الكتاب: منهج التربية الإسلامية المؤلف: محمد بن قطب بن إبراهيم الناشر: دار الشروق الطبعة: السادسة عشرة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- منهج التربية الإسلامية محمد قطب الكتاب: منهج التربية الإسلامية المؤلف: محمد بن قطب بن إبراهيم الناشر: دار الشروق الطبعة: السادسة عشرة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمات مقدمة الطبعة الثالثة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثالثة: في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها البشرية: الفترة التي يصل فيها الفزع إلى غايته، والقلق إلى أقصاه. يتبدى واضحًا إلى أي مدى تخبطت البشرية حين شردت عن الله وعن منهجه للحياة. لقد تخبطت البشرية ما بين عبادة العقل وعبادة المادة، وعبادة الحتمية التاريخية والحتمية الاقتصادية والحتمية الاجتماعية. إلى آخر هذه الآلهة المزعومة التي يعبدها الناس في هذا الجيل ليهربوا بها من عبادة الله!.. فكانت الشقوة التي تفسد الأعصاب والنفوس، وكان العذاب الذي يمس الأفراد والجماعات، وكان الفزع الدائم من الدمار الرهيب! وليس للبشرية علاج من هذه الشقوة المفسدة والعذاب المفزع إلا أن تعود إلى الله، لتجد الأمن والرعاية في حماه، وتجد التوجيه الراشد في منهجه للحياة. ومنهج التربية الإسلامية -الذي يشرح هذا الكتاب بعض جوانبه- هو المنهج الرباني لتقويم البشرية وتوجيهها، لترشد وتتوازن، وتسلك سلوكها المستقيم في الحياة. واليوم إذ أقدم الطبعة الثالثة من الجزء الأول من الكتاب، أنوه بأن الجزء الثاني -الذي تحدثت عنه في مقدمة الطبعة الأولى منذ سنوات عديدة- قد صدر بالفعل، فأصبح الكتاب اليوم في جزءين: هذا الجزء يتناول النظرية، والجزء الثاني يتناول التطبيق. والله الموفق إلى سواء السبيل. محمد قطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 مقدمة الكتاب 1: كيف غفلنا عن أن هناك منهجًا إسلاميًا للتربية، وأن هذا المنهج موجود في القرآن؟! إنني أتحدث عن نفسي. لقد ظللت زمنًا أقرأ القرآن دون أن أفطن إلى هذه الحقيقة! لقد أحسست بطبيعة الحال أن في القرآن توجيهات تربوية كثيرة، وأن لهذه التوجيهات أثرًا في النفس, وأن الإنسان حين يتدبرها ويتأثر بها، يصبح له سلوك معين وتفكير معين وشعور معين، هو أقرب إلى الصلاح والتقوى، ويصبح الإنسان أكثر شفافية وأكثر إنسانية. أحسست هذا لأنه بديهية واضحة لا تحتاج إلى تفكير. ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين هذا الإحساس المبهم الذي لا يعرف الإنسان من أين ينبع على وجه التحديد، وبين الإدراك الواعي بأنه ليست توجيهات تربوية متناثرة تجيء عرضًا في سياق الآيات، وإنما هو منهج شامل متكامل، كل جزئية فيه مقصودة، وكل كلمة فيه بحساب! وقد لا يكون من الضروري لكل إنسان أن يدرك بوعيه وجود هذا المنهج الشامل المتكامل المفصل، فإن الإحساس المبهم الذي يثيره القرآن في قارئه أو سامعه، يؤدي مهمته في توجيه النفس إلى الخير وتعويدها على الصلاح. ولا شك أن أعدادًا لا حصر لها من المسلمين في العصور الأولى أو الأخيرة قد أخذت انطباعاتها من هذا الطريق المباشر، الذي يصل مباشرة إلى أعماق النفس، ويحركها ويوجهها إلى حيث ينبغي أن تكون. ومع ذلك فلهذا الوعي قيمته. له قيمته في أنه يسند الإحساس الوجداني المبهم ويزيد من تأصله في النفوس. وله قيمته لدى الدارسين والباحثين، الذين يصعب عليهم إمساك الوجدانات الطائرة، فيريدونها مناهج ثابتة تخضع للبحث والتحليل.   1 كتبت هذه المقدمة سنة 1960. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وله قيمته أخيرًا في مواجهة الفتنة بالمناهج الشائعة في الغرب والشرق، والتي تفتن الناس بأنها "مناهج" مفصلة مدروسة، فيغفلون عما فيها من انحراف خطر، ويظنونها صالحة لمجرد كونها مدروسة مفصلة! ولقد ظللت زمنًا أقرأ القرآن دون أن أفطن إلى هذا المنهج. وحتى حين ألفت كتاب "الإنسان بين المادية والإسلام" وأبرزت فيه بوضوح أن للإسلام نظرة خاصة إلى "الإنسان"، وطريقة خاصة في معاملة النفس الإنسانية، تختلف في أساسها عن الطريقة المادية التي يمارسها الغرب المادي: شرقه وغربه سواء. حتى حينئذ لم أكن فطنت إلى منهج التربية الإسلامية، لأني كنت مشغولًا بالدراسة النفسية في ذلك الكتاب، وبالنظرة العامة إلى الإنسان. وقد أوردت في ذلك الكتاب صفحة واحدة عن التربية الإسلامية، لا تحمل أكثر من خطوط عريضة جدًّا لهذه التربية، ثم كتبت عنها فصلًا واحدًا في كتاب لم ينشر عن سياسة التعليم. وكنت في هذا وذاك أعالجها في حذر ومن بعيد. ذلك أنها لم تكن في حسي قد اتضحت بعد! ومرت سنوات وأنا لا أزداد قربًا من موضوع التربية ولا أتجه إلى الكتابة فيه. حتى كانت ليلة عجيبة ما زلت أذكرها كأنها الأمس، وقد مر عليها أكثر من أربع سوات! كنت في ضائقة نفسية شديدة لا يبدو في ظلمتها بصيص من النور. وكان القرآن كتابنا الأوحد الذي نقرأ فيه. وكنت إلى تلك الليلة قد قرأته -كله- ثلاث مرات أو أربعًا، وعشت فيه كل لحظة من النهار والليل، وعشت منه كل آية وكل حادثة وكل خبر وكان توجيه. وفجأة -في تلك الليلة- أحسست بصفاء ذهني وروحي غير معتاد. وفجأة كذلك أحسست بمجموعة من الخواطر تنثال على نفسي متتابعة كأنها درس محفوظ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 يا عجبًا! هذا منهج متكامل للتربية الإسلامية لم يخطر في نفسي أبدًا من قبل! منهج متكامل لا يترك صغيرة ولا كبيرة. يشمل النفس الإنسانية كلها بحذافيرها، ويشمل الحياة البشرية بالتفصيل! كيف كان هذا المنهج غائبًا عني.. لا أدري! إنه في وضوحه وبساطته يشبه البديهيات! ومع ذلك فقد كان غريبًا عن نفسي قبل ذلك بلحظات! ومنذ تلك اللحظة أصبح منهج التربية الإسلامية واضحًا في نفسي، واعيًا في حسي، أجد له الشواهد في كل توجيه قرآني، وفي كل حديث أو عمل للرسول صلى الله عليه وسلم. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الترجمة الواقعية للقرآن. وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن. ومن ثم كان هو النموذج الحي للتربية الإسلامية، والمفسر لهذا المنهج، سواء بأخلاقه الذاتية أو بتوجيهاته للناس. وأخذت أدرس المسألة على هذا النحو، وصح في عزمي أن أسجلها في كتاب. ومنهج التربية الإسلامية فريد في كل مناهج الأرض، وإن التقى ببعضها في التفصيلات والفروع. فريد في شموله ويقظته لكل دقيقة من دقائق النفس البشرية وكل خالجة وكل فكرة وكل شعور. وفريد في أثره في داخل النفس وفي واقع الحياة. فقد كان من أثره تلك الأمة العجيبة في التاريخ. الأمة التي انتفضت من تراب الأرض فوصلت إلى السماء. والتي قامت من شتات متناثر لا يكاد يلتقي على غير الصراع والحرب، فإذا هي أمة صلبة متماسكة لا مثيل لها في الأرض، تفتح وتغزو، وتعمر وتبني، وتقيم مثلًا أخلاقية وإنسانية غير معهودة من قبل ولا من بعد، وتنتشر في سنوات قليلة في رقاع الأرض، تنشر النور والهدى، وتنشئء الحياة بإذن ربها من جديد. هذه الأمة كلها من نتاج هذا المنهج. كلها، بمادياتها ومعنوياتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بمشاعرها وأفكارها، وسلوكها وأعمالها. أمة فريدة في التاريخ. ولئن كان الزمن قد مزق هذه الأمة وشتت كيانها، على مراحل بطيئة استغرقت أكثر من ألف عام، فقد كان سبب التمزيق على أي حال هو البعبد عن منهج التربية الإسلامية، وعن الحياة الاجتماعية الإسلامية مع المحافظة على بعض المظاهر الخاوية أحيانًا، والبعد عنها جهرة في بعض الأحيان. فإذا كان هذا الكتاب يستطيع أن يكشف للمسلمين عن نواح من منهجهم، ويبعثهم على فهمهما والإيمان بها، فقد أدى مهمته كاملة، ومن الله التوفيق. وقد خصصت هذا الجزء من الكتاب لشرح النظرية، مأخوذة من وجهة النظر النفسية، على أن يخصص جزء آخر للتطبيق، في مراحل الطفولة، والمراهقة، والشباب المبكر، والنضج، واستعراض ما كتبه المسلمون في التربية في العصور المختلفة، والموازنة بين النظرية الإسلامية والنظريات الغربية في التربية. اللهم وفقني إلى ما فيه الخير، إنك سميع مجيب الدعاء. محمد قطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 تمهيد : الوسائل والأهداف هل العبرة في مناهج التربية بالوسائل أم الأهداف؟ إن بعض الوسائل على الأقل يتغير من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل. ثم إن الوسيلة الواحدة يمكن أن تخدم أهدافًا عدة، أو لا تخدم هدفًا على الإطلاق! الرياضة البدنية مثلًا وسيلة من وسائل التربية. ولكنها -في ذاتها- لا تحدد منهجًا ولا ترسم طريقة. فهي يمكن أن تربي الطاعة والحرص على النظام كما كانت في ألمانيا النازية، حيث كان الشباب يدرب على الرياضة البدنية تدريبًا عنيفًا، لا لخلق أجسام قوية فحسب. ولكن لتعويد الشباب على طاعة الأوامر، والفناء في شخصية الدولة. والفناء في شخصية هتلر القائد المتحكم صاحب السلطان. ويمكن أن تربي التعاون والروح الجماعية كما يقصد بها في إنجلترا ودول الشمال. ويمكن أن تنقلب إلى أنانية فردية كما هو الحال في بعض الرياضيين عندنا حيث يوجهون همهم إلى البروز الشخصي، حتى في كرة القدم، التي أنشئت في الأصل لبث الروج الجماعية المتعاونة! ويمكن أن تنقلب إلى عبادة الجسد, والافتتان بالقوة الجسمية البحتة، أو "بجمال" الأجسام، كما كان الحال عند الرومان. ويمكن أن تنقلب إلى مجرد تربية "عجول آدمية" منتفخة الرقبة ممتلئة العضلات، لا تحس من الروح الرياضية شيئًا، ولا ترتفع عن محيط الحيوان! والتربية بالقصص وسيلة من وسائل التربية، ويمكن أن تخدم أهدافًا عدة، ويمكن ألا تخدم هدفًا على الإطلاق! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 يمكن أن تربي في الناس الروح الفنية والحساسية المرهفة للجمال. ويمكن أن تربي فيهم التفكر في الأنفس وفي الآفاق، وتوجههم إلى تدبر العبرة من الحوادث، والتطلع إلى الهدى، والبعد عن الضلال. ويمكن أن تكون مجرد "تسلية". ويمكن أن تشيع في الناس التفاهة والانحلال. وهكذا كثير من الوسائل، لا يحكم بذاته على منهج، ولا يبين الطريق. ولكن هذا ليس معناه أن نهمل الوسائل ونسقطها من الحساب. كلا. فالوسائل هي أداتنا الوحيدة لتحقيق ما نؤمن به من الأهداف. وينبغي العناية الكاملة بها، والتدقيق في بحثها واختيارها، إذ الوسيلة الفاسدة تضيع الهدف الصالح وتحيد عن الطريق. ومن ثم فالوسائل والأهداف ترتبطان ارتباطًا كاملًا في مناهج التربية.. لا تفترقان. لا يمكن تقويم الهدف من غير الوسيلة التي تؤدي إلى تحقيقه، ولا يمكن تقويم الوسائل بمعزل عن الأهداف. ومنهج التربية الإسلامية منهج متميز متفرد في وسائله وفي أهدافه بشكل ظاهر يلفت النظر، ويدعو إلى التفكر في مصدر هذه العقيدة التي تفردت على مدار التاريخ. ولا شك أن التقاء عرضيًا يحدث بين الإسلام وغيره من مناهج التربية ومناهج الحياة، سواء في الوسائل أو الأهداف. ولكن هناك حقيقة تظل قائمة بعد ذلك. هي أن البشرية لم تعرف في تاريخها كله نظامًا بهذه السعة وهذا الشمول وهذه الإحاطة، بحيث لا يند عنه شيء في حياة الإنسان ولا لحظة من حياته، لا تقع في محيط منهاجه الشامل الدقيق. وتظل له مزية أخرى فوق ذلك: هي أن هذه السعة وهذه الإحاطة لا تخرجان به عن وحدة الهدف ووحدة الطريق. فهو ليس طرائق قددًا كل منها يؤدي إلى غاية منفصلة, ويجذب النفس في اتجاه، فتتمزق بين الشد والجذب، وإنما هو طريق واحد وغاية واحدة، تجمع كل شتات النفس وتوحدها. فتستقيم على النهج، وتتجمع على الغاية. فتلتقي النفس من داخلها في سلام بعضها مع بعض، وفي سلام من خارجها مع الكون والناس والحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ومنذ اللحظة الأولى يحس الإنسان بذلك التفرد. فبينما تلتقي مناهج التربية الأرضية كلها تقريبًا على هدف متشابه، وإن اختلفت في وسائل تحقيقه متأثرة بالبيئة والظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية إلخ، نجد الإسلام منذ البدء مفترقًا عنها في هذا الهدف، مغايرا لها في الاتجاه. تلتقي مناهج التربية الأرضية على أن هدف التربية هو إعداد "المواطن الصالح". وتختلف الأمم بعد ذلك في تصور هذا المواطن وتحديد صفاته. فقد يكون هو الجندي الشاكي السلاح، المتأهب في كل لحظة للوثوب سواء للعدوان أو لرد العدوان. وقد يكون هو الرجل الطيب المسالم الذي لا يحب الاعتداء على أحد, ولا اعتداء أحد عليه, وقد يكون هو الناسك المتعبد الذي يهجر الحياة الدنيا وينصرف عن صراع الأرض الكريه. وقد يكون هو العاشق لوطنه المجنون بعنصريته. وقد يكون وقد يكون, ولكنها تشترك كلها في شيء واحد، في إعداد "المواطن الصالح". أما الإسلام فلا يحصر نفسه في تلك الحدود الضيقة، ولا يسعى لإعداد "المواطن" الصالح، وإنما يسعى لتحقيق هدف أكبر وأشمل، هو إعداد "الإنسان" الصالح. الإنسان على إطلاقه، بمعناه الإنساني الشامل. الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه. الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو "مواطن" في هذه البقعة من الأرض أو في ذلك المكان. وذلك معنى أشمل ولا شك من كل مفهوم للتربية عند غير المسلمين. منذ الخطوة الأولى، في العهد المكي، والمسلمون قلة قليلة تعد بالأفراد. قلة مطرودة من كل حمى إلا حمى الله، محرومة من كل قوة, وكل سلطان, يقرر القرآن عالمية الدعوة الإسلامية وإنسانيتها، فيقول في سورة مكية من أوائل لسور: سورة التكوير: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} . {لِلْعَالَمِينَ} منذ أول خطوة. لا للعرب ولا لأهل مكة، ولا لقريش. للعالمين كلهم في كل بقاع الأرض، لا فرق بين أعجمي وعربي في ميزان الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 إلا بالتقوى والهدى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1. دعوة لا تعرف حدود الوطن ولا العنصر ولا القبيلة ولا الأسرة. لا تعرف حاجزًا واحدًا من الحواجز المصطنعة التي يقيمها الناس لأنفسهم في الأرض، ويتصارعون من داخلها على الغلبة والسلطان. دعوة لا تقسم الناس طوائف، ولا تقسمهم ألوانًا ولا عناصر. وإنما تنفذ إلى قلوبهم مباشرة، حيث يكمن "الإنسان". الجوهر الفذ الي تتكون منه الإنسانية. وهو في عمله لإعداد "الإنسان الصالح" لا يترك الناس حيارى يخبطون في التيه، كل منهم يرسم الصورة على هواه, وإنما يحدد لهم "مواصفات" هذا الإنسان في دقة ووضوح، ويرسم لهذا المنهج الذي يصلون به إلى تحقيق تلك الغاية. فهذا الإنسان هو الإنسان "الأتقى": {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. وهو الإنسان الذي يعبد الله ويهتدي إليه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3. ولكن العبادة ليست مقصورة على المناسك التعبدية المحدودة، وإنما هي معنى شامل جدًّا وواسع جدًّا، يشمل دقائق الحياة وتفصيلاتها، ويشمل كل عمل وكل فكرة وكل شعور: هو التوجه بكل نشاط حيوي إلى الله، ومراعاة ما يرضي الله في هذا النشاط وما يغضبه، وتوقي غضبه والعمل على رضاه. وهو الإنسان الذي يتبع هدى الله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 4، فهو يستمد من هذا الهدى منهج حياته ومنهج شعوره ومنهج سلوكه، ولا يتلقى من مصدر سواه. وهو بالجملة الإنسان الذي يفي بشرط الخلافة في الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 5. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ   1 سورة الحجرات "13". 2 سورة الحجرات "13". 3 سورة الذاريات "56". 4 سورة البقر "38". 5 سورة البقرة "30". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1. فشرط الاستخلاف هو العمل بمقتضى هذا التكريم الإلهي، فلا يهبط الإنسان عن مستوى "الإنسانية" ولا يتنازل عن الأفضلية التي فضله بها خالقه على كثير ممن خلق. فينشط في عمارة الأرض بما يوحيه حمله "في البر والبحر" ورزقه "من الطيبات" فيستغل هذه الطاقات الممنوحة له في كل اتجاه. ولكن على المستوى الكريم الرفيع، في حدود التقوى والاستمداد من منهج الله. ولكي يصل إلى هذا الهدف المحدد الواضح السمات، الذي نفصله في الفصول التالية من الكتاب، فهو يرد الناس إلى خالقهم ويصلهم به مباشرة وبلا حواجز: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 2. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 3. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 4. وهذا الرد إلى الخالق هو محور العقيدة الإسلامية كلها، ومحور منهجها التربوي كله، ومنه تتفرع كل التشريعات والتنظيمات والتوجيهات، ومنه تسير الحياة البشرية على نهجها القويم. يرتد الناس إلى خالقهم، فيعلمون أنه وحده صاحب القوة والحول، وصاحب الجبروت والسلطان. هو المالك لكل ما في الأرض وكل من في الأرض {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} 5 فلا يتطلعون لأحد غيره، ولا يتعبدون لأحد سواه. ومن ثم تتحرر قلوبهم وأرواحهم، وينطلقون خفافًا إلى الله. ويرتدون إلى خالقهم فيهتدون بهديه ويسيرون على منهجه، ولا يسيرون على نهج أحد آخر ولا قوة أخرى من قوى الأرض، لأنها كلها ضعيفة هزيلة، كلها ضائعة مضيعة. كلها زائلة فانية. والقوة الحقيقية هي قوة الله، والسلطان   1 سورة الإسراء 70. 2 سورة الانفطار 6-8. 3 سورة الانشقاق 6. 4 سورة ق 16. 5 سورة يس 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الحقيقي سلطانه، والمنهج الصحيح منهجه، ومن ثم تصلح نفوسهم وتصلح حياتهم على الأرض. ويرتدون إلى خالقهم فيحسون بقوتهم إزاء كل قوى الأرض. قوتهم التي يستمدونها من قوة الله، فإذا هم قوة فاعلة موجهة مريدة. قوة تبني وتنشئ وتعمر، وتستغل ما سخر لها من قوى الأرض: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1، فلا يقعدها العجز، ولا تضعف بها الوسيلة، وإنما تظل تحاول حتى تصل، مستمدة عزيمتها من الله. ويرتدون إلى خالقهم فيحسون أن منه المنشأ وإليه المصير. كلهم نشئوا من قدرته القادرة، وكلهم صائر إليه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} 2 {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِير} 3 {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُون} 4 ومن ثم يتطلعون إليه وحده في كل أمر، ولا يلجئون إلى أحد سواه. ويرتدون إلى خالقهم فيحسون المشاركة في الإنسانية، فهم جميعًا قد صدروا عن إرادة الله، ثم هم جميعًا خلقوا من نفس واحدة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 5 ومن ثم تصلح نفوس بعضهم تجاه بعض، وتقوم بينهم أواصر الإنسانية والتعاون والمحبة، ولا يقوم بينهم النزاع والشقاق. ذلك باختصار هو الأساس الذي يقوم عليه منهج التربية الإسلامية، وتلك خطوطها العريضة التي سيجيء تفصيلها في الكتاب، وهي كلها مستمدة من حقيقة واحدة: حقيقة الخالق الذي ترجع إليه جميع الأمور. وسوف يتبين لنا في البحث التفصيلي مدى تفرد الإسلام في الأهداف والوسائل، ولكنه منذ اللحظة الأولى واضح التفرد، فكل النظم الأخرى   1 سورة الجاثية 13. 2 سورة الطارق 5-10. 3 سورة ق 43. 4 سورة مريم 40. 5 سورة النساء 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 غير الإسلام أحد فريقين: فريق يصل الناس بخالقهم، ليتركوا الأرض، ومتاع الأرض، وكفاح الأرض. وفريق يصل الناس بالأرض فيستمتعون بها، ويكافحون من أجلها، ويعمرون فيها. ويتركون الله.. والإسلام وحده هو الذي يصل الإنسان بالله ليصلح حاله على الأرض وينظم حياته، فيسير بجسمه على الأرض، وهو متجه بروحه إلى السماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الباب الأول: خصائص المنهج الإسلامي طريقة الإسلام في التربية هي معالجة الكائن البشري كله معالجة شاملة لا تترك منه شيئًا ولا تغفل عن شيء. جسمه وعقله وروحه، حياته المادية والمعنوية وكل نشاطه على الأرض. إنه يأخذ الكائن البشري كله، ويأخذه على ما هو عليه، بفطرته التي خلقه الله عليها، لا يغفل شيئًا من هذه الفطرة، ولا يفرض عليها شيئًا ليس في تركيبها الأصيل. ويتناول هذه الفطرة في دقة بالغة فيعالج كل وتر منها، وكل نغمة تصدر عن هذا الوتر، فيضبطها بضبطها الصحيح. وفي الوقت ذاته يعالج الأوتار مجتمعة. لا يعالج كلًا منها على حدة فتصبح النغمات نشازًا لا تناسق فيها. ولا يعالج بعضها ويهمل البعض الآخر، فتصبح النغمة ناقصة غير معبرة عن اللحن الجميل المتكامل، الذي يصل في جماله الأخاذ إلى درجة الإبداع. وحين يستعرض الإنسان وسائل الإسلام في التربية، يعجب للدقة العجيبة التي يتناول بها الكائن البشري. الدقة التي تتناول كل جزئية على حدة كأنها متفرغة لها، ليس في حسابها سواها، ثم الشمول، على هذا المستوى من الدقة. الشمول الذي يتناول الجزئيات جميعًا، وفي وقت واحد. إنها دقة معجزة لا تصدر إلا عن الخالق المدبر العظيم. {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 1.   1 سورة الروم 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والإسلام دين الفطرة. فما من نظام يعالج الفطرة كما يعالجها الإسلام، أو يستخلص من هذه الفطرة بعد تهذيبها وضبط إيقاعاتها ما يستخلصه الإسلام. إنه لا يعطي كل جانب من الإنسان غذاءه فحسب, بل يعطيه إياه كذلك بالقدر المضبوط الذي لا يجيعه ولا يتخمه، ومن ثم ينطلق الإنسان وقد أخذ حظه من الغذاء الصالح، بمقاديره الصالحة، نشيطًا منتجًا متحركًا على الدوام. وما من نظام آخر يعالج النفس البشرية بهذه الدقة وذلك الشمول. هناك نظم آمنت بجانب واحد من الكيان البشري فراحت تعمل على تغذيته بما تراه صالحًا له. نظم آمنت بالجانب المحسوس من الإنسان والحياة. كل ما تدركه الحواس فهو حقيقة. وما لا تدركه فهو غير موجود، أو ساقط من الحساب. ومن ثم راحت هذه النظم تهتم بكل محسوس على الأرض: الزراعة والصناعة والبناء والتشييد والإنتاج المادي على أوسع نطاق. وتهتم بكل محسوس في الكيان البشري، فحاولت أن تيسر له مأكله وملبسه ومسكنه، ويسرت له قضاء الشهوات. ثم أغفلت من كيانه جانب الروح. أهملت كل ما لا تدركه الحواس. أهملت الله والعقيدة، وما يشع من العقيدة من مثل وأخلاق. وكانت النتيجة أن استمتع الناس بحياتهم الأرضية أعظم متاع، واستفادوا بالتنظيمات من كل نوع: التنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمادية, ثم انهار المتاع كله نتيجة خواء الروح من الإيمان وخواء الحياة من العقيدة. وانقلب المتاع السهل الحلو إلى تكالب على شهوات الأرض يقض المضجع ويكدر الحياة، ويجعلها سباقًا دائمًا لا ينقطع ولا يترك فرصة للراحة: راحة الجسد أو النفس أو الضمير. تزايد الصراع فما عاد صراعًا في باطن النفس، ولا صراع فرد مع أفراد، أو صراع جماعة مع جماعة. وإنما أصبح صراع نفوس وأفراد وجماعات ودول وجيوش وطائرات وصواريخ. ودمار رهيب يهدد وجه الأرض. ونظم آمنت بالجانب الروحي من الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 آمنت بأن هذا الجانب هو الجوهر الحق. وكل ما عداه خداع لا يثبت على حقيقة. زبد يذهب جفاء. وراحت تغذي الروح بما ترى أنه غذاؤها الحق. راحت تتعبد وتتنسك، وترفع الإنسان على ضرورات جسده كلها، وتقهر هذا الجسد لأنه دنس لا تنبغي إطاعته، ورجس لا ينبغي له أن يكون. واستمتع الناس بحياة الروح. سبحوا في ملكوتها الطليق من أوهاق الضرورة، النظيف من أدران الشهوات, وحلقوا في آفاق عليا من الأفكار والمشاعر جميلة كالأحلام. ثم تمرد الجسد المكبوت على خلق الفطرة، وكفر الناس بمتاع الروح. أو أصابتهم السلبية الخاملة التي لا تنتج شيئًا في واقع الأرض، لا تنشئ ولا تعمر، ولا تهدم ولا تبني، ولا تغير الباطل ولا تقيم الصحيح من الأوضاع. كلاهما انحراف عن السبيل. كلاهما ينحرف بالإنسان عن الخلافة الحقة التي أرادها له خالقه يوم قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . الخلافة الراشدة العاملة بفطرة الله ومنهج الله. والإسلام يجمع هذه وتلك، ولا ينحرف كما تنحرف هذه وتلك. الإسلام يؤمن من الكائن الإنساني بما تدركه الحواس، وبما يقع خارج نطاق الحواس. يؤمن بكيانه المادي المحسوس وأنه قبضة من طين الأرض: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين} 1. يؤمن بما لهذا الكيان المحسوس من مطالب، ويؤمن بما فيه من طاقات. ويعترف بهذا الكيان اعترافًا كاملًا لا يغض شيئًا من قيمته، ولا يهدر شيئًا من طاقاته. ييستجيب لحاجاته ومطالبه، فيوفر له المأكل والملبس والمسكن والجنس، ونصيبه من المتاع. ويجند طاقاته لتعمل في تعمير الأرض وإنشاء النظم وتشييد الحضارات. وفي الوقت ذاته يؤمن بالكيان الروحي للإنسان، يؤمن بأن فيه نفخة   1 سورة ص 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 من روح الله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 1. يؤمن بما لهذا الكيان الروحي من مطالب، وما يشتمل عليه من طاقات. فيعطيه ما يطلبه من عقيدة ومثل وصعود وترفع، ويجند طاقاته في إصلاح كيان النفس وإصلاح شرور المجتمع، وإقامة الحق والعدل الأزليين. بأن يصله بالله، يستمد وجوده ووحيه من مولاه. وليس هذا فقط ولا ذاك. ليست مزية الإسلام أنه يشمل الكيان البشري كله ولا يترك شيئًا من جوانبه المتعددة الطاقات. وإنما المزية الحقة أنه يساير الفطرة فيما هو أبعد من هذه الحقيقية. إن كيان الإنسان من جسم وروح، أو جسم وعقل وروح إذا اعتبرنا العقل كيانًا متميزًا عن هذين، هذا الكيان ليس منفصل الأجزاء. إنه ليس جسمًا وحده مستقلًا بذاته لا علاقة له بالروح أو العقل. وليس عقلًا منفصلًا مستقلًا بذاته لا يرتبط بجسم أو روح، وليس روحًا وحدها هائمة بلا رابط من عقل أو جسم. وإنما هو كيان واحد ممتزج مترابط الأجزاء. ولقد أغرى الانفصال الظاهري بعض النظم فتخصصت. تخصصت لعبادة الجسد أو عبادة العقل أو عبادة الروح. ونسيت الكيان المتكامل وأهملته من الحساب. وقد أغرى البحث العلمي المتخصص بطبعه، فقسم الإنسان جسمًا بلا عقل، أو روحًا بلا جسم، أو عقلًا بلا روح. وراح يبحث كل واحد على حدة وهو يوهم نفسه أن هذا هو الإنسان. ولكن الواقع المشهود ليس كذلك. نعم توجد لحظات كأنها لحظة جسد خالصة أو لحظة عقل خالصة أو لحظة روح. كأنها, وليست كذلك في الواقع! واستغراق الإنسان في لحظة من هذه اللحظات هو الذي يوهمه أن هذا الانفصال قائم، وأنه في حيز الإمكان.   1 سورة ص 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 لحظة الروح الخالصة.. أروع لحظة على ظهر الأرض في تاريخها كله, أرفع إشراقة لأعظم روح. لحظة الوحي الذي تنزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضاء روحه الصافية وأضاء وجه الأرض كله كما لم يضئ قط. هذه اللحظة لم تكن لحظة روح خالصة! {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} 1! حتى في تلك اللحظة "الخالصة" تحرك اللسان وهتف هاتف من هواتف النفس، حرصًا على حفظ القرآن أن يذهب من الذاكرة. تحرك الجسم وتحرك العقل في أروع لحظة وأرفع إشراقة لأعظم روح. ولحظة التفكير الخالصة التي يسهو فيها الإنسان عن جسمه وروحه، لا تنسيه جسمه في الواقع إلا نسيانًا ظاهريًا، لأنه في تلك اللحظة ساكن أو مستريح، ولو أحس بالألم في أي جزء من جسمه، لو أحس بالصداع أو أحس بالجوع أو أحس بالعطش لجسمه المهجور! ولحظة الجسد الخالصة التي ينسى فيها الإنسان عقله وتركبه الشهوة الجارفة، ليست طويلة الأمد كما قد يخيل لصاحبها, وهو منهمك في طعام شهي أوشراب شهي أو متاع لذيذ. وهي فوق ذلك ليست خالصة إلا من الظاهر، فالعقل ساكت لأنه ساكن أو مستريح. ولو خطرت للإنسان فكرة مزعجة أو ذكرى غائبة لأيقظته من متاعه "الخالص" ولتغير إحساسه في متاعه لحظات. كل ما يحدث أن لحظة من اللحظات يغلب عليها لون معين من المشاعر، أو يبرز فيها جانب معين من الإنسان. ولكنه لا ينفصل قط عن ترابطه مع بقية الكيان البشري، ولا يستقل بعيدًا عنها في اتجاه. وكما يتصل الكيان النفسي الداخلي بعضه ببعض, حتى مع غلبة جانب من الجوانب في بعض اللحظات، فكذلك يتصل الكيان الخارجي في واقع الحياة. لا يوجد عمل واحد من أعمال الإنسان منفصلًا في حقيقته عن بقية الأعمال، وإن بدا من الظاهر كذلك، أو ظهر غالبًا في بعض الأحيان. حياة الإنسان المادية لا تنفصل عن حياته العقلية وحياته الروحية. ومشاعره الروحيه لا تنفصل عن واقعه المادي.   1 سورة القيامة 16-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وتفكيره العقلي مرتبط بالجميع. تلك حقيقة الكيان البشري. ولكن الذي يرى في الظاهر حين تستغرق الناس مطالبهم المادية أو جهدهم المادي, أو العقلي, أو الروحي, أن الجوانب الأخرى تتوارى مؤقتًا فلا تبرز على السطح. ولكنها لا تقطع الاتصال! إن الكيان النفسي للإنسان كيان مرن متحرك لا يجمد على صورة واحدة. إنه دائم البروز والانحسار. يبرز منه جانب ويختفي وراءه جانب. في حركة دائمة لا تهدأ. ولكن مزيته هي مرونته. المرونة التي تسمح له بالتحول الدائم والتشكل المستمر دون أن يفقد ترابطه أو يتفكك. إنه -والتشبيه مع الفارق- كجسم الأميبا، دائم التشكل ولكنه هو هو في المجموع. وحين يحسب الإنسان أن بروز أحد جوانبه في لحظة من اللحظات معناه انقطاعه عن بقية الكيان الداخلي. أو حين تريد له عقيدة من العقائد أو نظام من النظم أن يحسب كذلك، فالذي يحدث أن الجوانب الأخرى تكبت في الداخل. تكبت ولا تنفصل عن الكيان! فحين توحي عقيدة من العقائد أو نظام من النظم بأنه ليس ثمة روح، أو ليس ثم إليه. وأن الواقع المادي هو الحقيقة الوحيدة "حقيقة العالم تنحصر في ماديته1" وأن الإنتاج المادي والتنظيم الاقتصادي هو كل حياة البشرية, حين ذلك تكبت مؤقتًا جوانب الإنسان الروحية والوجدانية والفكرية. وقد تذبل وتنحسر ويصيبها الشلل فتعجز عن النشاط. ولكنها لا تبقى كذلك إلى الأبد، وإلا مات الشعب وانقرض كما حدث لبعض الشعوب في التاريخ. وكل النظم التي تأخذ جانبًا واحدًا من الإنسان وتفصله عن بقية الكيان تقع في هذه الخطيئة، وتؤدي بشعوبها إلى الهلاك في النهاية بوسيلة من وسائل الهلاك. والإسلام -كلمة الله إلى الأرض- قد سلم من هذه الخطيئة ونجا من ذلك الانحراف. إنه في الوقت الذي يؤمن فيه بكل جوانب الإنسان: جسمه وعقله   1 ذلك شعار المذهب المادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وروحه، ومطالب كل جانب وطاقاته، يؤمن كذلك بوحدة الكيان البشري واتصاله، واستحالة فصل جانب منه عن جانب في الفطرة السوية التي تسير على نهجها الذي خلقه الله. ومن ثم لا يفصل في داخل النفس بين الجسم والعقل والروح. ولا يفصل في واقع الحياة بين هذه الطاقات. بل يأخذها بفطرتها السوية ممتزجة مترابطة، ويرسم لها دستورها على ذلك الأساس. الروح والعقل والجسم كلها كيان واحد ممتزج مترابط اسمه الإنسان. والروح والعقل والجسم كلها تعمل ممتزجة مترابطة في واقع الحياة. ولقد يغلب أحد جوانب الكيان في لحظة وتتوارى بقية الجوانب أو تنحسر. ولكنها لا تنفصل قط وإلا فإنها تموت! اليد وحدها تعمل وتتحرك وتمسك وتدع. ولكنها لا تعمل مستقلة عن بقية الجسم. إنها مرتبطة به بالعروق والدماء والأعصاب. ولو انفصلت لحظة فقدت القدرة على الحياة. وكذلك الكيان كله. كل جزء منه كاليد من الجسم. جزء مستقل في الظاهر، وفي الواقع متصل أوثق اتصال. والإسلام يجاري الفطرة في تركيبها جميعه. يجاريها في السماح ببروز بعض الجوانب أحيانًا وانحسار بعض، فيجعل ساعة للعبادة، وساعة للتفكر، وساعة للعمل، وساعة للاستمتاع. ولكنه يجاريها كذلك في ترابط الجوانب كلها وامتزاجها، فلا يسمح بفصل جانب عن بقية الجوانب، أو إبراز جانب بكبت الجوانب الأخرى في أي وقت من الأوقات. ساعة العبادة ليست تهويمة روح خالصة، وإنما هي حركة جسم وحركة عقل وإنطلاقة روح، والصلاة تظهر فيها بوضوح هذه الحقيقة، فهي تشمل الجسم والعقل والروح كلها في آن1، ثم كل عمل في عرف الإسلام عبادة ما دام يتجه به الإنسان إلى الله. وساعة التفكر -أيًّا كان لونه وهدفه- لا تنقطع عن الإحساس بالله والتفكير فيه. لا تنقطع عن صلتها بالروح.   1 انظر فصل "العبادات الإسلامية" من كتاب "في النفس والمجتمع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وساعة الجسد الخالصة لا يفصلها الإسلام عن الروح! إن كانت طعامًا أو شرابًا فهي باسم الله. والصلة بالله هي صلة الروح. وإن كانت متعة جنس -حلال- فهي كذلك، يقرأ عليها اسم الله. ويقول فيها الرسول الكريم: "إن في بضع أحدكم لأجرًا" , قالوا: يا رسول الله أياتي أحدنا شهوته ثم يكون له عليها أجر؟! قال: "أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال فله عليها أجر" ,1! وكذلك نظم الاقتصاد والإنتاج المادي والتنظيمات "الأرضية" البحتة. لا يعالجها الإسلام منفصلة عن الكيان النفسي في مجموعه. فلا يعترف بأن هناك قوانين اقتصادية منقطعة عن الصلات النفسية والروحية. أو أن هناك قوانين مادية لا تتصل بقوانين الروح! ويقيم تنظيماته كلها على أساس هذه الحقيقة. على أساس الفطرة البشرية الممتزجة المترابطة التي لا ينفصل فهيا كيان عن كيان، ولو غلب جانب من الجوانب في بعض الأحيان. تشريعاته "الأرضية الخالصة" من زواج وطلاق وإرث وتنظيم اقتصادي وسلام وحرب وسياسة غلخ، كلها تقوم على أساس العقيدة، مرتبطة بها ارتباط العقل والجسم بالروح. وكلها تجيء في القرآن ممتزجة بالتوجيه إلى الله وخشيته وتقواه. وتوجيهاته "الروحية الخالصة" ليست مقصودة لذاتها. العبادة الخالصة التي هي غاية الخلق كلهم من جن وإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2 ليست مقصودة لذاتها. فالله سبحانه لا ينفعه ولا يضيره أن يعبده الناس أو لا يعبدوه: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} 3. {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 4. وإنما هو كرم الله سبحانه أن يجعل العبادة -التي هي غاية الخلق- هي الوسيلة لإصلاح   1 رواه مسلم. 2 سورة الذاريات 56. 3 سورة الذاريات 57 4 سورة العنكبوت 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 النفوس وإصلاح الحياة في الأرض. ثم كرمه السابغ سبحانه أن يثيب الناس على العبادة وهي عمل يعمله الإنسان لنفسه، والله غني عنه وعن العالمين1! هكذا يعالج الإسلام النفس البشرية والحياة البشرية: جسم وعقل وروح ممتزجة مترابطة في كيان واحد. وطاقة جسمية وطاقة عقلية وطاقة روحية عاملة في الأرض، ممتزجة مترابطة، لا ينفصل عمل هذه عن تلك، ولا تنحسر واحدة انحسارًا دائمًا لتبرز الأخريات. وهو يصل من هذا المزج إلى نتائج معينة هي التي تحدد سمات "الإنسان الصالح" وتبرزه حقيقة ملموسة في واقع الحياة فالتوقيع على أوتار النفس كلها، مجتمعة مترابطة، يضمن شيئين معًا وفي آن واحد: الأول: هو استغلال طاقات الإنسان كلها، فلا تهدر منها طاقة واحدة يمكن أن ينتفع بها الإنسان في عمارة الأرض والخلافة عن الله. فهذه الثروة المتمثلة في الكيان البشري ثروة ثمينة متفردة في نوعها، عجيبة في النتائج التي يمكن أن تصل إليها. ومن الكفران لنعمة الله -وهو بخس من الإنسان لنفسه في ذات الوقت- أن يهمل شيئًا منها فلا يستغله إلى آخر مداه. من الكفر بأنعم الله ألا يستخدم الإنسان طاقته الحيوية في عمارة الأرض، بالتنقيب عن كنوزها، والتعرف على رزق الله الواسع فيها، واستغلال ذلك كله لترقية الحياة وتنميتها، والوصول بها كل يوم إلى مستوى جديد. ومن الكفر بأنعم الله ألا يستخدم الإنسان طاقته الروحية في التعرف على الله، والاتصال به، والاستمداد من قوته، والاهتداء بهديه، والعمل بمقتضى ذلك كله على ترقية الحياة النفسية وتنميتها، والتعود على الخير، والتعود على الحب، والتعود على الشعور بترابط الإنسانية، ومحاولة إيصال الخير المادي الذي يصل إليه الإنسان بطاقته المادية، إلى جميع البشر، الخلفاء لله في مجموعهم، الشركاء في كل ثمار الحياة. ومن الكفر بأنعم الله ألا يستخدم الإنسان طاقته العقلية في التعرف   1 انظر فصل "العبادات الإسلامية" من كتاب "في النفس والمجتمع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 على أسرار الكون وقوانينه، والتعرف على سنن الله في الكون المادي وفي حياة الإنسان، واستغلال ذلك كله في تنظيم الحياة البشرية وتقويمها، والسير بها على نهجها القويم. ومن بخس الإنسان لقدر نفسه أن يجهل طاقاته أو يهدر بعضهما لحساب بعض. فهو يستطيع دائمًا أن يكون نفسه كلها، وأن يعمل بطاقاته جميعًا في واقع الحياة. يستطيع أن يكون الإنسان العابد لله، المستمد من هداه، ويكون الإنسان المفكر المتعرف على أسرار الكون وقوانينه، ويكون الإنسان العامل بجهده الحيوي لترقية الحياة وتنميتها. ولن يعطله جانب من هذه الجوانب -حين يسير على المنهج السوي- أن يشبع الجوانب الأخرى، أو يستفيد منها إلى غايتها. فهكذا قد خلقه الله قادرًا على هذا النشاط المتعدد، محققًا لكيانه في الاتجاهات كلها، وبهذه الطاقات المتعددة ذاتها منحه الخلافة في هذه الحياة. بل الأمر أبعد من ذلك. فهو حين يستغل طاقاته كلها يكون أجود إنتاجًا وأوفر حصيلة. فهذا المخلوق البشري كالنبع الثر. يفيض بقدر ما تتفتح منه العيون، كلما فتحت عينًا جديدة تدفق المجموع. وهذا واقع الحياة الإسلامية الأولى هو الشاهد على تلك الظاهرة البشرية الفذة، فقد نشطت في كل اتجاه في العلم والعمل والفتح والتنظيم والتشييد، فكان علماؤها هم العلماء، وقادتها هم القادة، ونظامها هو النظام وحضارتها هي الحضارة, ولم تشعر أن نشاطها المادي يمنعها من عبادة الله والاستمداد من هديه، ولا أن عبادة الله تمنعها من الضرب في مناكب الأرض ولا عمارتها، ولا أن هذا وذلك يمنعانها من التفكير العلمي التجريبي، بل كانت هذه الجماعة -كما يقول "جب" وغيره من المستشرقين- هي التي أدخلت الطريقة التجريبية في البحث العلمي. والأمر الثاني أن استغلال هذه الطاقات مجتمعة يحدث توازنًا في داخل النفس وواقع الحياة سواء. التوازن -وهو سمة من سمات الإنسان الصالح- معنى واسع شامل يشمل كل نشاط الإنسان. توازن بين طاقة الجسم وطاقة العقل وطاقة الروح. توازن بين ماديات الإنسان ومعنوياته. توازن بين ضروراته وأشواقه. توازن بين الحياة في الواقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والحياة في الخيال. توازن بين الإيمان بالواقع المحسوس والإيمان بالغيب الذي لا تدركه الحواس. توازن بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية. توازن في النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسة. توازن في كل شيء في الحياة. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 1. وسطًا في كل شيء، متوازنين في كل ما تقومون به من نشاط. هذا التوازن في الحقيقة سمة الكون كله الذي تتوازن فيه كل الأفلاك وكل الطاقات، لا تختل منها واحدة في الكون على اتساعه. وهو كذلك سمة الإنسان الصالح الذي يفي بشروط الخلافة عن الله في الأرض، ويسير حسب منهج الله خالق الكون والإنسان. والوصل إلى التوازن في حياة انسان -المتعدد الطاقات والاتجاهات- ليس أمرًا هينًا في الحقيقة. فهو جهد جاهد يستغرق حياة الإنسان كلها، ويشمل كل لحظة من لحظات هذه الحياة. جهد التوفيق بين الضرورات القاهرة والأشواق الطائرة. جهد التوفيق بين ما يجب أن يكون وما يمكن أن يكون. جهد التوفيق بين مطالب الفرد الواحد المتعددة المتعارضة وبين مطالب المجموع. جهد التوفيق بين العمل للعاجلة والعمل للآجلة. جهد التوفيق بين هذه اللحظة وهذا الجيل وبين جميع اللحظات وجميع الأفراد وجميع الأجيال, جهد جاهد يستغرق كل طاقة الحياة! ومع ذلك فهو هدف يستحق كل ما يبذل فيه من جهد، لأنه يحقق للإنسان في الأرض أقصى ما يستطيعه من سلام وسعادة وإنتاج، في كل حقل من حقول الإنتاج المادي والمعنوي على السواء. وكل ما يصيب الإنسان في الحياة من شر. كل ما يصيبه من قلق أو جزع أو اضطراب. كل ما يصيبه من فساد وبوار وشقوة. هو نتيجة حتمية لفقدان التوازن في داخل النفس، وفقدانه من ثم في واقع الحياة. حين تطغى على الإنسان شهوة من شهواته: شهوة مال أو شهوة جنس أو شهوة قوة أو شهوة سلطان, فذلك اختلال في باطن نفسه، لا يسعده في الحقيقة وإن بدا له في أول الأمر أنه مستمتع وراض وسعيد. وإنما هو   1 سورة البقرة 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 في الواقع في شقوة دائمة لأنه قلق على ما عنده وراغب في المزيد. ثم هو اختلال في واقع الحياة. فكل شهوة زائدة عن الحد لا تجرف صاحبها وحده، وإنما تصيب غيره من الناس في الطريق. تصيبهم بعدوان يقع عليهم لا محالة من هذه الشهوة التي تجاوز الحدود. وحين يجنح الإنسان بطاقة من طاقاته على حساب بقية الطاقات، فذلك اختلال في باطن النفس ينتج عنه اختلال في واقع الحياة. حين يجنح بطاقته الحيوية فيسعى إلى المتاع الزائد عن الحد، أو يجنح بطاقته العقلية فيعيش في برج عاجي بعيدًا عن واقع الحياة. أو يجنح بطاقته الروحية فيهوم في سبحات روحية سلبية لا تتحول إلى عمل وإنتاج في عالم الحس، فلن يكون سعيدًا وهو فرد، لأنه يظل يظلع في مشيته وتختل مواقع أقدامه -لأن الثقل يقع عليها غير متوازن- ولن يكون سعيدًا وهو مجموع، فلا يمكن أن تستقيم حياة جماعة كل همها المتاع الحيواني -وقد انهارت فرنسا حين وصلت إلى هذا المدى من المتاع. ولا جماعة يشتغل مفكروها بالفلسفة المنقطعة عن واقع الأرض- وقد تعرضت أوربا لأعنف الاضطرابات في القرنين الأخيرين، وانتهت إلى الشيوعية في نهاية المطاف، كرد فعل للفلسفة المثالية التي كانت تحلق في أفكارها النظرية الخاوية وتترك جموع البشر يأكلهم الجوع والحرمان والمذلة المهينة لكرامة البشرية. ولا جماعة تعيش في تهويمة الروح السالبة -وقد كانت الهند والصين ترزحان تحت وطأة التأخر والانكماش والضياع حتى بدأتا تتخلصان أخيرًا من هذه التهويمة السالبة وتعيشان في واقع الحياة. لذلك يحرص الإسلام على التوازن ويجعله هدفًا أساسيًا في منهاجه، ويبذل فيه كل ما في الطاقة من جهد, يبدأ فيه مع الطفل من مولده, ويسير فيه مع الإنسان في جميع مراحل نموه، ولا يتركه في لحظة واحدة دون معاونة أو توجيه. وطريقته هي تلك التي أسلفنا: التوقيع على أوتار النفس كلها، مجتمعة مترابطة في آن. فإن ذلك -كما سنرى في الفصول التالية- يؤدي إلى التوازن المنشود حين تتخذ له الوسائل الصحيحة التي يرسمها منهج الإسلام. من خصائص المنهج كذلك -وهي من سمات الإنسان الصالح في ذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الوقت -الإيجابية السوية. فمن نتائج المزج بين طاقات الإنسان كلها وربطها بعضها ببعض، أن يتحول المخلوق البشري إلى طاقة إيجابية عاملة في واقع الحياة. ولكنها الإيجابية السوية التي لا تتنكب الطريق. في الكائن الإنساني استعدادات مختلفة متباينة فيها الموجب وفيها السالب في كل اتجاه. وإذا تركت هذه الاستعدادات وشأنها، كل منها ينمو من ناحيته أو يتوقف عن النمو، فالنتيجة هي اختلال التوازن من جهة، واضطراب السمة التي يتصف بها الإنسان في مجموعه، فهو سلبي أحيانًا وإيجابي أحيانًا، على غير منهج سوي أو هدف مرسوم. والإنسان -كما يريده الله- قوة فاعلة موجهة مريدة، ومن ثم فهو قوة موجبة في واقع الحياة، قوة دافعة إلى الإمام. قوة تسيطر على القوى المادية وتستغلها في عمارة الأرض. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1. قوة يغير الله واقع البشر عن طريقها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 2. قوة تنشئ واقعها حسب المنهج الذي تؤمن به، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتقيم بنفسها نظامها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 3. قوة إيجابية ... ولكن بغير طغيان. والطغيان -بكل أنواعه- هو المنزلق السهل أمام الإيجابية الفاعلة. يطغى الإنسان على نفسه فيكبت بعض طاقاتها ليبرز بعضها الآخر. يكبت طاقة الروح ليبرز طاقة الجسم أو طاقة العقل. يكبت معنوياته ليبرز جوانبه المادية، ويحقق كيانه عن طريق الإنتاج المادي. ويطغي الإنسان على غيره، فيعطي نفسه حقوقًا لا يعطيها للآخرين. يعتبر نفسه -فردًا أو شعبًا- من عنصر ممتاز يحق له أن يستعبد الآخرين ويخضعهم لسلطانه. يحق له أن يسلبهم كراماتهم وحرياتهم ومقومات حياتهم،   1 سورة الجاثية 13. 2 سورة الرعد 11. 3 سورة آل عمران 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 لينتفش بها وحده ويتضخم. أو يحق له أن يصنع كما يشتهي، يقرر حقوقه كما يتراءى له، ويقرر واجباته بنفسه -إذا رأى أن تكون عليه واجبات! - ولا يعنيه ترابط المجتمع ولا الخلل الذي يطرأ عليه حين يصنع كل فرد فيه ما يريد حينما يريد. تلك نماذج من الإيجابية المختلة. وفي مقابلها.. سلبية مريضة. يكون الإنسان سلبيًا مع نفسه، فيطلق لها عنان الشهوات، لأنه لا يملك القوة الضابطة -القوة الموجبة- التي يضبط بها نوازع الشهوة. ويكون سلبيًا مع غيره. سلبيًا إزاء القوى المادية والاقتصادية والاجتماعية. سلبيًا إزاء العرف والعادات والتقاليد. سلبيًا إزاء سطوة المجتمع أو جموده أو القوى المسيطرة عليه. ومن ثم يضيع كيانه الفردي وينسحق تحت ما يقع عليه من ضغوط. كلاهما اختلال لا يليق بخليفة الله في الأرض! وكلاهما اختلال ينشأ من سوء التربية وسوء التوجيه، ينشأ من التوقيع على بعض أوتار النفس دون بعضها الآخر. أو ينشأ من التوقيع على بعضها بالنغمة النشاز. فحين يكون التوقيع على النزعة الفردية وحدها أو النزعة الجماعية.. أو حين يكون على الجانب المادي وحده أو الجانب الروحي. أو حين يكون على الطاقة المحركة وحدها أو الطاقة الضابطة. فالنتيجة هي الإيجابية المختلة هنا أو السلبية المختلة هناك. وكذلك حين يكون التوقيع على إحدى هذه الطاقات بأكثر ما ينبغي لها، بحيث تطغى على ما يقابلها من طاقات. والإسلام يريد الإنسان قوة إيحابية فاعلة، ولكنها سوية, وطريقته هي ذاتها التي أسلفنا: التوقيع على الأوتار كلها، مجتمعة مترابطة في آن. ومن خصائص المنهج كذلك -ومن سمات الإنسان الصالح في ذات الوقت- الواقعية المثالية أو المثالية الواقعية. الإسلام يأخذ الكائن البشري بواقعه الذي هو عليه. يعرف حدود طاقاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ويعرف مطالبه وضروراته، ويقدر هذه وتلك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا} 1. {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} 2. ويعرف ضعفه إزاء المغريات: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} 3. وضعفه إزاء التكاليف: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 4. يعرف كل ذلك فيساير فطرته في واقعها، ولا يفرض عليه من التكاليف ما ينوء به كاهله ويعجز عن أدائه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 5. ويجعل التكليف الملزم في حدود الطاقة الممكنة. ولكنه مع ذلك لا يتركه لفطرته الضعيفة دون تقويم، فتظل تهبط وتتراجع عن موقفها إلى موقف دون. كلا! إنه في واقعيته يأخذ الواقع الأكبر للإنسان، الواقع الذي يشمل لحظة الضعف ولحظة القوة. لحظة الهبوط ولحظة الارتفاع. إن مزية الإنسان الكبرى هي هذا الاستعداد الدائم للصعود. الاستعداد لأن يتفوق على نفسه، ويرتفع على "الواقع" ليبلغ المثال. وقد لا يبلغه في كل مرة. بل قد لا يبلغه في أية مرة! ولكنه يظل يحاول -ما دام يوجه إلى الطريق- وفي محاولته تلك يرتقي ويرتفع في الآفاق. وتمر على هذا الإنسان لحظات معجزة يحقق فيها انتصارات رائعة على نفسه وعلى كل قوى الأرض المحيطة به، ذلك حين يرتفع إيمانه بالطاقات التي وهبها له الله، فيحاول أن يحقق كيانه كاملًا كما أراده له الله. وهذه اللحظات "واقع" وإن كانت هي "المثال". والإسلام -وهو يجاري واقع الفطرة بما فيه من ضعف وطاقة محدودة- لا يفغل عن تلك الطاقة المكنونة التي تحقق المثال. ومن ثم يسير في نهجه على واقعية تشمل المثال في أطوائها، ومثالية لا تغفل واقع الحياة!   1 سورة البقرة 286. 2 سورة التغابن 16. 3 سورة آل عمران 14. 4 سورة النساء 28. 5 سورة الحج 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 تلك أبرز الخصائص في المنهج الإسلامي، وهي بذاتها أبرز سمات الإنسان الصالح الذي يسعى المنهج لتحقيقه في واقع الأرض: الشمول والتكامل. التوازن. الإيجابية السوية. الواقعية المثالية. وفيما يلي من الفصول تفصيل لهذه الخصائص وهذه السمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الباب الثاني: منهج العبادة من أبرز سمات المنهج الإسلامي أنه منهج عبادة، ولكن العبادة في هذا المنهج تحتاج إلى توضيح. فهي ليست قاصرة على مناسك التعبد المعروفة من صلاة وصيام وزكاة. وإنما هي معنى أعمق من ذلك جدًّا. إنها العبودية لله وحده. والتلقي من الله وحده في أمر الدنيا والآخرة كله. ثم هي الصلة الدائمة بالله في هذا كله. وهذه الصلة في الحقيقة هي منهج التربية كله، تتفرع منه جميع التفريعات وتعود في النهاية كلها إليه. والصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر الشعائر التعبدية، إن هي إلا مفاتيح. مجرد مفاتيح للعبادة، أو"محطات" يقف عندها السائرون في الطريق يتزودون بالزاد، ولكن الطريق كله عبادة، وكل ما يقع فيه من نسك أو عمل، أو فكر أو شعور فهو كذلك عبادة.. ما دامت وجهته إلى الله. ما دام قد شهد حقًّا -لا باللسان- أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقام حياته كلها وواقعه كله على هذا الأساس. والعبادة بهذا المعنى تشمل الحياة. إنها لا تقتصر على اللحظات القصيرة التي تشغلها مناسك التعبد. وما كان هذا هو القصد من الآية الكريمة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. وإلا فما قيمة لحظات عابرة في صفحة النفس وفي صفحة الكون، لا تكاد تترك لها أثرًا وتضيع في الفضاء؟ إنما قيمتها أن تكون منهج حياة يشمل كل الحياة. قيمتها أن تكون خطة سلوك وخطة عمل وخطة فكر وخطة شعور، قائمة كلها على منهج واضح، يتبين فيه -في كل لحظة- ما ينبغي وما لا ينبغي أن يكون.   1 سورة الذاريات 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ومرد الأمور كلها في ذلك هو الله، هو المرجع الذي يرجع إليه في كل أمر، ودستوره هو الدستور الذي يستشار في كل لحظة، يستشار في داخل القلب وفي وعي العقل وفي واقع السلوك. وإيجاد الصلة بين القلب البشري وبين الله، الصلة الدائمة التي تدفع القلب إلى الرجوع لله في كل لحظة، واستشارة دستوره في كل أمر، هو القاعدة الرئيسية للتربية الإسلامية، التي بها يتم كل شيء، ومن دونها يصبح كل شيء خواء. والإسلام يتخذ لهذا الهدف كل وسيلة من الوسائل الموصلة، بالتوقيع على كل وتر من أوتار النفس كما أسلفنا، وربط هذا التوقيع بالله، وسيأتي في الفصول القادمة تفصيل شامل لهذه الطريقة، وخاصة في "تربية الروح". ولكننا هنا -ونحن بصدد القواعد العامة للمنهج- نقرر هذه الخصيصة التي يتميز بها المنهج الإسلامي على غيره من المناهج. بعض مناهج التربية يربط القلب البشري ببقعة من الأرض معينة، وبعضها يربطه بفرد من الناس معين، وبعضها يربطه بأسطورة من الأساطير، ثم يكون المنهج كله قائمًا على هذه القواعد، فيصطبغ العمل والشعور والفكر والسلوك بهذه الصبغة، ويتجه كله في هذا الاتجاه، ثم نيشأ الفرد على "فضائل" بعينها مستمدة من هذه القاعدة، نابعة من مفاهيمها، متمشية مع صالحها. ولا شك أن في هذه الفضائل قدرًا من الفضائل "المطلقة" التي تلتقي عندها البشرية، فمهما ضلت البشرية وانحرفت فإنها -ببصيرتها التي وهبها الله لها- تهتدي إلى قدر من "الحق" قليل أو كثير. ولكنها غالبا ما تكون فضائل "محلية" أو "إقليمية". وليس من بينها فضائل "إنسانية" حقًّا إلا ما كان نابعًا من العقيدة في الله، مستمدا من دستوره الذي ارتضاه. وخذ لذلك مثلًا مناهج التربية الأوربية، وخذ من بينها أفضلها جميعًا في نظر كثير من الناس: التربية الإنجليزية. إنها تنشئ الفرد على كثير من الفضائل: لا يسرق ولا ينهب ولا يغتصب ولا يكذب ولا يغش. استقامة جميلة في الطبع والمعاملة. استقامة مريحة تثير الإعجاب. وميل إلى التعاون ونبذ للأنانية وإحساس بالصالح "العام" وتضحية بشيء من الصالح الخاص في هذا السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 كل ذلك نعم! ولكنه في حدود بريطانيا! في حدود القومية البريطانية! فإذا انتقل هذا الرجل الإنجليزي قيد شعرة خارج الحدود البريطانية، خارج الوثن الذي ربي على عبادته، وقام منهج التربية كله على أساسه، فهنا يفجؤك منه شخص آخر لم تعهده من قبل! الأنانية البغيضة والجشع الكريه. الغش والخداع والكذب والدسيسة، والغصب والسلب والنهب، وإيثار الصالح الخاص على كل قيم إنسانية أو صوت للضمير! لماذا؟ هل تغير؟ كلا. وإنما هو ما يزال مخلصا للوثن الذي يتعبده؛ ولم يكن قط مخلصا "للإنسانية" لأنه لم يترب تربية إنسانية. ولم يكن قط مخلصًا لله، لأن قاعدة ترقيته لم تكن الاتصال الحقيقي بالله. ذلك مثل يبين الفارق الحاسم بين منهج التربية الإسلامية ومناهج التربية غير الإسلامية، ويبين في الوقت ذاته لماذا يحرص الإسلام -كلمة الله إلى "الإنسان" عامة- على أن يقيم منهجه التربوي على أساس العبادة -بمعناها الشامل الواسع- وعلى أساس الصلة الدائمة بالله. إنه لا ضمان للخير الحقيقي في هذه الأرض إلا بعقد الصلة الحية الواصلة بين القلب البشري والله. لا ضمان لإقامة الحق والعدل الأزليين إلا بالتقاء البشر كلهم عند خالقهم، ومن ثم استشعار الرابطة الإنسانية الحقيقية التي تربط الجميع. وإذ يدرك الإسلام هذه الحقيقة فإنه يجعل العبادة هي القاعدة الكبرى، ويستمد منها نظام الحياة كله. الفرد في خلوته. والناس في جمعهم. في وقت التعبد وفي وقت العمل. في وقت التعامل في تجارة أو صناعة أو سياسة أو حرب أو سلم. في وقت المودة وفي وقت الخصومة. في كل لحظة من هذه الحظات يربي الإسلام الفرد على أن تكون صلته بالله، وتعامله مع الله، وخشيته من الله، وحبه لله، ورجوعه إلى منهج الله. وهذه هي العبادة في مفهوم الإسلام. ليس معناها أن يتزهد الإنسان ويتنسك ويترهبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وليس معناها أن تستولي التقوى على قلبه في السجود والركوع، فإذا ختم صلاته هبت في داخل نفسه نوازع الطمع والجشع والعدوان. أو تخاذل عن القيام بالأمانة. أو ضعف عن نصرة الحق. أو تواكل عن العمل المنتج في عالم الحس. كلا! فما هو إذن موصول القلب بالله. إنه "متسكع" في "محطة العبادة" ولكنه لا يسير في الطريق. والعبادة هي السير في الطريق، مع الترود بين الحين والحين؛ السير في الطريق والقلب يحمل الشحنة الحية الواصلة، التي تدفع للعمل.. تدفع دائمًا إلى الإمام. والإسلام يحرص حرصًا شديدًا على هذه الشحنة الحية التي تعبئ القلب، فتكون الهادي له في الطريق. تهديه وهو في خلوته يفكر ويشعر، وتهديه وهو قائم يعمل بيديه وجسمه، وتهديه وهو يلقى إخوته في البشرية ويتعامل معهم. تهديه وتضيء له كالقبس ظلمات الطريق فلا يتعثر. وإن تعثر لا يجثم في عثرته، وإنما ينفض عنه التراب ويقوم، ما دامت الشحنة حية تضيء. والإسلام صريح في اعتبار العمل هو العبادة، ما دام القلب يتجه فيه إلى الله. {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1. هذا هو منهج العبادة الذي يرسمه الإسلام ويقيم عليه أسسه التربوية. ويشترط فيه الصدق مع الله، والتقوى لله، أي: الصلة الدائمة بالله. وفيما يلي من الفصول بيان لطريقة الإسلام في ربط القلب البشري بالله.   1 سورة البقرة 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الباب الثالث: تربية الروح ما هي الروح؟ شيء مبهم غامض ليست له حدود! وهذا الإبهام في طبيعة الروح، والغموض الذي يحيط بها، والعجز عن إدراك كنهها، هو الذي أغرى الماديين في العصور الحديثة أن يهملوها إهمالًا ويسقوطها من الحساب. كل ما لا تراه الحواس -في نظرهم- فهو غير موجود! والروح لا ترى بالحواس. فهي إذن شيء ليس له وجود!. ولكن ألدوس هكسلي يرد عليهم في هذا الأمر، رغم أنه لا يؤمن بالدين، فيذكرهم بحقيقة ينسونها وهم يجادلون: "إنه لم يعد لنا مناص من الاعتراف بأن بعض البشر مزود بالقدرة على استشفاف المجهول بطريقة خارجة عن نطاق الحواس. وإن جهلنا بالطريقة التي يتم بها هذا الاستشفاف لا يبرر إنكارنا له. فإنه لا يزيد على جهلنا بالطريقة التي تتم بها عملية الإدراك وعملية التذكر. من منا يستطيع أن يعرف كيف تتم معجزة الإدراك؟ أو التذكر؟ كذلك نحن لا نعلم كيف يتم الاستشفاف. ولكنه رغم ذلك حقيقة علمية". إن ألدوس هكسلي لا يسير معنا الطريق كله. ولكنه يسير نصف الطريق. يقرر أن هناك طاقة مجهولة في الإنسان يقدر بها على الاستشفاف، ويقرر كذلك أن جهلنا لكُنه هذه الطاقة لا يعني أنها غير موجودة في الواقع. فهي موجودة رغم هذا الجهل. وهي حقيقة علمية. وأهم من ذلك أنه يقرر أننا اعترفنا من قبل بوجود طاقات بشرية أخرى رغم أننا نجهل كنهها تمام الجهل، كعملية الإدراك وعملية التذكر. وذلك نصف الطريق! فهكسلي يقصر هذه القدرة على الاستشفاف، ثم يقصرها على "بعض" الناس فقط، ولا يجعلها طاقة "بشرية" أصيلة. ولكن حين ينظر الإنسان إلى الاتجاه المادي الغارق في المادية، الذي يسيطر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 تفكير الغرب ومشاعره، يجد أن هذا الاعتراف من رجل لا يؤمن بالعقيدة، يعد في الواقع تقدمًا كبيرًا نحو الفهم الصحيح للإنسان، الفهم الذي قررته العقيدة منذ أقدم الأزمان! الروح طاقة مجهولة.. مبهمة، غامضة، محجوبة عن الإدراك. ومع ذلك فهي حقيقة! وإذا كنا نظن أن عملية الإدراك أو عملية التذكر عملية "محسوسة"، ومن أجل ذلك نؤمن بوجودها الواقعي، فنحن مخطئون في هذا الظن، فهي في الحقيقة ليست محسوسة في ذاتها! وإنما نحن ندرك نتائجها، ووضوح الإحساح بنتائجها هو الذي أغرانا بذلك الظن الخاطئ، كما أنه هو الذي أدخل في وهمنا أننا "نعرف" كيف يتم الإدراك وكيف يتم التذكر! أما الحقيقة فهي أننا لا نعرف كنه هذه العملية ولا تلك، ونكتفي منهما بالنتائج التي تدركها الحواس! ولو تدبرنا الأمر لوجدنا الطاقة الروحية كذلك! إنها مجهولة في كنهها، مبهمة، غامضة، محجوبة عن الإدراك. ولكن نتائجها ليست مجهولة، ولا محجوبة عن الإدراك. ونحن لو حاولنا أن نعرف عملية التذكر، فلن نجد إلا لفظة واحدة نشرحها بها! سنقول إنها عملية التذكر! ولو حاولنا أن نعرف عملية الإدراك، فلن نجد إلا اللفظة ذاتها أو ما يرادفها، وسنقول إنها عملية إدراك! ولكننا سنقول عن الروح: إنها الطاقة التي يتصل بها الإنسان بالمجهول.. بالغيب المحجوب عن الحواس! الاستشفاف "عملية" من عمليات الروح. والحلم التنبؤي عملية من عمليات الروح. والتخاطر عن بعد "التليباثي" كحادثة عمر الشهيرة مع سارية، حين ناداه على بعد ألوف الأميال: يا سارية الجبل! الجبل! فسمعه سارية ونجا من الكمين وانتصر ... هذا التخاطر عملية من عمليات الروح. وهي كلها عمليات جليلة عظيمة باهرة معجزة.. يقف الإنسان حائرًا أمامها، مبهوتًا من العجب والإعجاب! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ولكنها مع ذلك عمليات جانبية ... إنما الوظيفة الكبرى للروح، هي الاتصال بالله. كيف يتم هذا الاتصال؟ كيف يتم التليباثي، والاستشفاف، والحلم التنبؤي؟ لا ندري. كما أننا لا ندري كيف يتم الإدراك والتذكر. ولكنه يتم على أي حال! الروح؛ تلك الطاقة المجهولة التي لا نعرف كنهها ولا طريقة عملها, هي وسيلتنا للاتصال بالله. وهي مهتدية إلى الله بفطرتها. إنها من روح الله التي أودعها قبضة الطين: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} 1.. ومن ثم فهي بذاتها تهتدي إلى خالقها، وتتصل به على طريقتها: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 2. تهتدي إليه كما يهتدي كل شيء من خلق الله، بفطرته، دون كد ولا تعب ولا جهد في الاهتداء: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 3. كل ما في الأمر أن الله قد كرم هذا المخلوق البشري: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 4. ومن آيات هذا التكريم أن جعل للإنسان فؤادًا واعيًا: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَة} 5 فجعل عملية الهدى عملية واعية يشترك فيها الفؤاد البصير، فتفترق بذلك عن الطاعة التي يمارسها الجماد والنبات والحيوان. ومع ذلك فالإنسان يضل. يضل حين تنحرف فطرته ويصيبها المرض ... يضل فلا يهتدي إلى الله، ولا يصل بروحه إليه، ولا يستمد منه، ولا يلجأ إلى حماه. على أنه حتى حين يضل، حين تتغبش روحه فلا تستطيع أن تشف، حين   1 سورة الحجر 29. 2 سورة الأعراف 172. 3 سورة طه 50. 4 سورة الإسراء 70. 5 سورة السجدة 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 يغشيها ركام الشهوات فيحجب عنها النور. حتى حينئذ تظل بقية من الفطرة -برغم ضلالها- تتجه إلى خالقها، كما تتجه العين الكليلة إلى الضوء، لا تراه كله، ولكنها لا تعمى عنه. فيعبد الناس الله ويشركون به غيره من الكائنات {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 أو يعبدون قوة -ما- يزعمون أنها الله. ولكنهم -فيما عدا الشذوذ الذي لا يحسب له حساب- لا ينكرون وجود خالق لهذا الكون قوي مسيطر مريد. ومهمة العقيدة هي مساندة الفطرة وتوجيهها وجهتها. مهمتها أن تساعد الفطرة في الاهتداء إلى الله.. الاهتداء الذي هو كامن في كيانها ولو حجبتها عنه الأمراض. مهمتها أن تطلق الروح من إسارها.. لكي ترى الله. والإسلام يعني عناية خاصة بالروح. إنها في نظره مركز الكيان البشري ونقطة ارتكازه.. إنها القاعدة التي يستند إليها الكيان كله ويترابط عن طريقها. إنها المهيمن الأكبر على حياة الإنسان. إنها الموجه إلى النور. يكفي أنها صلة الإنسان بالله. والإسلام -في عنايته الفائقة بتربية الروح- هو دين الفطرة. فالحق أن الطاقة الروحية في الإنسان هي أكبر طاقاته، وأعظمها، وأشدها اتصالًا بحقائق الوجود. طاقة الجسم محدودة بكيانه المادي وبما تدركه الحواس. وطاقة العقل أكثر طلاقة، ولكنها محدودة بما يعقل. محدودة بالزمان والمكان. بالبدء والنهاية. ومحكومة بالفناء. وطاقة الروح -وحدها- في كيان الإنسان، هي التي لا تعرف الحدود والقيود. لا تعرف الزمان والمكان. لا تعرف البدء والنهاية. لا تعرف الفناء.. هي وحدها التي تملك الاتصال بما لا يدركه الحس ولا يدركه العقل. هي   1 سورة الزمر 3. 2 سورة الزمر 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وحدها التي تملك الاتصال بالخلود الأبدي والوجود الأزلي.. تملك الاتصال بالله. كما أنها هي التي تملك الاتصال بالوجود كله من وراء حواجز الزمان والمكان. كيف؟ لا نعلم! لكنا نحس! نحس بإشراقة الروح الصافية التي تشمل الحياة كلها في ومضة وتشمل الآباد والآماد. نحس بسبحة الروح الطليقة التي تجوب آفاق الكون وتتصل بكل حي فيه، والكون كما يقول العلم كله حياة! نحس بتلك اللحظة الدقيقة العجيبة العظيمة الرائعة، التي يرتعش فيها الكيان كله، ويحس في أعماقه أنه يرى الله! وقد كان طبيعيًا إذن أن تهتم العقائد كلها بأمر هذه الروح. وكان طبيعيًا أن يهتم الإسلام خاصة بهذه الطاقة، وهو الذي جعل منهجه الاهتمام بالطاقات البشرية كلها، وإعطاءها حقها من الرعاية والتوجيه. طريقة الإسلام في تربية الروح هي أن يعقد صلة دائمة بينها وبين الله، في كل لحظة وكل عمل وكل فكرة وكل شعور. إن الإنسان -بطبيعته- قد تشرق روحه لحظة. قد تأخذه روعة الصبح الوليد مرة، وهو يتنفس كمن يصحو من سباته. قد تأخذ بلبه الليلة المقمرة، فينتشي بشعرها المهموس، وأطيافها الراقصة، وظلالها المسحورة. قد تأخذه ضخامة الكون وانتظام سننه ودقة نظامه. قد تروعه حادثة مفاجئة فتهز نفسه وتوقظه لعالم الغيب ومدبر الأمور. وكل ذلك جميل. ولكنها لحظات منقطعة لا دوام لها ولا استقرار. لحظات خاطفة لا تلبث -بزوال مؤثرها- أن تزول. والإسلام لا يريد ذلك. لا يريد لهذه الإشراقة الروحية أن تنطفئ. لا يريد لها أن تخنس وتخبو. لا يريد أن يغشي صفاءها شيء أو يحجبها عن انطلاقها في الآفاق. ومن ثم لا يكتفي بتلك اللحظات الفائقة التي تجيء عرضًا ولا تلبث أن تزول، لا تكاد تترك لها أثرًا في النفس، ولا تسيرها على منهج واضح أصيل. إنما يريد الإسلام أن يجعل هذه الإشراقة منهج حياة! يريد أن يذكي الشعلة المقدسة فتظل على الدوام مضيئة. يريد أن تظل القبسة التي يشتمل عليها الإنسان من روح الله، مشعشعة واصلة لنبعها الأصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يريد ألا تكون الطلاقة فلتة عابرة، وإنما تكون هي الأصل، والقعود عنها هو الفلتات! وحين يصنع الإنسان ذلك فهو لا شك يحقق أرفع ما في كيانه، ويصل إلى ما يشبه المعجزات. ومع ذلك ففي الإسلام تتجلى رحمة الله بعباده.. إنه لا يريدهم على المستحيل. وهو يعلم أن الطلاقة الدائمة الكاملة بالنسبة للبشر مستحيل فقبضة الطين لها ثقلة. ودفعة الشهوة لها قوة. وثقلة المادة لها ضغط. ومن ثم يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1. ويقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 2. ولكنه لا يقول -كما تقول المذاهب "الواقعية" المنحرفة، المذاهب التي تؤمن بحيوانية الإنسان وماديته3- لا يقول: أيها البشر، ما دامت فيكم ثقلة الطين ودفعة الشهوات وضغط المادة، فلا فائدة من رفعتكم، ولا أمل في انطلاقكم. فاجثموا حيث أنتم على الأرض؛ كلوا وتمتعوا كما يتمتع الحيوان! كلا. لا يقول ذلك، لأنه -وهو دين الفطرة- يؤمن بكل ما تحتويه الفطرة من طاقات، ويؤمن أولًا بطاقة الروح وقدرتها الفائقة على التحليق والانطلاق. وهو -في واقعيته الكاملة التي تحسب حساب الضعف البشري- لا يكف أبدًا عن المحاولة؛ لا يكف عن النفخ الدائم لإذكاء شعلة الروح. لأن هذا هو الطريق الوحيد للرفعة، والطريق الوحيد لموازنة ما يهبط بالنفس من أثقال. والطريق -كما أسلفنا- هو عقد الصلة الدائمة بين الإنسان والله. ويستخدم لذلك وسائل شتى. فهو من ناحية يثير حساسية القلب بيد الله المبدعة في صفحة الكون، لتحس دائمًا بوجود الله، وقدرته المطلقة التي ليست لها حدود.   1 سورة التغابن 16. 2 سورة البقرة 286. 3 انظر "معركة التقاليد" فصل "حقائق وأباطيل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ومن ناحية يثير حساسية القلب برقابة الله الدائمة عليه. فهو مع الإنسان أينما كان، وهو مطلع على فؤاده، عالم بكل أسراره، وبما هو أخفى من الأسرار. ومن ناحية يثير في القلب وجدان التقوى والخشية الدائمة لله، ومراقبته في كل عمل وكل فكرة وكل شعور. ومن ناحية يثير فيه الحب لله، والتطلع الدائم إلى رضاه. ومن ناحية يبعث فيه الطمأنينة إلى الله في السراء والضراء، وتقبل قدره بالتسليم والرضاء. والهدف في النهاية واحد: هو وصل القلب البشري بالله. الكون آية الله الكبرى، ومعرض قدرته المعجزة التي تبهر العقول. ولكن الإلف والعادة يفسدان روعة التطلع لآية الكون، وروعة الإحساس بها جياشة واصلة إلى الأعماق. الحواس تتبلد لما ترى وما تسمع، فتمر بكل شيء كأنه لا وجود له، وتنسى -بحكم التعود- أن كل شيء حولها آية للقدرة المبدعة الخالقة التي تبدع كما تريد. الليل والنهار متعاقبين متكورين على الأرض، مختلفين في الطول باختلاف الفصول واختلاف المكان. الشمس الطالعة الغاربة في كل يوم لا تكف يومًا عن الطلوع أو تكف يومًا عن الغروب. النجوم المتلألئة في ظلمة الليل كأنها عيون توصوص في الظلمة وتتناجى على ما بينها من أبعاد. القمر الذي يبدأ زيقة صغيرة لا تكاد ترى، ويظل يكبر حتى يمتلئ وجهه بالنور، ويغمر الأرض بنور رائق شفاف حالم هادئ جميل، ثم يتناقص حتى يعود كما بدأ زيقة لا تكاد ترى. ثم يختفي في المحاق. الحياة النابتة في الشطأة الصغيرة التي تفتح الأرض بقوة فتشقق عن ورق أخضر صغير جميل. الحياة النابتة في الطائر الصغير والحيوان الضئيل وهو يدرج وراء أمه تزققه أو ترضعه أو تغذوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الحياة المنبثة في تضاعيف الكون "الميت" لظاهر العين، وهو في حقيقته طاقات حية متحركة على الدوام. النظام المذهل في روعته، المذهل في دقته، الذي يسير عليه الكون كله، فلا يختل منه كوكب واحد، ولا يخرج عن مساره قيد أنملة في الزمان الطويل الذي يقدر بالبلايين والبلايين من السنين. الزمن ذاته! كنهه وحقيقته، وطريقة إدراكه! المخلوق البشري المعجز بكل ما فيه من أجهزة دقيقة وطاقات. "العمليات" الجسمية، و"العمليات" الفكرية، و"العمليات" الروحية في كيان الإنسان. امتزاجه وترابطه المحكم الشامل الدقيق الذي يجمع كل طاقاته ويوحد بينها في كيان. آيات كلها من آيات الله في الكونِ. كل منها معجز. وكل منها هائل. وكل منها مثير. ولكنها لطول الإلف والعادة يمر بها الإنسان دون وعي ودون تفكير. والإسلام -وهو يربي الروح- يعمد إلى هذه الآيات، فيبث فيها الحياة: فالقرآن حافل بهذه الدعوة للإنسان أن يفتح بصيرته على آيات الله في الكون، ويستشعر من ورائها يد القدرة القادرة الخلاقة المبدعة. في أسلوب أخاذ يأخذ بمجامع النفس، ويوقظها من إلفها وعادتها، فتتفتح للكون كأنه جديد. وللقرآن في هذا الجانب قدرة عجيبة. فإيقاظ النفس من إلفها ليس مهمة ميسرة! الإلف جزء من كيان النفس، يؤدي لها مهمة ضرورية لا محيص عنها. فلا بد أن تألف النفس والحواس والأعصاب ألوانًا معينة من التجارب والأحاسيس والأماكن والأشياء. لكي تنطلق إلى تجارب جديدة وأحاسيس جديدة وأماكن حديدة وأشياء جديدة. ولولا الإلف والعادة لقضى الإنسان حياته كلها يتعلم النطق مثلًا، أو يتعلم القراءة أو الكتابة أو الحساب! أو يشغل أعصابه بالعادي من الأمور، فلا تبقى فيها طاقة لتحمل شيء جديد. تلك وظيفة الإلف والعادة في كيان النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ولكنهما في أحيان كثيرة يتجاوزان وظيفتهما، فيطغيان على كل مساحة النفس، فتتلبد المشاعر، وتغلق البصائر، وتجمد الأفكار! عندئذ يصبح الإلف عائقًا عن التقدم، معطلًا عن الطلاقة، مجمدًا للكيان. وعندئذ لا بد من إيقاظ النفس من سباتها لتتفتح و"تستنشق" الحياة! وحين يحدث التفتح فإنه يحدث أعجب الأثر في الكيان البشري. إنه يشبه -مع الفارق- ذلك النشاط الحي الذي يحس به الإنسان في أعضائه حين يخرج من الغرفة المقفلة الفاسدة الهواء، فيتلقى النسيم المنعش على صفحة وجهه ويستنشقه إلى أعماقه. إنه يتجدد, يتجدد حقيقة, حسًا ومعنى. وينطلق في خفة نشيط الحركات. والتفتح النفسي يشبه ذلك الأثر ولكنه أعمق وأشمل وأروع. إنه يهز الكيان النفسي كله ويوقظه وينشطه ويجدد حياته. كل فكرة تمر به جديدة. وكل إحساس يخطر له جديد. وكل تجربة يمر بها فهي حية. حية تطلق شحنة من النشاط وطاقة من الإشعاع. وما أعجب كل شيء يحدث لأول مرة! إنه تجربة نفسية رائعة حية ... كأنها لمسة رفيقة تلمس طرف عصب مكشوف، فيتفزز ويتأثر، وينقل اللمسة إلى مركز الحس بكامل وقعها وكامل تدفقها. إنها عملية جميلة ممتعة. تملأ الحياة ثراء وسعة ومتاعًا متجددًا على الدوام. ولو استطاع الإنسان أن يعيش كل شيء كأنما يحدث لأول مرة! إذن لاستطاع أن يحس بالشباب الدائم الذي لا يدب إليه العجز ولا الشيخوخة ولا الفناء! ولكنها عملية عسيرة. فمطالب العيش الدائمة، وزحمة الحياة، وقصر العمر، ووفرة المشكلات.. كلها تستنفد الطاقة وتستنفد الاهتمام. ومع ذلك فالقرآن يصنع هذه العجيبة! إن أسلوبه الساحر، وجوه المشرق، وروحه الصافية، لتنقل الإنسان نقلًا من إلفه وعادته، وتهزه ليستيقظ، تلمس -برفق- أعصابه المكشوفة! فتعطيه الشحنة كاملة، ينقلها إلى مركز الحس بكامل وقعها وكامل تدفقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ومن ثم يعيش الأشياء كأنها تحدث لأول مرة، ويستمتع بسحر هذه الجدة ومتاعها العجيب. والإنسان يعيش في القرآن مع الكون في لقاء دائم جميل حبيب. لقاء يلذ النفس ويمتع الحس ويطلق الروح.. نشيطة طليقة تسبح لله. والقرآن في ذاته كتاب جميل ممتع، لا ينتهي منه قارئه حتى يجب أن يعود من جديد. ومن ثم كان اللقاء متجددًا في داخل النفس وفي صفحة الكون، لا ينفد، ولا يسأم، ولا يزول. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ،   1 سورة البقرة 164. 2 سورة الأنعام 95-99. 3 سورة الأعراف 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَْ} ؟ 1. {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 2. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} 3. {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} 4.   1 سورة النحل 10-17. 2 سورة النحل 65-69. 3 سورة النحل 78-81. 4 سورة الأنبياء 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 1. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} 2. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 3. {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ، سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ، وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ   1 سورة الحج 5. 2 سورة الروم 19-25. 3 سورة فاطر 27-28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} 1. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ، خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2. {كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} 3. {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} 4. {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} 5. {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ؟ 6. {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 7. وهكذا ... وهكذا.. يوقظ القرآن الحس لآيات الله في الكون وفي النفس، ليعيش متفتحًا لها، حفيًا بها، محسًا بعظمتها، متتبعًا لها في كل صغيرة وكبيرة، شاعرًا بالقدرة القادرة، من وراء كل آية، واليد المبدعة من وراء كل تدبير؛ ومن ثم تتوجه الروح إلى الخالق، تسبح بحمده، وتتطلع إلى حماه.   1 سورة يس 33-44. 2 سورة الزمر 5-6. 3 سورة المدثر 32-34. 4 سورة عبس 24-32. 5 سورة الطارق 5-10. 6 سورة الغاشية 17-20. 7 سورة التكوير 17-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بل يصل استخدام "الطبيعة" في إيقاظ الحس، وإحياؤها داخل النفس، إلى حد استخدام تشبيهات من الطبيعة الحية لتمثيل المواقف النفسية، والاجتماعية والاقتصادية: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 1. {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} 2. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار} 3. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4.   1 سورة البقرة 264-266. 2 سورة الرعد 17. 3 سورة إبراهيم 24-26. 4 سورة النور 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 والفنون تعالج أحيانًا مثل هذه الأمور، فتلفت الناس إلى جمال الطبيعة وروعتها، وتفتح الحس لها ليتملاها، ويحس بها جديدة حية متحركة أخاذة, ولكنها كثيرًا ما تنحرف فتجعل ذلك هدفًا في ذاته، ثم تضل فيصبح الجمال معبودًا تفتن به النفس فيصرفها عن الجد في الحياة. أما القرآن فيجعلها رباطًا بين القلب البشري والله، وهاديًا إلى سواء السبيل في داخل النفس وفي واقع الحياة. وكما يوجه القرآن القلب البشري إلى قدرة الله المبدعة في صفحة الكون، فكذلك يوجهه إلى قدرته القاهرة التي تمسك بيدها كل أمر، وتدبر وحدها كل تدبير. ولا نحتاج أن ننقل الشواهد الكثيرة من القرآن على هذا التوجيه، كما نقلنا من قبل الشواهد على التوجيه لآيات الله في الكون. فإنما صنعنا ذلك هناك لنبين أن ما يبدو تكرارًا في القرآن ليس تكرارًا في الحقيقة. وإنما هو تجديد للمسات. كل لمسة في موضع. وكل لمسة لها جو من الإشعاع. وإنما نكتفي هنا بآيات متفرقة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير} 1. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 2. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 3. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور} 4. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ   1 سورة البقرة 107. 2 سورة البقرة 117. 3 سورة البقرة 255. 4 سورة آل عمران 109. 5 سورة آل عمران 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 1. {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 2. {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} 3. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} 4. {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} ؟ 5. {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 6. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} 7. {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ؟ 8. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} 9. {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} 10. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 11.   1 سورة آل عمران 26. 2 سورة مريم 35. 3 سورة الرعد 11. 4 سورة الكهف 17. 5 سورة آل عمران 160. 6 سورة النمل 62-64. 7 سورة فاطر 10. 8 سورة فاطر 3. 9 سورة فاطر 15-17. 10 سورة فاطر 41. 11 سورة فاطر 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} ؟ 1. {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} ؟ 2. {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 4. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5. {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 6. {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 7. {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 8. {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 9. {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 10. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 11. {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 12. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 13. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 14. {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} 15.   1 سورة يس 23. 2 سورة الزمر 38. 3 سورة يس 81-83. 4 سورة الأنعام 18. 5 سورة الإنسان 30. 6 سورة التوبة 51. 7 سورة البقرة 105. 8 سورة البقرة 148. 9 سورة البقرة 212. 10 سورة البقرة 245. 11 سورة البقرة 253. 12 سورة آل عمران 73. 13 سورة آل عمران 159. 14 سورة الأنفال 17. 15 سورة يونس 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} 1. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} 2. {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 3. {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد} 4. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 5. وكلها آيات توجه القلب لهذه الحقيقة الضخمة في بنية الكون وبنية النفس: إن الله وحده هو الخالق. والله وحده هو المدبر. والله وحده هو الذي يصرف الأمور. ولا قوة سوى قوته. ولا تدبير سوى تدبيره. وكل من عداه مخلوقات هزيلة ضائعة فانية لا تملك لنفسها شيئًا فضلًا على أن تملك للآخرين. النفع والضر بيده وحده. لا ينفع أحد إلا بإذنه، ولا يضر شيء إلا بإذنه. الرزق بيده. والموت والحياة بيده. والبعث والجزاء بيده. {بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6. وكما يوجه القلب إلى قدرة الله المبدعة، وقدرته القاهرة، كذلك يوجهه إلى علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء في السموات ولا في الأرض، ولا في داخل النفوس: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 7. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} 8.   1 سورة هود 123. 2 سورة الرعد 15. 3 سورة النحل 53. 4 سورة البروج 16. 5 سورة الأحزاب 62. 6 سورة الملك 1. 7 سورة الأنعام 59-60. 8 سورة الرعد 9-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} 1. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 2. {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} 3. {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} 4. {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 5. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 6. فإذا وجه القلب هذه التوجيهات كلها، وهزه بها من أعماقه، وجعله ينفعل بها انفعالًا حيًّا متجددًا مطردًا لا ينقطع ولا يفتر. فقد انعقدت بين الله وبين القلب البشري صلة لا تنقطع في النهار أو الليل. لا تنقطع في عمل أو شعور أو فكر. لا تنقطع في سر ولا جهر. لا تنقطع في خلوة ولا صحبة, لا تنقطع ما دامت الحياة. ويتصل القلب بالله صلات شتى: يتصل به خشوعًا وتقوى. ويتصل به مراقبة له في كل أمر من أمور الحياة. ويتصل به حبًّا وتطلعًا. ويتصل به اطمئنانًا إلى قدره، وتسليمًا بما يرضاه.   1 سورة سبأ 2. 2 سورة فاطر 11. 3 سورة غافر 19. 4 سورة لقمان 15-16. 5 سورة طه 7. 