهُ الْقُرْآنُ- مِيرَاثُ النُّبُوَّةِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّا -مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ- لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ" 1. وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} 2. خلاف قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3. قَالُوا: "وَقَدْ طَالَبَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِيرَاثِ أَبِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يُعْطِهَا إِيَّاهُ، حَلَفَتْ لَا تُكَلِّمُهُ أَبَدًا، وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ لَيْلًا، لِئَلَّا يَحْضُرَهَا، فَدُفِنَتْ لَيْلًا"4. وَاخْتَصَمَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَمْ يُوَرِّثِ الْأَنْبِيَاءُ مَالًا: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: "إِنَّا -معشر   1 رَوَاهُ أَحْمد: 3/ 462. 2 الْآيَة: 5 من سُورَة مَرْيَم. 3 الْآيَة: 16 من سُورَة النَّمْل. 4 رَوَاهُ البُخَارِيّ: خمس 1 وفضائل أَصْحَاب النَّبِي12 وَمَغَازِي 38، وَالنَّسَائِيّ: جِهَاد 52 و54، وَأحمد: 1 و6 و2/ 353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الْأَنْبِيَاء- لَا نُورَثُ"، لَيْسَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ؛ لِأَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُرِدْ: "يَرِثُنِي مَالِي"، فَيَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَأَيُّ مَالٍ كَانَ لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَضِنُّ بِهِ عَنْ عَصَبَتِهِ، حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا يَرِثُهُ؟ لَقَدْ جَلَّ هَذَا الْمَالُ إِذًا، وَعَظُمَ -عِنْدَهُ- قَدْرُهُ وَنَافَسَ عَلَيْهِ مُنَافَسَةَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا الَّذِينَ لَهَا يَعْمَلُونَ، وَلِلْمَالِ يَكْدَحُونَ. وَإِنَّمَا كَانَ زَكَرِيَّا بْنُ آذَنِ نَجَّارًا، وَكَانَ حَبْرًا كَذَلِكَ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ. زُهْدُ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: وَكَذَلِكَ الْمَشْهُورُ عَنْ يَحْيَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمْوَالٌ، وَلَا مَنَازِلُ يَأْوِيَانِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا كَانَا سَيَّاحَيْنِ فِي الْأَرْضِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ يَحْيَى لَمْ يَرِثْهُ مَالًا، أَنَّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ -وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ- فَكَانَ يَخْدُمُ فِيهِ، ثُمَّ اشْتَدَّ خَوْفُهُ فَسَاحَ وَلَزِمَ أَطْرَافَ الْجِبَالِ وَغِيرَانَ الشِّعَابِ1. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَبَلَغَنِي عَنِ اللَّيْثِ2 بْنِ سعد عَن بن لَهِيعَةَ3 عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: دَخَلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بَيت   1 غيران: مَعَ غَار وَهُوَ الفجوة فِي الْجَبَل المنخفض فِيهِ أَو كل مطمئن من الأَرْض أَو الْحجر يأوي إِلَيْهِ الوحشي. 2 اللَّيْث بن سعد بن عبد الرَّحْمَن، ك ولد عَام 94هـ، وَهُوَ إِمَام أهل مصر فِي عصره حَدِيثا وفقهًا، أَصله من خُرَاسَان، ومولده فِي قلقشنده، ووفاته فِي الْقَاهِرَة 175هـ، وَكَانَ من الكرماء الأجواد. وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: اللَّيْث أفقه من مَالك إِلَّا أَن أَصْحَابه لم يقومُوا بِهِ. 3 هُوَ عبد الله بن لَهِيعَة بن عقبَة الْحَضْرَمِيّ الغافقي المصرىي، قَاضِي مصر وعالمها، قَالَ أَحْمد: احترقت كتبه فَمن كتب عَنهُ قَدِيما فسماعه صَحِيح، مَاتَ سنة 174هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الْمُقَدّس، وَهُوَ بن ثَمَانِي حِجَجٍ، فَنَظَرَ إِلَى عُبَّادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَدْ لَبِسُوا مِنْ مَدَارِعِ الشَّعَرِ، وَبَرَانِسِ الصُّوفِ، وَنَظَرَ إِلَى مُتَهَجِّدِيهِمْ قَدْ خَرَقُوا التَّرَاقِيَ، وَسَلَكُوا فِيهَا السَّلَاسِلَ، وَشَدُّوهَا إِلَى حَنَايَا بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَهَالَهُ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى أَبَوَيْهِ فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ. فَقَالُوا: يَا يَحْيَى، هَلُمَّ، فَلْنَلْعَبْ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِلَّعِبِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} 1. فَأَتَى أَبَوَيْهِ فَسَأَلَهُمَا أَنْ يُدَرِّعَاهُ الشَّعَرَ فَفَعَلَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ يَخْدُمُ فِيهِ نَهَارًا، وَيُسَبِّحُ فِيهِ لَيْلًا، حَتَّى أَتَتْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ حِجَّةً وَأَتَاهُ الْخَوْفُ، فَسَاحَ، وَلَزِمَ أَطْرَافَ الْأَرْضِ2 وَغِيرَانَ الشِّعَابِ. وَخَرَجَ أَبَوَاهُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَاهُ، حِينَ نَزَلَا مِنْ جِبَالِ الْبَثْنِيَّةِ عَلَى بُحَيْرَةِ الْأُرْدُنِّ، وَقَدْ قَعَدَ عَلَى شَفِيرِ الْبُحَيْرَةِ، وَأَنْقَعَ قَدَمَيْهِ فِي الْمَاءِ، وَقَدْ كَادَ الْعَطَشُ يَذْبَحُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: "وَعِزَّتُكَ، لَا أَذُوقُ بَارِدَ الشَّرَابِ، حَتَّى أَعْلَمَ أَيْنَ مَكَانِي مِنْكَ". فَسَأَلَهُ أَبَوَاهُ أَنْ يَأْكُلَ قُرْصًا مِنَ الشَّعِيرِ كَانَ مَعَهُمَا، وَيَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَمُدِحَ بِالْبِرِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} 3،وَرَدَّهُ أَبَوَاهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَكَانَ إِذَا قَامَ فِي صِلَاتِهِ بَكَى، وَيَبْكِي زَكَرِيَّا لِبُكَائِهِ، حَتَّى يُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، حَتَّى خَرَقَتْ دُمُوعُهُ لَحْمَ خَدَّيْهِ. فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا يَحْيَى، لَوْ أَذِنْتَ لِي لَاتَّخَذْتُ لَكَ لِبْدًا، يُوَارِي هَذَا الْخَرْقَ. قَالَ: أَنْتِ وَذَاكَ، فَعَمَدَتْ إِلَى قِطْعَتَيْ لُبُودٍ، فَأَلْصَقَتْهُمَا عَلَى خديه،   1 الْآيَة: 12 من سُورَة مَرْيَم. 2 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "أَطْرَاف الْجبَال". 3 الْآيَة: 14 من سُورَة مَرْيَم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فَكَانَ إِذَا بَكَى، اسْتَنْقَعَتْ دُمُوعُهُ فِي الْقِطْعَتَيْنِ فَتَقُومُ أُمُّهُ فَتَعْصِرُهُمَا، فَكَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى دُمُوعِهِ تَجْرِي عَلَى ذِرَاعَيْ أُمِّهِ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَذِهِ دُمُوعِي، وَهَذِهِ أُمِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنْتَ الرَّحْمَنُ. فَأَيُّ مَالٍ عَلَى مَا تَسْمَعُ وَرِثَهُ يَحْيَى؟ وَأَيُّ مَالٍ وَرِثَهُ زَكَرِيَّا؟ وَإِنَّمَا كَانَ نجارًا وحبرًا. قَول ابْن عَبَّاس فِي مِيرَاث يحيى: وَقد قَالَ بن عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ؛ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} ، أَيْ: يَرِثُنِي الْحُبُورَةَ، وَكَانَ حَبْرًا. {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، أَيْ: يَرِثُ الْمُلْكَ، وَكَانَ مِنْ وَلَدِ دَاوُدَ، مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَى وِرَاثَةِ الْحُبُورَةِ، وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى وِرَاثَةِ الْمُلْكِ. وَكَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَرِهَ أَنْ يَرِثَهُ ذَلِكَ عَصَبَتُهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَهَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلَدًا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَرِثُهُ عِلْمَهُ. وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} 1. وِرَاثَةُ سُلَيْمَانَ لِدَاوُدَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 5، فَإِنَّهُ أَرَادَ وِرْثَهُ3 الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَبِيًّا وَمَلِكًا، وَالْمُلْكُ: السُّلْطَانُ وَالْحُكْمُ وَالسِّيَاسَةُ، لَا المَال.   1 الْآيَة: 89 من سُورَة الْأَنْبِيَاء. 2 الْآيَة: 16 من سُورَة النَّمْل. 3 وَفِي نُسْخَة: "وَرَثَة الْملك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وَلَوْ كَانَ أَرَادَ وِرَاثَةَ مَالِهِ، مَا كَانَ فِي الْخَبَرِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَبْنَاءَ يَرِثُونَ الْآبَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَن كل بن يَقُومُ1 مَقَامَ أَبِيهِ فِي الْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُورَثُ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرِثُ بَعْدَ أَنْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ وِرَاثَتُهُ أَبَوَيْهِ قَبْلَ الْوَحْيِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، قَالَ: حَدثنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، أَنَّ أُمَّ أَيْمَنَ مِمَّا وَرِثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن أمه، و"شقران" مِمَّا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ. وَكَيْفَ يَأْكُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَاثَ، وَهُوَ يَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، يَذُمُّ قَوْمًا فَقَالَ: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} 3. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ3، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فِي مِيرَاثِ مَوْلًى لَهُ وَقَعَ مِنْ نَخْلَةٍ، فَسَأَلَ: "هَلْ تَرَكَ وَلَدًا؟ " قَالُوا: لَا. قَالَ: "فَهَلْ تَرَكَ حَمِيمًا"؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: "فَأَعْطُوهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ". وَكَأَنَّهُ تَنَزَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ مِيرَاثِهِ، فَآثَرَ بِهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ"4.   1 وَفِي نُسْخَة: "يُقَام". 2 الْآيَة: 18 من سُورَة الْفجْر. 3 عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام ولد عَام 22هـ، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ، كَانَ عَالما بِالدّينِ صَالحا كَرِيمًا لم يدْخل فِي شيؤ من الْفِتَن، وانتقل إِلَى الْبَصْرَة، ثمَّ إِلَى مصر فَتزَوج وَأقَام بهَا سبع سِنِين، وَعَاد إِلَى الْمَدِينَة فَتوفي فِيهَا عَام 93هـ. 4 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: فَرَائض 8، وَأحمد: 6/ 175، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن، انْظُر جَامع الْأُصُول رقم 7432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وَأَمَّا مُنَازَعَةُ فَاطِمَةَ، أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مِيرَاثِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَنَّتْ أَنَّهَا تَرِثُهُ كَمَا يَرِثُ الْأَوْلَادُ آبَاءَهُمْ. فَلَمَّا أَخْبَرَهَا بِقَوْلِهِ، كَفَّتْ. وَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَنَعَ فَاطِمَةَ حَقَّهَا مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهَا، وَهُوَ يُعْطِي الْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ حُقُوقَهُمْ؟ وَمَا مَعْنَاهُ1 فِي دَفْعِهَا عَنْهُ، وَهُوَ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِوَلَدِهِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ؟ وَإِنَّمَا أَجْرَاهُ مَجْرَى الصَّدَقَةِ، وَكَانَ دَفْعُ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ أَوْلَى بِهِ. وَكَيْفَ يَرْكَبُ مِثْلَ هَذَا وَيَسْتَحِلُّهُ مِنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ يَرُدُّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مَا بَقِيَ فِي يَدَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مُذْ وَلِيَ؟ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى جِهَةِ الْأُجْرَةِ، فَجَعَلَ قِيَامَهُ لَهُمْ صَدَقَةً عَلَيْهِمْ. وَقَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: انْظُرِي يَا بُنَيَّةُ، فَمَا زَادَ فِي مَالِ أَبِي بَكْرٍ، مُذْ وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ، فَرُدِّيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَاللَّهِ مَا نِلْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مَا أَكَلْنَا فِي بُطُونِنَا مِنْ جَرِيشِ2 طَعَامِهِمْ، وَلَبِسْنَا عَلَى ظُهُورِنَا مِنْ خَشِنِ ثِيَابِهِمْ. فَنَظَرَتْ فَإِذْ بِكُرٍّ وَجَرْدٍ قَطِيفَةٍ، لَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَحَبَشِيَّةٍ3. فَلَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ كَلَّفَ مَنْ بَعْدَهُ تَعَبًا". وَلَوْ كَانَ مَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ ظُلْمًا لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لَرَدَّهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -حِينَ وَلِيَ- عَلَى وَلَدهَا.   1 مَعْنَاهُ: مَقْصُوده. 2 الجرشِي: الْحُبُوب الَّتِي لم ينعم دقها. 3 الحبشية: النَّاقة شَدِيدَة السوَاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وَأَمَّا مُخَاصَمَةُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ يَصِحُّ لِي مَعْنَاهُ. وَكَيْفَ يَتَخَاصَمَانِ فِي شَيْءٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِمَا؟ أَوْ يَتَحَاقَّانِ شَيْئًا قَدْ مُنِعَاهُ؟ وَكِلَاهُمَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهُمَا إِذَا وَرِثَا، كَانَ بَعْدَ ثَمَنِ نِسَائِهِ لِعَلِيٍّ مِنْ حَقِّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا النِّصْفُ، وَلِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّصْفُ1 مَعَ فَاطِمَةَ فَفِي أَيِّ شَيْءٍ اخْتَصَمَا؟ وَإِنَّمَا كَانَ الْوَجْهُ فِي هَذَا، أَنْ يُخَاصِمَا أَبِي بَكْرٍ، وَقَدِ اخْتَصَمَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَلَّاهُمَا الْقِيَامَ بِذَلِكَ، وَإِلَى عُثْمَانَ بَعْدُ. وَهَذَا تَنَازُعٌ، لَهُ وَجْهٌ وَسَبَبٌ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.   1 وَفِي نُسْخَة: وللعباس رَضِي الله عَنهُ مَا بَقِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 51- قَالُوا أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ- الرَّضَاعُ بَعْدَ الْفِصَالِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ" 1. وَقَالَ: "انْظُرْنَ، مَا إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ" 2. يُرِيدُ مَا رَضَعَهُ الصَّبِيُّ، فَعَصَمَهُ مِنَ الْجُوعِ. ثمَّ رويتم عَن بن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ3، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ4 مِنْ دُخُولِ "سَالِمٍ" عَلَيَّ كَرَاهَةً. فَقَالَ: "أَرْضِعِيهِ، قَالَتْ: أُرْضِعُهُ، وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟! " فَضَحِكَ -ثُمَّ قَالَ: "أَلَسْتُ أعلم أَنه رجل كَبِير؟ " 5.   1 رَوَاهُ ابْن ماجة: نِكَاح 37. 2 رَوَاهُ مُسلم: كتاب 18 حَدِيث 32، وَأَبُو دَاوُد كتاب 12 بَاب8، وَالنَّسَائِيّ: كتاب26 بَاب 51، وَابْن ماجة: كتاب9 بَاب 37، وَأحمد: 6/ 93 و138 و174 و214، وَالطَّيَالِسِي برقم 1412، والموطأ: رضَاع 6 و15 و10، والْحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان برقم921. 3 عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق الْقرشِي، أَبُو مُحَمَّد: من سَادَات أهل الْمَدِينَة فقهًا وعلمًا وحفظًا للْحَدِيث وإتقانًا، توفّي فِي الشَّام 126هـ. 4 أَبُو حُذَيْفَة بن عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شمس صَحَابِيّ هَاجر إِلَى الْحَبَشَة ثمَّ إِلَى الْمَدِينَة وَشهد بَدْرًا وأحدًا وَالْخَنْدَق والمشاهد كلهَا وَقتل يَوْم الْيَمَامَة 12هـ. 5 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير: الرَّضَاع2، وَمُسلم: كتاب الرَّضَاع بَاب رضاعة الْكَبِير7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وَقُلْتُمْ: قَالَ مَالِكٌ عَنِ الزَّهْرِيِّ: إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُفْتِي: بِأَنَّ الرَّضَاعَ يُحَرِّمُ بَعْدَ الْفِصَالِ حَتَّى مَاتَتْ"1، تَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ سَالِمٍ. قَالُوا: وَهَذَا طَرِيقٌ -عِنْدَكُمْ- مُرْتَضًى صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ وَلَا يُدْفَعَ. حَدِيثُ رَضَاعِ سَالِمٍ وَهُوَ كَبِيرٌ خَاصٌّ بِهِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ. وَقَدْ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ كَانَ ل"سَالم" خَاصَّةً، غَيْرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُبَيِّنَّ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا ل"سَالم". وَنَحْنُ مُخْبِرُونَ عَنْ قِصَّةِ أَبِي حُذَيْفَة و"سَالم" وَالسَّبَبِ بَيْنَهُمَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أما أَبُو حُذَيْفَة، فَهُوَ بن عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَتَيْنِ جَمِيعًا. وَهُنَاكَ وُلِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَقِيلَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَلَا عَقِبَ لَهُ. وَأَمَّا "سَالِمٌ" مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فَإِنَّهُ بَدْرِيٌّ، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا. وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ: "لَوْ كَانَ سَالِمٌ حَيًّا، مَا تَخَالَجَنِي فِيهِ الشَّكُّ". يُرِيدُ: لَقَدَّمْتُهُ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ إِلَى أَنْ يَتَّفِقَ أَصْحَابُ الشُّورَى عَلَى تَقْدِيمِ رَجُلٍ مِنْهُم، ثمَّ قدم صهيبًا.   1 وَقَالَ الإِمَام النَّوَوِيّ رَحمَه الله: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَقَالَت: عَائِشَة وَدَاوُد: تثبت حُرْمَة الرَّضَاع برضاع الْبَالِغ، كَمَا تثبت برضاع الطف لهذ االحَدِيث. وَقَالَ سَائِر الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وعلماء الْأَمْصَار إِلَى الْآن: لَا يثبت إِلَى بإرضاع من لَهُ دون سنتَيْن إِلَّا با حنيفَة فَقَالَ: سنتَيْن وَنصف. وَاحْتج الْجُمْهُور بقوله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، والْحَدِيث الَّذِي ذكره مُسلم: "إِنَّمَا الرَّضَاع من المجاعة"، وحملوا حَدِيث سهلة على أَنه مُخْتَصّ بهَا وَسَالم. وَقد روى مُسلم عَن أم سَلمَة وَسَائِر أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُنَّ خالفن عَائِشَة فِي هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وَكَانَ "سَالِمٌ" عَبْدًا لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ سَلْمَى مِنْ بَنِي خَطْمَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ ثُبَيْتَةُ1. وَكُلُّهُمْ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ، فَأَعْتَقَتْهُ، فَتَوَلَّى أَبَا حُذَيْفَةَ وَتَبَنَّاهُ، فَنُسِبَ إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ. وَاسْتُشْهِدَ "سَالِمٌ" يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَوَرِثَتْهُ الْمُعْتِقَةُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ وَلَا وَارِثٌ غَيْرَهَا. وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُ بِهِ، دَلِيلٌ على تقدم أبي حُذَيْفَة، و"سَالم" فِي الْإِسْلَامِ، وَجَلَالَتِهِمَا، وَلُطْفِ مَحَلِّهِمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا ذَكَرَتْ لَهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ مَا تَرَاهُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، مِنْ دُخُول "سَالم" عَلَيْهَا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى مَوْلَاتِهِ الْمُعْتِقَةُ لَهُ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهَا كَمَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ النَّاشِئُ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ يُعْتَقُ، فَيَدْخُلُ أَيْضًا بِالْإِلْفِ الْمُتَقَدّم والتربية. الترخيص فِي الدُّخُول لبَعض الرِّجَال بِأَسْبَاب: وَهَذَا مَالا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مِنْ مَثَلِ "سَالِمٍ" وَمِمَّنْ هُوَ دُونَ سَالِمٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي دُخُول من ملكهن عَلَيْهِنَّ، وَدُخُولِ مَنْ لَا إِرْبَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالطِّفْلِ، وَالْخَصِيِّ، وَالْمَجْبُوبِ، وَالْمُخَنَّثِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَبَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِم، فَقَالَ تَعَالَى:   1 بِهَامِش الدمشقية مَا نَصه: قَوْله ثبيته كجهينة، وشاهدته فِي أصل الْحَافِظ أبي بكر الْخَطِيب" بثينة"، وَقد كتب الْحَافِظ أَبُو الْفضل بن نَاصِر بِخَطِّهِ مَا صورته، قَالَ ابْن نَاصِر الْبَغْدَادِيّ: كَذَا وَقع فِي الرِّوَايَة "بثينة" وَهُوَ خطأ وتصحيف، وَالصَّوَاب "ثبيته". ذكر ذَلِك الدَّارَقُطْنِيّ الْحَافِظ وَغَيره من الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين. وَالْعجب من أبي بكر الْخَطِيب كَيفَ ذهب عَلَيْهِ هَذَا؟ وَقد قَرَأَ هَذَا الْكتاب مرَارًا كَثِيرَة، وَهِي مَعْرُوفَة مَشْهُورَة، كَذَا بِهَامِش ا. هـ، بالحروف -"الاسعردي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} يَعْنِي الْمُسْلِمَاتِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يَعْنِي الْعَبِيدَ {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} 1، يَعْنِي مَنْ يَتْبَعُ الرَّجُلَ وَيَكُونُ فِي حَاشِيَتِهِ كَالْأَجِيرِ، وَالْمَوْلَى، وَالْحَلِيفِ، وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ يَخْلُو "سَالِمٌ" مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فِي النِّسَاءِ. وَلَعَلَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْقِبْ، أَوْ يَكُونُ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، مِنَ الْوَرَعِ وَالدِّيَانَةُ وَالْفَضْلِ، وَمَا خَصَّهُ بِهِ، حَتَّى رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ أَهْلًا لِأُخُوَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَأْمُونًا عِنْدَهُ، بَعِيدًا عَنْ تَفَقُّدِ النِّسَاءِ وَتَتَبُّعِ مَحَاسِنِهِنَّ بِالنَّظَرِ. وَقَدْ رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُسْفِرْنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِنَّ لِلْقَاضِي وَالشُّهُودِ، وَصُلَحَاءِ الْجِيرَانِ. وَرُخِّصَ لِلْقَوَاعِدِ مِنَ النِّسَاءِ، وَهُنَّ الطَّاعِنَاتُ فِي السِّنِّ، أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ، غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ. وَقَدْ كَانَ "سَالِمٌ" يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَتَرَى هِيَ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَلَوْلَا أَنَّ الدُّخُولَ كَانَ جَائِزًا مَا دَخَلَ، وَلَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَنْهَاهُ. فَأَرَادَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بِمَحَلِّهَا عِنْدَهُ، وَمَا أَحَبَّ مِنَ ائْتِلَافِهِمَا، وَنَفْيِ الْوَحْشَةِ عَنْهُمَا -أَنْ يُزِيلَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ، وَيُطَيِّبَ نَفْسَهُ بِدُخُولِهِ فَقَالَ لَهَا: "أَرْضِعِيهِ"، وَلَمْ يُرِدْ: ضَعِي ثَدْيَكِ فِي فِيهِ، كَمَا يُفْعَلُ بِالْأَطْفَالِ، وَلَكِنْ أَرَادَ: احْلِبِي لَهُ مِنْ لَبَنِكِ شَيْئًا، ثُمَّ ادْفَعِيهِ إِلَيْهِ لِيَشْرَبَهُ. لَيْسَ يَجُوزُ غَيْرُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِسَالِمٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ثَدْيَيْهَا، إِلَى أَنْ يَقَعَ الرَّضَاعُ، فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ، مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَمَا لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنَ الشَّهْوَةِ؟ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرْضِعُهُ، وَهُوَ كَبِيرٌ؟! فَضَحِكَ وَقَالَ: "أَلَسْتُ أَعْلَمُ أَنه كَبِير"؟   