6 سورة المجادلة 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الخشوع والتقوى هما سمة المؤمن الذي تأثر بالقرآن، واهتز للمساته وانفعل بتوجيهاته: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} 1. {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} 2. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 3. {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} 4. {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} 5. والخشوع والتقوى هما ثمرة هذه الجولات الهائلة التي يجولها القرآن مع القلب البشري في آيات الكون، وآيات النفس، وقدرة الله القادرة، وقدرته القاهرة، وعلمه الشامل، وملكه العظيم. فما يملك القلب أمام هذه اللسمات المتوالية من كل جانب. وما يملك حين تتفتح بصيرته على القدرة المعجزة والملكوت الهائل. وما يملك وهو يرى آيات الله في كل شيء حوله. في الدقيق والكبير. في الجامد وفي الحي. في حبة الرمل الضائعة في الأرض يحيط بها علم الله.. في النبتة النابتة والشجرة النامية.. في الزهرة الأريجة البديعة الألوان. في ملايين الملايين من الخلائق. في ملايين الملايين من النجوم. كله صادر عن إرادة الله. وكله مدبر بأمره. وكله صائر إليه.. ما يملك القلب إزاء ذلك إلا أن يخشع ويهتز لعظمة الله. وما يملك وهو يرى آيات القدرة كلها، وهو يحس السموات والأرض معلقة بإرادة الله، وكل ما فيها من كائنات وخلائق خاضع لمشيئته، طائع لإرادته.. ما يملك إلا أن يحس بتقوى الله في أعماقه، فيعبده ويخشاه. وحين يتيقظ القلب لعلم الله الشامل المحيط، العلم الذي لا يند عنه شيء،   1 سورة المؤمنون 1-2. 2 سورة الزمر 23. 3 سورة الحج 34-35. 4 سورة مريم 58. 5 سورة الإسراء 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 والذي يعلم السر وأخفى، والذي لا يغفل عن الإنسان لحظة واحدة، ولا يتركه أينما كان. حين يحس بمراقبة الله الدائمة له في كل تصرف، وكل فكرة، وكل شعور، وكل هاجسة في النفس مستورة، وكل خائنة في العين خافية. يهتز ويرتعش، ويخر خاشعًا، ويراقب الله في الصغيرة والكبيرة، وفي الجهر وفي الخفاء. يراقبه وهو يعمل، ويراقبه وهو يفكر، ويراقبه وهو يحس. يراقبه وهو يعمل. فلا يعمل شيئًا بغير إخلاص. لا يعمل شيئًا بقصد الشر. لا يعمل شيئًا دون تمعن وتفكر. لا يعمل مستهترًا ولا مستهينًا بالعواقب.. ولا يعمل شيئًا لغير الله! إن الله لا يحاسبه على ظاهر عمله. إنما يحاسبه على النية وراء العمل، وعلى الإخلاص فيه: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" 1. والله لا يقبل أن يكون شيء من العمل لغير وجهه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلًا غزًّا يلتمس الأجر والذكر. ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"! فأعادها ثلاث مرات, ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"! ثم قال: "إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغى به وجهه" 2. ويراقبه وهو يفكر. فالله مطلع على أفكاره. يراقبه فلا يفكر في الشر ولا يتمناه للناس. وإنما يفكر فيما ينفع الخلق. يفكر في أن يعمل صالحًا. حتى يصبح الخير له عادة متأصلة نابعة من أعماق النفس. ويراقبه وهو يحس. فالله يعلم السر وما أخفى من السر. الهاجسة في باطن النفس لم يطلع عليها أحد، ولم تتبين حتى لصاحبها لأنها مطمورة في الأعماق! يراقبه فلا يحس بإحساس غير نظيف. يراقبه فينظف مشاعره أولًا بأول. لا يحسد. ولا يحقد. ولا يكره للناس الخير. ولا يتمنى أن يحرمهم منه ويستحوذ هو عليه. ولا يتشهى الشهوات الباطلة والمتاع الدنس! إنه ليس وحده! ولا يكون مطلقًا وحده! "والأخلاق" التي ينبغي له أن   1 البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. 2 أبو داود والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 يتخلق بها ليست نفاقًا اجتماعيًّا، يلبسها أمام الناس ليقال عنه إنه فاضل، أو لأنه لا يملك الظهور أمامهم بأدرانه وخباياه. بل هي أخلاق تنبعث من الداخل. من الإيمان بها. والإيمان بالله. إنه ينظف سلوكه وفكره وشعوره لا لأن الناس معه وهو مضطر إزاءهم أن يتنظف. وإنما لأن معه دائمًا وفي كل لحظة الله: {وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا} وهو لا يملك أن يستتر من الله كما يستتر من الناس. لا يملك أن يغلق على نفسه بابًا لا يراه الله من ورائه. ولا أن يقيم حول مشاعره المنحرفة سياجًا يحميه من علم الله. وما دام يحفظ الله في قلبه، فليكن قلبه نظيفًا لا يتدنس بالأدران! قال: وما الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك" 1. وحين توجد في القلب هذه الحساسية المرهفة تجاه الله، تستقيم النفس ويستقيم المجتمع وتستقيم جميع الأمور. ويعيش المجتمع نظيفًا من الجريمة. نظيفًا من الدنس، نظيفًا من الأحقاد، لأنه لا يتعامل في الحقيقة بعضه مع بعض، وإنما يتعامل أولًا مع الله. وحين يعيش الإنسان في جو الإسلام وجو القرآن، لا يملك نفسه من حب الله، حتى وهو يخافه ويخشاه! إنها عجيبة من عجائب العقيدة. في ظل العقيدة يتطلع القلب إلى الله بحب دافق وشوق دائم للقياه. كيف يتم ذلك؟ إنه ليس عملًا واحدًا، ولا كلمة واحدة، ولا شعورًا واحدًا، ولا لمسة واحدة. إنما هو مزيج من الأعمال والأقوال والمشاعر واللمسات.. كلها في النهاية تحدث هذا الحب المتدفق الفياض. الحياة الدائمة مع الله.. في صفحة الكون وباطن النفس. التطلع الدائم إلى الله. في السموات والأرض.. وفي الظاهر والباطن. في السر والجهر.. في المعلوم والمجهول.   1 أخرجه البخاري من حديث الإيمان. انظر فصل: "تعبد الله كأنك تراه" في كتاب "قبسات من الرسول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المراقبة الدائمة لله في كل عمل وكل فكرة وكل شعور. الإحساس الدائم بالله في كل لحظة. المصاحبة الدائمة لله في كل أمر. الصلاة والعبادة. قراءة القرآن. ومئات من المشاعر الخفية، واللمسات اللطيفة، والخفقات، واللمحات، والومضات. وفي النهاية يتدفق هذا الحب الواغل في الأعماق.. حب أعمق من أن يصفه اللفظ، وألطف من أن يمسكه التعبير. سارب في النفس، مشع في الكون، لا تمسكه الألفاظ! ولكنه على خفائه ذلك قوي جاهر مبين! يعلمه صاحبه. ويحسه في أعماقه، ولا يحتاج أن يعبر عنه بلفظ، فهو ممتلئ به لا يحس الفراغ الذي يحوج للتعبير! وذلك الحب، وهو قمة العبادة هو الكفيل بطاعة الله طاعة منبعثة من الرضا، لا من القهر والخوف من العقاب. وهو الكفيل بالتطوع النبيل فوق ما تفرضه الضرورة وما يفرضه القانون. التطوع الذي يرتقي بالإنسانية إلى أعلى، ويحثها على التقدم إلى أمام. وحين يعيش الإنسان في جو الإسلام وجو القرآن لا يملك نفسه من التسليم بالله. إن الله هو مالك الملك. وهو موزع الرزق. وهو قاسم الحياة والموت. وهو مدبر الأمر، وحده لا شريك له {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. فلمن يلجأ الإنسان إلا إليه؟ وما قيمة اللجوء لغير الله وما نتيجته؟ ماذا يملك الناس من أمر أنفسهم حتى يملكوا من أمر غيرهم؟ ما قيمة اللجوء لغير   1 سورة فاطر 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الله وما نتيجته إلا المذلة للناس، والهوان والضعف، والخسران المبين: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} 1. وهل يملك الإنسان أنى لجأ أن يخرج من قدر الله؟ أفإن ذهب إلى فلان يحتمي به فلن يصل الله إليه ولن ينفذ قدره فيه؟ "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" 2. أفليس الأسلم إذن والأجمل أن يركن الإنسان إلى الله ويلجأ إلى حماه؟ كذلك تصنع العقيدة في النفوس. إنها تولد هذا الاطمئنان إلى الله والتسليم بقدره، والرضا بما يرضاه. كذلك فعلت في نفس محمد صلى الله عليه وسلم، فأسلم نفسه لله كلها لم يحتجز لنفسه ولا لغيره شيئًا منها، وعاش مسلمًا لله قانتًا، راضيًا بقدر الله في السراء والضراء، مطمئنًا دائمًا إلى أن الخير هو ما اختاره الله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 3. {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 4. فالله وحده هو الذي يعلم. والله وحده هو الذي يرتب النتائج على الأسباب. يرتبها بحكمته سبحانه، وبقدرته سبحانه. ولا يملك البشر أن يرتبوا شيئًا على شيء ولا أن يجزموا بنتيجة شيء عن شيء. أو يعرفوا على وجه اليقين أين يكمن الشر وأين يكمن الخير. إنما هو الله المدبر. وهو القادر. وهو الفعال لما يريد. وكذلك فعلت في نفوس الصفوة من المؤمنين في صدر الإسلام، فأسلموا نفوسهم لله -بقدر ما أطاقت نفوسهم- وأحسوا أن ذلك هو الخير. وأنهم أودعوا نفوسهم، وأعمالهم، ومشاعرهم، عند الحق الذي لا تضيع عنده النفوس. وكذلك تفعل في كل نفس يتملكها الإيمان الحق، فتسلم أمرها لله كاملًا، وتطمئن إلى قدره, وتستريح ولا تعود تقلق على الصغيرة أو الكبيرة.   1 سورة النساء 139. 2 حديث رواه الترمذي. 3 سورة البقرة 216. 4 سورة النساء 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ولا تعود تجزع لما يصيبها من الضراء أو تطيش بما يصيبها من السراء. لا تقلق على الرزق فهو بيد الله. ولا على الحياة فالموت والحياة في يد الله. ولا على الصحة فالصحة والمرض بيد الله. ولا على المكانة. ولا على ما يصيبها من أذى الناس. ولا شيء مما يقلق النفوس على الأرض ويصيبها بالجزع والاضطراب {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ} 1. وعندئذ تنطلق النفس للعمل بما فيه الخير. تنطلق خفيفة من الأعباء! ولقد يغلب على الظن أن هذا التسليم المطلق لله هو التواكل.. هو الضعف ... هو السلبية.. هو الخنوع! كلا! فما كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا ولا سلبيًا ولا خانعًا ولا قاعدًا عن الجهاد والحركة والاندفاع الدائم نحو الخير والبناء والتعمير.. وما كانت أمته التي رباها على عينه كذلك. وتلك هي أمثلة التسليم الحق لله! فلا سلبية إذن ولا ضعف ولا تواكل. إنه التوكل على الله، لا التواكل عليه. التوكل الذي يشحذ العزيمة ويمنح المضاء. التوكل الذي يزيح عن القلب سم القلق المدمر المحطم للأعصاب. يزيح عن القلب التردد الناشئ عن الخوف، والقعود الناشئ من العجز عن مواجهة الأحداث. الأحداث بيد الله. والنتائج بيد الله. والأعمار بيد الله. ففيم التردد، وفيم الخوف، وفيم القعود؟ كلا! بل هي عزيمة وقوة وانطلاق! وبهذه العزيمة وهذا الانطلاق وجدت تلك الأمة الفريدة في التاريخ. الأمة التي انتشرت في رقاع الأرض ورقاع التاريخ: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2. الأمة التي كانت تجاهد ولا تهاب, وتحرص على الموت فتوهب لها الحياة.   1 سورة المعارج 19-22. 2 سورة آل عمران 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والعبادة هي الوسيلة الفعالة لتربية الروح. العبادة بمعناها الواسع الذي يشمل الحياة. العبادات المفروضة من صلاة وزكاة وصيام وحج. كلها قد قصد بها تربية الروح، وسند النفس وهي تواجه الحياة الواقعة بما فيها من مشكلات وعقبات، وتواجه ثقلة الجسم ودفعة الشهوات1. والصلاة خاصة هي جوهر العبادة وركنها الركين، ومن ثم كانت العناية الشديدة التي يوجهها إليها الإسلام: "والمسلم حين يتوضأ ينظف يديه من الوسخ الظاهر، وينظفهما كذلك مما اجترحتا من آثام. ولا يتم وضوؤه الحقيقي الكامل حتى يستشعر هذا المعنى، ويحس أنه يغسل عن يديه حقًّا ما اقترفتاه من الإثم. أي: إنه يتذكر ما اقترفه من الإثم بيديه، ويتوجه إلى الله يطلب المغفرة.. ولعل هذا التوجه أن يجعله في المرة التالية يتوب..! "وهو يغسل عينيه لينظفهما.. من التراب والوسخ.. وينظفهما كذلك من كل نظرة آثمة أو نظرة خائنة.. وحين يستشعر في نفسه هذا المعنى فلعله في المرة التالية أن يستحي من الذنوب! "وهو يغسل أذنيه ويغسل ساعديه وقدميه على هذا النحو ذاته وهو يستشعر المعنى نفسه، فتتم له في كل مرة وفي آن واحد طهارة البدن وطهارة الروح. "وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوجه المسلمين لهذا المعنى ويكرره عليهم مرات كثيرة، يقصد إلى ذلك قصدًا، ويرمي لتثبيته في قرارة النفس. "إنه لا يريد أن يكون الوضوء -وهو مدخل الصلاة- "روتينًا" آليًّا يؤديه المسلم بحكم العادة وهو شارد الفكر غير عابئ الضمير. وإنما يريد أن يتوجه له المسلم بنفسه كلها وكيانه كله, وأن يعبر هذا المدخل إلى الصلاة بقلب خاشع وضمير متيقظ، فيكون ذلك تهيئة نفسية جميلة للحظة التطلع إلى الله. اللحظة التي تربط الأرض بالسماء، تربط البشر بالخالق. تربط   1 انظر فصل "العبادات الإسلامية" من كتاب "في النفس والمجتمع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 تلك الذرة الضئيلة الفانية بقوة الأزل والأبد، فتقيس منها النور والقوة والثبات و"الوجود". "ولا يريد أن ينصرف الوضوء إلى معناه الحسي الظاهر فيفقد معناه! ". "إنه إذا انحسر إلى مجرد تنظيف لظاهر الجلد، فقد يغني إذن عنه أي تنظيف! ثم يظل يفقد معناه وحكمته حتى يفقد أثره الروحي في أعماق النفس، أثر التطهر من الداخل، والتوجه إلى الله بنفس تنظفت حقًّا، ورغبت إلى الله حقًّا، بحكم ما اشتملت عليه من نظافة وطهور. والرسول المربي لا يريد أن يرين على قلوب الناس ما يطفئ تلك الإشراقة الجميلة التي تنبعث من الروح الطاهرة. أو يحول دون هذه الانتفاضة الحية التي تهتز بها النفس المتطهرة، فتنفض عنها ما علق بها من ركام الأرض ووعثائها، وما هبط بها من ضرورات ضاغطة وقيود عاتية، ثم تنطلق. جديدة.. حية.. شابة.. فتية.. مغسولة من الأدران.. تحلق في الأكوان، وتسبح في ملكوت الله. "إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يذكر الإنسان بدنه الظاهر وينسى روحه الباطنة. لا يريد أن يحجبه عالم الظاهر من عالم الخفاء. لا يريد له أن يكون تافهًا لا يرى من الأشياء غير ما تدركه الحواس! وإنما يريد له أن يأخذ الحياة بكل شمولها وكل عمقها. يريد له ألا يقف عند الظواهر المحسوسة بل ينفذ إلى ما وراءها في أعماق الضمير وأعماق الكون. يريد له أن يرى الحقيقة الكاملة. يريد له أن يرى الله. "ثم يدخل المسلم في الصلاة.. يدخل ذلك العالم الواسع الفياض بمجالي النور". "يدخل في تلك اللحظات العلوية العجيبة التي يتفتح لها القلب البشري -حين يتفتح- فإذا هو ينتقل من حدود الحس الضيقة، وينتقل من حدود الأرض، وينتقل من حدود "الواقع"، وينتقل من حدود "المعلوم" كله والمنظور. إلى ذلك العالم الذي لا حدود له ترى ولا غاية تدرك ولا ملمس يحس! عالم النور الغامر الذي ليست له حدود. النور الذي تدركه الأرواح، وتنهل منه الأرواح: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} . "الصلاة التي تربط الإنسان بخالقه، فإذا هو كائن عجيب لا يشبهه شيء من خلق الله كله. كائن يقف بجسمه على الأرض وروحه تسبح في السماء. كائن قادر -في عجزه وطاقته المحدودة الفانية- أن يقوم بالمعجزة.. أن يقبس من الروح الخالقة. أن يحطم السدود والحواجز. أن تنفسح جوانحه فيشمل الكون. أن تنفسح روحه فتشمل الحياة. أن ينفسح كيانه فيتذوق الخلد. ويتذوق حقيقة الوجود"1. والصيام.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2. إنها التقوى لله غاية الصيام.. التقوى التي تنشأ من الطاعة؛ الطاعة التي تتطوع بالامتناع عن شهوات النفس وشهوات الجسد، في حين تملك ألا تمتنع ولا تطيع! والصيام حين يؤدى على أصوله، ولا يكون مجرد امتناع عن الطعام والشراب.. حين يكون صيام النفس من الداخل لا صيام الأحشاء.. حين يتوجه به الإنسان إلى الله.. حين يحس أن كل خاطرة في نفسه، وكل إحساس في شعوره، وكل لفتة وكل نظرة وكل خالجة وكل سر، ينبغي أن تكون -في هذا الشهر خاصة- نظيفة متطهرة تصلح للصيام والتبتل، والتوجه الكامل إلى الله.. حينئذ تملأ التقوى القلب، وتنطلق الروح إلى آفاق عالية من النور المشرق الوضيء. والزكاة.. تطهير من شح النفس، وإطلاق للروح من الأثرة البغيضة التي تحس بوجودها وحدها ولا تحس بالآخرين. إنها إحساس بالأخوة النبيلة التي تجمع الأسرة البشرية الواحدة، فإذا كلها قريب من قريب. وكل فرد فيها ذو رحم مع الآخرين. الأخوة التي تخرج بالإنسان عن الشعور "بالملك"   1 من فصل لم ينشر بعد في كتاب "قبسات من الرسول". 2 سورة البقرة 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فيما يمتلك. فليس هناك ملك خالص في الأسرة الواحدة. وإنما الناس شركاء في الخير، أصلاء في رزق الله العميم. والحج. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 1. "والذين يذهبون إلى الحج صافية قلوبهم لهذه الفريضة، يحكون عجبًا ويحسون عجبًا". "إن حالات "الوجد" التي تستجيشها في وجدانهم زيارة الأماكن المقدسة وأداء الفريضة فيها لهي حالات عجيبة نادرة المثال في واقع الحياة. حالات ترتفع فيها النفوس البشرية عن ملابسات الأرض، ومطامع الأرض، وشهوات الأرض، وتتجرد لله خالصة، تتوجه إليه أن يتقبلها في عباده، ويمنحها مغفرته ورضوانه. "والشفافية التي يحسها الناس هناك، وهم يسيرون حيث سار الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويصلون حيث صلى، وحيث تنزل عليه الوحي، وحيث جاهد وصبر، وحارب وانتصر. "إنها مشاعر عميقة تهز الوجدان هزًّا، وتصل إلى أعماقه ... تصل إلى   1 سورة الحج 27-35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الكيان الخالص المصفى من الأدران، إلى الجوهر المشرق المستضيء بنور الله، هنالك حيث أودعه الله ليتصل به ويلقاه"1. تلك هي العبادات "المفروضة".. ولكنها ليست كل عبادة الإسلام. إن الإسلام يوسع معنى العبادة حتى تشمل كل الحياة. كل عمل يتوجه به الإنسان إلى الله فهو عبادة. وكل عمل يتركه الإنسان تقربًا لله واحتسابًا فهو عبادة. وكل شعور نظيف في باطن النفس فهو عبادة. وكل امتناع عن شعور هابط من أجل مرضاة الله فهو عبادة. وكل ذكر لله في الليل والنهار فهو عبادة. ومن ثم تشمل العبادة الحياة. ويصبح الإنسان عابدًا لله حيثما توجه إلى الله. وبهذا المعنى تصبح العبادة هي الصلة الدائمة بين العبد والرب، وتصبح هي التربية الدائمة للروح. هذه الصلة الدائمة بالله.. حبة وخشيته وتقواه. التطلع الدائم إليه واللجوء إلى حماه. الرضى بما يحبه ويرضاه. أي نتيجة تنتج عنها؟ وأي ثمرة تتوصل إليها؟ إنها نتائج شتى وثمار جنية كثيرة في كل اتجاه. من ثمارها الإحساس الحي بالصلة الوثيقة بين الإنسان والكون. صلة التعاطف والقربى والحب والإعجاب. الإنسان بضعة من هذا الكون الهائل الفسيح. بضعة صادرة من ذات المصدر الذي صدر منه الكون. صادرة من إرادة الله. ومن ثم فهناك وشيجة القربى وصلة النسب العريق! هناك الصلة الحية التي تربط قلبًا بقلب، وشعورًا بشعور! هذا التعاطف يحييه القرآن بوسائل شتى، منها إحياء مشاهد الكون وجعلها تتحرك حركة الأحياء: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 2.   1 من فصل "العبادات الإسلامية" كتاب "في النفس والمجتمع". 2 سورة فصلت 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} 1. {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} 2. {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 3. {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 4. {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 5. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 6. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 7. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 8. {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 9. ومنها جمع الخلائق كلها في حكم واحد وميزان واحد: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 10. {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} 11. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 12. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} 13. ومنها رد الإنسان إلى منشئه من تراب الأرض وطينها وتربتها:   1 سورة الانشقاق 1-5. 2 سورة الشمس 1-4. 3 سورة الزلزلة 1-5. 4 سورة يس 40. 5 سورة الحج 50. 6 سورة فصلت 39. 7 سورة الحشر 21. 8 سورة الإسراء 12. 9 سورة التكوير 17-18. 10 سورة الحشر 1. 11 سورة التغابن 4. 12 سورة الروم 26. 13 سورة الأحزاب 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} 1. {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2. وهكذا ... وهكذا مما يربط وشائج القربى بين النفس والكون. ويعمق الإحساس بما بينهما من اتصال. والفنون كما قلنا مرة تعالج هذا الأمر. ولكنها لا تصل به إلى هدفه. إن الاستمتاع بجمال الكون جزء أصيل من العقيدة الإسلامية. جزء مقصود، لما يحدث في النفس من رحابة أفق وسعة تصور وعمق وإدراك. ولكنه ينبغي أن يصل إلى غايته. يصل إلى الإحساس بالله. فيلتقي الفن بالعقيدة، والمتعة الحسية بالمتعة الروحية، وتصفو سريرة الإنسان بهذه السعة التي يحسها والشمول الذي يقدر عليه، فيصبح إنسانًا صالحًا. صالحًا لأن الحواجز قد زالت من نفسه حين وسع أفقه واتصل بالله. ومن ثمارها حب الحياة في جميع الأحياء. فإذا أحس الإنسان بالوشيجة الحية بينه وبين الكون الجامد لظاهر العين، الحي في حساب الروح، فإنه من باب أولى سيحس بالوشيجة الحية بينه وبين الأحياء. التي يشعر بحياتها الحس والروح على السواء. والحديث الدائم عن الأحياء في القرآن، ولفت النظر إليها، سواء في عالم النبات أو الحيوان، ينتج هذا الأثر في النفس، فتحس بصلة القربى وعمق الاتصال. وتولد في الإنسان حبًّا لكل كائن حي، حتى وهو يصارع ما يضره من هذه الأحياء! إنه يصارعها ليدفع أذاها عن نفسه، ولكنه -فيما عدا هذا- يحس نحوها بالصداقة والود، ويهفو لها بالوئام والسلام. وهذا الإحساس -كالإحساس بالصداقة مع الكون الواسع- يعمل عمله في تهذيب النفس، وتطرية خشونتها وإزالة جفوتها. فإن التعود على شعور الصداقة والحب -وهو شعور رخي ندي- يزيل التوتر الذي يصيب   1 سورة نوح 17-18. 2 سورة طه 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 النفس من مجاهدة "الواقع" المادي والواقع الحسي، والذي يصيبها من الكدح الذي لا بد للإنسان منه لكي يعيش. هذا التوتر- الذي ينشأ طبيعيًّا من عملية الكدح- هو حصيلة خطرة. إنه كالسموم التي تنشأ في داخل الجسم من عملية الطعام. لا بد أن تطرد. لا بد لها من مزيل. وإذا كان الجسم يتخلص من سمومه بطريقة ما، ويمرض إذا تراكمت السموم داخله. فإن النفس كذلك ينبغي لها أن تطرد سمومها. وليس شيء يزيل سموم النفس كما يزيلها الحب. ذلك الروح العلوي الشفيف الذي تتمثل فيه عظمة الإنسان؛ تتمثل فيه نفخة الروح التي نفخها الله في قبضة الطين. الحب على نطاقه الواسع. الحب لكل شيء ولكل موجود. وهذا الذي يصنعه الإسلام، ويصنعه القرآن. والحب كذلك للناس ... حتى والإنسان يصارع فيهم الشر ويصيبه منهم الأذى في الطريق! إن العبادة الدائمة لله، والحياة الدائمة في كنفه، والتطلع الدائم إلى رضاه،.. تحدث هذا الشعور الوثيق بالحب لبني الإنسان. الناس كلهم من خلق الله. إخوة في الخليقة. والناس كلهم من طين الأرض. إخوة في المنشأ. والناس كلهم صائرون إلى الله. إخوة في المصير. والناس كلهم في نفس واحدة. إخوة في الإنسانية. والناس كلهم، أو ينبغي لهم، أن يعبدوا الله ويلتقوا في حماه، إخوة في الاتجاه. ومن هنا ينشأ الحب للإنسانية، والصلة بين بني الإنسان. ويروح الإسلام يغذيه بكل توجيهاته وكل تطبيقاته حتى يصبح جزءًا من العقيدة حيًّا ممتزجا بالكيان. وحين يكون هذا هو المبدأ؛ حين تكون هذه هي الركيزة الموجودة في باطن النفس، فإن صراع الشر في الناس يكون هو الحالة الطارئة التي لا تلبث أن تزول. ويصير السلام هو الأصل في الحياة، والحرب هي الشذوذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وحتى لو طال الصراع واستمر، وحتى لو بلغ الأذى مبلغه، فليس هناك الحقد على بني الإنسان. إنما هو الكره للشر الذي في نفوسهم، والرجاء لهم في الوقت ذاته أن يهتدوا ويكفوا عن الطغيان. وحتى إذا انقطع الأمل والرجاء فيهم، وصرح الشر، وأعلن القتال. فهو ليس قتال الوحوش ولا بربرية الحيوان وإنما هي مشاعر البشر المترفعة المستعلية على الأحقاد. ذلك كان شعور الرسول وتوجيهه وهو يمنع التمثيل بالقتلى وينهى عنه أشد النهي. وكان شعوره وتوجيهه وهو يقول: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء, فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة" 1. وكان شعوره وتوجيهه وهو يقول: "استوصوا بالأسارى خيرًا". وكان شعوره وتوجيهه وهو يقول عن قومه الغلاظ القساة الذين يرمونه بكل شر ويلتوون عليه كل التواء: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وذلك كان شعور المسلمين وسلوكهم في كل حرب دخلوا فيها، حتى في الحروب الصليبية حين أمكنهم الله من عدوهم الذي فسق وفجر ونقض كل عهود الأمان، ودخل على المسلمين في بيت المقدس فأعمل فيهم السيف وحول المسجد إلى بركة بشعة من الدماء. حتى حينئذ تذكر المسلمون إيحاء دينهم. وارتفعوا على أنفسهم وعلى البشرية كلها، فلم ينتقموا بالمثل من المجرمين! ذلك الشعور الإنساني النبيل هو مفتاح الحياة الصالحة في الأرض. وهو وصية الله للناس في الأرض. وهو ثمرة العبادة الدائمة والاتصال الدائم بالله. والدعوات "الإنسانية" الأرضية تحاول هذه المحاولة وتدعو إليها بكل سبيل. وكل دعوة إلى الخير فهي خير. ولكن الأمر الواقع هو أن كل دعوة إنسانية منقطعة عن الله والعقيدة لم تستطع أن تتجاوز حدود دارها، ولم يكن لها رصيد في واقع الأرض. إنها أحلام جميلة ومثل طائرة في الهواء ... أما الواقع الذي تحقق في واقع الأرض.   1 رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ودونه التاريخ، فهو واقع هذه العقيدة الإسلامية التي تستمد كيانها من الله. وهذه دعوة غاندي الإنسانية المرفرفة ما كادت تصل إلى الواقع حتى تحولت مع جيرانه المسلمين إلى عصبية دينية ووطنية لا ترعى حرمة ولا تخضع لمنطق ولا تحتكم لقانون. وهذه هي الشيوعية -الدعوة الإنسانية المزعومة- تؤيد اغتصاب اليهود لكيان العرب سنة 1948، وتؤيد فرنسا في الجزائر سنة 1960! وتعيش على "حمامات الدم" حتى مع "المواطنين"! ومن ثمارها الاستعلاء على دفعة الجسد وموازنة ثقلة الأرض. إن دفعة الجسد جزء من الكيان الحي للإنسان. جزء مطلوب لذاته، وهو موضع الرضاء الكامل، لا الكبت والاستقذار1. ولكنه مع ذلك حتى يترك وحده يهبط بالإنسان عن مستواه اللائق بخليفة الله في الأرض. يهبط به إلى مستوى الضرورة وعالم الحيوان. ويستعبد الإنسان نفسه لشهوته. فلا يملك نفسه منها، ولا يستطع تحررًا ولا انطلاقًا. وليس في هذه العبودية سعادة للإنسان نفسه، بصرف النظر عن الآفاق العليا التي يعجز عن التحليق فيها، والتبعات الجسام الملقاة على عاتق الإنسان ليس فيها سعادته لأنها تصبح سعارًا دائمًا لا يهدأ، وشواظًا لا ينطفئ ولا يكف عن اللذع والإحراق. من أجل ذلك يعمل الإسلام على موازنته -لا كبته- بإطلاق الروح في ملكوت الله، وصلة القلب الدائمة به، فتهويمة الروح تخلع الإنسان قليلًا من تشبثه بالأرض، ونشوة القلب تخفف قليلًا من ثقلة الجسم. فيحس الإنسان بخفة في كيانه كما لو كان يسير على كوكب مخفف الجاذبية، فإذا خطواته رشيقة الحركة وإذا قفزته طيران! ومن ثمارها الاستعلاء على كل قوة في الأرض.   1 انظر الفصل الخاص بتربية الجسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فما وزن هذه القوى الأرضية كلها بإزاء قوة الله؟ لا شيء. لا شيء البتة على الإطلاق. وإذن فلا عبودية لقوة من قوى الأرض. ولا ذلة ولا استكانة ولا خنوع. كل قوة على الأرض إما أن تكون مهتدية بهدي الله مستمدة من نهجه وهداه. وإذن فهي حق. وإذن فينبغي أن تساند بكل ما في طاقة الإنسان من سناد. وأما أن تكون ضالة منحرفة عن الله. خارجة على نهجه مستكبرة على هداه. وإذن فهي باطل. باطل ينبغي أن يجاهد بكل ما في طوق الإنسان من جهاد. ولا هدنة بين الحق والباطل. إنه الجهاد الدائم حتى يرث الله الأرض ومن عليها. جهاد تراعى فيه كل مبادئ "الإنسانية" كما رسمها خالق الإنسان. ولكنه جهاد. جهاد واستعلاء. لا ضعف ولا استحذاء ولا هوان: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. في صميم عقيدة المؤمن أنه خير من كل قوة فاسدة على الأرض. وأقوى من كل قوة فاسدة على الأرض. أقوى ولو ضعفت قوته المادية أمام الباطل. أقوى ولو انهزم. أقوى ولو غلب على أمره. أقوى ولو غلت قوته المادية عن الجهاد. أقوى بروحه المتصلة بالله. وأعز بروحه المهتدية بهداه. وهذا الاستعلاء على الباطل، وهو عنصر أصيل في العقيدة الإسلامية والتربية الإسلامية، هو ثمرة من ثمار العبادة الدائمة والصلة بالله. ثمرة قد تجيء دفعة واحدة، وقد تجيء رويدًا رويدًا وتتمكن، ولكنها عنصر أصيل لا يكون بدونه إيمان. ومن ثمارها استمداد القوة من الله تجاه "القوى المادية" التي تظن النظرة القصيرة أنها هي الواقع الحق وكل ما عداها أباطيل! القوى الاقتصادية، والقوى الاجتماعية، والقوى السياسية، والقوى   1 سورة آل عمران 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 المادية. كلها حقائق. ولكنها حقائق صغيرة هزيلة، ليست لها "حتمية" وليس في يدها وحدها تقرير الأمور. والعقيدة الحية تستطيع أن تصارعها كلها وتتغلب عليها وتوجهها الوجهة الصحيحة! حين وقف أبو بكر في حروب الردة وحده، من كان يسنده من كل قوى الأرض؟ الجيوش لا تريد أن تحارب. والأفكار تجزع من حدوث الصدام. وأبو بكر وحده. وحده حتى من عمر بن الخطاب، أعنف الناس حماسة في الجاهلية وفي الإسلام! فكيف وقف أبو بكر وانتصر، وضم إلى صفه قوة الجيوش وقوة الأفكار؟ هل شيء هو غير الإيمان؟ هل شيء هو غير تلك الطاقة الروحية العجيبة التي رباها الإسلام، والتي كانت أوثق الطاقات الروحية صلة بنبي الإسلام {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} 1؟ ومن ثم صمدت وحدها وغيرت الميزان؟ من أجل ذلك يحرص الإسلام على هذه الطاقة الروحية ويضعها في المقام الأول. لأنها -في حقيقة الأمر- هي التي تنشئ الواقع المادي وتشكل ظروفه. هي التي تهدم وتبني، وتثبت وتمحو. هي الجوهر الحق، والمادة مجرد كساء. وتلك طريقة الإسلام في تربية الروح. طريقة عميقة محيطة شاملة، توقع على كل وتر، وتلمس كل جانب حي. طريقة تشمل النشاط البشري كله وتحيط بكل جذوره. طريقة لا تدع شيئًا يفلت ولا شيئًا ينحرف عن السبيل. وهي مهمة دائمة لا تسكن في نهار أو ليل. وإنما تصاحب الإنسان في كل عمل يعمله وكل سلوك يسلكه. بل تصاحبه في داخل نفسه، وتؤنس مشاعره وتشع عليه من نور الله.   1 سورة التوبة 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الباب الرابع: تربية العقل قلنا من قبل: إن الكائن الإنساني وحدة مترابطة ممتزجة الأجزاء. لا ينفصل منه جسم عن عقل وعن روح. وقلنا: إننا سنضطر اضطرارًا إلى الحديث عن كل واحد على حدة، ولكنها ضرورة بحث لا رصيد لها من الواقع. وفي هذا الفصل، والفصل الذي يليه1، سيتبين لنا مصداق هذه الحقيقة: حقيقة الترابط والامتزاج في الكيان البشري. لقد أفردنا فصلًا خاصًّا بتربية الروح لأنها هي القاعدة التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله: تشريعاته وتوجيهاته، وتنظيماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والخلقية والفكرية ... ولكننا سنرى في هذا الفصل وفي الذي يليه، كيف تتصل التربية العقلية والتربية الجسمية كلتاهما بالقاعدة الروحية، وتمتزج بها، وتترابط معها، فإذا هي بناء واحد متكامل موحد الكيان. سيبدو لنا أن منهج الإسلام يستمد كل ألوان التربية من تلك القاعدة الروحية، كأنما يستنبتها نباتًا من "تربة" الروح، فتخرج مشعة بإشعاعها، متأرجة بأريجها العذب، حتى وإن كانت فكرة عقل أو دفعة عضلات. العقل البشري طاقة من أكبر طاقاته، ونعمة من أكبر نعم الله عليه. {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} 2. "والفؤاد" يستخدم في القرآن بمعنى العقل، أو القوة الواعية في الإنسان، أو القوة المدركة على وجه العموم.   1 تربية الجسم. 2 سورة الملك 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ولقد فتن الإنسان بعقله، إذ استطاع به أن يميز بين الأشياء، ويدرك خصائصها، ويستنبط فوائدها، ويشكل صورًا جديدة من "المادة" التي وجد نفسه محاطًا بها على ظهر الأرض أو في السموات. وفي العصور الحديثة خاصة زادت فتنة الإنسان بعقله، حين رأى المخترعات التي ينتجها، والكشوف التي يقع عليها، وبلغت الفتنة قمتها بانطلاق الطاقة الذرية وانطلاق الصواريخ. وكانت هذه الفتنة على حساب الروح. على حساب الطاقة التي تتصل بالله وتتصل بالمجهول. وهي فتنة عمياء. لا تبصر فلو كانت تبصر ما رضيت أن تقص أجنحة الكائن البشري وتقعده عن الانطلاق، ليجثم على الأرض، في حين أنه قادر على ارتياد الأرض بقدميه في ذات الوقت الذي يرتاد بجناحيه فسحة السماء. ولو كانت تبصر ما رضيت أن تبدد الطاقة الكونية الكبرى، طاقة الروح، لتضخم الطاقة العقلية وتفرش مساحتها، في حين أن هذا العقل البشري على ضخامته لا يستطيع أن يهتدي وحده. ولا بد له من مدد مشع ينير طريقه في الظلمة. مدد من طاقة الروح. إن كشوف العلم كلها ومخترعاته ليست هي التي توجه الحياة أو التي تحكمها، إنما الذي يوجهها ويحكمها هو طريقة الاستفادة من كشوف العلم ومخترعاته: أفي سبيل الخير أم في سبيل الشر، وفي سبيل السلم أم في سبيل الحرب. والعقل يميز ولا شك بين الخير والشر، ولكنه ليس هو الذي يقرر الطريق! فكثيرًا ما قرر عقل الإنسان أن كذا من الأمور خطأ ولا يجوز فعله، ثم اندفع إليه لانحراف روحه وانجرافها مع الشهوات! الروح هي التي تقرر! الروح الواصلة المهتدية تقرر طريق الخير، وتسخر العقل ليسير في طريقه. والروح المنقطعة الضالة تقرر طريق الشر. وتدفع بالعقل في ذلك الطريق. والإسلام دين الفطرة. والإسلام يحترم الطاقات البشرية كلها، فهي هبة الله المنعم الوهاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولكنه يعطيها أقدارها الصحيحة. لا يبخسها قدرها. ولا يعطيها فوق قيمتها. ويستغلها جميعًا إلى أقصى طاقتها لفائدة المخلوق البشري وصلاح حاله على الأرض. ومن ثم فهو يحترم الطاقة العقلية ويشجعها، ويربيها لتتجه في طريق الخير. ولكي يصل إلى ذلك فإنه يمزجها بمزيج الروح, ويستنبتها- كما قلنا من قبل- في "تربة" الروح الأريجة المشعة، لتستمد من أريجها العذب وإشعاعها الطليق. يبدأ الإسلام التربية العقلية بتحديد مجال النظر العقلي، فيصون الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها. وهو يعطي الإنسان نصيبه من هذه الغيبيات، بالقدر الذي يلبي ميله للمجهول1. ولكنه يكل أمر ذلك إلى الروح، فهي القادرة على ذلك المزودة بوسائل الوصول. أما العقل فوسيلته إلى الله وإلى معرفة الحق، هي تدبر الظاهر للحس والمدرك بالعقل، ومن ثم يحدد الإسلام مجاله بهذا النطاق، ولا يتركه يغرق في التيه الذي غرقت فيه الفلسفة من قبل واللاهوتيات، فلم تصل إلى شيء حقيقي يستحق ما بذل فيها من جهد؛ إن لم تكن قد غبشت مرآة الفكر البشري، وشتتت ما ينعكس عليها من أضواء2. ثم بعد ذلك يأخذ في تدريب الطاقة العقلية على طريقة الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة، فيتخذ إلى ذلك وسيلتين: الوسيلة الأولى هي وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي. والوسيلة الثانية هي تدبر نواميس الكون وتأمل ما فيها من دقة وارتباط والوسيلة الأولى يصل إليها بطائفة من التوجيهات والتدريبات: فهو أولًا يبدأ بتفريغ العقل من كل المقررات السابقة التي لم تقم على يقين، وإنما قامت على مجرد التقليد أو الظن. فينعي على المقلدين الذين يقولون:   1 انظر بعد ذلك فصل "خطوط متقابلة في النفس البشرية". 2 انظر فصل "لا تفكروا في ذات الله" من كتاب "قبسات من الرسول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 1! {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 2 وينعي على الذين يتبعون الظن: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} 3 {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 4. ثم هو يأمر بالتثبت من كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 5. وهي مسئولية ضخمة، يبرز التعبير ضخامتها بإفراد السمع والبصر والفؤاد في مبدأ الأمر ليكون كل منها مسئولًا على حدة، ثم جمعها كلها بعد ذلك، وإشراكها في المسئولية، بهذا الجمع والتوكيد: {كُلُّ أُولَئِكَ} . وذلك كله ليحس الإنسان بعظم التبعة وهو يقدم على الأمر، فلا يأخذ الأمور باستخفاف، ولا يأخذها بلا تثبت وهو عنها مسئول. والتوجيهات في هذا الباب كثيرة، فأصحاب الكهف مثلًا يقولون: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} 6 هلا يقدمون دليلًا واضحًا على هذه الآلهة التي يتخذها القوم من دون الله؟ دليلًا يتثبت منه العقل قبل اقتفائه؟ وفي حادث الإفك يقول القرآن: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 7. والشهادة ضرورية في إقامة الحدود للتثبت في الأمر. فلا تؤخذ الأمور اعتباطًا وإنما ينبغي الوصول فيها إلى اليقين قبل إصدار الحكم. ودرء الحدود بالشبهات -وهو مبدأ فقهي إسلامي مأخوذ عن السنة- يشير إلى هذا الاتجاه، وهو ضرورة التثبت الكامل قبل النطق بحكم في أي موضوع. وأن الأمر يظل معلقًا ما لم يصل الإنسان إلى الدليل القاطع، وكلها توجيهات وتدريب للطاقة العقلية على طريقة العمل الصحيحة ومنهج التفكير السليم. والوسيلة الثانية -وهي تدبر نواميس الكون- تطبع العقل بطابع من الدقة والتنظيم.   1 سورة الزخرف 23. 2 سورة البقرة 170. 3 سورة النجم 23. 4 سورة النجم 28. 5 سورة الإسراء 36. 6 سورة الكهف 15. 7 سورة النور 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 إن نواميس الكون تجري في دقة عجيبة ونظام لا يختل. وفوق ما يوحيه ذلك للقلب البشري من تقوى الله الصانع المدبر والتوجه إليه في كل أمر، فإنه يعود العقل على دقة النظر وانضباط الأحكام، إن دورة الأرض ودورة الشمس ودورة الأفلاك ليست مضبوطة بالساعة ولا بالدقيقة ولا بالثانية ولا بالثالثة. ولكنها مضبوطة بسرعة الشعاع الذي يقطع 186 ألف ميل في الثانية! والنظر في هذه الدقة المذهلة يعود العقل أن يدقق! فكل خلل بسيط في التفكير أو التقدير ينتج عنه أخطاء جسيمة، لو كان يحدث مثلها في الكون لانفلت عقده وتهاوى ما فيه من أفلاك! والعقل قمين -حين يرى تلك الدقة والترابط- أن يحاول ضبط أفكاره وربطها، والوصول إلى الكليات التي تربط الجزئيات وتحكمها- كما يرى في نظام الكون الكبير. وقد انطبع تفكير المسلمين بهذه الدقة العلمية -على الرغم من قلة ما كان بأيديهم يومئذ من الآلات والأدوات- فوصلوا إلى كشوف علمية تثبت لهم الجد في التحصيل والصدق في التفكير، كما ثبت لهم قدرًا من الدقة يعتبر مثاليًّا بالنسبة لذلك الحين. وأبحاث ابن الهيثم في البصريات، وأبحاث البتاني الذي قاس بالدقة دورة الأرض حول الشمس وحسب بالدقة مواعيد الكسوف والخسوف، تعتبر شاهدًا على طريقة تأثر العقل الإسلامي بمنهج التربية الإسلامية في تربية العقول. يوجه الإسلام الطاقة العقلية أول ما يوجهها إلى التأمل في حكمة الله وتدبيره. وهو أمر أقرب ما يكون إلى مملكة الروح. الله الخالق المدبر الذي خلق السموات والأرض بالحق، ويدبرها بالحق, ذلك موضع التأمل. وهو بحر واسع من التأملات لا ينتهي ولا ينفد ... ولقد عالجته الفلسفات من أول ظهورها إلى اليوم. ولكن في ذهنيات مجردة جافة لا تنبض بالحياة ولا تصل إلى غاية. بينما يمزجها القرآن بنداوة الروح فتنبض، وتسري الحياة إليها فتهز القلب البشري وتربطه بالله1.   1 انظر فصل "لا تفكروا في ذات الله" في كتاب "قبسات من الرسول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 إن هذا التأمل ليس مقصودًا لذاته، ليس مقصودًا به أن يصبح فلسفة! يتعاظل فيها الفلاسفة ويغمضون ويبهمون. ثم لا ينتهون إلى شيء! إنما غايته إصلاح القلب البشري، وإقامة الحياة في الأرض على أسس من الحق والعدل الأزليين الكامنين في بنية الكون وبنية الحياة. يكرر القرآن هذه الحقيقة في كثير من آياته: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} 1. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} 2. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} 3. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4. {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} 5. {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} 6. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} 7. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} 8. {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 9. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} 10. الحق إذن في بنية الكون ذاته يوم خلقه الله. فقد خلقه بالحق، فامتزج الحق في كيانه، وارتفع عن الباطل والضلال. فالكون لم يوجد مصادفة، ولم يوجد باطلًا، ولم يوجد عبثًا. وكذلك الإنسان: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 11. وفي آية التغابن يربط بين خلق السموات والأرض بالحق، وخلق الإنسان   1 سورة الأنعام 73. 2 سورة إبراهيم 19. 3 سورة الحجر 85. 4 سورة النحل 3. 5 سورة العنكبوت 44. 6 سورة الروم 8. 7 سورة ص 27. 8 سورة الدخان 38. 9 سورة الجاثية 22. 10 سورة التغابن 3. 11 سورة المؤمنون 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 في صورته الحسنة: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} فيجعل خلق الإنسان على صورته التي هو عليها جزءًا من الحق الذي خلقت به السموات والأرض. كما يربط في آية الجاثية بين خلق السموات والأرض بالحق، وجزاء كل نفس بما كسبت: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فيجعل الجزاء الأخروي جزءًا من الحق الذي خلقت به السموات والأرض. كما جعل الرجعى إلى الله حقًّا ينفي به عن الله سبحانه وتعالى العبث في الخلقة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ؟} . وبذلك يكون الإنسان منذ نشأته إلى رجعته، إلى توفيته الجزاء يوم الجزاء، قائمًا بالحق في كل مرحلة، محاطًا بالحق في كل خطوة، لا باطل في خلقته ولا عبث ولا لهو ولا انحراف. هذا المعنى عميق جدًّا في بناء الفكرة الإسلامية. والقرآن لا يزال يلح في توكيده، والتوقيع على الحس البشري ليتنبه إليه. إنه أساس العقيدة الذي تنشأ عليه الحياة. الحق في السموات وفي الأرض وفي الناس والحياة. والقرآن ذاته هو الحق. ونزل بالحق. {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} 1. وفي هذا الجو المشبع "بالحق" يربي الإسلام النفس البشرية، فيعمق في شعورها الإحساس بالحق حتى يصبح هو العقيدة ويصبح هو الحياة. إنه لا شيء يحدث باطلًا، ولا شيء يحدث اعتباطًا. كل شيء بالحق ... ولقد يعجز الذهن البشري أحيانًا عن أن يحيط ببعض الحقائق التي تصادفه في حياته فيضل. يضل فيظن أن الحياة باطل وكل شيء فيها عبث لا حكمة فيه.. ومن ثم تتشتت روحه وتنفجر وتتناثر، وتفقد "الحق" الذي يسير كيانها.. فتضيع. وكأي من روح ضالة أضلها هذا الوهم وشردها وشتت كيانها، فعاشت بلا هدف. شقية معذبة. لا هي تصل إلى غاية، ولا يهي تقدر على إنتاج مفيد.   1 سورة الإسراء 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وكأي من روح ضالة أضلها هذا الوهم فغرقت في الشهوات، تغرق في كأسها المدنس شقوة العذاب. وكأي من روح ضالة أضلها هذا الوهم فطغت وتجبرت وراحت تنشر الفساد في الأرض، والمظالم في الناس. وألوان من الضلالات شتى، منبعها كلها هذا الوهم الباطل: أن الحياة بلا غاية والكون بلا ناموس! من أجل ذلك يهتم الإسلام اهتمامًا بالغًا بلفت الحس البشري إلى "الحق" في السموات والأرض والحياة والإنسان. ويجعل التدبر في هذا الأمر جزءًا من العقيدة، تقوم به القوة الواعية في الإنسان. وتقوم به في جو من إشراقة الروح، حتى لا تذهب بددًا وتتيه في الظلمات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1. فأولو الألباب "يتفكرون". يستخدمون قواهم الواعية في تدبر آيات الله في الكون وتأملها. ولكنهم لا يتفكرون فكرًا مجردًا ذاهلًا عن الواقع المحسوس، هنالك في الأبراج العاجية، حيث لا يصلون إلى شيء. ولا يتفكرون كذلك بمعزل عن الله، فيضلوا، إنما يتفكرون وهم يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ومن ثم يتصل الفكر عندهم بالله، ويتصل "العلم" كذلك بالله2. وهم لا يتفكرون في الله وآياته هكذا بلا هدف. وإنما هم يصلون إلى هدفهم سريعًا: {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . فيعرفون لتوهم أنه الحق. ويلاحظ أن الآية لم تفصل بين التفكر وبين نتيجة التفكر، ولا حتى بكلمة "يقولون": {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . فكأنما التفكر ونتيجته شيء واحد متصل متلاحق سريع. ثم هم لا يقفون عند النتيجة "الذهنية" التي انتهوا إليها من التفكر "وعرفوها" لا يقفون عند المعرفة   1 سورة آل عمران 190-191. 2 انظر فصل "طلب العلم فريضة" في كتاب "قبسات من الرسول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 في ذاتها بلا غاية. فالمعرفة ما لم تؤد إلى شيء. ما لم تؤد إلى غاية في حياة الإنسان. فوجودها وعدمها سيان. وإلا فكم من حقيقة "موجودة" في الكون. ولكنها ليست موجودة بالنسبة للإنسان، حتى يتفاعل معها، وينتج عن تفاعله معها شيء ما في حياته الواقعية على الأرض.. لذلك لا يقفون عند المعرفة الذهنية، وإنما تتحرك في الحال قلوبهم وأرواحهم بالتسبيح: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} . ثم لا يقفون عند التسبيح المجرد. لا يقفون عند مجرد الاعتقاد في الله وتسبيحه. إنما هم يصلون من ذلك إلى الإيمان الكامل الذي يشمل الحياة كلها والأعمال والمشاعر والأفكار. يصلون إلى المنهج الإيماني الذي يعيشون به على الأرض، وينفذونه في واقع الحياة، ويجاهدون في سبيله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 1. إن هذه الآيات هي المنهج الكامل للتأمل الإسلامي في ملكوت الله. وهي التوجيه الذي يوجه العقل في أول مهمة من مهامه: مهمة تدبر آيات الله في الكون. إنها تبدأ بالتفكر وتنتهي بالعمل. العمل بمقتضى الدستور "الحق" الذي نزل به القرآن.. والجهاد في سبيل إقرار هذا الدستور، وتسيير دفة الحياة على نهجه وشريعته. ثم تصل إلى الغاية القصوى. تصل إلى الجزاء في الآخرة فتصل الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة. وتصل البشر بالله. منهج مذهل في دقته وتكامله وروعة توجيهه ... كله في ست آيات!   1 سورة آل عمران 191-195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وحين يقيس الإنسان هذا اللون من التوجيه للطاقة العقلية في تدبر حكمة الله وتدبيره، بالفلسفة قديمها وحديثها، والمعاظلات الذهنية المنبثة في تضاعيفها، يدرك في الحال عظم الفرق، وعظمة المنهج الإلهي في تربية العقل البشري. ويعلم أنه سبحانه خلق كل شيء بالحق. وجعله منهجًا لإقامة الحق في الحياة. وقد كان العقل الأوربي قد شطح وهو يبحث في آيات الكون حتى زعم أن الكون بلا خالق، وأنه حدث مصادفة، وأنه لا قاعدة له ولا ناموس! ثم فاء أخيرًا إلى الحقيقة، فاء إلى شيء من "الحق" الذي خلقت به السموات والأرض والحياة والإنسان. وبدأ علماء الغرب يعرفون أنهم كانوا خاطئين في شطحتهم، مبتعدين عن العلم الصحيح. يقول أ. كريسي موريسون في كتاب "العلم يدعو للإيمان": "إن وجود الخالق تدل عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة. وإن وجود الإنسان على ظهر الأرض، والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برناج ينفذه بارئ الكون". "إن الإنسان ليكسب مزيدًا لا حد له من التقدم الحسابي في كل وحدة للعلم. غير أن تحطيم ذرة دالتون -التي كانت تعد أصغر قالب في بناء الكون- إلى مجموعة نجوم مكونة من جرم مذنب وإلكترونات طائرة، قد فتح مجالًا لتبديل فكرتنا عن الكون والحقيقة تبديلًا جوهريًّا. ولم يعد التناسق الميت للذوات الجامدة يربط تصورنا بما هو مادي. وإن المعارف الجديدة التي كشف عنها العلم لتدع مجالًا لوجود مدبر جبار وراء ظواهر الطبيعة". أما الفكر الإسلامي فلم يكن في حاجة إلى هذه الشطحة وهو يتأمل ملكوت الله، أو يبحث في العلوم المختلفة نظريها وتجريبيها، يوم كانت أوربا ما تزال غارقة في الظلمات، لأنه يفكر مهتديًا بالله، ويفكر بعقله المستضيء بإشعاع الروح1. ويوجه الإسلام الطاقة العقلية إلى النظر في حكمة التشريع:   1 انظر فصل "طلب العلم فريضة" في كتاب "قبسات من الرسول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 3. {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 4. {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 5. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 6.   1 سورة البقرة 179. 2 سورة البقرة 184. 3 سورة البقرة 219. 4 سورة البقرة 229-230. 5 سورة البقرة 241-242. 6 سورة البقرة 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1. {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} 3. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 4. إلخ. إلخ.   1 سورة النساء 23-26. 2 سورة المائدة 89. 3 سورة الأنعام 119. 4 سورة الجمعة 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إن التشريع منزل من عند الله. ولكن القائمين به هم البشر. وينبغي أن يكون البشر واعين لحكمة التشريع، وإلا فلن يطبقوه على تمامه، ولن يطبقوه على وضعه الصحيح. إن الحياة لا تسير آلية بحيث تنطبق عليها القاعدة التشريعية انطباقًا آليًّا. وإنما هناك مئات من الحالات للقاعدة الواحدة. وما لم يكن الإنسان فاهمًا للحكمة الكامنة وراء التشريع، وفاهمًا لترابط التشريعات في مجموعها، فلن يتمكن من تطبيقها في تلك الحالات المختلفة التي تعرض للبشر في حياتهم الواقعية. وقد عني القرآن كما هو ظاهر من آيات التشريع التي أوردناها بأن يوقظ العقل البشري لتدبر هذه الآيات. وفهمها، ووعيها، حتى يستطيع تطبيقها على خير وجه. وهناك كثير من آيات التشريع الأخرى في القرآن، لا يرد فيه التوجيه الصريح بالتدبر والتفكير ولكنها محمولة على هذا الأمر العام، الذي يدعو العقل للفهم والتبين، قبل التطبيق والتنفيذ. وقد شهد الواقع الإسلامي جهدًا ضخمًا في ميدان الفقه. يعتبر تراثًا إنسانيًّا خالدًا. والكثير من هذا الفقه قد بقي حيًّا إلى هذه اللحظة، رائعًا بعمق ما فيه من استدلال. وقد كان انطلاق الفكر الإسلامي في هذا الميدان صدى للتوجيه القرآني الحكيم، بتدبر الآيات وتعلمها، والنهي عن الخوض فيها بغير عدتها الواجبة لها من العلم والتبين والتفكير. ومنذ العصر الأول ظهرت -حتى في التشريعات التفصيلية الثابتة المحكمة- حالات تستدعي إعمال الفكر، وفهم الحكمة، وفهم الترابط العام بين جميع التشريعات. ومن ذلك عدم تطبيق عمر لحد السرقة على الفتيان الذين سرقوا ناقة ابن حاطب بن أبي بلتعة, لأنه اعتبر الجوع الذي يقاسونه شبهة تدرأ عنهم الحد وقال: $"والله لولا أنني أعلم أنكم تستعملونهم فتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم", وكانت حكمته في هذا التصرف مستمدة من وعيه بحكمة التشريع الإلهي في مجموعه. التشريع الذي يجعل ولي الأمر مسئولًا عن كفاية الفقراء وإتاحة الحياة الكريمة لهم، قبل مطالبتهم بالتزام الفضيلة، وقبل معاقبتهم حين ينحرفون. ومن جانب آخر فإن التشريعات المتعلقة بأمور متغيرة في الحياة البشرية، وهي سياسة الحكم وسياسة المال قد اقتضت حكمة الله فيها أن يشمل التشريع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الأسس والمبادئ دون التفصيلات والأشكال، لأن أية تفصيلات وأية أشكال ستكون موقوتة بفترة معينة، بينما الأسس والمبادئ هي الإطار الذي ينبغي أن تسير الأمور في حدوده، متجددة بتجدد كل عصر ودرجته من العلم، ودرجته من التفاعل مع الكون المادي، وصورة المجتمع الذي يعيش فيه؛ ملتزمة مع ذلك بهذا الإطار العام لا تخالفه ولا تخرج عنه. ففي سياسة الحكم مثلًا ورد أساسان شاملان هما العدل والشورى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 1 {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2. ولكنه لم يبين أي طريقة تكون عليها الشورى. أهي مجمع من رؤساء القبائل والعشائر؟ أم مجلس برلماني. منتخب أو معين. أم مجلسان. أم ... أم.. لأن هذه صورة متغيرة بتغير صورة المجتمع وإمكانياته. وجاء في سياسة المال: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فقرر كراهية حصر المال في يد فئة قليلة يتداولونه بينهم وبقية الأمة محرومة منه. أما طريقة اشتراك الأمة في الخير المشترك فقد تركها لكل جيل يصوغها في الصورة التي تلائم ظروفه وعلمه وإمكانياته، بحيث لا يخرج على تلك القاعدة الكبيرة، فلا يلجأ مثلًا إلى الإقطاع أو الرأسمالية كما فعلت أوربا. ولا يلجأ لنزع الملكية جميعًا كما صنعت الشيوعية3. ولهذا وذاك طلب يقظة الإنسان لحكمة التشريع الإلهي. ووعيه وتدبره، ضمانًا لسير الأمور في الأرض على نهج من العدالة والحق المستمدين من العقيدة في الله. ولكن ينبغي لنا أن نلاحظ كيف امتزج التشريع دائمًا بالتوجيه إلى الله، لا تكاد تخلو آية تشريعية في القرآن كله من ذكر الله، والتوجيه إلى خشيته. والترغيب في مثوبته ورضاه. لقد كان من مزايا هذه العقيدة الكبرى أنها أطلقت العقل البشري يعمل في أوسع نطاق متاح على الأرض. ولم تغلق عليه الأبواب أو تجمده في قوالب مصبوبة لا فكاك منها. وكان من آيات الإسلام الكبرى أنه في دعوته إلى الإيمان   1 سورة النساء 58. 2 سورة الشورى 38. 3 انظر فصل "أنتم أعلم بأمور دنياكم" في كتاب "قبسات من الرسول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 بالله لم يقهر العقل بالخوارق القاهرة التي يعنو لها الفكر, ولا بأسرار لا حيلة له فيها ولا اختيار. بل خاطبه ووعاه وأيقظه وناقشه. وجعله يشترك في عملية الإيمان الواعية، الجديرة بالإنسان الذي كرمه الله بالأفئدة والأبصار. ولكنه كما قلنا من قبل لم يدعه يحمل العبء الثقيل وحده فلا ينهض به. وإنما أعطاه دائمًا إشعاعة من قبس الروح المضيئة تضيء له الطريق، وزوده دائمًا بنور الإيمان. وكان في ذلك ملبيًا لطبيعة الفطرة. ملبيًا لحقيقة الكيان البشري الذي لا تنفصل فيه طاقة عن طاقة، ولا جزء عن بقية الأجزاء. وكما أطلقه من قبل يتدبر آيات الله في الكون، ليهتدي إلى "الحق" في خلق السموات والأرض والحياة والإنسان، ويعمل بمقتضى هذا الحق، ويجاهد في سبيل إحقاقه، فكذلك يطلقه هنا يفهم حكمة التشريع ليهتدي إلى ذلك "الحق" فيعمل بمقتضاه. ومن هنا يمتزج التشريع بالتوجيه، وتمتزج الأحكام بالتقوى التي تضيء الوجدان. ولم يكن ذلك تلبية لفطرة النفس الداخلية فحسب، بل كانت كذلك خبر سياسة تضمن سير الأمور في المجتمع بدافع من الرغبة لا بدافع الخوف من العقاب. لقد شرعت العقوبات لضمان تنفيذ الحد الأدنى من التشريع الذي لا يقوم المجتمع بدونه. ولكن ذلك لم يكن كل هدف الإسلام. فهو يكفي لحفظ المجتمع من السقوط، نعم. ولكنه لا يكفي لترقية المجتمع وحثه دائمًا إلى الأمام. فهذا أمر تقوم به الرغبة المنبعثة من داخل الضمير. الرغبة النبيلة المتطوعة التي لا تبحث عن حدود القانون لتقف عندها ملقية أثقالها، نافضة يديها. وإنما تبحث عن الآفاق العليا تحاول الصعود إليها. وتجد لذاتها في ذلك الصعود. وهذا لا يجيء بالتشريع. وإنما يجيء بالتوجيه. توجيه القلب إلى الله، ووصله به والتطلع إلى رضاه. وهما أمران متلازمان.. الحد الأدنى المفروض، والحد الأعلى المطلوب. ومن ثم تلازم التشريع والتوجيه في القرآن، وامتزجا فهما شيء واحد عسير التفريق! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ويوجه الإسلام الطاقة العقلية كذلك لضمان سير الأمور في المجتمع على منهج صحيح. إنه لا بد للمجتمع من سياسة. سياسة ينفذها الحاكم والشعب، على التشاور بينهما والتضامن و "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1. وما لم تكن هذه السياسة واعية، فإن الفساد يتطرق للمجتمع، وتنهار الدولة ويستولي عليها الأعداء. وكل فرد من الأمة المسلمة مطالب بالرقابة على المجتمع، مسئول عن كل ما يقع فيه، وإلا أصابه جزاء غفلته ولو لم يكن هو ذاته من الظالمين. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 2. وإنما تصيبكم جميعًا جزاء قعودكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 3. "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان" 4. "إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم" 5. هذا التكافل في المجتمع، والرقابة على سير الأمور فيه، يقتضيان وعيًا كافيا ويستلزمان عقولًا ناضجة. ولا بد من توجيه الطاقة العقلية للعمل في هذا الميدان، فهذا هو الضمان لحسن سير الأمور. والقرآن يوجه المسلمين في ذلك توجيهات شتى. فهو مرة يبصرهم بأعدائهم الذين يتربصون بهم ليحذروهم، ويكونوا على الدوام متيقظين لهم واعين لمؤامراتهم ودسائسهم. وتارة يوجههم لطريقة تلقي الأنباء والتصرف في الأمر حتى تشيع الشائعات حول أمر من الأمور. وتارة يوجههم إلى حسن الحكم على الأشياء والأشخاص، وعدم التسرع في إصدار حكم على أمر لم تتبين   1 رواه البخاري ومسلم. 2 سورة الأنفال 25. 3 سورة المائدة 78-79. 4 متفق عليه. 5 رواه ابن ماجه وابن حبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 كل خطوطه، وتارة يوجههم لطاعة أولي الأمر في حدود طاعة هؤلاء لله والرسول, وهكذا وهكذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 2. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} 3. {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} ؟ 4. {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} 5. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 6. ويلاحظ في هذه الآيات والكثير غيرها مما يجري مجراها، ما لاحظناه من قبل من أن كل توجيه تنظيمي يصحبه ويلزمه التوجيه إلى الله والدعوة إلى تقواه. وهذا عدا التوجيهات الإيمانية الأخرى في هذا الموضوع بالذات. التوجيهات التي ترد القيم الاجتماعية كلها إلى الله، والإيمان بالله، وتجردها.   1 سورة آل عمران 118-120. 2 سورة النساء 59. 3 سورة النساء 83. 4 سورة النساء 88. 5 سورة المائدة 100. 6 سورة الحجرات 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 من كل قيمة زائقة من قيم الأرض، سواء كانت هذه القيمة سلطانًا عاتيًا في الأرض، أو جاهًا كاذبًا، أو مالًا يقتن عن الإيمان، أو ترفًا يفسد النفس ويفسد العزيمة، أو إشراكًا بالله قوة من قوى الأرض الهزيلة الفانية. وذلك كثير جدًّا في تضاعيف القرآن، تستخدم له كل وسائل البيان من موعظة مباشرة، إلى أمر إلى نهي، إلى قصص تمثيلي، إلى قصص واقعي. وكلها تهدف إلى هدف واحد: هو إيقاظ القلب البشري للقيم الحقيقية الواجبة الاحترام الجديرة بالاتباع، وإيقاظ العقل لتدبر هذه القيم ووزن الأمور وزنها الصائب، لتسير الأمور في المجتمع على هذا النور، ولا ينخدع الناس بالقيم الزائفة فينحرفوا عن سبيل الله، ولا تفتنهم قوة زائلة أو جاه زائف أو مال فاتن أو شهوة مندفعة، عن المصلحة الاجتماعية الحقيقية المتمثلة في توجيه الله ومنهج الله. ويوجه القرآن الطاقة العقلية إلى النظر في سنة الله في الأرض وأحوال الأمم والشعوب على مدار التاريخ. {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} 1. {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} 2. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 3. {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} 4.   1 سورة آل عمران 137-138. 2 سورة الأنعام 6. 3 سورة الأنعام 11. 4 سورة الأعراف 136-137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2. {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} 3. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} 4. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 5. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 6. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} 7. {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 8. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ   1 سورة الأعراف 96. 2 سورة يونس 13-14. 3 سورة هود 18-20. 4 سورة يوسف 109. 5 سورة الحج 40-41. 6 سورة النور 55. 7 سورة النمل 69. 8 سورة القصص 4-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 1. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} 2. هذه الدعوة المتكررة تلفت النظر ولا شك. إنها دعوة تلح على الناس أن ينظروا في تاريخ من قبلهم، ويدرسوا عوامل الفناء والبقاء في المجتمعات، دراسة واعية متفتحة بصيرة معتبرة. إنها ليست دعوة "لحفظ" التاريخ من أجل الامتحان فيه آخر العام! وليست دعوة للتفكه بدراسة التاريخ والتظاهر بالعلم! إنها دعوة للنظر والاعتبار. دعوة للاستفادة من تجارب البشرية السابقة. دعوة ذات منهج مرسوم. إن تاريخ الأمم وحياة المجتمعات في نظر الإسلام -وهو كذلك في واقع الأمر- ليس أطوارًا متعاقبة بغير معنى، ولا هدف، ولا غاية، ولا نظام معروف. إنها تتبع سنة معينة. {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 3. سنة الله التي تعمل بما أودعه الله في الإنسان من طاقات واستعدادات، وما أعطاه من قدرة على الاختيار بين أحد طريقين: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 4. إنها طريقان لا ثالث لهما: الهدى أو الضلال. الاهتداء بما أنزل الله على عباده من منهج، وما وجههم من توجيه، أو الانحراف عن طريق الله الواضح المبين. الهدى يتبعه الخير والبركة والتمكين في الأرض. والضلال   1 سورة الروم 9. 2 سورة غافر 21. 3 سورة الأحزاب 62 انظر "معركة التقاليد" فصل "حقائق وأباطيل". 4 سورة الشمس 7-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يتبعه الفساد والضعف والانحلال والفناء، ولو ظل الباطل يقاوم ويعاند، ولو ظل متماسكًا فترة من الوقت يبهر الأنظار. وليس للبشرية في تاريخها كله سوى أحد هذين الطورين المتغايرين.. مهما بدا في الظاهر من "تطور"، وتغير، وانتقال. ليست العبرة بالقوة المادية: {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} . ليست بإثارة الأرض واستغلال مواردها. ليست بالتمكين المادي: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} . ليست بتغير وسائل الإنتاج. ليست بأي شيء يقع خارج النفس. إنما العبرة بالنفس من داخلها. مهتدية أم غير مهتدية. مستغلة لقوى الأرض المادية في سبيل الخير أم في سبيل الشر. إن التفسير المادي للتاريخ ليبدو في نظر الإسلام -وكذلك في الواقع- قزمًا ضئيلًا يمسك في يده مفتاحًا كلعب الأطفال يحاول به أن يفتح الباب الضخم.. باب التاريخ! إنه يغفل الحقائق الكبرى ويهتم -كالأطفال- بالبريق الظاهر، ويقصر همه على ظواهر الأشياء. إنه يغفل حقيقة بديهية هي أن وسائل الإنتاج المادي لم تكن قط هي المقرر لوقائع التاريخ. إنما طريقة استخدام وسائل الإنتاج، والروح التي تستخدم بها، هي التي تقرر وقائع التاريخ! في عهد "الزراعة" وجد الإقطاع في أوربا ولم يوجد الإقطاع في الإسلام. لأنه لم تكن في أوربا عقيدة هادية في توزيع المال على الناس. وكانت في الإسلام عقيدة هادية تأمر بتوزيع المال على الجميع {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 1 فلم يوجد قط الفلاح المستعبد للأرض، الذي يباع معها ويمتلك معها، ولا يستطيع مغادرتها وإلا أمسك به القانون ورده لصاحبه يفعل فيه ما يشاء! في عهد "الصناعة" وجدت الرأسمالية والشيوعية متجاورتين في الأرض، وكل منهما له طريقته في التوزيع! وفي كل عهد يمكن أن يستخدم الشيء الواحد ذات اليمين وذات الشمال،   1 سورة الحشر 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بحسب ما "يعتقد" الناس أنه الحق. أو بحسب ما تجرفهم إليه الشهوات والأهواء. وليست "الأطوار" التي يرسمها التفسير المادي للتاريخ إلا أطوار الحضارة المادية في الأرض. ولكنها ليست أطوال التاريخ، ولا أطوار الإنسان. فقد كان الإنسان مهتديًا في كل عصر من عصور التاريخ، وكان ضالًّا في كل عصر من عصور التاريخ، فلم يقيده شيء من الأطوارل المادية بهدى أو ضلال. ولم يرسم له التقدم المادي طريقًا معينة يتحتم عليه المسير فيها، ولا كانت لهذا التقديم في ذاته دلالة معينة في خط سير البشرية. وأوضح الأمثلة على ذلك هذا العصر الذي نعيش فيه. العصر الذي وصل فيه التقدم العلمي والمادي إلى ذروته، ووصلت الإنسانية إلى حضيضها من التقاتل الوحشي والتخاصم الذي يقطع أواصر الإنسانية ويجعلها تعيش في رعب دائم وخوف من الدمار، كما وصلت إلى الحضيض في تصورها لأهداف الحياة وغاية الوجود الإنساني وحصرها في اللذة والمتاع، وانحطاطها -تبعًا لهذا التصور- إلى أحط دركات الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية التي يعف عنها الحيوان1! والإسلام يوجه القلب البشري أن يفتح بصيرته على عوامل التطور الحقيقية في المجتمعات، ويستخدم طاقته الواعية في تدبرها والبحث في أسبابها ونتائجها، بما يعرض عليه من الأمثلة التاريخية المتعددة التي تحققت فيها سنة الله الخالدة: سنة التمكين للمؤمنين -حين يؤمنون الإيمان الحق- والتدمير على الكافرين ولو استكبروا بباطلهم بعض الوقت وعتوا في الأرض مفسدين. سنة دائمة لا تتغير. النصر للإيمان. والخذلان للكفر. وإن بدا في لحظة من اللحظات أن الواقع هو النقيض! إن القرآن يوجه القلوب والعقول ألا تستعجل النتائج. فهي لا بد آتية حسب السنة الماضية التي لا تتبدل. وأعمار الأفراد ليست هي المقياس. والجولة العارضة ليست هي الجولة الأخيرة. قد ينتصر الباطل فترة من الوقت ويزدهر ويتمكن ويعلو في الأرض. ولكن هذا ليس نهاية القول ولا نهاية المطاف. إنه جزء من سنة الله المتشعبة الجوانب. قد يكون لأن الناس ضعفوا واستكانوا ولم يطلبوا   1 انظر "معركة التقاليد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 التغيير: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1. وقد يكون لأنهم استطابوا الظلم: "كيفما تكونوا يول عليكم" 2. وقد يكون فتنة للذين ظلموا {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3 وقد يكون الله يريد أن يمحص المؤمنين ليحملوا العبء على سلامة وتمكن واستعداد: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} 4 وقد يكون, وقد يكون, ولكن السنة دائمًا واحدة لا تتبدل. ماضية لا تتخلف ولا تنحرف عن السبيل. ومن ثم فالمسلمون مطالبون بدراسة التاريخ وتأمله ليحفظوا هذه العبرة وليفيدوا منها في تصحيح منهجهم والاهتداء به إلى سواء السبيل. ومنهج التاريخ الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي من ثم يفترقان عن منهج التاريخ ومنهج الاجتماع الأوربيين في الوقت الحاضر افتراقًا أساسيًّا لا يمكن إغفاله. فهو ينبغي أن يكتب وأن يدرس على أساس هذين الخطين الرئيسيين في حياة البشرية: الاهتداء بهدي الله والانحراف عن سبيل الله، وأثر كل منهما في واقع التاريخ، وهو ذات العنصر الذي تغفله أوربا عمدًا، وتروح تدرس ظواهر الأشياء المنقطعة عن الحقائق الأصلية في سنة الله وواقع التاريخ! ثم يوجه العقل البشري إلى استخلاص الطاقة المادية وتذليلها لخدمة الإنسان. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} 5. {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} 6.   1 سورة الرعد 11. 2 رواه الحاكم. 3 سورة النحل 25. 4 سورة آل عمران 139-141. 5 سورة الأعراف 160. 6 سورة الملك 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} 1. {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} 2. إلخ.. إلخ. يوجهه إلى استخلاص الطاقة المادية وقد وجهه من قبل إلى تدبر حكمة الله في الخلق، وأنه سبحانه خلق السموات والأرض "بالحق". ووجه إلى حكمة التشريع وأنها إقامة العدل والحق بين الناس في الأرض. ووجهه إلى طريقة إقامة المجتمع الصالح وأنها إطاعة الله ورسوله، وإطاعة أولي الأمر فيما يهتدون بهدي الله ورسوله. ووجهه إلى سنة الله الماضية في الأمم على مدار التاريخ، وأنها التمكين لمن يؤمنون بالله ويستخدمون مواهبه ونعمه في سبيل الخير {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} 3 والذل والهوان للذين يكفرون بالله ويستخدمون مواهبه ونعمه في الفساد في الأرض: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 4. فهؤلاء دمر الله عليهم حين لم يرعوا نعمته وكذبوا بآياته، وما كانوا في هذا التدمير مظلومين. ويوجهه إلى استخلاص الطاقة المادية وقد وجه روحه من قبل إلى الارتباط بالله وخشيته وتقواه.. ومن ثم يعمل العقل البشري في استخلاص هذه الطاقة غير مفتون بها، ولا شاعر بأنها خلاصة الحياة وجوهرها الأوحد. فينتفع بثمارها وهو مالك لأمره منها، غير مستعبد لها ولا منجرف في طريقها. وتلك نقطة حاسمة فيما بين الإسلام وغيره من النظم والعقائد والأفكار. إن الإسلام لا يهمل واقع الأرض ولايهمل عالم المادة. والتاريخ هو الدليل.   1 سورة الأعراف 10. 2 سورة الأنبياء 80. 3 سورة الحج 40-41. 4 سورة الروم 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 لقد نشأ الإسلام في البادية العربية، في بلاد لا تعرف من الحضارة المادية إلا القليل الذي يهبط عليها من أصقاع الأرض؛ مع القوافل الغادية الرائحة. ولا تهتم هي إلا بالشعر والحروب القبلية.. لا تفكر في علم ولا اختراع ولا بحث تجريبي ولا تفكير نظري.. ولكن الإسلام بعثها بعثًا عنيفًا متدفقًا كأنما هي سيل يتحدر من ارتفاع شاهق فيملأ السهول والوديان.. بعثها فإذا هي تنشط في كل ميدان من ميادين النشاط البشري: في العلم والعمل. في الحرب والسياسة. في الفقه والتشريع.. وما أسرع ما وقع المسلمون على علوم الإغريق والمصريين والهنود، من طب وفلك وطبيعة وكيمياء ورياضيات، فنهلوا منها في نهم، وانطلقوا يضيفون في كل فرع منها إضافات حية أصيلة، تقدمت بالمعرفة الإنسانية أشواطًا هائلة وعاها التاريخ، ووعتها أوربا بصفة خاصة، إذ قامت كل نهضتها الحديثة عليها، وإن كانت الخسة قد أدركتها، فتنكرت للمسلمين الذين تتلمذت على أيديهم في الأندلس وغير الأندلس، وراحت تحاربهم وتجليهم من الأرض، ثم تستعمرهم أبشع استعمار. والمذهب التجريبي الحديث، الذي قام عليه كل "العلم" الأوربي، هو -باعتراف الأوربيين أنفسهم- تراث إسلامي أصيل. يقول هـ. ر. جب في كتابه "الاتجاهات الحديثة في الإسلام": "أعتقد أنه من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة، وأنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى أوربا في العصور الوسطى". وفي ذلك الاعتراف ما يكفي لإثبات جهد المسلمين الملموس في ترقية العلوم -نظريها وتجريبيها- وقت أن كانوا مسلمين. ولكن هذا التقدم المادي -الذي قطعوا فيه أشواطًا عظيمة- لم يفتنهم قط ولم يخرج بهم عن إنسانيتهم! وتلك مزية الإسلام! إن المسلمين لم يفتنهم التقدم المادي فينقطعوا عن الله ومنهجه وعبادته والسير على هداه. لم يفتهم فينقطعوا عن عالم الروح. ولم يفتنهم فيستغلوا علمهم في سبيل الشر. لم يفتنهم فيحولهم إلى المادية الكريهة التي تسيطر اليوم على الغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لم يفتنهم فينبذوا أخلاقهم جانبًا بحجة أنهم "تقدميون"! بل سار العلم في ظلال العقيدة يكشف ويصل كل يوم إلى جديد، وهو ماض في طريق الخير، لأنه سائر في طريق الله1. ليس في حياة المسلمين تلك النفرة الكريهة بين الدين والعلم. ولا بين البشر والله. ولقد أثرت في لا شعور الأوربيين تلك الأسطورة اليونانية النكدة، أسطورة برومثيوس سارق النار، فشكلت مشاعرهم تجاه الله سبحانه، وانحرفت بهم عن نهجه وهداه. "هذه الأسطورة تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة صراع دائم وضغينة وأحقاد. علاقة لا ترف فيها مشاعر الرحمة أو العطف أو المودة. ولا يهدأ أوارها حتى يشتغل من جديد. "والمعركة قائمة على النار المقدسة: نار "المعرفة". البشر يريدون أن يستولوا على هذه النار المقدسة ليعرفوا أسرار الكون كلها ويصبحوا آلهة. والآلهة تنكل بهم في وحشية وعنف، لتنفرد وحدها بالقوة، وتنفرد دونهم بالسلطان! "تلك إذن هي طبيعة العلاقة بين البشر والله! العلاقة التي اندست في أوهام الأوربيين وصارت تصرف أفكارهم بغير وعي. العجز وحده هو الذي يخضعهم لمشيئة الله! وهم غير راضين عن هذا العجز ولا ساكتين عنه. فهم في محاولة دائمة يطلبون "القوة" ويطلبون "المعرفة". يحاولون دائمًا أن يقهروا هذا العجز. أو يقهروا -بلغتهم- قوة الطبيعة. أو -بلغتهم اللاشعورية أيضًا- ينتزعوا الأسرار! ينتزعوها من الإله الوثني القديم الذي كانوا يحاولون أن ينتزعوا منه ناره المقدسة! "وبهذا الدافع الخفي المطبوع في أعماق النفس الغربية -في أعماق اللاشعور- يحس الغربيون أن كل خطوة يخطوها "العلم" ترفع الإنسان فوق نفسه درجة، وتنزل الإله من عليائه بنفس القدر!   1 انظر فصل "طلب العلم فريضة" في كتاب "قبسات من الرسول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 "وتظل "المعركة" هكذا دائرة: كل فتح جديد من فتوحات العلم يخفض الإله ويرفع الإنسان، حتى تأتي اللحظة المرقوبة التي يتحلب لها ريق الغرب ويتلهف إليها. اللحظة التي "يخلق" فيها الإنسان الحياة، ويصبح هو الله"1. هذه واحدة. وفي أوربا التي يسيطر عليها العلم المنقطع عن الله، والمادة المنقطعة عن الروح، أحدث التقدم المادي الضخم انقلابًا خطرًا في كيان الإنسان. انقلابًا أدى به إلى أن يكون آله حيوانية تعمل كآلالات. "وقد كانت "الآلة" -في فترة طويلة من تاريخ البشرية- مصدر قوة سيكلوجية للإنسان. "كان هناك عامل مهم في الموضوع. كان الإنسان هو الذي يدير الآلة! كان يشعر أنه هو القوة الموجهة، وأن الآلة خاضعة لإشرافه وتوجيهه. ومن ثم فهو المسيطر، وهو صاحب السلطان. "ولكن الآلة تطورت بعد ذلك". "لم تعد آلة يدوية، يديرها الإنسان بيده، ويشعر بالسلطان عليها، إن شاء وقفها، وإن شاء أطلق لها العنان". "لقد تضخمت حجمًا حتى صار الإنسان بجوارها جرمًا صغيرًا لا يكاد يبين". "وصارت لها قوة ذاتية تتحرك بها من الداخل. ولا يملك وقفها بطريقة مباشرة حين يريد". "وتغير موقفه منها تغيرًا كاملًا داخل المصنع". "فبعد أن كان العامل أو الصانع يصنع العمل كله بيده، أو بالإشراف على آلته وتوجيهها، صار العامل قطعة صغيرة من مجموع العمل. وصارت الآلة المعقدة تقوم بأجزاء كثيرة متعاقبة. ولم يبق للعامل إلا أن يقوم بدق مسمار أو ربطه، أو تقديم مادة خامة للآلة الضخمة التي تبتلعها في طرفة عين وتطلب المزيد.   1 من كتاب "قبسات من الرسول" فصل "طلب العلم فريضة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 "وهنا حدث انقلاب كبير في سيكلوجية الإنسان. "فقد أخذ رويدًا رويدًا يفقد سيطرته على نفسه ويفقد في الوقت ذاته إنسانيته". "لقد توغل شبح الآلة الضخمة في أعماق حسه، وصارت هي القوة القاهرة التي تملي عليه إرادتها، وتصرف حياته كما تريد". "أحس الإنسان بالضآلة فانكمش داخل نفسه. انكمشت مشاعره الحية ورفرفاته المضيئة. انكمشت عواطفه المتدفقة وأشواقه المتطلعة إلى الأفق الطليق". "ورويدًا.. رويدًا تصلبت أنسجة نفسه وجفت، فصارت كالآلة البليدة الصماء التي تسيطر على كيانه". "وصارت حياته كلها روتينًا كروتين الآله! يبدأ في الصباح وينتهي في المساء". "زرار واحد أو مجموعة أزرار تفتح في لحظة معينة مضبوطة كانضباط الآلة، فتشتغل الآلة النفسية مندفعة بما فيها من وقود مشحون. وتظل تعمل وتعمل وتعمل.. حتى يدق لها الجرس. وهنا يسكت العمل فجأة كما ابتدأ فجأة. يسكت كما تسكت الآلة حين يقطع عنها التيار". "ثم تشتغل قطع أخرى من الآلة النفسية حين يجيء عليها الدور". "أو تقف خامدة بليدة بلا حراك". "ولكن الدفعة الحيوية البشرية المكبوتة منذ الصباح لا بد أن تنطلق في صورة من الصور، فهي لم تستهلك كلها في النشاط الآلي الجامد البليد". "وإنها لتنطلق بالفعل. انطلاق البهيمة حين تفك عنها القيود". "فورة جسد هائم مجنون. يهفو إلى جسد هائم مجنون". "وتندفع الشحنة الحبيسة في متصرفها الحيواني، فتهدأ الأعصاب الثائرة لحظة ريثما تشحن في الغد بالطاقة المكبوتة التي تبحث عن التفريغ". "وتصبح كذلك حياة الإنسان: آلية جافة جامدة لا مكان فيها للعواطف الحية أو الأشواق الرفافة، أو اللمسات الدقيقة العميقة، لا مكان فيها للتطلع إلى فكرة عليا أو إحساس كبير. وحيوانية هابطة تستغرق ما بقي من النشاط المذخور". "وبهذا وذلك يتوارى "الإنسان" ويحل محله الحيوان الآلي الذي يملأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وجه الأرض في العصر الحديث"1. وهذه واحدة. ثم ذلك الصراع المجنون الذي يمارسه الغرب اليوم. الصراع على الكسب المادي والغلبة عليه. الصراع الذي يهدد وجه الأرض بالدمار. وهذه وهذه وتلك كلها نتائج لانقطاع الصلة بين الدين والعلم، وبين الإنسان والله. ولذلك يحرص الإسلام أشد الحرص على ربط القلب دائمًا بالله، وتوجيه العقل -وهو يعمل في استنباط الطاقة المادية في الأرض- إلى حكمة الله من الخلق, وآياته في رحاب الكون. العلاقة الدائمة بين العبد والرب في الإسلام هي علاقة المودة والحب والتطلع والرجاء. والبشر لا يحتاجون إلى أن يصارعوا الله سبحانه ليحصلوا على المعرفة، فهو قد أعطاها لهم واهبًا منعمًا فياضًا بالإحسان. هو الذي وهب للناس "السمع والأبصار والأفئدة" وهو الذي {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وهو الذي {رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وهو الذي {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وهو الذي {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . فالرد على هذه المواهب الجليلة كلها هو الشكر والعرفان، والمودة والحب، وليس العصيان والكفران. والعلاقة بين العقل والروح قائمة أبدًا لا تنفصم في منهج الإسلام. ومن ثم لا يضل العقل -وهو يتعلم- ولا ينحرف عن طريق الخير.. ولا يستخدم معلوماته في سبيل الشر. والعلاقة بين الروح والمادة قائمة.. فلا تستعبد الإنسان المادة، ولا يقع فريسة للآلة تستعبده وتسيطر عليه. إنه حافظ لكيانه المتكامل، مستمد قوته من الله. ومن ثم يظل هو المسيطر وهو العنصر الإيجابي الفعال. وتلك طريقة الإسلام في تربية العقل. {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} 2.   1 من كتاب "في النفس والمجتمع" فصل "الإنسان والآلة". 2 سورة البقرة 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الباب الخامس: تربية الجسم حين نتحدث عن الجسم في مجال التربية فليس المقصود هو عضلاته وحواسه ووشائجه فحسب. وإنما نقصد كذلك الطاقة الحيوية المنبثقة من الجسم، والمتمثلة في مشاعر النفس. طاقة الدوافع الفطرية والنزوعات والانفعالات.. طاقة الحياة الحسية على أوسع نطاق. ودون أن ندخل في جدل مع علم النفس التجريبي الذي يقول: إن النفس كلها، بما فيها من مشاعر وأفكار وتصرفات إن هي إلا انعكاس الجسم بكيماوياته وكهربياته، ولا مع النظريات الفلسفية التي تقول إن الجسم مجرد وعاء للنفس. تقول: إن هناك اتصالًا وثيقًا بين النفس والجسم، وتفاعلًا مشتركًا، النفس تؤثر في الجسم، والجسم يؤثر في النفس، ولا انفصال بين هذه وذاك. ولقد قدمنا في الفصول السابقة أن الكائن الإنساني وحدة متصلة مترابطة لا يمكن أن تحل إلى أجزاء، وإنما هي ضرورة البحث التي تملي علينا أن نتحدث عن كل جزء على حدة, وإن لم يكن كذلك في الحقيقة. وهنا بصفة خاصة لا نستطيع أن نفصل بين النفس والجسم. لا نستطيع أن نتحدث عن نشاط جثماني واحد لا يدخل في نطاق النفس. السمع والبصر والذوق والشم واللمس كلها حواس. حواس جسمية. ولكنها لا تؤدي وظيفتها منفصلة عن الكيان النفسي كله. ولا يمكن الحديث عنها منفصلة إلا إذا تحدثنا عن تركيبها الفسيولوجي أو ذهبنا بها إلى الطبيب؛ ليعالج ما طرأ عليها من اختلال في الوظيفة. ولكننا حين نتحدث عنها في مجالها الحيوي الشامل، نتحدث عنها كحاسة موصلة إلى غاية. موصلة إلى أثر نفسي معين يتحقق عن طريق استخدام هذه الحواس. فالرؤية ذاتها بلا وعي. والسمع ذاته بلا تدبر. والذوق والشم واللمس بلا انعكاس لها في محيط النفس.. ليست هي الشيء الذي له قيمة في حياة الإنسان، ولا هي شيء يربى لذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1 أي: إن حواسهم لا تؤدي وظيفتها النفسية, وإن كانت صحيحة التركيب من حيث هي حواس. وكذلك عضلات الجسم وأحشاؤه وعروقه وأعصابه. إنها تركيب جسمي. نعم. ولكنها في النهاية "طاقة حيوية" مجتمعة متحركة لغاية نفسية مرتبطة بها أشد ارتباط. والإسلام في تربيته للجسم والطاقة الحيوية يراعي الأمرين معًا. يراعي الجسم من حيث هو جسم، ليصل منه إلى الغاية النفسية المرتبطة به. فحين يقول الرسول الكريم: "إن لبدنك عليك حقًّا": من إطعام وإراحة وتنظيف وتقويم، فهو يدعو إلى هذه العناية الشاملة بالجسم كله، ليأخذ "الإنسان" بنصيب من المتاع الحسي الطيب الحلال الذي أمر الله به في توجيهاته الكثيرة: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 2 {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 3 أي: لغاية نفسية مقامة على قاعدة جسمية؛ ثم ليوفر الطاقة الحيوية اللازمة لتحقيق أهداف الحياة، وهي أهداف تشمل كل كيان الإنسان. وكذلك توجيهات الإسلام المختلفة في هذا الباب. فالرماية والفروسية -أو الرياضة البدنية عامة- هي جزء من منهج التربية الإسلامية تنص عليه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقصد بها تقوية الجسم ورياضته على احتمال المشاق وبذل الجهد. كما يقصد بها قوة الأخذ بنصيب الإنسان من الحياة، والاستمتاع به. فالجسد الهزيل المريض لا يأخذ نصيبه الحق من المتاع؛ فوق أنه لا يوصل شحنة الحياة إلى النفس توصيلًا صحيحًا تقوم عن طريقه بمهمتها المفروضة عليها؛ وفوق أن جهاد الحياة -والحياة كلها جهاد- في حاجة إلى جسم وثيق متين البنيان. وقد كان من ذلك سباقه صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، وسبقها   1 سورة الأعراف 179. 2 سورة القصص 77. 3 سورة الأعراف 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 إياه مرة وسبقه إياها مرة. وسباقه بناقته القصواء. وكذلك السعي والهرولة في شعائر الحج. كلها تدريب لعضلات الجسم ووشائجه لتربية القوة فيه والسلامة والتمكن. ولكننا في مجال الحديث عن التربية الإسلامية، لن نقف عند حدود الجسم بمعناه الفسيولوجي البحت -وإن كان لذلك المعنى أهميته في نظر الإسلام ونصيبه من عنايته- وإنما نتحدث كذلك عن الطاقة الحيوية المنبثقة من الجسم والمتمثلة في مشاعر النفس، التي ذكرناها في مقدمة هذا الفصل، والتي يخصها الإسلام بجهد فائق من التربية والتدريب. هذه الطاقة يعترف بها الإسلام اعترافًا كاملًا صريحًا قويًّا.. لا يعترف بها خلسة وفي الظلمة، بل يعترف بها جهرة، ويسلط عليها الأضواء. ولكنه "يربيها" كما يربي طاقة العقل وطاقة الروح. يربيها لا بالقمع ولا بالكبت، ولكن بالتنظيف والتهذيب. إنه لا يستقذر الطاقة الحيوية في ذاتها، ولا يحتقرها ولا ينفر منها. لا يقول إنها -في ذاتها- دنس ينبغي التطهر منه، ورجس ينبغي اجتنابه. بل يعترف بها في صراحة كاملة، ويزيد على ذلك فيدعو إلى الاستمتاع بالطيبات منها والإقبال عليها: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} 2 {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 3. {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 4 {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 5. بل يزيد الرسول الكريم فيجعل عليها أجرًا! قال: "وفي بضع أحدكم صدقة"! قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليأتي شهوته ثم يكون له عليها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ " قالوا: نعم. قال: "فإذا وضعها في حلال فله عليه أجر" 6.   1 سورة الأعراف 32. 2 سورة سبأ 15. 3 سورة الكهف 7. 4 سورة الأعراف 31. 5 سورة البقرة 223. 6 رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والإسلام صريح غاية الصراحة في معالجة الأمور الجسدية، في الغسل والوضوء، كما هو صريح في معالجة الأمور الجنسية {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 1 {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 2. وليس بعد ذلك صراحة في الاعتراف بالطاقة الحيوية نظيفة محببة معروضة في موضع النور! كما أن الإسلام يحرص على المظاهر الجسمية النفسية في مجال الجنس. إنه يحب أن يكون الرجل واضح الرجولة والأنثى واضحة الأنوثة. يكره التخنث والميوعة، ويكره المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال. لأنه يحترم الطاقة الجنسية على فطرتها السليمة. يحترمها احترامًا جادًّا، لا على أنها وسيلة للفحش، ولا على أنها وسيلة للتميع والانحلال. والإسلام لا يحتقر "الجسم" ولا يستنكره ولا يستقذره. وأبلغ دليل على ذلك أن العبادات الإسلامية تشرك الجسم في العبادة ولا تسقطه من الحساب. والصلاة بصفة خاصة ملحوظ فيها ذلك الارتباط. فالوضوء عملية جسمية -وإن كانت له معان روحية- قصد بها تطهير البدن قبل الدخول في الصلاة. والصلاة ذاتها حركة جسم في ذات الوقت التي هي فيه يقظة فكر وطلاقة روح. ويظل الجسم مشاركًا للعقل والروح في أثناء الصلاة، يشارك بالحركة والخشوع. ويشارك بالمحافظة على الطهارة، وإلا فسدت الصلاة. والصيام عبادة نفسية جسمية في آن. وكذلك العبادة بمعناها الواسع.. عبادة "العمل" إنها مشاركة جسمية في التوجه إلى الله. ولكن الإسلام وهو يحترم الطاقة الجسمية احترامًا كاملًا، لا يتركها على حالها، ولا يطلق لها العنان! إنه ينظمها ويضبط منصرفاتها. لأنها -هكذا طبيعتها- إذا تركت وشأنها لا تقف عند حد، وتدمر الكيان. إن للحياة -كما خلقها الله- أهدافًا حيوية لا بد من تحقيقها لتستمر الحياة على وجه الأرض. أهدافًا تتمثل في المحافظة على الفرد، والمحافظة   1 سورة البقرة 222. 2 سورة البقرة 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 على النوع عن طريق المحافظة على الفرد. وقد وضع الخالق في الفطرة ضمانة التنفيذ. وضعها في الأعماق. وضعها في صميم البنية. في "مادة الجسم". في تلك القبضة من طين الأرض المشتملة على عناصر الأرض وكيماوياتها ودوافعها. لكي يحافظ الفرد على نفسه لا بد له من طعام وشراب وكساء ومأوى ينام فيه. ولكي يحافظ على النوع لا بد له من طاقة جنسية للتوالد، وطاقة للدفاع عن نفسه وعن غيره ضد أي اعتداء. ثم لا بد له -من أجل هذا وذاك- أن يحب نفسه فردًا متميزًا مستقل الكيان، ويحب نفسه عضوًا في جماعة تتكون من نفسه ومن الأفراد الآخرين، كما يحب هذا الكيان المجتمع من نفسه ومن الآخرين. تلك أهم "الدوافع الفطرية" التي أودعها الله فطرة الإنسان ليحافظ على نفسه ويحافظ على نوعه. وجعل في بنيته الضمان لتحقيق أهدافها وتنفيذ مطالبها. فالجوع والعطش ضمان لإعطاء الجسم حاجته الدائمة من الطعام والشراب. والألم اللاذع من البرد والحر وتقلبات الجو ضمان لإعطاء الجسم وقايته من كساء ومأوى وما إليه. والرغبة العنيفة في الجنس ضمان لتحقيق التوالد المستمر الذي يحفظ النوع على ظهر الأرض. والرغبة الشديدة في إمتاع النفس ضمان لاستمرار تزويد الإنسان بضروراته من كل نوع. وهكذا كل مطلب من مطالب الحياة يحمل ضماناته في يديه. فطرة لا تحتاج في الإحساس بها إلى تفكير. وليس "الألم" وحده هو الدافع. فذلك رباط من جانب واحد! وفي الجانب الآخر رباط اللذة. فكل دفعة فطرية، أو كل مطلب من مطالب الحياة، مزود بضمانين في وقت واحد. ضمان يدفع من الخلف، وضمان يجذب من الأمام. أحد الضمانين هو الألم الناشئ عن عدم تحقيق الرغبة، والآخر هو اللذة الكامنة في التحقيق. والألم واللذة الكامنان في بنية الجسم وبنية النفس هما الدافع الأكبر من بين دوافع الحياة. و"الدوافع الفطرية" هي خلاصة ذلك المزيج الكامن في بنية الجسم وبنية النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 إنها رغائب يحف بها الألم واللذة. أحدهما يدفع بها، والأخرى تحدوها لتنطلق إلى الإمام. وإذا عرفنا ذلك أدركنا مكمن الخطر في هذه الرغائب. إنها ضرورية لبقاء الحياة واستمرارها. ولكنها في الوقت ذاته معرضة للانطلاق العنيف. وكيف لا تنطلق -إذا تركت وشأنها- وفي طبيعتها كل ذلك الدفع وكل ذلك الحداء؟ وحين تنطلق -كالمطية الفارهة- فإنها تعرض راكبها للعطب والهلاك. فهي أولًا تعطب جسده بالعلل والأمراض، والاستهلاك السريع قبل الأوان. وهي ثانيًا تشقيه ولا تتركه في راحة. فمن شأنها -حين تترك لتنطلق- أن تظل منطلقة لا تشبع من الانطلاق. وحينئذ تنقلب اللذة إلى ألم، والمتعة إلى عذاب. الذي يسرف في الطعام لا يشبع كما يبدو لأول وهلة. بل يصيبه النهم فلا يقنع ولا يستريح. والذي يسرف في إمتاع الجسم بالراحة لا يشعر بمزيد من الراحة كما يبدو لأول وهلة. بل يصيبه الكسل والترهل، ويعجز بعد قليل عن الحركة النشيطة القادرة، ويصبح الكسل المضجر الممل نوعًا من العذاب. والذي يسرف في الجنس لا يأخذ مزيدًا من المتاع كما يبدو لأول وهلة. بل يصيبه النهم الجنسي فلا يكتفي ولا يشبع، ويظل دائمًا جوعان يبحث عن صيد جديد. والذي يسرف في الملك لا يزداد متعة بما يملك. بل يصيبه الجشع فلا يشبع مهما امتلك، ويظل يشعر دائمًا بأن ما لديه قليل وأنه في حاجة إلى مزيد. وهكذا تفسد المتعة الأولى وتنقلب إلى هم مقعد مقيم. وثمة أمر آخر. فليس هم الحياة -كما فطرها الله- مجرد أداء "المطالب البيولوجية". كلا! ففي فطرة الحياة إلى جانب ذلك جمال. جمال زائد على الضرورة وليس خاضعًا لمنطق الضرورة. جمال يتمثل في إحسان الأداء لا في مجرد الأداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 نظرة واحدة في الكون الواسع العريض تفتح بصيرة الإنسان إلى ذلك. "أرأيت هذه الزهرة الجميلة الفياحة الشذى المتناسقة الألوان؟ ". "أتظن ذلك "ضرورة"؟ ". "قالوا لتجتذب إليها النحل فينتج منها العسل غذاء وشفاء للناس! وتساعد كذلك في تلقيح النبات! ". "فهل تظن ذلك؟ هل من "الضرورة" بالقياس إلى النحل أن يكون في الزهرة كل هذا الجمال؟ ". "كلا والله! فالنحل خَلْق متواضع! وإنه ليحط على الزهرة الأريجة البديعة كما يحط على الزهرة العادية الجمال". "فليس جمال الزهرة إذن ضرورة! وكل الأهداف "البيولوجية" يمكن أن تتم في أبسط زهرة كما تتم في أجمل الأزهار". "ورأيت هذه "الطبيعة"؟. "رأيت حمرة الشفق المبدعة ورأيت جمال الصبح الوليد؟ ". "رأيت روعة الجبال التي تبهر الأنفاس وتهز الوجدان؟ ". "والبحر الممتد إلى غير نهاية منسرب الموج، تراه في الليل الساكن كأنما تعمره الأطياف. أو الأشباح؟ ". "والليلة القمراء.. هل "ذقتها"؟ هل "ذقت" طعم السحر في ضوئها، وظلها، وأطيافها الساربة وحديثها المهموس؟ ". "هل تظن ذلك ضرورة؟ وأينت هي الضرورة في ذلك كله. والحياة ممكنة ومستطاعة بغير هذا الجمال؟ ". "ورأيت هذا الوجه الرائع؟ ". "هاتان العينان الحالمتان اللتان يطل منهما عالم عميق الأغوار.. تلك التقاطيع المنسقة. هذا المعنى المعبر.. تلك "الروح" التي تطل من وراء القسمات". "تظن ذلك ضرورة؟ وما الضرورة؟ ". "أليست كل العمليات "البيولوجية" من طعام وشراب وتنفس تتم في أقبح وجه وأجمل وجه على السواء؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 "بل.. نداء الجنس ذاته. أليس يتحقق في كل أنثى وكل ذكر بصرف النظر عن ذلك الجمال؟ ". "كلا. إنه ليس "ضرورة" وإنما هو "جمال". "هو إحسان في الأداء لا مجرد الأداء". "تلك فطرة الحياة كما خلقها الله.. فطرة "الطبيعة"1. وثمة شيء آخر: إن "حفظ" الحياة على وجه الأرض ليس هو كل هدف الحياة! بل هدفها هو حفظها وترقيتها على الدوام. وقد كان الإنسان قمة الحياة على الأرض. هو أرقى كائناتها وأفضلها. ولكنه هو ذاته معرض للرقي الدائم والتقدم إلى الإمام، يرتقي بكل طاقاته وفي جميع اتجاهاته. وذلك يستلزم توفير الطاقة للتقدم، كما يقتضي عدم الهبوط إلى الحد الذي يعجز عن الصعود. والانطلاق مع الشهوات يستنفد الطاقة المذخورة أولًا بأول فلا يترك رصيدًا للقوة الصاعدة، فضلًا عن أنه يهبط بالإنسان إلى درجة من الشعور والتفكير والسلوك لا يصلح معها للارتفاع، إذ يشعر أن الارتفاع قيد للذة الهابطة وشاغل عن المتاع! والإنسان خليفة الله في الأرض.. القوة الإيجابية الفاعلة المريدة المنشئة بإذن ربها.. إن استهلك جهده في تحقيق مطالب الحيوان ودوافع الحيوان، فكيف يتحقق له كيان الإنسان؟ كيف تتحقق له الخلافة؟ كيف ينشئ الحضارات وينشئ الأفكار؟ كيف يعمر الأرض؟ كيف يقيم فيها الحق والعدل الأزليين المستمدين من ذات الله، وسنته التي خلق بها السموات والأرض والحياة؟ والإنسان.. قبضة من طين ونفخة من روح الله.. فكيف يحقق كيانه الكامل إذا أخلد إلى الأرض واتبع هواه ولصق بالطين واستعبد للشهوات؟ من أجل ذلك كله لا يترك الإسلام الإنسان لشهواته تستعبده وتجرفه إلى حيث لا يملك لنفسه القياد.   1 من كتاب "قبسات من الرسول" فصل: "وليرح ذبيحته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بل يضبطها ويهذبها وينظفها. ولكنه لا يكبتها. إن الكبت مناف لفكرته ومنهجه في الحياة. فكرته ومنهجه هي أخذ الكائن البشري بجميع خصائصه وجميع طاقاته واستغلالها كلها لتحقيق أهداف الحياة. وفكرته ومنهجه هي احترام كل طاقة ما دامت تؤدي مهمتها التي فطرها عليها الله. وفي ظل هذه الفكرة وذلك المنهج لا يوجد مجال للكبت ولا أصل لمحاربة الطاقات. وكيف يكبتها ويحاربها وهو في حاجة إليها؟ كيف يكبت شهوة الطعام وهو في حاجة إلى أجسام قوية متينة تحتمل الجهاد في سبيل الله؟ كيف يكبت شهوة الجنس وهو في حاجة إلى ذرية صالحة كثيرة تنشر الفكرة في أرجاء الأرض؟ كيف يكبت حب الإنسان لنفسه وهو الطريق المضمون للعمل والإنتاج اللذين يحتاج إليهما لكي ينهض بواجب الخلافة في الأرض وعمارتها؟ كيف يكبت طاقة القتال وهو في حرب دائمة مع قوى الشر في الأرض، وفي حاجة دائمة لدفعة القتال؟ وكيف يكبت أية طاقة وهو لا يتستغني عن واحدة منها ما دام يريد الحياة؟ كلا! لا يكبت الطاقات ولا يستأصلها من منبتها، لأنه لا يعتزل الحياة ولا يترهبن. ولا يترك الواقع ويعيش في الأحلام. بل يغذي كل طاقة من هذه، ويحرص على بقائها حية فاعلة قوية على الدوام. كل ما في الأمر أنه لا يرسلها بلا ضوابط. لأن هذا مفسد لفطرة الإنسان. و"الضبط" ليس كبتًا وإن تشابها في مظهر الامتناع. يقول فرويد الذي أفنى حياته يتحدث عن الكبت والعقد النفسية حتى خيل للناس أن كل امتناع عن رغبة هو كبت وباعث للاضطراب. يقول في كتاب "three contributions to the sexual theoty" ص 82: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 "وفرق بين هذا "الكبت اللاشعوري" وبين الامتناع عن إتيان العمل الغريزي، فهذا مجرد تعليق للتنفيذ". ليس الكبت إذن هو الامتناع عن إتيان العمل الغريزي. الامتناع الواعي المقصود. إنما الكبت هو استقذار الدافع الغريزي واستنكاره، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه بأنه يحق له أن يشعر بوجود ذلك الدافع، أو يخطر له على بال. وهذا المعنى غير موجود في الإسلام أصلًا، وقد مر بنا نظرته إلى الدوافع الفطرية على أنها أمر واقع مزين للناس. بل الناس مدعوون إليه. بل هم عليه مأجورون. أما الضبط فعملية أخرى واعية. إنها تتم على هذا النحو: إن هذا الشعور الذي أحس به ليس قذرًا في ذاته ولا تحريج عليه. وإنما التحريج على التنفيذ -الآن- أو التحريج على قدر معين من التنفيذ. وهذا التحريج له سبب. فهو ضروري لحفظ الكيان الفردي أو الجماعي من التفتت والانهيار. إنني جائع. من حقي أن آكل. ليس في شهوة الطعام عيب. لا أهبط عن آدميتي حين أجوع وحين آكل. ولا يصيب احترامي لنفسي أي ضرر، ولا احترام الناس لي. ولكن ليس معنى هذا أن آكل حتى التخمة. إن ذلك يفسد معدتي ويعطب كياني. ويجعلني بعد ذلك عرضة لنهم دائم لا يشبع. وليس معناه أن أغرس يدي في الطعام وألتهمه كالمسعور. فهكذا يصنع الحيوان. وأنا إنسان. الحيوان لا يملك التصرف في دفعة الغريزة، ولا يملك إلا نوعًا واحدًا من السلوك. وأنا أملك التصرف. أملك الإرجاء بعض الوقت إن أردت أو اضطرتني الحاجة. وأملك التنويع في السلوك. أملك الالتهام على طريقة الحيوان. وأملك التأنق في التناول والتهذيب في الأداء. وليس معناه أيضًا أن أسرق لآكل. فذلك حرام؛ إنما آكل من ملكي، مما أحل الله لي، ولا آكل سطوًا على أموال الغير، ولا غشًّا ولا خداعًا ولا سحتًا، ولا آكل مما حرم الله. وليس معناه أن أذلَّ كرامتي لآكل -ما دامت فيّ طاقة بعد على الامتناع- لا أتذلل ولا أتزلف ولا أنافق ولا أخادع من أجل لقمة الخبز، وإنما أبحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 عن الكرامة في ذات الوقت الذي أبحث فيه عن طعام. وليس معناه أن أعيش لآكل. ففي الحياة أهداف أخرى جديرة بالتحقيق. والطعام ليس هدفًا في ذاته. وإنما هو وسيلة لهدف. وسيلة لحفظ الحياة. فلأجعل في بالي أنه وسيلة. ولا أقلب الوسيلة إلى غاية، ولا أجعل هي كله هو الطعام، والتفنن فيه والتلذذ به كأنه وحده شاغل الحياة. وليس معناه أن آكل وحدي وأنسى المحرومين من الطعام. فهم إخوة لي في الإنسانية، وأنا وهم شركاء في السراء والضراء. وشركاء في الخير المشترك. وقد أتيت بهذا الطعام من حلال مالي. ولكني لا أستحله كله وحولي جائع أو محروم. فلأقتطع قطعة منه فآكل ويأكل معي آخرون ... هكذا يدور الحديث بين الإنسان ونفسه على وعي مرة وعلى تعود مرات. وتلك كلها "ضوابط" لشهوة الطعام ليس فيها "كابت" واحد يحرم الطعام! وحين يقوم هذا الحديث بين الإنسان ونفسه على وعي أو على تعود، فلن يفسد عليه قط لذة الاستمتاع بالطعام، فأي شيء في كل ذلك يفسدها؟! وإنما هو يستجد لنفسه لذائذ جديدة لم تكن من قبل. إنه يستمتع باللذة الحسية البحتة.. اللذة "الكيماوية" والعصبية والمادية. ولكنه يضيف إليها في ذات الوقت لذائذ نفسية وروحية. يضيف إليها الإحساس بآدميته المترفعة عن التلمظ على الطعام و"لهطه" كالحيوان! ويضيف إليها لذة الشعور بالاختيار الحر إزاء دفعة الغريزة، فإن هذا الاختيار يشعر الإنسان بكيانه. يشعره بأنه موجود. موجود بقدر ما يختار. ويضيف إليها لذة الإحساس بالمشاركة الوجدانية مع الآخرين من بني البشر. ويضيف إليها متعة الروح بشعور الإنسان أنه يتطهر -في كسب طعامه وأداء زكاته- لله، ويعيش في رحابه ويتطلع إلى رضاه. ذلك كله بالإضافة إلى اللذة الحسية غير المنقوصة. فمن ذا الذي يترك هذا النعيم المتاح كله ويخلد إلى الطين, ويقصر نفسه على متاع الحيوان؟! وكذلك الأمر في شئون الجنس. فحين يقول إنسان لنفسه: إنني أحس في أعماقي بحنين إلى الجنس الآخر، ورغبة قوية في اللقاء بأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أفراده، والامتزاج معه، والإفضاء إليه، والاتحاد الكامل معه حتى كأننا شخص واحد لا شخصان منفصلان. هذا الإحساس ليس عيبًا في ذاته ولا قذارة. إنه فطرة الله التي فطر الناس عليها. كل الرجال وكل النساء يشعرون بهذا الحنين وهذه الرغبة، ولا بد أن يشعروا بها ليحققوا غاية الحياة ويحفظوا النوع على وجه الأرض. والتركيب الجسمي يشير إلى هذه الوظيفة. ففسيولوجياته، وبيولوجياته، وكيماوياته كلها مهيأة للقيام بهذه الوظيفة على وجهها الأكمل، لتنتج أجيالًا جديدة من الحياة، وهو أمر لا يتم بغير لقاء زوجين. وحين أحس بهذا الإحساس وهذا الميل، فأنا سائر مع الفطرة في اتجاهها السليم. ولكن ليس معنى هذا أن يكون التفكير في مسائل الجنس هو شغلي الشاغل، وهمي المقعد المقيم، فالحياة ليست جنسًا خالصًا، ولا هي محصورة في هدف واحد. إن علي تبعات أخرى تجاه نفسي وتجاه الناس. علي أن أتعلم. وعلي أن أنتج. وعلي أن أنظر في أمر المجتمع: أسائر هو على ما ينبغي له أم منحرف عن سبيله. وما أسباب انحرافه. وعلي أن أقوم بدوري في تقويمه من انحرافه. علي أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. وقد يصيبني من الناس أذى وأنا أقوم بهذا الواجب فينبغي أن أجند نفسي على احتمال الأذى وأجند نفسي لمقاومة الشر. وعلي أن أقوم بدوري الإيجابي في هداية الناس إلى الحق. وخير وسيلة لذلك هي القدوة. فينبغي أن أكون أنا بذاته قدوة حسنة. وإلا فلا قيمة لكل ما أقوال من أقوال. وأنا أقول للناس إن الذي يفسدهم هو انجرافهم في طريق الشهوات، فلأكن أنا المثل في عدم الانجراف مع الشهوات. وكذلك ليس معنى هذا أن أخطف فتاة ما لأقضي معها رغبة الجنس. فهذه الفتاة ليست لي. لا أملكها لنفسي حتى أتصرف في شأني وشأنها على هذا الوضع. إن لها عرضًا يكافئ عرضي لا يجوز لي أن أدنسه. إني أحب أن يكون عرضي نظيفًا طاهرًا لم يدنسه شيء. فلأحافظ على عرض هذه الفتاة كذلك. وإني أحب حين تكون لي زوجة أن تكون نظيفة. أن تكون خالصة لي. بروحها وجسمها جميعًا، فلأترك هذه الفتاة إذن نظيفة لمن ستكون زوجًا له، فلأتركها له خالصة كما أحب أن تكون زوجتي لي خالصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ولو أنها رضيت رضاء بأن أقضي معها رغبة الجنس أو دعتني هي إلى ذلك فلا فارق! إنه لا يجوز لي! إنها كالحارس الذي يدعو الناس إلى سرقة المال الذي يحرسه! فلذلك لا يعطي الناس الحق في السرقة، لأن الحارس لا يملك المال في الحقيقة! وهذه الفتاة الحارسة على عرضها لا تملك التصرف فيه, ولا دعوة الناس إلى اغتصابه! إنه ليس عرضها وحدها! إنه عرضها وعرض والديها وعرض أسرتها وعرض مجتمعها. وعرض الإنسانية! إنه عرض الأمانة التي ائتمن الله عليها البشر, وينبغي أن يردوا له الأمانة نظيفة كما تلقوها، كاملة كما تسلموها. إلا بحقها الذي نص عليه صاحب الحق. وليس معنى هذا كذلك أن تكون صورة الجنس في حسي وفي تفكيري هي صورة الجسد الهائم الشهوان، فأنا لست جسدًا خالصًا، ولا تمر علي لحظة واحدة في حياتي أكون جسدًا بلا عقل، أو جسدًا بلا روح، وإنما أنا دائمًا وفي كل لحظة جسد وعقل وروح، وإحساسي بالجنس هو قطعة مني، هو جزء من كياني كله، فلأكن إذن على الفطرة السليمة لبني البشر. فليكن إحساسي بالجنس شاملًا لكياني كله. شاملًا لكل ما أنا مشتمل عليه من مشاعر. فليكن رغبة جسم، وخفقة قلب، ورقة روح. فليكن "عاطفة"، فليكن -إلى جانب الرغبة- مودة ورحمة وتعاطفًا وتفاهمًا وامتزاجًا روحيًّا ولقاء يرتفع بالكيان إلى عليين. ولن يتأتى ذلك وأنا أتناوله خلسة في الظلمة أو سرقة من الحارس الذي لا يملك التصريح! وقد تأتي علي لحظة يخيل إلي فيها أن هذه الخلسة المختلسة تحقق كياني كله, وترتفع بي -في وهمي- إلى حيث أريد أن أكون، ولكنها مشاعر الرغبة هي التي تخيل ذلك، فلأنظر إلى الأمر في غير ساعة الرغبة لأدرك الحقيقة، أو فلأنظر لخلسة يختلسها شخص غيري ما رأيي فيها؟ هل أصدقه لو قال إنها نظيفة وسامية؟ هل أقبلها في أهلي؟ كلا! ليس معنى إحساسي بالجنس شيئًا من هذا كله. وإنما أنا أحس بتلك الرغبة الفطرية وأستجيب لها على طريقة الإنسان. الإنسان الذي يملك تصرفه ويختار طريقه. لا على طريقة الحيوان الذي لا يملك التصرف ولا يختار الوسيلة ولا يعرف غير ما تمليه عليه فسيولوجياته وبيولوجياته وكيماوياته. لأنه جسد بغير عقل، وشهوة بغير روح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وأنا أحس بميل شديد لإنسانة معينة. أعجبني شكلها. أعجبني سلوكها وطريقة تصرفها. أعجبني أخلاقها. أحسست بالارتياح إليها. أحسست بهاتف خفي يقول لي: هذه هي التي تكملك. هذه هي "الشق" الذي يكمل كيانك. وإن هذا الميل ليحرك نفسي حركة جادة. إنه ليس تزجية فراغ ولا حلمًا في اليقظة. إنني أريدها. لا شك عندي في ذلك. لقد رتبت -في خيالي- أن تكون حياتي مع هذه الفتاة. فلأشرع إذن في التنفيذ. فلآخذ الإذن من صاحب الإذن الأول الذي يملك الأمانة. فلآخذ الإذن -في قلبي- من الله. فلأتوجه إليه أن يوفقني إليها وأن يتمم شأني على ما يحبه ويرضاه. ثم فلأتوجه إلى أهلها أطلب يدها وأتفاهم معهم على الأمر. ولأكن في تصرفاتي كما ينبغي حتى أقع في نفسها كما وقعت في نفسي، وأعجبها كما أعجبتني، وتميل إلي. فلأكن رجلًا. فلأكن بحيث تحس أنها تستطيع أن تثق بي وتطمئن إلي. أو أني لا أملك في الوقت الحاضر الوسيلة.. فلأصبر إذن حتى يأذن الله بالتيسير، ولأنصرف إلى العمل الجاد الذي يوصل، ولأنصرف إلى أهداف الحياة الأخرى التي تتطلب مني الجهود1. فإذا تزوجت -الآن أو في المستقبل- هذه الفتاة التي ملت إليها ومالت إلي، فنحن الآن في حل من المتعة الكاملة التي أباحها الله. أباحها بلا قيود: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} 2. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 3 نحن في حل أن نصبح جسدًا واحدًا وروحًا واحدة. وإني لأحس معها بامتزاج كامل لا يعرف أحدنا أين ينتهي وأين يبدأ الآخر. نحن كيان واحد مختلط الأجزاء. وأنا أحس براحة ضميري لأني ألتقي بها على طهارة قلب ونظافة روح. وأنا أستمتع منها بكل ما يستمتع به جسم من   1 في المجتمع المسلم -كما سيأتي- يتوافق التنظيم الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي والسياسي والتعليمي. إلخ. مع القواعد الروحية وتؤدي كلها إلى هدف واحد: هو السير على منهج الله. كما أن المجتمع المسلم لا يعج بالمثيرات الدنسة التي تهيج المشاهر وتفقد الإنسان القدرة على الاصطبار. 2 سورة المؤمنون 1-6. 3 سورة البقرة 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 جسم. ولكن لا تمر علينا لحظة جسد خالصة. هنالك دائمًا ذلك التعاطف القلبي والامتزاج الروحي. وعلاقتي بها تشمل من نفسي دائمًا مساحة أكبر من مساحة الحس. حتى في لحظة اللقاء الحسي. وأنا بهذا كله أوفر نصيبًا من المتعة وأوفر في الأعصاب. هذا أمر الجنس في حساب الإسلام. لا كبت ولا استنكار ولا قذارة. بل متاع كامل بكل ما في الفطرة من جوانب المتاع. متاع الحس القريب، مضافًا إليه ألوان من المتعة لا يعرفها الحيوان ويقدرها الإنسان! وكذلك في الإسلام كل نزعة فطرية. إنه لا يكبت طاقة من الطاقات لأنه لا يريدها أن تموت. إنه في حاجة إلى كل طاقة حية في كيان الإنسان. وهو في حاجة إلى كيان سليم قوي فياض متحرك متمكن من الحياة. إن رسالته هي رسالة القوة. القوة في الحق. القوة في البناء والتعمير. القوة في حمل الأمانة. القوة في القيام بمقتضياتها. القوة في الجهاد في سبيلها. وقوة الرغبة في الحياة. إن الثابت -عمليًّا- أنه لا يجاهد في سبيل الحق شخص لا يرغب في الحياة! وقد يقع الإنسان في تناقض -ظاهري- إذ حكم بأن المجاهدين حقًّا هم الزاهدون في رغائب الحياة! إن هذه حقيقة ولا شك! فحين يتغلب حب الحياة والحرص على متاعها فإنه يصرف النفس عن الجهاد في سبيل المثل. لأن الجهاد يذود عن المتاع! ولكنها حقيقة كذلك أن المنصرف عن متاع الأرض، لأنه يحس بضعف الدوافع في كيانه لهذا المتاع، لا يحرص على إصلاح باطل ولا إحقاق حق ولا جهاد في سبيله. لأن الأمور عنده يستوي بعضها مع بعض، ورغبته في كل شيء ضعيفة، فهو ينظر لكل شيء بغير مبالاة! إنما الزهادة التي يتصف بها المجاهدون حقًّا عملية نفسية مختلفة تمام الاختلاف! إنها ليست الرهينة الصارفة عن الحياة! إنهم كلهم -بلا استثناء تقريبًا- من ذوي الرغبة الجياشة والحيوية الفائضة. ولكنهم -مع هذا- يرتفعون على أنفسهم ويزهدون في المتاع! والقوة النفسية الهائلة التي يضبطون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 بها رغائبهم الجياشة وحيويتهم الفائضة، هي ذاتها التي يجاهدون بها الباطل ويصمدون في الجهاد! إنها زهادة القوة لا زهادة اللامبالاة! الأصل هو القوة. هو التمكن. هو الرغبة الدافقة في كل شيء. ومن بين صنوف هذه القوة، قوة "الضبط" التي يحكم بها الزاهدون رغائبهم، ويرتفعون عليها، ويمسكون في أيديهم القياد. وعلى هذا النحو نفهم جانبًا من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وجانبًا من فكرة الإسلام. كان الرسول صلى الله عليه وسلم راغبا في الحياة, قوي التمكن جادًّا في كل رغبة من رغائبه. كان يمشي وكأنما يتقلع من الأرض. وكان يأكل بشهية ورغبة. وكان يمارس نشاطه الجنسي في قوة وتمكن ومواظبة. نفس فياضة الحيوية، وكيان دافق الدفعات. طاقة قوية في منبعها، ومنبعثة بكل قوتها في جميع المجالات. وكان مع ذلك المحارب القوي، والمجاهد القوي، والمتعفف عن أي متاع يصرفه عن الجهاد! وتلك هي النفس المتكاملة. تأخذ انطلاقها الكامل في كل اتجاه بقوة وإصرار وتمكن، وفي الوقت ذاته تخلع نفسها بقوة من كل متاع حين تريد. إنه التحرر القوي. وهو كذلك التحرر الحقيقي. التحرر الذي تتمثل فيه حرية الرغبة وحرية الامتناع. فلا تصبح الرغبة مالكة لقياد الإنسان توجهه كما تشاء وهو إليها منقاد. ولا يصبح الامتناع موتًا وتهاويًا وانخذالًا ولا مبالاة. وذلك هو منهج الإسلام في تربية النفس. إنه لا يكبت رغائبها فيقتل حيويتها ويبدد طاقتها ويشتت كيانها. فلا تعمل، ولا تنتج ولا تصلح لعمارة الأرض وترقية الحياة. وفي الوقت ذاته لا يطلق رغائبها بلا ضوابط. لأن ذلك يبدد طاقتها من جانب آخر، يبددها في نشاط الحيوان وعلى مستوى الحيوان. ووسيلته إلى ذلك -كما قلنا- هي "الضبط". إنه يعمل على تربية القوة الضابطة وتنميتها منذ نعومة الأظفار. يربي الأطفال منذ طفولتهم على بعض العادات التي "تضبط" سلوكهم فلا ينفلت عيارهم, ويعودهم على الامتناع عن بعض رغباتهم التي تزيد عن الحد. وهو لا يصل إلى ذلك باستخدام القسوة. فليس هدفه هو الانتقام من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الطفل، ولا إنضاجه على شؤبوب من النار! وإنما وسيلته هي الحب! الحب المتمثل في الأسرة، والذي يربط الأم والأب والأطفال. ويجعل التوجيه نصيحة لينة رفيقة حازمة في ذات الوقت، تنفذ إلى القلب وتستقر في الأعماق. والعقوبة ليست هي أول الطريق! إنما هي وسيلة احتياطية حتى لا تنفع القدوة ولا تنفع النصيحة ولا ينفع الغرس عن طريق الحب والمودة القائمة بين الآباء والأبناء. يقول الرسول الكريم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين, واضربوهم عليها وهم أبناء عشر".1 هكذا لا يبدأ التعليم بالعصا، ولا تبدأ التربية بالعقوبة، وإنما هناك فسحة طويلة مديدة لغرس هذه العادة الحميدة، عادة الصلاة. فسحة يعمل فيها الحب، وتعمل فيها القدوة، وتعمل فيها النصيحة، وتعمل فيها الكلمة الرفيقة الحازمة في آن. فإذا لم يفلح هذا كله فلا بأس حينئذ في شيء من الشدة يقوم الكيان، ولكنها ليست الشدة التي تفسد الكيان. وقد ربى الرسول الكريم بناته وأبناء بناته لم يضرب أحدًا منهم قط! ولا أحتاج في تربيتهم لغير الحب الحازم والقدوة والتوجيه. والرسول هو قدوة المسلمين يأخذون عنه في كل أمور الحياة. والصلاة من "الضوابط" التي تعود النفس على أداء عمل معين في وقت معين. وتلك إحدى وسائل الضبط. كما أنها تعود النفس على التزام الجد فترة من الوقت. وتلك أيضًا إحدى وسائل الضبط. فوق ما ينبغي لها من خشوع وتطهر وتنظف ورعاية. وكلها ضوابط تعود النفس من الداخل على ضبط الشهوات. والصيام -بصفة خاصة من بين العبادات- عملية ضبط قوية فعالة، تتمثل فيها بشكل بارز إحدى وسائل الإسلام في التربية عن طريق الضبط. ففي الصيام يمتنع الإنسان -مختارًا- عن كثير من لذائذه المباحة، ويتعود -في إصرار وقوة- أن يرتفع على الرغبة، ويحقق كيانه بذلك الارتفاع. وكل عبادة هي في الحقيقة ضبط لشهوة من الشهوات، وتعويد للنفس أن تضبط مشاعرها وتضبط سلوكها، "وتختار" طريقها بين مختلف الطرق. تختار طريق الحق والإحسان والإخلاص.   1 أخرجه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ولا يفرض الإسلام الضبط على النفس فرضًا وهي ليست مهيأة له، وليس لديها إليه استعداد! كلا! فالقدرة على الضبط قدرة بشرية أصيلة، موجودة في داخل الكيان. يقول جوليان هكسلي في كتابه "الإنسان في العالم الحديث" -وهو كاتب ملحد لا يصدر في قوله عن إيمان بالله ولا توقير للمفاهيم الدينية- يقول في فصل بعنوان: "تفرد الإنسان": "يجب ألا يعزب عن بالنا أن الفرق بين الإنسان والحيوان في العقل أعظم بكثير مما يظن عادة. وكلنا على علم بقوة الغريزة في الحشرات.. ولكنها تبدو عاجزة عن معرفة طرق جديدة. وليست الثدييات بأفضل من ذلك. بينما للتفكير عند الإنسان أهمية بيولوجية كبرى، حتى عندما تسود تفكيره العادة والمحاولة والخطأ. ولا بد أن يكون سلوك الحيوانات عرفيًّا، أي: إنه ثابت في حدود ضيقة. أما الإنسان فقد أصبح في سلوكه حرًّا نسبيًّا - حرًّا في الأخذ والعطاء على حد سواء. ولهذه الزيادة في المرونة نتائج أخرى سيكلوجية يتناساها رجال الفلسفة العقلية، والإنسان فريد في بعضها. فلقد أدت هذه المرونة مثلًا إلى كون الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لا بد أن يتعرض للصراع النفسي. ومع ذلك فطبقًا للآراء الحديثة توجد "لدى الإنسان" أجهزة لتقليل النزاع إلى أقصى حد، وهي التي يعرفها علماء النفس بالكبت والقمع"1. هناك إذن أجهزة -بيولوجية كما يقول هكسلي في كتابه- تتميز بها الإنسان عن الحيوان، تساعده على ضبط انفعالاته وتوجيهها توجيهًا حرًّا -نسبيًّا- بطريقة لا يقدر عليها الحيوان. والإسلام يستغل هذه الطاقة الضابطة، كما يستغل الطاقات كلها، في تربية النفس والارتفاع بها لكي تحقق الكيان الأعلى للإنسان. ويتخذ إلى ذلك وسائل شتى. فهو -كما قلنا من قبل- يربط القلب البشري بالله، وخشيته وتقواه،   1 الكبت كما عرفه هكسلي في كتابه هذا هو المنع اللاشعوري للنزعة الفطرية "وهو تعريف فرويد له" أما ما سماه بالقمع فهو العملية الإرادية. وهي التي نفضل -كما صنعنا في كتاب "الإنسان بين المادية والإسلام"- أن نسميها "الضبط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ومراقبته في كل عمل وكل شعور وكل فكر، والتطلع إلى عطفه ورضاه. وذلك في ذاته ضابط من أكبر الضوابط يكبح جماح النفس، وإن كان لا يكبتها، لأن الله الذي يرتبط به القلب قد أباح المتاع وحرض عليه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. كل ما هناك أنه يريدها نظيفة طاهرة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} 2. وهو كذلك يربط القلب باليوم الآخر. والإيمان باليوم الآخر إيمانًا حقيقيًّا حيًّا راسخًا في القلب، يصنع كثيرًا من العجائب في النفس الإنسانية! إنه يمنع اللهفة المجنونة على شهوات الأرض وإن لم يكن يحرم الإنسان من المتاع. فاللهفة تستبد بالنفس حين تحس أن فرصة الحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة المتاحة. ومن ثم تتكالب على انتهاب هذا المتاع في فرصة العمر القصيرة المحدودة. قبل الفوات. وتوغل في ذلك إلى درجة السعار المجنون. أما حين تنفسح الفرصة وينفسح الأمل. حين يؤمن الإنسان إيمانًا حقيقيًّا بأن فرصة العمر القصير المحدود ليست نهاية الحياة ولا نهاية المتاع، وإنما هي فترة قصيرة ومتاعها كذلك قصير: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} 3 فإنه يأخذ منه على هينة، بلا تلهف زائد ولا قلق ولا تفزز. وهو بهذا يجمع الحسنيين: فهو يحس إحساسًا حقيقيًّا بطعم المتاع الأرضي، لا كالمعجل الذي لا يكاد يتذوق، لأنه يزدرد ازدرادًا قبل وقت الفوات! وفي الوقت ذاته يحس باطمئنان القلب واطمئنان الأعصاب وراحة الضمير. وهو كسب آخر يضاف إلى المتاع المتزن المتذوق الرائق المعقول. ثم هو دائم التذكير بأن هذه الشهوات ليست غاية في ذاتها، يستغرق الإنسان في طلبها والانكباب عليها. وإنما هي وسائل إلى غايات أخرى أرفع منها وأولى بالالتفات: الطعام وسيلة لحفظ الأود: "ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطنه. بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه" 4.   1 سورة الأعراف 32. 2 سورة البقرة 222. 3 سورة النساء 77. 4 حديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 والجنس وسيلة لانتشار النوع: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1. وهو كذلك وسيلة لنشر نوع ممتاز من البشر. هو المسلمون المؤمنون بالله: "تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة"2. ووسيلة كذلك للسكن والراحة لا للسعار والفتنة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3. والمال وسيلة لإقامة الجماعة: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} 4. وطاقة القتال لجهاد الشر في الأرض: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 5 ولضمان الحياة ضد الاعتداء: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 6. ولكنها ليست للفتك والاعتداء: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 7. وهو يبعث النشاط الحيوي في اتجاهات شتى، تشمل كل كيان الإنسان، فلا تتدفق الطاقة الحيوية كلها في جانب واحد، جانب الجنس أو المال أو الطعام. إلخ، فتخرج به عن الحد المأمون. يبعث النشاط في العلم والعمل والتجارة والصناعة والزراعة، والفتح والغزو، وعمارة الأرض، وإقامة الدولة، وتنظيمها، وسياستها، ومراقبة الأمور في المجتمع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي كلها أمور تستغرق النشاط الإنساني وتوزعه وتوسع مساحته، فلا يتكتل في بقعة واحدة ويترك بقية الجوانب خواء. وهو يستنفد الطاقة النفسية في اتجاهات عليا، فلا تركن إلى الأرض، ولا تخلد إلى المتاع الحسي وحده تنفق فيه كل الطاقة يوجه النفس إلى الجهاد في سبيل الله، ويملؤها بالعقيدة حتى تملأ كل شعابها وتتشرب بها. وهي عقيدة   1 سورة النساء 1. 2 عن سعيد بن أبي هلال مرسلًا. 3 سورة الروم 21. 4 سورة النساء 5. 5 سورة التوبة 73. 6 سورة البقرة 179. 7 سورة البقرة 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 تتصور صورة معينة للحياة البشرية، كريمة نظيفة عالية واسعة الآفاق، وتحرص على تحقيق مثلها في واقع الأرض. وتحث على الجهاد في سبيل هذا التحقيق. وهذا هدف مشترك بين الرجل والمرأة على السواء. فكلاهما بشر، وكلاهما مطالب باعتناق هذه العقيدة وتحقيقها -بنصاعتها وطهارتها واتساع آفاقها- في داخل النفس وفي واقع الحياة1: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 2. ثم هو يستنفد الطاقة الجسمية كذلك في اتجاهات عليا. لا بقصد إنهاكها ولا بقصد كبتها، ولكن بقصد تحويل الفائض منها عن أن يستغرق في متاع الحس القتال. فيوجه الفتيان إلى الفروسية، وهي رياضة عالية تقوي البدن -على طريقة الإسلام في إعداد القوة- وفي الوقت ذاته ترفع النفس عن محيط الحس، وتوجه طاقة القتال إلى منصرف خير نبيل. ويوجه الفتيات إلى تدبير المنزل، وهو رياضة كذلك عالية، تمكن المرأة من فنونها الأنثوية، وتحقق لها كيانها الأنثوي بطريقة فاضلة نظيفة، فلا تعود في حاجة إلى التعبير عن رغبة الجنس بلهفة الحس. كما أنها تستنفد طاقة الجسد الفائضة في عمل نافع نبيل. وهو كذلك يقيم نظام المجتمع كله بصورة لا تحفز الدوافع الفطرية إلى أبعد من المدى المأمون. فيمنع الإسراف في كل شيء على الإطلاق: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 3. يمنع الإسراف في الطعام والشراب: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} 4. ويمنع الإسراف في المتاع والترف والراحة: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 5 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ   1 انظر كتاب "معركة التقاليد" فصل "حين نكون مسلمين". 2 سورة آل عمران 195. 3 سورة الأنعام 141. 4 سورة الأعراف 31. 5 سورة المؤمنون 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} 1 {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 2. ويمنع الإسراف في التملك، فيضع للاستحواذ حدودًا لا يكون حلالًا إلا بها، فيمنع الغصب والسرقة وأكل مال الأجير والافتيات على حقوق الناس، كما يمنع الربا والاحتكار وهي وسائل التضخم المالي في جميع العصور. ويضع كذلك مصارف معينة لا بد منها لتزكية المال وجعله حلالًا طيبًا. فالزكاة والصدقات والإنفاق في سبيل الله والإنفاق على الوالدين والأقربين.. كلها لمنع الإسراف في التملك والتخفف من شح النفس. ويمنع الإسراف في القتل {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} 3. ويمنع الإسراف في الجنس. فلا يبيح المثيرات العنيفة في المجتمع. فلا اختلاط ولا تبرج ولا عري ولا غناء فاحشًا، ولا قصص مكشوفة، ولا دعوة مباحة لشتى صنوف البغاء4. وهكذا وهكذا في كل نزعة فطرية وكل لون من ألوان السلوك. وبذلك ينشأ مجتمع متوازن, وإنسان متوازن، توازنت طاقاته، وعملت روحه وعقله وجسمه جميعها في آن. والجسم في كل ذلك محترم معترف بكيانه، غير منبوذ ولا محتقر ولا مهان.   1 سورة الفرقان 17-18. 2 سورة سبأ 34. 3 سورة الإسراء 33. 4 انظر "معركة التقاليد" فصل "حين نكون مسلمين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الباب السابع: خطوط متقابلة في النفس البشرية مدخل ... الباب السادس: خطوط متقابلة في النفس البشرية في الفصول السابقة تحدثنا عن طريقة الإسلام في تربية الروح وتربية العقل وتربية الجسم، ورأينا الترابط الكامل بين جوانب الكيان البشري في حقيقة الواقع وفي منهج الإسلام، كما رأينا كيف يقيم الإسلام التوازن في هذا الكيان البشري، بالدخول إليه من منافذه الثلاثة جميعًا. وربطها كلها بعضها ببعض. وتوجيهها إلى الله. والآن نأخذ في تفصيلات أدق من السابقة. لقد كانت الروح والعقل والجسم خطوطا عريضة واسعة المدلول، ولكن في النفس البشرية إلى جانب ذلك خطوطًا دقيقة. أو قل أوتارًا دقيقة. والإسلام يوقع عليها جميعًا أنغامها المناسبة. جميعها في آن واحد، ليستخلص منها كما أشرنا من قبل "السيمفونية" البشرية الكاملة المتناسقة الألحان. وإن من عجائب التكوين البشري تلك الخطوط الدقيقة المتقابلة المتوازية، كل اثنين منها متجاوران في النفس, وهما في الوقت ذاته مختلفان في الاتجاه: الخوف والرجاء .. الحب والكره.. الاتجاه إلى الواقع والاتجاه إلى الخيال.. الطاقة الحسية والطاقة المعنوية.. الإيمان بما تدركه الحواس والإيمان بما لا تدركه الحواس.. حب "الالتزام" والميل للتطوع.. الفردية والجماعية..السلبية والإيجابية.. إلخ. كلها خطوط متوازية ومتقابلة. وهي -باختلافها ذلك وتقابلها- تؤدي مهمتها في ربط الكائن البشري بالحياة، كأنما هي أوتاد متفرقة متقابلة تشد الكيان كله، وتربطه من كل جانب يصلح للارتباط! وفي الوقت ذاته توسع أفقه وتعدد جوانبه وتفسح مجال حياته، فلا ينحصر في نطاق واحد ولا مستوى واحد. وبذلك يتحقق للإنسان كيان فريد في كل ما نعرف من مخلوقات الله. كيان يرجع في النهاية إلى النشأة الأولى العجيبة المعجزة: قبضة الطين ونفخة الروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ومزية الإسلام- في مسايرته للفطرة- أنه لا يترك وترًا من أوتار النفس لا يوقع عليه. ثم هو لا يوقع على وتر أكثر من طاقته، أو يبخسه قدره فلا يوقع عليه ما يستحق من نغمات! وبذلك يشمل الكيان الإنساني كله، وفوق ذلك يحدث التوازن في داخل النفس بشدها إلى أوتادها جميعًا فلا تميل من هنا ولا تميل من هناك، والتوقيع على أوتارها جميعًا فلا تنطق من جانب وتظل في الجانب الآخر صماء! وسنعرض في هذا الفصل طريقة الإسلام العجيبة في التوقيع على هذه الأوتار المختلفة المزدوجة، واستخدامها جميعًا وسائل لتحقيق ما يهدف إليه من أهداف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الخوف والرجاء : خطان متقابلان من خطوط النفس، يوجدان فيها متجاورين مزدوجي الاتجاه. إن النفس -بطبيعتها- لتخاف وترجو. هكذا ركب في فطرتها ... يولد الطفل وفيه هذان الاستعدادان متجاورين. يخاف الظلمة, ويخاف الوحدة, ويخاف السقوط, ويخاف الاصطدام, ويخاف المناطر التي لم يألفها, والأشخاص الذي لم يألفهم. ويرجو ... يرجو الأمان والراحة والدفء والاستقرار في حضن أمه وهو يرضع، وبعد ذلك في حضن أمه وفي حجر أبيه, وفي يدي من يستريح إليهم من الناس. وينمو الطفل وينمو معه هذان الخطان المتقابلان. وتتنوع المخاوف ويتنوع الرجاء، ولكن الخطين هما هما في تقابلهما وازدواجهما.. يحددان له مشاعر الحياة واتجاهاتها. يخاف الموت، ويخاف الفقر، ويخاف العجز، ويخاف الخيبة، ويخاف الخزي، ويخاف الألم الحسي والمعنوي، ويخاف المعلوم، ويخاف المجهول. كلها مخاوف. كلها أنغام مختلفة تصدر عن هذا الوتر الواحد الذي يعتبر -كزميله المقابل له- أقوى الأوتار و"أوسعها" من القمة إلى القرار. وهو كذلك يرجو ... يرجو الاستقرار والأمن والراحة كما كان يرجوها وهو طفل، ولكن على مستويات أعلى وأوسع، ويرجو التوفيق, ويرجو القوة, ويرجو المكانة, ويرجو الجاه، ويرجو النعيم، ويرجو آمالًا شتى لا تنقضي.. ولا تحصى. كلما تحقق أمل جد أمل جديد. والخوف والرجاء بقوتهما تلك وتشابكهما واختلاطهما بالكيان البشري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 كله في أعماقه، يوجهان في الواقع اتجاه الحياة، ويحددان للإنسان أهدافه وسلوكه ومشاعره وأفكاره. فعلى قدر ما يخاف، ونوع ما يخاف. وعلى قدر ما يرجو، ونوع ما يرجو. يتخذ لنفسه منهج حياته، ويوفق بين سلكوه وبين ما يرجو وما يخاف. الذي يخاف الموت. لا يقدم. والذي يخاف الفقر يجعل همه المال. والذي يخاف السلطان يتحاشى كل عمل يعرضه للصدام. والذي يخاف الألم أو الهزيمة يفر من المعركة.. معركة الحياة الكبرى. وينحسر بنفسه عن المغالبة والاقتحام. والذي لا يخاف شيئًا من هذا كله فهو متحرر منه، طليق من ضغطه عليه، مقتحم متمكن غلاب. والذي يتطلع إلى الجاه والسلطان والمكانة والغنى والنعيم ... يرسم أهدافه على أساس ذلك، ويتخذ الوسائل التي توصل لما يريد. أما إن كان لا يتطلع إلى شيء من ذلك فلن يتخذ له الوسائل، وهو متحرر من ضغطها عليه، مالك لنفسه إزاءها، لا يستعبد، ولا يهون. وهكذا يتحكم هذان الخطان في حياة البشرية. والتربية الناجحة توقع على هذين الوترين ما يربي النفس، ويشفيها من انحرافها، ويقويها ويقومها، ويضعها في وضعها الصحيح. والإسلام يحكم رباط الوتر أولًا قبل التوقيع عليه حتى لا تصدر عنه نغمة نشاز. إن الوتر غير المحكم الرباط، والوتر المشدود أكثر مما ينبغي، يصدران أنغامًا شاذة تنفر منها الأذن السليمة، ولا يستريح إليها الوجدان. ومن أجل ذلك يعمد العازف إلى إحكام الوتر قبل أن يبدأ الغزف الحقيقي. ضربة هنا وربطة هناك. ثم يستوي الوتر بين أصابعه متقن النغمة سليم الإيقاع. والإسلام يعمد إلى خطي الخوف والرجاء، فينفض عنهما أولًا كل خوف فاسد وكل رجاء منحرف، ثم يعمد إليهما بعد ذلك فيوقع عليهما الإيقاع الصحيح الذي يصدر عن نفس بشرية سوية ينبغي لها أن ترجو وينبغي لها أن تخاف. ينفض من وتر الخوف أولًا كل ما يرهق كاهل البشر من مخاوف زائفة.. زائفة لأنه لا طائل وراءها: لا تقدم ولا تؤخر. ولا تغير شيئًا من واقع الأمر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ينفض عنه الخوف من الموت! إذ إنه.. ما قيمته؟ هل يؤخر الأجل، أو يغير المكتوب؟ كلا! وما دام لا يغير شيئًا من الواقع فهو إذن أمر لا يليق. إنه تبديد للطاقة وتدمير للكيان. بلا نتيجة. لذلك يكرر القرآن هذه الحقيقة في صور شتى وإيقاعات متنوعة: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} 1. {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} 2. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 3. والحذر لا يجدي ولا يغير شيئًا من واقع الأمر: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 4. {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 5. وإذن فالخوف من الموت لا يجوز أن يكون. إنها نغمة نشاز تصدر عن وتر الخوف حين يتوتر أكثر مما ينبغي، ويوشك أن ينقطع من شدة الإيقاع! والخوف على الرزق كذلك! {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 6. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} 7. {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 8. {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} 9. {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 10. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 11. {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} 12.   1 سورة ق 43. 2 سورة المنافقون 11. 3 سورة آل عمران 185. 4 سورة النساء 78. 5 سورة آل عمران 154. 6 سورة يونس 31. 7 سورة سبأ 24. 8 سورة فاطر 3. 9 سورة الملك 21. 10 سورة الرعد 26. 11 سورة الروم 37 12 سورة العنكبوت 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} 1. {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} 2. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} 3. {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} 4. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 5. وكذلك الخوف من أذى الناس ومن أي ضرر توقعه بالإنسان قوى الأرض: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 6. {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 7. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 8. {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} 9. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} 10. {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 11. {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} 12. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 13.   1 سورة العنكبوت 17. 2 سورة الذاريات 22. 3 سورة العنكبوت 60. 4 سورة الحجر 20. 5 سورة الذاريات 58. 6 سورة الأعراف 188. 7 سورة التوبة 51. 8 سورة النساء 78. 9 سورة المائدة 76. 10 سورة الأنعام 46. 11 سورة الأنعام 63-64. 12 سورة يس 23. 13 سورة فاطر 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} 1. وكذلك الخوف من النتائج المجهولة المبنية على حاضر معلوم: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 2. {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 3. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} 4. {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 5. وهكذا يتناول القرآن كل المخاوف البشرية الزائفة واحدًا واحدًا فيفضها عن النفس. ويرفع عنها إصرها، ليطلقها تواجه الحياة قوية عزيزة متمكنة متطلعة، مطمئنة إلى قدر الله. ثم يمسك وتر الخوف -الفطري في النفس البشرية- فيوقع عليه نغمة الخوف الأصيلة التي ينبغي أن تصدر عن هذا الكيان. إن قوى الأرض كلها لا تخيف -أو لا ينبغي أن تخيف- لأنها قوى مسخرة. لا تستمد من نفسها، ولا تملك لنفسها ضرًّا ولا نفعًا، والقوة التي ينبغي أن تخاف حقًّا هي القوة التي بيدها كل شيء. هي المانحة حقًّا والمانعة حقًّا. وإذن فخوفها هو الخوف الواجب. وخشيتها هي السبيل. الخوف ينبغي أن يكون من الله، ومما يخوف به الله. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 6. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 7. {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 8. {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} 9.   1 سورة آل عمران 160. 2 سورة البقرة 216. 3 سورة النساء 19. 4 سورة لقمان 34. 5 سورة الطلاق 1. 6 سورة آل عمران 175. 7 سورة الزمر 36. 8 سورة الأنعام 15. 9 سورة المائدة 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 1. {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} 2. {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} 3. {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} 4 إلخ ... إلخ ... إلخ. أما هذا اليوم الذي كان شره مستطيرًا -وهو أخوف ما يخافه القلب المؤمن المستوي على النهج- فهو من أوسع أبواب التخويف في القرآن. والآيات التي تذكر عذاب الآخرة كثيرة كثيرة منبثة في تضاعيف القرآن لا تحتاج إلى بيان. ولكن نشير فقط إلى حقيقة بارزة فيها، هي أنها تشمل جميع أنواع الخوف وكذلك جميع المستويات! ولقد يغلب على الظن أن العذاب الحسي هو أداة التخويف الوحيدة في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} 5. {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 6. {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} 7. {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ، وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} 8. .. إلخ ... إلخ.   1 سورة الأنعام 51. 2 سور النور 37. 3 سورة الإنسان 7. 4 سورة الإنسان 10. 5 سورة النساء 56. 6 سورة البقرة 24. 7 سورة الصافات 62-68. 8 سورة الحاقة 30-37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ولكن الحق أن أدوات التخويف شتى، وأنغامه متعددة. فهو تارة يمزج العذاب الحسي بالعذاب المعنوي مع تغليب الحسي: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} 1. فهنا وصف مفزع لشدة العذاب، حسي كله إلا في كلمة {غَمٍّ} فهي هنا تلقي ظلال العذاب النفسي بجانب العذاب الجسدي الفظيع. وتارة يمزج الحسي بالمعنوي على سواء: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} 2. فهنا يجعل الخزي في الدنيا، وهو مما يخافه القلب البشري، لونًا معجلًا من العذاب يضاف إلى عذاب يوم القيامة. والخزي هنا من الله. ومن ثم فهو مخوف حقًّا ومرعب حقًّا. لأنه خزي من السلطة الحقيقية التي تملك أن تخذل وتخزي. ثم هو خزي لا راد له لأنه من عند الله. وتارة يغلب العذاب المعنوي: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} 3. فليس الوجه البارز للنار هنا هو هذابها الحسي، وإنما هو اطلاعها على الأفئدة، وما يحدثه ذلك من رهبة في القلب، حين تفتح النار عيونها. وترسلها من خلال النفس لتطلع على الأسرار! وتارة هو عذاب معنوي خالص: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 4. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} 5. {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ   1 سورة الحج 19-22. 2 سورة البقرة 85. 3 سورة الهمزة 6-7. 4 سورة الانفطار 19. 5 سورة عبس 34-37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} 1. فالهول هنا كله نفسي بحت، تتذاوب تحته النفس وتنسحق سحقًا دون ذكر لعذاب الأجسام. وكذلك: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} 2. {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} 3. فالخزي المعنوي هنا هو العذاب. وكذلك يرتفع العذاب في بعض المواضع إلى قمة المعنويات حيث يقول تعالى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [سورة البقرة: 174] . أو يقول: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [سورة آل عمران: 77] . وهكذا يشمل جميع الدرجات وجميع المستويات! إن الناس ليسوا كلهم سواسية في تركيبهم النفسي. منهم الحسيون الذين يأخذون الحياة عن طريق الحس والحواس. وهؤلاء هم أغلبية البشرية! ومنهم قلة ترتفع عن ذلك المستوى. فتهمها المواقف النفسية والحالات المعنوية وتؤثر فيها. بل الشخص الواحد يكون حسيًّا تارة ومعنويًّا تارة أخرى حسب تقلبات مزاجه وتقلبات ظروفه. ومن ثم يوقع الإسلام على وتر الخوف جميع الأنغام وجميع المستويات، ليشمل الناس كلهم من جهة، ويشمل كل واحد في جميع حالاته من جهة أخرى، ولا يدع فرصة واحدة تفلت ولا شخصًا واحدًا لا يوقع على أوتار نفسه بالنغم الذي يناسبه وبالقدر الذي يطيق!   1 سورة الحج 1-2. 2 سورة المعارج 43-44. 3 سورة المرسلات 35-37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 والرجاء كذلك. يستخدم الإسلام معه المنهج ذاته ليصل إلى التقويم المرغوب. يبدأ أولًا بتحويل الرجاء عن الآمال الكاذبة والقيم الزائفة، ليوجهه بعد ذلك إلى القيم الحقيقية وإلى الطريق الصحيح. يرجو البشر كثيرًا من ألوان النعيم في الأرض. المال والبنين. والشهوات. والجاه والعزة والسلطان والقوة.. إلى آخر أنواع المتاع الجسدي والنفسي, والإسلام -كما قلنا في الفصل السابق- لا يحرم المتاع النظيف ولا يدعو لى الرهبنة والانصراف عن شئون الأرض، بل يدعو إلى ذلك المتاع دعوة صريحة ويستنكر تحريمه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. ولكنه مع ذلك لا يحب للناس أن يوغلوا في طريق الشهوات فتفتنهم عن القيم الحقيقية الباقية الخالدة حين يزول متاع الأرض القريب. ومن هنا يكرر في مواضع كثيرة أنه لا يحرم طيبات الأرض ولا يستنكرها، ولكن "الباقيات الصالحات خير وأبقى". {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 2. {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} 3. {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4. {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} 5.   1 سورة الأعراف 32. 2 سورة آل عمران 14-15. 3 سورة الكهف 46. 4 سورة الكهف 28. 5 سورة النساء 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1. {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} 2. إلخ ... إلخ ... إنه يوجه القلب البشري -مع الاستمتاع بطيبات الأرض وتعميرها والمشي في مناكبها ابتغاء الرزق- ألا تفتنه هذه المتع الأرضية ولا تستغرق كيانه. ويوجهه أن يرجو -في الدنيا والآخرة- وجه الله، ويتطلع إلى مثوبته ورضاه. وكان عذاب الآخرة أوسع أبواب التخويف، فكذلك نعيم الآخرة أوسع أبواب الرجاء. وما قيل عن العذاب هناك يقال هنا عن النعيم. إن المتبادر إلى الذهن أن النعيم الحسي هو صورة الجنة الأخروية التي وعد الله بها المتقين: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ، وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. ولكن على الرغم من تكرار الوصف الحسي في مشاهد النعيم، فإنه يندر أن يجيء وحده، ويغلب أن يمتزج النعيم الحسي بالنعيم المعنوي في كل مشهد. فحتى الآيات السابقة، وهي أشد مشاهد النعيم حسية في القرآن كله تقريبًا، يجيء بعدها: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} . فينتهي النعيم الحسي بذلك الجو المطهر الذي لا لغو فيه ولا تأثيم، والذي يشمل النفوس فيه سلام يتردد صداه في جنبات الجنان. وثمت كثير من ألوان النعيم المعنوي تجيء متناثرة في سور القرآن، إما وحدها وإما ممتزجة بالنعيم الحسي كما رأينا في المثال السابق. {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ، وَهُدُوا إِلَى   1 سورة العنكبوت 64. 2 سورة الزخرف 35. 3 سورة الواقعة 15-24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} 1. {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} 2. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 3. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} 4. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} 5. وفي هذا المثال الأخير يتبدى النعيم الروحي الخالص الذي لا تشوبه شائبة من متاع حسي. إنه الطمأنينة والرضا في رحاب الله. والله ينادي هذه {النَّفْسُ} فيقول لها ارجعي إلى {رَبِّكِ} راضية مرضية، ثم يحيطها برعايته العلوية الشفيفة فيقول لها ادخلي {فِي عِبَادِي} {وَادْخُلِي جَنَّتِي} بما في الإضافة إليه سبحانه من تقريب وتكريم. وشبيه بذلك: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [سورة مريم: 96] . فهنا يرتفع النعيم ويلطف ويشف حتى يصبح {وُدًّا} من الله لعباده. وذلك أروع المتاع. إن الناس كما قلنا صنوف شتى، ومستويات شتى. فيهم من يأخذ الحياة حسًّا، ومن يأخذها معنى. وكل بشر إلى جانب ذلك تعتوره هذه الحالة وتلك، أو يمزج بينهما في اللحظة الواحدة. ومن ثم جاء التوقيع القرآني أنغامًا شتى على ذلك الوتر الواحد، تشمل الحسيات والمعنويات جميعًا. كما أن وصف القرآن للنعيم الحسي يعطيه طعمًا خاصًّا حبيبًا حتى للذين لا يحفلون كثيرًا بعالم الحس!   1 سورة الحج 23-24. 2 سورة المطففين 22-24. 3 سورة الغاشية 8-16. 4 سورة عبس 38-39. 5 سورة الفجر 27-30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 من هذين الوترين المتقابلين المتجاورين يمسك الإسلام بزمام النفس البشرية! فيعدها ويمنيها، ويخوفها ويرهبها.. وفيما بين ذلك يغرس فيها كل البذور الصالحة التي يقصد إلى غرسها في قرارة النفوس. إنه يربط بهذين الخطين -المعروفين في اصطلاح المؤلفين المسلمين باسم الترغيب والترهيب- يربط بهما كل نشاط البشرية. فالقرآن يربط توجيهاته كلها، وأوامره ونواهيه بهذا الخط أو ذاك، أو بهما مجتمعين، ويكرر ذلك تكرارًا حتى تتلازم في أعماق النفس، ويصبح هذا التلازم قوة شعورية ولا شعورية توجه إلى الخير وتبعد عن الشر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} 1. {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 2. {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3. ثم تجيء الآيات الأخرى تفصل هذا الإيمان والعمل الصالح، فتبين "مفرداته" المتعددة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى   1 سورة الكهف 107-108. 2 سورة يونس 63-64. 3 سورة غافر 7-9. 4 سورة الصف 10-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 1. {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 2. {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 3. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} 4. {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 5. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 6. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 7.     1 سورة آل عمران 195. 2 سورة آل عمران 169-171. 3 سورة التوبة 24. 4 سورة التوبة 68. 5 سورة الفرقان 68-70. 6 سورة البقرة 262. 7 سورة البقرة 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَة} 1. {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2. وهكذا يوقع الإسلام على هذين الوترين المتقابلين جميع أنغام الخوف والرجاء التي يمكن أن تعرض لحياة البشر على الأرض. ويصل من ذلك التوقيع المنوع النغمات المتجدد الألحان إلى تحرير النفس من الخوف الأرضي والتعلق بمتاع الأرض الزائل، وإطلاق البشرية عاملة في سبيل الخير. في كل ميدان من ميادين العمل: في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وعمارة الأرض، على أسس من نظافة الخلق ونظافة الضمير، ابتغاء مرضاة الله، وفرارًا من عذاب الله، كما يصل إلى تهذيب الضمير البشري وإرهافه إلى الدرجة التي ينتفض فيها صاحيًا لأقل لمسة وأبسط توجيه، حتى يكفي أن يظن أن ذلك يرضي الله فيعمله، ويكفي أن يظن أن ذلك يغضب الله فيبتعد عنه. وكذلك كان المسلمون الأوائل الذين رباهم القرآن. وصلت حساسيتهم المرهفة -واطمئنانهم مع ذلك إلى الله- إلى حد كانوا يعيشون فيه مع الله نهارهم وليلهم، ولا ينصرفون عنه في عمل أو راحة. وكانوا بذلك كما حدث عنهم خالقهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . صدق الله العظيم.   1 سورة الهمزة 1-9. 2 سورة آل عمران 133-134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الحب والكره : والحب والكره خطان آخران من خطوط النفس المزدوجة المتقابلة، يشملان مساحة واسعة من النفس، ومساحة واسعة من الحياة. إنها مساحة قريبة من تلك التي يشملها الخوف والرجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وكما صنع الإسلام في الخطين الأولين، كذلك يصنع في هذين الخطين، فيحكم أولًا رباط الوترين المتجاورين، ثم يوقع على كل منهما النغمة التي ينبغي أن تصدر عنه بلا تراخ ولا توتر شديد. إن الإنسان يحب نفسه. كذلك ركب في فطرته: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1. يحب أن يستمتع بكل لون من ألوان الملذات الحسية والمعنوية. يجب أن يكون بارزًا ظاهرًا قويًّا متمكنًا ذا سلطان. يحب أن يقهر ويتغلب, يحب أن يستحوذ على كثير. يحب أن يعمر وأن يخلد. يحب أن يكون نقطة ارتكاز الكون! وإنه ليكره ... يكره كل ما يقف في سبيل هذه الشهوات. يكره العوائق المادية أو المعنوية التي تقفه دون تحقيق رغباته. يكره الناس حين يحس أنهم يشاركونه فيما يحب أن يستحوذ عليه وحده. يكره كل أذى يقع عليه وكل اعتداء. تلك نغمات تصدر عن وتري الحب والكره في النفس البشرية. بعضها صالح وكثير منها نشاز! والإسلام لا يحارب الفطرة ولكنه يهذبها. إنه يريد للناس أن يحبوا وأن يكرهوا. لأن هذه فطرتهم. ولكن الحب على إطلاقه والكره على إطلاقه يدمران النفس ويبددان طاقتها، ويوزعانها، ويستعبدانها فلا تملك الخلاص! وحين ينقلب الحب والكره إلى شهوة لا ضابط لها فإنها لا تصطدم بالآخرين فحسب، بل يتصادم بعضها ببعض داخل النفس وتؤدي إلى البوار. من أجل ذلك يضع الإسلام "ضوابط" لشهوة الحب والكره. ضوابط تتصل بالروح، وضوابط تتصل بالعقل. وجميعها يتصل بالله. ولا يكره الإسلام للناس أن يحبوا أنفسهم! فحب النفس كما قلنا من قبل دافع فطري قوي، وهو من أكبر الحوافز على العمل والتعمير والإنتاج، وكلها أهداف يحفل بها الإسلام ويعمل على تنشيطها بكل سبيل. ولكنه لا يفهم حب النفس على أنه الانجراف وراء الشهوات! بل على العكس يعتبر ذلك ظلمًا للنفس. وإنه لكذلك في الحقيقة. فالذي يطلق   1 سورة العاديات 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لنفسه العنان في كل ما توسوس به يظلمها ويوردها موارد الهلاك1. إنه يفهم حب النفس على أنه النصيحة لها والتوجيه الصالح. التوجيه الذي تتحقق به سعادتها في الدنيا والآخرة. وفي الآخرة على وجه التخصيص. فهي الدار الباقية. نعيمها خالد وعذابها مقيم. بينما الحياة الدنيا {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} 2. فأية حماقة في أن يبيع الإنسان الدار الباقية ونعيمها الخالد، بنعيم زائل لا يمتع المتعة الكاملة حتى في هذه الدنيا، فهو دائمًا مشوب، وأقل الشوب أنه صائر إلى الفناء؟! كلا! ما هكذا ينبغي أن يكون حب النفس! إنما الحب الحقيقي أن يصون الإنسان نفسه من مذلة العبودية في الأرض للشهوة, ومذلة الخزي والعذاب يوم الجزاء. ولكي يصل الإسلام إلى ذلك فإنه يوقع على وتر الحب أنغامًا جميلة شفيفة رائقة تنتهي في النهاية إلى أن يحب الإنسان نفسه في وضعها الصحيح! يوقع أولًا نغمة الحب لله ... وإنها لتوقيعات شتى. فالله هو الواهب المنعم الذي وهب الحياة للإنسان. ووهب له كل ما يملك من طاقات ومزايا وصفات. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} 3. {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 4. {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} 5. {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} 6. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} 7. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} 8. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 9.   1 انظر الفصل السابق "تربية الجسم". 2 سورة الحديد 20. 3 سورة التغابن 3. 4 سورة الرحمن 1-4. 5 سورة الأعلى 1-2. 6 سورة مريم 9. 7 سورة الانفطار 6-7. 8 سورة الروم 54. 9 سورة الصافات 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} 2. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} 3. {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 4. والله هو الذي يسر للإنسان الحياة على سطح هذا الكوكب، ووهب له كل "الإمكانيات" اللازمة له، والمساعدات التي تجعل الحياة ممكنة وميسرة وجميلة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 5. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 6. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 7. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 8. {اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} 9. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 10. {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُون} 11. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} 12 {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي   1 سورة الإسراء 70. 2 سورة التين 4. 3 سورة السجدة 7. 4 سورة البلد 8-10. 5 سورة البقرة 29. 6 سورة الحج 65. 7 سورة الجاثية 13. 8 سورة الأنعام 1. 9 سورة النحل 81. 10 سورة الروم 21. 11 سورة الزخرف 12. 12 سورة يس 71-73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} 1. والله بعد ذلك بعباده رءوف رحيم. ولا يكلفهم فوق طاقتهم، ويريد لهم الخير: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 4. ثم هو -رغم ذلك- يغفر للمسيئين والمخطئين ما داموا لا يصرون على الإثم: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} 5. {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 6. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 7. {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 8. {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} 9. فمن أولى من الله بالحب. الله المنعم الوهاب. الغفور التواب؟ ويوقع نغمة الحب للكون الذي خلقه الله. فالإسلام -كما قلنا من قبل- يعقد صداقة قوية بين الكون والإنسان. صداقة الأخوة في الصدور عن الله "وقد كشف العلم الحديث عن وحدة البناء في الكون والحياة والإنسان".   1 سورة النحل 66-69. 2 سورة الحج 78. 3 سورة البقرة 185. 4 سورة البقرة 286. 5 سورة آل عمران 134-136. 6 سورة الفرقان 70. 7 سورة الزمر 53. 8 سورة النساء 48. 9 سورة الزمر 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وصداقة العبادة المشتركة والتسبيح المشترك لله. وصداقة الإحساس بتسخير الكون لمنفعة الإنسان. ويوقع نغمة الحب للكائنات الحية التي تشارك الإنسان سكنى الأرض, ثم يوقع نغمة الحب لبني الإنسان. إن الناس الذين خلقهم الله من نفس واحدة، لا بد أن يكونوا أحبة. فهم إخوة. إخوة في الخلقة وإخوة في الرحم. وإخوة في الحياة على سطح هذا الكوكب. وإخوة في المصالح المشتركة. وإخوة في المنشأ والمصير. والقرآن يذكر بهذه الأخوة، وبحقها على الناس، في صور جميلة أخاذة تهز الوجدان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 1. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} 2. {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 3. {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} 4. {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} 5. {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} 6. وأحاديث الرسول الكريم في ذلك الباب كثيرة، جميلة شفيفة: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 7. "وتبسمك في وجه أخيك صدقة! " 8.   1 سورة النساء 1. 2 سورة آل عمران 103. 3 سورة الحشر 9. 4 سورة الحجرات 11. 5 سورة الحجرات 12. 6 سورة البقرة 237. 7 رواه البخاري. 8 رواه ابن حبان والبيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 "وتلقي السلام على من عرفت ومن لم تعرف" 1. "إن من عباد الله عبادًا ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء والشهداء". قيل: من هم يا رسول لله؟ قال: "هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور. لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". ثم قرأ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2, وهي كلها توجيهات إلى الحب الصافي الرائق الذي يليق بالإخوة البررة الكرام. وحين يوقع الإسلام أنغام الحب هذه كلها، فإنها -بطبيعتها- توازن حب الإنسان لنفسه، وتضعه في وضعه الصحيح، الذي لا يظلم ولا يجور، ولا يغتصب لنفسه حقوق الآخرين. أما الكره فيوجهه إلى قوى الشر في الأرض. إنه لا يجوز للإنسان أن يكره الله سبحانه، أو يكره رسوله، أو أيًّا من ملائكته ورسله؛ ولا يجوز له أن يكره الكون، ولا الحياة، ولا بني الإنسان.. ولكن عليه أن يستخدم طاقة الكره الفطرية في كراهية الشر بجميع صوره وجميع ألوانه، وحيثما كان. الظلم بجميع ألوانه شر ينبغي أن يكره وأن يقاوم: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا" 3. والعدوان شر ينبغي أن يكره وأن يقاوم: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 4. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 5. والاعتداء على الضعفاء في الجماعة شر ينبغي أن يكره وأن يقاوم: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} 6.   1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. 2 رواه النسائي وابن حبان. 3 حديث قدسي أخرجه مسلم. 4 سورة البقرة 194. 5 سورة البقرة 179. 6 سورة النساء 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وقبول الاعتداء على النفس يسميه القرآن ظلمًا للنفس ويتوعد من يقبله، ويدعو إلى مقاومته: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} 1. وفتنة الناس عن دينهم شر ينبغي أن يكره وأن يقاوم: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} 2. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 3. والإفساد في الأرض ومحاربة الله ورسوله، والصد عن سبيله شر ينبغي أن يكره وأن يقاوم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 4. والفواحش ما ظهر منها وما بطن شر ينبغي أن يكره وأن يقاوم: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 5. {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 6. وكل انحراف عن سبيل الله شر ينبغي أن يكره وأن يقاوم: "من رآى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان" 7. وجماع الشر كله هو الشيطان.. هو الذي يتمثل فيه الشر كله، وهو الذي يدعو إلى كل شر، ومن ثم ينبغي أن توجه له طاقة الكره كاملة، وتعلن عليه حرب لا هوادة فيها ولا تسليم:   1 سورة النساء 97-99. 2 سورة البقرة 191. 3 سورة البقرة 193. 4 سورة المائدة 33. 5 سورة النور 2. 6 سورة النور 19. 7 حديث متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 1. والمؤمن بكل طاقاته مجند حياته كلها لدفع هذا الشر ومحاولة التغلب عليه. وبذلك يتوازن الحب والكره. ويصدر عن كل وتر منهما نغمه الصحيح.   1 سورة يس 60-62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الواقع والخيال : في فطرة الإنسان طاقتان متقابلتان. طاقة الواقع وطاقة الخيال. وينبغي -لكي يحقق الإنسان كيانه كله - أن تعمل فيه هذه الطاقة وتلك، وأن يمارس نشاطه هنا وهناك. وقد تقلبت النظم الأرضية في ذلك كثيرًا بين الخيال والواقع، تجنح هنا مرة وهناك مرة، ولا تتوازن في كثير من الحالات. والعالم اليوم يعاني موجة من "الواقعية" البغيضة! وقد جاءت بعد موجة مغالية في "الرومانتيكية" المغرقة في الخيال! كلاهما انحراف! كانت الرومانتيكية تهمل واقع الأرض وتهيم في الأحلام. والواقعية اليوم تتنكب الأحلام عمدًا وتجنح إلى الواقع الصغير المحدود الذي تدركه الحواس، ويمارسه الناس وهم واقعون تحت ضغط الضرورة، لا منفلتين منها ولا مترفعين عليها. واقع المادة وواقع الحيوان! 1. إن هذا الواقع الصغير الذي رسمت حدوده الداروينية القديمة2 لينتهي بالحياة عند المطالب القريبة التي تحتمها الضرورة، ولا يرتفع عن ذلك، ولا يحلم بما هو أجمل أو أكمل أو أفضل. ومن ثم يظل مستواه يهبط، ويظل محيطه يضيق، حتى يصل في النهاية إلى جعل الإنسان آلة حيوانية، يتصرف كما تتصرف الآلة، وينطلق كما ينطلق الحيوان.   1 انظر كتاب "معركة التقاليد" وفصل "فوق الواقع" من كتاب "في النفس والمجتمع". 2 تمييزًا لها من الداروينية الحديثة Neo darwinism التي تؤمن بتفرد الإنسان واتساع آفاقه عن محيط الحيوان "انظر "معركة التقاليد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لأنه يعيش بجناح واحد. جناح الواقع، ويقص جناحه الآخر. جناح الخيال. أو الأوفق أن نقول: إنه يعيش بقدميه المربوطتين إلى الأرض، ويقص جناحيه المحلقين في السماء. والإسلام -كعهده دائمًا- يحب أن يستغل الطاقات البشرية جميعًا، ويوقع على كل أوتار النفس، ليصل من ذلك إلى التوازن في الكيان البشري، وإلى تنمية هذا الكيان وتوسيع آفاقه، ليليق ببني الإنسان. من أجل ذلك يوقع على الوترين المتقابلين، كل في نطاقه، وكل بما يصلح له. فأما طاقة الواقع فيعطيها عملها الكامل في نطاق الحياة الدنيا ونطاق الأرض. إقامة الدولة، وتنظيمها، وحمايتها. وتنظيم المجتمع بحاجاته المادية والاقتصادية والسياسية والتعليمية. إلخ. واستخلاص معادن الأرض وطاقاتها واستغلالها لمنفعة البشر. وتنظيم العلاقات مع الدول الأخرى في الحرب والسلم إلخ إلخ. كل ما "يحتاج" إليه الإنسان في الأرض، كل "الضرورات" التي لا يستغني عنها. كل العلوم. كل المخترعات. كل التنظيمات. ولكنه لا يقتنع بالضرورة. لا يحجر مشاعر الناس ويوقفها في حدود هذا الواقع الصغير. لكي لا تفسد. لكي لا تهبط. لكي لا يأكلها الصراع على عالم المادة. لكي لا يأكل مشاعرها الحقد والحسد والأطماع. إنه يلبي الفطرة الإنسانية. بل الفطرة الحية على إطلاقها. بل فطرة الخليقة حتى في الجماد! إن الجبال لا تكتفي بأن تكون جبالًا.. ولكنها تكون جميلة ورائعة مكسوة بالثلوج أو مكسوة بالغابات! إن السحاب لا يكتفي بأن يكون سحابًا يحمل الماء.. ولكنه كذلك يكون جميلًا بأشكاله وألوانه. ثم ينتشر عليه في بعض الأحيان طيف الشمس "قوس قزح" في منظر رائع جميل! إن النبات لا يكتفي بأن يكون نباتًا، ولكنه يورق ويزهر، ويستمتع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 منه الإنسان بزهره الأريج وشكله البهيج! إن الطير لا يكتفي بأن يكون طيرًا، ولكنه يسقسق ويغرد ويلعب ويقفز، وتزهو منه الألوان! إن الحيوان لا يكتفي بأن يكون حيوانًا، ولكنه يقفز ويمرح، و"يتخابث" في لطف ويستألف للإنسان! الإنسان وحده هو الذي يراد له أن يعيش في عالم "الضرورة" وعالم "الواقع"؟ الإنسان وحده هو الذي يراد له أن يخالف الكون وفطرة الحياة؟ من يقول ذلك؟ إلا من انحرفت فطرته وفسدت سجاياه! كلا! لا يقبل الإسلام أن يحصر الإنسان في حدود هذا الواقع الصغير. إنما يريد له أن يعيش في "الواقع الكبير" الذي يشمل الضرورة والانفلات من عالم الضرورة. يشمل ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.. فكلاهما عنصر أصيل في الإنسان. لذلك يشغل طاقة الخيال لتساند طاقة الواقع، وترفعها عن قيود الواقع المحدود. يشغلها في تخيل الكمال المطلق بقدر ما تطيق. لأن تخيل الكمال المطلق يجعلها تهفو لإصلاح "الواقع" ومحاولة الوصول به إلى الكمال. ومن ثم يصبح الخيال واقعًا بعد حين! ويرتفع مستوى البشرية كلها بقدر ما تطيق! ويشغلها في تصور الكمال والجمال في العالم الآخر. فيغذي خيالها بمئات من المناظر والمشاهد والصور والحالات. يكفي قولة الرسول عن الجنة: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر! " إن هذه الجملة وحدها لتفتح للخيال طاقة يطل منها على الجمال المطلق والكمال المطلق. طاقة لا تكفي فردًا بمفرده، ولا جيلًا بمفرده. وإنما هي للبشرية كلها في جميع الأجيال! وهي بعد ليست خيالًا لمجرد المتعة والتلذذ السلبي الذي لا هدف له ولا غاية وراءه. {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} وإنما الهدف هو إصلاح القلب البشري على الأرض، ليعمل الإنسان في الأرض وقلبه متجه إلى السماء. وليرعى الله في كل عمل لينال ثوابه ومغفرته ورضاه. ومن ثم يرتبط الواقع والخيال كلاهما بالله. ويعمل الواقع والخيال كلاهما لإصلاح النفوس وإصلاح الحياة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الحسية والمعنوية : وقريب من الخطين السابقين هذان الخطان المتقابلان: الطاقة الحسية والطاقة المعنوية، كل منهما مكملة للأخرى، وكل منهما تعمل في اتجاه. الطاقة الحسية هي طاقة الجسد المتصلة بالحواس والأعصاب والكيماويات والبيولوجيات والفسيولوجيات. والطاقة المعنوية لا يدري أحد على وجه التحديد "مكانها" و"ماهيتها" ولكنها هي التفكير التصوري التجريدي الذي يدرك "الكليات" و"المعنويات". يدرك "القيم العليا". يدرك "الفضيلة". يدرك "العدل". يدرك "الحق". يدرك "الجمال".. وما إلى ذلك من كليات ومعنويات وتجريدات. يقول جوليان هكسلي في كتابه "الإنسان في العالم الحديث" في فصل "تفرد الإنسان": "أول خواص الإنسان الفذة وأعظمها وضوحًا قدرته على التفكير التصوري ... ولقد كان لهذه الخاصية الأساسية في الإنسان نتائج كثيرة، وكان أهمها نمو التقاليد المتزايدة" ويقول في موضع آخر من نفس الفصل: "وهذه الخواص الذي امتاز بها الإنسان، والتي يمكن تسميتها نفسية أكثر منها بيولوجية، تنشأ من خاصية أو أكثر من الخواص الثلاث الآتية: "الأولى: قدرته على التفكير الخاص والعام". "الثانية: التوحيد النسبي لعملياته العقلية، بعكس انقسام العقل والسلوك عند الحيوان". "الثالثة: وجود الوحدات الاجتماعية مثل القبيلة والأمة والحزب والجماعة الدينية، وتمسك كل منها بتقاليدها وثقافتها". "وهناك نتائج ثانوية كثيرة لتطور العقل من مرحلة ما قبل الإنسان إلى مرحلة الإنسان، وهي بلا شك فريدة من الناحية البيولوجية، ولنذكر منها العلوم الرياضية البحتة والمواهب الموسيقية والتذوق والإبداع الفنيين، والدين، والحب المثالي". هاتان الطاقتان إذن موجودتان في الإنسان. ولكن الطاقة التي تعتبر "إنسانية" بصفة خاصة، الطاقة التي يتفرد بها الإنسان ولا وجود لها في الحيوان، هي الطاقة المعنوية التي تدرك الكليات والمعنويات والتجريدات. ومع ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فالجاهلية الحديثة التي يعيش بها الناس في القرن العشرين، تجنح رويدًا رويدًا إلى إهمال هذه الطاقة التي هي إنسانية بصفة خاصة، وتكبير الطاقة الأخرى المشتركة بين الإنسان والحيوان. إن الجاهلية الحديثة لا تستغل الطاقة المعنوية إلا في مجال واحد. مجال "العلم" بنظرياته وتطبيقاته. إنه ولا شك مجال ضخم. وإنه ليفتح آفاقًا جبارة كل يوم، ويدفع بالبشرية -في هذا المجال- إلى الأمام. ولكن مجال هذه الطاقة أوسع بكثير من ميدان العلم. إنه يشمل كذلك الفن. والعقيدة والفضائل. والأخلاق. والقيم العليا. يشمل أرفع جوانب الإنسان. والفن في العالم الحديث رغم إمكانياته الضخمة يتدهور كل يوم وينحدر بدعوى "الواقعية" التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة. واقعية المادة وواقعية الحيوان. ومن ثم يفقد رفرفته وطلاقته، ونشدانه الدائم للجمال والكمال. أما العقيدة وما يشع عنها من فضائل وأخلاق وقيم عليا. فقد ظلت تتضاءل في العالم الحديث بتأثير الجاهلية المسيطرة عليه، حتى صارت أسطورة يتندر بها الناس.. ويضحكون.. ويهزءون! تمامًا كما كانوا في جاهليتهم الأولى. وكما يكونون في كل لحظة يتخلون فيها عن كيانهم الإنساني الأصيل، ويخلدون إلى الأرض وينحصرون في دنيا الحيوان: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} 1. أما الإسلام فعلى عهده دائمًا، مساير للفطرة مرتفع معها إلى آخر ما تطيق الارتفاع، لا يتخلى عن مهمته مهما كانت الظروف. لا تيئسه الجاهلية التي يجد عليها الناس، فإنما جاء ليبدد الجاهلية وينشر المعرفة الصحيحة. وتلك مهمته الدائمة في حياة البشرية. الإسلام يساير الفطرة بشقيها، فيعطي الطاقة الحسية غذاءها، ويمنح الطاقة المعنوية مجال العمل والإبداع. كل لذائذ الحس مباحة ما دامت في الدائرة المأمونة النظيفة التي لا تضر   1 سورة الأعراف 175-176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بالفرد ولا تضر بالمجموع. لذائذ الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس. وما يبتدعه الإنسان من أدوات تيسر حياته وتوفر جهده وتمتع حسه المتعة الحلال. وفي ذلك غذاء كامل لطاقة الحس. أما الطاقة المعنوية.. الطاقة التي هي إنسانية أصيلة. الطاقة التي تميز بها الإنسان عن الحيوان.. فالإسلام يحتفل بها احتفالًا ضخمًا، ويجعلها هي أساس الحياة الإنسانية، بما أنها هي أساس إنسانية الإنسان. أول ما يحتفل بها يمنحها العقيدة. العقيدة على شمولها واتساعها وطلاقتها. العقيدة بمعنى الإيمان بوجود الله ووحدانيته. وبمعنى العبادة لله وإخلاص الدين له. وبمعنى تصور الكون والحياة على أساس هذا الإيمان بالله. وبمعنى الإيمان بالحق الذي خلق به الله السموات والأرض. وبمعنى إحقاق هذا الحق على ظهر الأرض. وبمعنى إقامة المجتمع الإنساني على أساس الحق الإلهي الذي نزل به القرآن. وبمعنى الجهاد في سبيل الله، وفي سبيل الحق وفي سبيل الإسلام. الجهاد في سبيل إقامة مجتمع نظيف متوازن يؤمن بما أنزل الله، ويحكم بما أنزل الله. تلك هي العقيدة التي يبذرها الإسلام في النفوس، ويغذي بها الطاقة المعنوية في الإنسان. والحياة في ظلال هذه العقيدة متعة للنفس ما بعدها متعة.. متعة الاتصال الدائم بالله، وتوسيع آفاق الإنسان حتى تتصل بالكون كله على اتساعه وتصبح طاقة كونية ممتزجة بطاقة الكون، داخلة في ناموسه الأكبر غير منفصلة عنه، وغير منحصرة بذاتها الصغيرة الفانية عن طاقة الحياة. وهذا الكلام ليس شعرًا! إنما هو واقع! واقع يكشف عنه العلم الحديث خطوة بعد خطوة كلما فتح الله عليه سرًّا من الأسرار! ولقد كان اكتشاف الطاقة الذرية والجاذبية الكونية حدثًا في تاريخ العلم. وهو كذلك حدث في تاريخ "المعرفة" بمعناها الواسع. فقد كشف للإنسان أن تقسيم الكون إلى مادي ولا مادي يوشك أن يصبح خرافة! وأن الكون كله في حقيقته مجموعة من "الطاقات" متحركة على الدوام، مترابطة على الدوام، فإذا اختلت فسد ترابطها وانفجرت وتبددت في الآفاق. والإنسان أحد هذه الطاقات الكونية، يحكمه الناموس ذاته وتوجهه إرادة الله الواحد الذي خلق الكون والحياة والإنسان. ومن ثم فهو حين يتجه لله وحده بالعبادة، فهو يصنع ما يوحي به ناموس الكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الأكبر الذي هو بضعة منه. وحين يتجه للكون بالحب فهو يتجه إلى "أخ" له في الخلقة والطبيعة. وحين يتجه إلى "الإنسانية" بالحب ويتحرك ويعمل في نطاق ذلك الحب، فهو يحقق ناموس الكون الذي يقول إن الكون "طاقات" متجاذبة مترابطة متحركة في ترابطها وتجاذبها على الدوام. ومن ثم كذلك تصبح "الفضائل" كلها من صدق ونظافة واستقامة وتطهر، و"القيم العليا" كلها من حق وعدل وجمال وكمال.. جزءًا من بنية الكون وبنية الإنسان. جزءًا من فطرة الخليقة التي خلقها الله. ويصبح الإنسان طاقة كونية، ويصبح متجاوبًا مع الفطرة، ومتمشيًا مع الناموس ... كلما تمسَّك بهذه الفضائل وهذه القيم.. كما يصبح ناشزًا عن الفطرة، منحرفًا عن الناموس، منفصلًا عن طاقة الكون، منحصرًا بذاته الصغيرة في حدودها الضيقة، كلما بعد عن هذه الفضائل وهذه القيم وأخلد إلى الأهواء والشهوات. ذلك هو التصور الإيماني للحياة. وتلك هي حقيقة الواقع التي يكشف عنها العلم يومًا بعد يوم. والإسلام يجعل هذا التصور قاعدته الأساسية، ويجعله كذلك غذاء كاملًا للطاقة المعنوية، التي هي الأساس الإنساني للإنسان. وهو لا يجعله متعة أحلام وتأمل منقطعة عن الواقع! كلا! فكل شيء في الإسلام له غاية! غاية عليا هي صلاح القلب الإنساني واستقامته على الفطرة التي فطره عليها الله. ومن ثم فإن الإسلام لا يميل كثيرًا إلى "الفلسفة" التجريدية البحتة التي تدور وتدور وتدور. ثم ترجع من حيث بدأت، ولا تمنح البشرية غذاء حقيقيًّا صالحًا للحياة. والإسلام لا يكره التأمل في ملكوت الله. بل يدعو إليه دعوة حارة قوية ملحة، ولكنه يخرجها من توها أن تصبح تأملات في البرج العاجي، فيربطها بواقع العمل وواقع الشعور وواقع السلوك. ويجعل لها صدى مباشرًا في حياة الناس على الأرض. كما رأينا في ذلك المنهج الذي بيناه في تربية العقل ونحن نستعرض الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ... فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فهو تأمل يؤدي مباشرة إلى الإيمان. والإيمان يؤدي مباشرة إلى العمل وإلى الجهاد في سبيل تحقيق التصور الإيماني الذي أنشأه التأمل في الملكوت. وبذلك يرتبط الحسي والمعنوي في واقع الحياة كما هما مرتبطان في واقع النفس. ويكون هذا الدين العجيب المعجز هو "دين الفطرة" كما حدث عنه القرآن الكريم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ما تدركه الحواس وما لا تدركه الحواس : وقريب من الخطين السابقين هذان الخطان الآخران: الإيمان بما تدركه الحواس، والإيمان بما لا تدركه الحواس1. إنهما طاقتان فطريتان في كيان الإنسان. كلتاهما إنسانية أصيلة، فالحيوان لا "يؤمن" بشيء من الأشياء. ومع ذلك فالإيمان بما تدركه الحواس ليس هو مزية الإنسان العظمى. إذا هو أقرب في طبيعته للطاقة الحسية المشتركة بين الإنسان والحيوان. أما القدرة على الإيمان بما لا تدركه الحواس فهو المزية الأساسية للكائن البشري، والموهبة العظمى التي وهبها الله للإنسان. وعلى الرغم من هذه البديهية التي يؤيدها العلم التجريبي نفسه -كما ذكرنا من قول جوليان هكسلي- فالجاهلية الحديثة تطمس بصيرة الإنسان في هذا الجانب، وتحدد كيانه، وتحصره في محيط ما تدركه الحواس وحده. وتقول إن هذه هي "الواقعية"! "إن حقيقة العالم تنحصر في ماديته"!.. كذلك يقول المذهب المادي على لسان ماركس. وكذلك يؤمن الغرب كله بصرف النظر عن مذاهبه الاقتصادية، فالخلاف فيها خلاف على القشرة، أما الأساس المشترك فهو إيمان بمادية الحياة ومادية الإنسان! 2.   1 هذه الخطوط الثلاثة: الواقع والخيال، والحسية والمعنوية، والإيمان بما تدركه الحواس وما لا تدركه الحواس، قد تبدو لأول وهلة كأنها شيء واحد. وحقًّا إن فيها شيئًا من التداخل، ولكنها مع ذلك متميزة كما يرى القارئ من تفصيل الكلام. 2 انظر بالتفصيل كتاب "الإنسان بين المادية والإسلام" وكتاب "معركة التقاليد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 والإسلام يؤمن بالطاقات الإنسانية جميعًا، ويعطي كل طاقة ما يصلح لها من الغذاء. يؤمن بميل الإنسان للإيمان بما تدركه الحواس. ويعطي غذاء لهذه الطاقة، الكون المادي كله بما فيه من محسوسات. الكون المادي مبسوط أمام الإنسان تدركه حواسه مباشرة بالعين والأذن والشم والذوق واللمس، أو تدركه بواسطة الآلات المقربة والمكبرة والمجسمة. وهذا الكون المادي مبسوط أمام تجارب الإنسان ومحاولاته لاستغلال طاقته. وليست المذاهب المادية الغريبة هي التي "اخترعت" هذا الاختراع أو اكتشفته في القرن العشرين! فقد مر بنا من قول هـ. ا. ر. جب، أن المذهب التجريبي الحديث قد انتقل إلى أوربا على يد الباحثين من المسلمين. وأن ملاحظاتهم العلمية والتفصيلة الدقيقة هي التي مهدت للعلم الحديث سبيل الظهور. لقد كان المسلمون -بتوجيه دينهم المتمشي مع الفطرة- يؤمنون بالكون المادي والطاقة المادية في الإنسان، فيلاحظون دقائق هذا الكون، ويستنبطون قوانينه، ويستغلون طاقاته. وكانت علومهم في هذا الباب علومًا حقيقية نافعة. ويكفي أن نذكر أن الطب العربي كان يدرس في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر وأن نظريات الحسن بن الهيثم في البصريات كانت تدرس هناك حتى القرن التاسع عشر، وأن لفظة الكيمياء في اللغات الأوربية كلها هي اللفظة العربية، وأن كثيرًا من ألفاظ الفلك عربية الأصل. وليس هذا وحده.. فالإسلام -على طريقته- قد استغل "ما تدركه الحواس" استغلالًا ضخمًا في تربية القلب البشري وربطه بالله. استغله حين وجه الأنظار إلى "الكون المادي" لتبصر فيه يد الله القادرة المبدعة الصناع. استغل الحواس كلها في هذا الأمر. العين والأذن والشم والذوق واللمس. يوجه العين للإبصار: {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 1. {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ   1 سورة الرعد 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 1 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2 {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} 3. ويوجه الأذن للسمع: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِه} 4. {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 5 {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} 6. والذوق: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} 7. {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} 8. وهكذا ينبه كل حاسة من حواس الجسم ويعطيها عملها سواء في تدبير المعاش، واستخراج الطاقة المادية واستغلالها لصالح الإنسان، أو في الاطلاع على آيات الله في الكون وتدبر قدرته المعجزة في الخليقة. ولا يزعم أي مذهب "مادي" أنه يستطيع أن يستغل الحواس، وما تدركه الحواس، أكثر مما يفعل الإنسان! ولكن الغرب المادي وقف عند هذه الحقيقة القريبة، وأنكر ما لا تدركه الحواس! أنكر "الروح" لأنه لا يراها ولا يسمعها ولا يذوقها ولا يلمسها! وأنكر الله! فالله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 9، ولا تدركه بقية الحواس. ومن ثم فهو في حساب الغرب المادي غير موجود. أو هو -من باب الذكرى! - موجود ولكن على هامش الحياة وهامش الوجدان! سبحانه وتعالى عما يصفون. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} . إنها النكسة الزرية التي تعانيها الجاهلية اليوم بأبشع مما كانت تعانيها بالأمس. فربما كانت للجاهلية القديمة أعذار من الجهل والتأخر واستغلاق العقول. أما الجاهلية الجديدة فهي تزعم أنها "تعلم": {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 10.   1 سورة الغاشية 17-20. 2 سورة النور 43. 3 سورة الأنعام 99. 4 سورة الرعد 13. 5 سورة البقرة 19. 6 سورة الحاقة 6. 7 سورة الرعد 4. 8 سورة النحل 66. 9 سورة الأنعام 103. 10 سورة الروم 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وقد وصل الغرب في نكسته من عدم الإيمان بالروح، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر. وصل إلى الدرك الذي لا هبوط بعده، ولا ارتكاس دونه. وصل إلى الحيوانية الكاملة في كل شيء. في الأخلاق وفي السياسة وفي كل مناحي الحياة. هذه الإباحية الخلقية التي تدنس وجه الأرض. هذه المذابح البشرية القائمة في كل مكان: حربان في ربع قرن والثالثة تنذر بالدمار الشامل الرهيب. هذا الصراع المجنون على متاع الأرض الحسي. هذه اللهفة الدائمة والقلق الدائم والاضطراب. هذا الشد والجذب الذي يفسد الأعصاب ويبدد الكيان. إنها النتيجة الحتمية لإنكار الله واليوم الآخر وإنكار الروح ... النتيجة الحتمية لمعاكسة الفطرة، وعدم الإيمان بما لا تدركه الحواس. والإسلام -كلمة الله للناس- حاشا أن يقع في هذه الخطيئة. خطيئة معاكسة الفطرة، وسد منافذ النفس البشرية كلها إلا منفذ الحواس. {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 1. أول صفة للمؤمنين هي أنهم يؤمنون بالغيب! وذلك حق من جميع نواحيه! قالله سبحانه بالنسبة للحواس البشرية "غيب" والمؤمنون يؤمنون بالله بالغيب، وإن كانت الروح -لا الحواس- تتصل به مباشرة بالطريقة التي فطرها الله عليها، وتحس إحساسًا بينًا بذلك الاتصال. ومن جهة أخرى فالمؤمن هو الإنسان الكامل. الإنسان الذي يساوق فطرته كلها. والذي يلبي من هذه الفطرة إيمانها بما لا تدركه الحواس، وهو الجانب الذي تدركه الأرواح. وقد جعل القرآن الإيمان بالغيب قاعدة الإيمان كله، وقاعدة الحياة البشرية كلها، لأنه لا يستقيم في الواقع وجود للإنسانية بغير هذا الإيمان، كما رأينا في الجاهلية الأوربية في هذا الزمان! ولكنه لم يقصر الإيمان بالغيب على الله سبحانه واليوم الآخر والملائكة، وهي قواعد العقيدة التي لا بد منها لصلاح الأمور على الأرض، بلي أعطى تلك الطاقة الإيمانية غذاء آخر خصيبًا في ذكر الجن والشيطان.   1 سورة البقرة 1-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 إن الشيطان في العقيدة الإسلامية شخصية تكاد من بروز ملامحها أن تكون ملموسة! والقرآن يوجه القلب في مواضع كثيرة إلى الحذر من هذا الشيطان الذي {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} 1. وإلى مخاصمته وإعلان الحرب عليه لقاء تسببه في إخراج آدم من الجنة، وتوعده بإغواء بنيه وإدخالهم إلى الجحيم. والأوصاف الحية "لشيطنة" الشيطان تجعله كما قلنا شخصية بارزة الملامح واضحة السمات: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 2. {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. وواضح أن الشيطان يؤدي "دورًا" في العقيدة الإيمانية، لتوجيه الطاقة البشرية لمكافحة الشر في نفوسهم وفي نفوس الآخرين، لتصلح القلوب وتصلح الحياة. ولكن دور الجن في العقيدة ليس كذلك: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا، وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا   1 سورة الأعراف 27. 2 سورة الأنفال 48. 3 سورة إبراهيم 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا، وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} 1. هذه الإشارة المفصلة في سورة الجن. والإشارة العابرة في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} . ليس دورها في العقيدة كدور الإيمان بالله واليوم الآخر، ولا كدور الشيطان. وقد كان يمكن أن تستقيم العقيدة وتكتفي بدون ذكر الجن وهذه التفصيلات. ولكن الإسلام -كما قلنا- يساير الفطرة البشرية جميعًا، ويصل إليها من كل منافذها، ولا يترك منفذًا واحدًا صغيرًا أو كبيرًا يمكن أن ينفذ إليه دون أن يفعل ذلك. والميل الفطري إلى الإيمان بكائنات لا تدركها الحواس هو نافذة إلى النفس يمكن أن يلجها الإسلام ليصل منها إلى مكمن العقيدة في النفس فيوقظها ويحييها ويزيد "مساحتها". ومن أجل ذلك ذكر هذة الحقيقية. حقيقة الجن. لا لأنها من قواعد العقيدة، ولكن لأنها تغذي تلك الطاقة الفطرية البشرية التي يريد الإسلام أن ينفذ إليها من كل باب. ولكن فلننظر بأي قدر ذكرها ولأية نتيجة! لقد قلنا إن الإسلام يرفع على كل وتر بقدر ما يصلح له وما يحتاج إليه. وقد ذكر القرآن الجن في هذين الموضعين، وفي قصة سيدنا سليمان وفي مواضع أخرى عابرة، لا ليشغل البشرية بأبحاث تفصيلية عن الجن، وأعدادهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، وطريقة اتصالهم بالإنس، وكيفية تسخيرهم، وحدود طاقاتهم. إلى آخر هذه المباحث التي شغلت المسلمين فترة من الوقت، كانت ولا شك من فترات الفراغ! إنها إشارة عابرة ... جاءت لتوسع مساحة النفس ... ليخرج الإنسان من دائرة حواسه الضيقة، فيقر في خلده أن الكون أوسع مما تراه حواسه وأشمل.   1 سورة الجن 1-16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وأن الله آيات في الكون لا يدركها الإنسان بحواسه أصلًا ولكنها مع ذلك موجودة. لعل ذلك أن يفتح بصيرته ويوحي إليه بالإيمان. ثم إن الجن في سورة الجن وسورة الأحقاف يقومون بالدعوة إلى الإسلام والإيمان بالله. فهم لم يجئ ذكرهم لمجرد "الترفيه العقلي" وإنما لهدف جاد، هو بيان أن كل خلق الله يؤمنون به, ويسبحون بحمده ويدعون بدعوته. إلا الضالين فمأواهم جهنم وعليهم لعنة الله. ومن ثم يؤدي ذكرهم دورًا في العقيدة، وإن كان بطريقة أخرى غير الدور الذي يؤديه الشيطان. أما الإيمام بالملائكة فداخل في أصل الإيمان كما أسلفنا. والقرآن يصل النفس بهم في صور شتى: فهم آية من آيات القدرة الخالقة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. وهم الذين ينزلون على قلوب البشر بوحي الله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 2 {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} 3. وهم جند مجندون في طاعة الله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 4. وهم يستغفرون للمؤمنين: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} 5. وهم بالجملة صورة وضيئة من الإيمان الخالص تغري بالحب وتوحي بالتطهر والارتفاع. وبهذا وذلك ينفذ الإسلام إلى النفس عن طريق إيمانها بما تدركه الحواس، وإيمانها بما لا تدركه الحواس. فيكون قد حقق لها كيانها الأكمل، ويكون قد نفذ إليها من منافذها كلها. وهداها إلى الله.   1 سورة فاطر 1. 2 سورة الشعراء 193-194. 3 سورة غافر 15. 4 سورة التحريم 6. 5 سورة غافر 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الفردية والجماعية : من الخطوط المزدوجة في كيان الإنسان هذان الخطان المرتبطان المتناقضان: إحساس الإنسان بفرديته، وإحساسه بالميل إلى الاجتماع بالآخرين والحياة معهم كواحد منهم. وهذه الظاهرة ذات أثر بالغ في الحياة البشرية. فكيان المجتمع كله قائم على محاولة التوفيق بين هذين المتناقضين في الظاهر، ومدى النجاح في عملية التوفيق. ولقد اضطربت كثير من النظم وكثير من الفلسفات بين هذه النزعة وتلك. بعضها يوسع دائرة الفردية حتى تصل إلى الأنانية المرذولة، وتفكيك روابط المجتمع، وتشتيت طاقاته. وبعضها يوسع الدائرة الجماعية حتى تقضي على كيان الفرد وتكاد تلغي وجوده، إذ تعتبره ذرة ضئيلة تافهة لا يستمد كيانه إلا بوصفه فردًا في القطيع. ونحن نرى في هذه اللحظة على وجه الأرض مذهبين متنافرين، كل منهما يقوم على اتجاه. الرأسمالية في الغرب قائمة على أساس فردية الإنسان. فتوسع له في حدو فرديته، وتترك له حرية التصرف في كثير من الأمر، حتى يصل إلى حد إيذاء نفسه وإيذاء الآخرين، فلا تحرج على نشاطه الزائد عن الحد، ولا تقفه عند حد معقول. يطلق لنفسه عنان الشهوات والأهواء. ويحطم الأخلاق والتقاليد. ولا يعترف بحق أحد في توجيهه وضبط تصرفاته. ويحول أمواله إلى أداة لاستغلال الآخرين. وامتصاص جهدهم ودمائهم وتحويلها إلى ترف فاجر ومتاع حسي غليظ ... ويفسد سياسة الحكم وسياسة المجتمع، ويفسد تصور الناس للحياة. ومع ذلك فهو يمارس "حريته الشخصية" وليس لأحد عليه سلطان! والشيوعية في الشرق قائمة على أساس جماعية الإنسان. فتوسع في دائرة الجماعة -أو في الحقيقة الدولة- وتحجر على كل نشاط للأفراد -اللهم إلا نشاطهم الحسي الغليظ, فتتركه لهم مباحًا للتنفيس عن الطاقة المكبوتة! - فتمنع اشتراك الناس الفعلي في سياسة الحكم وسياسة المجتمع، وتفرض عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 النظم والترتيبات بحجة أنها أعرف منهم بمصالحهم. فتعين لهم أعمالهم، وأماكن إقامتهم، كما تعين لهم أفكارهم ومشاعرهم وطريقة إحساسهم. بالأمر. ولا تترك لهم سبيلًا للاختيار. وتحكمهم بالحديد والنار والتجسس، وتعتبر كل نصيحة للدولة أو القائم عليها خيانة تعاقب "بالتطهير" لأنها نزعة فردية آثمة، موجهة ضد كيان الجماعة المقدس، من فرد لا قداسة له في ذاته ولا كيان! والفلسفات كذلك تخبطت كثيرًا في هذه الأمور. ولم يستطع كثير منها أن يخلص إلى حقيقة بديهية بسيطة، يؤيدها الواقع المشهود. إن هذه الفلسفات تفترض أنه إذا كان الإنسان فردي النزعة فالمجتمع إذن مفروض عليه من خارج نفسه متحكم فيه بغير إرادته، ضاغط على كيانه، محطم لشخصيته، ومن ثم فهو مكروه. وتفتيته وتفكيكه حلال! أو ... أن النزعة الجماعية هي الأصل. فالطفل يولد ضعيفًا لا حول له ولا قوة ... ولا كيان.. ولولا وجوده في الجماعة ما استطاع أن ينمو وأن يعيش.. وهو في حاجة دائمة للجماعة لكي يستمر في وجوده. وإذن فالنزعة الفردية رجس ينبغي أن يقاوم.. ينبغي أن تسحق هذه الرغبة وأن تزال! لماذا؟! إن هذه الفلسفات لا تنتبه إلى الطبيعة المزدوجة في هذا الكائن البشري. التي تبدو متناقضة حين ينظر إليها من السطح. ولكنها مع ذلك مترابطة. وهي تؤدي مهمتها في حياة الكائن البشري بتناقضها ذلك وترابطها. كما يؤدي مهمته الحب والكره، والرجاء والخوف، والسلبية والإيجابية، والحسية والمعنوية، والإيمان بالواقع والإيمان بما وراء الواقع.. ويخرج لنا في النهاية مخلوق متعدد الجوانب موحد الكيان! إن في صميم الفطرة هذين الخطين.. كل منهما حقيقة. وكل منهما أصيل. والتناقض يحدث في باطن النفس، كما يحدث الاضطراب في واقع الحياة، حين تزيد النسبة المقررة لكل واحد فينحرف عن مساره، ويعتدي على مسار الآخر ويشده إليه. أما حين يأخذ كل منهما مداره الصحيح. فلن يحدث التنافر بين الفرد والجماعة أو يحدث الشقاق. وحقيقة إنها مهمة عسيرة. ولكنها ليست مع ذلك مستحيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وأي شيء في حياة الإنسان غير عسير؟! {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} 1 {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 2. والكدح في كل شيء وفي كل خطوة وفي كل حركة. والكدح في المشاعر والتفكير. إنما يفترق كدح عن كدح، في أن أحدهما مهتد ومبصر وواصل، فيعوض كدحه في الحياة الدنيا بذلك الشعور الواصل، وفي الآخرة بحسن الثواب. والآخر ضالٌّ منحرف مقطوع.. يغرق في لذائذ الحس.. ثم يفيق على الضياع! والإسلام يوفق بقدر ما في طاقة البشر بين النزعتين الأصيلتين المتناقضتين في الظاهر. إنه بادئ ذي بدء لا يعتبر إحداهما أصيلة وغيرها دخيل. ولا يعتبر أن تغذية إحداهما تعني بالضرورة الإساءة إلى الأخرى أو إسقاطها من الحساب. والإسلام دين الفطرة، وهذه فطرة الإنسان: فرد داخل في المجموع. أصيل الفردية، أصيل في الميل للمجموع. وهو دائم التقلب بين نزعتيه المتناقضتين، كما يتقلب في نومه من جنب إلى جنب ليستريح! ولكنه في كل لحظة شامل لجانبيه معًا على اختلاف في النسبة والمقدار. والإسلام يعالج كلتا النزعتين فيغذيهما معًا، ويجعلهما متساندتين بدلًا من أن تكونا متنازعتين! إنه يحتاج إليهما معًا؛ لأن الفطرة لا تستقيم بإحداهما دون الأخرى. ولذلك لا يكبت أيًّا منهما, ولا يزيلها من الوجود. إن كان في استطاعة أحد أن يزيلها من الوجود! الإنسان الذي لا شخصية له في ذاته ولا وجود، لا ينشئ إلا مجتمعًا مستضعفًا خانعًا يصلح لأن يحكمه "فرد" متسلط دكتاتور! ثم يتهاوى حين يذهب ذلك الدكتاتور! والإنسان الذي تبرز شخصيته -بانحراف- إلى حد الأنانية المرذولة أو الطغيان، لا يستطيع أن يعيش في وفاق مع الجماعة.. ولا بد أن يتشتت المجتمع ويئول إلى البوار.   1 سورة البلد 4. 2 سورة الانشقاق 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 لا بد من إنسان متوازن في فرديته ومتوازن في ميله إلى الجماعة وتعوانه معها. وحينئذ يصبح المجتمع أشخاصًا حقيقيين لا أصفارًا ولا نكرات. أشخاصًا لهم وجود واقعي. متساندين في الوقت ذاته {صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 1. وذلك هو ما يسعى إليه الإسلام. وهو يصل إلى ذلك بوسائل شتى. فأما الفردية.. الشخصية الاستقلالية.. الكيان الإيجابي القوي.. فينشئه الإسلام بربط القلب البشري بالله! إن الإنسان ليتصل بربه.. فردًا! هذه الصلة العميقة الوثيقة الساربة في أعماق النفس هي عند كل إنسان صلته الشخصية الفردية بالله! وإن الإنسان ليستغرق أحيانًا في العبادة لله ويستغرق في الحب، إلى حد أن ينسى كل شيء في الوجود غيره هو وغير الله! ويخيل إليه في لحظة الاستغراق العميقة أن الوجود كله قد شف وراق. ثم خلا من كل شيء ومن كل أحد.. إلا قلبه الخافق.. والشعاع النوراني الذي يصل قلبه بالله! في لحظة الاستغراق هذه يمتلئ الإنسان بالشحنة التي توجهه في الحياة.. توجهه فردًا إيجابيًّا له كيان. وإنها لتمنحه قوة عجيبة إزاء كل أحد وكل شيء وكل حدث2. إنه يحس أنه يحمل تلك القبسة النورانية المقدسة. القبسة التي احتملها كيان الإنسان الأول الذي خلقه الله من طين الأرض ونفخ فيه من روحه. ومن ثم فهو قوي فعال مريد متصرف. فهو لا يخضع لغير الحق الذي أنزله الله. ولا يرضى بأن يخنع ويستنيم ويصبح سلبيًّا إزاء ما حوله من قيم أو أشخاص أو قوة مادية. لأنه يحس وجوده الفردي ذلك المشحون بتلك القبسة من الله، مكافئًا لهذه القوى جميعها، بل مستعليًا عليها في داخل نفسه, ولو هزمت قوته المادية المحدودة فترة من الزمان! ولهذا السبب ذاته تكره الدكتاتوريات الأديان! إنها من ناحية لا تطيق أن يكون الولاء لأحد غير الدكتاتور! ومن ناحية أخرى لا تطيق أن يكون   1 سورة الصف 4. 2 انظر بعد ذلك "السلبية والإيجابية" في نهاية هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الولاء لله بالذات، لأن هذا الولاء لله هو الذي يؤلب البشر على الضغاة ويحفزهم أن يقفوا لطغيانهم بالمرصاد، و "من رأى منكم منكرًا فليغيره"! هذه الصلة الفردية الشخصية بالله هي التي تمنح الإنسان وجوده المستقل، فلا ينبهم ولا يضيع في القطيع. وثمت عنصر آخر يربي هذه الفردية المستقلة، ويميز كل شخص بمفرده في داخل حسه: إنها المسئولية الفردية عن الأعمال. {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} 2. {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 3. {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 4. فهي إذن تبعة فردية: كل إنسان مسئول عن عمله، لا يستطيع أن يلقي حمله على غيره، ولا هو يتلقى على كتفه أحمال الآخرين. والشعور الدائم بهذه المسئولية الفردية يحدد للإنسان في داخل نفسه كيانًا متميزًا واضح الحدود، أعصابه صاحية لكل ما يمسه ولو من بعيد! ذلك غذاء الفردية في الإسلام! ولكنه غذاء عجيب جدًّا، يؤدي هو ذاته لبث الروح الجماعية في قلب الإنسان! إن الله الذي يتصل به القلب ويقبس منه النورانية والشفافية، هو الذي يلين قلب الإنسان لأخيه، فيحبه ويمنحه من نفسه، ويفنى فيه! {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 5. منتهى الحب. ومنتهى البذل. ومنتهى الإيثار. والحب هو الرباط الحي الذي يربط الجماعة.. يشدها كالبنيان المرصوص.. فإذا كل لبنة قائمة بذاتها قوية الوجود.. ثم إذا البناء كله جماعة.. ليست فيه لبنة ناشزة خارجة عن الحدود!   1 سورة فاطر 18. 2 سورة المدثر 38. 3 سورة البقرة 48. 4 سورة القيامة 14-15. 5 سورة الحشر 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وبهذا الحب الذي يبثه الإسلام ويغذيه قام المجتمع الإسلامي الأول الفريد في كل التاريخ. مجتمع لا من الأصفار المتذاوبي الكيان. مجتمع كل فرد فيه أمة! وهو على ضخامة شخصياته وإيجابيتها العجيبة الفذة، متحاب مترابط، لا تكاد تحس أين يبتدئ كيان كل واحد منهم وأين ينتهي الآخر. لأن الحب قد أزال الحدود! والقرآن يغذي هذه الجماعية بتوجيهاته الدائمة إلى التعاون والتشاور والوفاق: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 1. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 2. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 3. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4. {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 5. كما يغذيها بالخطاب الجماعي والتوجيهات الجماعية.. التي تلقي المسئولية على الجماعة كلها متساندة، لأنها -في الواقع- مسئولية كل فرد، ومسئولية الجميع: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 6. {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 7. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 8.   1 سورة المائدة 2. 2 سورة ِآل عمران 103. 3 سورة التوبة 71. 4 سورة الفتح 29. 5 سورة الشورى 38. 6 سورة آل عمران 110. 7 سورة المجادلة 22. 8 سورة الأنفال 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} 1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 4. هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الإسلام ذاتها تقتضي وجود جماعة متكافلة تقوم بالتكاليف الجماعية. كما أن التصور الإسلامي والفضائل الإسلامية تحتاج إلى جماعة. إلى وسط تحيا فيه وتنمو. إلى محضن يتلقف الأجيال الناشئة فينشئها على تلك الفضائل ويطبعها على ذلك التصور. وتلك كلها مهام لا يقوم بها الأفراد متفرقين، وإلا ضاع جهدهم بددًا ولم يثمر ثماره المرجوة. وإنما تقوم بها الجماعة مجتمعة فتصبح المهمة أيسر والثمرة أقرب إلى المنال5. وهكذا تتحد الجماعة في الهدف وتتحد في العمل، فتلتقي قلوبهم وتتعاون، وترتبط كلها بالله في النهاية، فلا يقوم بينها الشقاق والخصام، وتلتقي النزعة الفردية والنزعة الجماعية كلتاهما في نظام!   1 سورة التوبة 123. 2 سورة محمد 7. 3 سورة الحجرات 6. 4 سورة الصف 10-11. 5 انظر فصل "المجتمع المسلم" فيما يلي من الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الالتزام والتطوع : في الكائن البشري خطان متناقضان متقابلان، يعجب الإنسان لأول وهلة كيف يوجدان بتناقضهما ذلك متجاورين في النفس الواحدة. والواقع أن الازدواج هو السمة العامة للكيان البشري كله، الناشئة في الأصل من ازداوج منشئه من قبضة الطين ونفخة الروح. ومن ثم فلا موجب للعجب مما يحويه الإنسان في كيانه من متناقضات ظاهرية. إنما الذي يعجب له الإنسان حقًّا، ولا يملك نفسه أمامه من الإعجاب، هو الطريقة الفردية التي يسلكها المنهج الإسلامي للجمع بين هذه المتناقضات كلها، وربطها في نظام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 في الإنسان ميل للالتزام. ميل لأن يلتزم بأشياء معينة وينفذها. ولو وجد نفسه طليقًا من كل التزام خارجي لفرض على نفسه أمورًا معينة والتزم بها.. إرضاء لما في طبيعته من ميل للالتزام! ومن ثم فالفوضى المطلقة لا وجود لها، ولا يمكن أن توجد. لأنها ليست جزءًا من طبيعة الإنسان! ومع عمق هذا الميل للالتزام في الطبع البشري، فإن فيه إلى جانب ذلك ميلًا للإحساس بأنه غير ملتزم! وأنه يؤدي الأشياء لأنه هو يريد أن يؤديها، لا لأنها مفروضة عليه! كلا الخطين أصيل وعميق. وكلاهما يؤدي دوره في فطرة النفس وواقع الحياة. وقد كان الميل للالتزام هو الأساس التي قامت عليه "الحكومة" في النظم البشرية، كما قامت عليه كل التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... إلخ. الناس يحبون أن يلتزموا بنظام معين، ويختارون شخصًا أو هيئة من الأشخاص يولونهم أمر الإشراف على ذلك الالتزام. فتقوم "الجماعة" وتقوم "الدولة" وتقوم غيرها من النظم والمؤسسات. وقد كان الميل للشعور بعدم الالتزام هو أساس الإبداع البشري والتقدم الدائم إلى الأمام. يحب الناس أن ينطلقوا من التزاماتهم، أو أن يشعروا بأنها ليست التزامًا بل إرادة ذاتية. وفي كلتا الحالتين تحدث "حركة" في النفس والمجتمع. وهذان الخطان -على أنهما فطريان- ينحرفان كما ينحرف كل شيء في الفطرة حين تفقد اتصالها بالسنن العامة، وتفقد "وعيها" الصحيح بالأمور. يفسد الخط الأول فيصبح الالتزام عبودية للنظام، أو لبشر من البشر، أو لعادة من عادات النفس، أو لتقليد من تقاليد المجتمع، لا يملك الإنسان أن يتحرر منه أو يشعر إزاءه بوجوده المتميز. ويفسد الخط الثاني فيصبح الخروج من الالتزام فوضى بلا حدود ولا ضابط إلا أهواء النفوس وشهوات الأجساد. وعندئذ يصبح "التحرر" الظاهري من الالتزام هبوطًا في الواقع وعبودية للشهوات. وكثيرًا ما يحدث الانتكاسان في النفس الواحدة، "فتلتزم" للنظام أو الدولة أو لفرد من الأفراد، و"تتحرر" من قيود الأخلاق وهواتف الضمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وبذلك يرتكس الإنسان بجانبيه جميعًا في عبودية كاملة وحيوانية مطلقة. والإسلام -كما عهدناه- يوقع على جميع أوتار النفس، ويوقع عليها بالنغم المناسب والقدر المضبوط. يوقع على خط الالتزام. فيفرض قدرًا معينًا من الأوامر والنواهي والتعليمات والتنظيمات.. القدر الذي تحتمه الضرورة، والذي يفسد المجتمع بدونه. ثم يحتاط، فلا يجعله التزامًا للدولة في ذاتها، ولا لأولي الأمر بذاته، ولا للمجتمع، ولا للتقاليد.. وإنما هو التزام.. لله. لله فقط. لا لأحد من البشر. ومن ثم يتحرر الضمير البشري من كل عبودية لغير الله. ويوقع على خط التطوع -أو عدم الميل للشعور بالالتزام- فيحبب لنفس أولا أن تؤدي كل ما عليها من الالتزام خالصًا لوجه الله.. فيرتفع من صورة الالتزام القاهر إلى الرغبة الذاتية في الأداء. وتلك هي الثمرة الحقيقية للإيمان. ثم هو يدع الباب مفتوحًا -بعد أداء ذلك الحد الأدنى من الالتزامات الضرورية لحفظ المجتمع من الفساد- يدع الباب مفتوحًا للتطوع الحقيقي الصاعد السامق النبيل، دون فرض أو إلزام أو إكراه. إنما هو حقيقة تطوع، يصنعه الإنسان ليرتفع في درجات الإيمان ودرجات القرب من الله. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1. يفرض الإسلام التزامات معينة، هي "الفرائض" والحدود. وهي كثيرة ومتشعبة تشمل العبادات والمعاملات، وسياسة الحكم وسياسة المال، والقوانين الجنائية والمدنية والتجارية والدولية.. إلخ. وهذه -فيما عدا العبادات- التزامات متفق عليها في كل النظم. ينبغي أن تفرض فرضًا، وأن تقوم عليها سلطة تضمن تنفيذها. وهي من جانب آخر تستجيب لنزعة الالتزام الفطرية في كيان الإنسان. ولكن الإسلام أولًا يضيف إليها التزامات العبادة. وذلك فارق رئيسي بينه وبين كل النظم الأرضية. التي لا يهمها تنظيف القلب البشري من الباطن، وتكتفي بتنظيفه من الظاهر، ولو كان ينطوي من الداخل على قذارات!   1 سورة الأنعام 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 والنتيجة الحتمية الدائمة لمثل هذه النظم هي انهيار المثل والمبادئ، وانحسار "الإنسانية" والصراع الوحشي على مغانم الأرض، وتفتيت الكيان البشري وتشتيته، والقلق واضطراب الأعصاب، على نحو ما هو موجود في عالم اليوم. ثم هو ثانيًا يجعل إطاعة الالتزام عبادة تؤدي إلى الله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1. فالأمر أولًا مردود في النهاية إلى الله. وطاعة أولي الأمر ثانيًا ليست هدفًا في ذاتها. ولا أولو الأمر سلطة مستقلة تطاع لذاتها. إنما مرد الطاعة لهم هو طاعتهم هم لله: المصدر الأول والأخير. {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} 2. فليس هو نكالًا من البشر، ولا دخل للبشر في هذا التشريع، إنما هو يؤدى لله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} . {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} . {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. وهكذا كل تشريع وكل توجيه، مرتبط بالله، مصدره هو الله، ويؤدى من أجل الله. ومن هذه المرحلة الوسيطة ... مرحلة أداء الفرائض والالتزامات إطاعة لله، لا لنظام ولا لبشر ولا لدولة ولا لتقليد.. يرتفع إلى أولى مراتب التطوع، وهي أداء الالتزام حبًّا لله لا خوفًا من العقاب الذي فرضه الله! {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} 4. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} 5.   1 سورة النساء 59. 2 سورة المائدة 38. 3 سورة البقرة 282. 4 سورة طه 112. 5 سورة الأنبياء 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} 1. {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} . {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} 3 ثم يرتقي درجة أخرى في التطوع، فيبيح الحد الأدنى، ويخير النفس في التطوع بما هو أعلى من ذلك الحد، مع تحبيب التطوع إليها واستحثاثها إليه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 4. {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 5. {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6. {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 7. {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 8. ثم يرتقي درجة أخرى! إنه لا يطلب شيئًا ... ولا حتى التطوع! إنه يرسم صورًا جميلة أخاذة ساحرة. ثم يسلط عليها النور.. ويتركها هكذا.. معروضة للأنظار. فمن شاء فليتطوع على قدر ما يستطيع، وهو شاعر شعورًا كاملًا بأنه مدفوع إلى هذا التطوع بدافع ذاتي، لا قهر فيه ولا فرض ولا مجرد دعوة!   1 سورة البقرة 265. 2 سورة النساء 114. 3 سورة الممتحنة 1. 4 سورة البقرة 184. 5 سورة البقرة 271. 6 سورة البقرة 280. 7 سورة النساء 25. 8 سورة النور 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. هل من كلمة واحدة تفيد القهر؟ هل من كلمة واحدة تفيد الفرض؟ هل من دعوة واحدة مباشرة إلى العمل كأولئك المؤمنين المفلحين الذين ترسم لهم هذه الصورة المعجبة؟ كلا! إنها الصورة وحدها هي التي تدعو. هي وحدها ذات الجاذبية التي تجذب الناس إلى أعلى، باختيارهم الكامل، وحريتهم الكاملة. الحرية التي يتحقق بها وجودهم الأرفع والأكمل والأجمل والأشف! وكذلك: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2. وكذلك: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لا   1 سورة المؤمنون 1-11. 2 سورة فصلت 30-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} 1. إنها وسيلة مثلى للتربية. تطلب من النفس الطلب وأنت تشعرها بأنك لا تطلب! إنما أنت فقط تعرض نموذجًا جميلًا للإنسان! وأنت ضامن بعد ذلك أن الإيحاء سيعمل عمله، وسيحاول من يحاول أن يكون مثل ذلك النموذج الجميل المعروض أبدًا للأنظار!   1 سورة الفرقان 63-76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 السلبية والإيجابية : وقريب من هذين الخطين، وإن كانا غير متطابقين، هذان الخطان الآخران؛ السلبية والإيجابية: في كل نفس هذان الاستعدادان المتناقضان: استعداد لأن تكون سلبية، واستعداد لأن تكون إيجابية، على اختلاف في النسبة، واختلاف في مواضع السلب ومواضع الإيجاب. ولولا أننا مشغولون هنا بمبحث تربوي لا سيكلوجي ولا بيولوجي، لوقفنا طويلًا عند تلك الحقيقة العجيبة في الخلقة، وهي أن الجنين يتكون من التقاء خليتين: البويضة الأنثوية والحيوان المنوي. وأن لكل من هذين طريقة في السلوك مخالفة للأخرى. فالبويضة في مسارها من المبيض إلى الرحم تسير "مع التيار" بينما الحيوان المنوي في مساره من الرحم إلى الأغشية الداخلية ليلتقي بالبويضة ويلقحها، يسير "ضد التيار" وفي فطرته القدرة على المغالبة والاقتحام والمسير ضد التيار ليؤدي مهمته. والجنين هو خلاصة هاتين الطاقتين! خلاصة السلبية والإيجابية معًا وفي ذات الوقت! إنها حقيقة عجيبة في الخلقة. توحي بالظن أنها هي منشأ هذين الاستعدادين النفسيين المتناقضين! والله أعلم بمن خلق. وهو اللطيف الخبير. وأيًّا ما كان المنشأ فهكذا هي الفطرة بمتناقضاتها العجيبة المتجاورة المتقابلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وحين يترك الناس بلا توجيه معين، فقد تنحرف فطراتهم ذات الشمال وذات اليمين. وقد تصدر عن أوتار نفوسهم أنغام ناشزة تنفر منها الأسماع. قد تنقلب السلبية كما أشرنا في الفقرة السابقة إلى عبودية ذليلة لفرد أو قيمة أو عادة أو تقليد، مهما يكن قيمًا في ذاته وواجب الاحترام، فإن العبودية له مسخ للكيان البشري وتشويه. وهي في الوقت ذاته إضاعة للضمان الوحيد لتقويم الفساد في الأرض. وهو الرقابة الواعية على الناس والقيم والعادات والتقاليد. فلا إصلاح بغير رقابة واعية. ولا رقابة يمكن أن تصدر عن العبيد! يستذل الإنسان للدولة أو النظام.. فيفقد شخصيته وذاتيته. يفقد قدرته على الحكم على الأشياء. ويفقد بالتالي قدرته على التوجيه. ويصبح كما سالبًا، ينقاد ولا يقود، يوجه ولا يوجه. ترسم له التعليمات فينفذها، ولا يفكر يومًا في اختبار هذه التعليمات ليرى إن كانت صالحة حقًّا أم داعية إلى الفساد. ويستذل الإنسان لعادة أو شهوة، فينطلق معها إلى آخر المدى ... وتستعبده. تستعبده الكأس أو لفافة التبغ أو قطعة المخدرات.. أو يستعبده قدح الشاي أو القهوة أو الأكلة الطيبة. أو يستعبده الفراش الوثير والترف والنعيم.. أو تستعبده شهوة الجنس أو شهوة المال أو شهوة الخصام أو.. شهوة العبودية! فيصبح منقادًا لما يستعبد له. لا يملك نفسه ولا يحررها. ولا يصلح للانطلاق لإصلاح ما يفسد من الأمور في الأرض. فالانطلاق يحتاج إلى إيجابية ووعي، وقدرة على التحكم في الشهوات. قدرة على الاستغناء فترة من الوقت أو جميع الوقت عن لذائذ الأرض. فقد يؤدي الجهاد في سبيل الإصلاح إلى الحرمان من هذه اللذائذ.. بل إلى الحرمان من الحياة. ويستذل الإنسان لتقليد اجتماعي له أصل أو لا أصل له، فينساق وراءه، ويظل يزاوله حتى وهو لا يؤمن به في دخيلة نفسه. ومن ثم يصبح منافقًا، وينقلب المجتمع إلى بؤرة من النفاق. تلك عيوب السلبية.. حين توقع على الوتر نغمة نشاز. أما الإيجابية فقد تنحرف إلى تبجح وعناد وإصرار وتشدد.. في فعل السيئ من الأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 يريد الإنسان أن "يثبت وجوده" أن "يحقق ذاتيته" فيحطم.. فالتحطيم أسهل من البناء! ويعتدي. فالعدوان أقرب إلى النفوس الهابطة! ويرتكب كثيرًا من ألوان الشر ليبرز ويشار إليه بالبنان. أو "ينحل" من كل رابط كما تصنع " الوجودية" فلا مقياس لشيء أو فكرة أو سلوك أو عمل إلا ما يراه هو أنه صواب، وليتفكك المجتمع وليتناثر فليس له في حسه وجود! وفوق كل شيء يتبجح بمعصية الله.. أو بإنكار الله، ليقال عنه إنه جريء! حر الفكر! مقدام! ألوان من الانحراف لا تصدر عن فطرة سليمة! فالفطرة السليمة تثبت وجودها وتحقق ذاتيتها في عمل الخير. وإنه لقمم عالية من فوقها قمم، لا يرقاها إلا "الإيجابيون" حقًّا، المالكون لنفوسهم، الموجهون لها، الداعون الناس إلى ما فيه الخير، القائدون لهم في سبيل الفلاح، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} 1. والإسلام يتناول هاتين الطاقتين فيضع كلًّا منهما في مكانها الصحيح. وفي التو تنطلق النفس صحيحة البنيان قوية الكيان. كما تدور الساعة في اللحظة التي يتم فيها وضع المسامير و"التروس"، في مكانها الصحيح. يجعل الإسلام سلبية كاملة إزاء الله. وإيجابية كاملة إزاء كل قوى الكون. وبذلك تصلح النفس وتستقيم الحياة. سلبية كاملة إزاء الله.. فالله هو الخالق، والله هو المدبر، والله هو مالك الملك ومصرف كل أمر. هو الذي يحيي ويميت ويبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر. وهو القاهر فوق عباده. وهو الفعال لما يريد. وهو الذي يملك حقًّا أن ينفذ ما يريد، حيث لا يملك أحد غيره من البشر لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا.. فضلًا عن أن يملكوا للآخرين. إنها حقيقة.. حقيقة "علمية"! الله وحده هو المالك لما يريد. ومن ثم فموقف الإنسان من الله هو التسليم الكامل المطلق بلا مراجعة ولا   1 سورة الفرقان 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 سؤال ولا تردد ولا اقتراح ولا اعتراض.. إذ.. ما القيمة "العملية" لكل ذلك؟ وما النتيجة من العناد؟! كلا! التسليم هو الأولى والأوفر والأجمل والأفضل! وهو تسليم كريم ... إنه ليس تسليمًا لقوة مساوية للإنسان فيكون في ذلك التسليم غضاضة على النفس. وليس تسليمًا لعدو قاهر. وإنما لرب رحيم يصف نفسه بالرحمة المطلقة الشاملة في كل سورة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وليس تسليمًا لسلطة تسيء استخدام السلطة! سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. إنما هو تسليم للمانح الوهاب المتفضل المنعم، الذي تفضل دون قهر أحد ودون طلب من أحد فوهب للإنسان وجوده، ووهب للإنسان مواهبه، وأنعم عليه نعمه، وحباه بالتسهيلات من كل جانب سواء في تصويره في أحسن صورة، أو في تسخير الكون لصالحه، ليستطيع الحياة، وليستطيع ترقية الحياة. إنه إذن يسلم نفسه تسليمًا كريمًا "لائقًا" لا وجه للغضاضة فيه! وهو تسليم الحب! وليس تسليم القهر! إن الله هو القاهر فوق عباده حقًّا. وهو يملك كل وسائل القهر، وبيده ملكوت كل شيء. ولكن الله ذاته هو الذي يحب عباده ويرضى عنهم، ويدعوهم إلى حبه "والرضى عنه". {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2. وهو تسليم الاطمئنان: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 3. ومن هذا التسليم الخالص لله يستمد الإنسان إيجابيته الكاملة تجاه الأشياء والأشخاص والأحداث!   1 سورة آل عمران 31. 2 سورة المائدة 119. 3 سورة الشورى 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 إنها العجيبة التي تحدث في النفس المؤمنة! عجيبة الإيمان التي تملؤها فتطلقها بانية منشئة هادية، مكافحة معتزة مجاهدة مستعلية! {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 1. تلك هي العزة إزاء الأشخاص. {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 2. وتلك هي العزة إزاء الأحداث. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 3. وتلك هي العزة إزاء الأشياء. عزة كاملة في كل اتجاه.. وهذه معجزة الإيمان.. التسليم الكامل لله يعطي النفس هذه القوة العجيبة التي تكافح بها كل شيء وتستعلي بها على كل شيء، وتنشئ بها ما تريد. إنه لا عبودية لقوة المادة ولا قوة الاقتصاد ولا قوة الدولة ولا قوة المجتمع ولا قوة العادة ولا قوة التقاليد. لا "حتمية" لشيء على وجه الأرض إلا سنة الله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} . ومن سنة الله أن تكون النفس المؤمنة قوة كونية قادرة، تسير مع الناموس الأكبر، وتفهم عنه أسراره، وتستغل قواه وطاقاته. لأن هذه القوى والطاقات كلها مسخرة للإنسان بإذن من الله. ومن ثم كان المسلمون الأوائل الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان حقًّا ينشئون نظامًا غير مسبوق في كل الأرض. نظامًا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وفكريًّا وروحيًّا لا توحي به ضرورة من ضرورات الأرض، وليس نتيجة "حتمية" لشيء من ظروف الأرض. إنما ينشأ إنشاء؛ إرادة واقتدارًا، بدافع الإيمان. ومن ثم كذلك كان المسلمون الأوائل الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان حقًّا يستعلون على القوى المادية والقوى الاجتماعية والقوى البشرية. فيثبتون -وهم القلة القليلة- لكل كيد قريش، وكل قوة قريش، وكل اقتصاديات قريش،   1 سورة المنافقون 8. 2 سورة آل عمران 139-140. 3 سورة الجاثية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وكل عادات العرب وتقاليدهم ومفاهيمهم. ثم يثبتون لكيد القوى البشرية وطغيانها، ويستعلون عليها ثم يهزمونها ويغلبون عليها. بشيء واحد. هو الإيمان. ومن ثم كانت وقفة أبي بكر الخالدة في وجه قوى الأرض كلها ... بمفرده.. بمفرده مؤمنًا بالله الإيمان الحق، واصلًا إلى الله الوصول الحق.. مسلمًا لله الإسلام الحق.. فنصره الله، وحول "شعوره" المؤمن إلى وقائع وأحداث وتاريخ. بذلك يضع الإنسان سلبيته الفطرية في مكانها الحق.. ثم يصبح بعد ذلك أكبر قوة إيجابية على وجه الأرض! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الباب الثامن: من وسائل التربية التربية بالقدوة ... من وسائل التربية: في الفصول السابقة لمسنا تلك الدقة العجيبة في العناية بكل وتر من أوتار النفس البشرية، وكل جانب، وكل اتجاه. ومع ذلك فالإسلام لم يستنفد بعد كل وسائل التربية، وما زال في جعبته مزيد! إنه يربي بالقدوة، ويربي بالموعظة، ويربي بالعقوبة، ويربي بالقصة، ويربي بالعادة، ويربي بالأحداث. كل لون من هذه الألوان ينفذ إلى النفس من أحد منافذها، ويلعب على بعض أوتارها. حتى يغادر الإنسان في النهاية ولم يبق منفذ واحد لم ينفذ إليه، ولا وتر واحد لم يوقع عليه، ولا جانب ولا اتجاه. التربية بالقدوة: القدوة في التربية هي أفعل الوسائل جميعًا وأقر بها إلى النجاح. من السهل "تأليف" كتاب في التربية! ومن السهل تخيل منهج، وإن كان في حاجة إلى إحاطة وبراعة وشمول. ولكن هذا المنهج يظل حبرًا على ورق ... يظل معلقًا في الفضاء ... ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض ... ما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه. عندئذ فقط يتحول المنهج إلى حقيقة، يتحول إلى حركة، يتحول إلى تاريخ. ولقد علم الله سبحانه -وهو يضع ذلك المنهج العلوي المعجز- أنه لا بد من ذلك البشر. لا بد من قبلب إنسان يحمل المنهج ويحوله إلى حقيقة، لكي يعرف الناس أنه حق. ثم يتبعوه. لا بد من قدوة.. لذلك بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة للناس: {لَقَدْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} 1. ووضح في شخصه صلى الله عليه وسلم الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي.. الصورة الحية الخالدة على مدار التاريخ. سئلت عائشة رضي الله عنها، عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن. إجابة دقيقة عجيبة مختصرة شاملة.. كان خلقه القرآن! كان الترجمة الحية لروح القرآن وحقائقه وتوجيهاته.. ومن ثم كان -كالقرآن- قوة كونية عظمى. قوة من صنع الله، يتكامل فيها الناموس، وتتكامل فيها القوى، وتلتقي السماء بالأرض أروع لقاء شهده الكون. لا عجب إن كان مولده مولد النور. لقد عرف العلم أخيرًا حقيقة عرفتها الروح البشرية ببداهتها منذ آماد.. عرف أن المادة عبارة عن طاقة، وأن الطاقة تتحول إلى إشعاع.. ولقد أدركت الروح البشرية ببداهتها منذ آماد أن الإنسان طاقة.. وأن طاقته تتحول إلى إشعاع، تتحول إلى نور. ولكنها لم تدرك هذه الحقيقة على تمامها وكمالها وحقيقتها، حتى رأت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلمِ. طاقة من النور الشفيف بعثها الله لتنير للناس على الأرض السبيل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 2. ولقد فاض هذا النور في القلوب وفاض في الوجود، وكشف الطريق للناس فساروا فيه مهتدين واصلين. وبهر النور نفوس الناس، فتعلقت به وأحبته كما لم يحب أحد أحدًا في العالمين. لم ينل أحد من البشر ما نال محمد من الحب.. حتى من المعارضين لدين الله، والنافرين من الهدي الجديد! ولقد قامت المعركة بين الحق والباطل كما كان طبيعيًّا أن تقوم ... وانتصر الحق كما كان طبيعيًّا أن ينتصر، فانزاحت الظلمة التي كانت تحجب النور   1 سورة الأحزاب 21. 2 سورة الأحزاب 45-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 عن الناس، وبقي هذا النور -محمد بن عبد الله- ساطعًا مشعشعًا، {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} كما أراده الله، يهدي الناس من خلال القرون ويربط قلوبهم بالله. ولقد كان محمد عجيبة من عجائب الكون. طاقة كونية كما قلنا، صادرة من الله، معجزة كآيات الله. عظمات.. لا تحد. شخوص كثيرة مجتمعة في شخص واحد. كل واحد منها متكامل في ذاته كأنه متخصص في جانبه منقطع له.. ثم تجتمع الشخوص كلها -على تكامل كل منها- فتكامل على نطاق أوسع، وتناسق في محيطها الشامل، وتتألف منها نفس واحدة تجمع كل النفوس، وتجمعها في توازن واتساق! روح شفيفة تعدل وحدها كل روحانية المسيح عليه السلام. والمسيح كان "متخصصًا" في الروحانية. وقوة حيوية فياضة تعدل وحدها أشد الناس حيوية لو كان متخصصًا فيها بلا زيادة! يمشي وكأنما يتقلع من الأرض تقلعًا. ويمضي في الأمر كأنما كل نفسه فيه. يحارب منطلقًا كالعاصفة لا يرده شيء. قال علي رضي الله عنه: كان أشجعنا أقربنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال! ويتزوج ويستمتع بطيبات الأرض كواحد متفرغ لذلك المتاع! يسلم على الناس بجميع يده وفي حرارة وقوة. يرضى من كل نفسه فيعرف أصحابه في وجهه السرور. ويغضب فيبدو الغضب على وجهه ويدر عرق في جبهته.. وهي القوة الحيوية الفياضة في كل اتجاه. ورجل سياسة يشيد أمة من الفتات المتناثر فإذا هي بناء ضخم لا يطاوله شيء في التاريخ. ويمنح هذا البناء من وقته وفكره وروحه وجهده ومشاعره ما يشغل -وحده- حياة كاملة بل حيوات. ورجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش ويحارب وينتصر ... كقائد متخصص كل همة القتال، متفرغًا له عن كل ما عداه. وأب وزوج ورب أسرة كبيرة كثيرة النفقات.. نفقات النفس والفكر والشعور فضلًا على نفقات المال. كرجل متخصص للأبوة على أعلى نسق شهدته الأرض، ومتخصص للأسرة لا يشغله عنها شاغل من الحياة. وصديق وقريب وصاحب للناس تشغله همومهم، وتملأ نفسه مشاعرهم, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ويعودهم ويزورهم ويعينهم ويمنحهم من مودته وعطفه ما يشغل رجلًا إنساني القلب يهب حياته كلها لشئون الناس. وعابد متحنث لربه، كرجل منقطع للعبادة، متخصص لأدائها، لا تصله بالأرض رابطة، ولا يشغله هم من الهموم، ولا تجيش في نفسه نوازع، ولا تتحرك في كيانه رغبات. ومع ذلك كله فهو قائم على أعظم دعوة شهدتها الأرض. الدعوة التي حققت للإنسان وجوده الكامل. وتغلغلت في كيانه كله فمدته على أقصى اتساع. عظمات.. لا تحد. كل هذه الشخوص المتفرقة مجموعة في شخصه. مجموعة على تناسق وتوافق واتزان. كل منها يأخذ نصيبه كاملًا من نفسه ومع ذلك لا يميل، لأن طاقات أخرى عظيمة توازنه في كل اتجاه. ذلك محمد بن عبد الله.. النور الكوني الذي بهر العالمين. وحق للناس أن يحبوه كل ذلك الحب ويعجبوا به ويتبعوه. ولقد كانت حكمة الله سبحانه من بعثه على هذه الصورة المتكاملة الشاملة العظيمة، كحكمته في إنزال القرآن على هذا النهج الشامل المعجز العظيم، فكان محمد -في كونه آية كونية- كفئًا لهذا القرآن.. وكان خلقه القرآن! وكان قدوة للناس في واقع الأرض ... يرونه -وهو بشر منهم- تتمثل فيه هذه الصفات كلها وهذه الطاقات، فيصدقون هذه المبادئ الحية لأنهم يرونها رأي العين ولا يقرءونها في كتاب! ويرونها في بشر، فتتحرك لها نفوسهم, وتهفو لها مشاعرهم. ويحاولون أن يقبسوا قبسات من الرسول.. كل بقدر ما يطيق أن يقبس، وكل بقدر ما يحتمل كيانه الصعود. لا ييأسون ولا ينصرفون.. ولا يدعونه حلمًا مترفًا لذيذًا يطوف بالأفهام. لأنهم يرونه واقعًا يتحرك في واقع الأرض. ويرونه سلوكًا عمليًّا لا أماني في الخيال. لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل. وكان مربيًا وهاديًا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به، سواء في ذلك القرآن المنزل وحديث الرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عن طريقه أنشأ الله هذه الأمة التي يقول فيها سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. وبه منّ الله على تلك الأمة: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2. وهذه القدوة باقية ما بقيت السموات والأرض. إن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ليست آية عصر ولا جيل ولا أمة ولا مذهب ولا بيئة. إنها آية كونية.. للناس كافة وللأجيال كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 4. فهو للعالمين كلهم. وللناس كافة. في جميع الأزمان من لدن مبعثه. وفي جميع الأجيال. وفي كل الأرض. آية باقية لا تذهب ولا تنقص ولا تزول. وإنه لحي اليوم في هذه اللحظة كما كان حيًّا في شبه الجزيرة قبل ألف وثلاثمائة عام. لم ينقص شيء ولم يتغير شيء. كما لا تتغير الشمس ولا تتغير سنن الكون ولا تفنى الطاقات. وإن سيرته حين تقرأ لتلمس النفس وتهزها من قواعدها كما لا يهزها شيء. وتتغلغل فيها إلى الأعماق. وطبيعي أن الذين شهدوه صلى الله عليه وسلم وأخذوا الحياة مباشرة عن شخصه الكريم، قد أخذوا الشحنة كاملة في أرواحهم وقلوبهم وأفكارهم ومشاعرهم وأجسادهم، فانطلقوا -وهم حفنة قليلة- يصنعون أعجب أحداث التاريخ، كما تنطلق الطاقة الذرية المركزة تحدث الأعاجيب. ولكن القوة الحيوية العجيبة التي كان يشتمل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، من الضخامة والعظمة وقوة الإشعاع والإيحاء بحيث يملك استحياءها   1 سورة آل عمران 110. 2 سورة آل عمران 164. 3 سورة الأنبياء 107. 4 سورة سبأ 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 في قلبه كل شخص يلقي إليها نفسه ويفتح لها مشاعره، فتنتفض حية شاخصة كأنه يلمسها في العيان. وليس ذلك بدعًا في واقع النفوس وواقع الحياة. إن الأمم تعيش أجيالًا على سير أبطالها المحليين الصغار، الذين يلبون حاجة جيل معين في بيئة معينة في بقعة من الأرض محدودة. وكلما ارتفع "البطل" في مقياس الإنسانية كانت حياته أشمل وأطول، وأخلد على مر الأزمان ... فكيف بداعي السماء للأرض؟ كيف بالآية الكونية التي تشمل كيان الحياة؟ لقد بعثه الله للناس كافة وللعالمين. وهو أعلم حيث يجعل رسالته. وأعلم بمن خلق. وهو اللطيف الخبير. وقد جعله القدوة الدائمة للبشرية، يقبسون من نوره، ويتربون على هديه، ويرون في شخصه الكريم الترجمة الحية للقرآن، فيؤمنون بهذا الدين على واقع تراه أبصارهم محققًا في واقع الحياة. وكان هذا تدبيرًا لله سبحانه، يكافئ تدبيره في تنزيل القرآن. وإذ يجعل الإسلام قدوته الدائمة هي شخصية رسوله، فهو يجعلها قدوة متجددة على مر الأجيال. متجددة في واقع الناس. إنه لا يعرض عليهم هذه القدوة للإعجاب السالب والتأمل التجريدي في سبحات الخيال1. إنه يعرضها عليهم ليحققوها في ذوات أنفسهم، كل بقدر ما يستطيع أن يقبس، وكل بقدر ما يصبر على الصعود. ومن ثم تظل حيويتها دافقة شاخصة، ولا تتحول إلى خيال مجرد تهيم في حبه الأرواح دون تأثر واقعي ولا اقتداء. والإسلام يرى -كما أشرنا في أول الفصل- أن القدوة أعظم وسائل التربية، فيقيم تربيته الدائمة على هذا الأساس. لا بد للطفل من قدوة في أسرته ووالديه لكي يتشرب منذ طفولته المبادئ الإسلامية وينهج على نهجها الرفيع. ولا بد للناس من قدوة في مجتمعهم تطبعهم بطابع الإسلام وتقاليده النظيفة لكي يحملوا الأمانة لمن يربونهم من الأجيال، ولا بد للمجتمع من   1 انظر مقدمة كتاب "قبسات من الرسول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قدوة من قائدهم أو زعيمهم أو حاكمهم، تتحقق في شخصه المبادئ، وينسج على منواله المحكومون. والقدوة للجميع هي شخصية الرسول التي تتمثل فيها كل مبادئ الإسلام وقيمه وتعاليمه. ومن ثم يقيم الإسلام منهجه التربوي على أساس أنه هو الذي يسير دفة المجتمع ودفة الحياة. إنه لا يجعل التربية مجهودًا فرديًّا يخفق أو ينجح. وتذروه الرياح والأعاصير! وإنما يجعله منهجًا شاملًا متكاملًا يبدأ بولي الأمر وينتهي بالطفل الرضيع: حكم إسلامي، ومجتمع إسلامي.. وتربية إسلامية. وتلك مسألة بديهية. فكل نظام يضع منهجه على أساس أنه هو الذي يقوم بتنفيذه. والإسلام أولى النظم بتلك القواعد البديهية لأنه لا يستطيع أن يعمل بأدوات غيره. ولا بد له أن يستخدم أدواته الخاصة لتحقيق منهجه المتفرد على مدار التاريخ. وحين يتكون مجتمع إسلامي فإنه يشرب أطفاله مبادئ الإسلام عن طريق القدوة القائمة في هذا المجتمع، متمثلة في الأسرة والوالدين1. إن الولد الذي يرى والده يكذب. لا يمكن أن يتعلم الصدق! والولد الذي يرى أمه تغش أباه أو أخاه أو تغشه هو نفسه. لا يمكن أن يتعلم الأمانة! والولد الذي يرى أمه مستهترة لا يمكن أن يتعلم الفضيلة والولد الذي يقسو عليه أبوه لا يمكن أن يتعلم الرحمة والتعاون. والأسرة هي المحضن الذي يبذر في نفس الطفل أول بذوره، ويكيف بتصرفاته مشاعر الطفل وسلوكه. ومن ثم ينبغي أن تكون أسرة نظيفة. أسرة مسلمة. حتى ينشأ جيل مسلم يحقق في نفسه مبادئ الإسلام. يأخذها بالقدوة المباشرة. المنقولة عن قدوة الرسول. وينبغي أيضًا -بالإضافة إلى ذلك- أن تكون سيرة الرسول جزءًا دائمًا.   1 انظر فصل "المجتمع المسلم" في هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 من منهج التربية، سواء في المنزل أو المدرسة أو الكتاب أو الصحيفة أو المذياع. لتكون القدوة دائمة وحية وشاخصة في المشاعر وفي الأفكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 التربية بالموعظة : في النفس استعداد للتأثر بما يلقى إليها من الكلام. وهو استعداد مؤقت في الغالب. ولذلك يلزمه التكرار. والموعظة المؤثرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة عن طريق الوجدان. وتهزه هزًّا. وتثير كوامنه. لحظة من الوقت. كالسائل الذي تقلب رواسبه فتملأ كيانه. ولكنها إذا تركت تترسب من جديد. لذلك لا تكفي الموعظة وحدها في التربية إذا لم يكن بجانبها القدوة والوسط الذي يسمح بتقليد القدوة ويشجع على الأسوة بها. فالقدوة المنظورة الملموسة هي التي تعلق المشاعر، ولا تتركها تهبط إلى القاع وتسكن بلا حراك. وحين توجد القدوة الصحيحة فإن الموعظة تكون ذات أثر بالغ في النفس، وتصبح دافعًا من أعظم الدوافع في تربية النفوس. ثم إنها من جانب آخر ضرورة لازمة.. ففي النفس دوافع فطرية في حاجة دائمة للتوجيه والتهذيب. ولا بد في هذا من الموعظة. فقد لا يلتقط الإنسان القدوة الصالحة، أو قد لا تكفيه بمفردها. قد لا يسرق الوالد ولا الأم ... ولكن الطفل يجنح إلى السرقة بدافع من دوافع الأطفال. قد لا يكذب الوالد ولا الأم ... ولكن الطفل يكذب ليكمل نواحي النقص التي يحسها في نفسه أو في بيته أو في والديه! قد لا يقسو الوالد ولا الأم ... ولكن الطفل يمسك الطيور فيخنقها، والقطط فيشد ذيولها وينصل آذانها! لا بد حينئذ من الموعظة! موعظة لطيفة خفيفة مؤثرة. ترد الطفل إلى صوابه وتعوده على مكارم الأخلاق. والإنسان الكبير كالطفل الصغير في حاجة دائمة إلى المواعظ، فقد لا يلتقط القدوة الصالحة. أو قد لا تكفي وحدها للتقويم. فقد يعدل الحاكم ويظلم المحكومون. ويستعلي القائد ويسفل الشعب! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 مدفوعين بما ركب في طبيعة الإنسان من ضعف واتباع للشهوات. لا بد حينئذ من الموعظة! والقرآن مليء بالمواعظ والتوجيهات: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} 1. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} 2. {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} 3. {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ   1 سورة النساء 58. 2 سورة النساء 36. 3 سورة لقمان 13-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا، وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا، وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا، وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} 1. وهذه مجرد نماذج من الوعظ ... وإلا فالقرآن كله موعظة للمتقين!: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} 2.   1 سورة الإسراء 22-38. 2 سورة آل عمران 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 التربية بالعقوبة : حين لا تفلح القدوة ولا تفلح الموعظة، فلا بد إذن من علاج حاسم يضع الأمور في وضعها الصحيح. والعلاج الحاسم هو العقوبة1. وبعض اتجاهات التربية الحديثة تنفر من العقوبة وتكره ذكرها على اللسان! ولكن الجيل الذي أريد له أن يتربى بلا عقوبة -في أمريكا- جيل منحل متميع مفكك الكيان. إن العقوبة ليست ضرورة لكل شخص. فقد يستغني شخص بالقدوة   1 التربية بالعقوبة يكملها ويقابلها التربية بالمثوبة، وقد تحدثنا عنهما هناك في الخطوط المتقابلة ولكننا رأينا أن نفرد هنا كلمة خاصة بالعقوبة لأهميتها بعد القدوة والموعظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وبالموعظة فلا يحتاج في حياته كلها إلى عقاب. ولكن الناس كلهم ليسوا كذلك بلا ريب. ففيهم من يحتاج إلى الشدة مرة أو مرات. وليست العقوبة أول خاطر يخطر على قلب المربي ولا أقرب سبيل. فالموعظة هي المقدمة، والدعوة إلى عمل الخير، والصبر الطويل على انحراف النفوس لعلها تستجيب. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 2. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} 3. والموعظة وسائل مختلفة لا وسيلة واحدة, والقرآن مليء باللمسات الدقيقة اللطيفة الموحية المؤثرة التي تهز الوجدان وتؤثر فيه بكل وسائل التأثير. ولكن الواقع المشهود أن هناك أناسًا لا يصلح معهم ذلك كله؛ أو يزدادون انحرافًا كلما زيد لهم في الوعظ والإرشاد! وليس من الحكمة أن نتجاهل وجود هؤلاء أو نتصنع الرقة الزائدة فنستنكر الشدة عليهم! إنهم مرضى. نعم. ومنحرفون. و"العيادات السيكلوجية" قد تصلحهم! ولا أحد يمنع عنهم العلاج النفسي أو أي نوع من أنواع العلاج. ولكن فلنحذر أن نجعل وسيلتنا في تربية النفوس أن نجاريها في انحرافاتها ونتلمس لها الأعذار فإن ذلك نفسه يبعث على الانحراف ويزيد عدد المنحرفين! إن التربية الرقيقة اللطيفة الحانية كثيرًا ما تفلح في تربية الأطفال على استقامة ونظافة واستواء. ولكن التربية التي تزيد من الرقة واللطف والحنو تضر ضررًا بالغًا لأنها تنشئ كيانًا ليس له قوام. والنفس في ذلك كالجسم! إذا رفقت بجسمك رفقًا زائدًا فلم تحمله جهدًا خشية التعب، ولا مشقة خشية الإنهاك، فالنتيجة أنه لا يقوى أبدًا   1 سورة فصلت 33-34. 2 سورة النحل 125. 3 سور المزمل 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ولا يستقيم له عود. وإذا رفقت بنفسك رفقًا زائدًا فلم تحملها أبدًا على ما تكره، فالنتيجة أنها تتميع وتنحرف ولا تستقيم. وفضلًا عن ذلك فإنها تشقي صاحبها لأنها لا تدع له فرصة يتعود فيها على ضبط مشاعره وشهواته. فيصطدم بـ"الواقع" الأرضي الذي لا يعطي الناس قط كل ما يشتهون. ومن هنا كان لا بد من "شيء" من الحزم في تربية الأطفال وتربية الكبار. لصالحهم هم أنفسهم قبل صالح الآخرين. ومن الحزم استخدام العقوبة أو التهديد باستخدامها في بعض الأحيان. والإسلام يتبع جميع وسائل التربية فلا يترك منفذًا في النفس لا يصل إليه. إنه يستخدم القدوة والموعظة، والترغيب والثواب. ولكنه كذلك يستخدم التخويف والترهيب بجميع درجاته. من أول التهديد إلى التنفيذ. فهو مرة يهدد بعدم رضاء الله.. وذلك أيسر التهديد وإن كان له فعله الشديد في نفوس المؤمنين: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1. ومرة يهدد بغضب الله صراحة "كما جاء في حديث الإفك" وتلك درجة أشد: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. ومرة يهدد بحرب الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 3.   1 سورة الحديد 16. 2 سورة النور 14-17. 3 سورة البقرة 278-279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ومرة يهدد بعقاب الآخرة: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} 1. ثم يهدد بالعقاب في الدنيا: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} 2. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 3. {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 4. {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 5. ثم يوقع العقاب! {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 6. {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 7. درجات متفاوتة لدرجات من الناس! فمن الناس من تكفيه الإشارة البعيدة فيرتجف قلبه ويهتز وجدانه، ويعدل عما هو مقدم عليه من انحراف. ومنهم من لا يردعه إلا الغضب الجاهر الصريح. ومنهم من يكفيه التهديد بعذاب مؤجل التنفيذ. ومنهم من لا بد من تقريب العصا منه حتى يراها على مقربة منه. ومنهم بعد ذلك فريق لا بد أن يحس لذع العقوبة على جسمه لكي يستقيم!   1 سورة الفرقان 68-69. 2 سورة التوبة 39. 3 سورة الفتح 16. 4 سورة التوبة 74. 5 سورة التوبة 55. 6 سورة النور 2. 7 سورة المائدة 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 التربية بالقصة : في القصة سحر يسحر النفوس! أي سحر هو وكيف يؤثر على النفوس؟ لا يدري أحد على وجه التحديد! أهو انبعاث الخيال يتابع مشاهد القصة ويتعقبها من موقف إلى موقف، ومن تصرف إلى شعور؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أهو "المشاركة الوجدانية" لأشخاص القصة وما تثيره في النفس من مشاعر تنفجر وتفيض؟ أهو انفعال النفس بالمواقف حين يتخيل الإنسان نفسه في داخل الحوادث، ومع ذلك فهو ناج منها متفرج من بعيد؟ أيًّا كان الأمر فسحر القصة قديم قدم البشرية، وسيظل معها حياتها كلها على الأرض.. لا يزول! وأيًّا كان الأمر فلا شك أن قارئ القصة وسامعها لا يملك أن يقف موقفًا سلبيًّا من شخوصها وحوادثها. فهو -على وعي منه أو غير وعي- يدس نفسه على مسرح الحوادث. ويتخيل أنه كان في هذا الموقف أو ذاك، ويروح يوازن بين نفسه وبين أبطال القصة فيوافق، أو يستنكر، أو يملكه الإعجاب. والإسلام يدرك هذا الميل الفطري إلى القصة، ويدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب، فيستغلها لتكون وسيلة من وسائل التربية والتقويم. وهو يستخدم كل أنواع القصة: القصة التاريخية الواقعية المقصودة بأماكنها وأشخاصها وحوادثها. والقصة الواقعية التي تعرض نموذجًا لحالة بشرية، فيستوي أن تكون بأشخاصها الواقعيين أو بأي شخص يتمثل فيه ذلك النموذج، والقصة التمثيلية التي لا تمثل واقعة بذاتها، ولكنها يمكن أن تقع في أية لحظة من اللحظات وفي أي عصر من العصور. من النوع الأول كل قصص الأنبياء. وقصص المكذبين بالرسالات وما أصابهم من جراء هذا التكذيب. وهي قصص تذكر بأسماء أشخاصها وأماكنها وأحداثها على وجه التحديد والحصر: موسى وفرعون. عيسى وبني إسرائيل صالح وثمود. هود وعاد. شعيب ومدين. لوط وقريته. نوح وقومه. إبراهيم وإسماعيل.. إلخ.. إلخ. ومن النوع الثاني قصة ابني آدم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. ومن النوع الأخير قصة صاحب الجنتين: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} 2. والقرآن يستخدم القصة لجميع أنواع التربية والتوجيه التي يشملها منهجه التربوي: تربية الروح، وتربية العقل، وتربية الجسم، والتوقيع على الخطوط المتقابلة في النفس، والتربية بالقدوة والتربية بالموعظة. فهي سجل حافل لجميع التوجيهات، وهي كذلك -على قلة عدد الألفاظ المستخدمة في أدائها- حافلة بكل أنواع التعبير الفني ومشخصاته: من حوار إلى سرد إلى تنغيم موسيقي. إلى إحياء للشخوص، إلى دقة في رسم الملامح، إلى اختيار دقيق للحظة الحاسمة في القصة لتوجيه القلب للعبرة، والتوقيع عليه بالنغم المطلوب3. وقصة آدم بصفة خاصة من أهم القصص التوجيهي في القرآن. فهي قصة البشرية الأولى، وقصة البشر كلهم على مدار التاريخ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ   1 سورة المائدة 27-30. 2 سورة الكهف 32-43. 3 لا نملك هنا ذكر التفصيلات الوافية في شأن القصة. وهي مدروسة بالتفصيل في فصل "القصة في القرآن" في كتاب "التصوير الفني في القرآن" لسيد قطب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. إنها قصة "الإنسان" الذي كرمه خالقه ورفعه، ومنحه خلافة الأرض، على أن يكون سيدًا لنفسه، وعبدًا لله وحده دون شريك. ولكنه يضعف، بسبب شهوة من شهوات نفسه: شهوة جنس، أو شهوة مال، أو شهوة ملك، أوشهوة قوة، أو شهوة علم، أو شهوة خلد.. فيسلم زمامه للشهوة، فيستزله الشيطان من مقودها. ويقوده ويستعبده فلا يعود سيد نفسه، وينسى مهمته الضخمة في خلافة الأرض وتعميرها. ينسى أن مهمته الحقيقية الكبرى هي وصل الأرض بالسماء. فيخلد إلى الأرض وينحصر في عالم ضيق صغير محدود الهواتف محدود الجنبات. ولكن الله مع ذلك لا يطرده من رحمته: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} فهو قريب منه يحدوه ويهديه، ما دام لا يصر على لحظة الهبوط، وما دام يفتح قلبه وبصيرته لله. وعندئذ يعود إلى الخلافة الراشدة، ويحقق كيانه الأسمى مهتديًا بهدي الله، واصلًا إلى حماه2.   1 سورة البقرة 30-39. 2 انظر الجزء الأول من "في ظلال القرآن" الطبعة الثانية" ص 70-74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وقد كان أمرًا طبيعيًّا أن تكون القصة في القرآن "موجهة" خاضعة للأغراض الدينية التي جاءت لتحقيقها. فليس القرآن كتاب قصص في أصله، وإنما هو كتاب تربية وتوجيه. ولكن الدقة في الأداء، ومراعاة القواعد الفنية فيه, يجعل القصة -مع خضوعها للغرض الديني- طليقة من الوجهة الفنية. ويجعل استخدام القصص للتربية -على إطلاقها- جزءًا من منهج التربية الإسلامية. بشرط واحد: هو أن تكون "نظيفة". وليس المقصود بالنظافة أن تعرض النفس البشرية بيضاء من غير سوء! صحيح أن القرآن يختار من نفس "بطل القصة" اللقطة المترفعة المستعلية النظيفة الرائقة الشفيفة، التي تصلح للقدوة، وتغري بالارتفاع. ويختار من نفوس المنحرفين اللقطة التي تصور سواد قلوبهم وسوء انحرافهم، لتصلح للتنفير من أفعالهم. والاعتبار بمصائرهم -وهذا منطقي مع أهدافه، فضلًا على أنه كله حقائق- إلا أنه في لقطات أخرى، وخاصة في القصص الطويلة التي تتسع للعرض والتحليل، يعرض النفس البشرية كاملة، بل ما فيها من لحظات "الضعف البشري" كل ما هنالك أنه لا يصنع كما تصنع الفنون "الواقعية! " الحديثة، المتأثرة بالتفسير الحيواني للإنسان، ولا يجعل من لحظة الضعف بطولة تستحق الإعجاب والتصفيق والتهليل! إنه يعرضها عرضًا "واقعيًّا" خالصًا، ولكنه لا يقف عندها طويلًا، وإنما يسرع ليسلط الأنوار على لحظة الإفاقة.. لحظة التغلب على الضعف البشري، لأنها هي الجديرة فعلًا بتسليط الأنوار عليها. وهي في حقيقتها هي "الإنسان" الذي كرمه الله وفضله على كثير من الخلق، وعهد إليه بالخلافة الراشدة في هذه الأرض. فهو إذ يعرض الفتنة التي وقع فيها سليمان أو داود أو يوسف أو موسى ... إلخ يعرض لحظة الضعف كما هي بلا "رتوش". إنها فتنة, إنها ضعف. إنها خضوع لدافع من دوافع النفس الفطرية. ولكنها -على واقعيتها- لا تستحق الاحتفال! إلا من جانب واحد. هو أن الإنسان يفيء منها إلى نفسه. ويعرف أنها كانت لحظة ضعف. فيرتفع عنها. وينيب إلى الله. {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} 1. {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 2. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3. {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ   1 سورة ص 21-25. 2 سورة ص 30-35. 3 سورة يوسف 24، 33-34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} 1. تلك وأمثالها لحظات "ضعف بشري" يعرضها القرآن دون مداراة على أصحابها. ولكنه لا يصنع منها بطولة. لأنها في الحقيقة ليست كذلك! وقصة آدم ذاتها من الأمثلة التي يتبين فيها المنهج القرآني، ويتبين إلى أي مدى يختلف هذا المنهج بوضوحه ونصاعته واستقامته عن المنهج الأوربي الذي يصنع من لحظة الضعف بطولة! إنها -كما أسلفنا- لحظة ضعف أصابت آدم "فنسي". نسي نفسه وعهده مع ربه، وخلافته الراشدة، وجنح إلى شهوة من شهواته فاستزله الشيطان منها، وقاده من مقودها. هكذا يعرضها القرآن، وهكذا تتبدى في الحقيقة البشرية الواقعة على مدار الأجيال والقرون. ولكن الآداب الأوربية بما فيها من انحراف وتعثر، تعرضها على أنها مفخرة لآدم وبطولة! إن لحظة العصيان هي اللحظة التي حقق فيها آدم كيانه وأصبح سيد نفسه! وهي اللحظة التي أصبح فيها القوة المسيطرة الفعالة. ولتذهب إلى الإبد تلك الجنة التي كان فيها آدم، فإنها لا تساوي شيئًا إزاء تحقيق الإنسان لكيانه وذاتيته، واختياره مصيره بنفسه، بحرية، بعيدًا عن وصاية الله! كذلك تعرضها الآداب الأوربية المنحرفة المنقطعة عن هدى الله، المتأثرة في صميمها بما رسب في كيانها من أساطير اليونان القديمة التي تصور الصراع الدائم بين البشر والآلهة, وتتمنى انتصار البشر على الآلهة الظالمين الطغاة2. وهي آداب ذات إيحاء خبيث لا يخفى. فهي توحي للناس بعصيان ربهم والإغراق في الشهوات لكي يحققوا ذواتهم! كأنما الطريق الوحيد لإثبات الذات هو الشهوات والعصيان! وكأنما الطاعة لله هي انعدام الشخصية وزوال الكيان! إنها نظرة -فوق ما فيها من مرض وانحراف- فجة تعيش في مستوى   1 سورة القصص 15-22. 2 راجع الحديث عن أسطورة برمثيوس في فصل "تربية العقل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الأطفال! فالطفل وحده هو الذي يظن أنه يثبت وجوده حين يعصي، ويلغي كيانه إذا أطاع! ولكنه حين يكبر وينضج، حين يفهم الحياة في عمقها وحقيقتها يعرف أن هناك طريقين لا طريقًا واحدًا لإثبات الذات: طريق الطاعة وطريق العصيان. طريق الهدى وطريق الضلال. وأن الإنسان لا يثبت وجوده بطريق الانحراف عن الجادة والعناد مع الحق. إلا في حالة الضعف والمرض والهبوط. أما في حالته السوية، حالة الصحة والارتفاع، فإنه يجد ذاته في مستواها الأعلى حين يطيع دوافع الخير والهدى والاستقامة والصعود، ويحقق كيانه بقدر ما يستطيع من إطاعة تلك الدوافع الخيرة المهتدية إلى الله. أي بقدر ما يستطيع أن يضبط من شهواته ليقدر على الصعود. هذه حقيقة البشرية على الأرض ... وهي الحقيقة التي ترمز لها قصة آدم في القرآن. كما أن هناك نقطة بارزة أخرى في القصص القرآني وهو يعرض قصص "الفاحشة" إنه لا يعرضها لإثارة تلذذ القارئ أو السامع بمشاعر الجنس المنحرفة، كما تفعل القصص "الواقعية" و"الطبيعية" في المذاهب الحديثة الضالة. فلحظة الجنس -منحرفة أو غير منحرفة- لا تستأهل الوقوف عندها بأكثر من مجرد الذكر. إنها ليست هي الحياة. إنها عارض يعرض في الحياة ويقضى. يقضى ليفسح المجال لأهداف الحياة العليا الجديرة بالتحقيق. يفسح المجال للتصور الإيماني الكبير للكون والحياة والإنسان. لملء المشاعر بذلك التصور، وإطلاق النفس في واقع الحياة تحاول أن تحقق من كماله وجماله ما تقدر عليه: من إقامة مجتمع نظيف. من تربية نفوس مستقيمة. من إقامة الحق والعدل في الأرض. من تمتيع الناس بحقوقهم، وتجميل الحياة لهم بحيث تستحق أن تعاش -في غير فتنة بها ولا انحراف.. وتلك كلها أهداف ضخمة تشغل الجنس البشري، وتشغل هم الإنسان الرفيع الذي ينبغي أن يعمر وجه الأرض. ومن ثم لا تستحق لحظة الجنس الوقوف الطويل عندها، وتفصيصها، وإعادتها، والتفنن في عرضها، لأن ذلك إسراف في المقادير اللازمة بالنسبة للحياة البشرية، وتحويل للوسيلة إلى أن تكون غاية، وهي ليست كذلك في الواقع ولا ينبغي أن تكون ... كل ذلك على فرض أنها لحظة جنس نظيفة عالية -لأنها في حدودها المشروعة- فكيف إذا كانت انحرافًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وخروجًا على المشروع؟ إنها لا تستحق أن تروى بغير التنفير الذي يثير منها الاشمئزاز. تلك قاعدة مرعية في كل قصص القرآن عن "الفاحشة"، وهي كذلك ينبغي أن تكون مرعية في كل القصص "الإسلامي" إن الإسلام لا يحرم الفن. ولا يحرم وصف المشاعر الجنسية -نظيفة أو غير نظيفة- ولا يحرم وصف لحظة الهبوط والضعف. ولكنه يعرضها كما ينبغي أن تعرض. لحظة ضعف لا لحظة بطولة. ولحظة عابرة يفيق منها الإنسان إلى ترفعه الواجب، ولا يلبث دائرًا في حلقتها المرتكسة على الدوام. وهكذا تلتقي مطالب الفن ومطالب التصور الإيماني دون تعارض ولا نزاع. ويستفيد الإسلام بالقصة في التربية دون أن يخرج عن أهدافه الأصيلة، أو بجانب الحق، أو يحول الفن إلى خطب وعظية سطحية التأثير1.   