1 الْآيَة: 31 من سُورَة النُّور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وَضَحِكُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَلَطَّفَ بِهَذَا الرَّضَاعِ، لِمَا أَرَادَ مِنَ الِائْتِلَافِ وَنَفْيِ الْوَحْشَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَكُونَ دُخُولُ سَالِمٍ، كَانَ حَرَامًا، أَوْ يَكُونُ هَذَا الرَّضَاعُ أَحَلَّ شَيْئًا كَانَ مَحْظُورًا، أَوْ صَارَ سَالِمٌ لَهَا بِهِ ابْنًا. وَمِثْلُ هَذَا، مِنْ تَلَطُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الْحَسَنِ: "أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ بِرَجُلٍ قَدْ قَتَلَ حَمِيمًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَفَتَعْفُو؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَاذْهَبْ فَاقْتُلْهُ". قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزَ بِهِ الرَّجُلُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" 1، فَخُبِّرَ الرَّجُلُ بِمَا قَالَ، فَتَرَكَهُ، فَوَلَّى وَهُوَ يَجُرُّ نِسْعَهُ2 فِي عُنُقِهِ. وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ، وَاسْتِيجَابِ النَّارِ، إِنْ قَتَلَهُ. وَكَيْفَ يُرِيدُ هَذَا، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَهُ بِالْقِصَاصِ؟!! وَلَكِنَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَأَحَبَّ لَهُ الْعَفْوَ، فَأَوْهَمَهُ أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْإِثْمِ لِيَعْفُوَ عَنْهُ. وَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ نَفْسًا، كَمَا قَتَلَ الْأَوَّلُ نَفْسًا، فَهَذَا قَاتِلٌ، وَذَاكَ قَاتِلٌ. فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي قَاتِلٍ وَقَاتِلٍ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ ظَالِمٌ، وَالْآخَرَ مُقْتَصٌّ.   1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: سفر20، وَالنَّسَائِيّ: تَحْرِيم 1 قسَامَة7، وَابْن ماجة ديات 34، والدرامي: سير10، وَأحمد: 3/ 15، 4/ 8، والْحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم برقم 1680 فِي كتاب: الْقسَامَة. 2 وَالتسع: سير ينسج عريضًا على هَيْئَة أَعِنَّة النِّعَال تشد بِهِ الرّحال، وَسمي نسعًا لطوله. "الْقَامُوس ص990". قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح فِي تَأْوِيله أَنه مثله فِي أَنه لَا فضل وَلَا منَّة لأَحَدهمَا على الآخر؛ لِأَنَّهُ يسْتَوْف حَقه مِنْهُ بِخِلَاف مَا لَو عَفا عَنهُ، فَإِنَّهُ يكون لَهُ الْفضل والْمنَّة وجزيل ثَوَاب الْآخِرَة وَجَمِيل الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا. أَو المُرَاد كنت مثله إِن كَانَ الْقَاتِل صَادِقا فِي دَعْوَى أَن الْقَتْل لم يكن عمدا، وَالله تَعَالَى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 53- قَالُوا: حَدِيثٌ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ- دَاجِنٌ تَأْكُلُ صَحِيفَةً مِنَ الْكِتَابِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "لَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ، وَرَضَاعِ الْكَبِيرِ عَشْرًا، فَكَانَتْ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَشُغِلْنَا بِهِ، دَخَلَتْ دَاجِنٌ لِلْحَيِّ، فَأَكَلَتْ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ"1. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 2، فَكَيْفَ يَكُونُ عَزِيزًا، وَقَدْ أَكَلَتْهُ شَاةٌ، وَأَبْطَلَتْ فَرْضَهُ، وَأَسْقَطَتْ حُجَّتَهُ؟ وَأَيُّ أَحَدٍ يَعْجَزُ عَنْ إِبْطَالِهِ، وَالشَّاةُ تُبْطِلُهُ؟ وَكَيْفَ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3، وَقَدْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ مَا يَأْكُلُهُ؟ وَكَيْفَ عَرَّضَ الْوَحْيَ لِأَكْلِ شَاةٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِحْرَازِهِ وَصَوْنِهِ؟ وَلِمَ أَنْزَلَهُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْعَمَلَ بِهِ؟   1 أخرجه ابْن ماجة: فِي كتاب النِّكَاح بَاب رقم36 بَاب رضاعة الْكَبِير رقم الحَدِيث 1944، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، وَقد رَوَاهُ مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن بِدُونِ ذكر أَن داجنا أكلت الصَّحِيفَة، وَالَّتِي هِيَ مَحل الشَّاهِد. والداجن: هِيَ الشَّاة يعلفها النَّاس فِي مَنَازِلهمْ، وَقد يَقع على غير الشَّاة من كل مَا يألف الْبيُوت من الطير وَغَيرهَا. 2 الْآيَة: 42 من سُورَة فصلت. 3 الْآيَة: 3 من سُورَة الْمَائِدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الصُّحُفُ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي عَجِبُوا مِنْهُ كُلِّهِ، لَيْسَ فِيهِ عَجَبٌ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا اسْتَفْظَعُوا مِنْهُ فَظَاعَةٌ. فَإِنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنَ الصَّحِيفَةِ، فَإِنَّ الصُّحُفَ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى مَا كُتِبَ بِهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَهُ فِي الْجَرِيدِ، وَالْحِجَارَةِ، وَالْخَزَفِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا ذَلِك. قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَمَرَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَمْعِهِ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ والعسب، واللخاف. و"العسب" جمع عسيب، النّخل، و"اللخاف": حِجَارَةٌ رِقَاقٌ، وَاحِدُهَا "لِخْفَةٌ". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ فِي العسب، والقضم، والكرانيف. و"القضم" جمع قضيم: وَهِي الْجُلُود، و"الكرانيف": أُصُولِ السَّعَفِ الْغِلَاظِ، وَاحِدُهَا "كِرْنَافَةٌ". وَكَانَ الْقُرْآنُ مُتَفَرِّقًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كُتَّابٌ، وَلَا آلَاتٌ. يَدُلُّكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ إِلَى مُلُوكِ الْأَرْضِ فِي أَكَارِعِ الْأَدِيمِ. وَإِنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنْ وَضْعِهِ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا مُلُوكًا، فَتَكُونَ لَهُمُ الْخَزَائِنُ وَالْأَقْفَالُ، وَصَنَادِيقُ الْآبَنُوسِ، وَالسَّاجِ1. وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا إِحْرَازَ شَيْءٍ، أَوْ صَوْنَهُ، وَضَعُوهُ تَحْتَ السَّرِيرِ لِيَأْمَنُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَطْءِ، وَعَبَثِ الصَّبِيِّ، وَالْبَهِيمَةِ. وَكَيْفَ يُحْرِزُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِهِ حِرْزٌ، وَلَا قُفْلٌ، وَلَا خِزَانَةٌ، إِلَّا بِمَا يُمْكِنُهُ وَيَبْلُغُهُ وُجْدُهُ، وَمَعَ النُّبُوَّة التقلل والبذاذة2؟   1 الساج: شجر، والطيلسان الْأَخْضَر وَالْأسود. 2 البذاذة: رثائة الْهَيْئَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُصْلِحُ خُفَّهُ، وَيَمْهُنُ أَهْلَهُ، وَيَأْكُلُ بِالْأَرْضِ، وَيَقُولُ: "إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ"1، وَعَلَى ذَلِكَ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ -وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ، مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ- يَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَيُطْعِمُ النَّاسَ صُنُوفَ الطَّعَامِ. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مَنْ شَعَرٍ، أَوْ صُوفٍ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ، فَقِيلَ لَهُ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 2. وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْتَبِلُ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ. وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نُحْصِيَهُ، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ نُطِيلَ الْكِتَابَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنَ الشَّاةِ، فَإِنَّ الشَّاةَ أَفْضَلُ الْأَنْعَامِ. وَقَرَأْتُ فِي مُنَاجَاةِ عُزَيْرٍ رَبَّهُ أَنَّهُ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ اخْتَرْتَ مِنَ الْأَنْعَامِ الضَّائِنَةَ3، وَمِنَ الطَّيْرِ الْحَمَامَةَ، وَمِنَ النَّبَاتِ الْحُبْلَةَ4، وَمِنَ الْبُيُوتِ بَكَّةَ "وَإِيلْيَاءَ" وَمِنْ "إِيلْيَاءَ" بَيْتَ الْمَقْدِسِ". وَرَوَى وَكِيعٌ عَنِ الْأُسُودِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَقَ اللَّهُ دَابَّةً أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْجَةِ". فَمَا يُعْجَبُ مِنْ أَكْلِ الشَّاةِ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ. وَهَذَا الْفَأْرُ شَرُّ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ، يَقْرِضُ الْمَصَاحِفَ، وَيَبُولُ عَلَيْهَا، وَهَذَا العث يأكلها.   1 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 2052 عَن أنس، وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 3219. 2 الْآيَة: 12 من سُورَة طه. 3 الضائنة: خلاف الماعز من الْغنم. 4 الحبلة: بِضَم الْحَاء: الْكَرم، وَالْحَبل: شجر الْعِنَب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وَلَوْ كَانَتِ النَّارُ أَحْرَقَتِ الصَّحِيفَةَ، أَوْ ذَهَبَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ، كَانَ الْعَجَبُ مِنْهُمْ أَقَلَّ. وَاللَّهُ تَعَالَى يُبْطِلُ الشَّيْءَ إِذَا أَرَادَ إِبْطَالَهُ بِالضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ. فَقَدْ أَهْلَكَ قَوْمًا بِالذَّرِّ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمًا بِالطُّوفَانِ، وَعَذَّبَ قَوْمًا بِالضَّفَادِعِ، كَمَا عَذَّبَ آخَرِينَ بِالْحِجَارَةِ وَأَهْلَكَ نَمْرُوذَ بِبَعُوضَةٍ، وَغَرَّقَ الْيَمَنَ بِفَأْرَةٍ. إِكْمَالُ الدِّينِ بِظُهُورِهِ عَلَى الشِّرْكِ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "كَيْفَ يَكْمُلُ الدِّينُ، وَقَدْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ مَا أَبْطَلَهُ؟ ". فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، نَزَلَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، حِينَ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ، وَأَذَلَّ الشِّرْكَ، وَأَخْرَجَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مَكَّةَ، فَلَمْ يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَبِهَذَا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّينَ، وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَصَارَ كَمَالُ الدَّيْنِ -هَهُنَا- عزه وظهوره، وذل الشّرك ودروسه. لَا تَكَامُلَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَنْزِلُ إِلَى أَنْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ الْإِكْمَالُ لِلدِّينِ، بِرَفْعِ النَّسْخِ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ. وَأَمَّا إِبْطَالُهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْزَلَهُ قُرْآنًا، ثُمَّ أَبْطَلَ تِلَاوَتَهُ، وَأَبْقَى الْعَمَلَ بِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آيَةِ الرَّجْمِ، وَكَمَا قَالَ غَيْرُهُ فِي أَشْيَاءَ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَذَهَبَتْ. وَإِذَا جَازَ أَنْ يَبْطُلَ الْعَمَلُ بِهِ وَتَبْقَى تِلَاوَتُهُ، جَازَ أَنْ تَبْطُلَ تِلَاوَتُهُ وَيَبْقَى الْعَمَلُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْزَلَهُ وَحْيًا إِلَيْهِ كَمَا كَانَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قُرْآنًا كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّةِ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَالْخَالَةِ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا وَالْقِطَعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا قَوْدَ عَلَى وَالِدٍ وَلَا عَلَى سيد، وَلَا مِيرَاث لقَاتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي جَمِيعًا حُنَفَاءَ" 1. وَكَقَوْلِهِ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا" 2، وَأَشْبَاهِ هَذَا. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" 3، يُرِيدُ: مَا كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِيهِ بِهِ مِنَ السُّنَنِ. وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمَ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ. رَضَاعُ الْكَبِيرِ: فَأَمَّا رُضَاعُ الْكَبِيرِ عَشْرًا، فَنَرَاهُ غَلَطًا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَلَا نَأْمَنُ أَيْضًا أَنَّ يَكُونَ الرَّجْمُ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ، قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، فَكَيْفَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى؟ وَلِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ: "عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، يُحَرِّمْنَ" 4، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَجَعَلُوا الْخَمْسَ حَدًّا بَيْنَ مَا يُحَرِّمُ وَمَا لَا يُحَرِّمُ، كَمَا جَعَلُوا الْقُلَّتَيْنِ حَدًّا بَيْنَ مَا يَنْجُسُ مِنَ الْمَاءِ، وَمَا لَا يَنْجُسُ.   1 رَوَاهُ مُسلم: جنَّة63، وَأحمد: 4/ 102. 2 الحَدِيث: سبق تَخْرِيجه ص327، 398. 3 رَوَاهُ أَحْمد: 2/ 129، 4/ 131. 4 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: نِكَاح49، وَمُسلم: رضَاع 15، وَأَبُو دَاوُد: نِكَاح 10 وَالتِّرْمِذِيّ: رضَاع3، والموطأ: رضَاع 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وَأَلْفَاظُ حَدِيثِ مَالِكٍ، خِلَافُ أَلْفَاظِ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَمَالِكٌ أَثْبَتَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: لَا تَأْخُذَنَّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ كَذَّابٌ. وَقَدْ كَانَ يُرْوِي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهِيَ امْرَأَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ هِشَامًا، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: "أَهُوَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَتِي، أَمْ أَنَا؟ ". وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} ، فَإِنَّهُ تَعَالَى، لَمْ يُرِدْ بِالْبَاطِلِ، أَنَّ الْمَصَاحِفَ لَا يُصِيبُهَا مَا يُصِيبُ سَائِرَ الْأَعْلَاقِ وَالْعُرُوضِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، قَبْلَ الْوَحْي وَبعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 53- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ- يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ: "أَنَّ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ"1، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} 2. لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَنْ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ وَبِدَرَاهِمَ تُعَدُّ مِنْ قِلَّتِهَا، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي لَهُ -مَعَ قِلَّةِ هَذَا الثَّمَنِ أَيْضًا- زَاهِدًا فِيهِ. وَيَقُولُ فِي رُجُوعِ إِخْوَتِهِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ "إِنَّهُ عَرَفَهُمْ، وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ". وَكَيْفَ يُنْكَرُ مَنْ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ فِي الْعَالِمِ نَظِيرٌ؟ وَهُمْ كَانُوا بِأَنْ يَعْرِفُوهُ وَيُنْكِرَهُمْ هُوَ أَوْلَى. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ يَذْهَبُونَ فِي نِصْفِ الْحُسْنِ الَّذِي أُعْطِيَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ نِصْفُ الْحُسْنِ، وَأَعْطَى الْعِبَادَ أَجْمَعِينَ النِّصْفَ الْآخَرَ، وَفَرَّقَهُ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ إِذَا فَهِمَ مَا قُلْنَاهُ. وَالَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، جَعَلَ لِلْحُسْنِ غَايَةً وَحَدًّا، وَجَعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، إِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِلْحُورِ الْعين؛ فَجعل   1 رَوَاهُ أَحْمد: 3/ 286. 2 الْآيَة: 20 من سُورَة يُوسُف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ليوسف عَلَيْهِ السَّلَامُ نِصْفَ ذَلِكَ الْحُسْنِ، وَنِصْفَ ذَلِكَ الْكَمَالِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ لِغَيْرِهِ ثُلُثَهُ، وَلِآخَرَ رُبُعَهُ، وَلِآخَرَ عُشْرَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لِآخَرَ مِنْهُ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ أُعْطِيَ نِصْفَ الشَّجَاعَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنَّ يَكُونَ أُعْطِيَ نِصْفَهَا، وَجُعِلَ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمُ النِّصْفَ الْآخَرَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى؛ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُعْطِيَ نِصْفَ الشَّجَاعَةِ، يُقَاوِمُ الْعِبَادَ جَمِيعًا وَحْدَهُ. وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: أَنْ لِلشَّجَاعَةِ حَدًّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَجْعَلُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُعْطِي غَيْرَهُ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْطِي لِآخَرَ الثُّلُثَ، أَوِ الرُّبُعَ، أَوِ الْعُشْرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يَشْتَرُونَهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَيَكُونُونَ أَيْضًا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الْحُسْنِ؟ فَإِنَّ الْحُسْنَ إِذَا كَانَ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، لَا يَتَفَاوَتُ التَّفَاوُتَ الَّذِي ظَنُّوهُ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُقَارِبًا لِمَا عَلَيْهِ الْحِسَانُ الْوُجُوهِ. وَقَدْ ذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَزَعَ فِي الْحُسْنِ إِلَى سَارَّةَ، وَهَذَا شَاهِدٌ لِمَا تَأَوَّلْنَاهُ فِي نِصْفِ الْحُسْنِ. فَإِنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} 1. وَقَالُوا: لَمْ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حِينَ رَأَيْنَهُ، وَلَمْ يَقُلْنَ إِنَّهُ مَلَكٌ كَرِيمٌ، إِلَّا لِتَفَاوُتِ حُسْنِهِ، وَبُعْدِهِ مِمَّا عَلَيْهِ حُسْنُ النَّاسِ. قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: إِنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ بقول النسْوَة، أَن امْرَأَة الْعَزِيز   1 الْآيَة: 30 من سُورَة يُوسُف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 تراود فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ، قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، أَرَادَتْ أَنْ يَرَيْنَهُ لِيَعْذُرْنَهَا فِي الْفِتْنَةِ بِهِ، فَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، أَيْ طَعَامًا، وَقَدْ قُرِئَ مُتُكًا وَهُوَ طَعَامٌ يُقْطَعُ بِالسِّكِّينِ، وَقِيلَ فِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ إِنَّهُ الأترج، وَفِي بعضه الزماورد1، وأيا مَا كَانَ فَإِنَّهُ لَا يُأْكَلُ حَتَّى يَقْطَعَ. وَأَصْلُ الْمَتْكِ وَالْبَتْكِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْمِيمُ تُبْدَلُ مِنَ الْبَاءِ كَثِيرًا، وَتُبْدَلُ الْبَاءُ مِنْهَا، لِتَقَارُبِ الْمَخْرَجَيْنَ. ثُمَّ قَالَتْ لِيُوسُفَ: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} . فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أَيْ أَعْظَمْنَ أَمْرَهُ، وَأَجْلَلْنَهُ، وَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِنَّ مِثْلُ الَّذِي وَقَعَ فِي قَلْبِهَا مِنْ مَحَبَّتِهِ؛ فَبُهِتْنَ وَتَحَيَّرْنَ، وَأَدَمْنَ النَّظَرَ إِلَيْهِ؛ حَتَّى حَزَزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِتِلْكَ السَّكَاكِينِ، الَّتِي كُنَّ يُقَطِّعْنَ بِهَا طَعَامَهُنَّ، وَقُلْنَ: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} . وَلَمْ يُرِدْنَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَهُ عَلَى التَّشْبِيهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي رَجُلٍ يَصِفُهُ بِالْجَمَالِ: مَا هُوَ إِلَّا الشَّمْسُ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْقَمَرُ. وَفِي آخَرَ يَصِفُهُ بِالشَّجَاعَةِ -مَا هُوَ إِلَّا الْأَسَدُ. وَكَيْفَ يُرِدْنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُنَّ يُرِدْنَ مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَيُشِرْنَ بِحَبْسِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَطَأُ النِّسَاءَ، وَلَا تُحْبَسُ فِي السُّجُونِ. وَلَيْسَ بِعَجِيبٍ أَنْ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِذَا رَأَيْنَ وَجْهًا حَسَنًا رَائِعًا، مَعَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ، وَأَنْ يَتَحَيَّرْنَ وَيُبْهَتْنَ، فَقَدْ يُصِيبُ النَّاسَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ.   1 الزماورد: طَعَام من الْبيض وَاللَّحم "مُعرب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 أَمْثِلَةٌ عَنْ أَحْوَالِ الْعُشَّاقِ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ1: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ رَوْعَةٌ ... لَهَا بَيْنَ جِلْدِي وَالْعِظَامِ دَبِيبُ وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتُ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ وَأُصْرَفُ عَنْ رَأْيِي الَّذِي كُنْتُ أَرْتَئِي ... وَأَنْسَى الَّذِي عددت حِينَ تَغِيبُ2 وَقَدْ جُنَّ قَيْسُ3 بْنُ الْمُلَوَّحِ الْمَعْرُوفُ بِالْمَجْنُونِ، وَذَهَبَ عَقْلُهُ، وَهَامَ مَعَ الْوَحْشِ، وَكَانَ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ تُذْكَرَ لَيْلَى، وَقَالَ: أَيَا وَيْحَ مَنْ أَمْسَى تُخُلِّسَ4 عَقْلُهُ ... فَأَصْبَحَ مَذْهُوبًا بِهِ كُلَّ مَذْهَبِ إِذَا ذُكِرَتْ لَيْلَى عَقَلْتُ وَرَاجَعْتُ ... رَوَائِعَ عَقْلِي5 مِنْ هَوًى مُتَشَعِّبِ وَلَمَّا خَرَجَ بِهِ أَبُوهُ إِلَى مَكَّةَ لِيَعُوذَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَشْفِي لَهُ بِهِ، سمع ب"منى" قَائِلًا يَقُولُ: "يَا لَيْلَى" فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى ... فَهَيَّجَ أَحْزَانَ الْفُؤَادِ وَمَا يَدْرِي دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرِهَا فَكَأَنَّمَا ... أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي وَقَدْ مَاتَ بِالْوَجْدِ أَقْوَامٌ، مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ، وَالنَّهْدِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَجْلَانَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن قريب، قَالَ:   1 عُرْوَة بن حزَام بن مهَاجر الضني من بني عذرة، شَاعِر من متيمي الْعَرَب، كَانَ يحب ابْنة عَم لَهُ اسْمهَا "عفراء" نَشأ مَعهَا فِي بَيت وَاحِد، لِأَن أَبَاهُ خَلفه صَغِيرا، فَكَفَلَهُ عَمه، وَلم يسْتَطع دفع الْمهْر الَّذِي طلبته أمهَا فَتزوّجت غَيره، فضنى حبا فَمَاتَ 30هـ. 2 قَوْله: "وأصرف" الْبَيْت أنْشدهُ المرتضى فِي أماله هَكَذَا: وأصرف عَن دَاري الَّذِي كنت عَارِفًا ... ويعزب عني علمه ويغيب ويضمر قلبِي غدرها ويعينها ... عَليّ فَمَا لي فِي الْفُؤَاد نصيب 3 قيس بن الملوح بن مُزَاحم العامري شَاعِر غزل من أهل نجد لم يكن مَجْنُونا، وَإِنَّمَا لقب بذلك لهيامه فِي حب ليلى بنت سعد، وَوجد ملقى بَين أَحْجَار وَهُوَ ميت عَام 68هـ. 4 تخلس: اسْتَلَبَ: أَخذ مِنْهُ. 5 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "قلبِي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 حَدَّثَنِي عَمِّي الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ1 عَجْلَانَ: مِنْ عُشَّاقِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورِينَ، الَّذِينَ مَاتُوا عِشْقًا وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: إِنْ مُتُّ مِنَ الْحُبِّ ... فَقَدْ مَاتَ بن عَجْلَانَ وَحَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَجْلَانَ، صَاحِبُ هِنْدٍ: أَلَا إِنَّ هِنْدًا أَصبَحت مِنْك محرما2 ... وأصحبت مِنْ أَدْنَى حَمَوَّتِهَا حَمَا3 وَأَصْبَحْتَ كَالْمَغْمُودِ جَفْنُ سِلَاحِهِ ... يُقَلِّبُ بِالْكَفَّيْنِ قَوْسًا وَأَسْهُمًا قَالَ: وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ، ثُمَّ خَرَّ فَمَاتَ. وَفِيمَا رَوَى نَقْلَةُ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِيَّ، قَامَ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ين يَدَيْ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ ارْتِجَالًا، وَكَانَتْ كَالْخُطْبَةِ، فَارْتَزَّتِ الْعَنَزَةُ،4 الَّتِي كَانَ يَتَوَكَّأُ وَيَخْطُبُ عَلَيْهَا فِي صَدْرِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْ قَطْعِهِنَّ أَيْدِيَهُنَّ. وَالسَّبَبُ الَّذِي قَطَّعْنَ لَهُ أَيْدِيَهُنَّ، أَوْكَدُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي ارْتَزَّتْ لَهُ الْعَنَزَةُ4، فِي صَدْرِ الْحَارِثِ بْنِ حلزة.   1عبد الله بن العجلان بن عبد الأجب ابْن عَامر النَّهْدِيّ من قضاعة شَاعِر جاهلي من العشاق المتيمين، وَسيد من سَادَات قومه فِي شعره طلاوة، طلق زَوجته بإكراه من وَالِده لِأَنَّهَا لم تَلد لَهُ فتزودت غَيره فدنف وَمَات أسفا 50ق. هـ. 2 الْمحرم: ذَات الرَّحِم الْقَرَابَة الَّتِي لَا يحل تزَوجهَا. 3 الحما: أَبُو زوج الْمَرْأَة، أَو الْوَاحِد من أقَارِب الزَّوْج أَو الزَّوْجَة. وَالْكَلَام على تَقْدِير مُضَاف، أَي ذِي حموتها. وَيظْهر أَن هندًا تزوجت بقريب هَذَا الشَّاعِر، فو يَقُول خطابا لنَفسِهِ تحسرصا وتأسفًا: إِنَّك قد أَصبَحت الْيَوْم حمًا من أحمائها، فَلَا يتأتي لَك مَا كنت تتمناه من وصالها. 4 العنزة: وَهُوَ بَين الْعَصَا وَالرمْح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أَسبَاب بخس ثمن يُوسُف: وَأَمَّا شِرَاءُ السَّيَّارَةِ لَهُ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ، وَزُهْدُهُمْ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمُ اشْتَرَوْهُ عَلَى الْإِبَاقِ، وَبِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ جَوْفِ بِئْرٍ قَدْ أَلْقَاهُ سَادَتُهُ فِيهَا بِذُنُوبٍ كَانَتْ مِنْهُ، وَجِنَايَاتٍ عِظَامٍ ادَّعَوْهَا، وَشَرَطُوا عَلَيْهِمْ -مَعَ ذَلِكَ- أَنْ يُقَيِّدُوهُ، وَيُغِلُّوهُ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِصْرَ، وَفِي دُونِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يُخَسِّسُ الثَّمَنَ، وَيُزْهِدُ الْمُشْتَرِي. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "كَيْفَ تنكره إِخْوَتُهُ مَعَ مَا أُعْطِيَ مِنَ الْحُسْنِ؟ ". فَقَدْ أَعْلَمْتُكَ أَنَّ الَّذِي أُعْطِيَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ مَا أُعْطِيَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِمَّا عَلَيْهِ الْحُسْنُ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ، فَقَدْ أُعْطِيَ غَيْرُهُ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ، وَمَا قَارَبَ النِّصْفَ، وَلَيْسَ يَقَعُ فِي هَذَا تَفَاوُتٌ شَدِيدٌ. وَكَانُوا فَارَقُوهُ طِفْلًا، وَرَأَوْهُ كَهْلًا، وَدَفَعُوهُ أَسِيرًا ضَرِيرًا1، وَأَلْفَوْهُ مَلِكًا كَبِيرًا. وَفِي أَقَلِّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ تَتَغَيَّرُ الْحُلَى، وَتَخْتَلِفُ المناظر.   1 الضَّرِير: الذَّاهِب الْبَصَر، وَالْمَرِيض المهزول، وَالْمعْنَى الثَّانِي هُوَ الْمَقْصُود؛ لِأَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن أعمى كَمَا هُوَ مَعْلُوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 54- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ النَّظَرُ- كَسْبُ الْإِمَاءِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَن مُحَمَّد بن حمادة، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْإِمَاءِ" 1. قَالُوا: وَكَسْبُ الْإِمَاءِ حَلَالٌ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا آجَرَ أَمَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ، فَعَمِلَا لَمْ يَكُنْ مَا كَسَبَا حَرَامًا بِإِجْمَاعِ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَنْهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْكَسْبَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ أَجْرُ الْبِغَاءِ2، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْمُرُونَ إِمَاءَهُمْ بِالْبِغَاءِ، وَيَأْخُذُونَ أُجُورَهُنَّ وَكَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ إِمَاءٌ يُسَاعِينَ3، وَهُوَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَيِّدُ تَيْمٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4. وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الزَّمَّارَةِ5، وَهِيَ الزَّانِيَةُ، يَعْنِي هَذِهِ الْأَمَةَ الَّتِي يَغْتَلُّهَا6 سَيِّدهَا.   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: إِجَارَة 20، وَأَبُو دَاوُد: ببوع 39، والدرامي: بيُوت 78، وَأحمد: 2/ 382 و438. 2 الْبغاء: الزِّنَا. 3 يساعين: من المساعاة أَي الزِّنَا، وَلَا مساعاة فِي الْإِسْلَام. 4 الْآيَة: 33 من سُورَة النُّور. 5 الزمارة: رُبمَا كَانَ من الزمير: وَهُوَ الْغناء، أَو من الزمر: وَهِي الْإِشَارَة بِالْعينِ أَو الْحَاجِب أَو الشّفة، والزواني يفعلن ذَلِك. 6 أَي: تَأتيه بالغلة وَهِي أُجْرَة بغائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الْخطاب، قَالَ نَا أَبُو بَحْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَأَجْرُ الزَّمَّارَةِ، مِنَ السُّحت"1.   1 رَوَاهُ مُسلم: مُسَاقَاة 41 و43، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع 38، وَالتِّرْمِذِيّ: بُيُوع 46، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 91، والدرامي: بُيُوع 78، وَأحمد 3/ 464 و465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 55- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- هَلِ الْفَخْذُ مِنَ الْعَوْرَةِ؟ قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَن بن جَرْهَدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ وَهُوَ كَاشِفٌ فَخْذَهُ، فَقَالَ: "غَطِّهَا، فَإِنَّ الْفَخْذَ مِنَ الْعَوْرَةِ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ2، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ، كَاشِفًا فَخْذَهُ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ. ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَلَسَ وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَلَمَّا خَرَجَ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ" 2 قَالُوا: وَهَذَا خلاف الحَدِيث الأول.   1 جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 14641، وَعبد الرَّزَّاق فِي الْجَامِع وَالْمُصَنّف وَابْن حبَان والخرائطي، وَرَوَاهُ أَيْضا الْحَاكِم عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن جحش، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. انْظُر: صَحِيح الْجَامِع رقم 4157، 4158. 2 إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن أبي كثير الْأنْصَارِيّ ولد سنة 130هـ، قَارِئ أهل الْمَدِينَة فِي عصره من موَالِي بني زُرَيْق من الْأَنْصَار رَحل إِلَى بَغْدَاد وَتُوفِّي بهَا سنة 180هـ. 3 رَوَاهُ البُخَارِيّ: صَلَاة 12 بعد قَوْله: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَة"، وَلكنه من إِفْرَاد مُسلم رقم 2401، وَأَبُو دَاوُد: حمام1، وَالتِّرْمِذِيّ: أدب 40، والدرامي: اسْتِئْذَان 22، وَأحمد 3/ 478، 5/ 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مَوضِع، فَإذْ وُضِعَ بِمَوْضِعِهِ زَالَ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ. أَمَّا حَدِيثُ جَرْهَدٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ كَاشِفٌ فَخْذَهُ عَلَى طَرِيقِ النَّاسِ وَبَيْنَ مَلَئِهِمْ1، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: "وَارِ2 فَخْذَكَ، فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ"، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ، لِأَنَّ الْعَوْرَةَ غَيْرُهَا. وَالْعَوْرَةُ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا فَرْجُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالدُّبُرُ مِنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْعَوْرَةِ، وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتُرَاهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكُلِّ مَوْضِعٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالْعَوْرَةُ الْأُخْرَى: مَا دَانَاهُمَا مِنَ الْفَخْذِ، وَمِنْ مَرَاقِّ3 الْبَطْنِ؛ وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَوْرَةً، لِإِحَاطَتِهِ بِالْعَوْرَةِ، وَدُنُوِّهِ مِنْهَا. وَهَذِهِ الْعَوْرَةُ، هِيَ الَّتِي يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُبْدِيَهَا فِي الْحَمَّامِ، وَفِي الْمَوَاضِعِ الْخَالِيَةِ، وَفِي مَنْزِلِهِ، وَعِنْدَ نِسَائِهِ، وَلَا يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يُظْهِرَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي جَمَاعَاتِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ حَلَّ لِلرَّجُلِ، يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يُظْهِرَهُ فِي الْمَجَامِعِ.   1 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "مطبهم". 2 وار: فعل أَمر من المواراة: وَهِي السّتْر. يرد على ابْن قُتَيْبَة فِي قَوْله عَن نَص حَدِيث ابْن جرهد أَن الْفَخْذ من الْعَوْرَة، وَادّعى أَنه لم يقل أَنَّهَا عَورَة. أَن الْحَاكِم روى ذَلِك بِسَنَد صَحِيح بِلَفْظ: "غط فخذك فَإِن الْفَخْذ عَورَة" صَحِيح الْجَامِع رقم 4157. وَيرد على ابْن قُتَيْبَة أَيْضا فِي تَأْوِيله أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا غطى فَخذه لما صَارُوا ثَلَاثَة، لأَنهم صَارُوا جمَاعَة، أَن هَذَا يناف مَا علل بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ غطاه حَيَاء من عُثْمَان لكَون الْمَلَائِكَة تَسْتَحي مِنْهُ، ولس لصيرورتهم ثَلَاثَة، وَالله تَعَالَى أعلم. وَأما السائغ من ذَلِك أَنه حَيْثُ نهى عَن كشف الْفَخْذ فَلِأَنَّهُ من قبيل كَرَاهَة التَّنْزِيه وَحَيْثُ أبدى فلبيان الْجَوَاز عِنْد الْحَاجة؛ لِأَنَّهُ تكَرر مِنْهُ فِي مَوَاضِع مِنْهَا يَوْم خَيْبَر حَيْثُ أجْرى مطيته بزقاق خَيْبَر، وَقد حسر عَن فَخذه حَتَّى أَن أنس لينْظر إِلَيْهِ أَو ليمسه بركبته لما فِي الصَّحِيحَيْنِ. اُنْظُرْهُ فِي اللُّؤْلُؤ والمرجان برقم1180، وهنالك ترى مَكَانَهُ من البُخَارِيّ وَمُسلم، هَذَا وَالله تعلى أعلم بِالصَّوَابِ. -مُحَمَّد مُحَمَّد بدير- 3 مراق الْبَطن: مارق مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 فَإِنَّ الْأَكْلَ عَلَى الطَّرِيقِ وَفِي السُّوقِ حَلَالٌ، وَهُوَ قَبِيحٌ، وَوَطْءَ الرَّجُلِ أَمَتَهُ حَلَالٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ النَّاسُ وَالْعُيُونُ. وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْوَجْسَ1، وَهُوَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ، بِحَيْثُ تُحِسُّ أَهْلُهُ الْأُخْرَى الْحَرَكَةَ وَتَسْمَعُ الصَّوْتَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ خَالِيًا، فَأَظْهَرَ فَخْذَهُ لِنِسَائِهِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ يَأْنَسُ بِهِ فَلَمْ يَسْتُرْهُ، فَلَمَّا صَارُوا ثَلَاثَةً، كَرِهَ بِاجْتِمَاعِهِمْ مَا كَرِهَهُ لِجَرْهَدٍ، مِنْ إِبْدَائِهِ لِفَخْذِهِ بَيْنَ عَوَامِّ النَّاسِ، واستتر مِنْهُم.   1 الوجس: الصَّوْت الْخَفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 56- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْكِتَابُ- حُكْمُ مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ بِالْحَجِّ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ، فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى" 1. قَالَ: فَحَدَّثْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ، فَقَالَا: صَدَقَ. قَالُوا: وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 2. فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، دُونَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيَ، وَيَنْحَرَ عَنْهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا، فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُهِلُّ بِالْحَجِّ مِنْهَا، وَيَطُوفُ، وَيَسْعَى، ثُمَّ يُكْسَرُ، أَوْ يُعْرَجُ، أَوْ يَمْرَضُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ حُضُورَ الْمَوَاقِفِ، إِنَّهُ يَحِلُّ فِي وَقْتِهِ، وَعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَقْضِي عمرته، ثمَّ   1 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 22984، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا بِلَفْظ: "من كسر أَو عرج أَو مرض أَو حبس فلينحر مثلهَا، وَقد حل"، وَقد رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن والحاحكم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن الْحجَّاج بن عَمْرو بن غزيَّة الْأنْصَارِيّ، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 6521. 2 الْآيَة: 196 من سُورَة الْبَقَرَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 يهل بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَيُكْسَرُ، أَوْ يُصِيبُهُ أَمْرٌ، لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَحْضُرَ مَعَ النَّاسِ الْمَوَاقِفَ: إِنَّهُ يَحُلُّ، وَعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ. وَالَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى -إِذَا أُحْصِرُوا- بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَأَنْ لَا يَحْلِقُوا رُءُوسَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، هُمُ الَّذِينَ أُحْصِرُوا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ. وَحُكْمُ أُولَئِكَ خِلَافُ حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمُهِلِّينَ بِالْحَجِّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الَّذِي كُسِرَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ عُرِجَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السَّفَرِ، أَوْ مَرِضَ -وَقَدْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ- أَنْ لَا يَحِلَّ إِلَّا بِالْبَيْتِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَالَّذِي كُسِرَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا، أَوِ الْمُتَمَتِّعِينَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، وَعِنْدَ الْبَيْتِ فَيَحِلُّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابَلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 57- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ- أَكْلُ الشَّيْطَانِ بِشِمَالِهِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: "كُلْ بِيَمِينِكَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ" 1. قَالُوا: وَالشَّيْطَانُ رُوحَانِيٌّ كَالْمَلَائِكَةِ، فَكَيْفَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ يَدٌ، يَتَنَاوَلُ بِهَا؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَزَّ- لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا جَعَلَ لَهُ ضِدًّا، كَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّمَامِ وَالنُّقْصَانِ، وَالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ. وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْخَيْرِ وَالتَّمَامِ وَالْعَدْلِ وَالنُّورِ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، جَلَّ وَعَزَّ، لِأَنَّهُ أَحَبَّهُ، وَأَمَرَ بِهِ. وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الشَّرِّ وَالنَّقْصِ وَالظَّلَامِ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ الدَّاعِي إِلَى ذَلِك والمسول لَهُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْيَمِينِ الْكَمَالَ وَالتَّمَامَ، وَجَعَلَهَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالسَّلَامِ وَالْبَطْشِ. وَجَعَلَ فِي الشِّمَالِ الضَّعْفَ وَالنَّقْصَ، وَجَعَلَهَا للاستنجاء والاستنثار، وإماطة الأقذار.   1 أخرجه مُسلم: أشربة 105 و106، وَأَبُو دَاوُد: أَطْعِمَة 19، وَالتِّرْمِذِيّ: أَطْعِمَة 9، وَابْن ماجة: أَطْعِمَة 8، والدرامي: أَطْعِمَة 9، والموطأ: صفة النَّبِي 6، وَأحمد 3/ 8 و33 و80 و106 و108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وَجَعَلَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَأَهْلَ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ الْيَمِينِ. وَطَرِيقَ النَّارِ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَأَهْلَ النَّارِ أَصْحَابَ الشِّمَالِ. وَجَعَلَ الْيُمْنَ مِنَ الْيَمِينِ، وَالشُّؤْمَ مِنَ الْيَدِ الشُّؤْمَى وَهِيَ الشِّمَالُ. وَقَالُوا: فُلَانٌ مَيْمُونٌ وَمَشْئُومٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ. تَأْوِيلُ أَكْلِ الشَّيْطَانِ: وَلَيْسَ يَخْلُو الشَّيْطَانُ فِي أَكْلِهِ بِشِمَالِهِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُ عَلَى حَقِيقَةٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْأَكْلُ تَشَمُّمًا وَاسْتِرْوَاحًا، لَا مَضْغًا وَبَلْعًا، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ وَرُوِيَ أَنَّ طَعَامَهَا الرِّمَّةُ، وَهِيَ: الْعِظَامُ، وَشَرَابَهَا الْجَدَفُ1 وَهُوَ الرَّغْوَةُ وَالزَّبَدُ، وَلَيْسَ يَنَالُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الرَّوَائِحَ فَتَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْمَضْغِ وَالْبَلْعِ، لِذَوِي الْجُثَثِ، وَيَكُونُ اسْتِرْوَاحُهُ مِنْ جِهَةِ شِمَالِهِ، وَتَكُونُ بِذَلِكَ مُشَارَكَتُهُ مَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ، أَوْ لَمْ يَغْسِلْ يَدَهُ، أَوْ وَضَعَ طَعَامًا مَكْشُوفًا فَتَذْهَبُ بَرَكَةُ الطَّعَامِ وَخَيْرُهُ. وَأَمَّا مُشَارَكَتُهُ فِي الْأَمْوَالِ فَبِالْإِنْفَاقِ فِي الْحَرَامِ، وَفِي الْأَوْلَادِ فَبِالزِّنَا. أَوْ يَكُونُ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ عَلَى الْمَجَازِ -يُرَادُ أَنَّ أَكْلَ الْإِنْسَانِ بِشَمَالِهِ إِرَادَةُ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَتَسْوِيلُهُ. فَيُقَالُ لِمَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ: هُوَ يَأْكُلُ أَكْلَ الشَّيْطَانِ؛ لَا يُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْأَكْلَ الَّذِي يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ. كَمَا قِيلَ فِي الْحُمْرَةِ: إِنَّهَا زِينَةُ الشَّيْطَانِ، لَا يُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَلْبَسُ الْحُمْرَةَ، وَيَتَزَيَّنُ بِهَا. وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي يُخَيِّلُ بهَا الشَّيْطَان2.   1 الجدف: بِالتَّحْرِيكِ نَبَات يكون بِالْيَمِينِ، لَا يحْتَاج أكله مَعَه إِلَى شرب مَاء، وَقيل: أَصله من الجدف: الْقطع، أَرَادَ مَا يرْمى بِهِ عَن الشَّرَاب من زبد أَو رغوة أَو قذى؛ كَأَنَّهُ قطع من الشَّرَاب فَرمى بِهِ هَكَذَا. 2 تَأْوِيل أكل الشَّيْطَان الَّذِي سَاقه ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى المتضمن إِخْرَاج الحَدِيث عَن ظَاهره وَأَن الشَّيْطَان لَيْسَ لَهُ يَد وَلَا يَأْكُل، وَإِنَّمَا يشم ريح الطَّعَام إِلَى غير ذَلِك مِمَّا قَالَ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 عِمَّةُ الشَّيْطَانِ وَرَكَضَتُهُ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي الِاقْتِعَاطِ، وَهُوَ أَنْ يَلْبَسَ الْعِمَامَةَ، وَلَا يَتَلَحَّى بِهَا أَنَّهَا عِمَّةُ الشَّيْطَانِ، لَا يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَعْتَمُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهَا الْعِمَّةُ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ وَيَدْعُو إِلَيْهَا. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْلِهِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: "إِنَّهَا رَكْضَةُ الشَّيْطَانِ" وَالرَّكْضَةُ: الدَّفْعَةُ، إِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ يَدْفَعُ ذَلِكَ الْعِرْقَ، فَيَسِيلُ مِنْهُ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ، لِيُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ صَلَاتَهَا بِنَقْضِ1 طُهُورِهَا؛ وَلَيْسَ بِعَجِيبٍ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ الدَّمَ بِدَفْعَتِهِ، مَنْ يجْرِي من بن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. أَوْ تَكُونُ تِلْكَ الدَّفْعَةُ مِنَ الطَّبِيعَةِ، فَنُسِبَتْ2 إِلَى الشَّيْطَان؛ لِأَنَّهَا من   = كُله خطأ وَلَيْسَ هُنَاكَ أَي مَانع من إِجْرَاء الحَدِيث على ظَاهره، بل هُوَ مُتَعَيّن لنصوص أُخْرَى كَثِيرَة مِنْهَا مَا روى مُسلم من حَدِيث حُذَيْفَة عَن الْجَارِيَة الَّتِي دَفعهَا الشَّيْطَان إِلَى الطَّعَام ليستحل بهَا فَأخذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهَا، وَقَالَ: "إِن الشَّيْطَان يسْتَحل الطَّعَام أَن لَا يذكر اسْم الله عَلَيْهِ، وَإنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَة ليستحل بهَا فَأخذت بِيَدِهَا، فجَاء بِهَذَا الْأَعرَابِي ليستحل بِهِ فَأخذت بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن يَده فِي يَدي مَعَ يَدهَا" مُسلم رقم 2017، هَذَا مَعَ حَدِيث جَابر فِي مُسلم وَنَصه: "إِذا أكل أحدكُم فَليَأْكُل بِيَمِينِهِ، وَإِذا شرب فليشرب بِيَمِينِهِ، فَإِن الشَّيْطَان بِأَكْل بِشمَالِهِ" مُسلم رقم 2020، وَحَدِيث خنق الشَّيْطَان الَّذِي تعرض لَهُ فِي صَلَاة اللَّيْل حَتَّى سَالَ لعابه على يَده فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَول الله تَعَالَى: {أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الْجِنّ] ، فنص الْقُرْآن الْكَرِيم أَن مِنْهُم رجَالًا ونصت السّنة أَن مِنْهُم ذُكُورا وإناثًا لما فِي حَدِيث التَّعَوُّذ من الْخبث والخبائث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس مَرْفُوعا، وَحَدِيث سَرقَة الشَّيْطَان من الزَّكَاة وَأَنه جَاءَ يحثو من الطَّعَام فَأخذ أَبُو هُرَيْرَة بِيَدِهِ كَمَا ذكره البُخَارِيّ تَعْلِيقا بِصِيغَة الْجَزْم. وروى التِّرْمِذِيّ نَحوه عَن أبي أَيُّوب أَن غولًا جَاءَت تسرق من تمر لَهُ فَأَخذهَا فَحَلَفت لَا تعود، وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث كثير فِي كَون الْجِنّ يتمثلون فِي أشخاص وأجسام وَلم أَيدي وَأَوْلَاد ودواب ويأكلون وَيَشْرَبُونَ، وَعَلِيهِ كَلَام الْعلمَاء فِي شرح الصَّحِيحَيْنِ النَّوَوِيّ وَغَيره، وَكَلَام ابْن قُتَيْبَة فِي هَذَا. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 1 وَفِي نُسْخَة: وينقض ظُهُورهَا. 2 وَفِي نسختين: فتنسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 الْأُمُور الَّتِي تُفْسِدُ الصَّلَاةَ، كَمَا نُسِبَ إِلَيْهِ الْأَكْلُ بِالشِّمَالِ، وَالْعِمَّةُ عَلَى الرَّأْس، دون التلحي، والحمرة. الْحمرَة من زِينَة الشَّيْطَان: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحُمْرَةُ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ"1. وَلِهَذَا "كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُعَصْفَرَ لِلرِّجَالِ" 2. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي لِأَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ زِينَةُ الشَّيْطَانِ. وَأَتَخَتَّمُ الْحَدِيدَ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ. وَجَعَلَ الْحَدِيدَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ، وَأَهْلُ النَّارِ لَا يَتَحَلَّوْنَ بِالْحُلِيِّ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ لَهُمْ مَكَانَ الْحِلْيَةِ السَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ وَالْقُيُودَ، فَالْحَدِيدُ حِلْيَتُهُمْ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ إِخْفَاءَ نَفْسِهِ، وَسَتْرَ عَمَلِهِ.   1 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 2792 عَن الْحسن مُرْسلا، قَالَ: وَانْظُر الْمُقدمَة ص22. 2 رَوَاهُ مُسلم: لِبَاس 29 و31، وَأَبُو دَاوُد: لِبَاس 8، وَالتِّرْمِذِيّ: مَوَاقِيت 80 ولباس5 و13، وَالنَّسَائِيّ: زِينَة 43 و76 و95 وتطبيق 7 و61، وَابْن ماجة: لِبَاس 31، وَأحمد: 1/ 81 و93 و105 و114 و123 و126 و133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 58- قَالُوا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ- الْكَيُّ وَالْحِجَامَةُ: قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنِ اكْتَوَى وَاسْتَرْقَى" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ2، وَقَالَ: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تُدَاوُونَ بِهِ خَيْرٌ، فَفِي بَزْغَةِ حَجَّامٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ" 3. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الأول. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ -هَهُنَا- خِلَافٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَوْضِعٌ، فَإِذَا وُضِعَ بِهِ زَالَ الِاخْتِلَافُ، وَالْكَيُّ جِنْسَانِ، أَحَدُهُمَا: كَيُّ الصَّحِيحِ لِئَلَّا يَعْتَلَّ، كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنْ أُمَمِ الْعَجَمِ، فَإِنَّهُمْ يَكْوُونَ وِلْدَانَهُمْ وَشُبَّانَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ بِهِمْ، يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَيَّ، يَحْفَظُ لَهُمُ الصِّحَّةَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْأَسْقَامَ.   1 رَوَاهُ أَحْمد: 4/ 251 و252 و253. 