1 راجع في هذا كتاب "منهج الفن الإسلامي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 التربية بالعادة : العادة -كما أشرنا من قبل- تؤدي مهمة خطيرة في حياة البشرية. فهي توفر قسطًا كبيرًا من الجهد البشري -بتحويله إلى عادة سهلة ميسرة- لينطلق هذا الجهد في ميادين جديدة من العمل والإنتاج والإبداع. ولولا هذه الموهبة التي أودعها الله في فطرة البشر، لقضوا حياتهم -كما قلنا- يتعلمون المشي أو الكلام أو الحساب! ولكنها على عظم مهمتها في حياة الإنسان تنقلب إلى عنصر معوق معطل، إذا فقدت كل ما فيها من "وعي" وأصبحت أداء آليًّا لا تلتفت إليه النفس، ولا ينفعل به القلب. والإسلام يستخدم العادة وسيلة من وسائل التربية، فيحول الخير كله إلى عادة، تقوم بها النفس بغير جهد، وبغير كد، وبغير مقاومة. وفي الوقت ذاته يحول دون الآلية الجامدة في الأداء، بالتذكير الدائم بالهدف المقصود من العادة، والربط الحي بين القلب البشري وبين الله. رابطًا تسري فيه الإشعاعة المنيرة إلى القلب، فلا ترين عليه الظلمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وقد بدأ الإسلام -وهو ينشأ في الجاهلية- بإزالة العادات السيئة التي وجدها سائدة في البيئة العربية. واتخذ لذلك إحدى وسيلتين: إما القطع الحاسم الفاصل، وإما التدرج البطيء، حسب نوع العادة التي يعالجها، وطريقة تمكنها من النفس. فكل عادة تتصل بأصل التصور والعقيدة والارتباط المباشر بالله، فقد قطعها قطعًا حاسمًا من أول لحظة. فهي كالأورام الخبيثة في الجسم ينبغي أن تستأصل من جذورها, وإلا فلا حياة. والشرك بكل عاداته وتصوراته، من عبادة للأوثان، واجتماع حولها، وأداء لمراسم معينة من أجلها، كل ذلك قطعه من أول لحظة، وبضربة حاسمة. لأنه لا يمكن أن يستقيم إيمان وشرك، وعبادة لله وعبادة لغيره من الكائنات. ومن ثم كان ينقل المسلم نقلًا كاملًا حاسمًا صريحًا من "البيئة الفكرية" التي كان يعيش فيها إلى البيئة الجديدة الإيمانية، التي تقيم كل شيء فيها على أساس وحدانية الله الخالصة، ووحدانية القوة المسيطرة على الكون والمصرفة لجميع أموره. وعادة مثل وأد البنات لم يكن يمكن مهادنتها وهي تقوم على أساس غير إيماني ولا إنساني. والخوف من الفقر -وهو الدافع الأول لوأد البنات- لا يجوز أن يخالط النفس المؤمنة المطمئة إلى الله. ثم إنه ظلم لا يستقيم مع "الحق" الذي خلقت به السموات والأرض: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 1. وكذلك العادات النفسية من كذب وغيبة ونميمة وغمز ولمز وكبر وعنجهية.. إلخ، كان لا بد من مواجهتها مواجهة حاسمة، وإن كانت الوسيلة إلى ذلك التوجيه المحيي للقلب، والاتصال بالله في السر والعلن، وفي الأخذ والعطاء. وكلها عادات يمكن أن تنتقل فيها النفس -باللمسة الموحية- في لحظة واحدة من أقصى الشمال لأقصى اليمين دون تدرج ولا إبطاء! أما العادات "الاجتماعية" التي لا تقوم على مشاعر "الفرد" وحدها،   1 سورة التكوير 8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وإنما ترتبط بأحوال اجتماعية واقتصادية متشابكة فقد لجأ فيها إلى التدرج البطيء مع استمرار الوعظ والتوجيه واستحياء القلوب. الخمر. والزنا. والربا. والرق.. لم تكن عادات "فردية" وجدانية بقدر ما كانت عملة سارية في المجتمع. وهي كذلك ليست من العادات التي تستطيع كل نفس أن تحسم موقفها منها في لحظة، فلا يعاودها الحنين إليها ولا تعود! لذلك لجأ في علام كل منها إلى التدرج على مراحل ودرجات، أو أخر تحريمها حتى اكتمل نمو المجتمع المسلم. كانت أول إشارة لتحريم الخمر: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} 1. ففصل بين السكر وبين الرزق الحسن. وكان توجيهًا لطيفًا أحس منه أذكياء القلب من المسلمين أن الله لا بد محرمها ذات يوم قريب أو بعيد. ثم كانت الإشارة الثانية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 2. إنها مرحلة الإقناع الوجداني والعقلي، لتتزحزح النفس عن إلفها، وتتحول عن عادتها. ثم كانت الإشارة الثالثة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 3. فنهى المسلمين عن السكر في أوقات الصلاة. وهو نهي عن التعاطي في الواقع. لأن الإنسان لا يستطيع عمليًّا أن يشرب ثم يفيق قبل حلول موعد الصلاة. ثم كانت الخطوة الحاسمة الأخيرة هي التحريم القاطع: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4. أما الزنا فقد تدرج به الأمر كذلك من النصيحة إلى التهديد بالعقوبة إلى تقرير عقوبة مجملة إلى تقرير عقوبة مفصلة محددة.. كما تدرج من عدم إكراه الفتيات على البغاء مع إباحة زواج المتعة. إلى تحريم البغاء وتحريم   1 سورة النحل 67. 2 سورة البقرة 219. 3 سورة النساء 43. 4 سورة المائدة 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 زواج المتعة كليهما، والخلوص إلى إغلاق كل الطرق فيما عدا الزواج المؤبد الدائم المعقود باسم الله وبنية الدوام. أما الربا فقد أخر تحريمه إلى العام العاشر من الهجرة حتى اكتمل نمو المجتمع المسلم والنفس المسلمة. وأما الرق فقد اتخذ في معالجته وسائل بطيئة جدًّا تنتهي في النهاية بتحرير الرقيق، إذ كان إلغاؤه في حاجة إلى التدرج البطيء، وإلى تحرير الرقيق من داخل نفوسهم قبل تحريرهم من الخارج بقانون. وقد كانت وسيلته هي ردهم رويدًا إلى الإحساس بإنسانيتهم، بالمعاملة الحسنة، ويربطهم بالله، وتعويدهم على "تذوق" الحرية حتى لا ينفروا من مذاقها حين يصبحون أحرارًا يتولون تبعة أنفسهم في مواجهة مشكلات الحياة1. أما بذر العادات الصالحة فله كذلك عدة طرق وعدة مراحل. فأما الإيمان بعد الكفر، فقد كان يستخدم له الهزة الوجدانية المحيية الموحية. التي تنقل النفس فجأة من تصور إلى تصور، ومن شعور إلى شعور. ثم لا يدعها تبرد! ففي الحال يحولها إلى عادة! عادة مشتبكة بزمان ومكان وأشخاص. فهو ينقل المسلم من بيئته الكافرة التي كان فيها ليربط بينه وبين مؤمنين آخرين، يتعاطف معهم وتنشأ بينه وبينهم صلات من المودة و"القربى" التي تعدل قرابة الدم بل تزيد! ويتعود أن يلقى هؤلاء المؤمنين على حديث الإيمان وأفعال الإيمان، فيصلي معهم. وتصبح الصلاة عادة. ويستمع معهم إلى القرآن. ويصبح استماع القرآن عادة. ويتواعد معهم وتصبح المودة عادة. ويحتمل معهم الكروب. ويصبح احتمال الكروب في سبيل العقيدة عادة! ثم يجاهد معهم الكفار ويصبح الجهاد عادة! وينشئ مجتمعًا تعيش فيه التصورات والفضائل الإسلامية، وبذلك تصبح العادة عملًا فرديًّا وارتباطًا جماعيًّا في آن واحد، فيضمن لها ذلك الدوام والاستمرار. كما يضمن لها الحيوية -التي تتضاعف بلقاء الآخرين -فلا تتبلد ولا تتحجر كما ينشئ منها نظامًا اجتماعيًّا قوي الأسس متين البنيان.   1 اقرأ بالتفصيل فصل "الإسلام والرق" من كتاب "شبهات حول الإسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وكذلك كل العادات النفسية من صدق.. ووفاء. ومحبة، وعطف. وبذل. وإيثار. والإسلام يلجأ في ذلك أولًا إلى إثارة الوجدان وإنشاء الرغبة في العمل. ثم يحول الرغبة إلى عمل واقعي ذي صورة محددة واضحة السمات، فيلتقي الظاهر والباطن ويتطابقان ويتكافآن: رغبة وسلوكًا. ثم يحول الرغبة والعمل من مسألة فردية إلى رباط اجتماعي. الصلاة رغبة في الاتصال بالله والدعاء إليه وطلب المعونة منه. فيحول هذه الرغبة إلى عمل محدد ذي مراسم وحدود. ثم ينظمها في أوقات محددة. ثم يدعو إلى الجماعة ويجيب إليها. والزكاة رغبة في التحرر من الشح والعطف على المحتاج والتعاون مع الجماعة. فتتحول الرغبة إلى عمل ظاهر محدد. ذي نسبة معينة في المال وأوقات معينة في الأداء. ثم يحول العمل الفردي إلى نظام تقوم عليه الدولة والمجتمع. وكذلك كل عادة من عادات الإسلام، تبدأ باستحياء الرغبة ثم تتحول إلى عمل حي، لا يكلف أداؤه شيئًا من الجهد، وهو مع ذلك رغبة واعية لا أداء آلي مجرد من الشعور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 تفريغ الطاقة : من وسائل الإسلام في تربية الإنسان وفي علاجه كذلك، تفريغ الشحنات المتجمعة في نفسه وجسمه أولًا بأول، وعدم اختزانها إلا ريثما تتجمع للانطلاق. إنه يملأ النفس والجسم بشحنات مختلفة، هي إفرازهما الطبيعي الفطري، الذي يتكون على الدوام ما دامت الفطرة سليمة لم يصبها عطب، ثم يطلق هذه الشحنات في عمل إيجابي إنشائي، لتعمل في سبيل البناء والتعمير والخير. إن هذه الطاقة التي يفرزها الكيان الإنساني من تلقائه -ويجمعها الإسلام- هي طاقة حيوية "محايدة" تصلح للخير وتصلح للشر، تصلح للبناء وتصلح للهدم، كما يمكن أن تنفق بددا بلا غاية ولا اتجاه. والإسلام يوجهها وجهتها الصحيحة. في سبيل الخير. والمهم كذلك أنه لا يختزنها أكثر مما ينبغي. فالاختزان الطويل بلا غاية عملية مضرة بكيان الإنسان. وكثير جدًّا من ألوان المرضى النفسي التي يتحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 عنها علم النفس التحليلي والأطباء النفسيون، مردها إلى طاقة مختزنة بلا مبرر، لم تجد منصرفها الطبيعي، ولم تجد منصرفها الصحيح. لذلك لا يخزن الإسلام هذه الطاقة. وبذلك يقي النفس من كثير من أنواع الانحراف المعروفة في علم النفس، فلا تنشأ فيها تلك العقد المدمرة والاضطرابات التي تبدد طاقتها. ويعالجها كذلك بنفس الطريقة إذا حدث -لسبب من الأسباب- أن أصيبت بذلك الانحراف، ولا شيء يعالج النفس أكثر من إطلاق شحنتها في عمل إيجابي يحقق كيان الإنسان، ويحقق إحساسه بذاتيته، ويفرغ كذلك الإفرازات المختزنة التي تسبب المرض والاضطراب. من أمثلة ذلك ما يلجأ إليه الإسلام من تفريغ طاقة الكره -وهي طاقة فطرية طبيعية- في كره الشيطان واتباع الشيطان، والشر الذي ينشئه الشيطان وأتباعه على وجه الأرض. بهذه الطريقة لا يتحول الكره إلى طاقة سامة مبعثرة لنشاط الإنسان ومسممة لكيانه. وفي الوقت ذاته يتحقق بها كيان إيجابي للفرد حين يعمل في واقع الأرض لمقاومة الشر، ويتدرب كيانه وينضج بهذه المقاومة والجهاد. وفوق ذلك يتحقق هدف إنساني أعلى، بتنظيف المجتمع من الفساد والشر، وتتحقق الغاية من خلق الإنسان وتكريمه وتفضيله واستخلافه في الأرض. وكذلك تفريغ طاقة الحب في حب الله والكون والناس والأحياء والخير بوجه عام. إنه يؤدي الأهداف السابقة ذاتها، فطاقة الحب -ذلك الإفراز البشري- قمينة إذا لم تفرغ شحنتها أولًا بأول، أو لم تفرغها في منصرفها الطبيعي، أن تفسد وتتحول إلى طاقة سامة مدمرة لكيان الإنسان! ذلك حين يحول الإنسان كل طاقة الحب مثلًا إلى نفسه.. إلى ذاته.. إلى عشق الذات وعبادتها! لأنها مختزنة لا تجد طريقها إلى خارج النفس. أو يحولها إلى معشوقات صغيرة في عالم الحس من طعام وشراب وجنس ولذائذ لأنها لا تجد طريقها الصحيح. أو يحولها إلى حب الفاسد من الناس والأفكار والأشياء. بينما يضمن الإنسان حين يفرغها أولًا بأول، وفي منصرفها الصحيح، أن تتحول إلى ثمرة جنية في داخل النفس وفي واقع الحياة. تنصرف في سبيل الخير، وتعطي الإنسان كيانًا إيجابيًّا فاعلًا، وتحقق غاية الله من خلق الإنسان. وعلى هذا النحو ذاته يفرغ الإسلام الطاقة الحيوية في الجهاد والزرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 والإنتاج والتعمير.. تفريغًا بنائيًّا إنشائيًّا، يهدم الباطل ويزيل ما يخلفه من أنقاض، ويبني في مكانه الحق والعدل. ويعالج بذلك بناء النفس فلا تنحرف ولا يصيبها اضطراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ملء الفراغ : كما يفرغ الإسلام طاقة الجسم والنفس كلما تجمعت، ولا يختزنها دون ضرورة، فإنه في الوقت ذاته يكره الفراغ! إن الفراغ مفسد للنفس إفساد الطاقة المختزنة بلا ضرورة، وأول مفاسد الفراغ هو تبديد الطاقة الحيوية. لملء الفراغ! ثم التعود على العادات الضارة التي يقوم بها الإنسان لملء هذا الفراغ. والإسلام حريص على "شغل" الإنسان شغلًا كاملًا منذ يقظته إلى منامه، بحيث لا يجد الفراغ الذي يشكو منه، ويحتاج في ملئه إلى تبديد الطاقة أو الانحراف بها عن منهجها الأصيل. وليس معنى ذلك هو استنفاد المخلوق البشري واستهلاكه. فليس ذلك قط من أهداف الإسلام الذي يدعو إلى استمتاع الإنسان بالطيبات وتذكر نصيبه من الحياة الدنيا. وليست المشغلة كلها إجهادًا واستنفادًا للطاقة، فإن منها تهويمة العبادة، ومنها ذكر الله في القلب، ومنها غفوة الظهيرة في الهاجرة، ومنها السمر البريء مع الأهل والأصحاب. ومنها التزاور، ومنها الدعاية اللطيفة النظيفة.. إلى آخر أنواع الترويح. ولكن المهم ألا يوجد في حياة الإنسان فراغ لا يشغله شيء. أو فراغ يشغله الشر والفساد والتفاهة. وحين ألغى الإسلام عادات الجاهلية وأعيادها ومواسمها وطرائق حياتها، لم يترك ذلك فراغًا يتحير المسلمون في ملئه، أو يملئونه دون شعور منهم فيما لا يفيد. بل جعل لهم في الحال عادات أخرى وأعيادًا ومواسم وطرائق حياة تملأ الفراغ. كانوا يجتمعون على موائد الخمر والميسر أو لعبادة الأوثان أو لسماع الشعر الضال الذي لا يعبر عن هدف إنساني، فجمعهم على عبادة الله يؤدون الصلاة جماعة، ويتذاكرون القرآن جماعة، ويستمعون إلى توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم ويتزاورون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 لمثل ذلك. وكانوا يعيثون في أعيادهم فسادًا, فألغاها وجعل بدلًا منها أعيادًا كريمة نظيفة زاخرة بالمعاني الطيبة والأهداف الرفيعة. وحين قطع علاقة القربى في أول عهده، مع المشركين الذين لم يكونوا قد أسلموا بعد، ملأ فراغها بالولاية بين المؤمنين وجعلها مكان القربى، فملأت فراغها حقيقة وصارت تعدل في حسهم صلة الدم، حتى إن المؤاخاة التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وصلت بالأخيرين إلى اقتسام كل شيء مع المهاجرين: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 1 وكانت تصل إلى حد الاشتراك في الميراث. وهكذا لم يعد في نفوس المؤمنين فراغ. وتلك من أنجح الوسائل في تربية النفس، خاصة حين تمنع النفس -لتقويمها- من شيء من رغائبها. فالوسيلة الصحيحة لملء فراغ هذه الرغبة، هي إيجاد نشاط جديد لهذه الرغبة ذاتها، أو لرغبة سواها، فالنفس من الداخل كلها وثيقة الاتصال!   1 سورة الحشر 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 التربية بالأحداث : الحياة الدنيا كد وكدح ونصب ... وتفاعل دائم مع الأحداث. وما دام الناس أحياء فهم عرضة على الدوام للأحداث.. تقع بسبب تصرفاتهم الخاصة، أو لأسباب خارجة عن تقديرهم وخارجة عن إرادتهم. والمربي البارع لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة وبغير توجيه. وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها، فلا يكون أثرها موقوتًا لا يلبث أن يضيع. ومزية الأحداث على غيرها من وسائل التربية أنها تحدث في النفس حالة خاصة، هي أقرب للانصهار. إن الحادثة تثير النفس بكاملها، وترسل فيها قدرًا من حرارة التفاعل والانفعال يكفي لصهرها أحيانًا، أو الوصول بها إلى قرب الانصهار. وتلك حالة لا تحدث كل يوم في النفس. وليس من اليسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الوصول إليها والنفس في راحتها وأمنها وطمأنينتها، مسترخية، أو منطلقة في تأمل رخي. وصحيح أن بعض حالات الوجد والانفعال الروحي في العبادة لها من الحرارة ما يحدث هذا الانصهار في النفس. ولكنها حالات نادرة لا يقدر عليها إلا الأقلون. أما الحادثة -بقوتها المفروضة على النفس من الخارج- فهي تحدث هذا الانصهار بلا إرادة ولا وعي، ولا رغبة ذاتية في الوصول إلى هذه الدرجة العليا من الإحساس. ومن ثم فهي أقرب تأثيرًا في جموع الناس الذين لا يصلون بذاتهم إلى درجة الانصهار. والمثل يقول: اضرب والحديد ساخن! لأن الضرب حينئذ يسهل الطرق والتشكيل. أما إذا تركته يبرد فهيهات أن تشكل منها شيئًا ولو بذلت أكبر الجهود. لذلك كان استغلال الحادثة و"الحديد الساخن" مهمة كبيرة من مهام التربية، لينطبع على النفس في حالة انصهارها ما يريد المربي أن يطبعه من التوجيهات والتهذيبات، فلا يزول أثرها أبدًا. أو لا يزول من قريب. ولقد قام القرآن -وهو يربي الأمة الإسلامية في منشئها- باستغلال الأحداث في تربية النفوس استغلالًا عجيبًا عميق الأثر، كان من نتيجته تلك الأمة العجيبة الفريدة في التاريخ كله. الأمة التي شهد لها خالقها فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . ويبدو لأول وهلة فارق رئيسي بين التربية بالأحداث في مكة، والتربية بالأحداث في المدينة. في العهد المكي كان التوجيه إلى الصبر على الأذى، واحتمال المكروه. ومغالبة النفس على هذا الاحتمال. وفي العهد المدني كان التوجيه إلى رد العدوان، ومجابهة المعتدين بالقوة، ورفض الخضوع والمذلة وإباء الضيم. وجهان متقابلان. ولكني أرى أنهما يهدفان إلى هدف واحد! التجرد الخالص لله. والتوازن الذي يحدثه هذا التجرد في داخل النفس. ولكي تحدث التوازن فإنك "تضغط" مرة من ناحية اليمين ومرة من ناحية الشمال حتى يستوي لك التوازن المطلوب! كان في العرب عنجهية بالغة واعتزاز عنيف بالذات. في الحق أو الباطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 سيان. لم يكن الاعتزار "لمعنى" أو "لقيمة" من القيم العليا. وإنما كان للذات. لا يحتمل أحدهم أن يصيبه أذى -ولو بالحق- فينتضي سيفه ويخرج للقتال. لا يبالي أصيب أم أصاب. ولا يبالي أين وجه الحق: معه أم عليه. لذلك كانت الثارات لا تنقطع في أنحاء الجزيرة. والمظالم كذلك لا تنقطع. والقبائل لا تعرف السلام ولا تقوم بينها العلاقات بالحق.. وفي الوقت ذاته لا يرتفع العرب إلى معنى من المعاني الكبيرة, التي تقوم عليها الإنسانية الرفيعة الجديرة بمعنى "الإنسان". وحتى "فضائلهم" التي يمارسونها من كرم وقرى للضيف، ووفاء بالعهد -أحيانًا- وإباء للضيم، فللمفاخرة التي "يجري بذكرها الركبان" ودفعًا للعار الذي يعيرهم به الخصوم، وليس إيمانًا حقيقيًّا بهذه القيم يمارسونه في جميع الأحوال! وأبلغ دليل على ذلك أنهم في الوقت الذي كانوا ينحرون الذبائح للأضياف -ليتحدث الناس بكرمهم- كانوا يأبون إباء شديدًا أن يطعموا الضعيف والمحروم والمسكين الذي لا يحس به أحد، ولا يصل حديثه إلى الأسماع! مما جعل القرآن يلح في هذه الدعوة إلحاحًا شديدًا. ويثير وجدان القوم بكل ألوان الإثارة ليحسوا بالوازع الإنساني الحقيقي الذي يدفع إلى الخير ولو لم تعلم به الناس! وفيما عدا حلف الفضول -وهو صحوة نادرة من صحوات الضمير البشري- لم يكن للعرب "عهد" بالمعنى الإنساني المفهوم. إنما كانت عهودهم أن يحالف بعضهم بعضًا في العدوان وفي رد العدوان سواء. لا فرق بين حق وباطل، ولا معيار يمكن الرجوع إليه إلا الأهواء! وأعجب مثل لذلك ما كانوا يصنعونه في الأشهر الحرم من تقديم وتأخير ونسيء؛ ليوافق أمزجتهم في العدوان أو رد العدوان! فإذا أدركتهم الأشهر الحرم وهم في المعركة ولم يشاءوا الانصياع لحرمتها, أجلوها لحين الانتهاء من المعركة التي بين أيديهم، أو أجلوها للعام المقبل وجعلوا السنة التي هم فيها بغير أشهر حرام! وقد يجيء العام المقبل فتعن لهم شهوة أخرى فينسئون الشهر الحرام مرة ثانية: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} 1. لذلك كانت تربية القرِآن لهؤلاء العرب بالأحداث في العهد المكي هي   1 سورة التوبة 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 "تجريدهم" من ذواتهم. تجريدهم من الاعتزاز بكل ما يعتزون به من أهواء ذاتية وقيم أرضية. ليعتزوا "بالحق" وحده. الحق مجردًا من أشخاصهم. الحق متلبسًا بذواتهم ولكنه متميز فيها تميزًا واضحًا. بحيث تتبع ذواتهم الحق، ولا تتبع أهواءهم أو مشاعرهم الشخصية. وذلك بأن يتجردوا لله. يتجردوا له تجردًا خالصًا. ينتزعون به أنفسهم من كل ما يجيش فيها من مشاعر، وما ترتبط به من وشائح، وما تعتز به من قيم وأشياء. ولذلك كان الامتحان الأكبر لهم في العهد المكي هو تحمل الأذى في سبيل الله، في سبيل الدعوة الناشئة المضطهدة المطاردة.. دون رد على العدوان ودون أخذ بالثأر من المعتدين. لقد كان في وسع المسلمين الأوائل أن يثيروها حربًا قَبَلِية.. أو حربًا شخصية.. كل إنسان يأخذ بثأره وينتهي الأمر.. ولو بمقتل المؤمنين جميعًا وفنائهم.. فما كانوا يبالون في جاهليتهم أن يبقى منهم أحد بعد أخذ الثأر! ولكن ذلك لم يكن ليصبح انتصارًا للدعوة، ولا انتصارًا للدين الجديد! إنه يكون استمرارًا للجاهلية! استمرارًا للاعتزاز بالقيم الشخصية والقيم الأرضية المبتوتة الصلة بالله والحق والعدل و"الإنسانية". استمرارًا في الهبوط لا أخذًا في وسائل الارتفاع. ولكن التربية التي منعتهم من أخذ الثأر- التربية التي وجهتهم إلى الصبر واحتمال الأذى والعدوان دون رد. التربية التي وجهتهم إلى ما يشبه -في ظاهره- أن يكون رضى بالهوان والظلم. هذه التربية هي التي أنشأت النفوس الجديدة المعتزة بالله، المعتزة بالقيم التي ينشئها الله؛ والتي أنشأت أعز نفوس عرفتها البشرية وأكرم نفوس.. نفوس مستعلية بالإيمان: مستعلية على ذواتها، وعلى شهواتها، وعلى أهوائها، وعلى كل قيمة مادية أو أرضية لا تسير في طريق الله. في تلك الفترة كانت التربية تقول في سورة المزمل: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} 1 وكانت تقول في نفس السورة: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 2.   1 سورة المزمل 10. 2 سورة المزمل 2-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 كانت التربية هي الصبر على الأذى. وقيام الليل للتجرد لله.. لعبادته وحده في ناشئة الليل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} 1. وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه يقومون الليل يتعبدون ويتهجدون ويتعلمون التجرد الكامل لله حولًا كاملًا حتى تورمت أقدامهم وتشققت، فأنزل الله عليهم: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. فما علم المربي الرحيم أن هذه النفوس المؤمنة الصابرة قد تجردت له، واهتدت بهديه، وتربت على طاعته، ولم يعد لها وجود إلا الوجود الذي يريده لها الله، مطمئنة في ذات الوقت أنه الوجود الأرفع والأسمى، الذي يحقق أرفع ما في كيان الإنسان.. عندئذ أذن للمؤمنين في الهجرة، ثم أذن لهم بإنشاء دولة لهم في المدينة تقوم على أساس تقوى الله وتستمد من شريعة الله. وتدافع عن كيانها بكل القوة المتاحة لهم حينذاك. لم يكن الأمر كما يبدو من ظاهره أمر ضعف المسلمين في مكة وقوتهم في المدينة ... فقد كان المسلمون -على ضعفهم في مكة- يملكون كما أسلفنا أن يتصرفوا تصرف العرب في الجاهلية. كما أن المربي -في المدينة- كان يمكن أن يكلهم إلى قوتهم، ويتركهم يتصرفون بوحي هذه القوة دون توجيه! ولكن الذي حدث لم يكن كذلك! لقد كانت التربية بالأحداث في عهد القوة في المدينة قوية صارمة كما كانت في مكة؛ تهدف إلى الهدف ذاته: تخليص النفوس من أدرانها وتعلقاتها، وتجريدها خالصة لله:   1 سورة المزمل 6. 2 سورة المزمل 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} 1. لقد كان الدرس هنا قاسيًا عنيفًا ... يوم اعتز المسلمون بكثرتهم وأعجبتهم قوتهم فقالوا: لن نغلب اليوم من قلة! كان الدرس -كما كان في مكة- هو ردهم إلى الله، ليعتزوا به وحده، ويستمدوا منه القوة وحده، ولا ينظروا لأية قوة أرضية -معهم أو عليهم- على أنها العامل الحاسم في المعركة، أو أنها هي التي تقرر شيئًا على الإطلاق من مصائر الأمور! لقد كانت القوة الأرضية في مكة ضدهم. فرباهم هناك على أنها لا تعني شيئًا في حقيقة الأمر. وأنها ليست هي التي تقرر مصير الدعوة. وإنما الذي يقررها هو الله. وهم مدعوون أن يلجئوا إلى الله وحده ويعتزوا به وبقوته. ثم كانت القوة الأرضية في المدينة معهم. فرباهم كذلك على أنها لا تعني شيئًا في حقيقة الأمر. وأنها ليست هي التي تقرر مصير الدعوة. وإنما الذي يقررها هو الله. ودعاهم -كما دعاهم هناك- أن يلجئوا إلى الله ويعتزوا به وبقوته: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وكذلك في سبيل هذا التجرد ذاته كانت التربية بالأحداث في سورة آل عمران، للذين فتنتهم أسلاب المعركة في أحد فنسوا هدفها الأصيل. {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 3. وكذلك في سورة الأنفال إذا يتحدث عن وقعة بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ   1 سورة التوبة 25. 2 سورة التوبة 26-27. 3 سورة آل عمران 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وفي سورة التوبة كانت التربية بالأحداث للذين تخلفوا عن القتال في وقعة تبوك: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} . {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ   1 سورة الأنفال 7-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. هذه الطرقات العنيفة كلها و"الحديد ساخن" لينطبع في النفوس الأثر المطلوب، ولا يتخلف الناس عن الجهاد في سبيل الله ... وقد كان.. لم يتخلف بعد ذلك أحد من المؤمنين ولا من الأعراب! وهكذا كانت التربية بالأحداث في مكة وفي المدينة، ذات هدف واحد في الواقع, وإن تعددت الصور والتوجيهات: إنها كلها دعوة للتجرد من القيم الأرضية كلها، والوشائج الذاتية كلها، ومن كل حرص على مصلحة أو مغنم شخصي ... ليكون كل شيء في سبيل الله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. وحين يحدث ذلك في داخل النفس تكون النفس قد توطدت وتثبتت، وركزت على الركيزة التي لا تهتز ولا تختل ولا تضعف ولا تميد.. وتكون قد توازنت فلا يفسدها الضعف ولا تفسدها القوة. لا تنحسر حيث ينبغي التقدم، ولا تندفع حيث ينبغي الانتظار. وتكون قد تربت على طاعة الله، وشفت وراقت حتى لهي نور متألق يشع في الآفاق؛ وعندئذ يصدق عليها وصف الله لها في كتابه الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .   1 سورة التوبة 81-121. 2 سورة التوبة 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقد لا نملك -ونحن نطبق منهج التربية الإسلامية- أن نعيد شريط الأحداث كما حدث أول مرة، لنتتبع توجيهات القرآن في التربية بالأحداث واحدًا إثر واحد بحسب ترتيب النزول! ليس هذا بطبيعة الحال هو المقصود. إنما المقصود هو حكمة التربية بالأحداث. المقصود هو الطرق والحديد ساخن. حتى لا تفلت الحادثة بلا عبرة مستفادة، ولا أثر ينطبع في النفس ويبقى. والهدف هو ربط القلوب دائمًا بالله، في كل حادثة وفي كل شعور. والمجال دائمًا مفتوح أمام كل مرب, له عين مفتوحة وقلب واعٍ وإدراك بصير. إنه يستطيع أن يدرك اللحظة المناسبة للتوجيه، اللحظة التي تبلغ فيها حرارة الانفعال درجة الانصهار. وعندئذ يعقد العقدة الوثيقة التي لا تنحل، ويطبع الطابع العميق الذي لا يزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الباب التاسع: المجتمع المسلم من البديهيات المقررة في منهج التربية الإسلامية أن يكون هناك مجتمع مسلم. فكل الجهود المضنية التي تبذل في التربية عرضة لأن تذهب كلها ضياعًا حين لا يوجد هذا المجتمع، أو حين يوجد مجتمع يعادي الفكرة ويعمل على تحطيمها. وصحيح أن تكوين المجتمع المسلم هو الهدف الأخير من التربية الإسلامية، ولكنه في الوقت ذاته هو الأداة الموصلة إلى تثبيت المفاهيم الإسلامية وتنشئة الأفراد عليها منذ نعومة أظفارهم، حتى ينطبعوا بانطباعاتها، ويكونوا صدى ذاتيًّا للتفاعل معها والتشرب بها. وهذا التداخل بين الأهداف والوسائل، هو ذاته التداخل بين الفرد والمجتمع وبين الجيل والأجيال. لا تستطيع في أية لحظة أن ترسم حدًّا فاصلًا بين جيل وجيل، ولا بين فرد والمجتمع الذي يعيش فيه هذا الفرد، ولا بين وسيلة من الوسائل والهدف الذي تؤدي إليه الوسيلة. وطبيعي -في إنشاء مجتمع إسلامي- أننا نبدأ بالفرد، أو بمجموعة أفراد. كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلقى الوحي والرسالة، وامتلأت بها نفسه، فتحركت للعمل في واقع الأرض. وتلك سمة الرسالات الكبيرة كلها، وعلى رأسها هذه العقيدة الحية المتحركة التي أودع الله فيها خلاصة الدين كله، وخصائص الرسالات كلها، وأودع فيها من الحيوية والحركة ما استطاعت به أن تثبت جذورها في التربة الجافية القحلة التي لم تكن تركز فيها نبتة سليمة، ثم تمتد في آفاق الأرض بسرعة لا مثيل لها في التاريخ كله.. وما استطاعت به أن تقاوم كل صنوف الكيد والتخريب من التتار مرة ومن الصليبيين مرة ومن الداخل مرات. وما استطاعت به أن تقوم من كل نكسة صادفتها حية متوفرة مستعدة للنماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 هذه الحيوية المتحركة التي ملأت قلب محمد صلى الله عليه وسلم -وتملأ كل قلب وهب نفسه لهذه العقيدة على مدار التاريخ- جعلته يتحرك في واقع الأرض لبث الدعوة في نفوس أفراد آخرين، ليمتلئوا بالفكرة كما امتلأ، وليتحركوا في واقع الأرض كما تحرك. أي: جعلته يتحرك لإنشاء المجتمع المسلم الذي تعيش فيه الفكرة. ويكون هو التحقيق العملي لها في واقع الحياة. ثم تأخذ الدعوة دورتها. فيتكون المجتمع المسلم الذي ينشئ الأفراد على أخلاقه وتقاليده, ومناهج سلوكه ومناهج تفكيره، فيكون المحضن الدائم الذي يفرخ في عشه كل جيل جديد. ويتحول الهدف الأول وسيلة لتحقيق الهدف ذاته، كما يتداخل كل جيل في الجيل الذي قبله والجيل الذي يليه. ومنذ تلك اللحظة التاريخية أصبح المجتمع المسلم حقيقة واقعة، وأخذ دوره في التاريخ. ولكنه -مع ذلك- لا يستقيم دائمًا على النهج، ولا يسير في طريقه القويم. وقد كانت آخر نكسة أصابته على يد الغزو الصليبي في القرنين الأخيرين، حين أحس بالهزيمة من داخل روحه، فراح يسلم حصونه وقلاعه واحدة إثر واحدة، ويفرط في مقدساته الفكرية والروحية، ويتخلى عن مقومات وجوده. حين ذلك انهار المجتمع المسلم وأصبح في حاجة إلى إعادته من جديد! {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . كما نشأ المجتمع المسلم في الجاهلية الجاهلة المتعنتة المعاندة الجافية، كذلك ينشأ المجتمع المسلم في كل جاهلية تمر بالبشر على مدار التاريخ، وكذلك ينشأ في الجاهلية الجديدة التي يعيش فيها البشر في هذا القرن العشرين. والمجتمع المسلم على أي حال ضرورة لازمة للتربية الإسلامية. فالجهد الذي يبذل في تنشئة أفراد المسلمين، عرضة -كما أسلفنا- لأن يضيع كله هباء حين لا يوجد المجتمع المسلم، أو حين يوجد المجتمع الذي يعادي الفكرة ويعمل على تحطيمها. أنت تربي ابنك أو ابنتك على أخلاق معينة تستوحيها من كتاب الله وسنة رسوله، ومن تقاليد المجتمع المسلم التي تقرأ عنها وتتصورها، ومن مفهوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 التربية الإسلامية كما تمتلئ به نفسك. ثم لا تستطيع أن تحبس ابنك أو ابنتك في معزل عن المجتمع. فإن ذلك مستحيل. بل إنهما لا يكونان مسلمين إذا تربيا في عزلة كاملة عن الحياة الواقعة، فالإسلام ليس عزلة عن الحياة ولا يمكن أن يكون، بل هو حركة حية في واقع الأرض وسلوك واضح للعيان. وإذن فأنت -بالضرورة- تطلقهما في المجتمع الموبوء. فما الذي يحدث؟ الطفل الذي يجد غيره من الأطفال يسبونه بأقذع السباب، المنتقى من ألفاظ قصد بها قصدًا أن تخدش الحياء لتكون مؤلمة وموجعة. والطفل الذي يجد الغش والخداع والنفاق هو العملة السارية في المجتمع. معلمه أو معلمته يغشانه في الدرس، فلا يعملان بذمة وضمير إلا والناظر على مقربة أو المفتش على الباب. وبقية الدروس "بلطجة" أو تهويش. وبائع الحلوى أو التاجر الذي يتعامل معه يغشه في البضاعة أو السعر. وكل إنسان يغش كل إنسان، ويتملقه وهو حاضر أمامه فإذا انقلب من عنده راح يهجوه بأقذع لسان. والطفل الذي يجد العبودية بكل ألوانها ومختلف صنوفها هي المتحكمة فيما حوله، الكبير يستعبد الصغير، والقوي يستعبد الضعيف، وهذا يخنع للعبودية ويذل. والمراهق والمراهقة اللذان يغشيان هذا المجتمع الدنس الذي تشيع فيه الفاحشة من كل صوب. الفتاة التي تجد زميلاتها في المدرسة يقصصن مغامراتهن الدنسة، ويروين من الحكايات ما يمليه خيالهن المريض. والفتاة التي تجد نساء المجتمع يتبرجن على أبشع صورة لإبراز مفاتن الجسد وإبراز معالم الحيوان. والفتاة التي تطالعها إعلانات السينما بصورها المهيجة ومواقفها الفاضحة العنيفة، ويطالعها الدنس في كل صحيفة تقرؤها أو مجلة تقع بين يديها. والفتى الذي يعيش في مثل هذا الجو الموبوء. اهتمامات إخوانه تفاهة، وحياتهم عبث، وأهدافهم خواء. وسلوكهم نكسة إلى عالم الحيوان، في قذارة يتعفف عنها الحيوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 والشاب والشابة اللذان يجدان كل قيم المجتمع معكوسة، وكل فضائله في التراب. الذي يصل هو الوصولي المنافق، والذي ينجح هم العبيد. الذي يحافظ على كرامته، أو يحافظ على دينه، أو يحافظ على أخلاقه هو في ذيل الصف, إن لم يكن في أسوأ مكان. والتي تحافظ على دينها وأخلاقها وكيانها منبوذة من الجميع. الفتاة النظيفة لا تجد أن تتزوج، ولا تحقق -في نظافة- رسالتها في الحياة. والفتى النظيف في حيرة من أمره لا يصل إلى شيء مما يريد. وهذا إن ظلا على نظافة. فهذا الإغراء العنيف كله، والفتنة الجائحة، والصور المثيرة، والنسوة العارية، والمشية الخليعة، والقصة الخليعة، والنكتة الخليعة، والأغنية الداعرة، والاختلاط الدنس، والجو الموبوء ... ما نتيجة هذا كله بالنسبة للأطفال والمراهقين والشباب؟ كيف يكونون مسلمين؟ كلا.. لا يمكن أن نحلم في الخيال، ونفترض أن يكونوا مسلمين. إنما الذي يحدث فعلًا -وتلك سنة الله في الأرض مع كل فكرة يريدها الله أن تنجو وتنفع وتمكث في الأرض- أن قلة من الناس، أفرادًا معدودين، يحققون البطولة. يمسكون في أيدهم القياد. يرتفعون على المجتمع الدنس وعلى أنفسهم، فلا ينجرفون في التيار، ولا يغرقون في الوحل، يمسكون في أيديهم الراية التي يتجمع حولها النظيفون والنظيفات، ويتكون المجتمع المسلم على أيديهم: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} 1 {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 2. المجتمع المسلم ضرورة للتربية الإسلامية. فلن يكون كل الناس أبطالًا يعيشون في الدنس على نظافة، ويعيشون في الوكسة مرتفعين، والفرد العادي -مهما بذل في تنشئته فردًا- في حاجة   1 سورة الأنبياء 104. 2 سورة الأحزاب 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 إلى المجتمع الذي يسانده ويرسخ في نفسه الإيمان بالفضائل التي يؤمن بها، ويساعده بالقدوة الصالحة على تحويلها إلى سلوك عملي في واقع الحياة. والسمة الأولى للمجتمع الإسلامي أنه مجتمع متحرر وفي ذات الوقت نظيف. والتحرر في مفهوم الإسلام معنى شامل جدًّا وعميق. تحرر من كل ما يكبل النشاط السوي للفرد والجماعة. تحرر من كل القيم الزائفة والعوائق التي تعوق رفعة البشرية وتقدمها ونماءها. تحرر على مستوى الإنسان، وليس انفلاتًا من قيود الإنسان. ومن ثم فهو تحرر نظيف لا يلتبس بانطلاق الحيوان. حين يتحرر الإنسان من كل عبودية غير العبودية لله الحق، فإنه يحس بنفسه قوة هائلة فاعلة منشئة موجهة، لا تتقيد بشيء غير الحق، ولا تخضع لشيء إلا ما أمرها به خالقها وهو دائمًا حق. حينئذ تنطلق تنشئ في واقع الأرض نظامًا يحقق ذلك التحرر المستمد من طاعة الله، المحقق لمنهج الله. وفي المجتمع المسلم -الذي تقوم فيه العلاقات كلها مرتبطة بالله- يتعاون الناس على البر والتقوى, ولا يتعاونون على الإثم والعدوان. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. ويتعاونون على تهيئة الجو للأجيال الناشئة أن تتربى في ظل العقيدة النظيفة من الأدران. في هذا المجتمع يتعاون الحاكم والمحكوم على تنفيذ منهج الله في تقويم البشرية. منهجه الشامل الذي يتناول الإنسان فردًا وجماعة، واقتصادًا واجتماعًا وحربًا وسلامًا وتنظيمات وشرائع. ويتعاون الفرد مع أخيه في إقامة المجتمع الصالح. ويتعاون الرجل والمرأة في تنشئة الأجيال. في هذا المجتمع توجد الحكومة المسلمة والشعب المسلم والاقتصاد المسلم والاجتماع المسلم والأسرة المسلمة والمدرسة المسلمة والصحيفة المسلمة والإذاعة المسلمة والفن المسلم. ويوجد بطبيعة الحال الرجل المسلم والمرأة المسلمة1.   1 انظر فصل "حين نكون مسلمين" في كتاب "معركة التقاليد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والمفاهيم الإسلامية تحكم الجميع. مجتمع يقوم على التكافل الاقتصادي والاجتماعي والفكري والروحي بين أفراده1. مجتمع يقوم على النظافة. نظافة التعامل بين الحاكم والمحكوم. نظافة بين الشاب والفتاة. نظافة بين الزوج والزوجة والأطفال. نظافة بين العامل وصاحب العمل. وبين الرئيس ومرءوسيه. نظافة السلوك الظاهر والنية المضمرة. نظافة العمل والتفكير والشعور. مجتمع يقوم على الحق. لا غدر ولا عدوان ولا باطل ينمو ويتاح له النماء. مجتمع يقوم على القيم الإنسانية التي لا تهمل الواقع المادي والإنتاج المادي, ولا تعطيهما كذلك فوق حقها المقدر, ولا تهمل الواقع الروحي للبشرية, الذي هو وسيلتها الحقيقية للرقي النفسي والتحضر والارتفاع. مجتمع يوجه الطاقة الإنشائية للناس في سبيل البناء والتعمير والخير، ولا يوجهها للعمل في سبيل الشر والفساد. مجتمع يقاوم الشر ولا يسمح له أن يستشري في الأرض. ويقاوم الفجور والفساد والفاحشة. مجتمع يقيم الموازين العادلة للناس في الجهد والجزاء، فلا يفتنهم عن الإيمان بالفضيلة، والإيمان بالعمل في سبيل الخير. ذلك أنه مجتمع يقوم على الإيمان بالله، ويستمد من منهجه وحده لا من أي منهج سواه2. في مثل هذا المجتمع ينشأ "الإنسان الصالح". ينشأ بقدر أقل من الجهد، وقدر أكبر من الصلاح. وليس معنى هذا أن نترك أبناءنا وبناتنا على هواهم حين يوجد المجتمع الصالح، اتكالًا على أن المجتمع سيصنع لهم كل شيء؛ وسيربيهم على الفضيلة من تلقائه.   1 انظر بالتفصيل في هذا كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام". 2 انظر في نهاية الكتاب فصل "بين الواقع والمثال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 كلا! فكل نبتة هي نبتة مستقلة تحتاج إلى العناية بها في منبتها حتى تترعرع ويكتمل لها النضوج. وكل ما يحققه المجتمع الصالح أنه يوجد الجو المعاون على النماء، الخالي من الأعاصير التي تقتلع النبتة أو تميلها أو تحطم منها الأغصان والفروع. والمنبت الطبيعي لكل نبتة هو الأسرة، الأب والأم مجتمعين في عش سوي نظيف. وقد مرت بنا عناية الإسلام بالأسرة، وبالأب والأم كفردين مسلمين. وإنما نزيد هنا أن الأسرة الفاضلة هي عماد المجتمع المسلم، وهي وليدته في ذات الوقت، على التداخل الذي بينا بين الوسائل والأهداف. وحين يوجد الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم نكون قد حققنا منهج التربية الإسلامية بحذافيره. ويكون لنا أن نتوقع أطيب الثمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الباب العاشر: ثمرة التربية أي صورة من الأناسي تلك التي تطالعنا بعد هذا الجهد الذي نبذله في التربية على منهج الإسلام؟ أي إنسان هو الذي ربينا له روحه وعقله وجسمه على هذا النحو، ووقعنا على الخطوط المتقابلة في نفسه، وربيناه بالقدوة وربيناه بالموعظة وربيناه بالقصة وربيناه بالعادة وربيناه بالأحداث؟ نقول إنه "الإنسان الصالح".. فما صورة ذلك الإنسان.. الصورة التي يمكن أن نمسك خيوطها ونتبع ملامحها ونعرضها نموذجًا للاقتداء؟ بديهي أن نقول إنه إنسان عابد. وإن العبادة -على النحو الذي شرحناه في فصول الكتاب- هي منهاج حياته كلها، وهي الصورة التي تطالعنا منه في كل لحظة من لحظات حياته ... أي: إنه لا يكون عبدًا إلا لله، وأنه في كل عمل يعمله وكل سلوك يسلكه وكل فكرة تخطر في باله، متصل بالله، مراع له، متوجه إليه. ولكن هذا لا يعطينا فكرة واضحة عن "ملامح" هذا الإنسان، وإن أعطانا "سمته" العام. ما زلنا في حاجة إلى مزيد من التوضيح. سنقول إن ملامح التقوى والخشوع والحياء تظهر على وجهه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1. {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 2. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} . {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} . {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3.   1 سورة الحجرات 13. 2 سورة الفتح 29. 3 سورة الأحزاب 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} . {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} 1. "الحياء من الإيمان" 2. نعم. نحن أمام شخص تشع التقوى من وجهه، ويبدو في قسماته الخشوع، ويتسم في حركاته وفي حديثه بالهدوء والوداعة والحياء. ولكن. لا! لا يخدعك هدوءه ذلك ورقته واستحياؤه فتظن به الضعف! إنه لا يضعف ولا يخشع ولا يحني هامته إلى الأرض ساجدًا. إلا لله. وحده لا شريك له. أما ما عدا ذلك فهو قوي قوي. صلب العود. شديد المراس، متين. اختبر هدوءه ذلك ورقته في أن تحاول العدوان على شيء من مقدساته! عند ذلك تبرز لك السمة الأخرى المتممة للأولى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 3. نعم. لا تمنع الشدة الرحمة. ولا تمنع الرحمة الشدة. هذه في موضع وتلك في موضع. وكلاهما صواب. إنها ليست الرقة المطلقة والرحمة في كل مناسبة ومع كل شخص. وهي كذلك ليست الشدة الجافية التي تسم الطبع كله بالغلظ والجفاء. وإنما هي المرونة الحية التي تقدر على مواجهة كل موقف بما يليق، والتي تملك في داخلها طاقة للرحمة وطاقة للشدة، تستمد منهما بحرية حين تشاء. كان التوجيه للرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لكفار والمنافقين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 4. وفي الوقت ذاته كان التوجيه إليه بالنسبة للمؤمنين: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 5. فالغلظة على الكفار ليست عن غلظة في الطبع وفضاظة. فهاتان الصفتان البغيضتان ينفيهما الله سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم. وإنما كانت   1 سورة النور 30-31. 2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. 3 سورة الفتح 29. 4 سورة التوبة 73. 5 سورة آل عمران 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 عن قوة في مواجهة الشر، واجبة لأنها في النهاية تؤدي إلى الخير. وفي ذلك مفتاح الموقف بالنسبة للمؤمن. فهدفه الأخير هو الخير. وهو يصل إليه بكل طريق ممكن. قد تكفيه في دفع الشر كلمة طيبة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1, {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} 2. وقد تفلح الموعظة الحسنة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 3. وقد تخفق الوسائل كلها فلا تنفع إلا الشدة، وعندئذ تكون الشدة هي الصواب. المؤمن قوي في كل حالاته، مستعل في كل حالاته: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4. وتلك سمة من سماته. إنه لا يستعلي في السراء كبرًا وانتفاشًا كاذبًا وفرحًا في الساعة الرخية. كلا. فما هذا استعلاء؛ وإنما هو كبر وغرور لا يحبهما الإسلام: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} 5. {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} 6. دعوة إلى التواضع والقصد والاعتدال. إنما الاستعلاء الحقيقي هو الاعتزاز بالله، والاعتزاز بالنفس وصيانتها عن كل مذلة لغير الله، وكل دنس يصيبها، وكل خضوع لما يملك الإنسان دفعه من الأذى والضرورات. ومن ثم فهو غير مقتصر على ساعات النصر والغلبة والرخاء. فالتوجيه في الآية للمؤمنين بأنهم الأعلون، كان على إثر الهزيمة في المعركة وغلبة الكفار: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ   1 سورة فصلت: 34. 2 سورة المؤمنون 96. 3 سورة النحل 125. 4 سورة آل عمران 139. 5 سورة لقمان 18-19. 6 سورة الإسراء 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 1. فهم الأعلون حتى وهم منكسرون في الحرب. بل هم الأعلون منذ أول لحظة يدخل الإيمان في قلوبهم، وعدوهم ظاهر في الأرض ومستحوذ على كل نصيب. هذا الاستعلاء من أبرز سمات الإنسان المؤمن -وهو الإنسان الصالح- يصاحبه في كل موقف من مواقف حياته، فيملي عليه السلوك الذي ينبغي عليه أن يسلكه. هو في وجه الظلم والعدوان مستعل، ولو كان في موقف الهزيمة. لأنه لا يستمد استعلاءه من النصر فتفقده الهزيمة إياه. وإنما يستمده من الإيمان بالله والاتصال به، ومن ثم لايفقده في الهزيمة ويسترده في النصر، بل هو كامن في داخل نفسه، مصاحب لها في كل حال. هو في وجه المغريات مستعل ولو كان في حاجة. لأنه لا ينبغي له -وهو المؤمن المتصل بالله- أن يحيد عن منهج الله ويخالف عن دستوره، من أجل كسب مهما يكن من عظمه فهو حقير، ومهما يكن من كثرته فهو زائل، ويبقى الله، وحساب الله: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 2. وهو في وجه الشهوات مستعل ولو أحس بلذعها في أعصابه. لأنه -وهو المؤمن المتصل بالله- أكرم عند الله وعند نفسه من أن يذل لشهوة تدنسه وتمرغه في الوحل، من أجل متعة عابرة لن تغنيه، وسيجد أطيب منها في الحلال ويجد أطيب منها دائمًا عند الله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 3. وهو في وجه القيم الزائفة مستعل؛ لأنه يملك القيم الحقيقية المستمدة من الله ومنهج الله، فلا تزلزله قيم زائفة من صنع البشر، لا ترفع ولا تخفض إلا في ظاهر الأمر، ولا يمكن أن تفرض نفسها على مشاعر المستعز بالله والمستعز بنفسه وقيمه، لأنها لا تساوي شيئًا في ميزانه، ولا تغير حقائق الأشياء: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ   1 سورة آل عمران 139-140. 2 سورة طه 131. 3 سورة النور 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 1. والمستعلي على هذا النحو، لا يصعر خده للناس ولا يمشي في الأرض مرحًا، فذلك صغار هو يستعلي عنه! إنما يحترمه الناس ويقدرونه من تلقاء أنفسهم لأنهم يحسون أن بداخله "حقيقة" صلبة، لا خواء ولا نفخة فارغة. نعم. هو في استعلائه لا يحتقر الناس. فليس من سمات الإنسان المؤمن -وهو الإنسان الصالح- أن يحتقر الآخرين.. إلا أن يكونوا ينالونه بالأذى فهو يرد عن نفسه بأن يظهر لهم الاحتقار. وإذا كان الله قد صرح للمظلوم أن يجهر بالسوء من القول وهو لا يحبه: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} 2, فهو كذلك يبيح رد عدوان الحقراء باحتقارهم وإظهار الاستعلاء عليهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 3. ولكن الإنسان الصالح -في غير هذا- شخص إنساني النزعة. يفيض قلبه بالعطف على بني الإنسان، بكل ما فيهم من ضعف بشري، وكل ما فيهم من طمع وجشع ولجاجة وغرور! إنه يتذكر وحدة المنشأ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 4 ويتذكر أخوته لهذا البشر. ويتذكر أن يجاهد نفسه فتغلبه أحيانًا ويخضع لضرورة قاهرة.. فيدركه العطف على الناس، والاعتذار لهم عما يرتكبونه من هفوات: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} 5. وهو إنساني النزعة يحب للناس الخير، ويحس نحوهم بالرحمة ولو كان لا يعرفهم ولا تربطهم به قرابة أو صحبة. إنساني النزعة يعمل طاقته لينفع، وليصيب النفع أكبر عدد من الناس: "إن من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس".   1 سورة الكهف 28-29. 2 سورة النساء 148. 3 سورة الفرقان 63. 4 سورة الأعراف 189. 5 سورة آل عمران 133-134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 قيل: يا رسول الله من أين لنا صدقة نتصدق بها؟ فقال: "إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح والتحميد, والتكبير والتهليل, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى, وتدل المستدل عن حاجته. وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف" 1. بل إنساني النزعة حتى وهو يشتد ويحارب ويقتل في سبيل الله: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" 2. والحب.. القدرة على الحب.. سمة بارزة من سمات الإنسان الصالح المؤمن. بل هو إنسان بمقدار ما يقدر عليه من الحب: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 3, الحب الخالص الذي لا ينتظر جزاء ولا شكورًا ولا يهدف لكسب. الحب في الله. إنها العظمة النفسية من الداخل، والغنى النفسي.. هو الذي يفيض على الناس بالحب ويمنحهم العطاء. لأنه يستمد من معين ضخم لا ينفد.. معين الحب الإلهي الزاخر الفياض. ومن حبه للناس يحب لهم الخير، ويدعوهم إلى الخير. إنه حين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر -وتلك سمة دائمة من سماته- يصنع ذلك لأنه يحب للناس الهدى ويحب لهم الخير. لا لأنه يحب أن يسيطر عليهم ويسوقهم أمامه فيطيعوه. وهو كريم ذو مروءة تنفعل نفسه بآلام الناس فيسرع إلى نجدتهم، يبذل لهم المعونة ويبذل لهم من جهده وماله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} 4.   1 رواه ابن حبان والبيهقي. 2 رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. 3 رواه البخاري. 4 سورة البقرة 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وهو شخص متوازن. تلمح الاعتدال في سلوكه وفي فكره وفي شعوره. متوازن لأن طاقته كلها تعمل، وتأخذ نصيبها من الحياة. متوازن لا يندفع مع نزوة طارئة، لأن عقله يرده عن الاندفاع. متوازن لا يسبح في بحر عاجي من الأفكار والأحلام ويترك الواقع، لأن قوته الحيوية ترده عن التحليق الفارغ وتوقظه لواقع الحياة. متوازن لا يغرق في متاع الأرض ولا يغرق في عالم المادة، لأن روحه المتفتحة الطليقة تنتشله من هذه الوهدة وتوازن ما فيه من ثقلة الطين. فهو يستمتع بطيبات الحياة دون تكالب عليها، وهو على استعداد دائم للتخلي عنها إذا دعا إلى ذلك داع من دواعي الجهاد في سبيل الله. متوازن لا يستطيره خبر يسمعه حتى يتثبت ويتبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1. متوازن لا تستطيره كل نظرية جديدة يسمعها، حتى يزنها بميزانه، ويتثبت مما فيها من الحق، لأنه لا يحب أن يكون مثل الذين: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 2. {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 3. وفي الوقت ذاته لا يجمد على كل قديم عنده، فالجمود ليس من الإيمان، والاعتراف بنعمة الله يقتضي إعمال الفكر الذي وهبه الله للإنسان للتدبر والمعرفة. ومن الواجب أن يبحث الإنسان عن الحق ويتبعه حالما يثبت له أنه حق. "الحكمة ضالة المؤمن" 4. متوازن لأن فيه قوة ضابطة موجهة، مهتدية بمنهج الله ودستوره، تقول له افعل هذا ولا تفعل ذاك. وهو قوة فاعلة في واقع الأرض.   1 سورة الحجرات 6. 2 سورة النجم 28. 3 سورة الإسراء 36. 4 رواه القضاعي والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 يبدهك بفاعليته وإيجابيته. إنه -بطبيعة إيمانه- لا يملك أن يكون سلبيًّا في الحياة. إن دفعة الإيمان الحية المتحركة تدفعه دفعًا لتحقيقها في عالم الواقع المشهود المحسوس. وإن دستور الله ومنهجه المفضل ليحتم عليه -بمقتضى إيمانه بأحقيته وأفضليته ووجوبه- أن يعمل على تنفيذه وتحويله من واقع شعوري إلى واقع عملي. وإن طبيعة تصوره لحقيقة القوة الخالقة، وحقيقة الإيمان وحقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وارتباطها بعضها ببعض، لينشئ له رأيا ذاتيًّا في كل أمر يعرض له أو يعرض أمامه، رأي موجه بتوجيهات المنهج، ومسترشد بوصاياه. ومن ثم لا يملك أن يكون سلبيًّا إزاء حادث أو فكرة أو رأي أو عمل، ما دام له تصور خاص لما ينبغي أن يكون عليه الحادث والفكرة والعمل. ثم طاقته الحيوية التي رباها الإسلام ... رباها لتعمل، لا لتظل مخزونة بلا انتفاع. تعمل لتعمير الأرض وترقيتها بمقتضى إرادة الله. فهو لا يمكن أن يظل خاملًا كسولًا متواكلًا ينتظر حتى تدفعه الأحداث، ولا يتحرك هو مع الأحداث وقبل الأحداث. ومن إيجابيته الفعالة يقف في طريق الشر. إنه لا يمكن أن يسمح للشر أن يعدي من جانبه وهو يملك وقفه أو تغييره. ذلك مخالف لما في طبعه من إيجابية، ومخالف لقواعد الإيمان. وإنما هو يجاهد هذا الشر ما وسعه الجهاد. وحتى إن غلب لا يسلم قلبه للشر، وإنما يغير المنكر في قلبه، وهو أضعف الإيمان. وهو بمقتضى إيجابيته وفاعليته شخص استقلالي النزعة. استقلالي بمعنى أنه شاعر بوجوده وأهميته ووزنه في هذه الحياة. وعامل بمقتضى ذلك الشعور. وهو لا يشعر بأهميته بوصفه فلانًا ابن فلان، المعتز بكذا من الحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 والنسب والقوة والمال ... ,وإنما يشعر بأهميته لأنه مؤمن مهتد إلى القوة الحقيقية في هذا الكون، ومعتز بهذا الإيمان. هذا الهدى يجعله قوة كونية فاعلة، ومن هنا يحس بقدره الحقيقي، ويقدر أهميته -فردًا- بهذا الميزان، وحينئذ يكون استقلالي النزعة لأنه يحس أنه لا يستمد وجوده من أسرة أو ميراث، ولا من وظيفة أو مجتمع، ولكن من ذاته ... ذاته المهتدية بالله. وهو مع استقلاله بكيانه المتفرد شخص اجتماعي إلى أبعد الحدود. فليس استقلاله حاجزًا يحجز بينه وبين الناس! فالرباط الحي موجود دائمًا بينه وبين غيره من الكائنات. الرباط الحي هو الصلة بالله، صلة يلتقي عليها جميع الأحياء. والحب.. طاقة الإيمان الكبرى.. قوة واصلة تكره الحواجز وتجرف السدود. وما ركب في طبع المؤمن من التعاون على البر والتقوى يقتضي بطبيعته الاجتماع بالناس. والإسلام يكره العزلة وينفر منها: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" 1. ومن ثم فهو اجتماعي مصاحب وصول ودود. ليس بينه وبين الناس حواجز، ومع ذلك لا يزعجهم برفع الحواجز كلها و"برفع التكليف"! إنه ليس معنى أنه يحب الناس ويخلطهم بنفسه أن يقتحم عليهم دورهم بلا موعد، ويقتحم عليهم راحتهم بغير استئذان! كلا! فقد هذبه الإيمان وأصلح سلوكه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا   1 رواه البخاري وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} 1. {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} 3. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} 4. هذا التهذيب قد جعل منه شخصًا حساسًا صاحب ذوق، لا يجعل من حبه للناس ذريعة لإزعاجهم وإقلاق راحتهم، لأنه بذلك لا يقوم بما يقتضيه الحب من إيثار، وإنما في الحقيقة يعمل بمقتضى أنانيته هو في ذلك الحب، فيمتع نفسه بصحبة الآخرين على حسابهم هم؛ ويزعم لنفسه أنه يمتعهم بمودته ... ولا ينتظر حتى يطلبوا منه هذا الإمتاع! وليس طلب الموعد والمحافظة عليه والاستئذان للزيارة إقامة للحواجز وتعطيلًا للمودة، بل هو حرص على المودة أكبر، وإيثار للناس بالراحة، ومنطق الحب ليس إلا الإيثار. وهو شخص نظيف. نظيف في ثيابه، نظيف في سلوكه. نظيف في تعامله مع الناس. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 5. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} 6. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 7. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ,   1 سورة النور 27. 2 سورة الحجرات 4-5. 3 سورة النور 58. 4 سورة الأحزاب 53. 5 سورة المدثر 4. 6 سورة البقرة 222. 7 سورة النساء 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. وهي نظافات متعددة في كل باب. فالخشوع في الصلاة والمحافظة عليها نظافة في التعامل مع الله ونقاء في السريرة. والإعراض عن اللغو نظافة في الفكر والضمير واللسان، وصون لها عن التفاهات والانحرافات. والزكاة تنظيف للنفس من شح المال. وحفظ الفروج نظافة من دنس الشهوة التي تدنس الفرد وتشيع الفاحشة في المجتمع فتدنسه. ورعاية الأمانة والعهد نظافة في التعامل مع الناس واستقامة في الطبع وصدق وإخلاص. وكلها من سمات الإنسان المؤمن الصالح الذي يربيه الإسلام. وهو شخص حساس للجمال. ولكن على نظافة واعتدال. إن طول مصاحبته للقرآن والحياة الدائمة في جوه قد فتحت بصيرته على مجالي الجمال في الكون، وأحدثت في نفسه حساسية مرهفة لكل شيء حي وكل شيء جميل. الليل والنهار. والسماء والنجوم. والنبات المتفتح والطير والحيوان. كلها آيات من الجمال في الكون، وكلها يلمس الحس ويثير الوجدان. وفي نفسه حس شاعر يلتقي بالجمال في كل هؤلاء. ولكنه لا يقع في الفتنةِ. لا يقع في فتنة الأجساد الجميلة والوجوه الفاتنة إلا في حدود ما أباح له الله. فهنا قيد من النظافة قد تعمق في حسه وقنع به وارتضاه.   1 سورة المؤمنون 1-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ثم هو شخص مسلم أمره إلى الله. إنه يؤدي واجبه في الأرض ويتوكل على الله في السماء. يستعلي على الدنايا، ويستعلي على القوى الزائفة، ويستعلي على الباطل، ويترك مصيره لله. ويسعى للرزق بكل ما أوتي من قوة ويترك النتيجة لله. وينفق مما أعطاه الله، ويترك حساب الغد إلى الله. ويسير مع الأقدار. مؤمنًا بأنه لن يصيبه إلا ما كتبه له الله. ويحتمل الشدة ويصبر على الضراء. في سبيل الله. ويرجو من الله الخير. وفي الجملة فهو إنسان يعيش بأقصى طاقته في عالم الواقع، ويحاول في الوقت ذاته أن يحقق المثال. ولا انفصال في نفسه ولا في عالمه بين الواقع والمثال! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الباب الحادي عشر: بين الواقع والمثال نظم التربية كلها -والتربية الإسلامية من بينها- متهمة بأنها ترسم نماذج مثالية خيالية لا تتحقق في عالم الواقع، لأنها غير قابلة للتحقيق. وفي ظاهر الأمر يبدو في ذلك شيء من الحق، ولكنه عند التدقيق لا يلبث أن يزول. إن مهمة كل منهج من مناهج التربية أن يرسم الصورة الصحيحة التي "ينبغي" أن تكون، والتي يرجع إليها دائمًا في تصحيح الأوضاع وضبط المقاييس. وبغير هذه الصورة المتكاملة لا يمكن أن نعرف بالضبط كم قطعنا من الشوط، وكم بقي في الطريق، لنقيس الجهد الذي ينبغي أن يبذل، ونقيس طاقتنا إلى هذا الجهد المطلوب. كل المطلوب من منهج التربية ألا تكون الصورة التي يرسمها خارجة عن حدود الطاقة، ممتنعة على التحقيق. وألا تكون موضوعة في الوقت ذاته على صورة قالب محدود على سبيل الإلزام، بحيث يصبح الإنسان ضائعًا إذا لم يصل إلى الصورة المحدودة والقالب المطلوب. وهذا وذاك لا يوجدان في منهج الإسلام. لا الصورة المتكاملة مستحيلة التطبيق. ولا هي مرسومة في قالب معين على سبيل الفرض والإلزام! الصورة المتكاملة وجدت بالفعل في واقع الأرض، متمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومحمد رسول الله بشر.. يحمل كل طبائع البشر. ولا نقصد بذلك أن أحدًا من البشر سيصل به التهذيب القرآني أن يصبح محمد بن عبد الله. ولكننا نقصد فقط أن القدوة به قائمة في حدود أنه بشر. وأنه إذا استحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 على الناس أن يصلوا إلى تلك القمة الشامخة التي لم يصل إليها أحد في تاريخ البشرية كله، من الأنبياء وغير الأنبياء، فإنهم بالأسوة الحسنة في شخصه صلى الله عليه وسلم يستطيعون -في بعض جوانبهم على الأقل، وفي حدود ما وهب الله لهم من طاقة- أن يقتربوا من هذه القمة الشامخة درجات من الاقتراب. وهذا هو المستوى الأعلى الذي تحقق فعلًا على نطاق غير ضيق ... في أشخاص الصحابة والتابعين، وفي أشخاص متناثرين على مدار التاريخ. وإذن فهذا المستوى الأعلى ممكن في هذه الحدود. وكل درجة يقتربها الإنسان من هذه القمة الشامخة فهي عظمة تحسب له في ميزان الله, وميزان البشر على السواء. كل قوة في الحق. كل تضحية في سبيل الله. كل صدق وأمانة وإخلاص واستقامة. كل رحمة شفيفة. كل مودة وحب. كل عمل للخير. كل حس مرهف, وسلوك مهذب. كل قوة حيوية دافعة. كلها، ما دامت مخلصة لله، تحسب في ميزان العظمة ويكتب لها البقاء. وتلك ثمرة التربية الإسلامية في واقع الأرض. وفي التاريخ أمثلة لا تعد لهذه العظمات النفسية التي رباها الإسلام1. كانت أبرزها تلك الفترة التي انطلقت فيها الأمة الإسلامية الناشئة المصنوعة على عين الله ورعاية رسوله، تعمل في كل ميدان، وتكتب العظمات في كل صفحة من صفحات الحياة. ثم قلت النماذج شيئًا ولكنها لم تنقطع قط عن الوجود، في كل صحوة من إغفاءه، وكل هبة من انتكاس. أولئك الذين حققوا المثال. حققوه بقدر ما وهب الله لهم من طاقة، وبقدر ما استطاعوا أن يبذلوه من مجهود. وتلك قيمة المنهج الذي يرسم الصورة المتكاملة ويعرضها أمام الناس. إنه ليس خياليًّا ولا مثاليًّا ولا منقطعًا عن واقع الأرض. بل إنه على العكس من ذلك واقعي في الصميم.   1 اقرأ بالتفصيل فصل "نظرة الإسلام" في كتاب "الإنسان بين المادية والإسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 واقعي بدليل أنه أنتج بالفعل ثمرات طيبة شهدتها البشرية ونعمت بها على مدار التاريخ. وواقعي لأنه يخاطب الناس من طريق مقدرة كامنة في نفوسهم، موجودة بالفعل، مشتمل عليها كيانهم. وهي القدرة على الصعود يحين يهتف لهم هاتف الصعود. هذه المقدرة طاقة حقيقة أودعها الله في الفطرة البشرية، ووكل بها ترقية الحياة الإنسانية والصعود بها دائمًا إلى الأمام. والإسلام يحرص على استغلال هذه الطاقة، ويصر على ذلك أشد الإصرار. لأنه واقعي مغرق في الواقعية! إنه يعرف أن هناك نتائج واقعية معينة يصل إليها حين يهتف للناس من طريق الصعود. إنه لا يتوقع -ولا يتطلب- أن يصل الناس جميعهم إلى القمة. ولكنه يتوقع -ويتطلب, ويحدث ذلك بالفعل- أن يرتفع الناس في مجموعهم درجات مختلفة من الارتفاع. بعضهم يقترب من القمة الشامخة، وبعضهم يصعد درجات، وبعضهم يتعب فيجلس في الطريق ليستريح. وبعضهم ينتكس فيهبط إلى الأرض ... ولكن المجتمع يرتفع في مجموعه ... كلهم يرتفعون.. حتى المنتكسون عددهم يقل، وتوجد أمامهم فرصة دائمة للارتفاع! فأية واقعية عميقة تلك التي تنبت من النظرة المثالية؟! ولا يغفل الإسلام أبدًا عن واقع الطبيعة البشرية وما ركب فيها من تنوع في الطاقات والاتجاهات والمستويات. لذلك لا يلزم الناس بصورة مثالية معينة مصبوبة في قالب لا تتعداه. إنما هو يطلب إلى كل إنسان أن يبلغ حدود الكمال الممكن له هو بحسب استعداداته وطاقاته واتجاهاته. وكل ما يفرضه هو المحاولة الدائمة لبلوغ ذلك الكمال الخاص في حدود الإطار المثالي العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وهو واقعي في ذلك إلى أبعد الحدود. ولكنه في واقعيته يختلف عن النظم "الواقعية" الأخرى التي عرفتها البشرية في العصر الحديث خاصة. إنه يشمل الواقع الأكبر للفطرة البشرية لا الواقع الصغير المحدود. الواقع الأكبر الذي يعمل حساب قدرة الإنسان على الرفعة كما يعرف استعداده للهبوط. إنه لا يصنع كما تصنع بعض المذاهب الواقعية، التي أخذت عن دارون وماركس وفرويد إيمانها بحيوانية الإنسان وماديته1، فيقول: ما دام الإنسان يحمل هذا الاستعداد الدائم للهبوط مهما حاولنا أن نرفعه، فلنكف إذن عن المحاولة ولنتركه يهبط حتى يقر على القرار! كلا! إنه لن يقر على القرار أبدًا. سيهبط ويهبط ويهبط على الدوام! سيهبط إلى بشاعة يتعفف عنها حتى ذلك الحيوان الذي رد دارون الإنسان إليه وتبعه ماركس في عالم الاقتصاد وفرويد في عالم المشاعر النفسية. سيهبط لأنك تجذبه من خيط الهبوط دائمًا ولا تهتف إليه من طريق الصعود. تلك واقعية الحيوان، التي هبطت بالإنسان في العالم الحديث إلى ما تحت مستوى الحيوان. أما الواقعية النظيفة التي يمارسها الإسلام، فهي التي تحسب حساب الإنسان في مجموعه، بكل طاقاته واستعداداته، فتهتف له دائمًا من طريق الصعود، لأنه ليس في حاجة لمن يهتف له من طريق الهبوط! وتحسب حساب الإنسان الفرد فتكلفه المحاولة الدائمة لبلوغ الكمال الذي يستطيعه هو، وهو بفطرته يستطيع الكثير ... متى كان هدفه هو بلوغ الكمال. والإنسان في نظر هذه الواقعية كائن ليس بالملاك ولا بالشيطان، ولكنه قادر على الصعود إلى نظافة الملائكة، وقادر على الهبوط إلى دنس الشيطان. والطريق الواقعي لتربيته ومعالجته، وهو رسم الصورة المتكاملة أمامه، وتدريبه دائمًا على الصعود إليها والدنو منها، بكل طريق ممكن، وكل جهد مستطاع.   1 انظر بالتفصيل فصل "حقائق وأباطيل" في كتاب "معركة التقاليد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 المجلد الثاني مقدمة ... مقدمة: من بديهيات الإسلام أن يكون الناس مسلمين، وأن يتربوا تربية إسلامية! ومع بداهة هذه القضية فإنها توشك أن تكون مجهولة في مجتمعاتنا الجاهلية المعاصرة، أو هي على الأقل قضية مبهمة عائمة ليس لها مدلول محدد واضح السمات. وأقصى ما يمكن أن تعنيه في حس أكثر الناس -سواء عملوا بها أو لم يعملوا، وسواء كانوا راغبين فيها أو راغبين عنها- هو أن يكون الإنسان "متدينًا" أي: يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض، وأن يكون مستقيم الأخلاق. ولا شك أن هذا من الإسلام، ولكنه على وجه التأكيد ليس كل الإسلام. وإنما انحسرت الصورة وانحصرت في تلك المعاني؛ لأن الإسلام ذاته قد انحسر في واقع المحتمع وفي وجدان الناس، فلم يعد له شموله وتكامله الذي أنزله الله به، ولم يعد يحكم من حياتهم -حين يحكم منها شيئًا على الإطلاق- إلا ذلك الجانب المحدود، الذي هو أقرب أن يكون مزاولة فردية للإسلام، لا تؤثر في خط سير المجتمع، ولا تحكم واقعه المتعدد الجوانب المتشابك العلاقات. ولا شك أن هذه المزاولة الفردية للإسلام، وفي هذه الجوانب المحدودة من الحياة، ليست هي الإسلام الذي تربت عليه الأجيال الأولى من المسلمين، فكان منهم تلك الأمة الفريدة التي وصفها الخالق سبحانه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 والتي كتبت من فصول التاريخ المجيدة ما لم يتيسر لأمة أخرى في التاريخ. بل إن كونها -فضلًا عن ذلك- مزاولة محدودة في نطاق ضيق من المجتمع، ليست هي الأصل فيه، وليست هي الغالبة عليه، وإنما هي سلوك القلة القليلة منه، التي ما تزال ترتبط بالإسلام بنوع من الرباط.. إن هذا لهو الذي انحدر بتلك الأمة من أن تكون {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} إلى أن تكون ذلك الغثاء   1 سورة آل عمران 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الذي تتداعى الأمم عليه كما حدث الرسول صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل إنكم كثير, ولكنكم غثاء كغثاء السيل" 1. ولقد كنت قبل سنوات مضت قد ألفت كتابًا بعنوان "منهج التربية الإسلامية" تحدثت فيه عن النظرية الإسلامية في التربية، ورجوت الله في مقدمته أن يوفقني إلى كتابة الجزء الثاني منه، الذي يتحدث عن التطبيق وهأنذا أعود إلى الموضوع بعد تلك الأعوام، أحاول الكتابة عن الجانب التطبيقي لذلك المنهج الذي أوضحت نظريته هناك. وإني لأستشعر منذ البدء صعوبة المحاولة، وأستشعر -إزاء ضخامتها- ضآلة جهدي المحدود. وما أرى أن محاولتي الحاضرة ستوفي بكل ما رجوته في مقدمة الكتاب الأول، ولا أن حصيلتي من التجربة خلال تلك الأعوام كفاء لما ينبغي أن تكون عليه الكتابة في هذا الموضوع الحيوي الخطير. ولكن الله العظيم الرحيم لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها. وبحسبي في اللحظة الحاضرة أن أقدم ما تجمع لدي من حصيلة في هذا الأمر. فإذا منحني الله المزيد من الوقت، ومن الجهد، ومن حصيلة التجربة، ومن التوفيق، فسيكون هناك بإذن الله عودة جديدة إلى الموضوع، وإلا فبحسبي ما وفقني الله إليه، وأرجو أن يكون الموضوع موضع اهتمام دائم من الدعاة إلى الإسلام، ليوفوه حقه من الدراسة في جميع جوانبه، ويقدموا للراغبين منهجًا كاملًا للتربية الإسلامية، مفصلًا وميسرًا للتطبيق. و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 2 {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 3.   1 أخرجه أبو داود. 2 سورة الأعراف 43. 3 سورة طه 114. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 يسألني كثير من الناس، من الشباب خاصة، كيف نطبق الإسلام؟ كيف نصبح مسلمين؟ كيف ننشئ المجتمع المسلم؟ إننا على يقين من أن الإسلام هو الخير المطلق، والحق الذي لا مرية فيه، ولكن كيف نطبقه في هذا المجتمع البعيد بواقعه عن حقيقة الإسلام؟ أو -على الأقل- كيف نمارس الإسلام في حياتنا الخاصة في وسط أحوال في هذا المجتمع بعيدة كل البعد عن مبادئ الإسلام، بل مناوئة له في أكثر الأحيان؟! وهذه أسئلة جادة، ومشكلة حقيقية تواجه الراغبين حقًّا في تطبيق الإسلام. ولا بد من إجابة صريحة واضحة لهذه التساؤلات الجادة. وإلا فسيظل في أعناقنا أمام الله وزر الحيرة التي يقع فيها كثير من الناس -من الشباب خاصة- الذين يرغبون أن يكونوا مسلمين بحق، ثم لا يجدون الطريق. وما أزعم أن عندي -ولا عند أحد على الإطلاق- حلولًا سحرية لهذه المشكلات! بل إنه لا توجد في الواقع حلول سحرية لأية مشكلة في الأرض على الإطلاق! إنه لا بد لحل أية مشكلة في حياة الناس من بذل الجهد البشري، ومن العزيمة الصادقة مع الجهد المبذول، وبغير الجهد لا تأتي الثمرة المرغوبة ولو وجدت النية الطيبة ووجدت التمنيات. وذلك من صميم التوجيه الإسلامي للمسلمين: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} 1. ولئن كان الكلام في الآية عن العمل للآخرة فإن العمل للدنيا كالعمل للآخرة, سواء في حس الإسلام2 ... لا بد فيه من الأخذ بالأسباب، مع وجود النية الصادقة، ومع التوجه إلى الله بالتوفيق. وذلك هو المعنى الحقيقي للتوكل على الله. وما عداه فهو تواكل لا يعرفه الإسلام. بل إنني لا أزعم -ولا أظن إنسانًا جادًّا مخلصًا يستطيع أن يزعم- أنه   1 سورة النساء 123-124. 2 انظر -إن شئت: "مفهوم الدنيا والآخرة" من كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح في حياة المسلمين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 حتى مع الجهد المبذول والنية الصادقة والعزيمة يمكن أن تحل جميع المشكلات التي تواجه المسلمين اليوم في فترة قصيرة من الزمان. إن ما أصاب المسلمين اليوم من هوان وذلة وخزي، وانحلال وتفكك وضعف، إنما هو حصيلة قرون طويلة من التخلي التدريجي المستمر عن حقيقة الإسلام، ونتيجة فساد لا ينحصر في السلوك وحده, وإنما يتعداه إلى المفاهيم والتصورات، وذلك أخطر بكثير مما لو كان الفساد في السلوك وحده مع صحة التصور, وسلامة المفهوم. مفهوم لا إله إلا الله. مفهوم العبادة. مفهوم القضاء والقدر. مفهوم الدنيا والآخرة. مفهوم الحضارة وعمارة الأرض.. مفهوم التربية ذاته ... وكثير غيره من المفاهيم الإسلامية الأصيلة ... أين هي اليوم في أذهان "المسلمين" مما كانت عليه في حس المسلمين الأوائل الذين كتبوا التاريخ؟! فإذا كان الفساد واقعًا في المفاهيم الأصيلة بالإضافة إلى الفساد الكثيف في السلوك، فليس من طبائع الأشياء أن يتم في سنوات قليلة إصلاح ما حدث من الفساد في قرون! إنما يحتاج الأمر إلى بذل الجهد، والصبر على الجهد، والصبر على المعاناة، مع التوكل على الله والتقوى لله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. يحتاج الأمر إلى دعوة ... دعوة الناس إلى الإسلام من جديد. وتحتاج الدعوة إلى كل مستلزماتها: من إخلاص وتجرد، وصدق في النية وفي السلوك، وصبر وثبات، ومشقة وتضحيات. وفي النهاية -في الوقت الذي يقدره الله- تؤتي الدعوة ثمارها.. ويتغير الواقع السيئ الذي يعيشه الناس اليوم، ويتغير وضع المسلمين في الأرض من الذلة المخزية والهوان البائس إلى العزة التي كتبها الله للمؤمنين، وإلى النصر والاستخلاف والتمكين:   1 سورة آل عمران 200. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 1. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 2. {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3. وإن فريقًا من الناس ليستبطئون الطريق.. طريق الدعوة الطويل، الذي لا يغير الأحوال في سنوات قليلة، وقد لا يغيرها في جيل واحد من الزمان، إنما يحتاج إلى جهد متواصل في أكثر من جيل، ويتعرض -بسبب العداوات المكثفة المرصودة للإسلام في الداخل والخارج- يتعرض للضرب المستمر وللتعويق.. بل يتعرض أحيانًا إلى ألوان من التعذيب الوحشي لا مثيل له في التاريخ. فأما الذين يستبطئون الطريق وهم مصرون على الإسلام لا يرضون به بديلًا لأنهم يعرفون أنه الحق، ويعرفون أنه خير الدنيا والآخرة، فهم يفكرون في حلول سريعة, لعلها تكون أقدر على تحقيق الأمل المنشود في فترة قصيرة من الزمان. وأما الذين يستبطئون الطريق والإسلام ليس همهم الأول، أو ليس همهم على الإطلاق، فيقولون: ماذا علينا بهذا الجهد الطويل كله، فوق ما فيه من معاناة ومتاعب وتضحيات؟ وما لنا ألا نأخذ "الحلول الجاهزة" ممن سبقنا من الأمم في الغرب أو الشرق، فننهض سريعًا من كبوتنا، ونعوض في زمن سريع ما تخلفناه في أجيال؟! فأما الفريق الأول فهو جاد ومخلص، ولكنه عجلته لا تؤدي به إلى شيء! فمن ذا الذي يسند الحكم الإسلامي حين يقوم؟ أتسنده القوى العالمية في الشرق أو الغرب وهي التي تتربص بالمسلمين الدوائر، وتحارب حركات البعث   1 سورة المنافقون 8. 2 سورة النور 55. 3 سورة الروم 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الإسلامي بأيديها أو بأيدي عملائها, تلك الحرب الضارية الضروس؟ أم لا بد له من قاعدة صلبة من الداخل تحميه؟ وكيف تتكون هذه القاعدة إلا عن طريق الدعوة الطويل. الذي يتعرض فيه الدعاة لما يتعرضون له من ابتلاءات ومشقات، وتضحيات وعذابات.. ولكنه ينبغي أن يبقى موصولًا لا تنقطع فيه خطوات السالكين؟! وأما الفريق الآخر فهو فريق الكسالى العازفين عن الجهد، المشفقين من تحمل التكاليف.. أو هو فريق العبيد المستعبدين بأرواحهم وأفكارهم "للسادة" في الشرق أو الغرب سواء! وإلا فليراجع هؤلاء تجربة قرن كامل من الزمان أو قرابة قرنين في الحقيقة، كان "المسلمون" خلالها يجرون وراء "الحلول الجاهزة" من الشرق والغرب.. ما الذي أنتجته تلك التجربة الطويلة وما دلالتها؟ هل تغير وضع المسلمين وما هم فيه من خزي وهوان دولي؟ ألم تضع في تلك الفترة فلسطين؟ ألم يتعرض المسلمون للمذابح في إفريقيا وآسيا من تشاد إلى أرتيريا إلى الهند إلى الفلبين؟ بل.. ألم تدخل الجيوش اليهودية بلادهم، واستقرت فيها مدى من السنين؟ ثم أين يذهب المسلمون من الله إن أخذوا الحلول الجاهزة من الشرق أو الغرب ولم يأخذوا الحل من الإسلام، حتى لو كانت الحلول الجاهزة تحل مشكلاتهم بلا جهد، والإسلام لا يحلها إلا بالجهد المعنت، وبالتكاليف الباهظة، وبالمشقات؟ هل لنا في ذلك خيار؟ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1. فهل يحق لنا -حتى لو كانت الحلول الجاهزة تعطينا ثمرة حقيقية- أن نتنكب المنهج الرباني، ونأخذ من مناهج البشر القائمة على غير الإسلام، ونستبدل   1 سورة الأحزاب 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 الذي هو أدنى بالذي هو خير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1. فكيف إذا كنا حين نتنكب طريق الله، ونأخذ الحلول الجاهزة من الشرق أو الغرب، لا نزيد إلا مذلة وهوانًا في الأرض، فوق تعرضنا لسخط الله في الدنيا والآخرة سواء. {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 2. وذلك كله فضلًا عن أن الحلول الجاهزة ليست حلولًا سحرية تعمل في ذات نفسها، وإنما لا بد لها لكي تؤتي ثمارها من بذل الجهد، والصبر على الجهد، والصبر على المعاناة. فأي عاقل في الدنيا يرضي لنفسه أن يبذل الجهد في طريق يؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة، ولا يبذله في السبيل الواصل المؤدي إلى الخير، في الدنيا والآخرة سواء؟! وليس معنى ذلك -في مجال التربية الذي نحن بصدده- أن نغلق قلوبنا وعقولنا دون تجارب البشرية النافعة، فلا ذلك مما يأمر به العقل، ولا هو من أوامر الإسلام! الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها. إنما معناه على وجه التحديد أن تكون قاعدة حياتنا هي الإسلام. ومنهج حياتنا هو الإسلام. ومنهج حكمنا هو الإسلام. ومنهج سياستنا واقتصادنا واجتماعنا هو الإسلام. ومنهج أخلاقنا هو الإسلام. ومنهج تربيتنا هو الإسلام. ثم نأخذ من تجارب البشرية -في حرية كاملة- كل ما يفيدنا ولا يتعارض مع الإسلام. وإقرار منهج التربية الإسلامية وتنشئة الأجيال عليه في حاجة إلى جهد ضخم, وتغيير شامل لكل صور الحياة في مجتمعاتنا الجاهلية المعاصرة، التي تتمسح بالإسلام تمسحًا ثم تأبى أن تنفذ في واقعها شيئًا من تصورات الإسلام ومفاهيمه أو أنماط سلوكه العملية.   1 سورة المائدة 50. 2 سورة الحج 12-13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 بل إن تربية طفل واحد على مبادئ التربية الإسلامية في صورتها المثالية، ليحتاج إلى ذات التغيير الشامل لكل صور الحياة في تلك المجتمعات الجاهلية! وإلا فأين تذهب بطفلك بعيدًا عن هذا المجتمع؟! تحبسه في صومعة؟ إنك بذلك لا تربيه تربية حقيقية, فضلًا عن أن تكون تلك التربية هي التربية الإسلامية! فإن أطلقته في هذا المجتمع فكيف تحميه -بادئ ذي بدء- من بذاءات المجتمع الجاهلي التي ينثرها في الطريق في كل لحظة؟ ويكف تحميه من صور الانحراف الخلقي في كل أمر من أموره: في المرأة المتبرجة المشغولة بالفتنة، في مغازلات الشباب على قارعة الطريق، في الغش والكذب الذي يتعامل به الناس في الأخذ والعطاء، في صور الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الواقع على جمهور الناس؟ ثم حين تذهب به إلى المدرسة فكيف تحميه من مدرسته المتبرجة للفتنة، وكيف تحميه من طقوس التقديس التي تقدم كل يوم للطواغيت الذين لا يحكمون بما أنزل الله، وكيف تحميه من المناهج الفاسدة التي تدرس له في المدرسة، والتي تبعده إبعادًا عن الله ورسوله، وعن كل ما يتصل بالدين في معناه الحقيقي على الرغم من حصة "الدين" الرسمية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تترك طابعها في حياته، ولا تؤدي إلى شيء حقيقي في واقع الحياة، بل تؤدي في الواقع إلى زيادة نفوره من الدين! بل كيف تحميه -حتى في بيتك- من الأغنية البذيئة المفسدة، وهي تدخل بيتك -ولو أغلقته عليك- من مذياع الجار، أو من ترداد المتسكعين في الطريق؟! كلا! إن تربية طفل واحد، كألف طفل، ككل الأطفال.. تحتاج إلى تغيير شامل لكل صور الحياة في المجتمع الجاهلي! وكذب الطغاة -ويعلمون أنهم كاذبون- حين كانوا يقولون للمسلمين وهم يعذبونهم في السجون: ما لكم ونظام الحكم؟! ربوا أنفسكم وأولادكم كما ترغبون، ولا تتعرضوا لنظام الحكم!! فهل يتركون الفرصة الحقيقية للناس ليربوا أنفسهم وأولادهم على الإسلام؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 والجهد الذي ينبغي أن يبذل لتطبيق التربية الإسلامية على نطاق واسع هو جهد الدولة المسلمة في الحقيقة، التي تملك الوسائل المعينة وتملك السلطة للتطبيق. فإن المهمة الأولى للدولة المسلمة هي تحقيق الإسلام في واقع الأرض، وإقامة حياة الناس كلها على مبادئ الإسلام. من أول سياسة الحكم، إلى سياسة الاقتصاد، إلى سياسة الاجتماع، إلى سياسة الأخلاق، إلى أنماط السلوك اليومية بين الناس، إلى الشارع، إلى البيت، إلى وسائل الإعلام. فأما حين تكون الدولة لا تقوم بذلك، أو تقوم بما هو مناقض له، فقد تعين أن تقوم بهذا جماعة من الناس تندب نفسها للدعوة إلى تحقيق الإسلام في واقع الأرض.. تنفذه في ذات نفسها أولًا ثم تدعو الناس إلى تنفيذه ... وتجاهد في سبيل ذلك، وتحتمل المشقة ولو حاربتها الجاهلية بكل وسائل الحرب، حتى يأذن الله بتغيير ما عليه الناس، حين يغيرون ما بأنفسهم من مشاعر وتصورات: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1. وستكون مهمتنا في جميع الأحوال: سواء قامت الدولة المسلمة -حين توجد- بتطبيق منهج التربية الإسلامية على النطاق الواسع، أو قامت به جماعة من المسلمين في ذات نفسها ثم دعت إليه الناس ... ستكون مهمتنا أن نتعرف على المنهج في كتاب الله وسنة رسوله، ثم في صورته التطبيقية المتكاملة في المجتمع الإسلامي الأول، لنستنبط من هذا كله منهجًا مفصلًا قابلًا للتطبيق في لحظتنا الحاضرة وظروفنا الحاضرة. ونحاول في هذا الكتاب أن نبين كيف يكون التطبيق، مستمدين العون من الله. والله ولي التوفيق. محمد قطب   1 سورة الرعد 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 الباب الأول: كيف تربت الجماعة الأولى الجماعة الأولى هي الجماعة التي رباها الرسول صلى الله عليه وسلم على عينه، ومنحها كل جهده ورعايته وتوجيهه، والتي اجتمعت لها عناصر التربية الإسلامية بكل تمامها، على يد أعظم مرب في التاريخ. وإنها لهي المقصودة أولًا بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. ولقد كانت خير أمة في تاريخ البشرية كله. وحوت من ألوان العظمة في كل اتجاه ما لم يجتمع لأمة أخرى في التاريخ, بهذه الوفرة, وذلك التعدد, وتلك الآفاق: عظمات حربية وعظمات سياسية وإدارية وعظمات نفسية وعظمات روحية.. عظمات من كل نوع، وفي فترة وجيزة من عمر الزمن كأنها لحظات! وتلك الأمة هي التي وضعت أسس التاريخ الإسلامي المقبل كله, ورسخت قواعده في الأرض، بما قدمت من مبادئ وقيم ومثل عليا مطبقة في عالم الواقع بصورة فريدة في التاريخ، صورة يلتقي فيها المثال والواقع، فلا تكاد تعرف من روعة العظمة المذهلة أيهما الواقع وأيهما المثال! ولقد كان ذلك كله هو الثمرة الجنية للتربية الإسلامية في أعلى صورها، على يد أعظم مرب في التاريخ. وإذا كان الواقع التاريخي الإسلامي لم يشهد تكرار ذلك النموذج الرفيع بصورته تلك إلا في نماذج فردية على مدار الأجيال، بينما كانت تلك النماذج محتشدة في الجماعة الأولى احتشادًا فذًّا؛ جعل المؤرخين الأوائل يشيرون إلى معظمها مجرد إشارة عابرة. كأنما هي ظاهرة عامة لا تحتاج إلى إشادة ولا حديث خاص! فستظل هذه الجماعة على الرغم من ذلك هي النموذج الذي   1 سورة آل عمران 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 تتطلع إليه الأجيال وتحاول أن تعيده في عالم الواقع. فإن أفلحت في أي جيل أو أي قرن، فهو الخير للبشرية كلها بغير نزاع. وإلا فالمحاولة في ذاتها خير، لأنها سترفع كل إنسان إلى أقصى حدود طاقته الذاتية، فلا تظل في نفسه فضلة من خير محبوسة عن العمل أو محجوزة عن النماء. وهكذا تظل القدوة قائمة في جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتكرر مثالها على مدى التاريخ. ونحن مطالبون بدراسة وافية لتلك الجماعة الأولى تفسر لنا أسرار عظمتها، وبلوغها ما بلغت إليه من قمم شامخة في كل مجال خاضته. فهي -قبل كل شيء- جماعة من البشر. بل جماعة من البشر من أمة كانوا غارقين في الجاهلية إلى آذانهم، وقاوموا دعوة الخير مقاومة عنيدة لأنهم قوم لد الخصومة كما وصفهم القرآن. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّ} 1. {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 2. فكيف استطاعت جماعة بهذا الوصف أن تصل إلى تلك الآفاق؟! وما العناصر التي تكونت منها تلك العظمة الفائقة؟ وهل هي عناصر "طبيعية" بشرية، أم إن فيها عنصرًا خارقًا غير قابل للتكرار؟! وماذا نملك نحن -ونحن جماعة من البشر كذلك- ماذا نملك من العناصر التي كونت هذه الأمة، وماذا نفتقد، لنعلم المدى المتوقع لنا في النجاح أو الفشل في بلوغ الغاية التي نريد؟ تلك الدراسة الوافية ضرورية لنا ضرورة كاملة, ونحن نحاول تجميع عناصر التربية الإسلامية، فتلك الجماعة هي التي طبقت أو طبقت فيها التربية الإسلامية بتمامها كله، فلن نجد إذن خيرًا منها لتجميع العناصر المطلوبة، ولن نجد خيرًا منها صورة تطبيقية لهذه العناصر. وذلك أمر له أهمية مضاعفة، فليس يكفي -في أمور التربية- أن نعرف العنصر ذاته في صورته النظرية المجردة، إنما   1 سورة مريم 97. 2 سورة الزخرف 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 يفيدنا كثيرًا أن نراه مطبقًا بالفعل، ويفيدنا أكثر أن نراه مطبقًا في أعلى صوره، لأن ذلك يعطينا فكرة عملية عن المدى الذي يمكن أن يبلغ إليه كل عنصر من هذه العناصر، لنقيس جهدنا إليه في كل مرة، ونحاول المزيد! إنك حين تشرح لدارس النبات أو الحيوان طريقة استنباته أو تربيته، تشفع ذلك بعرض نماذج واقعية من ذلك النبات أو الحيوان، وتختار -من بين ما تختار، أو في مقدمة ما تختار- النماذج الفائقة، لتعطي الدارس فكرة عن المدى الذي يمكن أن يصل إليه، والذي ينبغي عليه أن يحاوله، ثم تشرح له في الوقت ذاته عناصر التفوق في ذلك النموذج ليحاول استيفاءها في تجاربه الخاصة. وفي عالم الإنسان كذلك. ينبغي أن نستعرض النماذج الفائقة ونبحث سر تفوقها، لنعلم المدى الممكن، ونحاول الوصول. وعناصر التربية في الجماعة الأولى هي كتاب الله وسنة رسوله.. مضافًا إليها شخص الرسول صلى الله عليه وسلم حاضرًا بنفسه في ذلك المجتمع، وقائمًا يتعهد هذه الجماعة بذاته الكريمة. فأما كتاب الله وسنة رسوله فهما حاضران أبدًا. باقيان أبدًا إلى قيام الساعة، تكفل الله بحفظهما، ليحفظ بهما هذا الدين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. وكذلك حفظت لنا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مدونة ومفصلة أدق تفصيل، وقام علماء المسلمين بتمحيص الدخيل عليها فنبذوه، وبينوا بجهدهم العلمي الفذ درجات الحديث من الصحة إلى الوضع، وما يؤخذ به وما لا يؤخذ به في كل مجال من الفقه والتشريع إلى مكارم الأخلاق. وأما وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بشخصه فهو العنصر الذي لم يتكرر في أي جيل آخر. ولكن لدينا سيرة مفصلة لحياته صلى الله عليه وسلم تجعل   1 سورة الحجر 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 كأنه حي بين ظهرانينا، بل إنه -لفرط عظمته صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يكون مجرد "شخصية تاريخية" عاشت دورها التاريخي ثم أصبحت مجرد ذكرى أو مجرد تاريخ. وإنما هو -بحيويته الفائقة- يعايش كل جيل من أجيال البشرية معايشة كاملة بقدر ما يتجه ذلك الجيل إلى شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم ويستوحي سيرته الحية الزاخرة. ولئن كان وجوده صلى الله عليه وسلم بشخصه، وتعهده الجماعة الأولى بذاته الكريمة، وهو المربي الذي لم يتكرر في التاريخ. لئن كان ذلك عنصرًا فذًّا أثر في التكوين الفريد لهذه الجماعة، وجعلها لم تتكرر بصورتها الفائقة مرة ثانية، فإن وجوده صلى الله عليه وسلم بشخصه ليس شرطًا لقيام المجتمع المسلم في صورته العادية، ولا تطبيق التربية الإسلامية على مستواها العادي، وإلا فلو كان ذلك شرطًا لما فرض الله على المسلمين إقامة المجتمع المسلم, ولا تطبيق التربية الإسلامية، وهو يعلم -سبحانه- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يخلد في الأرض! ثم إن مجتمع التابعين -وهو جزء من الفترة الفائقة في تاريخ الإسلام- لم يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما سمع سيرته كما نقرؤها أو نسمعها نحن اليوم، ومع ذلك كان له تفوقه الملحوظ، وكان يمارس التربية الإسلامية على مستواها الرفيع. عنصر آخر ربما كان من عناصر التفوق الرائع لذلك المجتمع الأول، لم يتكرر في بقية التاريخ.. ذلك هو عنصر "الجدة" فكل حركة جديدة تكون في تكونها وتحركها أنشط وأبلغ من الأجيال التي تخلفها. لأن المولد الجديد يعطيها حيوية غير عادية، ولأنها تمارس البناء خطوة خطوة ودرجة درجة، سواء البناء النفسي الداخلي أو البناء الاجتماعي الخارجي، وتبذل الجهد في كل خطوة وتتحمل المشقة، فتكون حريصة على سلامة البناء، حريصة على صيانته من كل خدش أو تشويه. أما الأجيال التي تجيء بعد ذلك -التي لا تمارس البناء بنفسها، إنما تجده قائمًا بالفعل- فهي أقل حرصًا على سلامته، وأقرب إلى التهاون فيه، حتى يأتي -على طول المدى- ذلك الخلف الذي يصفه القرآن: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} ؟! 1. ولكن هذا العنصر بالذات هو اليوم في صالحنا، كما لم يكن قط من قبل! لقد دار الزمن دورته وعاد الإسلام غريبًا كما بدأ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" 2. هذه الغربة تجعل محاولة العودة كأنها جولة جديدة. جديدة كالجولة الأولى أو أقرب شيء إليها. وسيتوفر لها عنصر الجدة كما لم يتوفر من قبل، فيكون حافزًا لها على بلوغ القمة كما لم يحدث من قبل. وإذن فبين أيدينا اليوم من عناصر التربية الإسلامية -الدائمة والعارضة- ما يجعلنا نتوقع ميلادًا جديدًا لمجتمع إسلامي فائق التكوين. وحين ندرس حياة تلك الجماعة المسلمة الأولى فينبغي أن نبدأ دراستنا من الجاهلية، لنعرف مدى التغير الذي حدث بتأثير التربية الإسلامية، ونقدره حق قدره كما أشار عمر رضي الله عنه حين قال: "لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية" لنعرف أهو مجرد تعديل لحياة الجاهلية في بعض جوانبها، أم نشأة جديدة ومولد جديد. وكتب التاريخ المتداولة بين أيدينا قد لا تعطينا صورة حقيقية للجاهلية، إما جهلًا بحقيقة الجاهلية، وإما تحريفًا مقصودًا لغاية في نفوس واضعيها3. فهي غالبًا ما تعطينا "صورة" الجاهلية العربية على أنها هي "جوهر" الجاهلية. فتجعل الجاهلية محصورة في: عبادة الأصنام ووأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر وغارات السلب والنهب.. إلى مثل ذلك من مظاهر الجاهلية التي قد توجد بذاتها في أي جاهلية وقد لا توجد، ومع ذلك تظل الجاهلية جاهلية.   1 سورة الأعراف 169. 2 أخرجه مسلم. 3 انظر -إن شئت- فصل "الجاهلية" من كتاب "كيف نكتب التاريخ الإسلامي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 بجوهرها المشترك بينها جميعًا بصرف النظر عن سماتها الخاصة التي قد تتغير من بيئة إلى بيئة ومن جيل إلى جيل. وإذا أردنا التعرف على جوهر الجاهلية فلنرجع إلى كتاب الله، فإن اللفظة ذاتها لم تستخدم في اللغة قبل نزولها في القرآن، وإن كان أصلها موجودًا ومستخدمًا في أشعار العرب من قبل كقول الشاعر: ونجهل مثل جهل الجاهلينا أما صيغة "الفاعلية" "جاهلية" فقد وردت أول ما وردت في القرآن الكريم. وحين نتتبع المواضع التي ذكرت فيها الجاهلية ومشتقاتها ومرادفها: {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} , فسنجد أنها جاءت في معنى من معنيين؛ يشكلان معًا حقيقة الجاهلية وهما: الجهل بحقيقة الألوهية، والجهل بما ينبغي تجاه الله سبحانه وتعالى من خالص الطاعة والعبودية، أو بعبارة أخرى مخالفة منهج الله، والحكم بغير ما أنزل الله. فمن أمثلة الجهل بحقيقة الألوهية: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1. ومن أمثلة الجهل الثاني: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 2. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3. من هنا يتبين أن مظاهر الجاهلية ليست هي في ذاتها محور الثقل -وإن كان لها وزنها واعتبارها في عملية التحول من الجاهلية إلى الإسلام- وإنما محور الثقل هو جوهر الجاهلية الذي هو الشرك بشعبتيه: شرك الاعتقاد وشرك الاتِّباع: أحدهما أو كلاهما سواء:   1 سورة الأعراف 138. 2 سورة يوسف 33. 3 سورة المائدة 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 1. هو عبادة الجبت والطاغوت بتعبير القرآن، وهو كل شيء أو شخص أو عرف أو وضع أو سلطة أو شرع يستعبد الإنسان بغير إذن من الله، ويطلب من الناس الطاعة -أو يمارس الناس له الطاعة- مخالفين بطاعته أوامر الله. ويهمنا على أي حال أن ندرس مظاهر الجاهلية العربية؛ لنعلم كيف فعل منهج التربية الإسلامية في إزالتها، لنعرف طريقته العامة في إزالة انحرافات الفطرة، لكي نستخدمها في إزالة انحرافات المجتمع الحالي، وإن خالفت انحرافات المجتمع العربي الجاهلي في تفصيلاتها. نعم، يهمنا أن ندرس مظاهر الجاهلية العربية لنعرف طريقة علاجها في المنهج الرباني ... ولكن ينبغي أن نجعل في بالنا أنها مجرد مظاهر، وأن الجوهر الحقيقي للجاهلية هو عبادة الجبت والطاغوت.. هو الجهل بحقيقة الألوهية، ورفض إخلاص العبودية لله، بما يستتبعه حتمًا من اتخاذ مناهج غير منهج الله، وعدم التحاكم إلى ما أنزل الله. كان العرب إلى الجانب عبادتهم للأصنام وغيرها من المعبودات كالجن والملائكة.. إلخ، يضيفون جهالة أخرى تتمثل في عدم الإيمان باليوم الآخر. وكانوا يتعجبون ممن يدعوهم إلى الإيمان به ويعجبون به: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ؟! 2. وكان من آثار ذلك في حياتهم ما لا بد أن يكون في كل جاهلية لا تؤمن باليوم الآخر: الإحساس بقصر الحياة، وأنها فرصة وحيدة إن لم يهتبلها الإنسان فقد فاتته بغير رجعه، فينكب على الملذات لا يبالي الحرام منها وغير الحرام.. أو ترخص الحياة في حسها فيستهتر بها؛ وقد يجتمعان معًا كما في بيت طرفة بن العبد: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات. هل أنت مخلدي؟!   1 سورة النحل 35. 2 سورة سبأ 7-8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وكانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي يتعايش بها سكان الجزيرة ويتحركون من خلالها، سلمًا وحربًا وتعاقدًا وتعاهدًا وبيعًا وشراء وتجارة. ولكن هذه القبيلة كانت تضغط ضغطًا شديدًا على كيان الفرد فينسحق تحت ثقلها، وتنمحي شخصيته في شخصيتها، فيصبح كما يقول الشاعر: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وكانت أعنف عقوبة تفرضها القبيلة على الفرد هي "خلعه" منها، فيصبح "خليعًا" مشردًا لا يكان له ولا وجود! وكان عرف الآباء والأجداد قوة ساحقة كذلك لا يستطيع أحد الفكاك منها كما وصف ذلك القرآن: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} ؟ 1. {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 2. وكان مجتمعًا -ككل مجتمع جاهلي- تحكمه القوة لا الحق. فالذي يملك القوة يحكم، ومن لا يملكها يحكم عليه! وثم يقع التظالم لا محالة: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم فالطريقة الوحيدة لدفع الظلم هي البدء بالظلم! ومن هنا كانت الغارات الدائمة بينهم والعدوان المستمر والثأر، وكانت الحمية التي يصفها القرآن: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 3. وكانت الآفاق كلها قريبة كما هي دائمًا في كل جاهلية. محصورة في محيط هذه الأرض، مشغولة بالملذات الحسية، أو بما يؤثر في المكانة الاجتماعية علوًّا وسفلًا، من أموال وبنين، أو ذكر حسن أو ذكر قبيح: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ! 4. بل لم يكونوا حتى مشغولين بما كان يشغل بعض الجاهليات الأخرى من   1 سورة البقرة 170. 2 سورة الزخرف 22. 3 سورة الفتح 26. 4 سورة سبأ 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 علم وتقدم مادي، كالجاهلية اليونانية والجاهلية الرومانية والجاهلية الفرعونية ... إنما كان أشد ما يشغلهم هو قول الشعر وحفظ الأنساب، والتفاخر والتهاجي بمعارك السلب والنهب والأحساب والأنساب. إلى جانب المشغلة بالحياة اليومية القريبة التي يشغل بها الناس في كل مكان. لقد كانت تستعبدهم في الحقيقة أرباب أربعة، أو فئات أربع من الأرباب في آن واحد: ربوبية الأصنام المعبودة والجن والملائكة وغيرها من المعبودات التي يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى, أو لتشفع لهم عند الله، وربوبية القبلية، وربوبية العرف الموروث عن الآباء والأجداد، وربوبية الهوى والشهوات.. وهذا كله مع إدعاء العبادة -نظريًّا- لله، والمعرفة النظرية بأنه خالقهم وخالق الكون والحياة! ومن هناك انتشلهم الإسلام ... ليحررهم من عبادة الأرباب إلى عبادة رب الأرباب. ومن عبادة بعضهم بعضًا إلى عبادة الله الواحد بلا شريك. ومن عبادة الجبت والطاغوت إلى عبادة الإله الرحيم الكريم الذي يكرم عباده ولا يهين بشريتهم، وهو الذي كرمها وفضلها وجعل الإنسان خليفة ممكنًا في الأرض. وليحررهم من الانحصار في الحياة الدنيا إلى الصورة الأكثر علوًّا وإشراقًا وامتدادًا وفسحة.. الدنيا والآخرة في عقيدة واحدة ونظام واحد. ويحررهم من ظلم بعضهم بعضًا إلى عدالة الله الحكم العدل، بتحريرهم من شرائع البشر ومناهجههم إلى شريعة الله ومنهجه، يخضع لها الجميع في وقت واحد وبدرجة واحدة. جاء، كما لخص ربعي بن عامر الموقف في كلمات بليغة في مواجهة رستم قائد الفرس، حين قال له رستم: ماذا جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. جاء لينشئهم من جديد ... في مولد جديد للإنسان. كيف صنع الإسلام بهم ما صنع في تلك الفترة الوجيزة؟ إن الفارق بين حالهم في الجاهلية وحالهم في الإسلام هو ولا شك حصيلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 التربية الإسلامية التي رباهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهج القرآن وبوحي تعاليمه. ولقد كانت لهم ولا شك في الجاهلية فضائل، ولا تخلو أي جاهلية في التاريخ من بعض الفضائل، فإن النفس البشرية حتى في أسوأ أحوالها لا تتمحض للشر! ولكن الجاهلية لا تترك تلك الفضائل على حالتها الفطرية وإنما تلتوي بها فتحولها عن وجهتها. كما حولت الجاهلية العربية فضيلة الكرم إلى المفاخرة وإنفاق المال "رئاء الناس" كما جاء في القرآن. أما حين لا يكون هناك مجال للمفاخرة وتحدث البركان فهم كما قال عنهم القرآن: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 1. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2!! وكما حولت فضيلة الشجاعة والاستعداد لبذل النفس فيما هو أكبر من كيان الفرد، إلى غارات السلب والنهب والعدوان المستمر على الآخرين والحمية الجاهلية التي تندفع إلى القتال دون أن تعلم -أو تسأل- في حق هو أم في باطل! ومن هذه العجينة المشوهة، بفضائلها ورذائلها، صاغ الإسلام أروع نماذج البشرية في التاريخ كله. صاغ الأمة التي وصفها خالقها -سبحانه- بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .. فبأي وسيلة صنع الإسلام ذلك؟ وهل هي وسيلة متاحة في كل وقت، كلما جربت وكيفما جربت ِآتت ثمارها، أم إن هناك مناخًا معينًا هو الذي أثمر تلك الثمرة العجيبة، وينبغي توفيره في كل مرة لتنتج الوسيلة نتيجتها؟ لقد بدأ الإسلام بتصحيح العقيدة في الله. والمتتبع للسور المكية يجد أن هناك موضوعًا واحدًا هو الغالب على هذه السور كلها، وهو موضوع العقيدة. وحين نقول "العقيدة" فإننا نقصد بطبيعة الحال "العقيدة الصحيحة". وإلا فإن اعتقاد الإنسان بوجود إله مسألة فطرية لا تحتاج إلى نبي ولا رسول!   1 سورة الفجر 17-18. 2 سورة يس 47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 واتجاه الفطرة البشرية إلى خالقها بلون من ألوان العبادة مسألة فطرية كذلك لا تحتاج إلى نبي ولا رسول! 1 إنما الذي يحتاج دائمًا إلى الأنبياء والرسل هو تصحيح العقيدة. فإن الفطرة -إذا تركت وشأنها- كثيرًا ما تضل، فتتصور الله على غير حقيقته، وتشرك معه آلهة أخرى، وتتقدم له نتيجة لذلك بعبادة مشوهة، ليست هي ما يفرضه الله. فيجيء الأنبياء والرسل ليردوا الفطرة إلى سلامتها ويعطوها الدين القيم على حقيقته الربانية: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 2. وكما جاء كل نبي من قبل ليقول للناس: {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، فكذلك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول نفس القولة الخالدة التي تمثل الحقيقة الأزلية: لا إله إلا الله, ويطلب من الناس أن يعبدوه وحده دون شريك. والسور المكية كما قلنا لا تتناول إلا موضوع هذه العقيدة بكل ما يستلزمه الحديث فيها من تفصيلات. فينبغي أن نعلم من ذلك أن هذا هو حجر الأساس في التربية الإسلامية كلها، وفي الحياة الإسلامية كلها كذلك. وهنا ينبغي لنا أن نقف وقفة عند ظاهرة ذات دلالة: ألم يكن العرب في جاهليتهم يعرفون الله؟ ويعرفون أنه الخالق؟ وأنه المدبر؟ وأن بيده ملكوت كل شيء؟ وأنه يجير ولا يجار عليه؟ بلى! لقد سجل عليهم القرآن علمهم بذلك كله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 4. {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ   1 الدول الشيوعية الملحدة تبدو استثناء من هذه القاعدة العامة. ولكن هذه الدول تصادم الفطرة في كثير من شئونها ولا تتمشى معها. وهي تكبت "التدين" بالحديد والنار، فلا تتخذ دليلًا على عدم عموم الحقيقة التي أشرنا إليها. 2 سورة الروم 30. 3 سورة لقمان 25. 4 سورة الزخرف 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. فكيف إذن سماهم القرآن {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ؟ ولماذا بدأ معهم درس العقيدة من نقطة الصفر. بل بدأ بذات المعلومات التي سجل على العرب علمهم بها -ثم ألغاه من الحساب! - أنه هو سبحانه خالق السموات والأرض، وخالق الناس، وأنه المدبر، وأن بيده ملكوت كل شيء. وأنه يجير ولا يجار عليه!! هذا أمر له دلالة ينبغي أن نتبينها ونحن بصدد الحديث عن منهج التربية الإسلامية؛ لكي لا تفوتنا هذه الدلالة. لا بد أن يكون "العلم" الذي يتطلبه الإسلام بالألوهية نوعًا آخر غير العلم الذي كان في الجاهلية، الذي أثبته القرآن عليهم ثم نفاه، ووصف أصحابه بأنهم {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ثم حين بدأ يعلمهم حقيقة الألوهية لم يأخذ علمهم السابق رصيدًا يبني عليه, ويكمل ما كان ينقصه أو يصحح ما فيه من خطأ. بل اعتبره غير موجود البتة، لأنه بدأ بذات المعلومات في تفصيل شديد يوحي بأنه يستنبتها في قلوبهم استنباتًا جديدًا ولا ينمي ما كان موجودًا منها بالفعل من قبل. ما الفرق إذن بين أن يعرف العرب في الجاهلية أن الله هو الخالق، الذي خلقهم وخلق السموات والأرض، وبين أن يعرفوا في الإسلام أن الله هو الخالق، الذي خلقهم وخلق السموات والأرض؟! الفارق في الحقيقة هو في "نوع المعرفة" وليس في "المعلومات"! حقيقة إن معلوماتهم عن الله في الجاهلية كانت مشوهة وناقصة. فقد كانوا يستكثرون على قدرته -سبحانه- أن يحيي الموتى ويبعثهم من جديد، وكانت تلك من أعقد مشكلاتهم "الفكرية" في شأن هذا الدين! {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 2. {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} 3.   1 سورة المؤمنون 84-89. 2 سورة يس 78. 3 سورة الإسراء 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 1. {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 2. وكانوا يتصورون أن لله -سبحانه- بنات هن الملائكة. وكانوا يتصورون أن بنات الله هؤلاء يتشفعن عنده لهم، وأن لهن كلمة عنده سبحانه مجابة! وكانوا يتصورون أن الأصنام التي يعبدونها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها تعلم الغيب، فيستشيرونها في الخروج والقعود، وأنها تضر وتنفع مع الله، وأنها تبارك الرزق والأولاد حين ترضى، وتمحقهما حين تغضب، ولذلك كانوا يسترضونها بالقرابين والنذور ... وكل تلك أخطاء في التصور الاعتقادي ينبغي تصحيحها في نفوسهم لتستقيم عقيدتهم في الله. ولكن الأمر ذا الدلالة كما قلنا أنه لم يتخذ معلوماتهم "الصحيحة" التي يعرفونها عن الله رصيدًا يكمل عليه، بل بدأ معهم من نقطة الصفر، بل الأكثر دلالة أن هذه المعلومات الصحيحة ذاتها هي التي أكد عليها القرآن تأكيدًا شديدًا, بما يوحي -كما قلنا- أنه يستنبتها من جديد، من بذرة جديدة تمامًا غير البذرة الفاسدة التي كانت قد تعفنت في قلوبهم وصارت غير صالحة للاستنبات. في دلالة ذلك على وجه التحديد؟ دلالته أن المعرفة "الذهنية" ليست هي المعرفة التي يريدها أو يعترف بها الإسلام. فإنها معرفة سطحية وميتة، لا تفعل شيئًا في واقع الحياة، ولا تؤثر شيئًا في سلوك الإنسان. وإذن فوجودها كعدم وجودها سواء. بل ينبغي أن تنتزع البذرة الفاسدة كلها بما بقي فيها من أجزاء سليمة، وتستنبت البذرة السوية كلها من جديد.   1 سورة سبأ 7. 2 سورة هود 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 يؤكد هذه الدلالة ما قرره القرآن على لسان يوسف عليه السلام بشأن مصر على عهد يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 1. والمعروف عن المصريين أنهم كانوا "يعرفون" الآخرة، ويؤمنون بأن هناك بعثًا وثوابًا وعقابًا في يوم هائل مروع تصفه كتبهم وكتاباتهم على جدران المعابد والآثار. ولكن القرآن اعتبر معرفتهم هذه غير موجودة، واعتبرهم كافرين بالآخرة بذلك التوكيد الذي يعبر عنه أسلوب القرآن: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} ، وذلك لأن معرفتهم النظرية المتوارثة عن الآخرة لم يكن لها وجود حقيقي في واقع حياتهم، فهم -مع هذه المعرفة النظرية- يعبدون الفرعون من دون الله. ولو كان علمهم بالآخرة حقيقيًّا وكان يعطي فاعليته الحقيقية، لعبدوا الله وحده، صاحب ذلك اليوم الآخر، ولم يشركوا معه عبادة الفرعون. المعرفة النظرية الذهنية الباردة الميتة إذن شيء، والمعرفة الحية التي تنبع من الوجدان فتنفعل بها النفس كلها وتعطي تأثيرًا معينًا في السلوك الواقعي شيء آخر، هي ما يطلبه الإسلام بالذات، ويستنبته في قلوب الناس ليصبحوا مسلمين. وبذلك يزول العجب من ذلك الأمر: أن القرآن سجل على العرب معرفتهم بأن الله هو الخالق المدبر، ثم ألغاها البتة، وبدأ معهم من جديد! لا عجب حين نعلم أن المعرفة الأولى ليس لها أثر واقعي في الحياة, والمعرفة الثانية -الحقيقية- هي ذات الأثر البالغ الحاسم في حياة البشرية. كيف توصل القرآن إلى استنبات البذرة الحية الجديدة للعقيدة في نفوس المؤمنين؟ إن للقرآن طريقته الخاصة في لمس القلوب واستجاشة وجدانها إلى حقيقة الألوهية.   1 سورة يوسف 37-38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وإن القسم الأكبر من السور المكية منصب على التعريف بحقيقة الألوهية، والقسم الأكبر من التعريف بحقيقة الألوهية منصب على عرض آيات القدرة القادرة التي لا يعجزها شيء في السموات ولا في الأرض، في الخلق ثم في الموت والحياة، وإحداث الأحداث وتدبير الأمر وعلم الغيب. وتلك هي منافذ العقيدة الفطرية التي أودعها الله في الفطرة لتتنبه إلى خالقها، وتتوجه إليه بالعبادة. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1. ولا نعلم نحن كيف أخذ الله على البشر ميثاق الفطرة ولا متى تم ذلك. ولكننا نعلم أن في الفطرة هذه المنافذ، تلجئها إلجاء للبحث عن الخالق والتوجه إليه. فالكون بضخامته الهائلة، وبدقته المعجزة التي لا يختل فيها شيء قيد شعرة, وظاهرة الموت والحياة, وظاهرة حدوث الأحداث وتواليها, ورغبة الإنسان في معرفة الغيب وعجزه عنها، ورغبته في السيطرة على كل شيء وعجزه عنها؟ كل أولئك يوقظ الفطرة إلى وجود الخالق الذي خلق الكون بضخامته وبدقته، والذي يحيي ويميت، والذي يحدث الأحداث ويدبر الأمر، والذي يعلم الغيب، والذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض. ولكن حس الإنسان يتبلد بالإلف والعادة، فيفقد التأثر بالشحنة الحية المؤثرة التي تهز المشاعر وتحول السلوك. فيجيء القرآن -بطريقته الخاصة- فينفض الركام عن الفطرة، ويزيل التبلد الذي يحدثه الإلف والعادة، كأنما يكشف أعصاب الحس لتتلقى الشحنة كاملة كما تلقتها أول مرة، فيهتز الوجدان وتنفعل النفس. ويحدث الأثر المطلوب! 2 وتلك خاصية القرآن! والقرآن هو أداة التربية الإسلامية الأولى حين يتلقاه الإنسان بقلب متفتح، فيتلقى منه الشحنة المقدسة التي أودعها الله فيه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 3.   1 سورة الأعراف 172. 2 انظر فصل "الإيمان بالله" في كتاب "دراسات قرآنية". 3 سورة ص 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1. ومن أجل هذا -وغيره- يوجب الإسلام على المسلمين قراءة القرآن وتدبر آياته، فهو معين التربية الأول، ومعين الحياة. هذه المعرفة الحية بالله، بصفاته التي يعرفه بها القرآن، أنه الخالق البارئ المصور، الرزاق الضار النافع المحيي المميت، صاحب اليوم الأول واليوم الآخر.. هذه المعرفة هي اللبنة الرئيسية في التربية الإسلامية، لا شيء قبلها، وكل شيء بعدها يجيء. ومما له دلالة بارزة في منهج التربية الإسلامية أن درس العقيدة لم ينقطع بانتهاء الفترة المكية، بل استمر حتى بعد تكون الدولة المسلمة في المدينة، وبعد رسوخ الإيمان في قلوب المؤمنين، إلى حد القتال في سبيل العقيدة، والاستشهاد في سبيل الله! كل الفرق أنه بعد أن كان الدرس الوحيد في السور المكية صارت معه دروس أخرى في المدينة، من تشريعات وتوجيهات وتنظيمات وتوعية سياسية وإعدادات لمعركة لا إله إلا الله؛ وأنه بعد أن كان الدرس يلقن هناك على سبيل التأسيس، صار يلقن هنا على سبيل التذكير، بعد أن ترسخت قواعده هناك. ولكن استمرار تلقين الدرس للمؤمنين بعد أن آمنوا هو الأمر ذو الدلالة الهامة، لأن معناه أن هذا درس لا ينتهي أبدًا مهما كانت حالة المؤمن من الإيمان.. فلا بد من التذكير الدائم حتى للمؤمنين.. والله هو خالق هذه الفطرة والعليم بمساربها ومسالكها، وما هي في حاجة إليه لتقويمها, وإصلاح ما ينحرف منها، فإذا ظل يذكر المؤمنين بالعقيدة وهم مؤمنون فلأنه يعلم ثقلة الأرض وجاذبيتها، وحاجة الناس إلى الجهد الدائب والتذكير الدائم لموازنة ثقلتها. ولأنه يعلم أن الشياطين إنما تتلقف الغافلين! تلك المعرفة الحية من شأنها أن تربط القلب البشري بالله.   1 سورة محمد 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 فأين يذهب القلب البشري بعيدًا عن الله، وهو معه أينما كان، في صحوه ونومه، في يقظته وغفلته، في إقباله وإدباره، لا يغيب منه شيء عن علم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؟ أين يذهب من علمه الشامل ومن حسابه الشامل كذلك، وهو يحاسب على الصغيرة والكبيرة ويجزي بها في يوم القيامة. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 1. ذلك هو وجدان التقوى الذي يعمر قلوب المؤمنين. ولكن القلب المؤمن وإن كان يخشى الله فهو يحبه في ذات الوقت: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2. فالله هو الرءوف الرحيم. وهو الرب الودود الغفور. وهو الذي يرعى البشر ويهديهم إليه، ويرزقهم من الطيبات ويمنحهم من النعم ما لا يستطيعون أن يحصوه. ومن خيطي الخشية والرجاء يتعلق القلب البشري المؤمن تعلقًا دائمًا بالله.. فيكون ذلك هو المعين الأول للتربية الإسلامية، وذلك هو الأثر المباشر لمصاحبة القرآن, وتدبر القرآن3. فلنحاول أن نلقي نظرة في داخل قلب من تلك القلوب التي آمنت بالله، لنتعرف على مسار الإيمان في ذلك القلب، ونتعرف على آثار التربية الإسلامية فيه. كيف صنعت العقيدة الصحيحة في ذلك القلب، وكيف أثرت في سلوكه العملي؟ لقد كان، قبل لحظات من إيمانه، فردًا من أفراد هذا المجتمع الجاهلي، يفكر بتفكيره، ويشعر بمشاعره، ويتصرف بمفاهيمه وعاداته وسلوكه, ويعطي نفسه مكانه فيه في القمة أو الحضيض بحسب دستوره وشريعته السائدة، وعلى مقتضى القواعد والقيم التي يضعها ذلك الدستور، فإن كان ذا مال وبنين   1 سورة الزلزلة 7-8. 2 سورة الإسراء 7. 3 انظر إن شئت فصل "تربية الروح" في الجزء الأول من كتاب "منهج التربية الإسلامية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وحسب ونسب فهو في مركز من مراكز القيادة، وإن كان صفر اليدين فهو مجرد واحد من القطيع. اهتماماته هي اهتمامات هذا المجتمع الجاهلي: القبيلة ومفاخرها، و"أيامها" ذات الذكر، وهل باتت مغلوبة أم غالبة، وتجارته إن كان صاحب تجارة أو السعي على قوته إن كان من الفقراء المستضعفين في الأرض. وسهرة الليلة الماضية وسهرة الليلة إن كان من أصحاب السهرات.. أو هموم الليلة الماضية وهموم الليلة إن كان من أصحاب الهموم ... وهذه وتلك كلها في محيط الأرض ومحيط الحس القريب. والأرباب المختلفة ذات مطالب دائمة تشغل الحس وتؤرق النفس، أو في القليل تحفزها لأدائها: ربوبية الأصنام المعبودة، وربوبية القبيلة، وربوبية العرف الموروث من الآباء والأجداد، وربوبية الشهوات. كلها تتنازع نفسه وحسه، وتخضعه لها واعيًا أو غير واع. ثم.. آمن. أي انقلاب هائل حدث في نفسه لحظة إيمانه؟! إنه -في الحق- أعظم انقلاب يمكن أن يحدث في القلب البشري.. بل في الكون كله! إنه -لتوه- قد أزاح عن قلبه ربوبية كل الأرباب ... حين عرف رب الأرباب. في لحظة أنجابت الغاشية، ورأى الأمر على حقيقته.. إنه لا وجود البتة لكل تلك الأرباب التي كانت تستعبده من قبل وتخضعه لسلطانها! إنها وهم هائل كان يعشش في نفسه وفي خياله، ويفعل فعله الكامل كأنه ذو وجود حقيقي، بينما هو في الحقيقة غير موجود! وإله واحد هو الإله الحق، وهو صاحب هذا الكون كله، وصاحب الوجود الحقيقي بين كل هذه الأرباب المدعاة. وفي لحظة.. لحظة الإيمان.. تنجاب من "خانة" العبادة في النفس كل تلك الآلهة المزيفة ويلقى بها في العدم، وتملأ الخانة في التو عبادة واحدة مشرقة مضيئة.. عبادة الله. وتتغير محاور الثقل في داخل النفس., الثقل الأكبر أصبح الآن للعقيدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 الصحيحة.. لله. وبقية الأشياء تراجعت أو فقدت ميزانها البتة، ولم تعد هي المسيطرة على الوجدان. وتغيرت الصورة. لقد كانت صورة الوجود في حسه مبهمة غامضة غير ذات دلالة: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 1. وهذه الأرباب المتعددة، كل منها يحكم جانبًا من هذا الكون حسب اختصاصه! ويحكم بالتالي جانبًا من القلب البشري! والأمر فوضى أو قريب من الفوضى في الحس وفي الكون. لا رابط ولا ضابط. يستطيع الإنسان أن ينفلت كما يشاء. إلا من سلطان الأرباب المتسلطة: الأصنام والقبيلة وعرف الآباء والأجداد! وكل شيء يعمل، أو كل شيء ينقضي فقد انقضى بلا رجعة. أو إن كان هناك عقاب من الله وثواب، فهو في هذه الدنيا. ومن ثم فإن كان ذا مال وبنين فقد أكرمه الله -لطيبته- وإن كان قد قدر عليه رزقه فقد أهانه الله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} 2. تلك كانت الصورة.. ثم تغيرت الصورة. إن الكون -كون الله- محكم التدبير لا يتم فيه شيء على الإطلاق إلا بقدر من الله، وتدبير ومشيئة. كل شيء محسوب بدقة معجزة. الليل والنهار. والشمس والقمر، والموت والحياة. والمال والبنون. والرزق المبسوط والرزق المقدور. لا شيء يحدث من تلقاء نفسه، ولا شيء يحدث فوضى بلا تدبير. ولا شيء يمضي بغير رجعة.. فكل شيء أحصاه الله في كتابه، ويخرج الكتاب يوم القيامة للناس فيحاسبهم بمقتضى ما سجل فيه من أعمال ومشاعر وأفكار، وهو المطلع على الأعمال والمشاعر والأفكار: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 3.   1 سورة الجاثية 24. 2 سورة الفجر 15-16. 3 سورة طه 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 وأي شيء أخفى من السر؟! إلا خطرات القلب التي يكتمها صاحبها في قلبه، أو التي لا يدرك هو وجودها ومع ذلك يعلمها الله! وحين تتغير الصورة فلا بد أن يتغير السلوك. لقد كانت آلهة قائمة في حسه، يؤمن بوجودها فيتوجه إليها بلون من ألوان العبادة في صورة شعائر تعبدية أو صورة اتباع. واليوم انجابت عن حسه تلك الآلهة المزعومة ولم يعد في قلبه إلا الله. فلا توجه إذن لتلك الآلهة، والتوجه كله إلى الله، ولا شعائر تعبدية ولا اتباع. لقد خلا حسه تمامًا من أي شريك لله، في خلق أو رزق أو إحياء أو إماتة أو ضر أو نفع أو تدبير للأمر. ومن ثم فرغت من حسه كذلك كل التوجهات التي كان يتوجه بها إلى الشركاء. وحل محلها توجه واحد هائل شامل إلى الله، الذي يحبه ويخشاه. ثم.. لقد أحس بحب هائل عميق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هداه إلى هذا الحق، والذي يأتيه بوحي السماء. وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشخصية محببة في ذاتها، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض. والعظمة دائمًا تحب, وتحاط من الناس بالإعجاب, ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها التصاقًا بدافع الإعجاب والحب. ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضيف إلى عظمته المحببة تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس, وذلك بعد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه. فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضًا لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المبجل المكرم؛ ومن ثم يلتقي في شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- البشر العظيم والرسول العظيم، ويلتقي في حس المؤمن حب البشر العظيم والرسول العظيم, ثم يصبحان شيئًا واحدًا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية. حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول. ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 هذا الحب الذي يحرك حياته كلها هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه. كل شيء في التربية بعده سهل، مهما كان صعبًا في ذاته. فأما إن لم يوجد، فستكون أي تربية إلا أن تكون هي التربية الإسلامية! يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" 1. ويقول: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" 2. ثم لقد أحس ذلك المؤمن من لحظته أن هذا المجتمع الجاهلي ليس مجتمعه! ليس هناك ما يربطه به. ولا وجهته هي وجهته، ولا أفكاره ومشاعره هي أفكاره ومشاعره، ولا قاعدة حياته هي قاعدة حياته. إنه لم يعد من هذا المجتمع على وجه التأكيد. لقد كان إلى ما قبل لحظة إيمانه جزءًا منه، مترابطًا ومتفاهمًا معه، يتكلمان لغة فكرية وشعورية وعقيدية وسلوكية واحدة. أما منذ تلك اللحظة فقد انقطع الخيط بينهما، ولم يعد بينهما لغة مشتركة تتفاهم بها المشاعر والقلوب. لقد أنكر مجتمعه كما أنكر ذاته نفسها حين كانت قطعة من هذا المجتمع. لقد ولى وجهة جديدة، وأصبح له طريق جديد.. فما يلتقيان. وهل كان له طريق من قبل؟ نعم. إذا اعتبرنا مجموعة الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك اليومي "طريقًا" من أي نوع.. ولكنه الآن وقد وجد الطريق الحق لا يحس أنما كان له طريق! يحس أنه كان هائمًا على وجهه بغير وجهة. يحس أنه كان ضائعًا بغير غاية. يحس أنه لم يكن له وجود حقيقي إنما كان هو ذاته مجموعة من الأوهام لا يربطها كيان.   1 أخرجه البخاري. 2 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وكما يدرك من صورة نفسه قبل أن يجد الطريق الحق، الواضح المعالم، المستقيم الخطى، المحدد الغاية، فإنه هكذا ينظر الآن إلى هذا المجتمع الذي كان من قبل قطعة منه. يراه هائمًا على وجهه بغير وجهة. ضائعًا بغير غاية. ليس له وجود حقيقي إنما هو مجموعة من الأوهام. ويحس لتوه بالافتراق عن هذا المجتمع.. كل منهما يمشي في طريق. أو أنه هو يسير في طريقه المحدد، والمجتمع يهيم في غير طريق. وتتقطع الأواصر بينه وبين هذا المجتمع ولو كانت أواصر القربى! ما الذي يربطه اليوم بهؤلاء القوم، وهم على عمايتهم وجهلهم بالحقيقة الكبرى التي أنعم الله عليه بمعرفتها: حقيقة الألوهية؟ إنه يحس هذه الحقيقة ملء كيانه كله، ثم يرى القوم خواء منها، تعشش في وجدانهم في مكانها خرافات ما أنزل الله بها من سلطان. لقد كان مثلهم تملأ وجدانه الخرافة، ولكنه اليوم وقد تفتحت بصيرته ينظر بعين جديدة صادقة النظرة نافذة إلى الحقيقة، فيستنكر تلك الخرافة ويستبشعها ويستعيذ منها. ويحمد الله على أن نجاه منها وهداه إلى سواء السبيل. ويتجه قلبه لتوه إلى كيان آخر، يلتصق به ويحس أنه أصبح قطعة منه، ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه، التي أدركت تلك الحقيقة الكبرى، فالتقت قلوبها ومشاعرها عليها. نعم.. هنا متجهه وههنا ارتباطه. هذا هو الجو الذي يستطيع أن يتنفس فيه فلا يحس الاختناق، ويجد اللغة المشتركة يتحدث بها إلى الآخرين. ولكن.. ههنا عجيبة أخرى لم تكن من قبل! هذا مجتمع جديد أصبح قطعة منه. نعم. ولكن ما بال هذه المشاعر الجديدة التي لم يكن يجد مذاقها من قبل، وما بال هذه الأواصر التي لا يعرف لها مثيلًا فيما مضى من حياته؟! مجتمع من نوع جديد؟؟ ألم يكن يعيش في مجتمع من قبل؟ وكان بينه وبينه تفاهم ومودة والتقاء في الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 بلى! ولكن على أي شيء كان يجتمع الناس في مجتمع الجاهلية، وفيم يجتمع اليوم مع إخوته في الله ورسوله؟ ألا إنها إذن هي الأخوة هنا.. حيث لم تكن هناك. لقد كان يجتمع مع لدات له من قبل في المجتمع الجاهلي. ففيم كانوا يجتمعون؟ يسمرون مثلًا.. في لحظات الصفاء؟ نعم! ولكن كل منهم مشغول بذاته. مشغول بإبرازها خشية أن يبرز أحد ذاته أكثر منه، فيتميز في المجلس بشيء! أو.. ينسون أنفسهم في مجلس لهو وشراب فارغ الحديث! أو يلتقون أو يتصارعون على مصالح التجارة! أو يلتقون في حلف قبيلة وقبيلة ضد غيرها من القبائل، فيدبرون معًا خطة العدوان! أو يروون الشعر أو يتفاخرون بالأنساب! تلك دنيا لقائهم.. وتلك مشاعر اللقاء.. أما اليوم فشيء آخر لم يذق طعمه من قبل أبدًا.. إنها الأخوة.. إنه الحب.. إنه الترابط والالتصاق! يالله! كيف لم يدرك من قبل وهو في جاهليته أن تلك المشاعر التي يتبادلها مع أقرانه ولداته ليست صافية حقًّا، وإنما يشوبها الهوى، وتشوبها المصلحة، ويشوبها حب كل منهم لذاته وحرصه على إبرازها؟ لقد كان يمارس تلك المشاعر من قبل فلا يحس بكدرها، ويظنها -هكذا- صافية رائقة رائعة. ويتحدث بهذا في شعره على أنها مثل عليا في مكارم الأخلاق! واليوم، وقد رأى الصفاء الحقيقي وأحسه، ومارس مشاعر الأخوة مع إخوته في الله ورسوله.. اليوم فقط يدرك حقيقة مشاعر الأمس، ويدرك أن أعلاها وأروعها لم يكن صافيا في الحقيقة إنما كان مشوبًا بالأكدار! هنا مشاعر من لون جديد في هذا المجتمع الجديد. لا مصالح هنا ولا تجارة ولا لهو ولا سمر يجنح فيه كل واحد إلى إبراز الذات. هنا حب. كل منهم يحب الله ورسوله، ثم يلتقي بأخ له يحب الله ورسوله، فتتعانق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 -لتوها- أرواحهم، وتلقي -لتوها- قلوبهم، كل منها يأخذ من معين واحد، فتلتقي كلها على المعين، وعلى الأخذ من المعين! نعم. إنه لقاء مزدوج ولذلك هو عميق.. إنهم التقوا أولًا لأن كلًّا منهم جاء إلى الله ورسوله يتلقى منه، ويهتدي بهديه، ويتوجه إليه. فالتقوا على المعين. ثم إن أخذهم كلهم من معين واحد، في وقت واحد، بطريقة واحدة، أوجد رابطة جديدة بينهم عمقت في نفوسهم ذلك اللقاء، وذلك الالتقاء، فصاروا كأنهم روح واحد في أجسام متعددة، أو قلب واحد ينبض في أكثر من كيان. وتمت بالتقائهم على هذا النحو خطوة جديدة من خطى التربية الإسلامية! كانت الخطوة الأولى هي حب الله ورسوله. والخطوة الثانية هي الالتقاء على حب الله ورسوله. ما الجديد في هذه الخطوة؟ وما أثرها في "التربية" التي هي موضوع حديثنا هنا؟ وما الفرق بينها وبين الخطوة الأولى؟ إن المخلوق البشري كما خلقه الله كائن ذو شعبتين في آن واحد، ملتقيتين بلا انفصال ولا تعارض في هذا الكيان. شعبة فردية ذاتية، وشعبة جماعية "غيرية".. كلتاهما جزء منه، وهو يتكون منهما جميعًا، ولا بد أن تعملا معًا ليتكامل كيانه. من أجل ذلك لا يمكن أن يتربى الإنسان تربية حقيقية متكاملة إلا في جماعة. وعلى أهمية التربية الفردية إلى أقصى مدى الأهمية، فإنها وحدها لا تنشئ كيانًا سويًّا للإنسان، لأن هناك جوانب من النفس البشرية لا تنضج ولا تعمل إلا في داخل جماعة فيها أفراد آخرون غير ذات الإنسان. فإذا لم يلتق الإنسان بالجماعة أو لم يتعود التعامل معها، فستظل هذه الجوانب كامنة معطلة غير مدربة على العمل، فتنكمش وتتضاءل، كما ينكمش ويتضاءل كل عضو لا يستخدم في جسم الإنسان. كيف تتعامل مع الآخرين؟ هل تبدأ نحوهم بمشاعر الحب؟ هل تبدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 بمشاعر الكراهية؟ هل تبدأ بمشاعر محايدة لا حب فيها ولا بغض؟ هل تبدأ بشعور من عدم المبالاة، يستوي عندك أن تعرفهم أو لا تعرفهم، أن يكونوا سيئين أو يكونوا طيبين؟ تلك أنواع أربعة متباينة من المشاعر في بدء التعامل، وهي كلها بدائل على خط واحد من خطوط الاتصال. وهناك بدائل أخرى على خطوط أخرى: هل تعاملهم باستعلاء؟ هل تعاملهم بتواضع لإحساسك بأنك أقل منهم؟ هل تعاملهم على أنهم أنداد لك؟ هل تعاملهم بتواضع وأنت على ثقة من نفسك؟ تلك أربعة بدائل أخرى على خط الإحساس بالذات. هل تعاملهم وفي حسك أن تسيطر عليهم وتتزعمهم وتخضعهم لك؟ هل تعاملهم وفي حسك أن تخضع لهم وتذوب فيهم؟ هل تعاملهم وفي حسك أنه لا سلطان لك عليهم ولا سلطان لهم عليك؟ تلك ثلاثة بدائل أخرى على خط الإحساس بالسلطان "وهو غير الإحساس بالذات, وإن كان مشتركًا معه في بعض مظاهره. ولكن لتوضيح الفارق بينهما نقول: إنك قد تعامل الناس باستعلاء وليس في نيتك أن تسيطر عليهم، لأنك تحس إحساسًا مضخمًا بذاتك دون أن تكون لديك نزعة السلطان. ومن هذا النوع أشخاص ممن يسمون أنفسهم أدباء وفنانين ومفكرين! يستعلون على الناس ولكنهم لا ينزعون إلى السيطرة عليهم، بل قد يعتزلون الناس عزلة كاملة"! ثم، هل تتعامل معهم بجفوة دائمة؟ أم تتعامل معهم برقة دائمة؟ أم تتعامل معهم حسبما يقتضيه موقفهم؟ تلك بدائل ثلاثة على خط "المزاج" النفسي للإنسان. ثم، هل تنزع إلى التعاون معهم إذا حدث ما يستدعي التعاون؟ أم تنكمش عن التعاون ضنًّا بجهدك عليهم؟ هذان بديلان على خط الأنانية والغيرية. وهل تسارع إلى تقديم المعونة أم تتثاقل في تقديمها؟ هذان بديلان على خط المزاج النفسي ولكن من جانب آخر غير جانب الجفوة والرقة. وهكذا.. وهكذا.. عشرات من البدائل على عشرات من الخطوط في ألوان مختلفة من التعامل مع الآخرين. متى تنضج هذه "العمليات" النفسية وكيف تنضج إن لم تكن في داخل الجماعة؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 و"الجماعة" من الوجهة الشرعية واجب لا يتم الإيمان إلا به. ولكننا هنا نتحدث في مجال متخصص هو مجال التربية. فنقول إنها واجب لأنه لا يمكن أن يتم البناء النفسي والأخلاقي الصحيح للإنسان إلا في داخل الجماعة، حيث يبرز الجانب الجماعي من الإنسان بصورة تلقائية بحكم ضرورة "التعامل" مع الآخرين، وحيث يمكن للمربي أن يلاحظ أسلوب التعامل، فيقوم ما قد يكون فيه من انحراف، أو يثبت ما يجده فيه من استقامة لكي يتأكد وجوده ولا يكون عرضة للانحراف عندما تضغط الظروف على المشاعر والوجدان. وقد يبدو الإنسان لطيف المعشر حلو الشمائل حين تلتقي به لأول وهلة لقاء محدود التعامل، أو لقاء في فسحة لا تحتك فيه المصالح ولا تحتاج فيه "الذات" إلى البروز. ثم تفاجأ به ذا جفوة وغلظة، أو ذا أنانية حادة، أو ذا نزعة إلى التسلط، أو كسولًا لا يتعاون مع الآخرين، حين تجمعك به ظروف تضطر الإنسان أن يكشف عن حقيقة ذاته.. وخاصة ظروف الضيق والشدة. وهي أشد ما يبرز حقيقة الإنسان. ومن هنا لا يستطيع المربي أن يعرف طبيعة الشخص الذي يربيه حتى يوجده في جماعة، ويرقب طريقة تصرفه إزاءها. ثم يقوم ما يحتاج في نفسه إلى تقويم. ونعود الآن إلى الجماعة المؤمنة، الملتقية في الله ورسوله، بعد أن أدركنا كيف أن التقاء هذه الجماعة على حب الله ورسوله كان خطوة تالية من خطى التربية الإسلامية، بعد خطوة الحب ذاته لله والرسول. الأول تكون الفرد بكيانه الفردي، والثانية تكونه بكيانه الجماعي، فيتكامل من هذه وتلك. لقد أحس ذلك المؤمن برباط من نوع جديد يربطه بهؤلاء الإخوة في الله ورسوله. إن كل واحد منهم يحب أخاه كنفسه. ولا هو من قبيلته، ولا بينهما آصرة الدم. بل إن آصرة الدم -حين كانت في الجاهلية- لم تكن تنشئ في نفسه ذلك الحب الصافي العجيب الذي يحسه الآن لأخيه في العقيدة الذي لا تربطه به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 آصرة الدم. وكم من صراع ومنافسة وتحاسد وتباغض كان يكون قاعدة المشاعر بين من تربطهم أواصر الدماء. وإن تظاهروا بالمحبة رئاء الناس! أما هنا فلا تحاسد ولا تباغض. ولكن مودة ومحبة وإيثار. حقًّا إنها أقوى من روابط الدماء! ثم إن لقاءاتهم السرية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تزيدهم ترابطًا وألفة ومحبة. إن اللقاء في الفسحة قد ينشئ مشاعر طيبة في نفوس الناس. ولكن المحك الحقيقي هو اللقاء في الضيق! فإن تمت المودة في اللقاء على الضيق فهي المودة الأصيلة الباقية الثابتة؛ لأنها الخلاصة الصافية من مشاعر النفوس. وذلك هو الذي كان. والذي أحسه ذلك المؤمن وهو يلتقي بإخوته في دار الأرقم، مستترين فيه من بطش قريش! ما الفرق بين لقاء الجاهلية ولقاء الإسلام؟! لماذا أحس ذلك المؤمن بتلك المشاعر الصافية التي لم يكن يحسها من قبل، ولماذا لا تتذوق الجاهلية طعم هذه المشاعر ولا تتوصل إليها؟ لماذا لا توجد تلك المشاعر إلا على العقيدة؟! إن الأمر ليس سرًّا غامضًا ولا سحرًا، وإن كان أقرب في نظر الناس إلى السحر! في الجاهلية يتلاقى الناس وقد أبرز كل منهم ذاته بادئ ذي بدء بحثًا عن مصلحته. فلا تتلاحم المشاعر ولا القلوب. لأن هذه البروزات يحتك بعضها بعض، في العلانية أو تحت السطح، فتمنع التلاحم الحقيقي، ولو التصق بعضها ببعض -على المصلحة- فترة من الزمان. وفي الإسلام يلتقي الناس على العقيدة في الله. يلتقون لأن كلًّا منهم يحب الله ورسوله. فلا تكون ذواتهم بارزة ولا متوفرة لاقتناص المصلحة من الآخرين. إنما يكون الجانب البارز هو الحب. والحب عنصر سريع التلاحم شديد الالتصاق. والإنسان المؤمن ليس في حاجة إلى توكيد ذاته بالبروز الزائد عن الحد. إنه موجود بالفعل، مطمئن إلى وجوده، يجد ذاته متكاملة في هذه العقيدة، ويطمئن قلبه بذكر الله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 1. ومن ثم يتعامل تعاملًا سويًّا مع الآخرين، ويستطيع التلاحم معهم في يسر، لأنه في حيزه الطبيعي بلا زيادة. ولكن الإنسان الجاهلي يبحث عن وجوده الحقيقي فلا يحسه -وإن زعم لنفسه أنه موجود- ومن ثم ينتفخ أكثر من حقيقته لعله يحقق ذلك الوجود المفقود! ويلتقي الناس ببروزاتهم وانتفاخاتهم المريضة تلك. فلا يلتحمون. بل إن الأمر أعمق من ذلك وأعجب في شأن هذه العقيدة وما تنشئه من تلاحم في القلوب والأرواح. إن الإنسان المؤمن لا يكتفي بأنه لا يلجأ إلى الانتفاخ الزائد لإثبات وجوده بل إنه -من حبه لله ورسوله، وحبه لأخيه الذي التقى به في الله ورسوله- ليحب أن يؤثر أخاه على نفسه، فيأخذ أقل من حيزه الطبيعي الذي يحق له أن يشغله، فتوجد دائمًا فسحة في المشاعر، لا تمنع الاحتكاك فحسب، بل تبعده كذلك عن الحدوث! وذلك من معجزات العقيدة، ومعجزات التربية على العقيدة: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ! 2. ثم إن هذا الالتقاء في الله ورسوله، فوق تربيته مشاعر الحب، وهي العنصر الأسمى في كيان الإنسان، فإنه يضاعف رصيد كل واحد منهم من الخير المستقى من الإيمان.. كأنما كل واحد منهم يتلقى ذلك الخير من خلال نفوس إخوته بالإضافة إلى نفسه، فتضاعف الحصيلة لكل منهم بذات الجهد المبذول! وتلك تجربة واقعية يعرفها كل من مارس الحياة في جماعة تؤمن بالله ورسوله، وتلتقي على حب الله ورسوله. مجرد التقاء الأخوة يضاعف رصيد كل منهم من الإيمان، ويضاعف   1 سورة الرعد 28. 2 سورة الحشر 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 استعداده لتلقي مزيد من الخير والانفتاح على مزيد من الآفاق! كيف يحدث ذلك؟ إنه كذلك ليس سرًّا غامضًا ولا هو بالسحر، وإن بدا في نظر الناس أقرب إلى السحر.. إن "المشاركة الوجدانية" حقيقة نفسية معروفة، وحين تكون المشاركة في الخير، يتضاعف الخير! ويتضاعف نصيب كل واحد من الخير! إن رؤية أخ لك على الهدى يؤنس طريقك، ويشعرك أنك لست وحدك على الطريق. ثم إن ممارسة الأخوة معه في صورة واقعية تعمق مشاعر الأخوة في نفسك في كل مرة، فتحس في كل مرة أنك تعيش الإسلام بالفعل من خلال مشاعر الأخوة تلك، فيزيد رصيد المشاعر الإسلامية في نفسك. ثم تتعاونان على الخير، في جو المودة الذي يجمعكما، فينضاف إلى الرصيد معنى آخر من معاني الإسلام -هو التعاون على البر والتقوى- فيتضاعف الرصيد في نفس كل منكما. وهكذا في سلسلة متصلة الحلقات تعمق مشاعر الإسلام في النفس, ويتضاعف رصيد الإنسان الواقعي منه، كما يلتقي الصوت والصدى في مكان واحد فيتضاعف الصوت، أو كالمرايا العاكسة تزيد من قوة الضوء. والمربي الأعظم صلى الله عليه وسلم يتولى أصحابه بالرعاية. إن التربية -في عالمنا- موهبة وعلم وفن. موهبة تجعل إنسانًا من الناس، بتركيبه الجسمي والعقلي والنفسي والروحي، أقدر على التربية والتوجيه من إنسان آخر. وعلم وخبرة يتعلمهما الإنسان من الكتب أو من تجارب الآخرين أو من تجاربه هو الشخصية. وفن يطبق به العلم الذي تعلمه بصورة صحيحة تناسب الحالة التي أمامه. وقد أوتي المربي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- ذلك كله وأكثر منه، إلهامًا وعلمًا لدنيًّا من الله تبارك وتعالى، إذ صنعه على عينه ليكون للعالمين هاديًا ونذيرًا. إن المربي ينبغي أن تكون فيه صفات معينة تؤهله لهذه المهمة الخطيرة. ينبغي أولًا أن يحس الشخص الذي يتلقى التربية أن مربيه أعلى منه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وأنه منه -بالطبيعة- في موقف الآخذ المتلقي، لا في موقف الند، ولا في موقف أعلى من موقف المربي! وتلك حقيقة نفسية تعمل عملها تلقائيًّا في النفوس! فأنت لكي تتلقى، لا بد أن تقتنع أنك في موقف المتلقي، وإلا فلو أحسست أنك أنت في الموقف الأعلى فما الذي يدفعك أن تتلقى من شخص بعينه من الناس؟ والعلو أمر شامل يشمل مسائل كثيرة في وقت واحد، ويختلف من وضع إلى وضع. فقد يكون علوًّا روحيًّا، أو يكون تفوقًا عقليًّا، أو يكون تفوقًا أخلاقيًّا، أو نفسيًّا، أو عصبيًّا. أو حتى جسديًّا في بعض الأحيان، وتلك كلها من عناصر "الشخصية" الإنسانية، تزيد أو تنقص في كل شخص، وتكون في مجموعة ما نطلق عليه "شخصية الإنسان" فنقول باختصار: إن شخصية المربي ينبغي أن تكون أكبر من شخصية الذي يتلقى التربية على يديه. وبهذه المناسبة نقول: إنه مما ييسر على جميع الآباء تربية أطفالهم في السنوات الأولى أن شخصيتهم تكون -بالطبيعة- أكبر من شخصية أطفالهم، فيتلقى هؤلاء عنهم في سهولة طبيعية. ولكن تبدأ بعد ذلك المشاكل! فكلما كبر الطفل احتاج أن تظل شخصية الوالدين أكبر منه، وهنا يسقط بعض الآباء في الاختبار، إما لأن شخصياتهم ليست أكبر من أبنائهم بالقدر الكافي، وإما لأنها ليست أكبر منهم على الإطلاق! بل يحدث في أحيان نادرة أن يحس الطفل -الكبير- أن شخصيته أكبر من شخصية والديه، وهنا يرفض التلقي منهما ويتمرد عليهما! أما بالنسبة لتربية الكبار فالأمر أشق وأدق. فهو محتاج إلى "قيادة" وإلى "زعامة"، يحس الكبار أمامها أنهم أصغر من قائدهم، وأنهم في موقف التلقي منه لا في موقف الند ولا في موقف التوجيه. وينبغي أن يحس المتلقي ثانيًا أن مربيه -بالإضافة إلى أنه أكبر شخصية منه- عنده ما يعطيه. فليس يكفي أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي -وهي البديهية الأولى في عالم التربية- إنما ينبغي كذلك أن تكون عنده حصيلة يعطيها للآخرين في صورة تجربة واقعة. هناك شخصيات كبيرة لا تستطيع أن تعطي، ومن ثم لا تستطيع أن تربي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 هو في ذاته شخصية فائقة التكوين. متفوق عقليًّا أو روحيًّا أو نفسيًّا أو عصبيًّا أو أخلاقيًّا.. ولكنه -لسبب ما- لا يستطيع أن يعطي التجربة الواقعية. لأنه عزوف عن الناس. لأنه صاحب تجربة فكرية فقط بغير رصيد من التجربة الواقعة. لأنه رجل "مثالي" حالم يحلم بالمثل ولا يمارس التطبيق الواقعي أو لا يحسنه. إلى غير ذلك من الأسباب التي تشكل عيبًا في الشخصية, ولكنها لا تمنعها أن تكون كبيرة، أكبر من شخصية المتلقي، ومع ذلك تعجزها عن القيام بدور التربية والتوجيه. ومن الأمثلة المعهودة أن تجد أستاذًا جامعيًّا ممتازًا في علمه, ممتازًا في خلقه، ممتازًا في محاضرته. ومع ذلك فهو لا يستطع أن يربي، ولا أن يكون جيلًا من "التلاميذ" بمعنى الحواريين والأتباع. وينبغي ثالثًا أن يكون المربي -بالإضافة إلى كبر شخصيته "بالنسبة للمتلقي" وإلى أن عنده ما يعطيه- ينبغي أن يكون حسن الإعطاء. فمجرد أن يكون لديه ما يعطيه ليس كافيًا في شئون التربية، إنما ينبغي أن يعطيه بطريقة حسنه كذلك، وإلا ضاع الأثر المطلوب أو انقلب إلى الضد، حين يعطي المربي ما عنده بطريقة منفرة. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 1. نعم ينبغي أن يكون التقديم في صورة ترغب المتلقي في أن يتلقى، لا في صورة تنفره من التلقي. والضمان الأول لذلك هو الحب؛ فما لم يشعر المتلقي أن مربيه يحبه، ويحب له الخير، فلن يقبل على التلقي منه ولو أيقن أن عنده الخير كله. بل لو أيقن أنه لن يجد الخير إلا عنده! وأي خير يمكن أن يتم بغير حب؟! ولكن الحب وحده كذلك لا يكفي. فقد تحب طفلك وتحب له الخير، ولكن طريقتك في تقديم الخير إليه تشككه في حبك له، وتوهمه أنك تكرهه، وأن توجيهاتك له صادرة عن البعض لا عن الحب، لأنك تقدمها إليه في صورة فظة لا رفق فيها ولا لين. من أجل ذلك يمن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الموهبة النبيلة في شخصه الكريم:   1 سورة آل عمران 159. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 1. واللين مع ذلك ليس معناه ترك الحبل على الغارب حتى تصير الأمور فوضى، وإنما معناه فقط ما عبر عنه القرآن، عدم الفظاظة وغلظ القلب. أما الحسم فأمر ضروري مع اللين: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 1. فاللين في موضعه ضروري في عملية التربية. والحسم في موضعه كذلك ضروري على نفس المستوى. إنما المنهي عنه هو الفظاظة وغلظ القلب لأنها لا تأتي بخير، وتؤدي إلى الانفضاض بدلًا من التقويم. وإذن فطريقة العطاء مهمة كالعطاء ذاته، في مزيج من الحب والرفق والحسم، ومعرفة بمواطن اللين ومواطن الحسم، على قاعدة دائمة من الحب. وينبغي رابعًا أن يكون عند المربي المقدرة على الاهتمام بالآخرين، والاهتمام بأن يعطيهم ما عنده من الخير. هنالك شخص طيب في ذاته. وقد يكون عنده ما يعطيه، ولكنه لا يهتم بإعطائه للآخرين. لا لأنه يكرههم ولا يحب لهم الخير، ولكن لأنه عزوف يعيش في عزلة، أو كسول يكره الحركة. ذلك لا يصلح للتربية؛ لأن الاهتمام بالآخرين عنصر ضروري في التربية، من الجانبين جانب المربي وجانب المتلقي. أما المربي فإن فقد الاهتمام بالآخرين فلن يتجه أصلًا إلى التربية, فضلًا على كونه لا يصلح لها -ولو احترفها احترافًا- وأما المتلقي فلا يمكن أن ينشرح صدره للتلقي من شخص يحس في أعماقه أنه لا يهتم به! فالاهتمام والرعاية إذن عنصر ضروري من عناصر التربية لا بد أن يتوفر في المربي لكي ينجح في مهمته الخطيرة. وينبغي خامسًا أن يكون المربي قادرًا على المتابعة والتوجيه المستمر. فالاهتمام وحده لا يكفي إن كان اهتمام اللحظة العابرة, ثم ينقطع بانتهاء اللحظة أو انتهاء المناسبة. فالتربية عملية مستمرة لا يكفي فيها توجيه عابر   1 سورة آل عمران 159. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 -مهما كان مخلصًا ومهما كان صوابًا في ذاته- إنما يحتاج الأمر إلى المتابعة والتوجيه المستمر. إن المتلقي نفس بشرية وليس آلة تضغط على أزرارها مرة ثم تتركها وتنصرف إلى غيرها فتظل على ما تركتها عليه! نفس بشرية دائمة التقلب متعددة المطالب متعددة الاتجاهات، وكل تقلب، وكل مطلب، وكل اتجاه في حاجة إلى توجيه! وليست الحالة المستجدة فقط هي التي تحتاج إلى توجيه! إنما تحتاج هذه إلى توجيه جديد. أما الحالة التي حدثت من قبل مرة ومرات، وأعطيت التوجيهات فيها مرة ومرات، فهي ليست حالة منتهية! وليست في غير حاجة إلى توجيه! فالعجينة البشرية عجينة عصية تحتاج إلى متابعة دائمًا. وليس يكفي أن تضعها في قالبها المضبوط مرة فتنضبط إلى الأبد وتستقر هناك! بل هناك عشرات من الدوافع الموارة في تلك النفس، دائمة البروز هنا والبروز هناك، ودائمة التخطي لحدود القالب المضبوط من هنا ومن هناك، ولا بد في كل مرة من توجيه لإعادة ضبطها داخل القالب، حتى تنطبع نفس المتلقي بالتوجيه، فيقوم هو بذاته بعملية المتابعة والضبط بدلًا من المربي. ولكن لا يحدث أبدًا أن يستغني الأمر عن المتابعة والتوجيه والضبط، من المربي أو المتلقي سواء! ومن هنا مشقة التربية وخطورتها. وضرورتها في ذات الوقت. فإما هذا الجهد الدائب. وإما الضياع! والشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية, ولو كان فيه كل جميل من الخصال! وليس معنى التوجيه المستمر هو المحاسبة على كل هفوة! فذلك ينفر ولا يربي! فالمربي الحكيم يتغاضى أحيانًا, أو كثيرًا ما يتغاضى عن الهفوة وهو كاره لها؛ لأنه يدرك أن استمرار التنبيه إليها قد يحدث رد فعل مضاد في نفس المتلقي. ولكن إهمال التنبيه ضار كالإلحاح فيه. وحكمة المربي وخبرته هي التي تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي, والوقت الذي يحسن فيه التوجيه. ولكن ينبغي التنبه دائمًا من جانب المربي إلى سلوك من يربيه، سواء قرر تنبيهه في هذه المرة أو التغاضي عما يفعل. فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبه شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 آخر. أولهما قد يكون مطلوبًا بين الحين والحين. أما الثاني فعيب في التربية خطير. وينبغي سادسًا أن يكون المربي قادرًا على القيادة مع قدرته على المتابعة والتوجيه. والقيادة موهبة توحي للمتلقي أن يتلقى أولًا. وأن يطمئن لمن يتلقى ثانيًا. ثم أن يطيع. وبغير ذلك لا يكون للتوجيه جدوى ولا يتم من عملية التربية شيء، ولو كانت التوجيهات صحيحة، ولو كانت عند المربي القدرة على المتابعة والاهتمام. أن تصدر الأمر هذا وحده لا يكفي.. ولو كان الأمر صحيحًا في ذاته وضروريًّا في مناسبته. إنما ينبغي أن تكون لديك القدرة على جعل المتلقي ينفذ ذلك الأمر، وإلا فالنتيجة أسوأ من عدم إصدار أمر على الإطلاق! فحين تصدر الأمر للمتلقي ثم لا ينفذه استخفافًا بمن أصدر إليه الأمر. فقد انتهت المسألة وانقطع الخيط.. ولا جدوى في الاستمرار. حقًّا قد يحدث أحيانًا أن يكون العيب في المتلقي، لأنه عاص متمرد شاذ الطبع، وذلك أمر سنعرض له بإذن الله في غضون الكتاب. ولكنا هنا ونحن نتحدث عن المربي، نشير إلى هذه البديهية، وهي أن من يعجز عن القيادة لا يصلح للتربية، ولو كان في ذاته شخصًا طيبًا مشتملًا على كل جميل من الخصال.. وليس كل إنسان طيب الخصال قادرًا على القيادة ولا الزعامة، ولا مطالبًا بها كذلك! فهي أصلًا موهبة لدنية، تصقلها التجارب وتزيدها مضاء وقدرة، ولكنها لا تنشئها حيث لا تكون! وقد يكون الأمر هينًا بالنسبة للآباء وهم يربون أطفالهم، فهم قادرون على فرض إرادتهم عليهم بطريقة ما، وإن كانوا كثيرًا ما يسيئون التصرف فيفسدون أطفالهم في النهاية من حيث يريدون لهم الخير. أما بالنسبة لتربية الكبار فالأمر مختلف، وخاصة حين يكون الأمر أمر دعوة لا أمر سلطان. هنا يتحتم أن يكون المربي قادرًا على القيادة، وأن يكون له من شخصيته ما يفرض طاعته على الناس بغير سلطان. وقد كان يمكن أن نجعل هذا البند السادس جزءًا من البند الأول المتعلق بالشخصية. فالقدرة على القيادة فرع عن الشخصية القوية، ولكن هناك حالات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 تكون فيها الشخصية قوية في ذاتها, ومع ذلك تكون عاجزة عن القيادة لفظاظة أو عزلة وعزوف عن الناس.. وسبحان موزع الطاقات وموزع الأرزاق! هذه الخصال الست: أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي، وأن يكون عنده ما يعطيه، وأن يحسن طريقة العطاء، وأن يكون له القدرة على الاهتمام بمن يربيهم، والقدرة على المتابعة والتوجيه الدائم، والقيادة التي تقدر على فرض الطاعة. هذه هي الخصال الضرورية للمربي - أي مرب- لكي يتمكن من القيام بمهمته الخطيرة في تربية الآخرين. طفل واحد يتربى في حاجة إلى هذه الخصال الست، كأمة كاملة تتربى. ولكن شتان في الدرجة بين الطفل الواحد والأمة الكاملة. كلما زادت رقعة التربية وزاد عدد المتلقين كانت الدرجة المطلوبة من هذه الخصال أكبر. فكل إنسان قد يصلح -جوازًا- أن يكون مربيًّا في حدود بينه وأطفاله "وإن كان كثير من الآباء في الحقيقة يعجزون! ". ولكن تربية أربعين طفلًا في فصل من مدرسة مهمة تحتاج إلى موهبة أكبر، وإلى قدر من الخصال المطلوبة أكبر، وإلى علم وتجربة أكبر "وإن كان كثير من المدرسين في الحقيقة يعجزون"! أما قيادة جماعة من البشر، فهي في حاجة إلى شخصية غير عادية، موهوبة ومدربة وذات خبرة تقدر على توفير مطالب التربية لهذه الجماعة، وهي شيء غير الطفل الواحد وغير المجموعة من الأطفال. وأما قيادة أمة فأمر أخطر بكثير من قيادة جماعة، وأحوج بكثير إلى مزيد من الخصال الست المطلوبة. فما بالك بقيادة البشرية؟! لقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- معدًّا لقيادة البشرية! بهذه التهيئة الربانية لقيادة البشرية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرعى أصحابه ويوجههم ويربيهم على منهج الإسلام. وهؤلاء الذين تلقوا منه مباشرة وتربوا على عينه صلى الله عليه وسلم هم الذين كتبوا التاريخ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وإذا كان كل تلميذ في العادة يقبس قبسة من أستاذه، فلنا أن نتصور كيف تكون القبسات حين يكون الأستاذ هو الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذا كان المنهج يترك طابعه فيمن يتربون عليه. فلنا أن نتصور كيف يكون الطابع حين يكون المنهج هو القرآن. ولقد كان كذلك. وخرجت على هذه التربية خير أمة أخرجت للناس. الأمة التي تركت بصماتها على التاريخ كله من بعدها، وتركت فيه آثارًا لا تزول. ولم يتم هذا دفعة واحدة. فالتربية عملية طويلة تستغرق السنوات الطوال.. ولقد استغرقت ثلاث عشرة سنة في مكة، وسنوات في المدينة، حتى وصلت إلى الدرجة التي استحقت فيها ذلك الوصف من خالقها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 وكانت مع ذلك ما تزال تكبو أحيانًا كما كبت في أحد ويوم حنين، ثم تقوم من كبوتها على درس من الدروس القرآنية البليغة، لتصعد قمة جديدة من قمم البشرية الشامخة. كذلك لم يتم هذا كله في أمن ودعة. ولعله ما كان يمكن أن يتم.. فالله العليم الخبير. الذي فطر هذه الفطرة البشرية، يعلم أنه لا بد من الشدة تشدد العزائم، ولا بد من المحنة تعرك النفوس. ولكن الذي تم من أول لحظة هو ذلك الحب العميق لله ورسوله، والالتقاء على حب الله ورسوله، والاستعداد العميق للتلقي من الله ورسوله، ونبذ التلقي من أي مصدر آخر في الوجود. وتلك كانت القاعدة الضرورية التي تنشأ عليها التربية الإسلامية فتؤتي ثمارها المرجوة. ومنذ اللحظة الأولى تكونت هذه القاعدة في نفوس المؤمنين، فأهلتهم أن يتلقوا من أعظم مرب في التاريخ، وأهلتهم أن يستوعبوا هذه التربية بكاملها، خطوة بعد خطوة وتوجيهًا بعد توجيه. حتى استقامت نفوسهم على أفقها الأعلى. وكانت منهم تلك النماذج من البطولة في كل جانب من جوانب الحياة. وهذا الحشد من الأبطال، الذي لم يحتشد بهذه الوفرة في تاريخ أمة على مدى التاريخ..   1 سورة آل عمران 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات العظمة الخارقة ما يحبب فيه أتباعه حبًّا كان يغيظ قريشًا ويكرثها ويثير عجبها حتى قال أبو سفيان حانقًا: "ما رأيت أحدًا يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمدًا"! وكان فيه من صفات القيادة والزعامة ما يجعله مطاع الأمر من أتباعه بغير سلطان. وما كان له عليهم من سلطان قبل إقامة الدولة إلا سلطان الحب الخالص والإعجاب العميق. وكان شديد الاهتمام بهم، يرعى كل واحد منهم كأنما هو صاحبه الأوحد أو صاحبه الأثير عنده. وكان يمنحهم من الحب ما تقر به نفوسهم فيطمئنون على مكانتهم عنده، ويبادلونه الحب بأقصى ما تستطيع نفوسهم الصافية. ثم.. لقد كان عنده ما يعطيه. وأي عطاء؟! منهج الحياة كلها. كبيرها وصغيرها. دنياها وآخرتها.. روحيها وماديها.. والنعمة الكبرى التي تؤهل الإنسان لرضاء الله. كان عنده الإسلام!! ومنهج التربية الإسلامية! كان القرآن في مكة يتنزل كله في العقيدة، يعرف الناس بالله، وباليوم الآخر، وبقصص الأنبياء والمكذبين من قبل، وبقصة آدم، وبقصة الشيطان مع آدم, وبأخلاقيات لا إله إلا الله التي يريد الله أن تحل محل أخلاق الجاهلية. وكلها دروس في العقيدة، ودروس في التربية الإسلامية في ذات الوقت. ذلك أن التربية الإسلامية قائمة على العقيدة ومرتبطة بها أشد الارتباط، وكل درس قرآني في العقيدة كان يضيف إلى رصيد التربية على المنهج الرباني الفريد. والتعريف بالله -كما أسلفنا- هو الموضوع الذي يشمل المساحة الكبرى من السور المكية، وهو لا يزال يتردد في كل سورة، بصورة متعددة، وأجواء متعددة، ومواقف متعددة، يجيء ذكرًا مباشرًا لصفات الله سبحانه تعالى. ويجيء وصفًا لقدرته القادرة التي لا يعجزها شيء في السموات ولا في الأرض. ويجيء في تفصيل خلق الله للسموات والأرض وتقدير أقواتها وتدبير أمرها. ويجيء في مشاهد القيامة في مواقف الحساب والثواب والعقاب. ويجيء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 سرد قصص الأنبياء ووحي الله لهم، وقصص المكذبين وما فعل الله بهم. ويجيء في قصة خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله. ويجيء في قصة إبليس وطرده من الجنة وترصده لبني آدم. ويجيء في مناقشة عقائد الجاهلية الفاسدة وأخلاقها المنتكسة، والدعوة إلى الأخلاق الربانية الإيمانية. ومن ثم كانت الموضوعات كلها -على اختلافها- موضوعات عقيدة، إذ كان الهدف الأساسي من إيرادها جميعًا هو التعريف بعظمة الله الخالق الرازق المدبر المحيي المميت المنتقم الجبار الغفور الرحيم، صاحب اليوم الأول واليوم الأخير ... ثم تأتي الأهداف الأخرى كلها منطوية تحت هذا الهدف الأكبر ومرتبطة به. وقد يخطر على البال لأول وهلة أن هذا التعريف الواسع بالله سبحانه في السور المكية إنما جاء بهذا الاتساع لأن العرب في جاهليتهم كانوا في حاجة إلى هذا التكرار والتوكيد ليتركوا عقائد الشرك الفاسدة ويوقنوا بوحدانية الله فيعبدوه وحده ويخبتوا إليه. ولكن ذكر الله -على نفس النمط وإن كان في مساحة أقل- في السور المدنية ينفي على الفور هذا الخاطر. فقد كان القرآن في المدينة يتنزل في أمة مسلمة تؤمن بالله ورسوله وتجاهد بأموالها وأنفسها في سبيل الله. فلو كان هذا التكرار والتوكيد موجهًا إلى الكفار وحدهم ليؤمنوا ما كانت هناك ضرورة لتوجيهه إلى المؤمنين الذين آمنوا بحقيقة الألوهية بالفعل، وترسخت في وجدانهم إلى حد أنهم يقاتلون من أجلها ويستشهدون في سبيلها بنفس راضية مطمئنة. لا بد إذن أن يكون هذا التكرار والتوكيد لازمًا للمؤمنين أيضًا، ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، وليظلوا على ذكر دائم لربهم، ولا يغفلوا عنه لحظة، فلحظة الغفلة هي لحظة الشيطان. وذلك درس مهم في التربية الإسلامية، وعته الجماعة الأولى فكانت على ما كانت عليه من عظمة ورفعة وسموق. وينبغي لكل جماعة تريد أن تستأنف الطريق أن تكون على وعي منه، لأنه هو الزاد، وهو المعين على وعثاء الطريق. وليس القصد من ذلك هو حلقات الذكر المعروفة عند المتصوفة فما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وهو القدوة في كل أمر من أمور الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 ولا كانت الجماعة الأولى تفعل ذلك، وهي التي تمثل فيها المنهج الرباني بتمامه كله. ولا يمكن أن يكون لنا اعتراض على ذكر الله. فذلك أمر من أوامر الإسلام. ولكن التعرف على المنهج الرباني في التربية يدلنا على أن التذكير الدائم بالله كان وسيلة لغاية، ولم يكن هو نهاية الغاية. الغاية هي الخلافة الراشدة عن الله في الأرض. وهي العبادة لله، التي تشمل كل حياة الإنسان وكل متجهاته: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 1 {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} 2. وطاعة الله وتنفيذ أوامره وخشيته وتقواه هي الأداة للقيام بالخلافة الراشدة عن الله. والذكر الدائم لله، واستحضار عظمته في الوجدان، هو الوسيلة لتحقيق الخشية والتقوى، التي هي أداة الخلافة الراشدة والمعين عليها. فالوقوف عند الوسيلة دون الوصول بها إلى الغاية لا يكون تحقيقًا للإسلام كما أراده الله، ولا يكون تحقيقًا لمنهج التربية الإسلامية كما طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمامه مع الجماعة الأولى من المسلمين، ومن هذه الزاوية ينبغي أن نحكم على الأمور. إنما تربت الجماعة الأولى على ذكر الله بصورته الحية الدافعة، التي تدفع النفس إلى العمل وتعينها على مشقة الطريق. وكان القرآن يحدث المؤمنين عن اليوم الآخر، ويجسمه لهم كأنما يرونه اللحظة أمامهم، ويعيشون مشاهده الحية بوجدانهم بل بلغ من إعجاز القرآن في تصوير مشاهد القيامة أن يحس الإنسان كأنما يوم القيامة هو الحاضر الماثل, وكأنما الدنيا ماضٍ قد انقضى وانطوى من زمان بعيد! وذلك درس من دروس التربية في ذات الوقت الذي هو من دروس العقيدة..   1 سورة البقرة: 30. 2 سورة الأنعام 162-163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 فثقلة الأرض عنيفة في الحس البشري شديدة العنف. بقدر عنف الدوافع الفطرية وضغطها على الحس. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1. ولا شيء يمكن أن يعين الإنسان على ضبط هذه الدوافع والوقوف بها عند الحدود المأمونة التي فرضها الله، قدر ما يعينه الإيمان باليوم الآخر، الذي يعوض فيه الإنسان عن كل حرمان تعرض له في الأرض، بنعيم دائم لا ينفد، فضلًا عن كونه نعيمًا أجمل وأصفى وأجود. وأي بديل يمكن أن تصنعه البشرية لضبط الدوافع ووقفها عند حدها لا يمكن أن يقوم مقام الإيمان باليوم الآخر أو يفعل مفعوله في النفس. وهذه تجارب البشرية كلها قد عجزت عما قامت به التربية الإسلامية في إحكام ويسر، وهي ترتكز إلى هذا الإيمان العميق باليوم الآخر، وما فيه من ثواب وعقاب. أحد البديلين هو الدولة والقانون. والإسلام لم يغفل الدولة والقانون حين قامت الدولة في المدينة. ولكنه يعلم أن عين الدولة لا يمكن أن ترى كل حالة، ويد القانون لا يمكن أن تطولها. والبديل الآخر هو طرح الأرض جانبًا وإهمال الجسد ونبذه واحتقاره كما تصنع البوذية والرهبانية، لتطهر الروح، فيختل توازن الإنسان بكبت هذه الدوافع الفطرية واستقذارها، وتختل الحياة البشرية بتعطيل دفعتها الإيجابية المتحركة الفاعلة في واقع الأرض. ولكن التربية المرتكزة على الإيمان بالله واليوم الآخر هي وحدها التي تحفظ للإنسان توازنه في الأرض. ولا تعطل دفعة الحياة. وكان القرآن يعرف الإنسان بنفسه، بعد أن عرفه بربه وباليوم الآخر.. ويجيب كذلك على تساؤلات الفطرة: من أين؟ وإلى أين؟ وهي تساؤلات تفرض نفسها على الإنسان فرضًا وتلح في طلب الجواب.   1 سورة آل عمران 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 كان يعرفه بمنشئه، من قبضة من طين الأرض ونفخة علوية من روح الله. وبدوره في الأرض وهو الخلافة عن الله. وبغاية خلقه وهي عبادة الله، بمعناها الواسع الشامل الذي يعني الائتمار بأمر الله في كل شأن من شئون الحياة، والتوجه في عمله إلى الله, وبمصيره بعد الموت، من بعث وجزاء. وبذلك تكتمل الصورة كلها من المنشأ إلى المصير. ويعرف الإنسان طريقه ومهمته ودوره، فلا يتخبط في اختيار الطريق، ولا يتخطى المهمة ولا يقصر عنها، ولا يركبه الغرور في أداء الدور فيصنع من نفسه إلهًا أو طاغوتًا يستعبد الناس، ولا ينحسر بدوره كذلك فيقبل العبودية الذليلة للطاغوت بدلًا من العبودية الكريمة لله. وهذا كذلك درس في العقيدة ودرس في التربية في ذات الوقت، لأنه يحدد خط السير، ويضبط مسار الخطى عليه. وإن الجاهليات لتأكلها الحيرة وتفسد حياتها حين تسأل: من أين؟ وإلى أين؟ ثم لا تجد الإجابة الصحيحة فتضرب في التيه، كما يقول شاعر جاهلي معاصر: جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت ... ولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيت وحين تدركها هذه الحيرة وتحس بالضياع، تلجأ إلى ملذات الحس, تستنفد بها الطاقة وإلى المخدرات والمغيبات تغرق فيها همها المقيم. فلا هي في الحقيقة تنسى ولا هي في النهاية تستقر. والتربية الإسلامية التي ترتكز على هذه الصورة الواضحة المحددة للمنشأ. والدور، والغاية، والمصير، هي التي تمنح الإنسان الطمأنينة وتطلق طاقته للبناء في واقع الأرض بلا حيرة ولا قلق ولا اندفاع مجنون. وكان القرآن يعرف الإنسان بقصته مع الشيطان، وكيف استكبر وأبى أن يسجد لمعجزة الله في خلق آدم على هذه الصورة الفريدة في كل الخلق. وطرده من الجنة، وتوعده بغواية بني آدم وفتنتهم عن طاعة الله وشكره، بتزيين الأرض لهم، وشغلهم بها عن الآخرة والعمل لها، وتزيين الكفر والعصيان واتباع مناهج غير منهج الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وهذا درس في العقيدة ودرس في التربية كذلك. فالإنسان عرضة دائمًا لأن يغفل وينسى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} 1. ولا بد من تذكيره لكي يتيقظ من غفلته ويتذكر. والتوكيد على التربص الشيطاني للإنسان معين على اليقظة والتذكر. ومن ثم فهو يؤدي مهمة تربوية، تساعد على ضبط الدوافع الحادة. وتزجر عن الاندفاع وراء الشهوات. وكان القرآن يندد بأخلاق الجاهلية المنتكسة ومفاهيمها الجاهلة الهابطة، ويضع في مقابلها الأخلاق الإيمانية التي ينبغي أن يكون عليها البشر السوي، الذي كرمه الله وفضله، وهداه النجدين، وأعطاه القدرة على التمييز والاختيار: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. وبعض السور تكاد أن تكون "متخصصة في هذا الأمر. فسورة الفجر تندد بأخلاق الجاهلية، وسورة الإسراء تفصل الأخلاق الإيمانية المطلوبة من المؤمنين. وسور أخرى تعرض لهذه الموضوعات في أثناء السياق. والجانب التربوي من هذا الموضوع واضح بلا شك. فكلها توجيهات أخلاقية، ومن ثم فهي توجيهات تربوية. وهي متصلة بالعقيدة في ذات الوقت. فهذه العقيدة الإسلامية ليست نظرية تحفظ، وليست لاهوتًا يدرس، إنما هي واقع سلوكي معين لا بد أن يرى أثره في واقع الأرض. ومن ثم كانت لها "أخلاقيات" متصلة بها ومنبثقة عنها، أخلاقيات تشمل الحياة كلها وتضع لها منهجًا مفصلًا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلاقات الجنسين وعلاقات الأسرة، وعلاقات السلم وعلاقات الحرب.. وفي كل مجال من مجالات الحياة. وكانت مهمة التربية الإسلامية المرتكزة على توجيهات القرآن وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم هي ترسيخ قواعد هذه الأخلاقيات والتدريب الدائم عليها، حتى تصبح عادة للإنسان يقوم بها دون جهد، ويتوجه إليها   1 سورة طه 115. 2 سورة الشمس 7-10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 من تلقاء نفسه في كل عمل يقوم به، ولكل عمل على الإطلاق أخلاقيات حددها القرآن أو حددها الرسول صلى الله عليه وسلم في توجيهاته للمؤمنين. كان القرآن في مكة يتنزل بهذه المعاني التربوية العقيدية، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن الله عز وجل، ويرسخ في نفوسهم جلال عظمته، ويبين لهم في شخصه الكريم كيف تكون العبودية الخاصلة لله، تسليمًا مطلقًا لله، وخضوعًا كاملًا لأوامره وتوجيهاته، وتوقيرًا خالصًا لذاته العلوية، وذكرًا وتسبيحًا، وتطلعًا دائمًا بالخشية والحب، وربطًا لكل شيء في هذا الكون بإرادته ومشيئته، رؤية لقدرته القادرة في كل ذرة من ذرات هذا الكون. كما كان صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن اليوم الآخر وأهوال الحشر، وما ينتظر الكفار فيه من ألوان العذاب البشع، وما ينتظر المؤمنين من ألوان المتاع التي لا تخطر على قلب بشر، ويعلمهم أن طاعة الله ورسوله هي الطريق إلى هذا المتاع الخالد الدائم، وأن الكفر بالله ورسوله هو طريق النار. وكانت أحاديثه التفصيلية عن يوم الحشر وأنواع العذاب وألوان النعيم تزيد الصورة القرآنية تجسدًا في وجدانهم، فيعيشونها اللحظة كأنما يرونها رأي العين، وتنفعل بها نفوسهم فيعيشون في خشية من ذلك اليوم الرهيب. وكان يحدثهم كثيرًا عن أخلاقيات لا إله إلا الله ويعاود تذكيرهم بها، ويتابع ممارستهم لها، ويقوم ما يحتاج إلى تقويم في تلك الممارسة العملية، ذلك أن المربي العظيم يعلم أن هذا الأمر في حاجة إلى تذكير وتوكيد، ومتابعة دائمة، فإن الإنسان إذا ترك وحده عرضة لأن ينسى، وعرضة لأن تغلبه النفس الأمارة بالسوء، حتى ينتهي بها التذكير الدائم والممارسة الفعلية لأن تصبح هي النفس اللوامة التي تقوم من تلقاء ذاتها بتذكير صاحبها ومتابعته.. فإذا وصلت لأن تكون هي النفس المطمئنة، التي اطمأنت بالإيمان واستقامت عليه، فتلك غاية الغايات. وكان المربي العظيم يعلم كذلك أن الإيمان يمكن أن يتم في لحظة، لأنه مسألة بصيرة تتفتح فترى الحق فتسارع إليه. وأنه حين يحدث لا يرتبط بإلف ولا عادة ولا وضع سابق. أما الأخلاق فهي أمر آخر، يحتاج إلى تعويد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 طويل حتى يصبح عادة تلقائية، ويحتاج إلى عمل دائب لغسل رواسب الجاهلية من النفس. وهي رواسب لا تذوب في لحظة لأنها متشابكة مع خيوط النفس وداخلة في بنائها. كالبقعة الداخلة في النسيج. ربما تغسلها مرة فتذهب. وربما تحتاج إلى غسلات كثيرة حتى تذهب، وربما تظل تغسلها حتى يبلى الثوب وهي تخف قليلًا ولكنها لا تذوب! كان المربي الملهم يعلم ذلك من النفس البشرية فيصير على أصحابه. ولا يتعجل جذبهم إلى القمة التي يقف هو عليها بعون من الله. وكان يتخولهم بالنصيحة المرة تلو المرة في غير إملال مضجر ولا تهاون في أمر الله. وسارت هكذا الأمور حتى جاء الابتلاء.. وما كان من الممكن ألا يجيء! إن الجاهلية لا يمكن أن تصبر أبدًا على دعوة لا إله إلا الله! ولم يحدث قط في التاريخ أن جاهلية صبرت على هذه الدعوة أو هادنتها ولو لم تتعرض الدعوة لها بشيء من جانبها! لقد قال لهم شعيب: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 1. هكذا. لا يقبلون حتى المهادنة حتى يحكم الله في الأمر. وهذا الموقف الذي تقفه الجاهلية دائمًا -ولا بد أن تقفه ما دامت جاهلية- لا يأتي اعتباطًا، ولا يأتي من ظروف محلية خاصة بالمكان أو الزمان أو البيئة أو أشخاص الحكام أو أشخاص الدعاة, إنما يأتي من طبيعة الدعوة ذاتها ومن طبيعة الجاهلية. فما الدعوة؟ وما الجاهلية؟ الدعوة تقول لا إله إلا الله. والجاهلية تقول -بقولها أو فعلها- هناك آلهة مع الله، وهناك سلطان بشري يحكم الناس باسم هذه الآلهة المدعاة. والدعوة تقول إن الولاء لله وحده. و"الملأ" صاحب السلطان في الجاهلية يريد الولاء لنفسه وسلطانه، ومن هنا ينشأ الصراع.   