2 أسعد بن زُرَارَة بن عدس النجاري من الْخَزْرَج أحد الشجعان الْأَشْرَاف فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام من سكان الْمَدِينَة، قدم مَكَّة فِي عصر النُّبُوَّة وَمَعَهُ ذكْوَان بن عبد قيس فَأَسْلمَا وعادا إِلَى الْمَدِينَة وَهُوَ أحد النُّقَبَاء الاثنى عشر وَمَات قبل وقْعَة بدر ا. هـ. 3 رَوَاهُ البُخَارِيّ: كتاب 76 بَاب 9 و11 و15، وَمُسلم: كتاب 39 حَدِيث 70 و73 و76 و77، وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 26 بَاب9 و12، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 27 بَاب 3 و5. والبزغ والتبزيغ: الشَّرْط بالمبزغ: هُوَ المشرط، ويزغ دَمه: أسأله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 الْكَيُّ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَرَأَيْتُ بِخُرَاسَانَ رَجُلًا مِنْ أَطِبَّاءِ التُّرْكِ، مُعَظَّمًا عِنْدَهُمْ، يُعَالِجُ بِالْكَيِّ. وَأَخْبَرَنِي وَتَرْجَمَ ذَلِكَ عَنْهُ مُتَرْجِمُهُ، أَنَّهُ يَشْفِي بِالْكَيِّ مِنَ الْحُمَّى وَالْبِرْسَامِ1. وَالصُّفَّارِ2 وَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْعِظَامِ، وَأَنَّهُ يَعْمَدُ إِلَى الْعَلِيلِ فَيَشُدُّهُ بِالْقِمْطِ شَدًّا شَدِيدًا، حَتَّى يَضْطَرَّ الْعِلَّةَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْجَسَدِ، ثُمَّ يَضَعُ الْمَكْوَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَيَلْذَعُهُ بِهِ وَأَنَّهُ أَيْضًا يَكْوِي الصَّحِيحَ لِئَلَّا يَسْقَمَ فَتَطُولُ صِحَّتُهُ. وَكَانَ -مَعَ هَذَا- يَدَّعِي أَشْيَاءَ مِنِ اسْتِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْشَاءِ السَّحَابِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَإِثَارَةِ الرِّيحِ مَعَ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ، وحماقات ظَاهِرَة بَيِّنَة، وَأَصْحَاب يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، وَيَشْهَدُونَ لَهُ عَلَى صِدْقِ مَا يَقُولُ. وَقَدِ امْتَحَنَّاهُ فِي بَعْضِ مَا ادَّعَى، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ إِلَى قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، وَتَفْعَلُ شَبِيهًا بِذَلِكَ فِي الْإِبِلِ إِذَا وَقَعَتِ النُّقَبَةُ فِيهَا، وَهُوَ جَرَبٌ، أَوِ الْعُرُّ3، وَهُوَ قُرُوحٌ تَكُونُ فِي وُجُوهِهَا وَمَشَافِرِهَا، فَتَعْمَدُ إِلَى بَعِيرٍ مِنْهَا صَحِيحٍ، فَتَكْوِيهِ لِيَبْرَأَ مِنْهَا مَا بِهِ الْعَرُّ أَوِ النُّقَبَةُ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّابِغَةُ فِي قَوْلِهِ لِلنُّعْمَانِ: فَحَمَّلْتَنِي ذَنْبَ امْرِئٍ وَتَرَكْتَهُ ... كَذِي الْعُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وَهُوَ رَاتِعُ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أَبْطَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ فِيهِ: "لم يتوكل من   1 البرسام: عِلّة يهذي فِيهَا. 2 الصفار والصفر: دَاء فِي الْبَطن يصفر الْوَجْه، أَو دَاوُد فِيهِ يصفر الْوَجْه. الْقَامُوس 545. 3 العر والعر والعرة: الجرب، وبالضم قُرُوح فِي أَعْنَاق الفصلان، وداء يتمعط مِنْهُ وبر الْإِبِل. "الْقَامُوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 اكتوى1، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اكْتِوَاءَهُ، وَإِفْزَاعَهُ الطَّبِيعَةَ بِالنَّارِ -وَهُوَ صَحِيحٌ- يَدْفَعُ عَنْهُ قَدَرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنْ لَا مَنْجَى مِنْ قَضَائِهِ، لَمْ يَتَعَالَجْ -وَهُوَ صَحِيحٌ- وَلَمْ يَكْوِ مَوْضِعًا لَا عِلَّةَ بِهِ، لِيَبْرَأَ الْعَلِيلُ. الْكَيُّ الْمُبَاحُ: وَأَمَّا الْجِنْسُ الْآخَرُ فَكَيُّ الْجُرْحِ إِذَا نَغِلَ2، وَإِذَا سَأَلَ دَمُهُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ. وَكَيُّ الْعُضْوِ إِذَا قُطِعَ، أَوْ حَسَمَهُ3، وَكَيُّ عُرُوقِ مَنْ سَقَى بَطْنَهُ وبدنه. قَالَ بن أَحْمَرَ يَذْكُرُ تَعَالُجَهُ حِينَ شُفِيَ4: شَرِبْتُ الشُّكَاعَى5 وَالْتَدَدْتُ أَلِدَّةً6 ... وَأَقْبَلْتُ أَفْوَاهَ الْعُرُوقِ الْمُكَاوِيَا7 وَهَذَا هُوَ الْكَيُّ الَّذِي قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِيهِ الشِّفَاءَ". وَكَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، لِعِلَّةٍ كَانَ يَجِدُهَا فِي عُنُقِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.   1 رَوَاهُ أَحْمد: 4/ 251 و252 و253. 2 نغل الْجرْح: فسد -وَنِيَّته: ساءت -وَقَلبه عَليّ: ضغن. "الْقَامُوس 1374". 3 حسمه: قطعه، والعرق: قطعه ثمَّ كواه لِئَلَّا يسيل دَمه. 4 وَفِي نسختين: سقِِي، وَهُوَ تَحْرِيف وَاضح، وَالصَّحِيح مَا أَثْبَتْنَاهُ. 5 الشكاعي: بِضَم الشين وَفتحهَا: دق النَّبَات وَهُوَ نَافِع من الحميات العتيقة أَي البلغمية واللهاة الوارمة ووجع الْأَسْنَان، ثمَّ إِن هَذِه الْخَواص الْمَذْكُورَة لَيست فِيهَا وَإِنَّمَا هِيَ فِي بزرها فَهِيَ من نَبَات دَقِيق العيدان صَغِيرَة خضراء وَالنَّاس يتداوون قَدِيما بهَا. 6 التد: ابتلع الدَّوَاء. 7 المكاوي: جمع المكواة وَهِي مَا يكون بِهِ. أَي جعلت أَفْوَاه الْعُرُوق تلِي قبالة المكاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وَلَا يُقَالُ لِمَنْ يُعَالَجُ عِنْدَ نُزُولِ الْعِلَّةِ بِهِ، لَمْ يَتَوَكَّلْ، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّعَالُجِ، وَقَالَ: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ" 1. لَا عَلَى أَنَّ الدَّوَاءَ2 شَافٍ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا يُشْرَبُ عَلَى رَجَاءِ الْعَافِيَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، إِذْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا. وَمِثْلُ هَذَا الرِّزْقِ، قَدْ تَضَمَّنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ، إِذْ يَقُولُ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 3. ثُمَّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِهِ، وَبِالِاكْتِسَابِ، وَالِاحْتِرَافِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} 4. وَمِثْلُهُ تَوَقِّي الْمَهَالِكِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّوَقِّيَ لَا يَدْفَعُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ. وَحِفْظُ الْمَالِ فِي الْخَزَائِنِ، وَبِالْأَقْفَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا ضَيْعَةَ عَلَى مَا حَفِظَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا حِفْظَ لِمَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَنْظُرَ فِيهِ إِلَى الْمَغِيبِ عَنَّا، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْحَزْمُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ " 5. وَقَالَ لِرَجُلٍ سَمِعَهُ يَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ: "أَبْلَى عُذْرًا فَإِذَا أَعْجَزَكَ أَمْرٌ فَقل حسبي الله".   1 الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، وروى البُخَارِيّ مَعْنَاهُ، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 5164 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 2 فِي نسختين: "لَا على الْإِيمَان بِأَن الدَّوَاء". 3 الْآيَة: 6 من سُورَة هود. 4 الْآيَة: 267 من سُورَة الْبَقَرَة، وجدناها خطأ بِلَفْظ "وكلوا من طَيّبَات ... ". 5 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 60 بِلَفْظ: " اغفلها وتوكل"، وَهُوَ حَدِيث حسن، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 1068. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 التِّرْيَاقُ: وَمِمَّا يُشْبِهُ الْكَيَّ فِي حَالَتَيْهِ، التِّرْيَاقُ1، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ، إِنْ أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا، أَوْ تَعَلَّقْتُ تَمِيمَةً، أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ نَفْسِي"2. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَسْمَعُ بِالتِّرْيَاقِ الْأَكْبَرِ وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي خَزَائِنِ مُلُوكِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَة وَأَصْلَحهَا الْعِظَام الْأَدْوَاءِ، فَقَضَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ شِفَاءٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَنَّوْا بِهِ عَنْ كُلِّ نَفْعٍ وَقَضَوْا بِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَنِيَّةَ حِينًا، وَيَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَيَقِي الْعَاهَاتِ. قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ خَمْرًا: سَقَتْنِي بِصَهْبَاءَ دِرْيَاقَةٍ3 ... مَتَى مَا تَلِينُ عِظَامِي تَلِنْ فَكَنَّى عَنِ الشِّفَاءِ بِالدِّرْيَاقِ، كَأَنَّهُ قَالَ: سَقَتْنِي بِخَمْرٍ شِفَاءٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ كَأَنَّهَا دِرْيَاقٌ. وَشَبَّهَ الْمُتَشَبِّبُونَ رِيقَ النِّسَاءِ بِالدَّرْيَاقِ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنَ الْوَجْدِ، كَالدِّرْيَاقِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، أَنَّهُ قَرَنَ شُرْبَ الدِّرْيَاقِ بِتَعْلِيقِ التَّمَائِمِ، وَالتَّمَائِمُ خَرَزُ رُقُطٍ، كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَجْعَلُهَا فِي الْعُنُقِ وَالْعَضُدِ، تَسْتَرِقِي بِهَا، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنِ الْمَرْءِ الْعَاهَاتِ، وَتَمُدُّ فِي الْعُمُرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَاتَ لَمْ تُفْلِحْ مُزَيْنَةُ بَعْدَهُ ... فَنُوطِيَ عَلَيْهِ يَا مُزَيْنُ التَّمَائِمَا يَقُولُ: عَلِّقِي عَلَيْهِ هَذَا الخرز، لتقيه الْمنية.   1 الترياق: بِالْكَسْرِ دَوَاء مركب، اخترعه مَا غنيس وتممه أندروماخس الْقَدِيم بِزِيَادَة لُحُوم الأفاعي فِيهِ، وبا كمل الْغَرَض، وَهُوَ مسمية بِهَذَا لِأَنَّهُ من لدغ الْهَوَام السبعية، وَهِي باليوانانية ترياء، نَافِع من الْأَدْوِيَة المشروبة السمية. 2 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 4978، عَن ابْن عَمْرو وَتَخْرِيج الْمشكاة برقم 4554. 3 الدرياق: هُوَ الترياق وَالْخمر. "الْقَامُوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ: جَعَلْتُ لِعَرَّافِ الْيَمَامَةِ حِكْمَةً ... وَعَرَّافِ نَجْدٍ1 إِنْ هُمَا شَفَيَانِي فَمَا تَرَكَا مِنْ رُقْيَةٍ يَعْلَمَانِهَا ... وَلَا سَلْوَةٍ إِلَّا بِهَا سَقَيَانِي فَقَالَا شَفَاكَ الله وَالله مالنا ... بِمَا حَمَلَتْ مِنْكَ الضُّلُوعُ يُدَانِ وَالسَّلْوَةُ حَصَاةٌ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَاشِقَ إِذَا سُقِيَ الْمَاءَ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ، سَلَا وَذَهَبَ عَنْهُ مَا هُوَ بِهِ. فَهَذَا هُوَ التِّرْيَاقُ الَّذِي كَرِهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا نَوَى فِيهِ هَذِهِ النِّيَّةَ، وَذَهَبَ بِهِ هَذَا الْمَذْهَبَ. فَأَمَّا مَنْ شَرِبَهُ، وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنَ الدَّوَاءِ، يُؤَمِّلُ نَفْعَهُ وَيَخَافُ ضُرَّهُ، وَيَسْتَشْفِي اللَّهَ تَعَالَى بِهِ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي التِّرْيَاقِ لُحُومُ الْحَيَّاتِ فَإِن بن سِيرِينَ كَانَ يَكْرَهُهُ، إِذَا كَانَتْ فِيهِ الْحُمَّةُ، يَعْنِي: السُّمَّ الَّذِي يَكُونُ فِي لُحُومِهَا. وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ الرُّقَى، يُكْرَهُ مِنْهَا مَا كَانَ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَبِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ وَكَلَامِهِ فِي كُتُبِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا نَافِعَةٌ لَا مَحَالَةَ. وَإِيَّاهَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "مَا تَوَكَّلَ مَنِ اسْتَرْقَى". وَلَا يُكْرَهُ مَا كَانَ مِنَ التَّعَوُّذِ بِالْقُرْآنِ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنْ صَحَابَتِهِ رَقَى قَوْمًا بِالْقُرْآنِ، وَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا: "مَنْ أَخَذَ أَجْرًا بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أخذت برقية حق"2.   1 وَفِي نسختين: "وعراف حجر". 2 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: بُيُوع 37 وطب 19، وَأحمد 3/ 2 و10 و44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 59- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- فِي شُرْبِ الْمَاءِ قَائِمًا: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ بن الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا، قُلْتُ: فَالْأَكْلُ؟ قَالَ: "الْأَكْلُ أَشَدُّ مِنْهُ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِع، عَن بن عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِم" 2.   1 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 6056 بِلَفْظ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الشّرْب قَائِما وَالْأكل قَائِما"، وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 1770. 2 الَّذِي فِي البُخَارِيّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شرب قَائِما وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله كَمَا روى البُخَارِيّ فِي بَاب مَا جَاءَ فِي زَمْزَم فروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه سقى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زَمْزَم فَشرب وَهُوَ قَائِم، يَعْنِي فِي حجَّة الْوَدَاع، والْحَدِيث رقم 1937 من فتح الْبَارِي، وَزَاد البُخَارِيّ أَن عِكْرِمَة حلف مَا كَانَ يؤمئذ إِلَّا على بعير. وَذهب ابْن حجر أَن حلف عِكْرِمَة من قبيل مَا علم من نَهْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشّرْب قَائِما. والحقيقة أَن كَلَام عِكْرِمَة لَهُ وَجه يَسْتَقِيم من لفظ الحَدِيث وَهُوَ أَن الرَّاكِب على بعير إِذا وقف على شَيْء أَو قوم يُقَال قَامَ عَلَيْهِم، وَلَقَد وقف رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة على الْقَصْوَاء طوال الْوَقْت، وَرويت أَحَادِيث عَن منااولته قدحًا من اللَّبن وَهُوَ وَاقِف أَو قَائِم بعرفه ليعلم أهوَ صَائِم أم مفطر. وَالْخُلَاصَة أَن الرَّاكِب على بعير أَو نَحوه إِذا وقف لشأن يُقَال لَهُ قَائِم وَيُقَال لَهُ وَاقِف، وَالَّذِي وقصته نَاقَته وَهُوَ قَائِم بِعَرَفَة كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا، فَلَيْسَ معنى قَامَ على بعيره أَو وقف على رَاحِلَته أَنه وَاقِف عَلَيْهَا، بل هِيَ الواقفة وَهُوَ قَاعد عَلَيْهَا، وَلَا يفهم مِنْهَا إِلَّا هَذَا. وَعَلِيهِ فَيُصْبِح قَول عِكْرِمَة وَقَول ابْن عَبَّاس جَمِيعًا، فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب من زَمْزَم وَهُوَ قَائِم، يَعْنِي على رَاحِلَته، بِمَعْنى أَنه كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا وَهِي قَائِمَة، وَعَلِيهِ لَا يُفِيد الحَدِيث مَا دلّ عَلَيْهِ الظَّاهِر أَنه شرب قَائِما على رجلَيْهِ بل جَالِسا على بعيره. وَهَذَا تَخْرِيجه صَحِيح يتَّفق مَعَ نَهْيه فِي صَحِيح مُسلم فِي أَكثر من حَدِيث عَن الشّرْب قَائِما، وَيبقى بعد ذَلِك حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ يُعَكر على هَذَا لِأَنَّهُ صَرِيح فِي شربه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا على رجلَيْهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك لبَيَان الْجَوَاز عِنْد الْحَاجة، وَالله تَعَالَى أعلم. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وَهَذَا نَقْضٌ لِذَاكَ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ، هَهُنَا، تَنَاقَضٌ. لِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ أَوْ يَأْكُلَ مَاشِيًا. يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ وَأَكْلُهُ عَلَى طُمَأْنِينَةٍ، وَأَنْ لَا يَشْرَبَ -إِذَا كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي سَفَرٍ أَوْ حَاجَةٍ وَهُوَ يَمْشِي- فَيَنَالَهُ مِنْ ذَلِكَ شَرَقٌ، أَوْ تَعَقُّدٌ مِنَ الْمَاءِ فِي صَدْرِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: "قُمْ فِي حَاجَتِنَا"، لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَقُومَ حَسْبُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ "امْشِ فِي حَاجَتِنَا، اسْعَ فِي حَاجَتِنَا". وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْأَعْشَى: يَقُومُ عَلَى الْوَغْمِ1 قَوْمَهُ ... فَيَعْفُو إِذَا شَاءَ أَوْ يَنْتَقِمْ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: "يَقُومُ عَلَى الْوَغْمِ" أَنَّهُ يُطَالِبُ بِالذَّحْلِ2، وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 3. يُرِيدُ: مَا دُمْتَ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ بِالِاخْتِلَافِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْمُطَالَبَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْقِيَامَ وَحْدَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: "كَانَ يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ"، يُرَادُ: غَيْرَ مَاشٍ وَلَا سَاعٍ. وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى طُمَأْنِينَةٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاعِدِ.   1 الوعم: الحقد الثَّابِت فِي الصَّدْر، والقهر "كَمَا فِي الْقَامُوس". 2 الذحل: الثأر، أَو طلب مُكَافَأَة بِجِنَايَة جنيت عَلَيْهِ. 3 الْآيَة: 75 من سُورَة آل عمرَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 60- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- فِيمَا يَنْجُسُ مِنَ الْمَاءِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا" 2. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ حَمَلَ النَّجَسَ، وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِخِلَافٍ لِلْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" عَلَى الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى الْآبَارِ وَالْغُدْرَانِ3 أَنْ يَكْثُرَ مَاؤُهَا، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ: "السَّيْلُ لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ مَا يَرُدُّهُ الْجِدَارُ"، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْكَثِيرَ مِنْهُ لَا الْقَلِيلَ. وَكَمَا يَقُولُ: "النَّارُ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ"، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ نَارَ الْمِصْبَاحِ الَّذِي يُطْفِئُهُ النَّفْخُ وَلَا الشَّرَارَةَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ نَارَ الْحَرِيقِ. ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا بَعْدَ هَذَا بِالْقُلَّتَيْنِ، مِقْدَارَ مَا تَقْوَى عَلَيْهِ4 النَّجَاسَةُ مِنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْء.   1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 34، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 49، وَالنَّسَائِيّ: مياه 1 و2، وَابْن ماجة: طَهَارَة 76، وَأحمد: 1/ 235 و284 و308، و3/ 16 و31 و86 و6/ 172. 2 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 518-146 عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد: 56. 3 الغدران: جمع "غَدِير" وَهُوَ النَّهر. 4 وَلَعَلَّ الْأَصَح: مَا لَا تقوى عَلَيْهِ النَّجَاسَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 61- قَالُوا: حَدِيثَانِ فِي الْحَجِّ مُتَنَاقِضَانِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: "أَهْلَلْتُ بِحَجٍّ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَحَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّهَا قَالَتْ: "أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِهَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مَخْرَجًا، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ مِنَ الْقَاسِمِ، أَوْ عُرْوَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمُوا مَكَّةَ، وَقَدْ لَبَّوْا بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطُوفُوا وَيَسْعَوْا، ثُمَّ يُحِلُّوا، وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَحَلَّ الْقَوْمُ وَتَمَتَّعُوا1. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْي، لَحللت" 2.   1 أخرجه أَحْمد "1/ 253 و259" عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: "قدمنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم حجاجًا، فَأَمرهمْ عمْرَة، ثمَّ قَالَ: لَو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لفَعَلت كَمَا فعلو، وَلَكِن دخلت الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ أنشب أَصَابِعه بَعْضهَا فِي بعض، فَحل النَّاس إِلَّا من كَانَ مَعَه هدى، وَقدم عَليّ من الْيمن.."، وَقَالَ فِي إرواء الغليل فِي تَخْرِيج أَحَادِيث منار السَّبِيل للألباني ط الْمكتب الإسلامي: جـ4 ص153 مَا يَلِي "قلت وَهُوَ حَدِيث صَحِيح بِهَذَا التَّمام ... " إِلَخ. 2 رَوَاهُ البُخَارِيّ: حج 32 و81 وَعمرَة 6 وَشركَة 15 وَتمنى 3 واعتصام 27، وَمُسلم: حج 141 و142 و214، وَأَبُو دَاوُد: مَنَاسِك 23، وَالتِّرْمِذِيّ: حج 109، وَالنَّسَائِيّ: مَنَاسِك 77 و143 و188، وَابْن ماجة: مَنَاسِك 41، وَأحمد: 3/ 185 و302 و305 و317 و366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ، لَهُمْ خَاصَّةً"، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَهَلَّتْ، أَوَّلًا بِالْحَجِّ فَقَالَتْ لِلْقَاسِمِ: "إِنِّي أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ"، ثُمَّ فَسَخَتْهُ وَجَعَلَتْهُ عُمْرَةً. وَقَالَتْ لِعُرْوَةَ: "إِنِّي أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ". وَهِيَ صَادِقَةٌ فِي الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَهَلَّتْ بِهِ، صَارَ عُمْرَةً بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 62- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ فِي الْعَيْنِ وَالرُّقَى: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كَادَتِ الْعَيْنُ تَسْبِقُ الْقَدَرَ" 1. وَدُخِلَ عَلَيْهِ بِابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُمَا ضَارِعَانِ2. فَقَالَ: "مَالِي أَرَاهُمْ ضَارِعَيْنَ؟ " قَالُوا: تُسْرِعُ إِلَيْهِمَا الْعَيْنُ، فَقَالَ: "اسْتَرْقُوا لَهُمَا"3، وَقَدْ نَهَى فِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنِ الرُّقَى"4. قَالُوا: وَكَيْفَ تَعْمَلُ الْعَيْنُ مِنْ بُعْدٍ، حَتَّى تُعِلَّ وَتُسْقِمَ؟ هَذَا لَا يَقُومُ فِي وَهْمٍ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى نَظَرٍ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَائِمٌ فِي الْوَهْمِ، صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ مِنْ جِهَةِ الدِّيَانَةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي يَرْتَضُونَ بِهَا، وَيَرُدُّونَ الْأُمُورَ إِلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي طَبَائِعِهِمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ تَضُرُّ عَيْنُهُ إِذَا أَصَابَ بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرُّ عَيْنُهُ.   1 أخرجه مُسلم: سَلام 42، وَالتِّرْمِذِيّ: طب 17، 19، وَابْن ماجة: طب 33، والموطأ: عين 3، وَأحمد: 6/ 438. 2 الضارع: النحيل. 3 والْحَدِيث معضل. رَوَاهُ ابْن وهب فِي جَامعه عَن مَالك عَن حميد بن قيس عَن عِكْرِمَة بن خَالِد بِهِ مُرْسلا، وَأخرجه مَالك فِي الْمُوَطَّأ: كتاب الْعين -50 ص939، وَالتِّرْمِذِيّ: 26 كتاب الطِّبّ، وَابْن ماجة: 31 كتاب الطِّبّ. 4 أخرجه مُسلم: سَلام 62، 63، وَابْن ماجة: طب34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وَمِنْهُمْ مَنْ يَعَضُّ، فَتَكُونُ عَضَّتُهُ كَعَضَّةِ الْكَلْبِ الْكَلِبَ1 فِي الْمَضَرَّةِ، أَوْ كَنَهْشَةِ الْأَفْعَى، لَا يَسْلَمُ جَرِيحُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ تَلْسَعُهُ الْعَقْرَبُ، فَلَا تُؤْذِيهِ وَتَمُوتُ الْعَقْرَبُ. وَقَدْ جِيءَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ2 بِأَسْوَدَ3 مِنْ بَعْضِ الْبَوَادِي يَأْكُلُ الْأَفَاعِيَ، وَهِيَ أَحْيَاءُ، وَيَتَلَقَّاهَا بِالنَّهْشِ مِنْ جِهَةِ رؤوسها وَيَأْكُل بن عُرْسٍ، وَهُوَ حَيٌّ، وَيَتَلَقَّاهُ بِالْأَكْلِ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ. وَأُتِيَ بِآخَرَ يَأْكُلُ الْجَمْرَ، كَمَا يَأْكُلُهُ الظَّلِيمُ4 فَلَا يَمُضُّهُ5 وَلَا يَحْرِقُهُ. وَفُقَرَاءُ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَبْعُدُونَ عَنِ الرِّيفِ، يَأْكُلُونَ الْحَيَّاتِ، وَكُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ مِنَ الْحَشَرَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْكُلُ الْأَبَارِصَ، وَلَحْمُهَا أَقْتَلُ مِنَ الْأَفَاعِي وَالتِّنِّينِ6. وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ لِهَذَا خَالِصًا ... لَكُنْتُ عَبْدًا يَأْكُلُ7 الْأَبَارِصَا فَأَخْبَرَكَ أَنَّ الْعَبِيدَ يَأْكُلُونَهَا. فَمَا الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ ذُو طَبِيعَةٍ فِي نَفْسِهِ، ذَاتِ سُمٍّ وَضَرَرٍ؟ فَإِذَا نَظَرَ بِعَيْنِهِ، فَأَعْجَبَهُ مَا يَرَاهُ، فَصَلَ مِنْ عَيْنِهِ فِي الْهَوَاءِ شَيْءٌ من   1 الْكَلْب: جنونك الْكلاب، وصياح من عضه فعقبره. "الْقَامُوس 169". 2 المتَوَكل: الْخَلِيفَة العباسي جَعْفَر بن مُحَمَّد "ابْن المعتصم"، ولد بِبَغْدَاد 206هـ، وَنقل مقرّ الْخلَافَة إِلَى دمشق ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد واغتيل فِيهَا سنة 247هـ. 3 بأسود: بِرَجُل أسود. 4 الظليم: الذّكر من النعام، وتراب الأَرْض. 5 يمضه: يؤلمه ويسيئه. 6 التنين: حَيَّة عَظِيمَة. 7 وَفِي نسختين "أكل" بِهَمْزَة ممدودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 تِلْكَ الطَّبِيعَةِ أَوْ ذَلِكَ السُّمِّ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَرْئِيِّ1 فَيُعِلُّهُ2؟ وَقَدْ زَعَمَ صَاحِبُ الْمَنْطِقِ: "أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ حَيَّةً بِعَصَا، فَمَاتَ الضَّارِبُ، وَإِنَّ مِنَ الْأَفَاعِي مَا يَنْظُرُ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَيَمُوتُ الْإِنْسَانُ بِنَظَرِهِ، وَمَا يُصَوِّتُ فَيَمُوتُ السَّامِعُ بِصَوْتِهِ"، فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ. وَقَدْ حُدِّثْنَا مَعَ هَذَا، عَنِ النَّضِرِ بْنِ شُمَيْلٍ عَنْ أَبِي خَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: "الْأَبْتَرُ مِنَ الْحَيَّاتِ، خَفِيفٌ أَزْرَقُ، مَقْطُوعُ الذَّنَبِ، يَفِرُّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ، وَلَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ حَامِلٌ إِلَّا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَهُوَ الشَّيْطَانُ مِنَ الْحَيَّاتِ"، وَهَذَا قَوْلٌ يُوَافِقُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمَنْطِقِ. أَفَمَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَّةَ إِذَا قَتَلَتْ مِنْ بُعْدٍ، فَإِنَّمَا تَقْتُلُ بِسُمٍّ فَصَلَ مِنْ عَيْنِهَا فِي الْهَوَاءِ، حَتَّى أَصَابَ مَنْ رَأَتْهُ؟ وَكَذَلِكَ الْقَاتِلَةُ بِصَوْتِهَا، تَقْتُلُ بِسُمٍّ فَصَلَ مِنْ صَوْتِهَا، فَإِذَا دَخَلَ السَّمْعَ، قَتَلَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ مِثْلَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي الَّذِي يَعْتَانُ3. وَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا عَيُونًا، فَدُعِيَ عَلَيْهِ فَعَوِرَ. وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّيْءَ يُعْجِبُنِي، وَجَدْتُ حَرَارَةً تَخْرُجُ مِنْ عَيْنِي. وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ الطَّامِثَ، تَدْنُو مِنْ إِنَاءِ اللَّبَنِ لِتُسَوِّطَهُ4 وَهِيَ مُنَظِّفَةُ الْكَفِّ وَالثَّوْبِ؛ فَيَفْسَدُ اللَّبَنُ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ فَصَلَ عَنْهَا حَتَّى وَصَلَ إِلَى اللَّبن.   1 فِي نسختين: "إِلَى الْمَرْء". 2 فِي نسختين: "فيقتله". 3 يعتان: يُصِيب بِالْعينِ، وَاسم الْفَاعِل مِنْهُ معيان وعيون: وَهُوَ شَدِيد الْإِصَابَة بِالْعينِ. "الْقَامُوس 1572". 4 لتسوطه: أَي لتخلطه، وَالسَّوْط: الْخَلْط بَين شَيْئَيْنِ فِي إِنَاء. "الْقَامُوس 868". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وَقَدْ تَدْخُلُ الْبُسْتَانَ فَتُضَرُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُرُوسِ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهَا. وَقَدْ يَفْسَدُ الْعَجِينُ إِذَا قُطِّعَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الْبِطِّيخُ. وَنَاقِفُ1 الْحَنْظَلِ، تَدْمَعُ عَيْنَاهُ وَكَذَلِكَ مُوخِفُ2 الْخَرْدَلِ، وَقَاطِعُ الْبَصَلِ. وَقَدْ يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ إِلَى الْعَيْنِ الْمُحْمَرَّةِ، فَتَدْمَعُ عَيْنُهُ وَرُبَّمَا احْمَرَّتْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ وَصَلَ فِي الْهَوَاءِ إِلَيْهَا مِنَ الْعَيْنِ الْعَلِيلَةِ. وَقَدْ يَتَثَاءَبُ الرَّجُلُ، فَيَتَثَاءَبُ غَيْرُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَسْرَعُ مِنْ عَدْوَى الثُّؤَبَاءِ3. وَمَا أَكْثَرَ مَا يَخْتَدِعُ الرَّاقُونَ بِالتَّثَاؤُبِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا رَقَوْا عَلِيلًا تَثَاءَبُوا، فَتَثَاءَبَ الْعَلِيلُ بِتَثَاؤُبِهِمْ، وَأَكْثَرُوا، وَأَكْثَرَ. فَيُوهِمُونَ الْعَلِيلَ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الرُّقْيَةِ وَأَنَّهُ تَحْلِيلُ مِنْهَا لِلْعِلَّةِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الدَّارِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَيَجْدَرُ أَحَدُهُمْ، فَيَجْدَرُ الْبَاقُونَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ فَصَلَ مِنَ الْعَلِيلِ فِي الْهَوَاءِ إِلَى مَنْ كَانَ مِثْلَهُ مِمَّنْ لَمْ يَجْدُرْ قَطُّ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْعَدْوَى فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ سُمٌّ يَنْفُذُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ، وَهَذَا مِنْ أَمْرِ الْعَيْنِ صَحِيح. وَأما من يَدَّعِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ: أَنَّ الْعَائِنَ مِنْهُمْ يَقْتُلُ مَنْ أَرَادَ، وَيُسْقِمُ مَنْ أَرَادَ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَقِفُ عَلَى مَخْرَفَةِ النَّعَمِ، وَهُوَ طَرِيقُهَا إِلَى الْمَاءِ، فَيُصِيبُ مَا أَرَادَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ بِعَيْنِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَدْ قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ   1 ناقف الحنظل: الَّذِي يفصل حبه بعد شقَّه. 2 وخف الخطمي يخفه: ضربه حَتَّى تلزج. "الْقَامُوس 1110". 3 الثؤباء والتثاؤب: كسل وفترة كفترة النعاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} 1، أَرَادَ: يَعْتَانُونَكَ. أَيْ: يُصِيبُونَكَ بِعُيُونِهِمْ، كَمَا يَعْتَانُ الرَّجُلُ الْإِبِلَ إِذَا صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ. وَلَيْسَ هُوَ -عِنْدَنَا- عَلَى مَا تَأَوَّلَ- وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، نَظَرًا يَكَادُ يُزْلِقُكَ مِنْ شِدَّتِهِ، حَتَّى تَسْقُطَ. وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَتَقَارَضُونَ2 إِذَا الْتَقَوْا فِي مَوْطِنٍ ... نَظَرًا يُزِيلُ مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ أَيْ: يَكَادُ يُزِيلُهَا عَنْ مَوَاطِئِهَا، مِنْ شِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ، وَهَذَا نَظَرُ الْعَدُوِّ الْمُبْغِضُ. تَقُولُ النَّاسُ: نَظَرَ إِلَيَّ شَزْرًا3 وَنَظَرَ إِلَيَّ مُحَدِّقًا4، وَأَرَيْتُهُ لَمْحًا بَاصِرًا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} 5. لِأَنَّ الْمَغْشِيَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، يشخص ببصره، وَلَا يَطْرِفُ6. وَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَر} 7 فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، يُرِيد: بريقه.   1 الْآيَة: 51 من سُورَة الْقَلَم. 2 يتقارضون: من القريض للشعر، والقرنان يتقارضان النّظر: ينظر كل مِنْهُمَا إِلَى صَاحبه شزرًا، والتقريض: الْمَدْح والذم. 3 شزرًا: أَي نظر فِيهِ إِعْرَاض، أَو نظر الغضبان بمؤخر الْعين، أَو النّظر عَن يَمِين وشمال. "الْقَامُوس 532". 4 محدقًا: من التحديث: هُوَ شدَّة النّظر. "الْقَامُوس 1127". 5 الْآيَة: 20 من سُورَة مُحَمَّد. 6 يطرف: يطبق أحد جفنيه على الآخرى. "الْقَامُوس 1075". 7 الْآيَة: 7 من سُورَة الْقِيَامَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وَلَوْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ الْأَعْرَابُ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحًا، لَأَمْكَنَهُمْ قَتْلُ مَنْ أَرَادُوا قَتْلَهُ، وَإِسْقَامُ مَنْ أَرَادُوا إِسْقَامَهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الْعَيِّنَ إِذَا خَافَ أَنْ يُصِيبَ الْآخَرَ بِعَيْنِهِ إِذَا أَعْجَبَهُ، أَرْدَفَهَا التَّبْرِيكَ وَالدُّعَاءَ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَعْجَبَ أَحَدَكُمْ أَخُوهُ، فَلْيُبَرِّكْ عَلَيْهِ" 2. وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنَ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَائِنُ يُصِيبُ بِعَيْنِهِ، إِذَا تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ أَوِ اسْتَحْسَنَهُ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ لِنَفْسِهِ بِعَيْنِه. لذَلِك سَمَّوُا الْعَيْنَ نَفْسًا؛ لِأَنَّهَا تَفْعَلُ بِالنَّفْسِ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ أَوْ نَمْلَةٍ، أَوْ نَفْسٍ" 3. فَالنَّفْسُ: الْعَيْنُ -وَالْحُمَّةُ الْحَيَّاتُ وَالْعَقَارِبُ وَأَشْبَاهُهَا، مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ- وَالنَّمْلَةُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ. وَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّفَّاءَ: "عَلِّمِي حَفْصَةَ، رُقْيَةَ النَّمْلَةِ وَالنَّفس وَالْعين ". وَقَالَ بن عَبَّاسٍ فِي الْكِلَابِ: "إِنَّهَا مِنَ الحن وَهِيَ ضَعَفَةُ الْجِنِّ، فَإِذَا غَشِيَتْكُمْ عِنْدَ طَعَامِكُمْ، فَأَلْقُوا لَهَا، فَإِنَّ لَهَا أَنْفُسًا". يُرِيدُ أَنَّ لَهَا عُيُونًا تَضُرُّ بِنَظَرِهَا إِلَى مَنْ يطعم بحضرتها.   1 فِي نسختين: ضَرَره. 2 وجدنَا حَدِيثا بِهَذَا الْمَعْنى رُوِيَ فِي الْمُوَطَّأ: كتاب الْعين 1، 2، بِلَفْظ: "علام يقتل أحدكُم أَخَاهُ؟ أَلا بَركت إِن الْعين حق تَوَضَّأ لَهُ". بَركت: أَي قلت بَارك الله فِيك، إِن الْعين حق: أَي الْإِصَابَة بهَا شَيْء ثَابت بِهِ فِي الْوَضع الإلهي، لَا شُبْهَة فِي تَأْثِيره فِي النُّفُوس وَالْأَمْوَال. 3 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طب18، وَأحمد: 4/ 372. والحمة: بِالتَّخْفِيفِ السم، وَقد يشدد وَيُطلق على إبرة الْعَقْرَب للمجاورة؛ لِأَن السم مِنْهَا يخرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 63- قَالُوا: حَدِيثَانِ فِي الْبُيُوعِ مُتَنَاقِضَانِ- بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً" 1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حبيب، عَن مُسلم ابْن جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرو بن حُرَيْث، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا، فَنَفِدَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ"2. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ اخْتِلَافٌ، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ، لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ بَيْعُ الْمُوَاصَفَةِ. وَإِذَا أَنْتَ بِعْتَ حَيَوَانًا بِحَيَوَانٍ نَسِيئَةً، فَقَدْ دَفَعْتَ ثَمَنًا لِشَيْءٍ، لَيْسَ هُوَ عِنْدَ صَاحِبِكَ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ.   1 رَوَاهُ أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة والضياع بِسَنَد صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 6930 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. 2 رَوَاهُ أَحْمد 2/ 171 و216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: "أَمَرَنِي أَنْ آخُذَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ". يُرِيدُ: سَلَفًا وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةَ فِي السَّلَفِ بِأَنْ يَدْفَعَ الْوَرَقَ. أَوِ الذَّهَبَ، أَوِ الْحَيَوَانَ سَلَفًا فِي طَعَامٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ حَيَوَانٍ، عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَإِلَى وَقْتٍ مَحْدُودٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْتَسْلِفِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي دَفَعْتَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَكَ بِهِ عِنْدَ مَحِلِّ الْأَجَلِ، فَصَارَ حُكْمُ السَّلَفِ خِلَافَ حُكْمِ الْبَيْعِ؛ إِذْ كَانَ الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَنْ تَشْتَرِيَ مَا لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِكَ، فِي وَقْتِ الْمُبَايَعَةِ. وَكَانَ السَّلَفُ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ تُسْلِفَ فِيمَا لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِكَ، فِي وَقْتِ الِاسْتِسْلَافِ. وَلَمَّا نَفِدَتِ الْإِبِلُ، أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الْبَعِيرَ الْبَازِلَ1، وَالْعَظِيمَ وَالْقَوِيَّ مِنَ الْإِبِلِ، بِالْبَعِيرَيْنِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ الْحِقَاقِ2، وَالْجِذَاعِ3 الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلْغَزْوِ، وَلَا لِلسَّفَرِ. وَرُبَّمَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْإِبِلِ الْبَوَازِلِ الشِّدَادِ خَيْرًا مِنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ مِنْ إبل الصَّدَقَة.   1 البازل من الْإِبِل: وَذَلِكَ فِي تَاسِع سنيه وَلَيْسَ بعده سنّ تسمى. "الْقَامُوس". 2 الحقاق: النوق الَّتِي سَقَطت أسنانها هرمًا. "الْقَامُوس". 3 الجذاع: الْإِبِل فِي الْخَامِسَة. "الْقَامُوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 64- قَالُوا: حَدِيثَانِ- فِي الْحَيْضِ مُتَنَاقِضَانِ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ جَرِيرٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا فِي فَوْحِ حَيْضِنَا، أَنْ نَأْتَزِرَ، ثُمَّ يُبَاشِرُنَا، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُهُ؟ "1. ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ أُمِّ ذَرَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كُنْتُ إِذَا حِضْتُ، نَزَلْتُ عَنِ الْمِثَالِ إِلَى الْحَصِيرِ، فَلَمْ نَقْرَبْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ نَدْنُ مِنْهُ، حَتَّى نَطْهُرَ"2. قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ إِحْدَانَا، إِذَا كَانَت حَائِضًا، أَن تأتزر، ثمَّ يضاجعها.   1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 107 حَدِيث رقم 273، وفوح حيضنا: أَوله ومعظمه. 2 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 107 حَدِيث رقم 271، وَقد تفرد بِهِ أَبُو دَاوُد والمثال: الْفراش وزنا وَمعنى، وَجمعه مثل؛ كفرش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ، خِلَافُ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ أُمِّ ذَرَّةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَلَا يَجُوزُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَقُولَ: "كُنْتُ أُبَاشِرُهُ فِي الْحَيْضِ مَرَّةً"، ثُمَّ تَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى: "كُنْتُ لَا أُبَاشِرُهُ فِي الْحَيْضِ، وَأَنْزِلُ عَنِ الْفِرَاشِ إِلَى الْحَصِيرِ، فَلَا أَقْرَبُهُ حَتَّى أَطْهُرَ". لِأَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ يَكُونُ كَذِبًا، وَالْكَاذِبُ لَا يُكَذِّبُ نَفْسَهُ. فَكَيْفَ يُظَنُّ ذَلِكَ بِالصَّادِقِ الطَّيِّبِ الطَّاهِرِ!!؟ وَلَيْسَ فِي مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ إِذَا ائْتَزَرَتْ، وَكَفٌ1 وَلَا نَقْصٌ، وَلَا مُخَالَفَةٌ لِسُنَّةٍ2 وَلَا كِتَابٍ. وَإِنَّمَا يَكْرَهُ هَذَا مِنَ الْحَائِضِ وَأَشْبَاهَهُ من المعاطاة3 -الْمَجُوس.   1 وكف: أَي عيب أَو إِثْم. الْقَامُوس "ص1113" ط. مؤسسة الرسَالَة. 2 وَفِي نُسْخَة: "ككتاب الله وَلَا سنته". 3 لم أجد لهَذَا الْكَلَام معنى وَاضحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 65- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ- تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ، مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ" 1. قَالُوا: كَيْفَ تَكُونُ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ؟ وَكَيْفَ تَتَأَخَّرُ عَمَّا تُبَشِّرُ بِهِ أَوْ تُنْذِرُ مِنْهُ بِتَأَخُّرِ الْعِبَارَةِ لَهَا، وَتَقَعُ إِذَا عُبِّرَتْ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنْ لَمْ تُعَبَّرْ، لَمْ تَقَعْ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُمْ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ، إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ: "هُوَ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ وَبَيْنَ مَخَالِيبِ طَائِرٍ، وَعَلَى قَرْنِ ظَبْيٍ"، يُرِيدُونَ: أَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ وَلَا يَقِفُ. قَالَ رَجُلٌ فِي الْحَجَّاجِ بْنِ2 يُوسُفَ: كَأَنَّ فُؤَادِي بَيْنَ أَظْفَارِ طَائِرٍ ... مِنَ الْخَوْفِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مُحَلِّقِ حِذَارَ امْرِئٍ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ ... مَتَى مَا يعد من نَفسه الشَّرّ يصدق   1 انْظُر: ابْن ماجة 2/ 1288، وَأَبُو دَاوُد 4/ 417، وَالتِّرْمِذِيّ 3/ 249 وَصَححهُ، والدرر برقم 235، والفوائد للشوكاني 216، وصحيح الْجَامِع 3/ 185 برقم 3529، والدرامي: 2/ 126، والمستدرك 4/ 390-391، والمقاصد 230، والتمييز83، والكشف 1/ 429. 2 الْحجَّاج بن يُوسُف بن الحكم الثَّقَفِيّ ولد سنة 40هـ، وَنَشَأ فِي الطَّائِف، قَلّدهُ عبد الْملك أَمر عسكره وَكَانَ واليًا لَهُ على بَغْدَاد وقمع عددا من الثورات وَكَانَ داهية خَطِيبًا سفاكًا، توفّي 95هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وَقَالَ الْمَرَّارُ، يَذْكُرُ فَلَاةً تَنْزُو1 مِنْ مَخَافَتِهَا قُلُوبَ الْأَدِلَّاءِ: كَأَنَّ قُلُوبَ أَدِلَّائِهَا2 ... مُعَلَّقَةٌ بِقُرُونِ الظِّبَاءِ يُرِيدُ: أَنَّهَا تَنْزُو وَتَجِبُ3، فَكَأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِقُرُونِ الظِّبَاءِ؛ لِأَنَّ الظِّبَاءَ لَا تَسْتَقِرُّ، وَمَا كَانَ عَلَى قُرُونِهَا، فَهُوَ كَذَلِكَ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ4: وَلَا مِثْلَ يَوْمٍ فِي قَدَارٍ5 ظَلَلْتُهُ ... كَأَنِّي وَأَصْحَابِي عَلَى قَرْنِ أَعْفَرَا6 يُرِيدُ: أَنَّا لَا نَسْتَقِرُّ وَلَا نَطْمَئِنُّ، فَكَأَنَّا عَلَى قَرْنِ ظَبْيٍ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، يُرَادُ أَنَّهَا تَجُولُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى تُعَبَّرَ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ. وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَبَّرَهَا مِنَ النَّاسِ وَقَعَتْ كَمَا عَبَّرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْعَالِمَ بِهَا، الْمُصِيبَ الْمُوَفَّقَ. وَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاهِلُ الْمُخْطِئُ فِي عِبَارَتِهَا، لَهَا عَابِرًا، وَهُوَ لَمْ يُصِبْ وَلَمْ يُقَارِبْ؟ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَابِرًا لَهَا، إِذَا أَصَابَ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 7، يُرِيدُ: إِن كُنْتُم تعلمُونَ عبارتها.   1 تنزو: تثب. "الْقَامُوس ص1724". 2 أدلاتها: جمع دَلِيل. 3 تجب: تسْقط. 4 امْرُؤ الْقَيْس بن حجر بن الْحَارِث الْكِنْدِيّ أشهر شعراء الْعَرَب على الْإِطْلَاق مولده بِنَجْد نَحْو 130ق. هـ، طلب بثأر أَبِيه من بني أَسد حَتَّى أدْركهُ، وَله شهرة كَبِيرَة، توفّي سنة 80ق. هـ. 5 قدار: اسْم مَوضِع. 6 على قرن أعفرا: الأعفر من الظباء: مَا يَعْلُو بياضه حمرَة، أَو الَّذِي فِي سراته حمرَة، أَو الْأَبْيَض لَيْسَ بالشديد الْبيَاض، وَهِي عفراء. 7 الْآيَة: 43 من سُورَة يُوسُف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وَلَا أَرَادَ أَنَّ كُلَّ رُؤْيَا تُعَبَّرُ وَتُتَأَوَّلُ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، فَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ غَلَبَةِ الطَّبِيعَةِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَإِنَّمَا تَكُونُ الصَّحِيحَةُ، الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمَلَكُ مَلَكُ الرُّؤْيَا عَنْ نُسْخَةِ أُمِّ الْكِتَابِ، فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمجِيد الْحَنَفِيّ، قَالَ نَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ، فَرُؤْيَا بُشْرَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، فَيَرَاهَا فِي النَّوْمِ" 1. وَحَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ، أَوْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كُنْتُ أحضر بن سِيرِينَ يُسْأَلُ عَنِ الرُّؤْيَا، فَكُنْتُ أَحْزِرُهُ2 يُعَبِّرُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةً، أَوْ قَالَ: أَحَزُوَهُ3. وَهَذِهِ الصَّحِيحَةُ هِيَ الَّتِي تَجُولُ حَتَّى يُعَبِرَّهَا الْعَالِمُ بِالْقِيَاسِ الْحَافِظُ لِلْأُصُولِ، الْمُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ، فَإِذَا عَبَّرَهَا وَقَعَتْ كَمَا عبر.   1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: تَعْبِير 26، وَمُسلم: رُؤْيا6، وَالتِّرْمِذِيّ: رُؤْيا 6 و7 و10، وَابْن ماجة: رُؤْيا2، والدارمي: رُؤْيا 6، وَأحمد 2/ 395. 2 أحرزه: أقدره. "الْقَامُوس 479". 3 أحزره: أتكهن. "الْقَامُوس 1644". ط. مؤسسة الرسَالَة 1986م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 66- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَمَلُّ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" 1. فَجَعَلْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى يَمَلُّ إِذَا مَلُّوا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَمَلُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يَكِلُّ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، كَانَ عَظِيمًا مِنَ الْخَطَأِ فَاحِشًا. وَلَكِنَّهُ أَرَادَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَمَلُّ إِذَا مَلَلْتُمْ، وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُكُ فِي الْكَلَامِ: هَذَا الْفَرَسُ لَا يَفْتُرُ، حَتَّى تَفْتُرَ الْخَيْلُ. لَا تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَفْتُرُ، إِذَا فَتَرَتْ وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، مَا كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَفْتُرُ مَعَهَا، فَأَيَّةُ فَضِيلَةٍ لَهُ؟ وَإِنَّمَا تُرِيدُ، أَنَّهُ لَا يفتر إِذا افترت. وَكَذَلِكَ تَقُولُ فِي الرَّجُلِ الْبَلِيغِ فِي كَلَامِهِ، وَالْمِكْثَارِ الْغَزِيرِ: فُلَانٌ لَا يَنْقَطِعُ، حَتَّى تَنْقَطِعَ خُصُومُهُ. تُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ إِذَا انْقَطَعُوا.   1 الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الْإِيمَان، بَاب: أحب الدَّين إِلَى الله أَدْوَمه، وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه رقم 782 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وَلَوْ أَرَدْتَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إِذَا انْقَطَعُوا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَضْلٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا وَجَبت لَهُ بِهِ بِهِ مَدْحَةٌ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي الشِّعْرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى بن أُخْتِ تَأَبَّطَ شَرًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ: صَلِيَتْ مِنِّي هُذَيْلُ بِخِرْقٍ1 ... لَا يَمَلُّ الشَّرَّ حَتَّى يَمَلُّوا لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَمَلُّ الشَّرَّ إِذَا مَلُّوهُ. وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ، مَا كَانَ فِيهِ مَدْحٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ يَمَلُّونَ الشَّرَّ، وَهُوَ لَا يمله. "تمّ الْكتاب بِحَمْد الله وعونه"   1 خرق: شُجَاع. يَقُول: إِن هذيلًا قاست الشدائد من شُجَاع قريب مِنْهُ لَا يسأم حَتَّى يجد السَّآمَة من أعدائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الفهارس فهرس الآياتك القرآنية الْآيَة السُّورَة رقمها الصفحة {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} آل عمرَان 117 58 {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} يس 36 64 {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} النَّجْم 45 64 {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الْفَتْح 29 73 {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الْفَتْح 18 74 {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الْقَمَر 1 75 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} الْحَج 77 76 {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الْقَصَص 56 78 {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} النَّحْل 93 78 {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} طه 79 78 {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ َدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الْأَنْعَام 125 79 {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} السَّجْدَة 13 79 {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الْبَقَرَة 224 85 {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} الزمر 10 85 {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} الْقَمَر 6 86 {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} ق 41 86 {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} الْأَنْبِيَاء 63 86 {فَقَالَ إِنِّي سَقِيم} الصافات 89 86 {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الزمر 30 86 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات 10 92 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الْآيَة السُّورَة رقمها الصفحة {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} النِّسَاء 125 92 {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الزخرف 67 92 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} مُحَمَّد 11 93 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ .... } الْبَقَرَة 178 107 {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الْإِسْرَاء 29 113 {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} النِّسَاء 34 113 {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} النِّسَاء 3 113 {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} آل عمرَان 181 116 {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} التَّوْبَة 122 117 {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} النُّور 2 117 {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} النُّور 13 117 {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} الْمَائِدَة 12 118 {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الْأَنْفَال 65 118 {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} الْأَعْرَاف 155 118 {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} الْكَهْف 22 118 {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} المدثر 29 118 {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الْبَقَرَة 255 119 {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش} يُوسُف 100 119 {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} يُوسُف 24 119 {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} يُوسُف 24 120 {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} طه 121 120 {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} الْأَعْرَاف 179 120 {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} الْأَنْبِيَاء 87 121 {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} النِّسَاء 125 121 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} الْمَائِدَة 64 122 {غُلَّتْ أَيْدِيهِم} الْمَائِدَة 64 122 {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} الْمَائِدَة 64 122 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الْآيَة السُّورَة رقمها الصحفة {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد} النَّحْل 16 123 {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْبَقَرَة 67 123 {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} الْبَقَرَة 73 123 {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} آل عمرَان 138 124 {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} الطّور 44 125 {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} الطّور 9 131 {مِنْ صَيَاصِيهِم} الْأَحْزَاب 26 131 {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} النَّحْل 51 138 {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} النِّسَاء 93 138 {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النِّسَاء 116 138 {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} الْبَقَرَة 128 139 {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} الْأَنْعَام 9 140 {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} الْأَعْرَاف 155 140 {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الْأَعْرَاف 172 145 {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} الْأَعْرَاف 11 146 {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} النِّسَاء 24 155 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاص} الْبَقَرَة 178 155 {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} النِّسَاء 77 156 {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الْمَائِدَة 45 156 {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الْبَقَرَة 260 159 {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} هود 80 160 {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} يُوسُف 50 161 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الْآيَة السُّورَة رقمها الصفحة {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الْبَقَرَة 24 166 {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} الْحَدِيد 22 170 {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} الضُّحَى 7 178 {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} الشورى 52 178 {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إِبْرَاهِيم 36 179 {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك} هود 46 179 {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} الْقَلَم 48 183 {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} النِّسَاء 93 185 {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النِّسَاء 48 185 {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} طه 52 186 {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النِّسَاء 31 187 {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} النَّجْم 14 189 {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} آل عمرَان 133 189 {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} النِّسَاء 119 194 {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} الْجِنّ 6 194 {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} الرَّحْمَن 74 194 {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} النَّمْل 24 195 {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} الْأَعْرَاف 127 195 {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فاطر 1 200 {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الرّوم 30 200 {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} الْأَعْرَاف 172 200 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الزخرف 87 200 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الْآيَة السُّورَة رقمها الصحفة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} الْأَنْعَام 38 207 {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} الْأَنْعَام 130 207 {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الْمَائِدَة 4 207 {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} النَّمْل 20 210 {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} النَّمْل 22 211 {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} النَّمْل 16 211 {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ} النَّمْل 18 211 {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْْ} سبأ 10 211 {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الْكَهْف 50 214 {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الْحَشْر 9 217 {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} الْأَحْقَاف 20 219 {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} فاطر 22 226 {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الرّوم 52 226 {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} غَافِر 46 227 {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} آل عمرَان 196 227 {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} فاطر 22 229 {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} فاطر 22 229 {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الحجرات 9 234 {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الطَّلَاق 2 236 {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} الْبَقَرَة 282 236 {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} الْأَعْلَى 6 237 {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الْأَنْفَال 68 237 {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} الْإِسْرَاء 74 237 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الْآيَة السُّورَة رقمها الصفحة {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} التَّوْبَة 113 238 {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الْقَصَص 56 238 {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} الْأَحْقَاف 15 241 {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الْبَقَرَة 233 241 {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الْمَائِدَة 75 243 {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} الْفرْقَان 7 243 {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} الْمَائِدَة 38 245 {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} الضُّحَى 6 249 {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} الْأَنْبِيَاء 35 250 {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} يُوسُف 17 251 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} المُنَافِقُونَ 3 252 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} الْبَقَرَة 62 252 {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} فصلت 46 260 {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى} الْجِنّ 27 260 {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} طه 66 261 {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الْبَقَرَة 102 261 {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} الفلق 1-4 262 {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} النِّسَاء 157 263 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} الْحَج 52 264 {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} فصلت 42 264 {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ص 41 265 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الْآيَة السُّورَة رقمها الصفحة {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الْبَقَرَة 102 265 {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} النِّسَاء 25 277 {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} النِّسَاء 25 278 {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} الْبَقَرَة 180 279 {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} النِّسَاء 14 279 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} النِّسَاء 23 281 {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الْبَقَرَة 106 282 {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الْحَشْر 7 282 {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الْأَنْعَام 145 286 {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} النِّسَاء 101 287 {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الْمَائِدَة 6 287 {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} الْوَاقِعَة 79 292 {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} النَّحْل 61 293 {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} النَّحْل 40 295 {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} الْأَنْعَام 103 297 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى 11 297 {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} الْفرْقَان 45 297 {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} الْأَعْرَاف 143 297 {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الْبَقَرَة 106 297 {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} الْقِيَامَة 22 300 {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين 15 300 {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} الزمر 67 303 {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} الرَّعْد 5 306 {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الْأَحْزَاب 9 307 {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ق 45 312 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الْآيَة السُّورَة رقمها الصفحة {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ... } الْأَعْرَاف 143 314 {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ .... } الْإِسْرَاء 60 314 {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} التكوير 23 315 {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا .... } الْإِسْرَاء 1 315 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشروى 11 317 {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا .... } الجاثية 24 325 {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} الْحَج 51 327 {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} النُّور 31 328 {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الْأَحْزَاب 53 328 {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا.} التَّوْبَة 101 341 {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ .... } الْفَتْح 29 342 {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الْفَتْح 18 342 {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} التَّوْبَة 103 345 {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} الْفرْقَان 77 345 {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} الْأَحْزَاب 56 346 {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} الْوَاقِعَة 21 357 {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فاطر 18 358 {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الجاثية 26 358 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الْمُؤْمِنُونَ 12 358 {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الْبَقَرَة 184 359 {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الْبَقَرَة 196 359 {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الطَّلَاق 2 359 {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الْبَقَرَة 282 360 {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} النِّسَاء 92 360 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 الْآيَة السُّورَة رقمها الصفحة {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} المجادلة 3 360 {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} غَافِر 46 360 {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} مَرْيَم 62 360 {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} الطّور 47 361 {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الْأَنْعَام 164 362 {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الْأَنْفَال 25 363 {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الرّوم 41 363 {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} الْكَهْف 83 368 {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} ق 29 369 {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ... } الْمَائِدَة 60 373 {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} الدُّخان 29 387 {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا .... } يُوسُف 82 387 {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا..} مَرْيَم 71 389 {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ..} الْمَائِدَة 109 389 {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ... } المجادلة 7 393 {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} الزخرف 84 393 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه 5 394 {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} الْمُؤْمِنُونَ 28 394 {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر 10 394 {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} الْأَعْرَاف 206 395 {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} آل عمرَان 169 395 {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} الْأَنْبِيَاء 17 395 {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} النَّحْل 128 397 {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} فاطر 1 401 {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} مَرْيَم 17 402 {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} الْأَعْرَاف 27 402 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الْآيَة السُّورَة رقمها الصفحة {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} الْأَنْعَام 8 402 {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} الزخرف 71 405 {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} فصلت 51 405 {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ... } الْوَاقِعَة 28 406 {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ... } فاطر 33 406 {كَأَنَّهَا جَان ..... } النَّمْل 10 406 {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِين} الْأَعْرَاف 107 406 {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا} التَّوْبَة 69 407 {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} الْبَقَرَة 247 407 {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} الشُّعَرَاء 128 407 {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} المعارج 19 418 {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} الْأَنْبِيَاء 37 418 {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الْأَحْزَاب 21 418 {خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الرَّحْمَن 3 423 {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} الزخرف 18 423 {إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ... } مَرْيَم 5 427 {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} الْأَنْبِيَاء 89 430 {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد} النَّمْل 16 430 {كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} الْفجْر 18 431 {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} النُّور 31 437 {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ ... } فصلت 42 439 {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْمَائِدَة 3 439 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 الْآيَة السُّور رقمها الصفحة {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} طه 12 441 {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ... } يُوسُف 20 445 {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ .... } يُوسُف 30 446 {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} النُّور 23 451 {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ .... } الْبَقَرَة 196 456 {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} هود 6 465 {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الْبَقَرَة 267 465 {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} آل عمرَان 75 469 {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} الْقَلَم 51 477 {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} مُحَمَّد 20 477 {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَر} الْقِيَامَة 7 477 {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} يُوسُف 43 484 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 فهرس الْأَحَادِيث الحَدِيث الصفحة 1- الْأَئِمَّة من قُرَيْش 191 2- أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ من فوح جَهَنَّم 166، 174 3- أبغضكم إِلَى الثرثارون المتفيهقون 425 4- أبلى عذرا فَإِذا أجزك أَمر فَقل حسبي الله 465 5- انب آدَمَ بِمَشِيئَتِي كُنْتَ. أَنْتَ الَّذِي تشَاء لنَفسك 77 6- إِذا أعجب أحدكُم أَخُوهُ 478 7- إِذا أَنا مت فاحرقوني 186 8- إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ فَلَا يمشي فِي نعل وَاحِد 150 9- إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يحمل نجسا 470 10- إِذَا جِئْتَ لِلصَّلَاةِ فَوَجَدْتَ النَّاسَ يصلونَ فصل مَعَهم 347 11- إِذَا رَأَيْتَ سَوَادًا فِي مَنْزِلِكَ فَلَا تكن أجبن السوداين 234 12- إِذَا زَنَى الزَّانِي سُلِبَ الْإِيمَانَ 252 13- إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ 202 14- إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ مَعَه فَليصل 347 15- إِذا كَانَ فِي الْبَلَد الَّذِي أَنْتُم فِيهِ فَلَا تخْرجُوا مِنْهُ 169 16- إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت 346 17- إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيل 104 18- إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ 55، 334 19- أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعْتَهُ فِي حَرَامٍ أَلَسْت تأثم. قَالَ: نعم 370 20- ارتعوا فِي رياض الْجنَّة 190 21- أرضعيه. قَالَت: أرضعه وَهُوَ كَبِير. فَضَحِك ثمَّ قَالَ: 434 22- اسألكك غناي وغنى مولَايَ 247 23- استوطوا بِالْمِعْزَى خَيْرًا فَإِنَّهُ مَالٌ رَقِيقٌ 356 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 الحَدِيث الصفحة 24- اسفروا بِالْفَجْرِ. 