1 سورة الأعراف 87-88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 إن الجاهلية، أو الملأ صاحب السلطان في الجاهلية، يحس تجاه النبي القادم بلا إله إلا الله، كما يحس السارق المغتصب حين يرى رجل الشرطة يظهر في الطريق. يحس أنه قادم نحوه هو بالذات ليسترد السلطان المدعى. سلطان الله. ومن ثم لا يستطيع أن يهادنه أو يسكت على وجوده، طالما بقيت في يده بقية من سلطان! والابتلاء الناشئ من عدوان الجاهلية على الرسول الداعي لا إله إلا الله وعلى الذين آمنوا معه يصبح بذلك سنة من سنن الدعوة. سنة ربانية لا تتبدل ولا تتخلف: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 1. ونحن الآن نتحدث في مجال التربية. هل لا بد من الابتلاء في الدعوة؟ هل هو ضرورة "تربوية" للقائمين بالدعوة للا إله إلا الله؟! إنها سنة، نعم، ناشئة من طبيعة الدعوة وطبيعة الجاهلية. ولكن ما دورها في "منهج التربية الإسلامية"؟! لقد علم الله أنها ضرورة لازمة لتربية الجيل الأول على الأقل، الذي يحمل على أكتافه مسئولية التأسيس وإقامة البناء، فجعلها سنة دائمة مع ذلك الجيل الأول بالذات! إن العجينة البشرية كما أسلفنا عجينة عصية. وإنه لا يكفي أن تضعها مرة في داخل القالب المضبوط لتستقر وحدها هناك! إنها دائمة التقلب والبروز من هنا ومن هناك بتأثير الدوافع القوية والجواذب العنيفة التي تجذبها نحو الأرض وتحركها فيها. والدعاة بالذات. أو الجيل الأول من الدعاة بالذات، يحتاج إلى صياغة خاصة ليحمل تكاليف الحق. وإنها لتكاليف مرهقة تحتاج إلى تدريب وإعداد خاص.   1 سورة العنكبوت 2-3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 إنها ليست نزهة مسلية. ولا عرضًا قريبًا، ولا سفرًا قاصدًا. إنها الدعوة. إنها تشييد بناء متين يستظل فيه الناس بظل الله في الأرض، ويستروحون فيه عدله ورحمته، في ظل تحكيم شريعته. بناء يقام لله. ويكون الحكم فيه لله. لا لشخص من الأشخاص ولا لمصلحة من المصالح ولا لهوى من الأهواء. ثم إنه بناء في حاجة إلى حماية ووقاية من الأعداء، الذين يكرهون لا إله إلا الله، لأنها تسلبهم سلطانهم المغتصب وترده إلى الله، أو لأنها تضبطهم بميزان الله، وهم يريدون الانفلات بما تمليه عليهم الشهوات. فمن أين لهذه العجينة الطرية العصية أن تخلص من نوازعها وجواذبها وهواتفها التي لا تفتأ تخرجها من قالبها المضبوط، وتبرز بها من هنا ومن هناك، لتستقيم على وضعها المنضبط، حتى تقيم العدل الرباني في الأرض، لا تميل به المصلحة ولا الهوى ولا الرغبات؟! ثم أين لهذه العجينة الطرية العصية أن تصلب وتنضبط لتحتمل تكاليف الجهاد، والجهاد قائم بالضرورة لحماية البناء الرباني من الأعداء؟! أفي الرخاء تتحول هذه العجينة إلى صورتها المنضبطة في القالب المطلوب؟ يعلم الله أن ذلك لا يكون. إن العجينة الناضجة "على البارد" لا تحتمل الضغط ولا تثبت للصدام. وسرعان ما تتفلق من هنا وهناك! لا بد من صناعة خاصة لأولئك الذين يقومون بالدور الأول إزاء الجاهلية، ويؤسسون للبناء. وكما تحتاج العجينة إلى حرارة النار لإنضاجها، فكذلك تحتاج العجينة البشرية إلى حر الابتلاء. في حر الابتلاء تثبت العجينة الطريَّة العصيَّة وتصلب، وتصح قادرة على الصمود والصدام. وفي حر الابتلاء كذلك تترسخ العقيدة وتمتد جذورها في النفس حتى تتمكن منها، ولا تعود تقتلع أبدًا مهما اشتدت بها العواصف بعد. إن الإيمان في الرخاء سهل، لأنه لا يكلف صاحبه كثيرًا، ولا يهدده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 في أمنه وسلامته. ولكن حقيقة الإيمان لا تتبين -حتى لصاحبها- إلا بالابتلاء كما تدق المسمار في الحائط فتحسبه راسخًا لأول وهلة ما دام ثابتًا في مكانه، ولكنك لا تأمن عليه حتى تختبره. فتضغط عليه بأصبعك أو تحاول انتزاعه. ثم لا تعلق عليه شيئًا إلا إذا ثبت بعد الاختبار! {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 1. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 2. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} ؟ 3. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 4. كلا! لا بد من الابتلاء. لترسيخ العقيدة ذاتها، استعدادًا لإقامة البناء.. تقول عقيدة لا إله إلا الله؛ إن الله هو الضار النافع وحده، وإنه هو المسيطر وهو المدبر بغير شريك، وإنه لا يحدث شيء في الأرض إلا بما أراده الله. ويؤمن الناس بذلك إيمانًا سهلًا في الرخاء، ويحسبون هذا الإيمان راسخًا، ويحسبونه قضية منتهية لا تحتاج إلى مراجعة. ثم.. يحدث الابتلاء. ويصبح أهل الحق في موقف الضعف والهوان والذلة. وأهل الباطل في موقف السيطرة والسطوة والاستعلاء، وفي موقف العدوان كذلك والإيذاء. أو ما زال ذلك "المؤمن" يؤمن بأن الله هو الضار النافع وحده؟! أم تسرب الشك إلى نفسه دون أن يحس، وحسب أن أولئك الطغاة يملكون   1 سورة آل عمران 142. 2 سورة البقرة 214. 3 سورة التوبة 16. 4 سورة العنكبوت 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 سلطة حقيقية في أيديهم، ويملكون بأنفسهم الضر والنفع له أو لغيره من الناس! فأما إن ثبت في مكانه، واستيقن أن ما يصيبه من الضرر على أيدي هؤلاء إنما يصيبه بإرادة الله ومشيئته لا بإرادة هؤلاء ومشيئتهم، وأن هؤلاء لا يملكون له ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. أما إن حدث ذلك فقد آمن حقًّا أن الله هو الضار النافع وحده. وأما إن تزلزل يقينه، ونظر إلى أولئك الطغاة كمن يملك التصرف في شيء من عند أنفسهم. فهو إذن غير صالح لإقامة البناء! وكان من الحكمة أن ينكشف قبل إقامة البناء بالفعل، لأنه يومئذ كان يؤسس على باطل ويبني غير مستقيم! {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} 1. فلن يقول لكم الله سلفًا إن هذا طيب وهذا خبيث. إنما يبتليكم فيميز الطيب من الخبيث! وتقول عقيدة لا إله إلا الله: إن الله هو الرازق وحده. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2. ويؤمن الناس بذلك في سهولة في اثناء الرخاء. فما دامت أرزاقهم جارية على حالها لم يمسها سوء، فلن يكلف الناس شيئًا أن يؤمنوا أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين! ثم يحدث الابتلاء، ويبتلى الإنسان فيرزقه نتيجة تمسكه بعقيدته، وإبائه أن يتركها ويعود في ملة الجاهلية. أو ما زال ذلك "المؤمن" يؤمن بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين؟ أم تزلزل إيمانه, وظن أن أولئك الطغاة يملكون شيئًا من الرزق، ويستطيعون أن يقطعوه أو يطلقوه؟ فأما إن ثبت في مكانه، وعلم أن ما أصابه في رزقه لم يكن بسبب سلطة ذاتية يملكها الطغاة، ولكن لأن الله أراد ذلك الابتلاء لحكمة يريدها، فقد   1 سورة آل عمران 179. 2 سورة الذاريات 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 آمن حقًّا أن الله هو الرزاق وحده. وأما إن تزلزل يقينه فما عاد صالحًا لإقامة البناء.! وهكذا ... وهكذا من تفصيلات العقيدة وفروع الإيمان. لا يتبين الإيمان على حقيقته إلا بالابتلاء في كل معنى من معاني هذه العقيدة، ولو بدت -في الرخاء- راسخة متينة لا تتزعزع. وكذلك الأمر في أخلاقيات لا إله إلا الله. ما أيسر الخلق الحسن في الرخاء! إنه قد لا يكلف شيئًا إلا مجاملات قليلة يبدو الإنسان بعدها غاية في حسن الأخلاق! بل قد يخدع الإنسان ذاته في نفسه. فيحسب أنه صادق التخلق بأخلاق لا إله إلا الله. ثم تجيء الشدة والحرج والكرب والضيق. أو ما زال ذلك "المؤمن" على استعداد لأن يبذل من نفسه في الضيق ما كان يبذله في الرخاء؟ أو ما زال قادرًا على احتمال أخطاء الناس وتصرفاتهم المنحرفة؟ وحين يكون هناك اثنان. وفرصة واحدة. فرصة لاحت بعد كرب وشدة وحرج. فهل يسرع هو إلى اقتناصها مؤثرًا نفسه على "أخيه" في العقيدة، أم ما زالت في نفسه الفسحة التي يستطيع بها -ولو على كره- أن يترك الفرصة لأخيه. أم إنه يستطيع أن يؤثره على نفسه عن طيب خاطر. تقربًا إلى الله؟! درجات من التخلق بأخلاقيات لا إله إلا الله. لا تتبين حقيقتها في الرخاء السهل. ولا تنكشف إلا في الشدة والضيق. من هنا كانت حكمة الابتلاء المذكورة صراحة في آيات القرآن. إن الجيل الأول من الدعاة، الذي يكون من قدره أن يواجه الجاهلية بكل عنفها وضراوتها في محاربة العقيدة والمؤمنين بها. حربًا تقصد بها الإبادة الكاملة, ولا تقصد بها الإبقاء. هذا الجيل في حاجة إلى صياغة خاصة ليحتمل التكاليف، وهي تكاليف باهظة عنيفة مرهقة، سواء في مرحلة المواجهة أو مرحلة التمكين حين يقدر الله التمكين. فأما المواجهة فهي تعرض الإنسان للاضطهاد والتعذيب وانقطاع الرزق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 كما تهدده في أمنه وسلامته. وقد تكلفه حياته، موتًا في التعذيب أو إبادة بالقتل. وأما التمكين فهو في حاجة إلى خلوص كامل وتجرد، لإقامة البناء على العدل الرباني، لا يميل مع المصلحة ولا الهوى ولا الشهوات، وإلا انتكس البناء وضاع الجهد، وانقلب الدعوة صدًّا عن سبيل الله: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وهذه الصياغة الخاصة لا يمكن أن تتم في الرخاء السهل، إنما تتم في الشدة المحرقة. وكما تدرب الجيش المحارب في الصحراء على احتمال العطش والهجير وزوابع الرمل، وكما تدرب الجيش المحارب في الصقيع على احتمال أقسى درجات البرد والريح العاصفة المدوية. فكذلك يتم تدريب الجيل الأول من الدعاة في ذات الجو الذي سيتعرضون له. فيدخلهم ربهم المحنة رحمة بهم لا غضبًا عليهم ولا قلى لهم. حتى يعودهم على الجهد. فلا يجهدهم العمل، ولا يجهدهم الاستمرار فيه. إنها الرحمة إذن، والتربية الربانية، فضلًا على تمييز الخبيث من الطيب من أول الطريق. إنه التدريب الرباني على تحمل المشاق، والإعداد الروحي والنفسي والعقلي والبدني للقيام بأخطر مهمة في هذا الكون كله: مهمة إقامة الخلافة الراشدة في الأرض. ثم إنها فرصة لتدريب من نوع آخر، ضروري للدعاة بصفة عامة، وللجيل الأول من الدعوة بصفة خاصة. إن الداعية لا يصلح أن يكون ملتصقًا بالأرض خاضعًا لجواذبها. وحين يقوم المجتمع المسلم بالفعل، فقد يحتمل وجود أشخاص يلتزمون بأمر الله على حرف، ويوازنون أنفسهم -بالجهد- إزاء جواذب الأرض.   1 سورة النحل 94. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 ولكن الجيل الأول الذي يحمل تبعات التأسيس والبناء لا يصلح أن يكون كذلك، فإن حمله أثقل ومهمته أخطر. حمله أثقل لأنه يواجه الجاهلية بضراوتها وإصرارها على إبادة الدعوة. ويواجه احتمالًا راجحًا إن لم يكن أكيدًا بالتعرض للحرمان من متاع الأرض المباح، بل للحرمان من حياته ذاتها بكل ما فيها من متاع. ومهمته أخطر لأنه لا يطلب منه أن يكون مجرد مسلم عادي، إنما يطلب منه أن يكون نموذجًا يحتذى، لأن أنظار الناس متعلقة به تأخذ منه القدوة، فإن كان هو هابطًا، أو واقفًا على حرف يكاد يهبط، فهو نموذج سيئ وقدوة سيئة. فلكي يكون قادرًا على حمل تلك التبعة الثقيلة بشقيها: مواجهة التكاليف الباهظة بنفس راضية، والارتفاع إلى مستوى القدوة، فإنه يلزمه تدريب من نوع خاص، يتعود فيه على الحرمان من متاع الأرض، ويتعود فيه على التخفف من جواذب الأرض، والقدوة على الانفلات منها في لحظة حين يدعو إلى ذلك داع. ومع أن الإيمان باليوم الآخر يصنع صنيعه في النفس المؤمنة، وييسر عليها احتمال حرمان الأرض في سبيل رضا الله، إلا أن الإيمان درجات والمطلوب لدور البناء والتأسيس ينبغي له أن يكون على الدرجة العليا من الإيمان. وهذا هو الذي يحتاج إلى التدريب الخاص، حتى يكون -على المستوى العملي- مستعدًّا للانخلاع من متاع الأرض في لحظة، بلا توجع ولا تحسر ولا لهفة. في هذا التدريب الخاص -داخل الابتلاء- يبعد الإنسان عن متاع الأرض على غير اختيار منه. وقد يكون على غير رضا منه في مبدأ الأمر! ثم تمر الأيام وتطول المحنة بالشهور والسنوات.. فماذا يحدث من تحولات في داخل النفس؟ إنه -في الحقيقة- يحدث شيء كثير! يحدث أولًا أن يكشف الإنسان في نفسه طاقة على الصبر والاحتمال, لم يكن يظنها موجودة في نفسه، أو لم يكن يظنها بهذا القدر. وفي هذا تثبيت له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 على الابتلاء، وتشجيع على احتمال مثله إذا تعرض له في ظرف آخر. كأي تجربة جديدة قد يخشى الإنسان خوضها، فإذا خاضها بنجاح لم تعد تكرثه من بعد، حتى وإن كانت تكلفه الكثير من الجهد. ويحدث ثانيًا أن يكشف الإنسان أن كثيرًا من "ضرورات" الحياة التي ظنها في الرخاء ضرورة حياة أو موت ليست في الحقيقة كذلك! فها هو ذا قد حرم منها ومع ذلك لم يمت! وها هو ذا قد حرم منها ومع ذلك لم يفقد من "حجم" الحياة وعمقها كثيرًا في نفسه، بل الأصح هو العكس. لقد زادت حياته غنى وعمقًا واتساعًا بألوان من المشاعر جديدة، رفيعة عالية، ما كان يحسها في الرخاء ولا يتذوق طعمها. وما كان يتأتى له أن يتذوقها لولا هذا الحرمان الإجباري الذي أوقعه فيه الابتلاء على كره منه! مشاعر وتصورات وأفكار ذات أعماق وأبعاد، وذات نور وشفافية وإشراق. حتى وإن كانت قاعدتها هي الألم، وغذاؤها هو الدموع. ويحدث أخيرًا أن يرى الحياة الدنيا على حقيقتها، بحجمها الطبيعي. إن نفس الإنسان كحسه.. القريب منها تراه أضخم من حقيقته، والبعيد عنها تراه أقل من حقيقة. ضع أصبعك قريبًا من عينك تحجب عنك كل ما وراءها من المرئيات رغم حجمها الصغير، وأبعدها عنك تراها على حقيقتها، ولا تحجب عنك إلا خطًّا ضئيلًا لا يكاد يؤثر في رؤيتك للأشياء! والنفس كذلك وهي ملتصقة بالأرض خاضعة لجواذبها. تراها في حسها ضخمة جدًّا، وهائلة جدًّا، وحرية بأن يعيش لها الإنسان كل لحظة من لحظات حياته. ثم تبتعد عنها -أو تبعد عنها قسرًا- فتراها على حقيقتها. وترى ما وراءها مما كانت تحجبه وهي قريبة من الحس.. فتخف الثقلة فلا تعود مقعدة، وتخف الجذبة فلا تعود قاهرة. وتخف المشغلة فلا تعود هم الليل والنهار. وينطلق الإنسان من إسارها بجهد أيسر. أو بغير جهد حين يبلغ من التدريب مداه. تلك دروس التربية في المحنة.. وهي دروس -كما ترى- لازمة للجيل الذي يقوم على أكتافه البناء؛ الجيل الذي يراد له أن يصنع صناعة خاصة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 سواء في أثناء مواجهة الجاهلية الضارية، أو بعد ذلك حين يحدث التمكين، وفي كلا الحالين يكون المطلوب نماذج فائقة من البشر، استطاعت أن تتجرد الله، وأن تحتمل المشقة في سبيل الله. وفي اثناء الابتلاء كان القرآن يتنزل في مكة بقصص الأنبياء وقصص المكذبين من قبل على مدار التاريخ. إلى جانب المعاني الأخرى التي سردناها من قبل. وهي دروس في العقيدة ودروس في التربية في ذات الوقت. دروس في العقيدة، تبين أن كل رسول أو نبي إنما جاء بكلمة واحدة لا تتغير: لا إله إلا الله. اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. فالعقيدة واحدة لا تتغير, عقيدة أزلية واحدة لا يدخل عليها تبديل ولا تحوير.. وتبين أن الجاهلية كلها وقفت موقفًا واحدًا هو الصد عن سبيل الله، ورفض لا إله إلا الله بادي ذي بدء، ومحاربة النبي والذين آمنوا معه بغية التخلص منهم ومن دعوتهم الخطرة على كيانهم, وسلطانهم الذي يمارسونه في الأرض بغير حق، ويستعبدون به الناس لأنفسهم من دون الله. وتبين أخيرًا المصير الحتمي للطغاة الذين يحاربون دعوة لا إله إلا الله، إذ يدمر اللهم عليهم وينجي رسوله والذين آمنوا معه ويمكن لهم في الأرض، بعد أن يملي للكفار فيزيدوا في طغيانهم، ويغتروا بانتصارهم المؤقت على دعوة لا إله إلا الله فيظنوا أنهم مبيدوها وقاهرون فوقها. ثم يأخذهم الله من حيث لا يحتسبون، وهم في ذروة النصر الوهمي وذروة الانتشاء. تلك دروس العقيدة. وهي هي دروس التربية كذلك، فهي تقول لهم: لستم وحدكم على الطريق. إنما سبقتكم أمم ابتليت كما ابتليتم، وطغى عليها الطغاة كما طغوا عليكم، فصبروا على الاضطهاد والتعذيب والتشريد والتقتيل. فكونوا كذلك صابرين مثلهم. فهذا سبيل الدعاة وهذا قدرهم. ثم هي تقول لهم: إن الله هو الذي يقدر ذلك كله. هو الذي يمد للطغاة، ليزدادوا كفرًا على كفرهم، وليبتلي المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، فرسخوا إيمانكم بالله لتخرجوا ناجين من الابتلاء، مستحقين عند الله حسن الجزاء. ثم هي تقول لهم:إن الله هو الذي ينهي المحنة حين يحل الموعد المقدور في قدر الله. وإذن فسبيل المؤمنين هو الصبر حتى يأتي الله بالتغيير، وهو التوجه لله والتطلع الدائم إليه أن يكشف الغمة عنهم ويقرب الفرج إليهم.. وبذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 يرتبط القلب البشري بالله مزيدًا من الارتباط، ويتربى على التطلع الدائم إليه والتوجه إليه في الكبيرة والصغيرة على السواء. والرسول صلى الله عليه وسلم كذلك يحدثهم بأخبار من كان قبلهم. وعن صبرهم في الابتلاء، ويطلب إليهم الثبات والصبر والتعلق بالله، ويعطيهم من نفسه النموذج والقدوة في ذلك كله. فتمتزج دروس العقيدة ودروس التربية في مزيج واحد يصنع في نفوس المؤمنين -دون أن يشعروا- تلك التحولات الضخمة التي حدثت، فيخرجون من المحنة أصلب عودًا وأمضى ثباتًا، وقد ترسخت العقيدة في نفوسهم فلم تعد تقتلع، وترسخ منهج التربية الإسلامية في وجدانهم فاستقاموا عليه. وتجردت نفوسهم لله فلم تعد تبغي لنفسها شيئًا إلا الوصول لرضوان الله. ولما علم الله من قلوبهم ما علم؛ علم منها إخلاصها وتجردها، واستقامتها على أمر الله واستعدادها للبذل في سبيل الله، أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وبدأت جولة جديدة في منهج التربية الإسلامية بعد قيام الدولة في المدينة. في المدينة بدأ دور جديد للجماعة المسلمة، ودور جديد للتربية الإسلامية، يستند إلى الدور الماضي كله ويضيف إليه. لقد صارت الجماعة المضطهدة المستضعفة المطاردة الخائفة جماعة آمنة مستقرة مستمكنة: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1. وبرزت جوانب جديدة في حياة الجماعة المسلمة اقتضتها الظروف الجديدة، وبرزت بإزائها جوانب جديدة من النفس، في حاجة إلى توجيه، أو على الأقل في حاجة إلى تدريب عملي يؤكد التوجيه ويثبته ويعمق جذوره. وكانت البداية الرائعة هي استقبال الأنصار للمهاجرين ذلك الاستقبال الفريد في التاريخ. إذ أفسحوا لهم صدورهم، وديارهم، وأموالهم. بل   1 سورة الأنفال 26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 وصل الأمر إلى التنازل عن "الفائض" من النساء للذين جاءوا من مكة بغير زوجات! {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. كانت المؤاخاة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار تدريبًا عمليًّا على "الأخوة الإسلامية" التي تبعثها تلك العقيدة في نفوس المؤمنين بها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 2 وكان تدريبًا ناجحًا. فذًّا في نجاحه، فريدًا في التاريخ. وكانت كذلك تدريبًا عمليًّا على "التكافل" وهو معنى من المعاني العميقة في بناء الجماعة الإسلامية: القادرون يكفلون غير القادرين. على أساس الأخوة في الله من جانب، وعلى أساس التصرف في مال الله بما يرضي الله من جانب آخر. إن العقيدة الإسلامية -والتربية الإسلامية كذلك- تربي المسلمين على أن المال الذي في أيديهم هو مال الله في الحقيقة. هو الذي وهبه -وإن شاء أخذه- وهو الذي ملكه لمن ملكه له، ومن ثم يخف في أنفسهم الشعور البشري بالملك، الذي يستبد بالناس في الجاهلية فيصبح جنونًا لا يترك صاحبه في راحة؛ يريد أن يستزيد دائمًا لينتفش ويستكبر بمقدار ما يزيد. أما في حس المسلم فالمال في يده نعم. ولكنه مال الله في الحقيقة. وقد أمر الله بإنفاق جانب منه للمحتاجين إليه من "الإخوة" في المجتمع الإسلامي. فينفق المسلم ذلك عن طيب خاطر -بمقدار رسوخ العقيدة ورسوخ التربية الإسلامية في نفسه- سواء في الزكاة المفروضة أو في التطوع الذي ليست له نسب مقررة ولا حدود، ويتم بذلك التكافل الذي تتسم به حياة المسلمين، سواء في داخل الأسرة أو في المجتمع على اتساعه؛ ويتم التخفف من الشح، وذلك ركيزة من ركائز التربية الإسلامية. ثم يبدأ الجهاد في سبيل الله..   1 سورة الحشر 9. 2 سورة الحجرات 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وهو وجه جديد من وجوه الثبات على العقيدة واحتمال المشقات، في حاجة إلى تربية وتدريب جديد. بالأمس كان وجه العقيدة -ووجه التربية كذلك- هو احتمال الأذى الذي تصبه الجاهلية على المؤمنين، وقد اجتازت الجماعة الأولى ذلك الوجه بثبات باهر ونجاح باهر، بتوجيهات القرآن وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم وسهره على رعايتها وتقويمها وتثبيتها. واليوم أصبح وجه العقيدة -ووجه التربية كذلك- هو احتمال الأذى في سبيل الذود عن العقيدة من الأعداء. قد يكون بينهما جانب مشترك. ولكنه على وجه التأكيد لون جديد من التربية والتدريب والإعداد. قد يحتمل الإنسان أذى مصبوبًا عليه من الظالم.. ولكن أن يقاتله ويعرض نفسه للموت في القتال هذا أمر آخر. حقيقة إن القتال يرتكز على ذات القاعدة التي ربيت من قبل في محنة الابتلاء: أن الموت والحياة بيد الله، والضر والنفع بيد الله، لا يملكهما غيره وإن وهم البشر غير ذلك. وإن الآخرة هي الحياة الحقيقية التي يحرص المؤمن عليها، وأن متاع الدنيا قليل لا يساوي الحرص عليه. وحقيقة إن الرصيد الذي اكتسبه المؤمنون في المحنة، من صلابة العود، والاستعداد للانخلاع من متاع الأرض حين يدعو الداعي إلى ذلك، هو ذات الرصيد المطلوب للقتال. ومع ذلك فالأمر محتاج إلى توجيه جديد وتدريب جديد؛ لأن احتمال الأذى كما قلنا شيء. والخروج إلى المخاطر شيء آخر. والدليل على أنه درس جديد وتدريب جديد هو كل تلك الآيات التي تحرض المؤمنين على القتال في السور المدنية الطويلة بصفة خاصة: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. ثم الأنفال والتوبة، وسورة آل عمران كلها -على طولها- حديث واحد منوع عن معركة لا إله إلا الله، وما حول المعركة من معان متشعبة الأطراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 والدليل كذلك ما جاء في بعض هذه الآيات بصفة خاصة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 3. {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} 5. ولقد كان تدريبًا شاقًّا وطويلًا ومجهدًا حتى استوت عليه النفوس. وكان   1 سورة البقرة 216. 2 سورة آل عمران 143-148. 3 سورة النساء 77-78. 4 سورة التوبة 13. 5 سورة التوبة 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 من آثاره ذلك النصر الكاسح الذي لا مثيل له في التاريخ، حين امتدت الدولة بالفتوح في أقل من عشر سنوات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فشملت العراق وفارس والشام ومصر. ثم امتدت في أقل من خمسين سنة فشملت من الهند إلى الشمال الإفريقي. وكان القرآن يلقي الدرس تلو الدرس يستحث المسلمين على القتال في سبيل الله، ويرسم الصور المشرقة للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، كما يحذرهم من التولي يوم الزحف، أو القعود الذي لا يصدر إلا عن المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1. {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ، الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على القتال ويشجعهم عليه ويحبب إليهم الاستشهاد في سبيل الله، ويعطيهم من نفسه القدوة في الشجاعة والإقدام والثبات والطمأنينة في القتال. ثم تأتي مع نمو الدولة، وتزايد ألوان النشاط فيها، وتعدد الملابسات المارة بها، تدريبات تربوية جديدة يتنزل بها القرآن أو يوجه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها يرسخ العقيدة، وكلها يرسخ منهج التربية الإسلامية في النفوس. فثمت توجيهات لطاعة القيادة، والالتجاء إليها في المشكل من الأمر، لكي لا تنتشر الفوضى بالتصرفات الفردية غير المنضبطة:   1 سورة الأنفال 15-16. 2 سورة آل عمران 167-168. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} 1. وتوجيهات لتوقير القيادة واحترامها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 2. وتوجيهات لاستئذان القيادة في الانصراف: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. وتوجيهات أخلاقية لما ينبغي أن يكون عليه تعامل الإخوة المسلمين في المجتمع المسلم, كالتي تحتويها سورة الحجرات. من الإصلاح بين المتخاصمين، والضرب على يد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. وتحريم سخرية المؤمنين بعضهم بعض أو لمز أنفسهم، أو التجسس، أو الغيبة. وتوجيهات خلقية أخرى بعدم دخول البيوت إلا باستئذان، وبغض البصر, ومنع التبرج والفتنة وإبداء المرأة لزينتها كالتي تحويها سورة النور. وتوجيهات سياسية بعدم اتخاذ اليهود والنصارى أولياء كما جاء في سوة المائدة. وتوجيهات سياسية أخرى تبين مخطط اليهود والنصارى في محاربة الإسلام, وواجب المسلمين نحو هذا المخطط، من عدم اتباعهم، وعدم اتخاذ بطانة منهم، وعدم الاستجابة لفتنتهم كما جاء في سورة آل عمران.   1 سورة النساء 83. 2 سورة الحجرات 2. 3 سورة النور 62-63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وتوجيهات سياسية ثالثة بالنسبة للمنافقين، والدور الذي يقومون به في المجتمع الإسلامي، وضرورة الابتعاد عنهم وعدم الاختلاف في شأنهم، وعدم الدفاع عنهم, وعدم توليهم كما جاء في سورة النساء بصفة خاصة، وكذلك في البقرة وآل عمران والمائدة والتوبة والحشر والمنافقون.. وسور أخرى كثيرة. وتوجيهات اجتماعية بحماية الضعفاء في المجتمع المسلم من نساء أو ولدان أو رجال ضعفاء، ويتامى، وأرقاء كما جاء في سورة النساء والبقرة. وتوجيهات اقتصادية كتحريم الربا، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل كما جاء في سورة البقرة وسورة النساء. وعديد من التوجيهات في كل مناحي الحياة التي كانت تنمو بسرعة في المجتمع المسلم وتحتاج إلى توجيهات متلاحقة لبيان سبيل التعامل الصحيح فيها.. وبهذه التوجيهات من القرآن ومن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لتنفيذها، ومراقبته الدائمة لها، ومصاحبته للصحابة مصاحبة الصديق المحب الموجه في رفق، الشديد في الحق، الملهم بأحوال النفوس وخير الطرق للدخول إليها. بهذا كله تم منهج التربية الإسلامية لهذه الجماعة كما أراده الله، وكما وجه رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، على القاعدة الأولى التي نشأت من مكة: قاعدة حب الله ورسوله. والطاعة لله ورسوله. والتلقي من عند الله ورسوله ورفض التلقي من كل مصدر سواه. تلك كانت القاعدة الأولى التي انبنى عليها كل ما جاء بعد ذلك من دروس التربية ودروس العقيدة، حتى استقامت تلك النفوس على القمة السامقة، ووقفت هناك وقفتها المشرقة العالية، تنير الطريق لكل البشرية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 2.   1 سورة آل عمران 110. 2 سورة البقرة 143. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ولقد كان جهدًا جهيدًا ما بذل في سبيل تربية هذه الأمة، وما بذلته هذه الأمة من نفسها لتستقيم على تربيتها الإسلامية. جهد لم يخل من عثرات في الطريق وكبوات. فقد عثروا يوم أحد بما استوجب تنزيل سورتين كاملتين: سورة آل عمران وسورة الأنفال. وعثروا يوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فلن تغن عنهم شيئًا, وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وولوا مدبرين. وشق عليهم القتال يوم الأحزاب حتى زلزلوا زلزالًا شديدًا. قال رجل من الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله. أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يابن أخي. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله كنا نجهد. فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض, ولحملناه على أعناقنا. قال، فقال حذيفة: يابن أخي! والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويًّا من الليل ثم التفت إلينا فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع -يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ " فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني! وعثروا في حديث الإفك حتى شق ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا إلى أن نزل الوحي بتبرئة عائشة رضي الله عنها. ولكن هذه كلها كانت دروسًا في التربية ... التربية بالأحداث.. كل حدث من هؤلاء كان يهز المجتمع المسلم كله هزًّا عنيفًا، ثم تتنزل الآيات فتلقي الدرس و"الحديد ساخن" فيترك الدرس طابعه بعد ذلك لا يزول. ولكن مع هذه العثرات -البشرية على أية حال- كانت تلك النماذج الفائقة الفريدة في التاريخ: النموذج الذي أنزل الله فيه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . ونموذج تحريم الخمر ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 لما حرمت الخمر أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي في طرقات المدينة: أيها الناس. ألا إن الخمر قد حرمت. وكانت كلمة واحدة وكان فيها الكفاية. رووا عن أنفسهم قالوا: فقام كل واحد إلى ما كان في بيته من زقاق وأدنان فأراقها في الطريق. حتى بقيت طرقات المدينة أيامًا يشم منها رائحة الخمر. ومن كان في فمه شربة رماها. نعم. هي الطاعة الكاملة والامتثال الكامل. حتى من كان في فمه شربة قذف بها ولم يبلعها.. وإن أحدًا لا يراه إلا الله.. ودول "متحضرة" تبذل جهدها في مقاومة السكر الزائد عن الحد، الذي يؤدي إلى ارتكاب الجرائم من قتل واغتصاب وحوادث طريق، فلا يكون من جهدها الجاهد إلا زيادة السكر وزيادة المخمورين! ونماذج الجهاد في سبيل الله. الرجل الذي يقول: أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل هذا الرجل أو يقتلني؟! ثم يلقي بنفسه في المعركة فيستشهد. والذي يأخذ تمرات في يديه، ثم يأخذ في أكل تمرة منها، فإذا الجنة تشده إليها، ورغبة الاستشهاد في سبيل الله تملك عليه نفسه فيتعجل الذهاب ولا يصبر حتى يكمل تمرته، فيلقيها عنه وهو يقول: لئن بقيت حتى أنتهى منها إن هذا لأمر يطول. ويذهب إلى الجنة التي تناديه. نماذج ونماذج ونماذج لا تتسع لها هذه السطور. ولكن حسبنا أن نقول إن هذه الجماعة التي ربيت على هدى القرآن، وعلى عين الرسول صلى الله عليه وسلم، هي التي كتبت التاريخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 الباب الثاني: موضع القدوة في جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم أين موضعنا اليوم من جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ كيف نقتدي بها؟ وما موضع القدوة فيها؟ هل نحن امتداد لها على خط لم ينقطع؟ أم نحن بدء جديد يبدأ على طريقتها؟ وإن كنا بدءًا جديدًا فمن أين نبدأ؟ نبدأ من نقطة الصفر في مكة؟ أم من مرحلة متأخرة في مكة؟ أم من نقطة البدء في المدينة؟ أم من نهايتها؟ وهل يمكن أن يعاد الشريط كما هو في أي مرحلة من مراحل التاريخ؟ أسئلة ينبغي أن نحدد إجابتها على وجه الدقة، لنعرف طريقنا، ونعرف خطوات عملنا، ونعرف خطوات عملنا، ونعرف ما يحتاج إلى تركيز أكثر أو تركيز أقل. وينبغي أن نواجه أنفسنا في صراحة وشجاعة، إن كنا حقًّا جادين في العمل من أجل الإسلام والتربية الإسلامية. فما أخسر المجاملة في هذا الشأن بالذات! نضحك على أنفسنا ثم لا نصنع شيئًا في الحقيقة, ثم نوهم أنفسنا أننا عاملون! إننا -دون التعرض للحكم على أعيان الناس- نعيش في مجتمع جاهلي منقطع الصلة بالإسلام! وقد تحدثت عن هذه القضية في غير هذا الكتاب1 بما لا أحتاج أن أعيد نقله هنا في هذا الكتاب، ولكني أقول في أقصى اختصار ممكن: إن حكمنا على هذا المجتمع بأنه مجتمع جاهلي ليس حكمًا على أفراده. إنما معناه فقط إن "المظلة" التي لا تظلل الناس في هذا المجتمع هي مظلة جاهلية؛ لأن شريعة الله ليست هي المحكمة في الأرض، ولأن الصورة الغالبة على هذا المجتمع ليست هي الصورة الإسلامية، ولأن الأفكار والتقاليد وأنماط السلوك التي تحكم المجتمع ليست هي الأفكار ولا التقاليد ولا أنماط السلوك التي أمر بها الله   1 انظر كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح" فصل "مفهوم لا إله إلا الله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 ورسوله. ولكن هذه المظلة الجاهلية لا تلقي حكمها على كل الناس الواقفين تحتها، فهؤلاء كل منهم له حكمه الخاص، بحسب موقفه الشعوري والفكري والعملي من هذه المظلة، كما يقول حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" 1. ومن الكذب على الله وعلى التاريخ إذن أن تقول إننا امتداد لجماعة الرسول صلى الله عليه وسلم على خط غير منقطع. فلو أن واحدًا من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بعث في هذه اللحظة ورأى أحوالنا لفزع منها، ولحكم من توه أن هذا المجتمع قد ارتد إلى أبشع من الجاهلية الأولى التي شهدها ذلك الصحابي قبل أن يدخل في الإسلام. فما كانت المرأة في مجتمعه الجاهل بهذا التبرج، ولا كان الشباب في مجتمعه بهذه الميوعة والطراوة والانحلال، ولا كان المجتمع كله واقعًا في الكذب والخداع والنفاق والرذيلة كهذا المجتمع الذي نزعم زورًا أنه مجتمع إسلامي! وسيتذكر ذلك الصحابي ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لواحد من أجلة الصحابة: "أنت امرؤ فيك جاهلية" , من أجل كلمة واحدة قالها، إذ قال لبلال رضي الله عنه: يابن السوداء! فكيف يكون حكمه يا ترى على هذا المجتمع بكل أوزاره التي يحملها وكل معاصيه؟! كلا! ما ينبغي لنا أن نخدع أنفسنا ونزعم أننا مجتمع إسلامي "بصرف النظر عن الحكم على ذوات الناس، فهذا أمر لا نتعرض له" ولا يجدي شيئًا كذلك أن نخدع أنفسنا هذه الخديعة. فغاية ما يحدث منها أن تظل نصف علاجًا لا ينفع، ويظل الداء باقيًا دون شفاء! يجب إذن أن نصارح أنفسنا -في شجاعة وصراحة- أنه ينبغي علينا أن نبدأ بدءًا جديدًا إن كنا نريد أن نعود حقيقة إلى الإسلام، في صورته الربانية التي أنزله الله بها، لا في أي صورة مزيفة نبتدعها، ثم نضع عليها لافتة من عندنا تقول: هذا إسلام! ولكن هنا يجابهنا ذلك السؤال الهام: من أين نبدأ؟ هل نحن في مثل العهد المكي فنبدأ من حيث بدأ العهد المكي؟   1 أخرجه مسلم وأبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 أم نحن في مثل العهد المدني فنبدأ من هناك؟ أم نحن في صورة أخرى غير هذه وتلك، تفرض علينا بدءًا من نوع جديد؟ الحق أنه لا يمكن -بصفة عامة- أن يدار شريط الأحداث بصورة واحدة مرتين في أي فترة من فترات التاريخ. والحق كذلك أننا في وضع لا يتماثل تمامًا مع العهد المكي -وإن كان أشبه به- ولا مع العهد المدني، وإن كان يحوي مشابه منه. بل نستطيع أن نقول إننا صورة فريدة -سيئة- لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإسلام على الأقل، إن لم يكن في تاريخ البشرية! كان الناس في الجاهلية الأولى -أي: في العهد المكي- مشركين شركًا واضحًا صريحًا لا لبس فيه بالنسبة لأنفسهم ولا بالنسبة للمسلمين الذين آمنوا من بين هذا المجتمع بالدين الجديد الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانوا يعتقدون اعتقادًا مقررًا لديهم وواضحًا أن هناك آلهة متعددة، ويرفضون رفضًا صريحًا فكرة الإله الواحد، ويتعجبون من الداعي إليها، ويعجبون منه: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1. وكانوا في سلوكهم العملي يتبعون هذه الآلهة المدعاة فيما تحل لهم وتحرم عليهم، فيأكلون الميتة، ويحرمون بعض الأنعام بغير ما حكم الله، ويجعلون بعضها حلالًا لبعض الناس وحرامًا على آخرين في ذات الوقت. افتراء على الله. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ   1 سورة ص 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 1 صدق الله العظيم. قد ضلوا وما كانوا مهتدين. ولكنهم مع ذلك كانوا منطقيين في ضلالتهم! كان هناك تطابق كامل وواضح بين اعتقادهم الضال وسلوكهم الضال. يعتقدون بوجود الآلهة فيتبعونها ويتبعونها لأنهم معتقدون بوجودها وبألوهيتها وبفاعليتها بواجب العبادة والاتباع لها. وبمجرد أن زال الاعتقاد زالت العبادة وزال الاتباع. فكانوا منطقيين مع أنفسهم مرة أخرى في إيمانهم كما كانوا منطقيين مع أنفسهم في ضلالتهم. آمنوا أنه لا إله إلا الله، فعبدوه وحده، واتبعوه وحده، ونفذوا شريعته تنفيذا كاملًا لا يخلطون بها شيئًا من شرائع الخلق. ولم يستغرق ذلك منهم تفكيرًا ولا جدلًا ولا تلكؤًا "إلا المنافقين" ولا كان في حسهم أنه في حاجة إلى بحث فردي أو بحث جماعي. فهو البديهية المنطقية مع موقفهم الاعتقادي.. لا تحتاج إلى تبرير ولا تفسير. آلهة متعددة معتقد بوجودها.. فمعبودة ومتبعة. إله واحد معتقد بوجوده. فمعبود ومتبع. قضية بديهية واضحة لا تحتاج إلى بيان. إنما كان البيان كله موجهًا في مكة للمشركين، ثم -في المدينة- للمنافقين. في مكة كان يقول للمشركين: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وكان يقول لهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 3. فيربط اتخاذ الشركاء باتباع شريعة أولئك الشركاء. ثم يناقشهم -بمختلف الوسائل التي يستخدمها القرآن- لبيان سخف هذا الاعتقاد، واستحالة وجود الشركاء، ثم، بالتالي، يطالبهم بإبطال شريعتهم، لأنها باطلة، لم تصدر.   1 سورة الأنعام 136-140. 2 سورة الأعراف 2. 3 سورة الشورى 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 من جهة ذات سلطان؛ واتباع ما أنزل الله لأنه هو وحده الإله الحق، وصاحب السلطان وصاحب الأمر: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 1. وفي المدينة كان يقول عن المنافقين: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. وكان يقول لهم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3. أما المؤمنون فما كانوا في حاجة إلى توكيد هذه البديهية الواضحة في حسهم، ولا إلى بيان أسبابها، فهي مسلمة لديهم. لذلك لم يأت ذكرها إلا لمجرد التذكير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 4. وبقي المسلمون يحملون هذه البديهية في حسهم ما يقرب من ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، منذ قامت الدولة الإسلامية في المدينة حتى نحيت شريعة الله عن الحكم في القرن الهجري الأخير. كانوا يحكمون بشريعة الله، ويرون -بداهة- أن هذا هو مقتضى كونهم مسلمين. أما نحن -في قرننا هذا الحالي- فإننا حالة فريدة -سيئة- في تاريخ الإسلام كله. إن لم يكن في تاريخ البشرية. فنحن نؤمن بوحدانية الله لا شريك له، ثم -لأول مرة في تاريخ الإسلام- لا ننفذ شريعته! ولا نرى حَرَجًا في ذلك ولا مأثمة. بل يرى فريق منا -ممن يزعمون رغم ذلك أنهم مسلمون! - أن الخير هو في تنحية هذه الشريعة الربانية, واتخاذ تشريعات أخرى من صنع البشر! حالة فريدة في تاريخ الإسلام.. وأكاد أقول في تاريخ البشرية كله. ذلك أن البشرية في تاريخها كله   1 سورة الأعراف 54. 2 سورة النساء 65. 3 سورة المائدة 44. 4 سورة النساء 59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 كانت لا تخرج عن إحدى حالتين اثنتين: إما مؤمنة بالله الواحد، فمنفذة لشريعته المنزلة؛ وإما مشركة في الاعتقاد، تؤمن بوجود آلهة أخرى مع الله, فمنفذة حينئذ لشرائع الشركاء من دون الله. أما أن نؤمن بالله الواحد ثم ننفذ شريعة غيره فخبل لم يحدث من قبل في جاهلية ولا في إسلام! وبصرف النظر عن وضع الناس في أحوال كهذه الأحوال -وتلك قضية لا نتعرض لها في هذا الكتاب- فإننا هنا معنيون بأمر واحد: من أين نبدأ؟ وواضح أننا لا نبدأ بدعوة الناس إلى الإله الواحد، فتلك مسلمة عندهم ومستيقنة "بصرف النظر حاليًا عما يقع فيه عباد الأولياء والأضرحة من تشفيع الموتى من البشر عند الله, ونحر الذبائح لهم ليقوموا بهذه الشفاعة. فتلك مسألة في طريقها إلى الزوال التدريجي فيما أحسب". وإنما نبدأ ببيان معنى لا إله إلا الله. فتلك هي التي تحتاج عندهم إلى بيان وتعليم وتثقيف. لقد عملت ظروف كثيرة في القرنين الأخيرين خاصة -ومن أهمها المخطط الصليبي الصهيوني لمحاربة الإسلام -على تجهيل المسلمين بحقيقة لا إله إلا الله، وفصلها فصلًا كاملًا عن قضية الحكم بما أنزل الله. لأن المخططين كانوا يعتزمون قتل الإسلام بتنحيته تدريجيًّا عن حكم الحياة الواقعية للناس. فبدأوا بتنحية الشريعة، ثم ثنوا بانتزاع المفاهيم الإسلامية واحدًا إثر واحد من أفكار الناس ومشاعرهم وتقاليدهم وأنماط سلوكهم، مع المحافظة التامة على المظاهر الزائفة للإسلام منعًا من إثارة الشكوك، كما قال اللود كرومر في كتابه "مصر الحديثة" وذلك حتى لا يتنبه المسلمون إلى الكيد المدبر لهم، ويظلوا في اطمئنان خادع إلى أن إسلامهم ما زال بخير، فلا يهبوا لنجدة العقيدة التي تقتلع من الجذور1. من أجل ذلك ركزوا -وساعدهم في ذلك رجال دين محترفون- على الأحاديث النبوية التي تقول: $"من قال لا إله إلا الله دخل الجنة". وهي أحاديث صحيحة ولا شك. ولكنهم أهملوا -متعمدين- بيان حقيقة "لا إله إلا الله" التي تدخل الناس الجنة، وصلتها الوثيقة التي لا تنفصم بالحكم بما أنزل الله.   1 راجع فصل "أثر المخطط الصليبي الصهيوني في حياة المسلمين" من كتاب "المستشرقون والإسلام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وأن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترط فيها إخلاص القلب، وبين إخلاص القلب بأنه عدم الشرك، وبين أنواع الشرك فعدد من بينها التحاكم إلى غير شريعة الله عن رضى ومتابعة1. والحادث الآن في الأجيال القائمة هو هذه الجهالة بالمعنى الحقيقي للا إله إلا الله. وبصرف النظر مرة أخرى عن كون الناس معذورين بهذه الجهالة أو غير معذورين، وعن كون مقتضى لا إله إلا الله -الذي يعطي الإنسان صفة الإسلام "وهو الإقرار بما جاء من عند الله، وعدم الرضا بشريعة غير شريعة الله" معلومًا من الدين بالضرورة أو غير معلوم "!! " فإننا معنيون بتحديد نقطة البدء. وقد تحددت لنا الآن بوضوح فيما أحسب. فإننا لا نبدأ بدعوة الناس إلى الاعتقاد بوحدانية الله، إنما نبدأ بشيء لم يكن طيلة ثلاثة عشر قرنًا يحتاج إلى بيان، والآن يحتاج إلى البيان، وهو حقيقة معنى لا إله إلا الله، وصلتها الوثيقة التي لا تنفصم بالحكم بما أنزل الله. وهذا فارق أساسي بيننا وبين نقطة البدء في العهد المكي. ولكنه فارق يجعل الأمر بالنسبة للدعاة أسوأ! لقد كان الجهد الذي بذله الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة -يؤيده الوحي- منصبًّا كله على إقناعهم بأنه لا إله إلا الله. ولكنه لم يبذل جهدًا على الإطلاق في إقناعهم- بعد أن آمنوا- بتحكيم شريعة الله، ولا بأن تحكيم شريعة الله هو مقتضى الإيمان بلا إله إلا الله. لأن هذه كما قلنا كانت بديهية في حسهم لا تحتاج إلى بيان. وكذلك لم يبذل صلى الله عليه وسلم جهدًا مع المنافقين في إقناعهم بأن التحاكم إلى شريعة الله هو مقتضى شهادة لا إله إلا الله. إنما كان -بتوجيه الوحي- يتحداهم بذلك ليكشفهم -لا ليجادلهم ولا ليقنعهم! كان يقول لهم- أو يقول الوحي إن كنتم مؤمنين حقًّا فآية إيمانكم هي التحاكم إلى ما أنزل الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2.   1 راجع فصل "مفهوم لا إله إلا الله" في كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح". 2 سورة النساء 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 1. أما هذه الأجيال القائمة، التي تربت في ظل المخطط الصليبي الصهيوني لمحاربة الإسلام، فهي في حاجة إلى جهد ضخم لاستيعاب هذه الحقيقة, التي لم يكن المسلمون يحتاجون فيها إلى كلمة واحدة خلال القرون! ولأن الحقيقة معماة عنهم -عن قصد- فالجهد ليس هينًا في الحقيقة. فأنت تقول لهم: لكي نكون مسلمين فلا بد أن نتحاكم إلى شريعة الله، فيقولون لك: إننا مسلمون بلا إله إلا الله! وأيًّا كان الجهد المطلوب وصعوبته، وأيًّا كان الحرج الذي يصيب الدعاة في سبيل توضيح هذه الحقيقة، فقد تحددت لنا نقطة البدء على أي حال، وذلك من الأهمية بمكان. ثم إنه لا يكفي بطبيعة الحال أن نقول وأن نعلم. إنما ينبغي أن نعمل بما نقول وبما نعلم، وإلا فقد حق علينا القول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 2. فعندما تستقر هذه الحقيقة -حقيقة "لا إله إلا الله"- في الأذهان، فينبغي أن تتحول إلى رصيد واقعي في حياة الناس. فإذا كانت لا إله إلا الله معناها اتباع منهج الله بعد الإيمان بوحدانيته سبحانه وتعالى, فينبغي أن نعمل على تحويل حياتنا كلها لتستقيم على منهج الله في كل شيء: في سياسة الحكم، في سياسة المال، في سياسة المجتمع، في الأخلاق، في علاقات الجنسين، في علاقات الأسرة، في نظم التعليم، في وسائل الإعلام، في كل شيء على الإطلاق.   1 سورة النور 47-52. 2 سورة الصف 2-3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وهنا قد يتشابه منهج عملنا مع منهج العمل في الفترة المكية: تأسيس العقيدة الصحيحة "ببيان المعنى الحقيقي للا إله إلا الله". ترسيخ معنى الطاعة لله والرسول. ترسيخ معنى التلقي من عند الله وحده, ونبذ التلقي من كل مصدر سواه. ترسيخ أخلاقيات لا إله إلا الله. ولكنا مرة أخرى سنجد هنا فارقًا بيننا وبين العهد المكي. ففي العهد المكي لم تكن معظم التشريعات قد نزلت بعد، ولم يكن المسلمون قد التزموا بها. أما نحن اليوم فما دمنا مسلمين كما نقول، فنحن ملتزمون بالإسلام كله، بتشريعاته وتنظيماته وتوجيهاته جميعًا. فنحن إذن -نظريًّا- في العهد المدني، حيث نحن ملتزمون بالإسلام كله، وواقعيًّا نحن قريبون من نقطة البدء في العهد المكي "على اختلاف في نقطة البدء ذاتها كما بينا" كما أننا نقف موقفًا مماثلًا للمسلمين في العهد المكي، من حيث إننا دعوة لم تصبح بعد دولة، ومن حيث إننا دعوة مضطهدة من الذين لا يحكمون بما أنزل الله. وليس هنا مجال الحديث عن منهج العمل بالتفصيل. إنما كنا نتحدث هنا فقط عن موضع القدوة في جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم. أين نقتدي بها وكيف. وبدأنا بتحديد نقطة البدء وهي بيان المعنى الحقيقي لشهادة لا إله إلا الله. ثم حددنا الخطوة التالية بأنها هي العمل على تحويل المجتمع الجاهلي إلى المنهج الإسلامي إلى أن تستقيم عليه أحواله، وينفض ما تراكم عليه من ركام الجاهلية الذي غشي على صورته الإسلامية. ونضيف إلى ذلك أن أداة التحويل التي نحول بها المجتمع إلى المنهج الإسلامي هي التربية الإسلامية. ولا أداة غير ذلك. وسواء قامت الدولة بالأمر أم قامت به جماعة ندبت نفسها للدعوة، فلا أداة لها إلا تربية جيل جديد على منهج التربية الإسلامية الذي ترتبت عليه الجماعة الأول، والذي ينبغي أن تتربي عليه كل أجيال المسلمين على مدى التاريخ. وقد أشرنا من قبل إلى أنه يستحيل إعادة الشريط كما هو مرة أخرى في أي فترة من فترات التاريخ. ولكن جوهر التربية الإسلامية لا يمكن أن يتغير، مهما تغيرت الصورة الظاهرة، ومهما تغيرت الملابسات في المجتمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وقد تغيرت ولا شك مظاهر كثيرة منذ ذلك الحين. كان المسجد هو مكان الصلاة ومكان الدرس ومكان الحكم في قضايا الناس، ومكان الإفتاء فيما يعن لهم من أمر، ومكان المؤتمرات السياسية والحربية والاقتصادية والاجتماعية إلخ. ولم يعد ذلك في الإمكان اليوم؛ فقد اتسعت رقعة الحياة من ناحية، واتسع "التخصص" من ناحية أخرى حتى أصبح لكل شأن من هذه الشئون مكان، بل أكثر من مكان. ولم تكن هناك وسيلة إعلام إلا التقاء الناس بالحاكم أو المسئول وجهًا لوجه. واليوم توجد صحافة وإذاعة وسينما وتلفزيون وكتاب. وكانت التربية تتم في يسر -نسبي- بعد انحلال عقدة الشرك ودخول الناس في الإيمان، لأن الجاهلية الأولى -رغم شركها- كانت تحتوي على خصال كثيرة مفتقدة في الجاهلية الحاضرة. كان الناس يأخذون الأمور بجد أكثر. وكانت فيهم استقامة في الطبع، إن قالوا نعم فهي نعم، وإن قالوا لا فهي لا، ولم يكونوا يراوغون في التواء كما تراوغ الجاهلية الحضارة وكانت وسائل الفتنة في المجتمع أقل خطرًا وفتكًا مما هي اليوم. فهي محصورة في أماكنها، من شاء ذهب إليها ومن شاء لم يذهب. ولم تكن تأخذ بتلابيب الناس في البيت وفي الشارع وبالكلمة والصورة والعري المتفنن في الفتنة كما هو الحال اليوم. كما كان من خصال تلك الجاهلية "التوقير" الذي يتعامل به المجتمع، سواء توقير الصغير للكبير، أو توقير "القيم" التي يقتنعون بها، بينما الجاهلية الحاضرة قائمة أساسًا على "عدم التوقير" لأي قيمة أو أي شيء على الإطلاق. تلك كلها فروق تفصيلية ستجابهنا عند تطبيق منهج التربية الإسلامية، سواء كان القائم بالتطبيق هو الدولة أو الجماعة التي تنتدب نفسها للدعوة. وستحتاج منا إلى استحداث وسائل للتربية، أو تطبيقات لم تكن قائمة أولم تكن ضرورية من قبل. ولكن هذه الفروق التفصيلية كلها لا تغير شيئًا في المنهج وروحه. إنها تشبه تصرف الفقه الإسلامي في تطبيق الشريعة: الشريعة ثابتة لا تتغير، والفقه دائم النمو ليواجه حاجات كل عصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 إنما المهم عندنا ثلاثة أمور رئيسية: الأول: أن نعلم من أين نبدأ. ثم ما هو المطلوب منا بعد نقطة البدء، وما هي وسيلتنا لأداء المطلوب منا. وقد بينا ذلك في هذا الفصل. والثاني: أن نعلم أن الجماعة الأولى التي رباها الرسول صلى الله عليه وسلم على عينه، وحقق فيها منهج التربية الإسلامية بتمامه كله، هي القدوة الدائمة لنا بعد شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. وأن صورتها الواقعية هي المرجع الدائم لنا في منهج التربية بعد كتاب الله وسنة رسوله. وأن هذه الجماعة -مع اختلاف بعض أحوالنا عن حالها، واختلاف ظروفها عن ظروفنا- ستظل لأجيال المسلمين كلها -بل لأجيال البشرية كلها- هي النور الذي يستضيئون به ويحاولون أن ينسجوا على منواله. فإن استطاع المسلمون أن يعيدوا سيرتها في أنفسهم في أي جيل من أجيالهم، فهو الخير لهم ولكل البشرية. وإن لم يستطيعوا فلن تذهب محاولتهم هباء، لأنهم سيكونون في أثناء المحاولة قد ارتفعوا بأنفسهم إلى أقصى طاقتهم فيكون الخير. والثالث: أن نعلم أن لا طريق لنا إلا ذلك الطريق الذي سلكته الجماعة الأولى في خروجها من جاهليتها حتى استوائها على قمة الإسلام الشامخة، وأنه برغم اختلاف بعض الأحوال والظروف -مما قد يقتضي تعديلات في تفصيلات المنهج- فإن وجهة المسلمين إن أرادوا أن يعودوا إلى الحياة مرة أخرى، وينفضوا عنهم ذلك الهوان المخزي الذي يعيشون فيه، ينبغي أن تكون هي تلك الجماعة الأولى، وعلى رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن تكون هو موسكو أو لندن أو واشنطن أو بكين.. ولا بأس -بعد أن يتجهوا إلى هذه الجماعة لينسجوا على منوالها ويحاولوا الاقتداء بها- أن يستفيدوا مما يجدونه صالحًا للاستفادة به في موسكو أو لندن أو واشنطن أو بكين! وفيما يلي من الفصول بيان لمنهج التربية الإسلامية من الطفولة إلى مرحلة النضج.. في شيء من التفصيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 الباب الثالث: مع الطفولة حتى الصبا "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" 1. أي إنه يولد على الفطرة السوية، وأبواه يجعلان هذه الفطرة تستقيم على طبيعتها السوية أو يعملان على انحرافها، وذلك حسب التوجيه الذي يوجهانه به، أو التربية التي يربيانه عليها. ومن ثم كانت التربية مهمة خطيرة في حياة البشرية. لا حياتها الدنيا فحسب، وهي التي يحرص عليها البشر كافة، ولكن حياتها الآخرة كذلك، وهي التي لا يحرص الناس عليها في جاهليتهم، ولكن المؤمنين يحرصون أشد الحرص عليها. ومن البدائه في منهج التربية الإسلامية أنه ينبغي أن يكون الوالدان مسلمين حتى يمكنهما تنشئة أطفالهما تنشئة إسلامية. ومع بداهة هذه الحقيقة فكم من الذين يقولون بأفواههم إنهم مسلمون. يحرصون على إسلامهم فهمًا أو ممارسة؟! كم منهم يؤدي شعائر الإسلام التعبدية، فيصلي ويصوم، ويؤدي الزكاة إن كان ممن تجب عليهم، ويفكر في الحج إن كان من القادرين عليه؟ فضلًا على أن يعرف أن "لا إله إلا الله" معناها تحكيم شريعة الله، فيسعى إلى تحكيمها، أو على الأقل ينكر بقلبه حكم الجاهلية، وهو أضعف الإيمان الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليس وراءه من الإيمان حبة خردل؟! "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم   1 متفق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 1. هل نعجب إذن من أن ينشأ الأطفال بعيدين عن الإسلام، وأهلهم لا يتيحون الفرصة لفطرتهم أن تستقيم على طبيعتها السوية، وإنما يعملون على انحرافها بما يمارسون هم من انحراف عن طريق الله المستقيم؟! وكما قلنا من قبل فإن تربية طفل واحد على الإسلام -كتربية ألف طفل, كتربية جميع الأطفال- تحتاج إلى البيت المسلم، والشارع المسلم، والمدرسة المسلمة، والمجتمع المسلم. إن هذه العناصر كلها مجتمعة ذات أثر بعيد في تنشئة الأطفال. هي التي تطبعهم بطابعها، فتنشئهم على استقامة أو تنشئهم على انحراف. وحقيقة إن المزاج الشخصي للطفل، ووراثاته القريبة والبعيدة من أبويه وأهله ذات أثر في تكوين شخصيته لا يمكن إغفاله، فهو يولد بها قبل أن يتاح للبيت أو الشارع أو المدرسة أو المجتمع أن تلقي عليه تأثيراتها وتطبعه بطابعها. وفي البيت الواحد يمكن أن يوجد أخوان ينشآن في ذات البيئة وفي ذات الجو، يكون أحدهما كريما والآخر بخيلا؛ أو يكون أحدهما شجاعا والآخر جبانا, أو يكون أحدهما منفتحًا على الناس والآخر منطويًا على نفسه؛ أو يكون أحدهما مؤثرًا يتعاون مع الآخرين ويبذل لهم من نفسه والآخر أنانيًّا لا يحب إلا نفسه، أو يكون أحدهما محبًّا للسلطان والآخر خانعًا للسلطان. إلى آخر تلك الفروق التي تفرق بين مزاج إنسان وإنسان، وين شخصية إنسان وإنسان. ولكن هذه الوراثات ليست في الحقيقة بالضخامة التي يتصورها الناس عادة إلا حين تترك وشأنها بغير توجيه يقوم انحرافاتها أو يخفف من غلوائها.. فتكون عندئذ هي الغالبة وهي المسيطرة على شخصية الإنسان. وما نقول إن التوجيه والتربية يلغيان أثر الوراثة.. بل لا نقول إنه من الخير في كل حالة إلغاء هذا الأثر من نفس الطفل، فقد خلق الله الناس مختلفي   1 أخرجه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 الطبائع والأمزجة لحكمة يريدها سبحانه، لكي تتنوع الحياة البشرية وتثرى، ولا يكون الناس نسخة واحدة مكرورة كالدودة أو الجرثومة أو الحيوانات الدنيا. والحيوانات العليا ذاتها حين ينعم الإنسان النظر في حياتها يجد فروقًا ظاهرة بين فرد من أفرادها وفرد, ولو كانت كلها من نوع واحد، كأن التنوع ذاته سمة من سمات الرقي في عالم الخلق. فكيف بالإنسان أعلى مخلوقات الله في الأرض وأكرمها على الله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1. إن هذا الإنسان أولى بالتنوع، وأولى بأن يكون التنوع سمة أصيلة من سماته، ثم إن الخلافة التي أقام الله بها الإنسان في الأرض، قد اقتضت في علم الله أن تكون الحياة البشرية متعددة الجوانب فسيحة الآفاق؛ واقتضت كذلك أن تكون طبائع البشر متنوعة متعددة ليقوم المجموع البشري بمهمة الخلافة، كل من موقعه وزاويته، وكل بالجانب الأبرز في كيانه، فهذا يصلح للسياسة وهذا يصلح للحرب, وهذا يصلح للفكر, وهذا يصلح للقول, وهذا ذو طبيعة عملية, وهذا ذو طبيعة نظرية ... وهكذا وهكذا تتعدد الطبائع وتتعدد الوظائف في مهمة الخلافة الشاملة الهائلة. كلا! ما يقول أحد إنه من الخير -حتى إن كان من الممكن- إلغاء الوراثات التي تطبع الطفل بطابعها المتميز وتعطيه شخصية متميزة وقدرات وميولًا واتجاهات متميزة. إنما تقول فقط إن التربية والتوجيه من واجبهما -وهما قادران على هذا الواجب- أن يقوما انحرافات تلك الوراثات ويخففا من غلوائها حين تكون ذات طبيعة حادة متجاوزة للقصد. ومن هنا يكون البيت والشارع والمدرسة والمجتمع هي ذات الأثر الحقيقي والحاسم في تنشئة الأطفال، مع عدم إغفال العامل الوراثي على الإطلاق، بل مع توكيد وجوده وتوكيد أهميته في الحياة البشرية. وذلك على الصورة التي بيناها، وهي أن العامل الوراثي أصيل في النفس، ومطلوب لذاته، ولكن   1 سورة الإسراء 70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 التربية والتوجيه عليهما أن يستخلصا خير ما فيه، ويقوما ما قد يكون فيه من انحراف أو غلو. وحين لا تكون هناك تربية، أو حين تكون التربية والتوجيه فاسدين، فإن انحرافات العامل الوراثي تتأكد بدلًا من أن تقوم، وتبرز بدلًا من أن تسوي. فيخيل الناس حينئذ أن الوراثة هي الغالبة وهي الحاسمة في تكوين الشخصية. وليس الأمر في حقيقته كذلك، إنما يكون كذلك -كما قلنا- حين تترك الوراثة وشأنها دون توجيه. وكل شيء يترك وشأنه لا بد أن يستفحل وأن يصل إلى غاية مداه، لا لأنه هو في طبيعته بهذه القوة وهذا العنف، ولكن لأنه لا يجد عائقًا يعوقه أو يشذبه وهو ماض في طريقه. شجرة اللبلاب من أضعف الشجر عودًا لأنها شجرة متسلقة لا تستطيع أن تعتمد على ذاتها، ولا بد أن تستند إلى شيء تتسلقه وتنمو من فوقه ... ولكن كيف تصبح حين تأخذ مداها من النمو والتسلق والتشابك بمداداتها التي تشتبك عن طريقها بالأشياء؟! إنها تسد عليك الطريق، ولا تستطيع المرور من خلالها إلا بالجهد! وقريب من ذلك أمر الوراثات الموروثة في نفس الطفل.. قد لا تستطيع اقتلاعها البتة، ولكنك تستطيع ولا شك أن تقومها وتشذبها وتخفف من غلوائها، ولو استلزم ذلك بعض الجهد. وكلما بدأت بالتقويم مبكرًا زادت أمامك فرصة الإصلاح. ولكنك إن تركتها حتى تستفحل فقد يصعب الأمر عليك. ولكن الذي نريد أن نؤكده هنا -مع ذلك- أن التقويم -في أي سن وفي أية ظروف- ليس مستحيلًا على الإطلاق وإن اقتضى المزيد من الجهد. وشهادة التاريخ الكبرى في هذا الشأن هي التحول الضخم الذي حدث في نفوس المسلمين الأوائل حين انتقلوا من الجاهلية إلى الإسلام، بكل وراثاتهم وبكل انحرافاتهم المكتسبة في الجاهلية. وأبرز صفحة في هذه الشهادة جميعًا هي صفحة عمر بن الخطاب! فأين عمر في الإسلام من عمر في الجاهلية؟ أين جفوة القلب وخشونة الحس والعناد الأصم من رقة عمر حين أسلم، ولين جانبه إلى الحق وانعطافه إليه، وحساسيته المرهفة وبكائه لآلام الناس؟ ومع ذلك فإن الطابع العام لعمر رضي الله عنه ليس هو الذي تغير، وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 كان مطلوبًا منه في الإسلام أن يتغير. بقيت له قوته وصرامته وحسمه وعزمه. ولكن في الحق والخير وإنفاذ كلمة الله. ثم قوم الإسلام ما كان فيه من انحراف وغلو، فصار عمر في إسلامه آية من آيات الإسلام. تلك شهادة التاريخ، وهي شهادة ذات أهمية بالغة في مجال التربية. إن انحرافات البشرية كلها في أي زمان وأي مكان وأي عمر وأي ظروف، لا تستعصي على العلاج حين يوجد المنهج الحق، مهما احتاجت من جهد. إنما تستفحل وتستعصي حين لا تكون هناك تربية. أو حين تكون التربية والتوجيه فاسدين. ولا نقول مع ذلك إن مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي رباه على عينه، وطبق فيه منهج التربية الإسلامية بكل تمامه، كان مجتمعًا ملائكيًّا أو كان خاليًا من الانحراف والمنحرفين. كلا! وما يمكن أن يكون ذلك في أي مجتمع بشري على وجه الأرض ... فالبشر هم البشر ... وكل بني آدم خطاء. وقد وجد في هذا المجتمع من يسرق ومن يرتكب الفاحشة.. كما وجد فيه المنافقون بكل كذبهم والتوائهم ولؤمهم وخستهم. ولكن المعول عليه في هذه الأمور هو النسبة الغالبة، والتيار الغالب في المجتمع: أهو تيار الخير أم الشر؟ ولقد كان تيار الخير هو الغالب في هذا المجتمع الرباني ولا شك، مع احتفاظه بكل بشريته، ولكن في صورتها الفائقة، وفي مستواها الأعلى، الذي يقترب فيه الواقع من المثال، بل يتطابقان في كثير من الأحيان حتى لا تعود تعرف من شدة العجب أيهما هو الواقع وأيهما هو المثال! وفي مثل هذا المجتمع يوجد الهبوط, ولكنه يكون أقل هبوطًا، ويوجد الانحراف ولكنه يكون أقل انحرافًا.. لأن المجتمع بأكمله -بجميع مستوياته النفسية والخلقية- يرتفع درجات إلى أعلى، فيزداد الخير خيرًا ويقل الشر حدة؛ ويظل الأبيض والأسود قائمين في المجتمع ولكن السواد لا يصبح هو الغالب، ولا يكون هو الشيء الطبيعي الذي لا يثير الاستنكار. وبمثل هذا المقياس تقاس حقائق الأمور. البيت والشارع والمدرسة والمجتمع إذن هي ركائز التربية الأساسية، وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 التي تعطي الحصيلة النهائية للعملية التربوية، مع عدم إغفال الطابع الذاتي والوراثات الخاصة، بل مع توكيد وجودهما وإبراز دورهما في الحياة البشرية. ومن أجل تربية طفل واحد -كتربية جميع الأطفال على السواء- نحتاج أن يكون البيت والشارع والمدرسة والمجتمع في الصورة التي نرغب في تنشئة هذا الطفل عليها، لأن تأثيرها على طفل واحد كتأثيرها على كل الأطفال مجتمعين؛ ومتطلبات طفل واحد منها كمتطلبات كل الأطفال مجتمعين. ولا يحسبن أحد أن هذه القولة تهويل بلاغي أو مبالغة لفظية. كلا إنها حقيقة علمية مجردة لا انفعال فيها ولا تهويل. فما دمت لا تستطيع -ولا ينبغي لك- أن تحبس طفلك -وهو طفل واحد- عن النزول إلى الشارع للعب أو للسير والانتقال فيه؛ ولا عن الذهاب إلى المدرسة ليتعلم؛ ولا عن الاختلاط بالمجتمع ومفاهيمه وعاداته وتقاليده وأنماط سلوكه. ولا عن التأثيرات الناشئة من ذلك كله. فلن تستطيع إذن أن تنشئ هذا الطفل -الواحد- كما تريد أنت، مهما كنت في بيتك على أعلى درجات المثالية في سلوكك الشخصي أو في منهجك التربوي.. صحيح أن البيت هو المؤثر الأول. وهو أقوى هذه العوامل الأربعة جميعًا. لأنه يتسلم الطفل من أول مراحله فيبذر فيه بذوره قبل أي شيء أو أي أحد آخر، ولأن الزمن الذي يقضيه الطفل فيه أكثر "في سنواته الأولى على الأقل" ولأن الأشخاص المحيطين بالطفل فيه هم ألصق الناس جميعًا به وأحبهم إليه "وخاصة أمه" ومن ثم فهم أكثر الناس تأثيرًا فيه بالقدوة وبالتلقين على السواء. كل ذلك صحيح، وسنبين فيما يلي من الكتاب بتفصيل أوفى خطر البيت وعظم تأثيره في التربية، ولكن ذلك لا يعني أنه هو المنفرد بالتأثير، ولا ينفي أثر الشارع والمدرسة والمجتمع في تكوين أخلاق الطفل وعاداته. ولئن وجدت حالات فردية استطاع البيت فيها بجهد يفوق الطاقة أن ينشئ أطفاله على صورة مخالفة تمامًا لما عليه الشارع والمدرسة والمجتمع، فليس هذا أصلًا مفروضًا في طبائع الأشياء، ولا هو بالجهد الذي يقدر عليه كل الناس.. بل وليس كل الناس مؤهلين له ولو أرادوه ورغبوا فيه وعملوا عليه وبذلوا فيه الجهد، فهو يحتاج أن يكون المربون في ذلك البيت -من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 نساء ورجال- ذوي شخصيات فائقة غير طبيعية ... وتلك موهبة لا يهبها الله لكل إنسان! وإن كانت أمنية الأماني لكل إنسان! فمن أجل هذا الطفل الواحد إذن -بحقيقة علمية مجردة لا انفعال فيها ولا تهويل- تحتاج أن يكون الشارع والمدرسة والمجتمع على الصورة التي ترغب في تنشئة ذلك الطفل عليها، إلا أن تكون من ذوي القدرات الفائقة الموهوبة النادرة، ولا تضمن مع ذلك، أن يكون تأثيرك هو الأوحد أو هو الغالب على كل ما عداه! فإن كنا نريد إذن أن نربي أطفالنا تربية إسلامية -وذلك هو المقتضى الطبيعي لكوننا مسلمين- فلا بد -بداهة أن يكون لدينا البيت المسلم، والشارع المسلم، والمدرسة المسلمة، والمجتمع المسلم. وإلا فلن تكون الحصيلة في النهاية كما نريد. البيت كما قلنا هو المؤثر الأول، وهو أقوى العوامل الأربعة جميعًا، بحكم التصاق الطفل به، وقضائه أطول فترة من طفولته في داخله، وبحكم أنه هو أول من يتسلم خامة الطفل ويؤثر في تشكيلها. وقد قلنا إنه في حالات نادرة يكون تأثير البيت معادلًا لتأثير العوامل الباقية كلها أو متفوقًا عليها. ولكنه في جميع الحالات صاحب التأثير الأقوى، إلا أن يكون من التميع والتفكك وضياع الشخصية بحيث ينعدم تأثيره، فيكون الشارع أو المدرسة أو المجتمع هو الأطغى تأثيرًا والأفعل في نفس الطفل. وحتى عندئذ لا يكون تأثير البيت غير موجود، إنما يكون موجودًا بصورة سلبية. أي: إنه -بتميعه وتفككه وضياع شخصيته- طبع الطفل الذي ينشأ فيه بطابعه، فجعله سهل التأثر بكل ما يأتيه من خارج ذاته. والغالب بطبيعة الحال أن يكون البيت والشارع والمدرسة والمجتمع كلها سائرة في اتجاه واحد، ومتجانسة في هداها أو في ضلالتها، فيكون تأثيرها -الطيب أو الخبيث- متوازيًا ومتآزرًا في نفس الطفل، بحيث لا يشعر بانتقال حقيقي من البيت إلى الشارع إلى المدرسة إلى المجتمع الواسع، ولا يشعر بالشد والجذب بين هذا الاتجاه وذاك. ولكن ذلك لا يحدث -بتمامه- إلا في حال استقرار المجتمع على الهدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 أو استقراره على الضلال؛ أي: في حالة وجود تيار غالب مسيطر، يشكل كل شيء بطابعه، ويدفعه في طريقه المرسوم. وحتى حينئذ فلن يخلو الحال من بعض الصراعات الناشئة من الاختلافات الطبيعية بين بشر وبشر، وطائفة وطائفة في ذلك المجتمع ذي الاتجاه الغالب المسيطر. أما في حالات التحول، سواء من الضلالة إلى الهدى، أو من الهدى إلى الضلال، أو التحول من طور من الضلالة إلى طور آخر؛ أو في حالة وجود تيارات متباينة متصارعة في المجتمع، فهنا تكون الصراعات بين البيت والشارع والمدرسة والمجتمع صراعات طبيعية ومتوقعة لا غرابة فيها، وتشتد بمقدار تباين هذه التيارات من ناحية، وبمقدار درجة تصارعها من جانب آخر. فقد تتباين التيارات -فترة- ولا تتصارع، لانعزال كل منها عن الآخر، واكتفائه بوجوده الذاتي بغير رغبة في إزاحة التيارات الأخرى, أو بغير قدرة على إزاحتها. أما حين توجد هذه الرغبة في الإزاحة أو القدرة عليها فلا بد أن ينشأ الصراع ويشتد، ولا بد أن يتمثل في واحد أو أكثر من هذه العوامل الأربعة: البيت والشارع والمدرسة والمجتمع، أو يتمثل فيها جميعًا في وقت واحد. ومن بديهيات المجتمع الإسلامي أن يكون البيت والشارع والمدرسة والمجتمع كلها سائرة في طريق واحد؛ هو طريق الإسلام والتربية الإسلامية، وألا يوجد الصراع بينها، ما دامت كلها تنهج نهجًا واحدًا, وتستمد من معين واحد؛ وأن تتآزر جميعًا على تكوين الشخصية الإيمانية المسلمة التي هي طابع الإسلام وحصيلته الواقعية كذلك. والشخصية الإيمانية المسلمة ليست صورة واحدة مكرورة كالنسخ المطبوعة، وإن كان الإسلام ولا شك يوحد كثيرًا من أنماط السلوك وعاداته، ويجعلها طابعًا مميزًا للمجتمع الإسلامي كله، ينعكس في السلوك الفردي لكل مسلم، كالآداب العامة، وطريقة التعامل في البيع والشراء. وآداب الزيارة، وآداب الحديث، وآداب الزواج، وآداب الأسرة.. إلخ.. إلخ. ولكن هذا التوحيد العام لأنماط السلوك وعاداته لا يلغي الفوارق الذاتية بين البشر المسلمين, ولا يجعلهم نسخًا مكرورة، وإنما يسمح بوجود درجات من الاختلاف تبلغ ما بين أبي بكر وعمر من فوارق، وما بين علي وعثمان، وما بين أبي ذر وخالد بن الوليد! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 كلهم مسلمون على مستوى القمة، ولكل مع ذلك طابعه الخاص! ومع عناية الإسلام بأن يكون البيت والشارع والمدرسة "وكانت يومئذ تقام في المسجد" والمجتمع كلها سائرة في طريق واحد ومؤدية إلى غاية واحدة. فقد كان تركيز الإسلام الأكبر على البيت والأسرة، لأن البيت -بداهة- هو المحض الذي ينشأ فيه الطفل حتى يكبر، ويلتقط منه الانطباع الأول الذي قد يؤثر فيه مدى الحياة. نقول قد ولا نقول على وجه اليقين، لكي لا نغلق الباب أمام التأثيرات الأخرى ذات الفعالية، ولكي لا نغلق الباب أمام التأثيرات التي يمكن أن تحدث تغييرًا شاملًا في النفس في فترات "الانقلابات" الوجدانية التي تحدث في حياة الإنسان بعد مرحلة الطفولة، وبصفة خاصة مرحلة المراهقة، ومرحلة الشباب المبكر.. كما أن الباب مفتوح أمام "الانقلاب" الوجداني في أي مرحلة من مراحل العمر، كالمرحلة التي انتقل فيها عمر رضي الله عنه من الجاهلية إلى الإسلام. وتتضح لنا عناية الإسلام بالبيت والأسرة باعتبارهما محضن الطفولة الأول, وموطن التأثير الأكبر في مجال التربية.. تتضح لنا هذه العناية من مراجعة تشريعات الإسلام وتنظيماته وتوجيهاته جميعًا. فأما التشريعات والتنظيمات فقد كفلت قيام الأسرة على رباط شرعي معلن قائم باسم الله؛ وفي ذلك ما فيه من حفظ الأنساب واطمئنان الأب إلى أبنائه واطمئنان الأبناء إلى أبويهم. وذلك عنصر مهم من عناصر الاستقرار في نفس الطفل، إن لم يدركه وهو صغير فإنه يدركه في مرحلة من مراحل عمره لا محالة، ويدمر كيانه إن لم يستقر فيه على يقين، أو كان اليقين على غير ما يحبه ويرضاه. كما كفلت التشريعات والتنظيمات قيام الزوج بكفالة الزوجة وإراحة أعصابها -في الظروف العادية- من جهد الكدح من أجل لقمة الخبز، وذلك لكي تتفرغ لمهمتها العظمى في تنشئة الأجيال. ولئن كان الجنون الذي أصاب الجاهلية الحديثة هو تشغيل المرأة، وشغلها بقضية المساواة مع الرجل، وحملها على أن تستنكف التفرغ للأمومة وبناء الأجيال القادمة من البشرية, وتعده حطًّا من قيمتها وتضييعًا لمواهبها, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وتصعيب الحياة الاقتصادية وتعقيدها -بخبث- بحيث لا يكفي فيها إيراد الرجل وحده لإقامة بيت وأسرة، لكي تكره المرأة على العمل، أو لكي تجد المبرر الظاهري لهجر البيت والخروج للعمل. لئن كان هذا هو الجنون الذي أصاب الجاهلية الحديثة، فإن المرأة العاملة المتزوجة ذات الأولاد لهي التي تصرخ مستجيرة من ذلك الجهد المهلك المضني، خاصة بعد أن تكثر مطالب الأسرة وتتعدد, وتكون قد شبعت في ذات الوقت -ولو قليلًا- من مهمة الإغراء لجميع الرجال، وتلقي الإعجاب من جميع الرجال!! ولقد كان الإسلام أرأف بها وأرحم، وأعلم باحتياجاتها واحتياجات الطفولة واحتياجات البشرية كلها وهو يضع هذه التشريعات وهذه التنظيمات. وكفلت التشريعات والتنظيمات كذلك وجود قوامة مسئولة عن شئون الأسرة كلها، وجعلت هذه القوامة في يد الرجل الذي هو الزوج والأب كذلك. ولئن كان من جنون الجاهلية الحديثة إثارة المرأة وإحراج صدرها من قيام الرجل بالقوامة عليها, وعلى الأطفال كذلك بوصفه الزوج والأب، فلقد أكرهت هذه الجاهلية أخيرًا على الاعتراف بأن أهم أسباب تشرد الأجيال الحديثة من الشباب، وانغماسهم في انحرافات الشذوذ الجنسي، وانحرافات المخدرات، وانحرافات الجريمة، هو غياب سيطرة الأب، سواء لطغيان شخصية المرأة عليه في داخل الأسرة، أو لتفكك الأسرة وعدم وجود المجال للرجل صاحب السلطان. ولقد كان الإسلام أعرف باحتياجات البشرية السوية وهو يجعل القوامة للرجل داخل الأسرة، ولم يكن ليستجيب لانحرافات الجاهلية -أية جاهلية- وهو المنزل من عند الله العليم الحكيم: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 1. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2. وأما توجيهات الإسلام فهي تدعو إلى توفير أكبر قدر من الاستقرار لهذا   1 سورة البقرة 140. 2 سورة الملك 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 المحضن الذي ينشأ فيه الأطفال، لتكون تنشئتهم في أفضل وضع لهم، وفي أنسب الظروف ملاءمة لنموهم السوي على الفطرة السليمة. فهو أولًا يستثير وجدان المودة والرحمة بين الزوجين، ليكون هذا هو الرباط الأقوى الذي يربط قلب الأب وقلب الأم، فيربط معهما كيان البيت كله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. ثم هو يوصني كلًّا منهما بإحسان المعاملة من جانبه والحرص على هذ الرباط من أن تنفصم عراه، فيقول للرجال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 2. فيجعل الأمل هو الغالب، والصبر على المكروه هو الواجب، فلا يسرع الرجل إلى فصم تلك العلاقة لأول تغير في قلبه، أو بادرة سوء يراها منها. ويضع أمام المرأة الصورة الجميلة لهذه المعاشرة توجيهًا لها أن تحاول تحقيقها، بما يحفظ للبيت استقراره وأمنه: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} 3. ويضع أمامهما معًا صورة دقيقة عميقة للعلاقة بينهما تجعلهما ممتزجين متحدين متداخلين كالإنسان وثوبه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 4. بكل ما يوحي به التعبير من معاني الملامسة والمكاشفة والالتصاق الجسدي والروحي والوجداني كلها في آن. ويدعو إلى علاج كل بادرة من بوادر الخلاف قبل أن تصل إلى القطيعة: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ   1 سورة الروم 21. 2 سورة النساء 19. 3 سورة النساء 34. 4 سورة البقرة 187. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} 1. {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 2. وهكذا ... بكل الوسائل. يحرص على بقاء هذه الرابطة مستقرة جهد الطاقة، ولا يفرط فيها إلا أن تصبح الحياة في ظلها مستحيلة لأسباب غير قابلة للعلاج، فعنئذ لا يكون هناك حل إلا الانفصام، و "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" 3. والملحوظ في هذه التوجيهات كلها، كما هو الملحوظ في التشريعات والتنظيمات، أن تكون الأمور في الوضع الأمثل بالنسبة للرجل والمرأة كليهما، بما يعلم الله من طبائعهما، وبما كلفهما من تكاليف تتعلق بمهمة الخلافة في الأرض: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} 4. كل في دوره وفي وظيفته, وبما هو مهيأ فطريًّا لأدائه. ولكن من الواضح كذلك أنها تهدف إلى ما وراء الرجل والمرأة في ذاتهما. تهدف -بتوفير الاستقرار النفسي والعصبي والاجتماعي والاقتصادي للرجل والمرأة- إلى تهيئة الجو الصالح للأمومة والأبوة، لتنشئة الأجيال المقبلة في أنسب وضع لهذه التنشئة وأفضل وضع. فلا شيء ييسر التربية السليمة ويجعلها أقرب إلى إيتاء الثمرة المرجوة من الجو المستقر حول الطفل، والحب المرفرف حوله من خلال الأبوين، ولا شيء يفسد التربية ويجعلها أبعد عن إيتاء ثمرتها من جو القلق العصبي والنفسي والفكري والروحي، والجو المشحون بالبغضاء والشقاق والتوتر.   1 سورة النساء 34-35. 2 سورة النساء 128. 3 أخرجه أبو داود والحاكم. 4 سورة النساء 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 ومن البديهيات -كما أسلنفا- أن يكون الأم والأب مسلمين ليتمكنا من تربية أطفالهما تربية إسلامية. إنها بديهية من أجل الرجل بمفرده، ومن أجل المرأة بمفردها، ولكنها أكثر بداهية, وأشد ضرورة من أجل تنشئة جيل قادم على مبادئ الإسلام. الإسلام بالنسبة للكبار والصغار تربية وممارسة عملية. وليس دعوى تدعى ولا ألفاظًا تقال والتنشئة على الإسلام لا بد لها من جو معين، ينشأ فيه الكبير أو الصغير، يتلقى فيه تعاليم الإسلام، ويتشرب روحه، ويمارسه ممارسة فعلية، ويتكون منه في نفسه رصيد واقعي. وبغير ذلك يكون الإسلام صورة بغير واقع، أو دعوى بلا رصيد. والإسلام نزل من عند الله ليطبق ويمارس ويعاش في واقع الحياة. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. فليس الإسلام دعوى فارغة ولا أمنة تتمنى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} 2. وليس الإسلام كذلك ميراثًا يورث بغير وعي. فالذين "يرثون" الكتاب وراثة لا يعملون به: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3. إنما هو ميراث حي، ينبغي أن يورث بالتربية الواقعية عليه، فيصبح رصيدًا ذاتيًّا للجيل الناشئ، يعيشونه في عالم الواقع، ويورثونه بدورهم لمن   1 سورة النساء 64. 2 سورة النساء 123-124. 3 سورة الأعراف 169. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 يليهم من الأجيال على نفس الصورة: صورة الممارسة الفعلية والتربية الواقعية. وبذلك يستمر الواقع الإسلامي قائمًا ومتصل الحلقات. ولقد كان كذلك خلال قرون متطاولة من الزمان، ولكن الوهن التدريجي، سرى إلى المسلمين فتخلخلت قبضتهم رويدًا رويدًا عن حبل الله الذي أمرهم أن يعتصموا به: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} حتى جاءت أجيال أخذت الكتاب "وراثة" ليس غير. فانقطع الحبل المتصل. وصرنا إلى ما صرنا فيه من الضياع. إنما الأصل في الإسلام أن يسلمه كل جيل إلى الجيل الذي يليه أمانة حية فاعلة في واقع الحياة. ذات رصيد واقعي متمثل في سلوك عملي إلى جانب التصورات والمشاعر. سلوك عملي يترجم مفاهيم الإسلام وتصوراته ومبادئه وأخلاقياته إلى واقع ملموس. ولا يكون هذا -بداهة- إلا بأن يكون الأب والأم ذاتهما مسلمين بالمعنى الحقيقي للإسلام، لا إسلام الأسماء ولا شهادات الميلاد! فالأب والأم وأي إنسان في الوجود لا يستطيع أن يعطي إلا من الرصيد الذاتي الذي يملكه، وفاقد الشيء لا يعطيه. فإن لم يكن لهم ذلك الرصيد الذاتي من الإسلام فكيف ينشئون غيرهم على الإسلام؟! ولقد تستطيع المدرسة المسلمة -بالجهد- ولقد يستطيع المجتمع المسلم -بالجهد كذلك- أن يربيا إنسانا -صغيرًا أو كبيرًا- تربية إسلامية لا يكون ترباها في البيت على يد أبوين مسلمين. ولكن جهدهما غير مضمون الثمرة لأن تأثير البيت المعاكس يظل دائمًا عرضة لإفساد ما تحاوله المدرسة ويحاوله المجتمع. إلا أن ينقل الإنسان إلى بيئة جديدة تمامًا غير البيئة التي نشأته بادئ ذي بدء، حيث يتلقى الإسلام على أصوله ويمارسه ممارسة واقعية تمسح من نفسه آثار الانحراف. ولكن الأصل في الأشياء كما أسلفنا أن يكون البيت المسلم هو المحضن الطبيعي والموئل الأول الذي ينشئ الطفل تنشئة إسلامية صحيحة. وينبغي لذلك أن يكون الأب والأم في ذاتهما مسلمين إسلام الممارسة الواقعية كما أرادها الله. وسنتحدث في نهاية كل فصل من الفصول القادمة "من الصبا إلى الشباب الباكر" و"من الشباب الباكر إلى النضج" و"مرحلة النضوج" عما يمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 تحقيقه من منهج التربية الإسلامية في المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه، حيث نفتقد البيت المسلم والشارع المسلم والمدرسة المسلمة والمجتمع المسلم، ولكننا ينبغي في المبدأ أن نرسم الصورة في وضعها الإسلامي الكامل الصحيح. لنعرف الأصل الذي ينبغي علينا تحقيقه، ولنعلم -في كل لحظة- كما حققنا من هذا الأصل، وكم أعجزتنا الظروف القائمة عن تحقيقه، لنحاول من جديد، ونظل نحاول حتى نصل -في أي جيل من الأجيال- إلى تحقيق الصورة الحقيقية الأصيلة. وينبغي أن نعلم، ونحن نرسم الصورة الحقيقية، أنها ليست الصورة "المثالية" التي يعلم الناس سلفًا أنها غير قابلة للتطبيق! كلا! ليس الإسلام كذلك! إنه دين واقعي ونظام واقعي، قابل للتطبيق بحذافيره في عالم الواقع. وقد طبق بالفعل في عالم البشر بتمامه كله. وليس هناك مانع نظري ولا عملي يمنع من تطبيقه بكل تمامه مرة ثانية! إن هذا الدين لا يفرق بين المثال والواقع، لأن مثله مرسومة بحيث تستطيعها الطاقة البشرية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 1. ولأنه يربي أتباعه بالصورة التي ترتفع بواقعهم إلى أقصى حدود طاقتهم، فيلتقون بالمثال. لذلك فليست هناك في الإسلام تلك الفجوة المعهودة بين المثال والواقع أو -كما يعبرون في أوربا- بين النظرية والتطبيق. ولقد كان "ولفرد كانتول سميث" صادقًا في ملاحظته في كتاب "الإسلام في التاريخ الحديث ISLAM IN MODERN HISTORY" ص 17 وهو يقارن بين الإسلام والمسيحية من جهة، وبينه وبين الشيوعية من جهة أخرى، حين قال إن الإسلام يعمل على تحقيق "ملكوت الرب" في الحياة الدنيا ولا يرجئ تحقيقه إلى الآخرة كما تفعل المسيحية. و"ملكوت الرب" في تعبير ذلك المستشرق، هو الحكم الرباني، الحكم بما أنزل الله. أي: الصورة المثالية للإسلام. وهي كما يقول بحق، قابلة للتطبيق   1 سورة البقرة 286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الواقعي، وجهد المسلمين في الأرض يتجه إلى تحقيقها في عالم الواقع1. فحينما نرسم الصورة الصحيحة الأصلية للبيت المسلم، والشارع المسلم. والمدرسة المسلمة، والمجتمع المسلم، فنحن نرسم الصورة الواقعية التي عاشتها الجماعة المسلمة الأولى وارتفعت فيها بالواقع حتى التقت بالمثال. ثم بعد ذلك ننظر ماذا نستطيع نحن -في جاهليتنا المعاصرة- أن نطبقه من صورة الواقع أو من صورة المثال. تبدأ تربية الطفل المسلم من نقطة سابقة كثيرًا على مولده. وهي وجود أبوين مسلمين هما ذاتهما قد تربيا على الإسلام. وبمقدار رصيدها الذاتي من التربية الإسلامية يكون توقعنا لثمرة تربيتهما لهذا الطفل، على أحد احتمالات ثلاثة: أن يكون مزاج الطفل الوراثي أفضل منهما؛ أو على مستواهما؛ بافتراض أنهما شخصان عاديان؛ أو أسوأ منهما نتيجة تراكمات سيئة قد لا تظهر في أحد الأبوين بمفرده, ولكنها تتراكم بالتقائهما، أو نتيجة وراثات بعيدة في الأسرة من غير الوالدين. فأما في الحالة الأولى فسيكون استعداد الطفل لتلقي مبادئ التربية الإسلامية طيبًا، وسيخفف كثيرًا من الجهد الذي يبذله الوالدان في التربية، وسيكون للجو الإسلامي الذي يعيشه البيت تأثير تلقائي كبير في نفس الطفل، فلا يحتاج إلى أكثر من توجيهات عابرة بين الحين والحين، وإلى تلقين الأمور التي تحتاج بطبيعتها إلى تلقين. وأما في الحالة الثانية -التي نفترض أنها الحالة المتوسطة، والتي عليها الكثرة الغالبة من الناس- فسيكون الجهد المبذول أكبر، والعناية المطلوبة أشد. فنحن مع كائن عادي، لديه الاستعداد للخير والاستعداد للشر؛ الاستعداد للصعود والاستعداد للهبوط؛ الاستعداد للاستقامة والاستعداد للالتواء. بنسب متقاربة. والتربية هي التي يمكن أن ترفع نسبة أحدهما على الآخر، بما ترسخ من وجود أحدهما, وتقاوم من وجود الآخر.   