175 25- اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عبد حبشِي 48 26- الْأسود شَيْطَان 206 27- اشفع عمي وَلَا هِجْرَة 284 28- اضْرِبُوهَا عَلَى الْعِثَارِ وَلَا تَضْرِبُوهَا على النفار 101 29- اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهلهَا البله 399 30- أَعْدَدْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أمتِي 49 31- اعقل وتوكل 465 32- اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ 50 33- أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ 421 34- أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَات 228 35- اقتدوا باللذين من بعدِي 52 36- اقْضِ بَينهم فَإِن أصيت فلك عشر حسنا 221 37- اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ 419، 486 38- أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَة 453 39- الْأكل فِي السُّوق دناء 392 40- أَلا انتفعوا بإهابها 256 41- امسحوا الرغام عَن أنوفها فَإِنَّهُ من دَاب الْجنَّة 357 42- إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُجْلَسُ فِي قَبْرِهِ إجلاسًا 361 43- أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيم 159 44- أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخر 182 45- إِن الْإِسْلَام بَدَأَ غَرِيبا 180 46- إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خطأ 69 47- أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ حُلِيًّا من أَقوام فتبيعه 157 48- أَنْتُم لي شعار وَالنَّار دثار 259 49- أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى 51 50- إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَقَالَ: إِنْ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يكيدك 264 51- إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعُجُزُ 419 52- إِن حَملَة الْعَرْش صور 396 53- إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ 427 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الحَدِيث الصفحة 54- إِن رجلا أَنِّي رَسُول الله بِأمة أَعْجَمِيَّة لِلْعِتْقِ 395 55- أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَلم يدع وَارِثا 381 56- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فِي مِيرَاثِ مولى لَهُ 431 57- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم تُوطأ فَمسح على الْعِمَامَة 379، 382 58- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعصر 380 59- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنَتُ فِي صَلَاة الصُّبْح والمغر 381 60- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا 274 61- أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ 189 62- إِن الدَّين يسر 420 63- إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنْ بَيْنِ قَرْني شَيْطَان 193 64- إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّار يَوْم الْقِيَامَة 165 65- إِن الشَّيْطَان يجْرِي مِمَّن ابْن آدم 193 66- إِن الضَّب فِي حجره ليَمُوت هزلا بذنوب ابْن آدم 364 67- إِن طُولَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عشرَة أَذْرع 403 68- انظرن مَا إخْوَانكُمْ فَإِنَّمَا الرضَاعَة من المجاعة 434 69- إِن عَائِشَة كَانَتْ تُفْتِي بِأَنَّ الرَّضَاعَ يُحَرِّمُ بعد الفصال 435 70- أَنَّ عِوَجًا اقْتَلَعَ جَبَلًا قَدْرُهُ فَرسَخ 403 71- إِن عمر دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ أهب عطنة 257 72- إِنَّ عَيْنِي تَنَامُ وَلَا يَنَامُ قلبِي 355 73- إِن قَتله فَهُوَ مثله 438 74- أَنَّ قُرُودًا رَجَمَتْ قِرْدَةً فِي الزِّنَا 372 75- أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ من أَصَابِع اله عز وَجل 302 76- إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تُدَاوُونَ بِهِ خَيْرٌ فَفِي بَزْغَةِ حجام 462 77- إِن كلتا بديه يَمِين 304 78- إِن لكل أمة مجوسًا 137 79- إِن لكل أمة محدثين 240 80- إِن لكل أمة محدثين 240 81- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُمِيت عدوه 293 82- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ على صورته 54، 317 83- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ الْملكَيْنِ 402 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 الحَدِيث الصفحة 84- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ ظَهْرَ آدم 51، 145 85- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ وِعَاءً مُلِئَ شَرًّا مِنْ بَطْنٍ 218 86- إِن الله تَعَالَى ينزل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا 392 87- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُور 392 88- إِن الله تَعَالَى يحب الأخفياء الأثقياء 424 89- إِن الله تَعَالَى يحب الْحَيِي العيي الْمُتَعَفِّف 423 90- أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَبْشِرُ بِرُوحِ الْمُؤْمِنِ 388 91- أَنَّ الْمَلَكَ يَأْتِي الْعَبْدَ إِذَا وضع قَبره 362 92- إِن من الْبَيَان لسحرًا 423 93- أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ 281 94- أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَطَمَ عين ملك الْمَوْت 400 95- إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُل العَبْد 441 96- إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي كل مَا لم يقسم. 332 97- إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ... 358 98- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ فَأَتْبَعْتُهُ بِمَاءٍ ... 379 99- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى الْمَدِينِ. 273 100- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مسح على الْخمار.. 379 101- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مسح بناصيته وعمامته. 382 102- إِن النُّطْفَة إِذا انْعَقَدت.. 199 103- إِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِهَا يؤمئذ نفس مُؤمنَة.. 162 104- إِنَّهُ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجنَّة 228 105- إِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ أَعَنَانِ الشَّيَاطِينِ 204 106- إِنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ أَثَرَ الْمَنِيِّ 255 107- أنهلك وَفينَا الصالحون؟ قَالَ: نعم إِذا كثر الْخبث 363 108- إِنَّ وَجًّا مُقَدَّسٌ مِنْهُ عَرَجَ الرب ... 309 109- إِنِّي نهيت عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي ... 285 110- أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ نصف الْحسن. 445 111- اهتز عشر الرَّحْمَن لمَوْته ... 386 112- أُوتيت الْقُرْآن وَمثله مَعَه ... 282، 443 113- أوليس خياركم ذَرَارِي الْمُشْركين 383 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 الحَدِيث الصفحة 114- أَيَّةُ امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهَا فنكاحها بَاطِل.. 93 115- أَيّكُم يملك إربه 354 116- إيما إرهاب دبغ فقد طهر 256 117- بِأَبِي مَنْ لَمْ يَنَمْ عَلَى الْوَثِيرِ وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشّعير. 217 118- بَدَا لِي أَنَّ ذَلِكَ يُرِقُّ الْقُلُوب فزورها.. 289 119- بَدَا لِي أَنَّ النَّاسَ كَانُوا ينتحفون ضيوفهم ... 289 120- الْبِئْر جَبَّار 58 121- بعثت إِلَى النَّاس كَافَّة ... 68 122- بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن.. 235 123- تبأس وتمسكن وتقنع يَديك ورأسك.. 247 124- تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ مَخْرَفَةِ النَّعَمِ 190 125- تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ترَوْنَ الْفجْر ... 297 126- تعوذ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْفقر. 247 127- توفّي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَدِرْعه مَرْهُونَة.. 216 128- ثَلَاثَةٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الطَّيرَة وَالظَّن والحسد. 171 129- الثُّلُث وَالثلث كثير 100 130- ثَمَنُ الْكَلْبِ وَأَجْرُ الزَّمَّارَةِ مِنَ السُّحت 452 131- جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخر عِنْد رجْلي.. 262 132- الْجَار أَحَق بصقبه 332 133- جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِدَارِ الْجَارِ. 332 134- الجان مسيخ الْجِنّ ... 208 135- الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَرْض.. 313 136- الْحجر الْأسود من الْجنَّة. 413 137- الْحمرَة من زِينَة الشَّيْطَان .... 461 138- الْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان 345 139- خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَاب ... 351 140- خَرَجَ ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ ... 259 141- خلق آدم على صورته. 54 142- خَلَقْتُ عِبَادِي جَمِيعًا حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمُ.. 50 143- خَمْسٌ فَوَاسَقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحرم ... 210 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الحَدِيث الصفحة 144- خبرت بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ شطر أمتِي الْجنَّة. 254 145- خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِ. 180 146- خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بكر. 52 147- دخل عَلَيْهِ بِابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالب وهما ضار عان.. 473 148- جخل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِط رجل من الْأَنْصَار.. 285 149- الدِّيَة على الْعَاقِلَة. 283 150- ذَرَارِي الْمُشْركين تطؤهم خَيْلنَا ... 383 151- ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه. 392 152- ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَوْمًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ.. 148 153- رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ 314 154- رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَتَى قوم ... 153 155- رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى الْعِمَامَة.. 379 156- الرُّؤْيَا ثَلَاثَة فرؤيا بشر من الله تَعَالَى 485 157- الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لم تعبر 483 158- رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَشَى فِي النَّعْل الْوَاحِدَة 150 159- رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ وَجُعِلَ سحره فِي بِئْر 260 160- زَوجك فِي عينه بَيَاض 419 161- سُئِلَ عَنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الأودية 413 162- سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِم ... 354 163- سُئِلَ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: إِن شِئْت فَصم 352 164- سَبَقَ الْعِلْمُ وَجَفَّ الْقَلَمُ وَقُضِيَ الْقَضَاء 77 165- السعيد مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ 199 166- سَيِّدُ إِدَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْم.. 357 167- سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ غويتم.. 296 168- الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ 167 169- شرب المَاء على الرِّيق 128 170- شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّمْضَاءَ فَلَمْ يشكنا 174 171- شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا فَقَالَ لي.. 214 172- صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ. 351 173- صَدَقَة السِّرّ ... 195 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 الحَدِيث الصفحة 174- صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ 49، 231 175- صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ 53، 293 176- صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا تَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبيا. 136 177- صِيَام رَمَضَان فِي السّفر كفطر فِي الْحَضَر 352 178- ضِرْسُ الْكَافِرِ فِي النَّارِ مِثْلُ أُحُدٍ وَكَثَافَةُ جِلْدِهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا 312 179- ضَعُوا سُيُوفكُمْ على عوانقكم ثمَّ أبيدوا خضراءهم 47 180- طَالَبَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بميراث أَبِيهَا.. 427 181- عَائِدُ الْمَرِيضِ عَلَى مَخَارِفِ الْجَنَّةِ 190 182- عادي الأَرْض لَهُ وَلِرَسُولِهِ ثمَّ هِيَ لكم ... 284 183- عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَة إجَابَته إيَّاكُمْ.. 305 184- عجيزة الْحَوْرَاء.. 54 185- عرق النخيل وزغب الصَّدْر 53 186- عشر رَضعَات مَعْلُومَات يحرمن. 443 187- عَلِّمِي حَفْصَةَ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ وَالنَّفْسِ وَالْعين. 478 188- عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عز وَجل عَلَيْهَا. 48 189- الْعين وكاء والسه، فَإِذا نَامَتْ الْعين انْفَتح الوكاء. 105 190- غَطِّهَا فَإِنَّ الْفَخْذَ مِنَ الْعَوْرَةِ 453 191- غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كل محتم 288 192- فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إبل الصَّدَقَة 193- فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأسد 167 194- الْفقر بِالرجلِ الْمُؤمن 52، 247 195- الْفَأْرَة يَهُودِيَّة 54 196- الْقَاتِل والمقتول فِي النَّار 234 197- قَالَ فِي الضَّبِّ: لَا آكُلُهُ وَلَا أنهى عَن وَلَا أحله وَلَا أحرمهُ 390 198- قَالَ فِي صَائِمِ الدَّهْرِ: لَا صَامَ وَلَا أفطر 353 199- قَالَ فِي الْمُسَافِرِ وَحْدَهُ شَيْطَانٌ 242 200- قَالَ لرجل رأى ابْنه مَعَه: لَا تجني عَلَيْهِ 363 201- قَالَ قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: نعم. 411 202- قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لم يَمْنعنِي ... 209 203- الْقَدَرِيَّة مجوس هَذِه الْأمة 136 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 الحَدِيث الصفحة 204- قضى أَن الْخراج بِالضَّمَانِ 330 205- قَفَصِ الذَّهَبِ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ 53 206- قلب الْمُؤمن بَين أصبعين ... 54، 302 207- قَلْبُ الْقُرْآنِ يس، وَسَنَامُ الْقُرْآنِ الْبَقَرَة 375 208- قضى بِالْيمن مَعَ الشَّاهِد. 130 209- قُولُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا تَقولُوا لَا نَبِي بعده. 271 210- كَادَت الْعين تسبق الْقدر 473 211- كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الطِّيَرَةَ فِي الدَّابَّةِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ 170 212- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَو ينَام تَوَضَّأ 350 213- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جنب تَوَضَّأ ... 350 214 كَانَ رسلو اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا فِي فَوْحِ حَيْضِنَا أَنْ نأتزر.. 481 215- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ كاشفًا فَخذه.. 453 216- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي فِي شعرنَا أَو لحفنا.. 258 217- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَأَنَا إِلَى جَانِبه 258 218- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الهجير. 175 219- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يبرد الْبَرِيد وَحده. 243 220- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ منغير أَن يمس مَاء.350 221- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يقبل هُوَ صَائِم. 354 222- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يعجب بالأترج وَالْحمام. 173 223- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يشرب وَهُوَ قَائِم. 468 224- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَعَلِيهِ بعض المرط 259 225- كَانَ فِي عَمَاءٍ فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَتَحْته هَوَاء.. 323 226- كَثَافَة جلد الْكفَّار.. 130 227- كشف السَّاق.. 53 228- كلتا يَدَيْهِ يَمِين.. 130 229- كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فَيصَلي فِيهِ. 255 230- كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم المعصفر للرِّجَال 461 231- كنت إِذا حِضْت 481 232- كُلْ بِيَمِينِكَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشمَالِهِ 458 233- كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ ينصرَانِهِ 50، 199 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 الحَدِيث الصفحة 234- كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِ قومِي 391 235- كُنْ جَلِيسَ بَيْتِكَ فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْك فَادْخُلْ مخدعك.. 49، 233 236- كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ من جُهَيْنَة 275 237- لَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ. 268 238- لعن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم العاضهة والمستعضهة 262 239- لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فتقطع يَده. 245 240- الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ من سنتي. 181 241- الشَّاب القطط 53 242- الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أمه 51 243- لَقَدْ تَبَادَرَ إِلَى غُسْلِهِ سَبْعُونَ ألف ملك 385 244- لقد ذهبتم فِيهَا عريضة 405 245- لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ صنيعكم البارحة 305 246- لَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ وَرَضَاعِ الْكَبِير 439 247- الْقد اهتز لمَوْته الْعَرْش ... 385 248- لَقِيَ مُوسَى آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسلم، فَقَالَ: أَنْت أَبُو الْبشر. 343 249- لكل دَاء دَوَاء.. 465 250- لم نَقْرَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ نَدْنُ مِنْهُ حَتَّى نطهر. 481 251- لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَاره بوائقه. 50 252- لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنِ اكْتَوَى وَاسْتَرْقَى. 462 253- لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده 50 254- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فتْنَة الدَّجَّال 361 255- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فتْنَة الْقَبْر 361 256- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فتْنَة الْمحيا 361 257- اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ غِنَايَ وَغِنَى مَوْلَايَ 52 258- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ من فقر رمرب أَو ملب 54 259- الله أحيني مِسْكينا ... 52، 247 260- اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ. 310، 364 261- اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نبيك. 284 262- لَو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لأهْلك بِعُمْرَة. 284 263- لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ ... 290 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الحَدِيث الصفحة 264- لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الْأمة خَلِيلًا 92 265- لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر سعد بن معَاذ.. 385 266- لَوْ كَانَ لِي طِلَاعُ الْأَرْضِ ذَهَبا لافتديت بِهِ.. 379 267- لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيُ لَحَلَلْتُ. 471 268- لَوْلَا أَن الْكَلَام أمة ... 206 269- لَوْلَا مَا يَزَعُهَا مِنْ أَمْرِ الله تَعَالَى لأهلكت.. 166 270- لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لجعلت وَقت الصَّلَاة ... 285 271- ليؤمكم خياركم فَإِنَّهُم وفدكم ... 231 272- لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَقْوَامٌ ثُمَّ ليختلجن دوني.. 51، 340 273- لَيْسَ الْمخبر كالمعاين. 416 274- مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الدَّد مني. 416 275- مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ إِنْ أَنا شربت ترياقًا. 466 276- المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء ... 470 277- مَا بَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا قَطُّ 152 278- مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ من رياض الْجنَّة 189 279- مَا تَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ قَصْمَةً إِلَّا فُتِحَ لَهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَاب النَّار ... 166 280- مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَهَذَا أَوَان.. 263 281- مَا شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا غَيْرِي. 163 282- مَا كَانَ طُولُ فِرْعَوْنَ إِلَّا ذِرَاعا وَكَانَت لحيته ذِرَاعا 410 283- مَا كَفَرَ بِاللَّهِ نَبِيٌّ قَطُّ. 176 284- مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَعْلَى الْقَدَمِ أَحَقُّ بِالْمَسْحِ مِنْ بَاطِنِهَا. 108 285- الْمُتَمَسِّكُ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالْقَابِضِ على الْجَمْر. 181 286- مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ. 180 287- الْمُسَافِر وَحده شَيْطَان.. 242 288- مَنْ أَخَذَ أَجْرًا بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فقد أخذت برقية حق. 467 289- مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَفِيضَ المَال وَيظْهر الْعلم ... 412 290- مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام ... 320 291- مَنْ تَرَكَ قَتْلَ الْحَيَّاتِ مَخَافَةَ الثأر فقد كفر. 187 292- مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَى اللَّهِ وَرَسُوله ... 273 293- مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ ترك دينا فعلي. 273 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الحَدِيث الصفحة 294- مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعا. 327، 398 295- من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فِيهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ.. 288 296- مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَرَأَى غَيرهَا خيرا مِنْهُ.. 85 297- من شرب الْخمر فاجلدوه 158 298- مَنْ زَنَى وَمَنْ سَرَقَ إِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ مُؤمن.. 187 299- مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّم 185، 353 300- مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله مخلصًا دخل الْجنَّة. 49 301- مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ زنى وَإِن سرق. 49، 148، 251 302- مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيد. 48، 233 303- من قتل عَبده قَتَلْنَاهُ.. 158 304- مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّار 158 305- من كتب مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ 90 306- مَنْ كَانَ يَمْهُنُ لَهُ، وَيَكْفِيهُ أَوْ يَعْمَلُ لَهُ؟ قَالُوا: نَحْنُ ... 51 307- مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حل. 456 308- من مس فَوجه فَليَتَوَضَّأ. 203 309- من نَام فَليَتَوَضَّأ. 203 310- من هَهُنَا يطلع قرن الشَّيْطَان. 106 311- مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كتبت لَهُ حَسَنَة وَاحِدَة.. 196 312- مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوابًا فَهُوَ منجزه لَهُ ... 158، 185 313- مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ. 416 314- نَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِالْحُدَيْبِية سبعين بَدَنَة 216 315- نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِما. 468 316- نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْإِمَاءِ. 451 317- نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً.479 318- نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الرقى. 473 319- نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ..285 320- نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ 224 321- هَذَا مَا أُوتِيتُ وَلَسْتُ أَزِيدُكَ 286 322- هَذَا جبل يجبنا ونحبه 388 323- وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يملك إربه 354 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 الحَدِيث الصحفة 324- وضع يَده بَين كَتِفي ... 54 235- وَالَّذِي نفس بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ.. 274 326- وَالله إِنَّكُم لتجينون. 309 327- لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ. 390 328- لَا أُعَافِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَخذ الدِّيَة.. 108 329- لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزَعَةٍ. 232 330- لَا تحرم المصة وَال المصتان. 283 331- لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ خلاف من خالفهم50 332- لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا ... 51 333- لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدو.. 292 334- لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ نفس الرَّحْمَن. 130، 307 335- لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الدَّهْر. 324 336- لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْل. 148 337- لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مرَّتَيْنِ. 348 338- لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ، فَإِنَّهُ خُلِقَ على صُورَة الرَّحْمَن. 319 339- لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآن.. 411 340- لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا على خَالَتهَا. 281 341- لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عصب. 256 342- لَا رضَاع بعد الفصال. 434 343- لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَو حمة أَو نحلة أَو نفس.. 478 344- لَا عدوى وَلَا طيرة.. 167 345- لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَار 245 346- لَا نَبِي بعدِي 271 347- لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح 284 348- لَا وَصِيَّة لوَارث 279 349- لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْم الله تَعَالَى ... 253 350- لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرهَا.. 283 351- لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قبله مِثَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ. 184 352- لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن ... 49، 251 353- لَا يوردن ذُو هاهة على مصح. 167 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 الحَدِيث الصفحة 354- لَا يُولَدُ بَعْدَ سَنَةِ مِائَةٍ مَوْلُود لله فِيهِ حَاجَة. 164 355- لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يشْكر النَّاس. 100 356- يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ الله تَعَالَى 275 357- يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شيبَة بن ربيعَة ... 226 358- يَا غُلَامُ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ .... 78 359- يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي على دينك 302 360- يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأُقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ... 185 361- يَأْبَى الله وَرَسُوله إِلَّا أَبَا بكر. 52 362- يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ من النّسَب. 281 363- يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ قَدْ ذهب حبره وسبره. 50 364- يَحْمِلُ اللَّهُ الْأَرْضَ عَلَى أُصْبُعٍ. 130 365- يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ قَدِ امتحشوا 50 366- يَقُولُ رَبُّكُمْ: ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِن تَأتِينِي.. 254 367- يكون قوم فِي آخر الزَّمن يسمون الرافضة.. 136 368- يَمْرُقُونَ من الدَّين كَمَا تمرق السهْم من الرَّمية 136 369- يَمِين الله سحاء لايغيضها شَيْء اللَّيْل وَالنَّهَار 304 370- يمثل الْقُرْآن يَوْم الْقِيَامَة ... 376 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 فهرس الْأَعْلَام آدم عَلَيْهِ السَّلَام: 145، 146، 180، 147، 305، 306، 387 أبان ابْن عَيَّاش: 132 إِبْرَاهِيم بن أدهم: "65" إِبْرَاهِيم بن بشار: 131 إِبْرَاهِيم الْخَلِيل "عَلَيْهِ السَّلَام": 81، 86، 92، 122، 159، 176. ابْن أبي أوفي: 129. ابْن أبي ذِئْب: "57"، 141 ابْن أبي نجيح: "57"، 141 ابْن أم مَكْتُوم: 328 ابْن جرهد: 453 ابْن جريج: 133 ابْن الجماز: 111 ابْن سعد: 428 ابْن شهَاب: 352 ابْن علية: 131 ابْن عون: 133 ابْن لَهِيعَة: "290" ابْن عُيَيْنَة: 130، 131، 155، 337 ابْن نمير: 262 أَبُو إِسْحَاق: 108، 180 أَبُو الْأَحْوَص: 315 أَبُو الْأسود الدؤَلِي: 315 أَبُو أُمَامَة: 77 أَبُو بَحر: 452 أَبُو بَرزَة: 175 أَبُو بكر: 124، 244، 341، 74، 92 أَبُو حَاتِم: 268 أَبُو حَازِم: 451 أَبُو حسان الْأَعْرَج: 170 أَبُو حُذَيْفَة: 434 أَبُو حنيفَة: 102، 106 أَبُو الْخطاب: 110، 138، 190، 315، 343، 452 أَبُو خيرة: 475 أَبُو دَاوُد: 139، 342 أَبُو الدَّرْدَاء: 421 أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ: 56، "254" أَبُو ذُؤَيْب: "325" أَبُو ذُؤَيْب: 325 أَبُو رزين الْعقيلِيّ: 323 أَبُو الزبير: 361، 227 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 أَبُو الزِّنَاد: 268 أَبُو زيد: 135 أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: "162"، 288 أَبُو سُفْيَان: 479 أَبُو سَلمَة: 159، 165، 322، 350، 352 أَبُو صَالح: 150، 364 أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع: 176 أَبُو عِصَام عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: 218 أَبُو عُبَيْدَة عَامر بن الْجراح: 90، 141، 207 أَبُو عتاب: 334 أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: 135 أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: 268، 408 أَبُو عوَانَة: 104، 148 أَبُو قلَابَة: 275 أَبُو مَسْعُود الدِّرَامِي: 254 أَبُو مُعَاوِيَة: 130 أَبُو معشر الْمدنِي: 139 أَبُو الْمِقْدَام: 485 أَبُو مَنْصُور الكسف: "125" أَبُو مهدية الْأَعرَابِي: 398 أَبُو الْمُهلب: 275 أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: 369 أَبُو نعيم: "354" أَبُو وَائِل: 153، 346 أَبُو الْهُذيْل العلاف: 62، 94 أَبُو هِلَال الرَّاسِبِي: 357 أَبُو هُرَيْرَة: 72، 73، 89، 150، 159، 170، 351 أَبُو يزِيد الضَّبِّيّ: 354 أَبُو يزِيد الْمدنِي: 318 أَبُو يُوسُف: 113 أَبُو الْيَمَان: 481 أبي بن كَعْب: 76، 129، 315 أَحْمد بن حَنْبَل: 66 أَحْمد بن سعيد اللحياني: 323 أَحْمد بن الْخَلِيل: 170، 357 الْأَحْنَف بن قيس: 240 الْأَخْفَش: 135 أُسَامَة بن زيد: "352" إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ: 105، 106، 171 إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ: 138، 185، 254، 255 أسعد بن زُرَارَة: 462 إِسْمَاعِيل "عَلَيْهِ السَّلَام": 176 إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: 453 إِسْمَاعِيل بن عبد السَّلَام: 344 إِسْمَاعِيل بن علية: 175 إِسْمَاعِيل بن غَزوَان: 111 الْأسود بن عبد الرَّحْمَن: 355 الْأَشْعَث: 258 الْأَصْبَغ بن جَامع: 139 الْأَصْمَعِي: 102، 268 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الْأَعْشَى: 177 الْأَعْمَش: 110، 315 أم أَيمن: 431 أم ذرة: 481 امْرُؤ الْقَيْس: 484 أم سَلمَة: 363 أُميَّة بن أبي الصَّلْت: 119، 73 أنس بن عِيَاض: 409 أنس بن مَالك: "162، 170، 254، الْأَوْزَاعِيّ: 65، 133، 180 أَيُّوب بن خَالِد: 133، 190 بديل بن ميسرَة: 298 الْبَراء: 381 بُرَيْدَة الْأَسْلَمِيّ: "357" بشر الحافي: 66 بشر بن الْمفضل: 190، 264، 343، بشر المريسي: 134 بكر بن عبد الله: 96، 218 بكر الْعَمى: 62 بِلَال: 134 تَوْبَة الْعَنْبَري: 391 ثُمَامَة بن أَشْرَس: 62، 99، 334 جَابر بن زيد: 57، 103، 347 دابر بن عبد الله: "162"، 190، 342، جَابر الْجعْفِيّ: 57 الجاحظ: 111 جَعْفَر بن أبي طَالب: "228" الْحَارِث بن حلزة الْيَشْكُرِي: 382 حجاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ: 456 الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ: 483 الْحجَّاج الصَّواف: 456 حُذَيْفَة بن الْيَمَان: 72، 84، 268 الْحسن بن عَليّ: 241، 264، 288 الْحُسَيْن بن عَليّ: 209 حُسَيْن بن حسن الْمروزِي: 348 حَفْص بن أبي الْمِقْدَام: 63 الحكم: 350 حَمَّاد بن زيد: 81، 102 حَمَّاد بن سَلمَة: 133، 323، 361 خَارِجَة بن زيد: 422 خَالِد بن عبد الله: "409" خَالِد بن عبد الله: 341، 391 خَالِد الْحذاء: 148، 338 خباب بن الْأَرَت: 174 خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة: 286 دَاوُد بن أبي هِنْد: 236، 343 دَاوُد بن الْمفضل: 138 دَاوُد بن نصير الطَّائِي: 65 رائطة بنت مُسلم: 214 رَابِعَة العدوية: 398 رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: 130، 109 ربعي بن خرَاش: 268 الرياشي: 110، 325 الزبير بن الْعَوام: 90 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 زفر بن هُذَيْل: 108 زَكَرِيَّا "عَليّ السَّلَام": 263 زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة: 259 الزُّهْرِيّ: "154"، 157، 332، زُهَيْر بن أبي سلمى: 122، 177 زِيَاد بن يحيى: 461 الزيَادي: 108، 149، 241 زيد بن أبي ليلى: 268 زيد بن أخزم الطَّائِي: 267، 268، 342 زيد بن أسلم: 411 زيد ثَابت: 71، 75 زيد بن جُبَير: 354 زيد بن خَالِد: "154" زيد بن عبد الرَّحْمَن: 344 طَاوُوس: 361 طَلْحَة بن عبيد الله: 96 طَلْحَة بن يحيى: 258 طليحة بن خويلد: 341 طويس: 422 عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ: 56، 72، 73، 255، 269، 350، 419، 453 عَائِشَة بنت طَلْحَة: 227 عَاصِم الكوزي: 128 عَامر بن وائلة: 57 الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب: 90، 98، 283 عبد الْأَعْلَى: 134 عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ: 392 عبد الرَّحْمَن بن الْأَصْبَهَانِيّ: 431 عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: 381 عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: 216 عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَامَةَ التَّيْمِيُّ: 228 عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن قريب: 382 عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم: 150، 343 عبد الرَّحْمَن بن المرقع: 218 عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: 382 عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ الْأَنْصَارِيِّ: 165 عبد الْعَزِيز الدرودي: 419 عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد: 481 عبد الله بن سبأ: "125" عبد الله بن عَبَّاس: 91، 111، 136، 172 عبد الله بن بُرَيْدَة: "357" عبد الله بن دَاوُد: 431 سَالم بن أبي النَّضر: 453 سَالم بن أبي الْجَعْد: 132، 254 سعد بن معَاذ: 385 سعد بن مَالك: 391 سعيد بن أبي عرُوبَة: 57، 140 سعيد بن جُبَير: 413 سعيد بن لُقْمَان: 392 سعيد بن زيد عَمْرو بن نفَيْل: 90 سعيد بن مُسلم: 172 سعيد بن الْمسيب: 109، 141، 342، 351 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 سُفْيَان بن عُيَيْنَة: "154"، 309 سُفْيَان الثَّوْريّ: 65، 133 سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: 133، 72 سُلَيْمَان بن يسَار: 255 سَمُرَة بن جُنْدُب: "158"، 288 سِنَان بن سَلمَة: 268 سهل بن السراج: 128 سهل بن مُحَمَّد: 102، 139، 169، 485، سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو: 434 سُهَيْل بن أبي صَالح: 130 سِيبَوَيْهٍ: 135 الشَّافِعِي: 434 شبيب بن شيبَة: 134 شُرَيْح: 87، 88 شريك: 421 شُعْبَة بن الْحجَّاج: 65، 133، 350 الشّعبِيّ: 72، 110، 236، 391 صَالح بن عَليّ: 366 صَخْر بن قدامَة: 164 صَفْوَان بن سليم: 288 صَفِيَّة بنت شيبَة: 259 صُهَيْب الرُّومِي: 421 الصعب بن جثامة: 383 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: 439 عبد لاله بن أبي بكر: 439 عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: 471 عبد الله بن شَقِيق: 258، 298 عبد الله بن عجلَان: 449، "382" عبد الله بن عمر: 192، 390 عبد الله بن عَمْرو: 132، 479، 428 عبد الله بن الْحَارِث: "311" عبد لله بن لَهِيعَة: 428 عبد الله بن الْمُبَارك: 106، 133، 426 عبد الله بن سبأ: 125 عبد الله بن مُصعب: 114 عبد الله بن مَسْعُود: 70، 75، 83، 141، 346 عبد الله بن الْمثنى: 334 عبد الله بن مسلمة: 409 عبد الله بن وهب: 315 عبد الله بن يسَار: 57 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مقرن: 351 عبد الله الداناج: "165" عبد الْملك بن ميسرَة: 72 عبد الْملك بن عُمَيْر: 351 عبد الْمطلب: "178" عبد الْوَارِث: 241 عَبدة بن عبد الله: 259 عبد الْوَاحِد بن نَافِع: 409 عبيد الله بن الْحسن: 62 عبيد الله بن شرية الجرهمي: 407 عبيد الله مَرْوَان: 366 عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبَة: "154"، 257، 258 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ: 485 عبيد الله بن مُوسَى: 352 عثما بن عَفَّان: 56، 72، 75، 453 عتبَة بن أبي لَهب: 176 عُرْوَة بن الزبير: "431" عُرْوَة بن حزَام: 448 عَطاء بن السَّائِب: 413 عَطاء بن يسَار: 288، 453 عقبَة بن عَامر: "290" عِكْرِمَة بن عمار: 131، 170 عَليّ بن عَاصِم: 104، 338 عَليّ بن أبي طَالب: 57، 72، 75، 87، 93، 98، 108، 141، 340 عَليّ بن الْمَدِينِيّ: 55 عَلْقَمَة: 72 عمَارَة بن عَامر: 315 عمار بن يَاسر: "190" عمرَان بن حُصَيْن: 91، 275 عَمْرو بن عبد الْعَزِيز: 115، 131، 267 عمر بن عبد الله: 190 عَمْرو بن عَليّ: 254 عَمْرو بن الْخطاب: 56، 72، 124، 453 عَمْرو بن أُميَّة: 379 عَمْرو بن تغلب: 412 عَمْرو بن صعصعة: 381 عَمْرو بن الْعَاصِ: 124، 221 عَمْرو بن عبيد: "56"، 138، 185 عَمْرو بن عون: 140 عَمْرو بن مرّة: 235، 381 عَمْرو بن وهب: 379 عَمْرو بن حُرَيْث: 315، 479 عَمْرو بن دِينَار: 103، 131، 381 عَمْرو بن فَائِدَة: 56، 81، 141 عَمْرو بن سعيد: 131 عَمْرو بن مَيْمُون: 255 عَمْرو بن الشريد: 332 عَمْرو بن شُعَيْب: 344، 376 عَمْرو بن النَّضر: 140 عمْرَة: 422، 439 عميرَة بن شكير: 268 عَوْف: 175 عِيسَى بن يُونُس: 148 عِيسَى "عَلَيْهِ السَّلَام": 400، 428 عُيَيْنَة بن حصن: 341 فَاطِمَة بنت قيس: "56" فَاطِمَة "الزهراء": 427، 432 فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الذبير: 444 الْفراء: 135 الفرزدق "الشَّاعِر": 80 الْفضل بن الْعَبَّاس: 73، 75 الْفضل الرقاشِي: 139 الفضيل بن عِيَاض: 65 الْقَاسِم بن سَلام: 323 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 قَتَادَة: "57"، 141، 288 قُرَّة بن خَالِد: 342، 484 قُرَيْش بن أنس: 139، 185 قيس بن الملوح: 448 الْكسَائي: 135 الكسعي: 80 كَعْب بن عجْرَة: 379 لبيد بن ربيعَة: 79 لوط "عَلَيْهِ السَّلَام": 159 اللَّيْث بن سعد: 65، "428" مَاعِز بن مَالك: 274 مَالك بن أنس: 65، 216 مَالك بن دِينَار: 218 مَالك بن سعيد: 110، 315 المتَوَكل: 474 المثقب الْعَبْدي: 120 مجاشع بن مَسْعُود: 284 مُجَاهِد بن جبر: 109 مُجَاهِد بن وردان: 110، 431 مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة: 453 مُحَمَّد بن إِسْحَاق: 376، 444، 479 مُحَمَّد بن بشر الْعَبْدي: 259 مُحَمَّد بن بشير: 114 مُحَمَّد بن الجهم: 94، 99 مُحَمَّد بن حمادة: 451 مُحَمَّد بن خَالِد: 110، 209، 285 مُحَمَّد بن زِيَاد: 153 مُحَمَّد بن سِيرِين: "258"، 379، 452 مُحَمَّد بن سليم الطَّائِي: "268" مُحَمَّد بن سُلَيْمَان: 239 مُحَمَّد بن سِنَان: 213 مُحَمَّد بن عبيد: 155، 227 مُحَمَّد بن الْفُرَات: 392 مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: 139 مُحَمَّد بن الْمفضل: 138 مُحَمَّد بن طحلا: 419 مُحَمَّد بن النَّضر الْحَارِثِيّ: 65 مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: 57 مُحَمَّد بن هَارُون: 130 مُحَمَّد بن يحيى الْقطعِي: 104، 170، 254.د الْمُخْتَار بن أبي عبيد: 125 المرقش: 171 مُسلم بن جُبَير: 479 مُسلم بن قُتَيْبَة: 110، 209، 385 المستوغر بن ربيعَة: 408 مسعر بن كدام: 72، 431 مَسْرُوق بن الأجدع: 88 مشرح بن عاهان: 290 مُصعب بن شيبَة: 259 مطرف بن عبد الله: 91، 164 معَاذ بن جبل: 141، 424 معَاذ بن معَاذ: 139 مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان: 124، 227 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 مُعَاوِيَة بن عمر: 180 معبد الْجُهَنِيّ: "56"، 141 الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان: 131، 268، 346 الْمَعْرُور بن سُوَيْد: 254 معن بن عِيسَى: 347 معن الْغِفَارِيّ: 420 الْمُغيرَة بن شُعْبَة: "379" مقَاتل بن سُلَيْمَان: 81 الْمَنْصُور: 81 المنال: 164، 175 منْدَل: 150 مُوسَى "عَلَيْهِ السَّلَام": 51، 122، 343 مُوسَى بن الْمسيب: 254 مُوسَى بن مَسْعُود النَّهْدِيّ: 170 مويس بن عمرَان: 62، 94 مَيْمُونَة بنت سعد: 257، 354 مَيْمُونَة بن مهْرَان: 136 النَّابِغَة: 80 نَافِع: 390 النجار: 62 النظام: 62 النَّضر بن شُمَيْل: 475 النُّعْمَان بن بشير: 422 نوح "عَلَيْهِ السَّلَام": 211 نوح بن صعصعة: 347 نوح بن قيس: 409 هَارُون بن سعد الْعجلِيّ: 123 هَاشم الأوقص: 62 هاني بن عبيد: 172 هُرْمُز: 82 هِشَام بن الحكم: 62، 98، 115 هِشَام بن عُرْوَة: 262، 444 هِشَام بن حسان: 421، 452 هِشَام بن حسان: 421، 452 هِشَام الدستوَائي: 375 همام بن يحيى: 267، 288 وَاصل بن حَيَّان: 346 وَكِيع بن الْجراح: 106 وَكِيع بن حدس: 130 الْوَلِيد بن مُسلم: 379، 382 وهب بن جرير: 391 وهب بن مُنَبّه: "80"، 196 يحيى "عَلَيْهِ السَّلَام": 428 يحيى بن حميد الطَّوِيل: 140 يحيى بن سعيد: 133، 275 يحيى بن مخنف: 102 يحيى بن أبي كثير: 275، 379، 456 يحيى بن الْمُخْتَار: 426 يحيى بن معِين: 55 يزِيد بن أبي حبيب: 479 يزِيد ن زُرَيْع: 348 يزِيد بن عَامر: 347 يزِيد بن عَامر: 347 يزِيد بن عَمْرو: "290، 310، 485 يعلى بن عَطاء: 347 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 يُوسُف "عَلَيْهِ السَّلَام": 445 يُونُس "عَلَيْهِ السَّلَام": 182، 406 يُونُس بن أبي إِسْحَاق: 153، 209 يُونُس بن عبيد: 129، "133" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 فهرس الموضوعات مَوْضُوع الصفحة مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة 5 مُقَدّمَة الْمُحَقق 7 أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي 11 هَذَا الْكتاب 18 صور المخطوطة 22 مُقَدّمَة الْمُؤلف "ابْن قُتَيْبَة" 38 مطاعن المناهضين لأهل الحَدِيث 47 الرَّد على أَصْحَاب الْكَلَام وَأَصْحَاب الرَّأْي 61 الْاخْتِلَافُ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْأُصُول 63 مزاعم النظام وأكاذيبه 66 كذب أبي الْهُذيْل العلاف 94 تنَاقض عبد الله بن الْحسن 95 صَاحب البكرية 96 هِشَام بن الحكم 98 ثُمَامَة 99 الرَّد على أَصْحَاب الرَّأْي 102 تناقضات فِي الْقيَاس 110 من آراء أَصْحَاب الْكَلَام 112 تَفْسِير الروافض لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم 122 ذكر أَصْحَاب الحَدِيث 127 عُيُوبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بَسِيطَةٌ لَا تقارن بغيرهم 136 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 مَوْضُوع الصفحة هفوات الْقَدَرِيَّة وضلالهم 138 ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ادَّعَوْا عَلَيْهَا التَّنَاقُض 143 1- أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام 145 2- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ 148 3- الْمَشْي بنعل وَاحِدَة 150 4- الْبَوْل فِي حَالَة الْقيام 152 5- رجم الزَّانِي 154 6- لَا قطع على الْمُسْتَعِير 157 7- الطعْن بالأنبياء 159 8- لَا تبقى نفس منفوسة 162 9- الشَّمْس وَالْقَمَر ثوران 165 10- الْعَدْوى والطيرة 167 11- الْإِبْرَاد فِي الصَّلَاة 174 12- هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ قبل الْبعْثَة 176 13- خير الْقُرُون 180 14- تَفْضِيل النَّبِي 182 15- دُخُول الْجنَّة وَدخُول النَّار 184 16- الْخَوْف من الله 186 17- مَفْهُوم الْكفْر 187 18- مَوْضُوع الْجنَّة 189 19- الْأَئِمَّة من قُرَيْش 191 20- الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس 193 21- الْفطْرَة والشقاء والسعادة 199 22- غَسْلُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنَ النّوم 202 23- الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل 204 24- قتل الْكلاب 206 25- قتل الْخمس الفواسق 210 26- رَهْنُ دِرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم 216 27- الِاجْتِهَاد فِي الْقَضَاء 221 28- النِّيَّة وَالْعَمَل 224 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 مَوْضُوع الصفحة 29- سمامع الْمَوْتَى 226 30- الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة 231 31- قتال الْمُسلم 233 32- دُعَاءُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لعَلي 235 33- كَرَاهَةُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ 242 34- حد الْقطع فِي السّرقَة 245 35- التَّعَوُّذ بِاللَّه من الْفقر 247 36- ارْتِكَاب الْكَبَائِر وَالْإِيمَان 251 37- فرك الْمَنِيّ وغسله 255 38- جلد الْميتَة 256 39- صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فِي الشعار 258 40- هَلْ سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم؟ 260 41- خَاتم النَّبِيين 271 42- من مَاتَ وَعَلِيهِ دين 273 43- تكْرَار الِاعْتِرَاف بِالزِّنَا 274 أَحْكَام قد أجمع عَلَيْهَا ببطلها القرآنك وَيَحْتَجُّ بِهَا الْخَوَارِجُ 277 1- حُكْمٌ فِي الرَّجْم يَدْفَعهُ الْكتاب 277 2- حُكْمٌ فِي الْوَصِيَّةِ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ 279 3- حُكْمٌ فِي النِّكَاحِ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ 281 4- حُكْمٌ فِي الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُخْتَلف 288 5- حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْعِيَانُ: احْتِرَاقُ وَرَقِ الْمُصحف 290 6- حَدِيثٌ يَنْقُضُهُ الْقُرْآنُ: هَلْ تَزِيدُ صلَة الرَّحِم فِي الْأَجَل؟ 293 7- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ: الصَّدَقَةُ وَالْقَضَاء المبرم 295 8- حَدِيثٌ يُبْطِلُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ: طَاعَةُ الْأَئِمَّة 296 9- حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ: رُؤْيَة الرب تبَارك وَتَعَالَى 297 10- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَحجَّة الْعقل: قلب الْمُؤمن 302 11- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين 304 12- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: عَجَبُ الرَّبِّ وضحكه 305 13- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: الرِّيحُ مِنْ نفس الرَّحْمَن 307 14- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: آخَرُ وَطْأَةٍ وَطئهَا الله بوج 309 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 مَوْضُوع الصفحة 15- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: كَثَافَةُ جِلْدِ الْكَافِر 312 16- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ 313 17- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: رُؤْيَةُ الرَّبِّ 314 18- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: خَلْقُ آدَمَ 317 19- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: كَانَ فِي عماء 323 20- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: سَبُّ الدَّهْرِ 324 21- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ: التَّقَرُّبُ إِلَى الله 327 22- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْكِتَابُ: احْتِجَابُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم 328 23- حديثان متناقضان: الْخراج بِالضَّمَانِ 330 24- حديثان متناقضان: الشُّفْعَة 332 25- حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ: إِذَا وَقَعَ الذُّبَاب فِي الْإِنَاء 334 26- حَدِيثٌ يَحْتَجُّ بِهِ الرَّوَافِضُ: فِي إِكْفَارِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم 340 27- حَدِيث فِي الْقدر 343 28- حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ: الْحَيَاءُ شُعْبَةُ من الْإِيمَان 345 29- أَحَادِيثُ فِي الصَّلَاةِ مُتَنَاقِضَةٌ: إِعَادَةُ الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة 347 30- أَحَادِيثُ فِي الْوُضُوءِ مُتَنَاقِضَةٌ: الْوُضُوءُ من الْجَنَابَة 350 31- حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ: بَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِد 351 32- حَدِيثَانِ فِي الصَّوْمِ مُتَنَاقِضَانِ: الصَّوْمُ فِي السّفر 352 33- حَدِيثَانِ فِي الصَّوْمِ مُتَنَاقِضَانِ: التَّقْبِيلُ فِي الصّيام 354 34- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ النَّظَرُ: الْمِعْزَى مَالٌ رَقِيق من الْجنَّة 356 35- حَدِيث يكذبهُ الْقُرْآن: هَلْ يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ 358 36- حَدِيث يكذبهُ النَّظَرُ: الْأَجْرُ فِي مُبَاضَعَةِ الرَّجُلِ أَهله 370 37- حَدِيث يُبطلهُ النّظر: رجم قردة فِي زنى 372 38- أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ: قلب الْقُرْآن وسنامه 375 39- أَحَادِيثُ يُخَالِفُهَا الْإِجْمَاعُ: الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَة 379 40- حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ 383 41- حَدِيثٌ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا: مَوْتُ سعد بن معَاذ 385 42- حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ: أَكْلُ الضَّبِّ 390 43- حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاع: نزُول الله سُبْحَانَهُ 393 44- حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ: لَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ملك الْمَوْت 400 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 مَوْضُوع الصفحة 45- حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ: قَصَصٌ وَأَخْبَارٌ قديمَة 403 46- أَحَادِيث متناقضة: كتاب الحَدِيث 411 47- حديثان متناقضان: الْحجر الْأسود 413 48- أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ: مَزْحُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وجده 416 49- أَحَادِيث متناقضة: الْحيَاء وَالْبَيَان 423 50- حَدِيثٌ يَنْقُضُهُ الْقُرْآنُ: مِيرَاثُ النُّبُوَّةِ 427 51- أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ: الرَّضَاعُ بَعْدَ الْفِصَالِ 434 52- حَدِيثٌ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ: دَاجِنٌ تَأْكُلُ صَحِيفَةً مِنَ الْكِتَابِ 439 53- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ: يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام 445 54- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ النَّظَرُ: كَسْبُ الْإِمَاءِ 451 55- حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ: هَلِ الْفَخْذُ مِنَ الْعَوْرَة؟ 453 56- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْكِتَابُ: حُكْمُ مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ بِالْحَجِّ 456 57- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ: أَكْلُ الشَّيْطَان بِشمَالِهِ 458 58- حديثان مُخْتَلِفَانِ: الكي والحجامة 462 59- حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي شُرْبِ الْمَاءِ قَائِما 468 60- حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِيمَا يَنْجُسُ مِنَ المَاء 470 61- حديثان فِي الْحَج متناقضان 471 62- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ: فِي الْعين والرقى 473 63- حديثانم فِي الْبُيُوعِ مُتَنَاقِضَانِ: بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ 479 64- حديثان فِي الْحيض متناقضان 481 65- حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ: تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا 483 66- حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يمل 486 فهرس الْآيَات القرآنية 501 فهرس الْأَعْلَام 515 فهرس الموضوعات 524 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528