1 لا يقول هذا لوجه الله! ولكن يكفينا هنا شهادته تلك! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وأما في الحالة الثالثة فالأمر يحتاج إلى جهد خاص لا بد أن يبذله الوالدان لتقويم تلك الوراثات السيئة في وقت مبكر، قبل أن تكون لها السيطرة على نفس الطفل. ولا بد أن يكون لها السيطرة إذا تركت وشأنها دون تقويم. أما حين يكتشفها الوالدان في وقت مبكر، ويتعهدانها بالملاحظة والرعاية والتوجيه، فسيحدث التعديل المطلوب بقدر نسبي من اليسر، أيسر بكثير من محاولة هذا التقويم في فترة متأخرة من العمر. ومع ذلك فلن يكون الأمر مستحيلًا حتى حينئذ. فهناك أكثر من فرصة للتقويم، ولإحداث تغييرات جذرية في النفس البشرية على امتداد حياة الإنسان. وسنقصر حديثنا في التربية على الحالة الثانية والثالثة، حالة الطفل ذي الوراثات العادية، والطفل ذي الوراثات السيئة، مع إشارات عابرة للحالة الأولى، حالة الطفل ذي الوراثات الممتازة، ذلك أنه أيسرها جهدًا وأقلها كلفة في البيت المسلم، وإن كان عرضة لكثير من ألوان الجنوح في البيت الجاهلي والمجتمع الجاهلي! والأب المسلم والأم المسلمة شخصان يعتقدان بوجود إله واحد، ويوقران هذا الإله، وتظهر في تصرفاتهما آثار هذا التوقير، بالتزام أوامر الله وعدم التبجح بالخروج عليها، وإن وقعت منهما هفوات فلا يصران عليها. تلك هي الصورة "العادية" للمسلم والمسلمة. وليست هي الصورة المثالية كما قد يبدو لنا في غربة الإسلام الحالية، التي انحدرنا فيها إلى مستوى أصبحنا ننظر فيه إلى الشخص الذي لا يسرق أو لا يكذب، أو الذي يفي بما يعد، كأنه شخص أسطوري يتسامع به الناس ولا يصدقون وجوده! إنما الصورة المثالية شيء آخر أعلى بكثير من مجرد التزام أوامر الله, وعدم التبجح بالخروج عليها. إنها الخشية الدائمة لله، والتقوى الدائمة لله, والتطوع النبيل بما هو أكثر من الحد الأدنى المفروض، واحتمال الأذى في سبيل الله، والجهاد بالأنفس والأموال ابتغاء مرضاة الله. تلك هي الصورة المثالية، الواقعية في ذات الوقت، التي تحققت في ألوف الأفراد بل في مئات الألوف في المجتمع المسلم الأول، وما زالت تتحقق كلما مس قلب بشري تلك الشحنة المقدسة فاستضاء منها بقبس من نور الله. أما الصورة العادية فهي التي يفترض أن يكون عليها كل مسلم ومسلمة! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وليس معنى ذلك أنهم سيصبحون ملائكة لا يخطئون! كلا.. إن كل بني آدم خطاء. ولكن خير الخطائين هم التوابون كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك لم نقل إنهم لا يخطئون. إنما قلنا فقط إنهم لا يتبجحون بالخروج على أوامر الله! فإذا أخطئوا. ولا بد لكل بشر أن يخطئ.. عادوا إلى الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا عليها وهم يعلمون. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} 1. كما أن الأب المسلم والأم المسلمة شخصان متحابان في الله، متعاونان على إقامة الإسلام في ذات نفسيهما، يأتمران بالمعروف ويتناهيان عن المنكر، ويتناصحان في الدين. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2. وليس معنى ذلك أنه لا يقع بينهما خلاف ولا شقاف ولا عتاب. فهذا لا يمكن أن يتحقق في عالم البشر. ولم يتحقق في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة البشرية كلها، والذي قال القرآن في أزواجه رضوان الله عليهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} 3. إنما معناه أنهما يئوبان سريعًا إلى الله، فلا يستمر الخلاف والشقاق والعتاب، ولا يصبح هو الصورة الغالبة على الحياة. وغني عن البيان أن الأب المسلم والأم المسلمة لا يخدع أحدهما الآخر ولا يغشه ولا يكذب عليه "في غير المباح! " ولا يدبر له المكائد ولا يخونه ولا يسرقه ولا يسعى إلى دماره. وحتى إن كان أحدهما يكره الآخر فقد أمرا   1 سورة آل عمران 135-136. 2 سورة التوبة 71. 3 سورة الأحزاب 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 بالتجمل والصبر، والإبقاء على الصلة القائمة بينهما. وإلا فإنهما يفترقان بالمعروف إذا تعذرت بينهما الحياة. في مثل هذا الجو يولد الطفل المسلم، فتتلقاه منذ اللحظة الأولى الفرحة الفطرية بالوليد، التي تلتقي عندها البشرية كلها، مهتدية وضالة، لأنها من أمور الفطرة التي لا تتعلق بالهدى والضلال. ولكن يفترق بعد ذلك الطريق. فبينما لا يشغل الناس في الجاهلية إلا تلك الفرحة الفطرية، والحنان الفطري والرعاية الفطرية للوليد، فإن الأبوين المسلمين يحسان إلى جانب ذلك بمسئولية معينة تجاه الله، هي أن ينشئا طفلهما على منهج الله. فذلك قائم في حسهما من أول لحظة، وهما على وعي منه، ما داما مسلمين حقًّا، وليسا مسلمين "بالوراثة" أو بالاسم أو بشهادة الميلاد! وهما يتحريان ذلك الأمر، ويعملان له، ويجتهدان فيه. وفي مبدأ الأمر يكون وعي الطفل ضئيلا وإدراكه في أضيق حدود, ولكن غير صحيح أنه لا يعي على الإطلاق.. فهو في أيامه الأولى يعي تلك البسمة الحانية في وجه الأم، ويرتاح لها، وتطمئن نفسه إليها. ويعي غضبها كذلك وينزعج منه ويبكي. وهو لا يملك من وسائل التعبير في أيامه الأولى، وشهوره الأولى كذلك إلا بسمة الرضا والارتياح, أو بكاء القلق والانزعاج والخوف والغضب والجوع والألم من كل نوع، مع حركات معينة في جسده في حالة الرضا، وحركات عصبية مع البكاء؛ ولكنه إن كان ضئيل القدرة على التعبير فليس معنى ذلك أنه ليس لديه ما يعبر عنه! بل إنه ليحمل في قلبه الصغير شحنة ضخمة من العواطف والانفعالات، إن تكن وقتية، وإن تكن سريعة الاستهلاك، فهي مع ذلك تخط خطوطها في تلك الصفحة البيضاء أو الباهتة الخطوط! الحقيقة أن الصفحة ليست بيضاء كما نتوهم، بمعنى أنها خالية من الخطوط. هل رأيت الثمرة في بدء تكونها؟ إنها خضراء كلها ما تزال.. ولكن دقق النظر فيها تجد أن فيها بداية للملامح التي ستكون عليها في المستقبل بداية خطوط، لم تتلون بعد ولكنها بدأت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 تتميز وبداية تعريجات هنا وهناك. إنها بداية تكون "الشخصية" المميزة للثمرة! والطفل كذلك.. إنه ليس صفحة بيضاء بغير خطوط.. هناك خطوط باهتة لم تتميز بعد، ولكنها ستتميز لا محالة. إما على صورتها الموروثة بغير تعديل إذا لم يحدث تدخل معين في شأنها، وإما على صورة معدلة إذا حدث تدخل مقصود. وكل انفعال يمر في نفس الطفل، وكل تجربة يخوضها، تجربة سرور ورضاء أو تجربة خوف أو انزعاج أو ألم أو قلق، تحفر مكانها أو تخط خطها في تلك الصفحة، حتى يتكون فيها في النهاية خط بارز واضح نتيجة تراكم التجربة وتراكم الانفعال. ومن هنا خطورة السنوات الأولى في حياة الطفل ... وإن كانت كما أسلفنا لا تغلق الباب نهائيًّا أمام فرص التعديل في أي مرحلة من مراحل العمر القادمة، وخاصة في مواسم "الانقلابات" الطبيعية في المراهقة والشباب المبكر. في تلك الصفحة البيضاء ظاهريًّا، الباهتة الخطوط في الحقيقة، ترتسم الملامح الأولى للشخصية، ويتوقف الكثير على طريقة التعامل الذي يتعامل به الأبوان مع الطفل. وفي تلك المرحلة الباهتة الخطوط قد لا يستطيع الوالدان أن يميزا تلك الخطوط بسهولة، لأنها باهتة أولًا، ولأن وسائل التعبير عند الطفل محدودة للغاية قبل أن يستطيع النطق ويتعلم التعبير باللغة، الذي هو معجزة من معجزات الخلق في هذا المخلوق البشري: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. ولكن حتى مع عدم وضوح الخطوط تمامًا فإن الأم تبدأ تدرك شيئًا عن مزاج الطفل وطبائعه، فهي ألصق الناس به وأقربهم في التعامل إليه. وعلى   1 سورة البقرة 31. 2 سورة النحل 78. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 أي حال فإن مطالب الأطفال جميعًا في تلك المرحلة متقاربة ومتشابهة، وإن اختلفت الطبائع والأمزجة كثيرًا فيما بعد. كل الأطفال يطلبون الحب والحنان والرعاية والأمن في حضن الأم أو قريبًا منها. والأم بفطرتها تعطي ذلك الحنان والحب. وتؤدي تلك الرعاية المطلوبة. ولكن الجاهلية الحديثة تسيرها ضد فطرتها وضد حاجة الطفل الفطرية حين تفرض عليها أن تعمل، وأن توزع نفسها بين مطالب العمل ومطالب الأمومة، وهي مطالب متضاربة في الوقت والجهد والاتجاه النفسي والعصبي كذلك! ثم تروح تزعم أنها تعمل على حل مشاكلها بتيسير المحاضن لأطفال الأم العاملة! وما أبأسه من حل، يضيف إلى تعاسة الأم العاملة وتوزع وقتها وجهدها وطاقتها العصبية مشكلة التشرد النفسي لأطفال المحاضن، الذي تنشأ عنه أجيال مشردة من الشباب، تصنع في نفسها ما نراه اليوم من ألوان الانحراف والفساد! والأم المسلمة -في المجتمع المسلم- في ظل الدولة المسلمة التي تطبق شريعة الله ومنهجه في الحياة- عليها أن تدرك هذه الحقيقة إدراكًا واضحًا عميقًا: أن الطفل -في سنواته الأولى على الأقل- يحتاج إلى أم متخصصة لا يشغلها شيء عن رعاية الطفولة وتنشئة الأجيال. وأن كل أمر تقوم به خلافًا لتدبير أمر البيت ورعاية أطفاله إنما يتم على حساب هؤلاء الأطفال, وعلى حساب الجيل القادم من البشرية. فأما حين تكون الضرورة قاهرة فهي الضرورة القاهرة، نخضع لها بلا اختيار. وأما التطوع بالفساد بغير ضرورة ملجئة فهي الحماقة التي ترتكبها هذه الجاهلية باسم التقدم والعلم والحضارة في القرن العشرين! وكل الضرورات الاقتصادية التي افتعلتها هذه الجاهلية لإكراه المرأة على العمل، أو لإعطائها المبرر الظاهري لهجر البيت والخروج إلى الشارع للفتنة.. كلها لا تبرر ذلك الدمار الذي يصيب البشرية في أنفسها من جراء إلغاء وظيفة "الأم المتخصصة" من المجتمع، ووضع "الأم العاملة" بدلًا منها، أي: الأم الموزعة الجهد والوقت والأعصاب.. وذلك فضلًا على أنها ضرورات مفتعلة وغير حقيقية؛ إنما خططها الشياطين, وعقدوها ليزعموا أنه لا حل لها إلا تشغيل المرأة. وما أيسر الحل لو أرادت الجاهلية الحل بالفعل {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ! فرفع تكاليف الحياة ليس "تطورًا حتميًّا" وإنما هو من صنع رأس المال المسيطر اليوم على البشرية، كما أن عمل المرأة ليس هو حله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 الوحيد حتى لو كان ضرورة لا فكاك منها! ولتجرب هذه الجاهلية -إن كانت صادقة بالفعل في البحث عن الحل- فلتجرب أن تعطي الشاب المتزوج الذي لا يتزوج موظفة إعانة زواج تساوي أجر الزوجة الموظفة! ولتنظر بعد ذلك كم ينتظم الإنتاج في الدواوين والمصالح والمصانع، وكم تتهيأ الظروف لتنشئة أجيال من البشر مطمئنة مستقرة لا تتشرد ولا تنحرف ولا يجرفها التيار!! الأم المسلمة -في المجتمع السلم- في ظل الدولة المسلمة التي تطبق شريعة الله ومنهجه في الحياة- أم متخصصة إلا في حالة الضرورة القاهرة، وهي ضرورة نادرة الحدوث في المجتمع المسلم والدولة المسلمة. وهي بتخصصها ذلك تمنح الطفل حاجته الفطرية إلى الحب والحنان والرعاية. فينشأ نشأته السوية التي تتوازن فيها نفسه، أو يكون لديها على الأقل استعداد للتوازن المطلوب. وتلك نقطة البدء في تربية الطفل، وهي نقطة بدء خطيرة في حياة البشرية؛ لأنها هي التي ترسم مستقبل البشرية! إن الحب الذي تمنحه الأم للطفل، ولا يستطيع غيرها أن يمنحه إياه، هو الذي يعلم الطفل الحب، ويوازن في نفسه خط الكره الفطري، الذي ينبت في النفس تلقائيًّا؛ لأنه من خطوط الفطرة التي يولد بها الإنسان1. كل إنسان سوي يولد وفي نفسه مجموعة من الخطوط المتوازية المتضادة في الاتجاه، كالخوف والرجاء، والحب والكره، والحسية والمعنوية، والإيمان بما تدركه الحواس, والإيمان بما لا تدركه الحواس، والواقع والخيال، والفردية والجماعية، والسلبية والإيجابية، والالتزام والتحرر، وكلها خطوط أصيلة في الفطرة البشرية، وتؤدي عملها في تكوين البناء النفسي للإنسان. وفي نفس الطفل تكون هذه الخطوط كلها باهتة لم تتميز بعد بشكل واضح، كالثمرة في بدء تكونها، ولكنها موجودة بغير شك. والمعاملة الخارجية للطفل هي التي تعمق هذه الخطوط وتبرزها، أو تعمل على وقف نموها فتظل على حالتها الطفلية، أو تكبتها فتحول بينها وبين التعبير عن نفسها بصورة محسوسة. وأغلب الانحراف ينشأ في هذه الخطوط المتقابلة. فهي في حالتها السوية   1 انظر فصل "خطوط متقابلة في النفس البشرية" في الجزء الأول من كتاب "منهج التربية الإسلامية" أو في كتاب "دراسات في النفس الإنسانية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 متوازنة في حدود معقولة من الميل هنا أو هناك. ولكن حين يبرز أحد الخطين المتقابلين ولا يبرز الآخر المقابل له "وهذه هي الصورة الغالبة" أو يبرزان معًا بروزًا زائدًا عن الحد، أو ينقصان معًا نقصًا زائدًا عن الحد، فهنا ينشأ الانحراف. والأمزجة الوراثية السيئة إن هي إلا نوع من هذه الأنواع الثلاثة من الانحراف، وأولها -كما قلنا- هو الغالب، ولكن الأخيرين كذلك موجودان بنسب متفاوتة في البشرية. وهنا تأتي مهمة التربية لإعادة التوازن إلى هذه الخطوط المتقابلة ومنعها من الانحراف. فأما إن كانت التربية فاسدة فإنها تنشئ الانحراف من عندها أو تزيده حدة إن كان موجودًا من قبل. ولنعد إلى خطي الحب والكره، فإنهما من أخطر الخطوط في بناء النفس الإنسانية. يولد الطفل بخطين باهتين متقابلين، أحدهما يتجه إلى الحب والآخر يتجه إلى الكره. كلاهما فطري، وكلاهما ضروري في حياة الإنسان. كل إنسان لأن كل إنسان ينبغي أن يحب وأن يكره. يحب الأشياء التي يجب أن تحب، ويكره الأشياء التي يجب أن تكره. وإلا فهو إنسان غير سوي، ناقص الكيان. وحين يترك الإنسان بغير توجيه فهو عرضة لنوع معين من الاختلال في هذين الخطين، فيحب ذاته بأكثر مما ينبغي. ويكره الآخرين. وهذا -بالذات- هو الذي يحتاج إلى التعديل، لإنشاء التوازن بين الخطين، وإعادته كلما اختل. والذي ينشئ التوازن، ويعيده إذا اختل، هو هذا الحب الذي يضفيه الوالدان، والأم خاصة، على ذلك الطفل الوليد، بالقدر المضبوط الذي يحتاج إليه، بلا زيادة ولا نقصان. فإذا لم يجد الطفل ذلك الحب لأي سبب من الأسباب، سواء كان السبب قسوة وغلظة في قلب الأم، أو شقاقًا وشجارًا دائمًا بين الوالدين لا يجعل في نفسهما فسحة يتجهان بها إلى الطفل بالحب والعطف، أو كان السبب انشغال الأم عن الطفل بالعمل خارج البيت، فهناك نتائج لفقدان هذا الحب كلها سيئة على الإطلاق. وأبرزها أن ينمو خط الكره دون أن ينمو خط الحب، أو بأكثر منه، فتنشأ في نفس الطفل الكراهية للآخرين والحقد عليهم، فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 يرتبط بهم برابطة الحب والتعاون الضروريين لبناء البشرية. وليس أقل هذه النتائج سوءًا أن ينزوي الطفل وينطوي على نفسه فيكون سلبيًّا لا ينتفع منه المجتمع بشيء. والأم المسلمة عليها أن تدرك ذلك بادئ ذي بدء. عليها أن تدرك أنه لا شيء على الإطلاق ينبغي أن يحول بينها وبين منح الطفل حاجته الطبيعية من الحب والحنان والرعاية. وأنها تفسد كيانه كله إن هي حرمته حقه من هذه المشاعر، التي أودعها الله برحمته وحكمته في كيانها بحيث تنفجر تلقائيًّا لتفي بحاجة الطفل، حين تسير الأمور في مسارها السوي ولا تتدخل الجاهلية لتلويَها عن الطريق. كذلك عليها أن تدرك في نفس الوقت أن هناك قدرًا مضبوطًا من الحب والحنان والرعاية هو المطلوب. وأن الزيادة فيها كالنقص، كلاهما مفسد لكيان الطفل في مقبل حياته. الزيادة تؤدي إلى التدليل. والتدليل يؤدي إلى رخاوة الكيان النفسي للطفل -فتى كان أو فتاة- والرخاوة عيب في البناء تجعله غير متماسك، وغير صالح للاعتماد عليه في مهمات الأمور. وظروف الحياة لا تتركنا لأنفسنا ولا ترحم رخاوتنا: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 1. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} 2. والمدللون ذوو الطبائع الرخوة لا يقدرون على الكدح، فيتعبون في حياتهم ويُتعِبون. والأم المسلمة عليها أن تدرك أن الإسلام جهاد دائم في الأرض. جهاد لتكوم كلمة الله هي العليا.. حهاد يشترك فيه الرجل والمرأة كلاهما.. كل في دوره ووظيفته وما هو مهيأ له. وأن الطفل الذي ينشأ اليوم -فتى كان أو فتاة- هو رجل الغد أو امرأة الغد. وكلاهما -في الإسلام- يؤدي دوره في الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا. فينبغي أن يؤهل لهذا الجهاد منذ اللحظة   1 سورة الانشقاق 6. 2 سورة البلد 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 الأولى. منذ مولده. بأن يعطي القدر المضبوط من الحب والحنان والرعاية، بغير نقص مفسد ولا زيادة مفسدة، وأن كل نقص أو زيادة في ذلك العنصر الحيوي، إنما تفسد بقدرها من كيان هذا الطفل، الذي هو رجل الغد أو امرأة الغد، ونحن محاسبون أمام الله عن كل فساد نحدثه في الفطرة السوية، وعن كل تضييع لطاقة كان يمكن أن تبذل من الجهاد في سبيل الله. والتربية في حقيقتها مسئولية أمام الله: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" 1. فإذا أخذ الطفل نصيبه وحقه من الحب والحنان والعطف، فقد جاءت المرحلة الثانية من مراحل تربية الوليد، وهي تعويده على "الضبط". وهي مسألة ذات خطر كذلك في حياته. إن "الضوابط" في كيان الإنسان فطرية كالدوافع سواء بسواء. ولكن الدوافع أبرز ظهورًا وأسبق، كما أنها تعمل من تلقاء ذاتها. أما الضوابط، فمع كونها فطرية، فإنها تتأخر في ظهورها أولًا، وتحتاج إلى معونة خارجية لتنميتها، لأنها دائمًا تواجه ثقلًا أو ضغطًا معينًا، عليها أن توازنه أولًا ثم تتغلب عليه، مثلها مثل وقوف الطفل وحركته، ومثل نطقه بالأحرف والكلمات كلتاهما طاقة كامنة في تكوينه، ولكنها تحتاج إلى معونة خارجية لتنميتها. الأولى لأنها تقاوم جاذبية الأرض، والثانية لأنها تقاوم ثقلة اللسان، فإذا لم تتلق المعونة الخارجية فقد تعجز عن العمل أو تتأخر عن موعدها المعهود2. والطفل في حاجة إلى معونة أمه لكي يتعلم الضبط ويتعوده. أول ما يحتاج إليه هو ضبط إفرازاته. والأم تعود طفلها تدريجيًّا على ضبط هذه الإفرازات بتخصيص مواعيد معينة لها، والجسم يتعود على عملية الضبط هذه تلقائيًّا, ولكن بعد التدريب الذي يستغرق لا محالة فترة من الوقت. ثم يحتاج إلى ضبط رضاعته ... وهذه كذلك يتعود عليها الطفل بعد التدريب. وقد يكون الأمر شاقًّا في المبدأ ولكنه ضروري مع ذلك، وإن بكى الطفل واستاء من هذا الضبط.   1 أخرجه البخاري ومسلم. 2 انظر فصل "الدوافع والضوابط" في كتاب "دراسات في النفس الإنسانية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 والأم التي ترضع طفلها كلما بكى، لكي يسكت، أو لأنها لا تطيق أن تسمعه يبكي، تضره بذلك لأنها لا تعينه على ضبط رغباته، ولا تعوده على ذلك الضبط في صغره فلا يتعوده في كبره. ومن منا تتركه ظروف الحياة لرغباته يشبعها كما يشاء؟ وذلك فضلًا على أن المسلم بالذات ينبغي أن يتعلم الضبط ويتعوده منذ باكر عمره، لأن الجهاد في سبيل الله لا يستقيم في النفس التي لا تستطيع ضبط رغباتها، فتنساق معها. وكيف يمكن الجهاد بغير ضبط للشهوات والرغبات، حتى إن كانت في دائرة المباح الذي لا إثم فيه في ذاته، ولكنه يصبح إثمًا حين يشغل عن الجهاد في سبيل الله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1. فكل ما ذكرته الآية ليس محرمًا في ذاته، ولكنه صار فسقًا وحرامًا حين أصبح سببًا في القعود عن الجهاد في سبيل الله، وحين رجحت كفته في ميزان القلب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله. فما الوسيلة للاستقامة على ميزان الله إلا ضبط هذه الرغبات، والاستغناء عنها حين تحول بين الإنسان وبين سبيل الله؟! والضبط مقدرة يتدرب الإنسان عليها وعادة يتعودها. وكلما تدرب عليها وهو صغير كان أقدر عليها وأكثر تمكنًا منها، فيجدها حاضرة في أعصابه حين تفجؤه الأحداث. هذان الخطان من خطوط التربية: الحب والحنان والرعاية من جانب، وتنمية القدرة على الضبط من الجانب الآخر، هما من الخطوط الأصيلة والدائمة في منهج التربية الإسلامية، لا يختصان بمرحلة بعينها من مراحل العمر، وإنما يظلان عاملين طالما كان هناك تربية وتوجيه. والحق أنهما يمثلان -معًا- أصلًا من الأصول الإسلامية وهو التوازن.   1 سورة التوبة 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 فالمنهج الإسلامي منهج متوازن، وهدفه هو إنشاء "الإنسان الصالح" الذي هو في ذات الوقت إنسان متوازن1. وسنرى من كل تفصيلات المنهج أن التوازن هدف أصيل يسعى الإسلام لتحقيقه في واقع الأرض، ليكون الإنسان في وضعه الأسمى الذي خلقه الله عليه, ولا يميل فيفقد توازنه وينتكس إلى أسفل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} 2. والحب والحنان والرعاية -كما رأينا- عنصر حيوي للنمو النفساني السليم للطفل، وللإنسان عامة، ولكنه حين يزيد عن حده ينشئ الرخاوة والترهل البدني والنفسي والروحي والفكري. فلا بد من عنصر آخر يوازنه هو الضبط. والضبط كذلك له معيار لا ينبغي أن يزيد عنه أو ينقص. فالزيادة أو النقص في أي عنصر من عناصر التربية كلاهما مفسد، لأنه يخل بالتوازن المطلوب. حين تزيد قوة الضبط فهي عرضة لأن تزيد على حساب حيوية الإنسان وقدرته على الانطلاق والإيجابية الفاعلة في الأرض. وحين تنقص فإنها تعطي مجالًا للرخاوة والترهل. أو للفوضى. وكلاهما أمر لا يحبه الإسلام؛ لأنه مخالف للميزان المضبوط الذي يريد أن يربي أتباعه عليه، والذي يريد الله أن تقوم عليه حياة البشر على الأرض. والوالدان الحكيمان يستطيعان بحكمتهما وخبرتهما أن يضبطا "الميزان" بحيث تعتدل كفتاه، ما بين الحب والرعاية والعطف، وبين الحسم الذي ينمي القدرة على الضبط، مع مراعاة الفروق الفردية بين طفل وطفل حسب وراثاته الذاتية، وحسب ظروفه الذاتية. فهناك طفل أحوج إلى الحنان والعطف لكي يتوازن كيانه، وطفل أحوج إلى الحسم لكي يتوازن كيانه كذلك. فلا يعطى الاثنان جرعة متماثلة من العطف أو الحسم، إنما يعطى كلٌّ منهما ما يناسبه من هذا وذاك. ولا بد من الحذر وإعادة الموازنة كلما قطعنا شوطًا من التربية.   1 انظر الجزء الأول من "منهج التربية الإسلامية". 2 سورة التين 4-5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 فالطفل المعتل الصحة كثيرًا ما يتلقى من أبويه -وأمه خاصة- جرعة زائدة من الرعاية والعطف، يكون محتاجًا إليها بالفعل في أثناء مرضه، ولكنها تفسده إن ظل يتناولها على الدوام بعد انتهاء الحاجة إليها، وتعرضه لأن يكون هش البناء النفسي والعصبي، سريع التأثر، قليل الصبر على الجهد والمجالدة. لذلك لا بد من تقليل هذا القدر الزائد من العطف تدريجيًّا، وزيادة الجرعة المعطاة من الصلابة والحسم حتى يتعادل الميزان. ولو أن هذه عملية شاقة -على الأم بصفة خاصة- ولكن عليها هي كذلك أن تتعود الضبط لمشاعرها تجاه أطفالها، فذلك خير لهم في مستقبل الحياة. وعلى العكس من ذلك الطفل العنيف الدوافع، بالوراثة أو لأي سبب آخر. إنه أحوج إلى عنصر الحسم ليوازن اندفاعاته، وليتعود القدرة على ضبطها حتى لا تجمح به ولا تجنح. ولكن ليس معنى هذا هو استمرار الشدة عليه بسبب وبغير سبب، فذلك كفيل أن يفسده ويزيده نشوزًا بدلًا من إصلاحه. وخاصة إذا وصل الأمر إلى أن يحس الطفل -وهما أو حقيقة- أن أبويه لا يحبانه ولا يريدانه. والأمر كما قلنا يحتاج إلى حكمة يداول فيها الأبوان بين العطف والحسم، مرة هكذا ومرة هكذا حتى يستقيم ما هو معوج من كيان الطفل، ويستطيع أن يضبط نزواته. كما ينبغي أن تكون سياسة الأبوين موحدة أو متقاربة تجاه الطفل بحيث لا يشعر أن هناك فارقًا ملحوظًا بين معاملة كل منهما له. وبالذات لا ينبغي أن يقف الأبوان موقفين متعارضين -أمام الطفل- تجاه عمل قام به، أحدهما -مثلًا- يطالب بعقابه والآخر يعارض في توقيع العقوبة عليه، فإن هذا يفسد الموازين في حسه، ويشعره بأن الأمور ليس لها ضابط محدد، ولا معيار معين يلتزم به. وأن في إمكانه أن يخالف تعاليم أحد الوالدين ويجد من يدافع عنه من طرف آخر! وحتى حين يكون موقف الوالدين مختلفًا بالفعل في تقدير ما ينبغي أن يعامل به الطفل في موقف معين، فلا يجوز لهما أن يعلنا خلافهما ذلك أمام الطفل، إنما فيما بينهما فيما بعد، وعلى غير مسمع من الطفل، لأنه يدرك مغزى الخلاف بين الوالدين بشأنه -مهما بدا لنا أنه لا يدرك- ويتأثر بنتائجه - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 مهما بدا لنا أنه لا يتأثر- والنتيجة كما قلنا هي اضطراب المعايير في حسه، بحيث لا يصبح الخطأ والصواب واضحي المعالم عنده، ومن ثم لا يعود يلتزم بما يطلب منه. وليس معنى ذلك -إذا أسرف أحد الوالدين في العقاب مثلًا- أن يقف الطرف الآخر مكتوفًا وهو يحس بهذا التجاوز، ولكنه عليه أن يقوم بتسكين الموقف دون إظهار المعارضة. كأن يأخذ الطفل بعيدًا ويقول له: انظر كيف أغضبت أباك -مثلًا- لأنك صنعت كذا وكذا. اعتذر له لكي يرضى عنك. وبذلك ينقذ الطفل من العقاب الزائد دون أن يحس أن أبويه قد اختلفا بشأنه. ثم ينبغي أن نتجنب السياسة المقررة سلفًا إزاء الطفل، بمعنى أنها لا تتغير مهما غير سلوكه. فإن ذلك مفسد له في جميع أحواله سواء كان يتلقى جرعة زائدة من العطف أو الحسم. فإنه إن كان يتلقى جرعة زائدة من العطف -كسياسة مقررة دائمة مهما فعل- فإن ذلك يغريه بالمخالفة وعدم الطاعة وعدم الانضباط، معتمدًا على أنه يتلقى العطف دائمًا مهما أخطأ، ومهما عظم خطؤه. وذلك فساد ولا شك. وإن كان يتلقى جرعة زائدة من الحسم -كسياسة مقررة دائمة مهما فعل- فإن ذلك ييئسه من تغيير مشاعر والديه نحوه مهما عدل من سلوكه وأصلح من عيوبه. وذلك يغريه أن يعدل عن التصحيح ويتمادى في الخطأ ما دام لا يجد التقدير على الجهد الذي يبذله لإصلاح نفسه، ولا يجد التشجيع. كما أنه يولد في حسه شعورًا بالاضطهاد والظلم، فيدمر في نفسه القاعدة التي تنبني عليها في المستقبل القيم العليا والمبادئ، لأنه يجد في أقرب الناس إليه وألصقهم به -وهما الوالدان- نموذجًا سيئًا لأنه ظالم، فكيف يتعلم هو العدل؟ وكيف يتعلم بقية القيم والمبادئ التي يقوم عليها الإسلام؟! إلى هذا الحد تؤثر تلك الأمور التي تبدو صغيرة وعابرة وغير ذات وزن. ونشير هنا -بالمناسبة- إشارة عابرة إلى أن مثل هذا كان هو السبب في جفوة عمر رضي الله عنه في الجاهلية. فقد كان أبوه -الخطاب- شديدًا جافيًا عليه، نابذًا له واجدًا عليه، فنشأت فيه هو تلك القسوة والشدة التي كان يشكو منها المسلمون قبل أن يسلم عمر ويتعدل بناؤه النفسي كله بلمسة الإيمان. ومن أجل ذلك يحرص الإسلام حرصًا شديدًا على ألا يحس الطفل بالظلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 من والديه. ويوصي الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الأخوة لهذا السبب ذاته، لأنه شعور أي واحد منهم بوقوع الظلم عليه من والديه يفسد كيانه. ويدمر -كما قلنا- القاعدة التي تنبني عليها في المستقبل تلك "القيم" و"المبادئ" التي هي حقيقة الإسلام. ولا يمكن أن يقوم البناء بغير قاعدة يلتقاها الطفل في أيامه الأولى من المحيطين به، وأقربهم إليه وألصقهم به هما الوالدان. وذلك ينتقل بنا إلى الخط الثالث من خطوط التربية الإسلامية بعد المعيار المضبوط من "العطف" و"الحسم" و"القدوة". لقد كبر الطفل الآن شيئًا ما، وكبر معه وعيه وإدراكه، فأصبح أكثر إدراكًا لما حوله وأكثر تأثرًا به، وهنا تأتي مرحلة من أشد المراحل خطورة في حياة الإنسان، وهي مرحلة الاقتداء بمن حوله. فإذا كانت القدوة حسنة فهناك أمل راجح في صلاح الطفل، وإن كانت القدوة سيئة فهناك احتمال أرجح بفساده. وقدرة الطفل على الالتقاط -الواعي وغير الواعي- كبيرة جدًّا، أكبر مما نظن عادة ونحن ننظر إليه على أنه كائن صغير لا يدرك ولا يعي! نعم. حتى وهو لا يدرك كل ما يراه فإنه يتأثر به كله! فهناك جهازان شديدا الحساسية في نفسه هما جهاز الالتقاط وجهاز المحاكاة. وقد يتأخر الوعي قليلًا أو كثيرًا، ولكن هذا لا يغير شيئًا من الأمر. فهو يلتقط بغير وعي، أو بغير وعي كامل، وهو يقلد بغير وعي، أو بغير وعي كامل، كل ما يراه حوله أو يسمعه. ومن طريق الالتقاط والمحاكاة يتعلم الكلام، وهذا يثبت أن هناك قدرًا من الوعي يكفي لتعلم معاني الأصوات والمفردات والجمل، وينفي فكرة عدم الإدراك التي يتوهمها كثير من الناس في الطفل الصغير. وإذا كانت الأمور الأخرى -التي نسميها معنوية- أخفى وأعقد على إدراك الطفل، فهذا لا يعني عدم إدراكها البتة، فإن عملية تعلم اللغة وإدراكها معجزة ضخمة يحار العلم في تكييفها، وتدل دلالة قاطعة على أن هذا الكائن البشري يتفجر وعيه في وقت باكر جدًّا، أبكر كثيرًا مما نعتقد نحن الكبار! وأيًّا كان القدر الحقيقي للوعي والإدراك في هذه السن الباكرة، وأيًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 كانت درجة التوصيل بين جهازي الالتقاط والمحاكاة وجهاز الوعي، فإن جهازي الالتقاط والمحاكاة -بوعي أو بغير وعي- يرسمان -أو يعمقان- خطوطًا كثيرة ورئيسية في البناء النفسي للطفل. ولا شك أنه لا يدرك ما ندركه نحن الكبار من معنى القيم والمبادئ. ولكنه -بطريقة ما- ينشئ في نفسه قاعدة تنبني عليها تلك المبادئ في المستقبل فإذا كانت القاعدة مضطربة ومعوجة فليس لنا أن نأمل أن تكون القيم والمبادئ سليمة عنده. وقد مر بنا منذ قليل كيف أن إحساس الطفل بالاضطهاد والظلم من أبويه يؤثر في بناء هذه القاعدة فيدمرها بدلًا من أن يشيدها. ورويدًا رويدًا -مع زيادة الوعي- يلتقط من أبويه -بالقدوة- قدرًا متزايدًا من القيم والمبادئ، السيئة أو الحسنة حسب الأحوال! ومرة واحدة من القدوة السيئة تكفي! مرة واحدة يجد أمه تكذب على أبيه أو أباه يكذب على أمه، أو أحدهما يكذب على الجيران. مرة واحدة كفيلة بأن تدمر قيمة "الصدق" في نفسه، ولو أخذا كل يوم وكل ساعة يرددان على سمعه النصائح والمواعظ والتوصيات بالصدق! مرة واحدة يجد أمه أو أباه يغش أحدهما الآخر أو يغشان الناس في قول أو فعل. مرة واحدة كفيلة بأن تدمر قيمة "الاستقامة" في نفسه، ولو انهالت على سمعه التعليمات! مرة واحدة يجد في أحد من هؤلاء المقربين إليه نموذجًا من السرقة, كفيلة بأن تدمر في نفسه قيمة "الأمانة". وهكذا ... وهكذا في كل القيم والمبادئ التي تقوم عليها الحياة الإنسانية السوية. وقد يغفر الطفل للآخرين أن يكذبوا ويخدعوا ويسرقوا ويغشوا ويخونوا ... أو لا يتأثر به كثيرًا، أو لا يتأثر به على الإطلاق. إذا كان يأوي إلى ركن ركين من القيم والمبادئ متمثلة في أبويه. وخاصة حين يبين له أبواه بالقدر الكافي من الإبانة والتوضيح أن تلك نماذج سيئة لا ينبغي له أن يحاكيها، مستندين إلى النموذج الطيب الذي يقدمانه هما لطفلهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 ولكنه لا يغفر لأبويه أبدًا شيئًا من ذلك، ولا يمكن أن يمر شيء منه بغير تأثير عميق في نفسه. قد يبقى بقية العمر كله لا يتغير. ومن هنا كان حرص الإسلام الشديد على أن يكون الأبوان في ذاتهما مسلمين، أي: ممارسين لحقائق الإسلام وقيمه ومبادئه، وحرصه على تربية الناس على منهج الإسلام، لكي يكونوا هم القدوة المباشرة لأبنائهم في الفترة التي ينحصر عالم الطفل فيهم، فتتكون في نفوس الأطفال-بالالتقاط والمحاكاة- تلك القيم والمبادئ الإسلامية بغير جهد يذكر، وتنشأ في نفوسهم منذ الصغر فتكون عميقة الجذور، ثم يزيدها التعليم رسوخًا، ويزيدها المجتمع الإسلامي قوة، حين يكبر الطفل فيتلقى التعليم، ثم يكبر أكثر فيحتك بالمجتمع ويأخذ منه ويعطي. ومن هنا كذلك كان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توصية الرجل وهو يتزوج أن يظفر بذات الدين، فيقول له: "تنكح المرأة لأربع خصال: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك" 1. فذات الدين هي الركن الركين في إقامة البيت المسلم والأسرة المسلمة، وفي تنشئة الأطفال -بالقدوة قبل التلقين- على قيم الإسلام ومبادئه منذ نعومة أظفارهم، فتصبح عادة لهم وطبيعة، وتصبح جزءًا من كيانهم ليس من السهل أن يحيدوا عنه حين تحاول أن تلويهم الأعاصير. وحين توجد القدوة الحسنة متمثلة في الأب المسلم والأم ذات الدين فإن كثيرًا من الجهد الذي يبذل في تنشئة الطفل على الإسلام يكون جهدًا ميسرًا وقريب الثمرة في ذات الوقت. لأن الطفل يستشرب القيم الإسلامية من الجو المحيط به تشربًا تلقائيًّا، وستكون تصرفات الأم والأب أمامه في مختلف المواقف، مع بعضهما البعض ومع الآخرين، نماذج يحتذيها ويتصرف على منوالها. وليس معنى هذا أنه لن يبذل جهد على الإطلاق في عملية التربية، أو أنها كلها ستتم تلقائيًّا عن طريق القدوة المتمثلة في الوالدين. كلا! لا يمكن أن تتم التربية بلا جهد! إنها جزء من "الكدح" المكتوب على البشرية أن   1 أخرجه الشيخان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 تكدحه في الأرض! ولكن هذا الجهد يكون محببًا إلى النفس ولا شك حين يرى الإنسان ثماره الجنية، ويراها قريبة المنال. ولا شك أن الجهد سيختلف من طفل إلى طفل حسب مزاجه ووراثاته وظروفه الخاصة. فأما الطفل ذو الوراثات النفسية الفائقة1 والظروف الطبيعية، فسيكون أقل الجميع حاجة إلى الجهد، وسيكون أكثرهم تشربًا للقدوة الصالحة من حوله وأشدهم تأثرًا بها، لأن لديه استعدادًا طبيعيًّا فائقًا لتلقي القيم والمبادئ الصالحة والانطباع بها والممارسة العملية لها، ولن يحتاج إلا إلى قليل من التوجيه بين الحين والحين. والتوجيه مرة واحدة في الأمر الواحد قد يغنيه بقية العمر فلا يحتاج إلى توجيه جديد. وأما الطفل ذو الوراثات العادية فستكون القدوة الطيبة معينًا كبيرًا له في الاستواء على الميزان، لأنها ستنمي جانب الخير الطبيعي في نفسه وستجعله هو الأرجح وهو الأقرب انبعاثًا حين يهم الطفل بالتصرف في أمر من الأمور. ولكن لن تكفيه القدوة وحدها، أو لن تكون هي حافزه التلقائي في كل حالة. ولا بد -رغم وجود القدوة الطيبة وتأثيرها الأكيد فيه- من ملاحظة تصرفاته أولًا بأول، وتوجيه إلى الصواب كلما أخطأ أو هم بالخطأ، بشيء من الرفق أحيانًا وشيء من الحسم أحيانًا "مع التغاضي بين الحين والحين" حتى يتعود الاستواء ويصبح طبيعة ذاتية له، فيقترب -بعد هذا الجهد- من الطفل ذي الوراثات الفائقة، الذي استوى على الميزان بغير جهد يذكر. وأما الطفل ذو الوراثات السيئة فهو طفل متعب، رغم وجود القدوة الطيبة أمامه. ذلك أن وراثاته السيئة تلتوي به عن قبول القدوة الطيبة ومحاكاتها، لأن استعداده للانحراف أكبر من استعداده للاستواء. ولكن ليس معنى هذا -من ناحية- أن القدوة الطيبة عديمة الأثر في   1 نفرق هنا بين الوراثات النفسية الخاصة بالأمزجة والطبائع والوراثات العقلية الخاصة بدرجة الذكاء، كما نفرق بينها كذلك وبين الاستعدادات الخاصة التي يولد بها الطفل كالاستعداد الفني أو العملي أو العلمي أو اليدوي. إلخ. ونهتم هنا بصفة خاصة بالوراثات النفسية. وإن كانت الأخرى داخلة في الاهتمامات التربوية دون شك، ولكنها تجيء تالية للبناء النفسي السليم للطفل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 نفسه، ولا أنه -من ناحية أخرى- مستعص على التربية السليمة. معناه فقط أنه طفل متعب، وأنه في حاجة إلى جهد زائد لكي يستقيم. ونستطيع -بمعادلة حسابية- أن نقول: إن القدوة الطيبة هي دائمًا قيمة موجبة، يحذف بإزائها قدر مساو من الجهد. فالحالة التي تحتاج إلى جهد متوسط تصبح -بوجود القدوة الطيبة- في حاجة إلى جهد يسير. والحالة التي تحتاج إلى جهد كبير تصبح -مع القدوة- في حاجة إلى جهد متوسط فحسب. والحالة التي تحتاج إلى جهد ضخم بصورة غير عادية تصبح -مع القدوة- في حاجة إلى جهد كبير ولكنه في حدود الطاقة، مع وجود أمل أكبر في نجاح الجهد. وهكذا لا تضيع القدوة الطيبة أبدًا في أية حالة. والطفل ذو الوراثات السيئة في حاجة إلى ملاحظة أدق ومتابعة أشق. ولا يكفي توجيهه مرة ومرة ومرة. فقد يعود بعد هذه المرات كلها إلى ارتكاب ذات الخطأ أو ذات الجرم الذي نبه إليه. وعندئذ لا بد من مزيد من الحسم, ولكن بالصورة التي لا تفسد القلب ولا تيئس الطفل من عطف والديه، ولا بد من تشجيعه عند أي تحسن يطرأ على حالته ليظل على خط التحسن, ولا ينتكس بدافع اليأس وعدم التقدير. ولا بد من الصبر الطويل حتى يستقيم الحال. ولا بد أن يشعر الطفل - بصورة ما- أن والديه، حتى في وقت شدتهم عليه من أجل الخطأ الذي يرتكبه، لا يكرهانه ولا ينبذانه. إنما يحبان له الخير، ويشتدان عليها أحيانًا من أجل حبهم له وحبهم لصلاح أمره. مهمة شاقة ولا شك.. خاصة حين تبطئ الثمرة ويطول الجهد ويطول التدريب. ولكنها أبدًا ليست ميئسة! وفي النهاية، بعد الجهد الشاق المضني، قد لا يصل ذلك الطفل أبدًا إلى مستوى الطفل ذي الوراثات الفائقة أو قريبًا منه. ولكن لا شك أنه سيكون أصلح وأكثر استقامة مما لو ترك بغير هذا الجهد الشاق.. كما أن حالته كانت ستكون أسوأ لولا وجود القدوة الطيبة من حوله. إنه -بغير هذه القدوة وبغير هذا الجهد- كان سيصبح مجرمًا جانحًا محترفًا للشر مدمنًا عليه. فأي نجاح للتربية حين ترفعه من هذه الهوة إلى أن يصبح إنسانًا يخطئ ولكنه يفيء إلى الصواب، وينحرف عن السلوك الأمثل ولكنه لا يقع في الجريمة؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 لا شك أنه نجاح يذكر. وأنها -في النهاية- ثمرة تستحق كل ما بذل فيها من جهد، من أجل الأبوين ذاتهما فإنه أروح لقلبيهما دون شك أن يريا أبناءهما أقرب إلى السواء من أن يكونوا أقرب إلى الانحراف، ثم من أجل المجتمع كله في النهاية، فإنه خير للمجتمع أن يكف أفراده -ولو بالجهد- عن الاتجاه إلى الجريمة، من أن يجند جهده لمكافحة الجريمة وقد يفلح وقد يخيب. وفي كل حالة من الحالات الثلاث رأينا أن القدوة الصالحة عنصر رئيسي ذو أهمية بالغة في عملية التربية. ولكنه ليس وحده. إنه لا بد -دائمًا- من عنصر آخر إلى جانب القدوة، لا غنى عنه مهما كان من صلاح القدوة وعظم استقامتها على الطريق. لا بد من التلقين. ولو كانت القدوة تكفي وحدها لإتمام عملية التربية والوفاء بكل المطلوب فيها لكانت القدوة العظمى للبشرية كلها، ممثلة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، كافية وحدها لإقامة منهج التربية الإسلامية. ولكن هذه القدوة على ضخامتها التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية كله حتى على مستوى الأنبياء والرسل، كانت تلجأ إلى التلقين والتوجيه، فضلًا على الكتاب المنزل، وهو كله من أوله إلى آخره تلقين وتوجيه. ذلك أن أمورًا بأعيانها لا بد من التلقين والتوجيه فيها. بالإضافة إلى أن البشر جميعًا مهما علت مراتبهم واستقامت فطرتهم لا يمكن أن بنيانهم النفسي كله بالتلقي التلقائي عن طريق القدوة، ولا بد أن يحتاجوا إلى التلقين والتوجيه بين الحين والحين. وعلى الرغم من أن التلقين يأتي تاليًا للقدوة في الترتيب والأهمية, وأنه يعتمد اعتمادًا كاملًا عليها، حتى إنه بغير القدوة الصالحة لا يثمر، بل قد يأتي بثمار عكسية إذا وجدت القدوة السيئة. على الرغم من ذلك كله فإن التلقين عنصر عظيم الخطر في ذاته وضرورة لا غنى عنها على الإطلاق، لكل الناس في كل الأعمار، وللأطفال بصفة خاصة، الذين لا تتسع مداركهم ليفهموا -تلقائيًّا- حكمة كل تصرف يقوم به الكبار فيلزم تلقينهم إياها، والذين تختلف دوافعهم عن دوافع الكبار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وقدرتهم على الضبط عن قدرة الكبار، فيعجزهم ذلك عن أخذ القدوة في بعض الأمور فيلزمهم التلقين. وذلك كله فضلًا على الوراثات المختلفة التي قد تجعل الطفل عجينة مختلفة التركيب عن عجينة أبويه. فلا يحدث الالتقاء التلقائي بينهما وبينه. ولا يلتقط القدوة تلقائيًّا، فيحتاج إلى التلقين. كثيرًا ما يسأل الطفل أمه أو أباه: لماذا تصنعون كذا؟ يريد أن يعلم حكمة تصرف معين لأنه لم يستطع إدراكها، ولا يريد أن يأخذ ذلك التصرف بالقدوة دون أن يعرف سببه أو حكمته. عندئذ لا بد من تلقينه السبب حتى يطيع الأمر عن علم أو عن اقتناع. وهنا وقفة عند "الاقتناع".. سببها ما أشاعته التربية الأمريكية خاصة، والتربية المستندة إلى نظريات التحليل النفسي عامة، من أنه لا يجوز فرض الأوامر فرضًا على الطفل دون اقتناع منه بأدائها، لأن ذلك يولد في نفسه كبتًا ويفسد شخصيته! ألا إنها فتنة متلفة. تسببت في كثير من التميع والانحلال والتفكك الذي أصاب هذا الجيل من الشباب في كل العالم "المتحضر" الذي غزته جاهلية القرن العشرين وأتلفت مقومات نفسه ومقومات حياته. أما "العلم" فلا بأس أن يعلم الطفل حكمة أي تصرف أو سببه. أما تعليق تنفيذه للأمر على اقتناعه هو الشخصي بصواب ذلك الأمر فمفسدة للطفل أي مفسدة! فصلًا على مجافاته لأبسط مقتضيات المنطق السليم. وإلا فما العمل حين تكون خبرة الأرض كلها قد استقرت على أمر معين ولكن الطفل غير مقتنع به؛ لأن خبرته المحدودة تعجزه عن إدراك الحكمة فيه؟! نترك الأمر الضروري اللازم، الذي نعلم نحن -بوعينا وخبرتنا- أنه ضروري ولازم، وأن عدم الإتيان به ضرر محقق. نتركه، ويحدث الضرر، لأن الطفل لم يقتنع به بعد، وقد لا يقتنع به أبدًا؟!! ونزعم أن ذلك تربية. ونقول إنها تربية "حديثة"؟! ومن أين نشأ شباب "الهيبيز" إلا من هذه التربية الحديثة؟! ومن أين نشأت انحرافات الشباب في الدول المتحضرة -على طريق الجاهلية الحديثة- إلا من أنهم "لم يقتنعوا" بالقيم والمثل والأخلاق والمبادئ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 فتركهم آباؤهم وشأنهم حتى يقتنعوا. ثم لم يقنتعوا حتى اللحظة، وسيطول انتظار البشرية حتى يقتنعوا!! ألا إنها سفاهة في الرأي لا تنشأ إلا في الجاهلية المفككة العرى، المتحللة الروابط، المنحلة القوام. فضلًا على التدبير الشيطاني الماكر الذي يزين ذلك للبشرية في صورة "علم" و"مناهج تربوية" و"نظريات نفسية". وجميل جدًّا أن يقتنع الطفل -أو الشاب- أو الإنسان الناضج بحكمة ما يفعل، فإن ذلك أيسر للتنفيذ القلبي وأرجى للثمرة من التنفيذ بغير اقتناع. ولكن أن نكل الحق - الذي نعلم أنه حق- إلى اقتناع كل فرد، وفيهم الشخص الضيق المدارك, وفيهم الشخص ذو الطبائع الملتوية, وفيهم الشخص المتمرد على كل أمر لمجرد أنه أمر ولو علم أنه الحق. هذا أمر لا يأتيه إلا من سفه نفسه بفعل الجاهلية المتراكمة على قلبه حتى تطمس بصيرته. وإن منهج التربية الإسلامية ليقوم ابتداء على طاعة الله، طاعة تسليم وإخبات، سواء "علم" الإنسان الحكمة أم لم يعلم، وسواء "اقتنع" بها عقله أم لم يقتنع: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2. {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3. {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 4. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 5. ثم إن هذا التسليم المطلق لا يكون لغير الله, وللرسول الذي ينطق بالوحي الإلهي:   1 سورة النساء 65. 2 سورة الأحزاب 36. 3 سورة النور 51. 4 سورة البقرة 140. 5 سورة البقرة 232. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2. فمن حق المسلم -بل من واجبه- أن يسأل: لماذا؟ حتى إذا علم أنه أمر الله ورسوله فقد انتهى السؤال ووجبت الطاعة وإلا فقد انتفى الإيمان. والله سبحانه وتعالى -برحمته- يتفضل على البشر أحيانًا ببيان حكمة التشريع، ويعطيهم التشريع أحيانًا أخرى بغير بيان حكمته. وفي الحالين تلزم الطاعة ويلزم التنفيذ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 3. فيبين لهم حكمة تحريم الخمر والميسر. ويقول لهم أحيانًا أخرى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} 4. فلا يبين لهم حكمة التحريم. وهذه واجبة الطاعة كتلك. ولا يمنع الله سبحانه وتعالى البشر عن استنباط حكمة التشريع بالاجتهاد في ذلك, ولكنه لا يكل تنفيذهم لأوامره إلى معرفتهم بحكمة هذه الأوامر.. فهو العليم بها وبما وراءها من خير. وعلى البشر الطاعة في كل حالة ولو جهلوا الحكمة، لأن الطاعة هي العبادة التي خلق الله الجن والإنس ليقوموا بها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5. ومنهج التربية الإسلامية يقوم على ذات القاعدة، لأنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله، أي: من مصادر الوحي.   1 سورة الحشر 7. 2 سورة النجم 3-4. 3 سورة المائدة 90-91. 4 سورة المائدة 3. 5 سورة الذاريات 56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وتطبيقه على الطفل مقتضاه التلقين والتوجيه والأمر فيما لم يأخذه الطفل -تلقائيًّا- عن طريق القدوة، وهو بالنسبة إليه كثير. ولا بأس بشرح حكمة الأمر للطفل حتى يقتنع به وهو ينفذه. فذلك أيسر للتنفيذ القلبي وأرجى للثمرة. ولكن لا بد من الإلزام حين تعجز مدارك الطفل عن تبين الحكمة، أو تلتوي به طباعه عن تقبلها. ولا يجوز بحال أن نعلق تنفيذ الأمر على اقتناع الطفل به، خاصة بعد أن رأينا ثمار ذلك المنهج الجاهلي في شباب الهيبيز، والمنحلين من كل نوع من أرجاء الأرض. وليس معنى هذا هو التحكم الفارغ من الأبوين لمجرد الإلزام بالطاعة وتعويد الطفل عليها. فذلك حري أن ينتهي بالطفل إلى التمرد إن كان شديد المراس، أو الاستكانة والانطواء والاستخذاء إن كان لين القوام النفسي, وكلاهما فساد. إنما معناه أن يتحرى الوالدان القصد في الأوامر، ولا يأمرا إلا بما له فائدة حقيقية في التربية، ولو لم يدركه الطفل في حينه ولم يقتنع به. مع ترك المجال دائمًا لقدر من الاختيار في تصرفات الطفل، لكي لا ينشأ سلبيًّا من ناحية، ولكي يتعود من طفولته أن يتحمل تبعة عمله. فيختار، ويتحمل تبعة ما يختار. والوالدان المسلمان يستمدان أوامرهما ونواهيهما وتوجيهاتهما بصفة عامة من كتاب الله وسنة رسوله. ولكن لا بد أن تواجههما حالات لا يجدان فيها النص المنطبق على الحالة، فيجتهدان؛ ولكن عليهما كما قلنا أن يتحريا القصد ولا يفرضا الالتزام الكامل إلا في جديات الأمور، أو في الأمور التي يقدران أن الطفل لا يحسن التصرف فيها لو ترك الأمر فيها إليه وحده, ومع ذلك فإنه يحسن في الحالة الأخيرة أن تشرح للطفل الاحتمالات المختلفة التي يمكن أن تواجهه، ويترك له حق الاختيار والاختبار، فذلك أدعى إلى تنمية شخصيته وتأهيلها للتصرف في الواقف، وتحمل تبعة التصرف. وذلك من منهج الإسلام. ذلك وجه من أوجه التلقين الضرورية بالنسبة للطفل. وهناك أوجه أخرى. فدوافع الطفل كما قلنا تفترق عن دوافع الكبار، وقدرته على الضبط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 تفترق عن قدرتهم. ومن هنا لا تكفي القدوة أو لا تؤثر في بعض المواضع ويلزم التلقين. قد يكون الأب والأم بعيدين عن الكذب، كما ينبغي للأب المسلم والأم المسلمة، وقد يكونان في حياتهما لم يكذبا كذبة أمام الطفل. ولكن ليس مقتضى ذلك حتمًا ألا يقع الطفل في الكذب. إنما مقتضاه فقط أنه يسهل رده عنه إلى أن يتعود الصدق ويستقيم عليه. فالطفل له دوافعه الذاتية للكذب، التي لا يستمدها من قدوة سيئة أمامه، وكذلك لا ترده عنها القدوة الصالحة تلقائيًّا بغير تلقين وتوجيه، وجهد يبذل في التلقين والتوجيه. فهو يكذب أحيانًا -دون أن يقصد الكذب- بدافع من قوة خياله، الذي يجسم له أشياء لم تحدث، فيراه كأنما حدثت بالفعل، ويقصها على أنها واقع. وعند ذلك لا ينبغي أن يجابهه الوالدان بأنه كذاب. بل تكون نصيحتهما له أن يتذكر جيدًا، وأن يدقق في التذكر، لعل الأمر ليس كما يقول، ولعله كذا وكذا. حتى يرداه إلى حقيقة الواقعة. وهو يكذب أحيانًا بقوة خياله كذلك ولكن على وجه آخر. فهو يتمنى، ثم يصدق ما يتمنى ويتخيل أنه حدث بالفعل، فيشبع رغبته بتحقيقها في الخيال. ثم يصدق الخيال. وهذا كالسابقة لا يجوز مجابهته فيها بأنه يكذب، إنما يكون التذكير حتى يعود إلى الواقع. ويكذب أحيانًا -بالتمني- ولكن على وعي بالكذب، تحقيقًا لأمان ورغبات لا تتحقق في واقع حياته "فيفشر" ويزعم أنه يمتلك كذا، أو يصنع كذا، مما يحقق له بطولة وهمية، أو تعظيمًا لشخصه على غير الواقع. وغالبًا ما يكون هذا "الفشر" مع أقران الطفل، الذين يشعر في دخيلة نفسه أنه أقل منهم. وهذه حالة مرضية تحتاج إلى علاج. وليس علاجها مواجهة الطفل بأنه كذاب و"فشار". أو على الأقل إن كان أقرانه يواجهونه بذلك فلا ينبغي للأبوين أن يسيرا في نفس الطريق، إنما عليهما دراسة الأسباب الدفينة التي تجعله يضخم الواقع بالوهم. وأن يعالجاه بإعادة الثقة إليه في نفسه على حجمها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 الطبيعي الواقعي دون زيادة مدعاة. فلا شك أنه لو كان واثقًا بنفسه معتدًّا بها ما لجأ إلى الإضافة إليها عن طريق الادعاء. وحين يوفق الوالدان إلى إثارة اعتداده بنفسه في شيء يملكه بالفعل ويقدر عليه بالفعل فلن يحتاج بعد ذلك إلى الادعاء. ويكذب أحيانًا ليستولي على مزيد من النقود ينفقها في أشياء يشتهيها ولا يحصل عليها في حدود ما يعطى له من "المصروف" وذلك انحراف لا بد من تقويمه بشيء من الحسم ولكن مع كثير من النصيحة، وبالتلقين بأن الكذب أمر رديء جدًّا، يفقده ثقة والديه وثقة أحبائه وثقة الناس جميعًا، ويدعو إلى احتقارهم له. وهكذا حتى يكف. وكل حالة من حالات الكذب لها ما وراءها من أسباب، ولا بد من دراسة الأسباب لاختيار الأسلوب المناسب من العلاج. وللطفل دوافعه الذاتية للسرقة كذلك. والسرقة والكذب هما أكثر انحرافات الطفولة حدوثًا، وأكثرها حاجة إلى الجهد من الوالدين حتى يعبر الطفل مرحلتهما بسلام ويستوي على الطريق. وقد لا يشاهد الطفل حالة سرقة واحدة حوله تدفعه بالقدوة السيئة إلى ارتكاب السرقة. بل قد يكون الجو كله من حوله غاية في النظافة والاستقامة والأمانة. ومع ذلك لا يلتقط القدوة الصالحة لأن دوافعه الذاتية تدفعه بعيدًا عنها. وحب الطفل للحلوى من أشد أسباب ارتكابه للسرقة، سواء كانت سرقته للحلوى ذاتها إن وجدت أو للنقود التي يشتري بها ما يشتهيه منها. وقد يكون الأب فقيرًا لا يملك تزويد الطفل بمشتهياته فيسرق من المنزل أو من أماكن أخرى لإرضاء رغباته الطبيعية أو الجامحة. وقد يرغب -غير الحلوى- في ركوب الدراجات المستأجرة أو ما شابه ذلك من رغبات. وتلك مشكلة إذا كان الأب فقيرًا بصفة خاصة. وهي في حاجة إلى صبر وأناة حتى يقلع الطفل عن السرقة. وقد لا يكون البدء بالعقوبة مناسبًا في كل حالة. إنما يبدأ بالنصيحة والتلقين. وبتعويده الصدق من جانب آخر. فإنه إن تعود الصدق سيضطر إلى الاعتراف بالسرقة وهو اعتراف مزر بالكرامة، قد يصده عن السرقة ذاتها حتى لا يضطر إلى الاعتراف المزري بها. ثم قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 لا تجدي الوسائل كلها ويحتاج الأمر إلى العقوبة. وقد يحتاج إلى عقوبة حاسمة كذلك. ولكن هذا الأمر له مخاطره كما سيجيء في الحديث عن التربية بالعقوبة. فليكن اللجوء إليها اضطرارًا وليس مبادرة. وليتوق الوالدان مخاطرها كذلك. ثم قد يكون من دوافع الانحراف عند الطفل -رغم وجود القدوة الصالحة أمامه- وراثاته السيئة التي تجعله -مثلًا- محبًّا للسيطرة أو العدوان، فيعتدي على أقرانه في اللعب أو غير اللعب ويجيء هؤلاء أو أهلوهم يشتكونه إلى والديه. أو تجعله بخيلًا وأبواه كريمان. أو جبانًا وأبوه شجاع. أو ملتويًا وأبواه مستقيما الطبع. أو محبًّا للشر وأبواه خيران. تلك كلها حالات تحتاج إلى التلقين والتوجيه، وإلى جهد خاص في معالجتها حتى تستقيم. وقد يطول الجهد كما أسلفنا، ويطول التلقين والتوجيه، وتبطئ الثمرة، ولا تكون في النهاية كاملة. ومع ذلك فالنتيجة النهائية تستحق ما يبذل فيها من الجهد، لأنها خير من تركها تستفحل وتؤدي إلى الجنوح والجريمة. وهكذا نرى في جميع الحالات، سوية ومنحرفة، أنه لا غنى عن التلقين مع وجود القدوة الصالحة. والتلقين ذاته في حاجة إلى منهج. فليس أي كلام يصلح تلقينًا. وليست كل طريقة صالحة للتلقين. وما دمنا نتحدث عن منهج التربية الإسلامية فمن البديهي أن يكون منهج التوجيه والتلقين هو المنهج الرباني. أي: إن أوامرنا ونواهينا وتوجيهاتنا لأطفالنا ينبغي أن تكون مستمدة من الله ورسوله أو -في حالة غياب النص- لا تكون مصطدمة بأوامر الله ونواهيه وتوجيهاته. فلا نأخذ توجيهاتنا لأطفالنا من الجاهلية المحيطة بنا في كل الأرض في القيم أو التصورات أو الأخلاق أو التقاليد أو أنماط السلوك. وليس مؤدى ذلك أن نغلق قلوبنا وأفكارنا عن تجارب البشرية المفيدة. كلا! ليس ذلك من أوامر الإسلام, فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن مؤداه أن نحذر أن تفتننا الجاهلية ولو عن بعض ما أنزل الله إلينا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 1. مؤداه ألا نستقي الأصول من أي مكان في الأرضِ، إلا من كتاب الله وسنة رسوله. أما التطبيقات -أي: طريقة التنفيذ والأداء- فلا بأس باقتباس أي شيء نافع نجده في أي مكان في الأرض بحيث لا يكون متعارضًا مع الأصول المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله. مع يقين جازم في أنفسنا أن هذه الجاهلية لا تملك من ناحية الأصول إلا أحد شيئين: إما قيمًا ومبادئ ومفاهيم مشابهة لما في الإسلام، فلنأخذها إذن من مصدرها الرباني الأصلي، وإما قيمًا ومبادئ ومفاهيم مخالفة. فلا يمكن بحال من الأحوال أن يتحقق منها الخير! وإن بدت للوهلة الأولى لامعة مصقولة براقة! أما طرق التطبيق والأداء فقد نجد عند غيرنا الكثير مما ينفع. فلا بأس من أخذه من هناك. لا بأس -مثلًا- أن نتعرف على طريقتهم في تعويد الأطفال على الصدق، وعلى الأمانة، وعلى الشجاعة، وعلى الاعتماد على النفس, إلخ. فكلها قيم إسلامية أصيلة، نتوصل إلى تطبيقها من كل طريق نافع. ولكن لا نأخذ منهم مثلًا مبدأ تعليق التزام الطفل بالأوامر على اقتناعه بها؛ ولا الحرية الزائدة للطفل التي لا يوقر بها الكبار؛ ولا الجو المتحلل الذي يعيش به الأطفال في الأسرة المفككة هناك. لأن هذه كلها قيم ومبادئ تخالف كتاب الله وسنة رسوله. والأبوان المسلمان كما قلنا يستمدان توجيهاتهما لأبنائهما من كتاب الله وسنة رسوله، فإذا لم يجدا النص فيتصرفان بما لا يتعارض مع أوامر الله ورسوله. أما طريقة التوجيه والتلقين فلكل إنسان طريقته الذاتية التي يحسنها ويستحسنها. فضلًا على أن لكل طفل طريقة مناسبة له قد لا تناسب غيره. فهناك طفل تكفيه الإشارة، ويكفيه التوجيه مرة، فينطبع على التوجيه بقية حياته. وهناك طفل آخر لا تكفيه الإشارة ولا التوجيه الصريح مرة ومرات. ولا يستجيب حتى   1 سورة المائدة 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 يرى أن النية قد انعقدت على عقوبته عقوبة موجعة. فطريقة التلقين لها تختلف ولا شك عن التلقين لذاك. ولا يمكن وضع دستور مفصل لكل حالة. إنما يوضع دستور شامل للمبادئ العامة التي تستنبط منها التطبيقات المناسبة لكل حالة. وسيظل الاختلاف قائمًا بعد ذلك بين أب وأب، وأم وأم، في طريقة التنفيذ، حتى لو تشابهت المبادئ التي يأخذون منها، وتشابهت الغاية من التنفيذ.. ولا ضير من هذا الاختلاف فهو سنة ربانية في خلق الخلق، وأبرز ما تكون في خلق الإنسان، كل إنسان عالم وحده لا يتماثل قط مع أحد من هاتيك الملايين التي عمرت الأرض خلال التاريخ. إنما الضرر أن يحدث الاختلاف على الأصول والمبادئ العامة. وهذا لا يحدث حين يكون الناس مسلمين، لأن عندهم المرجع الثابت، وعندهم أمر الله إليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1. وحين ننتهي من تقرير هذه المبادئ الأربعة من مبادئ التربية: الحب والحنان والرعاية. والضبط والحسم. والقدوة. والتلقين. فإننا نأخذ في بسط بعض الوسائل التربوية الأخرى، فنتحدث عن التربية بالمثوبة، والتربية بالعقوبة، والتربية بالعادة، والتربية بالأحداث، والتربية بالقصة، والتربية باستنفاد الطاقة في عمل الخير، والتربية بشغل أوقات الفراغ. وكلها واردة في منهج التربية الإسلامية، ولكل منها دور تؤديه. في نفس كل كائن بشري سوي خطان متقابلان أحدهما يتصل بالخوف والآخر يتعلق بالرجاء2. وقد أودعهما الله الفطرة البشرية لحكمة يعلمها. وإنهما لمن أعمق الخطوط المتقابلة في كيان الإنسان، بل هما أعمقها جميعًا. وإنهما ليستيقظان في نفس   1 سورة النساء 59. 2 راجع فصل "خطوط متقابلة" في الجزء الأول من "منهج التربية الإسلامية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 الطفل الوليد قبل الخطوط الأخرى كلها، حتى خطي الحب والكره، اللذين يبدوان لأول وهلة أعمق الخطوط في نفس الإنسان. فهو من لحظة إدراكه لوجود أمة يتعلق بها، يجد في حضنها الأمن والطمأنينة والراحة فضلًا على الغذاء والدفء. ويخاف ويبكي إذا خرج من هذا الحضن الآمن بضع لحظات أو بضع خطوات! حتى يتعود على أشخاص آخرين غير الأم، ويتعود على أن يبقى وحده فترات من الوقت.. ثم يظل عالمه الفردي والجماعي يتسع حتى يشمل الكون كله! ومن خلال الخوف والرجاء -قبل الحب والكره، ثم مع الحب والكره ومع بقية الخطوط المتقابلة في النفس البشرية- يتلقى الإنسان تأثيرات الكون والحياة من حوله ويعطيها تأثيراته. فكأنما هذه الخطوط هي "المدادات" التي يمدها النبات المتسلق ليثبت بها كيانه ويستمر بها في النمو، أو كأنما هي الأوعية النفسية التي تتم بها دورة الحياة الوجدانية من الإنسان وإليه، وكأنما الخوف والرجاء أوسعها جميعًا وأكثرها حملًا لدفقات الحياة. ومن خلال هذين الخطين -مع بقية الخطوط ولكن في مقدمة كل الخطوط- يتكيف البناء النفسي للإنسان، فيتعدل أو ينتكس، ويستقيم على الخط السوي أو يسير على خط الانحراف. فإذا كان يخاف مما ينبغي أن يخاف منه، ويتعلق بما ينبغي أن يتعلق به، فقد استقامت حياته, وأصبح في أحسن تقويم. أما إن خاف ما لا ينبغي أن يخافه، وتعلق بما لا ينبغي أن يتعلق به، فقد انتكس أسفل سافلين. ومنهج التربية الإسلامية يربي الناس على الخوف مما ينبغي أن يخافوه، والتعلق بما ينبغي أن يتعلقوا به. وينفي عن القلب البشري الخوف مما لا ينبغي أن يخاف، والتعلق بما لا ينبغي التعلق به. يربيهم على الخشية والتقوى لله. والخوف من عذاب الله وغضبه المؤدي إلى العذاب، وعدم الخوف من شيء أو على شيء آخر. ويربيهم على التعلق بالله، وطلب العون منه وحده لا من أحد من خلقه، والتعلق بالآخرة ونعيمها، ورضوان الله المؤدي إلى النعيم. وعدم التعلق بما يشغل الإنسان عن هذا الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وفيما بين ذلك مئات من ألوان الخوف والرجاء أو ألوف، تندرج في النهاية تحت هذا العنوان أو ذاك: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} 1. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2. {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 3. {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 4. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 5. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 6. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} 7. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 8. {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} 9. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى   1 سورة الرعد 19-21. 2 سورة النور 52. 3 سورة الإسراء 57. 4 سورة الزمر 9. 5 سورة العنكبوت 10. 6 سورة الزمر 36. 7 سورة النساء 77. 8 سورة الحج 11-13. 9 سورة الرعد 26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} 1. {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. وكلها آيات تحدد -من خلال خطي الخوف والرجاء- منهج الحياة. كل الحياة! ومنهج التربية الإسلامية، وهو المنهج الرباني الذي يحدد أصوله كتاب الله وسنة رسوله، يوقع على هذين الخطين توقيعات تربوية هائلة، يهدف من خلالها إلى إقامة البناء السليم للنفس، وتحديد خط السير الصحيح الذي ينبغي أن يسير عليه الإنسان في الحياة الدنيا، لتستقيم حياته في الدنيا ويظفر في ذات الوقت برضوان الله ونعيمه المقيم في الآخرة. فتصلح ديناه وآخرته. ويحذره طيلة الوقت من الانحراف عن هذا الخط الصحيح سعيًا وراء متاع زائف زائل، لا يستحق أن يعرض الإنسان نفسه من أجله لغضب الله، ولا يستحق أن يفقد في سبيله نعيم الآخرة الخالد، ويحق عليه العذاب. ومشاهد القيامة في القرآن -إلى جانب الآيات التي ذكرنا منها نماذج تشير إلى طريقتها واتجاهها دون أن تستوعبها فهي أكثر من أن تستوعب في بحث- كلها توقيعات تربوية هادفة على خطي الخوف والرجاء، وكذلك كل ما يعرف بالتغريب والترهيب من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والناظر إلى سعة هذه الآيات -بما فيها مشاهد القيامة من نعيم وعذاب- وسعة الأحاديث الواردة في الترغيب والترهيب، يدرك إلى أي حد يهتم المنهج الرباني بهذين الخطين -معًا- ويدرك بالتالي أنه لا بد أن يكون لهما أثر كبير في تربية النفس البشرية. كما أن الناظر إلى الجماعة المسلمة الأولى -التي أخرجت "خير أمة   1 سورة التوبة 38. 2 سورة التوبة 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 أخرجت للناس"- والتي تربت على هذا المنهج الرباني، بما فيه من توقيعات كثيرة ومختلفة على خطي الخوف والرجاء، يدرك عظم الثمرة التي تؤتيها هذه التوقيعات في كيان الإنسان. وأنه لا بد من استخدامهما في أي منهج تربوي يراد به صلاح النفوس وصلاح الحياة. وحين نعود إلى الطفل فسنرى أننا في حاجة إلى استخدام هذين الخطين، والتوقيع عليهما توقيعات شتى من أجل إتمام تربيته، إلى جانب ما ذكرنا من الوسائل التربوية من قبل: الحب. والحسم. والقدوة. والتلقين. وأنه إذا كان الإنسان الناضج -كما يتبين من الكتاب والسنة- لا يستغني في تربيته عن هذه التوقيعات المتكررة، فالطفل من باب أولى أشد حاجة إليها. وكما أن الإنسان الناضج قد تلقى -في المنهج الرباني- توقيعات تختلف من الحسي إلى المعنوي، أو تمزج بينهما، فالطفل كذلك يحتاج إلى توقيعات حسية تارة ومعنوية تارة، أو مزيجًا منهما معًا تارة أخرى، مراعاة لكون التكوين البشري يشتمل على خطين متقابلين، أحدهما يتصل بالحسي والآخر يتعلق بالمعنويات1. ومن هنا تكون التربية بالمثوبة والتربية بالعقوبة وسيلتين أساسيتين من وسائل التربية للإنسان -كل إنسان- والطفل أولى بطبيعة الحال. وهنا كذلك وقفة عند التربية بالعقوبة، سببها تلك "النظريات" التربوية الحديثة، التي تريد أن تعتمد على التربية بالمثوبة وحدها دون التربية بالعقوبة، أو -إذا لزم الأمر في الحالات القصوى- على العقوبة المعنوية دون الحسية. وما بنا من حاجة إلى إعادة الحديث عن ميوعة الأجيال التي نشأت على هذه "النظريات" ورخاوتها وتحللها وتفككها. ولسنا نقول كذلك إن العقوبة ينبغي أن تستعمل بغير حساب وبغير ضرورة. ولا إنها ينبغي أن تكون حسية في كل حالة! كلا! إنما نتحدث فقط عن المبادئ العامة. فنقول: إن التربية بالعقوبة أمر طبيعي بالنسبة للبشر عامة والطفل خاصة. فلا ينبغي أن نستنكر من باب التظاهر بالعطف على الطفل ولا من باب التظاهر بالعلم! فالتجربة العملية ذاتها تقول: إن الأجيال التي نشأت في ظل تحريم العقوبة ونبذ استخدامها   1 راجع فصل "خطوط متقابلة" في الجزء الأول من "منهج التربية الإسلامية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 أجيال مائعة لا تصلح لجديات الحياة ومهامها. والتجربة أولى بالاتباع من النظريات مهما كانت لامعة ومغرية. والعطف الحقيقي على الطفولة هو الذي يرعى صالحها في مستقبلها لا الذي يدمر كيانها ويفسد مستقبلها. وتقول كذلك إن العقوبة الحسية ليست أمرًا مستنكرًا في ذاته ولا محرمًا، ولا ضارًّا بكيان الطفل كما تزعم المذاهب المربية التي تروج في جاهلية القرن العشرين؛ وإن كنا نقرر، بما يحتاج إليه الأمر من التوكيد، أن العقوبة كلها بشقيها ليست أول ما يلجأ إليه المربي، إنما ينبغي أن يبدأ بالمثوبة إلى أن يحتاج إلى العقوبة، وأن العقوبة الحسية ليست أول ما يلجأ إليه المربي من أنواع العقوبة، بل ينبغي أن يبدأ بالعقوبة المعنوية إلى أن يحتاج إلى العقوبة الحسية. وبذلك نضع الأمر في نصابه من شقيه، ونعطي -على هدي المنهج الرباني- كل ذي حق حقه، آخذين في اعتبارنا الفوارق الفردية بين طفل وطفل، والتي تقرر مقدار الجرعة اللازمة من المثوبة ومن العقوبة، ومن الحسية ومن المعنوية جميعًا. فهناك طفل لا تحتاج أن تعاقبه مرة في حياتك.. فلم تعاقبه؟! وطفل يرى في إعراضك عنه لحظة عقوبة قاسية لا يحتملها وجدانه. فلم تتجاوز معه مجرد الإعراض؟ أو تطيل عليه الإعراض؟ وطفل يبكي ألمًا إذا عبست في وجهه. فلم تتجاوز معه هذه الوسيلة الناجعة؟ ثم هناك طفل لا يرعوي أبدًا حتى يذوق العقوبة الحسية الموجعة. وأكثر من مرة. أتكتفي معه بالإعراض عنه لحظة، أو "تحتال عليه" بالإغراء لكي يكف عما هو فيه من أخطاء؟! إنك تفسده بذلك تمامًا كما تفسد الطفل الآخر بتوقيع العقوبة الحسية عليه! فوضع قاعدة مسبقة بتحريم العقوبة الحسية أو تحريم العقوبة إطلاقًا، مفسد في التربية كوضع قاعدة مسبقة بضرورة استخدامها في كل حالة ولو لم تدع الضرورة إليها. والمربي الحكيم يدرس حالة الطفل الذي بين يديه، ويقدر -من دراسته لظروفه الخاصة ووراثاته- إن كان ممن تصلح له المثوبة أو العقوبة، أو المداولة بين هذه وتلك. وإن كان ممن تصلح له المثوبة والعقوبة على المستوى الحسي أو المعنوي، أو المداولة بين هذه وتلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وسنجد حين نستعرض النماذج البشرية أن معظمها يقع في الدائرة التي تلزمها المثوبة والعقوبة تارة بعد تارة، وأن معظمها ممن يحتاج إلى المثوبة والعقوبة على المستوى الحسي والمعنوي كليهما على تداول بينهما أو على امتزاج. وأن قلة من البشر فقط هم الذين يحتاجون إلى جرعة من المثوبة أكبر وجرعة من العقوبة أقل. وأن قلة مماثلة "أو أكبر قليلًا" تحتاج إلى جرعة من العقوبة أكبر من جرعة المثوبة. ولا أظن أن هناك بشرًا في الدائرة السوية تلزمه العقوبة الدائمة بلا ثواب! فإذا تقررت في حسنا هذه المبادئ بوضوح، ولم نعد نعير التفاتًا إلى صيحات الجاهلية الحديثة التي تريد أن تحرم العقاب لكي لا "تتعقد" نفس الطفل ولا يصيبه الكبت! فتصيبه من الناحية الأخرى بالميوعة والرقاعة والتفاهة والتحلل.. إذا تقرر في حسنا ذلك، فلننظر لماذا نحتاج إلى المثوبة والعقوبة في تربية الطفل، وعلى أي منهج تكون. هناك أعمال نريد من الطفل أن يعملها لأنها ضرورية له، أو لأنها تساعده في عملية النمو الجثماني أو النفسي أو العقلي. وهناك أعمال أخرى نريد أن تمنع الطفل من عملها لأنها خطرة عليه، أو لأنها تعوده عادة سيئة، أو لأنها انحراف عن السلوك السوي، أو لأنها تعطل نموه الجثماني أو النفسي أو العقلي. وفي كلا الحالين نحتاج إلى حوافز ومشجعات. أو إلى نواه وزواجر.. ومن هنا تأتي الحاجة إلى المثوبة أو العقوبة. ذلك أن الطفل -وخاصة في الفترة الأولى- قد لا يستجيب من تلقاء نفسه لما نريد منه أن يعمله أو يكف عنه؛ لأنه لا يعرف لماذا؟ لماذا يعمل ولماذا يكف. هناك أعمال ذاتية، يقوم بها من تلقاء نفسه ولا يحتاج من أحد أن يدله عليها، كالرضاعة، أو طلب الطعام، أو إخراج الإفرازات، أو تحريك يديه ورجليه، أو الحركة بجسمه حين يبدأ يحبو، أو محاولة الوقوف، أو محاولة إخراج أصوات ذات دلالة كمقدمة للكلام. إلخ. ولكها حركات سائرة في الاتجاه الطبيعي، وفي طريق النمو, ولكن بعضها يجهد الطفل كالمشي والكلام فيحتاج إلى تشجيع لكي يستمر فيها ولا يتوقف. وهناك أعمال ذاتية كذلك، وطبيعية، ولكن الاستمرار فيها بعد وقتها المفروض يعتبر علامة سيئة، كمص الإبهام، وعدم ضبط الإفرازات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 والالتصاق الشديد بالأم ورفض الطفل للوجوه الجديدة ولصحبة الآخرين، والعبث بالأعضاء الجنسية، ورفض أخذ بديل عن الثدي، ورفض الالتزام بمواعيد معينة للطعام أو النوم. إلخ. وإبطال هذه العادات السيئة كلها لا يكون على هوى الطفل، مع أنه أمر ضروري لسلامة نموه وسلامة تكوينه النفسي. ولا بد من مشجعات تشجعه على إبطالها، ونواه وزواجر تمنعه عنها. هنا، وفي مرحلة باكرة جدًّا، نحتاج إلى المثوبة والعقوبة، بمقادير تتفاوت -كما ذكرنا- بين طفل وطفل. المشي مثلًا، أو حتى الوقوف، تجربة محببة إلى الطفل جدًّا، لأنها نمو، وقدرة جديدة مكتسبة، يحقق فيها ذاته، ويحس أنه صار أكبر وأقوى و"أعظم" مما كان من قبل. ولكنها لا تتم بغير ألم وبغير جهد. ثم إنه عرضة وهو يقوم بهذا الجهد أن يقع على الأرض مرات كثيرة. تؤلم جسمه فيبكي. عندئذ لا بد من تشجيعه لكي يعاود التجربة، ولا يمتنع عن المضي فيها بسبب الألم أو الجهد، فيتوقف نموه أو يتأخر من موعده، فتتأخر كل القدرات التالية المترتبة عليه. والتشجيع قد يكون بابتسامة. أو بقبلة حانية من الأم أو الأب. أو بتربيتة على جسمه، أو بإحداث "هيصة" كبيرة حول الطفل يشعر فيها بالاهتمام الشديد به وبجو المودة من حوله. أو بلعبة تعطى له كمكافأة على الجهد الذي بذله, أو بشيء من الحلوى أو الطعام. أو بأي شيء مما يعرف الوالدان من دراستهما لطفلهما أنه محبب إليه ومن ثم فهو مشجع له. وفي المرحلة الأولى تكون عملية التشجيع ضرورية دائمًا، لأن الأعمال التدريبية التي يقوم بها ليستكمل نموه شاقة بالنسبة إليه ومجهدة، ولا بد من حفزه عليها حفزًا لكي لا يتوقف نموه. والكلام بصفة خاصة يحتاج إلى تشجيع كثير ومستمر، ذلك أن عملية مجهدة، والفشل في التعبير في مبدأ الأمر يحرج صدر الطفل ويضايقه ويشعره بالمشقة. حتى يستقيم لسانه وتصبح الكلمات أيسر على لسانه. ولا بد من الإلحاح المستمر على الطفل لكي ينطق، ولا بد كذلك من التشجيع. والفرحة التلقائية التي يقابل بها الوالدان بداية النطق عند طفلهما هي وحدها أكبر مشجع على الاستمرار في الكلام. وذلك من الموافقات الفطرية التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 أودعها الخالق في نفوس الكائنات ليتم ما رسمه في سنته سبحانه. ولكن على الوالدين أن يعلما -إلى جانب ذلك- أن التشجيع مطلوب ولا غنى عنه، وأنه واجب لا ينبغي لهما أن يغفلا عنه. أما العادات السيئة التي يتعرض لها الطفل، وهي كثيرة، فلا بد من إبطالها ولو كان في ذلك مشقة على الطفل وعلى والديه كذلك. والخوف من إزعاج الطفل أو مضايقته بمنعه عن عاداته السيئة المحببة إليه، أو الخوف عليه من تأثير عملية الزجر على مشاعره وأعصابه، معناه أننا سنتركه لعاداته السيئة تلك، تستفحل وتستعصي على العلاج فيما بعد، أو تترك آثارًا مفسدة في شخصيته في المستقبل. وليس لنا خيار في الأمر. فهذه المشقة مفروضة على الكبير والصغير. والكدح المفروض على البشرية حتى تلقى ربها هو كدح يبدأ مبكرًا جدًّا، من أول الميلاد! وإن أشفقنا على الطفل من الانزعاج أو المضايقة أو الجهد فتركناه وشأنه، فإننا نعرضه في مستقبل حياته لانزعاج أكبر، ومضايقة أشد، وجهد أشق. فالخبر إذن أن نبدأ من البداية الطبيعية في مرحلة الطفولة. ولا بأس علينا أن نجعل الأمر في أخف صورة ممكنة، فليس المفروض أن نثقل على الطفل -متطوعين- ولا أن نحمله فوق طاقته، بل المفروض أن نعاونه بكل طاقتنا حتى يجتاز تلك المرحلة في سلام. ولذلك فإننا نبدأ بالتشجيع. أي: نبدأ بالمثوبة. فنعطي "ثمنًا" معنويًّا أو حسيًّا لكل عادة سيئة يكف عنها الطفل. مع محاولة شغله دائمًا عن العادة السيئة بأخرى لا ضرر منها، وخاصة مص الإبهام والعبث بأعضائه، فهاتان يجب أن يشغل عنهما بشيء آخر في ذات اللحظة التي تنتابه العادة فيها حتى ينسى. ولكن التشجيع وحده قد لا يكفي. ولا شغله عن العادة السيئة بأخرى. إذ تكون العادة السيئة أشد تأصلًا في نفسه، أو يكون هو أشد تعلقًا بها، بحيث لا يلهيه شغله عنها, ولا تشجيعه على تركها. عندئذ ليس أمامنا خيار في صرفه عنها بالزجر، اللين في بادئ الأمر، ثم الحسم في نهاية الأمر. ولو أدى ذلك إلى استخدام العقوبة البدنية في نهاية المطاف. ذلك أنه من المحتم -لصالحه هو نفسه- أن يكف عن هذه العادات السيئة، ولا بد من الوصول إلى إبطالها بأي وسيلة. فإذا لم تجد الوسائل اللينة كلها فما العمل إلا استخدام وسيلة خشنة؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 ولا خوف على الطفل من العقد ولا الكبت ولا ضمور الشخصية ولا شيء مما تلوكه النظريات المريبة كله ما دام الزجر أو العقوبة لا يتجاوز الحد المعقول. والحد المعقول تقرره حكمة المربي وخبرته، وتقرره كذلك طبيعة الطفل ذاته. ثم إن التشجيع. الذي تريد تلك النظريات المريبة أن تجعله هو الوسيلة الوحيدة للتربية، ليس سلاحًا مأمونًا في كل حالة ولأي مدى من الزمن بلا حدود. بل إن له مخاطر. وينبغي الكف عنه بمجرد أن تظهر هذه المخاطر. وأكبر المخاطر فيه أن يتحول عند الطفل إلى شرط للقيام بالعمل المطلوب أو الكف عن العمل غير المرغوب، أي: إنه يمتنع عن الإتيان بالعمل إذا لم يجد حافزًا عليه، أو يمتنع عن الكف عن عمل سيئ حتى يقبض "الثمن" للكف. هنا تصبح المثوبة شرًّا خالصًا لا خير فيها، لأنها تعوق الإحساس "بالواجب". الواجب الذي ينبغي أن يعمل لأنه واجب في ذاته, لا لأن هناك أجرًا عليه. وهذا تعويق للنمو النفسي، وإفساد كذلك للشخصية. ففي اللحظة التي يتحول فيها التشجيع -الحسي أو المعنوي- إلى شرط للقيام بالعمل أو الكف عنه ينبغي أن يوقف التشجيع في الحال، ويلزم الطفل بأداء العمل أو الكف عنه إلزامًا بغير أجر. ولا بأس بعد ذلك من العودة إلى التشجيع بعد القيام بالعمل المطلوب. وبعد أن نزول نهائيًّا صورة الشرط سواء كان شرطًا مقدمًا أو مؤخرًا.. المهم هو الفصل الكامل بين أداء العمل الضروري وبين اشتراط الثمن له من أي نوع. أما الأعمال التطوعية، أو لا يمكن أو لا يجوز القهر عليها، فلا بأس من أن يظل التشجيع عليها قائمًا ولو في صورة ثمن مشروط. مع ضرورة التوفية بالشرط المتفق عليه، لأن الإخلال به يفقد ثقة الطفل بوعود والديه، ويصدمه صدمة عنيفة لا يزول أثرها من نفسه. فحين تقول لطفلك، حين يكبر ويتعرض للامتحانات ومشكلاتها: إذا حصلت على نسبة عالية في الامتحان فسأشتري لك ساعة أو دراجة أو.. أو.. مما يحبه الطفل، فليس في ذلك بأس. لأنك لا تملك في الحقيقة أن تقهره على الحصول على هذه النسبة العالية، ولا حتى على النجاح ذاته. إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 تملك فقط أن تشجعه. ولو وصل التشجيع إلى الثمن المشروط. ثم لا بد أن توفي بما وعدت. ولكنك تكون مخطئًا أشد الخطأ -مثلًا- حين تأمر طفلك أن ينزل إلى السوق ليشتري شيئًا ضروريًّا للبيت، فيمتنع، فتقول له: اذهب وسأعطيك كذا! أو يشترط عليك ثمنًا للذهاب فتقبل الشرط! إنك بهذا تفسده أي مفسدة! لأنك تقتل في نفسه الإحساس بالواجب وضرورة الالتزام بأدائه. ثم حين يصل الأمر بالطفل ألا يؤدي شيئًا على الإطلاق إلا "بالتحايل" عليه أو بإعطائه الثمن، فإنه لن يفلح في شيء في مستقبل حياته، إلا أن يصطدم صدمات عنيفة تغير منه ما نشأ عليه من رخاوة وترهل ونفعية. فأيهما خير: أن يقوم منذ مبدأ الأمر بالجهد الميسر، أم يترك حتى يصبح لا تقومه إلا الصدمات القاصمات؟! إن التشجيع -الحسي أو المعنوي- خير، وعنصر ضروري من عناصر التربية لا غنى عنه. ولكن إلى أمد معين وفي حدود معينة، إذا تجاوزها فإنه يتحول إلى عنصر مفسد مدمر مضيع. وينبغي -لكي لا يتحول التشجيع إلى شرط للقيام بالعمل أو الكف عنه- أن ننتقل به درجة درجة مع مراحل النمو العقلي والنفسي للطفل، حتى ينتهي إلى أعلى درجاته. التي هي أعلى درجات المنهج الإسلامي. وهي العمل -أو الكف عن العمل- ابتغاء مرضاة الله. في المبدأ تكون الحلوى أو اللعبة أو النقود أداة للتشجيع. ولا بأس من ذلك في موعده الطبيعي وفي حدوده "المشروعة". ثم يرتقي التشجيع درجة فيصبح: من أجل أن تحبك أمك أو يحبك أبوك. ثم يرتقي درجة أخرى فيصبح: من أجل أن تكون ولدًا طيبًا "أو بنتًا طيبة" ويحبك أبوك وأمك ويقول الناس: إنك طيب. ثم يرتقي إلى درجته العليا فيصبح: من أجل أن تكون طيبًا ويحبك الله ويرضى عنك. وعلى هذه الصورة الأخيرة ينبغي أن يظل حتى يلقى الله. وليست هناك حدود حاسمة قاطعة للانتقال من مرحلة إلى مرحلة من مراحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 التشجيع. ولا يمكن رسم جدول زمني لها. وإنما هي تتوقف على درجة النمو العقلي والنفسي، والوراثات الخاصة، والظروف الخاصة بنشأة كل طفل على حدة؛ والذي يحددها هو حكمة المربي وخبرته بنفسية طفله واحتياجاته. ولكن المرحلة الأخيرة. وهي وصل قلب الطفل بالله، لا ينبغي أن تتأخر كثيرًا على أي حال. وفرصتها الطبيعية هي الفترة التي يبدأ الطفل فيها من ذات نفسه يبحث عن الخالق ويسأل عنه. كما سيجيء في نهاية الفصل. أما العقوبة فقد أسلفنا أننا لا نلجأ إليها ابتداء. إنما نبدأ بالتشجيع. ولا نلجأ إليها أبدًا إلا حين يفشل التشجيع أو يبدأ يدخل في الدائرة الضارة. حين يصبح شرطًا مشروطًا لا يتم العمل أو الكف عن العمل إلا به. والعقوبة درجات. تبدأ من الكف عن التشجيع "وهذه في ذاتها عقوبة لمن كان يتلقى التشجيع من قبل"، إلى الإعراض المؤقت وإعلان عدم الرضا، إلى العبوس والتقطيب والزجر بصوت غاضب، إلى المخاصمة الطويلة والمقاطعة "أو التهديد بها"، إلى الحرمان من الأشياء المحببة إلى الطفل "أو التهديد به"، إلى التهديد بالإيذاء، إلى الضرب الخفيف. إلى الضرب الموجع وتلك أقصى الدرجات. ولا ينبغي تخطي ذلك التدرج، والبدء بالنهاية، وهي الضرب سواء كان خفيفًا أو موجعًا. لأكثر من سبب. فأولًا: ينبغي أن تكون هناك بدائل متدرجة للعقوبة لأن الطفل سيخطئ كثيرًا -ولا بد أن يخطئ- وسيحتاج إلى العقوبة -في الغالب- مرات كثيرة. فمن المصلحة إذن أن يكون خط العقوبة طويلًا, كذلك لكي لا تنفد الوسائل سريعًا ونحتاج إلى تكرار الوسيلة الواحدة أكثر من مرة في المدى القريب، لأن ذلك يفقدها كثيرًا من تأثيرها، فتصبح بعد قليل عديمة الجدوى. وثانيًا: هناك خطر من التعود على الضرب بالذات -أكثر من أي وسيلة أخرى- لأنه عقوبة بدنية، والجسم يمكن أن يتعود على الأذى فلا يعود يتأثر به كثيرًا؛ وعندئذ نكون قد فقدنا كل وسائلنا الفعالة دفعة واحدة! لأن من يتبلد حسه على الضرب، وهو أقسى العقوبات، لا يزجره ولا يؤثر فيه وجه عابس ولا صوت غاضب ولا حرمان ولا تهديد بحرمان! وعندئذ ماذا نفعل؟! إن هذه شكوى معهودة من الآباء الذين يسارعون إلى استعمال العقوبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 البدنية الموجعة ويلجون فيها حتى يتبلد عليها حس أطفالهم، ثم يروح الواحد منهم يشكو: الولد. لا أدري ماذا أصنع به. "غلبت" من الضرب فيه ولا ينصلح حاله. فماذا أصنع؟ لا شيء! لأنه استنفد وسائله كلها من أول لحظة. ولم يعد هناك من سبيل إلا تغيير المربي ليمكن تغيير الوسيلة! أي: بنقل الطفل إلى مكان آخر، أو يد أخرى تتعهده، تفتح معه صفحة جديدة تبدأ بالتشجيع. تبدأ من أول الطريق! وهذا خطر الإسراف في العقوبة، والضرب بصفة خاصة. إن العقوبة تظل شيئًا مرهوبًا قبل أن تنفذ؛ ثم يكون لها وقعها الكامل في أول مرة تنفذ. ولكنها إن كررت في المدى القريب تظل تفقد شيئًا من تأثيرها في كل مرة، حتى يعتادها الحس وتصبح بغير تأثير. ومن ثم تصبح بغير فائدة. والمشرفون على السجون يعرفون هذه الحقيقة ويشكون منها. ويقرون أنهم ينفذون العقوبة وهم يعلمون أنه لا فائدة منها! وذلك لكثرة تكرار ذات الوسيلة.. ولكن المربي ينبغي أن تكون عقليته ونفسيته ووسيلته غير عقلية المشرفين على السجون! إنه مرب قبل كل شيء. وهو يقوم بالعقوبة للإصلاح، لا للانتقام والتشفي. ومن ثم ينبغي أن يستهدف الإصلاح الحقيقي ويبحث عن الوسائل الفعالة الموصلة إليه, ويكف عن الوسيلة إذا وجد أنها لا تؤدي إلى الإصلاح المنشود، أو وجد أنها -بدلًا من أن تصلح- تزيد الفساد. بل إن شعور الطفل بأن العقوبة توقع عليه للانتقام والتشفي -لا للإصلاح- قد يحدث انحرافًا معينًا في نفسه، وهو أن يتعمد إثارة والديه ليستمتع بمنظر هياجهما وثورتهما عليه، ويحس بالانتفاش الداخلي والارتياح، لأنه -وهو الصغير- استطاع أن يثير أولئك الكبار ويزعجهم! ولا مانع لديه عندئذ من احتمال الأذى -ولو اشتد- في سبيل هذه المتعة التي يجدها في نفسه, كلما استطاع أن يثير ثورة والديه وهياجهما عليه! وعندئذ تكون الخسارة مزدوجة: فلا العقوبة أدت غرضها في الإصلاح، وزاد في نفس الطفل انحراف جديد هو تحقيق الذات عن طريق غير سوي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 العقوبة إذن -رغم ضرورتها في كثير من الحالات- ينبغي أن تنفذ بالحكمة الواجبة في كل شأن من شئون التربية، فلا يسرف المربي في استخدامها، ولا يتخطى تدرجاتها. ثم عليه أن يراعي كذلك أن تكون العقوبة مناسبة للجرم. فلا تكون لديه جرعة جاهزة من العقوبة يستخدمها لكل حالة على السواء، فإن ذلك يغري الطفل بالكبيرة ما دام يعاقب على الصغيرة كالكبيرة. كما أنه من الأفضل التهديد بالعقوبة أكثر من توقيعها بالفعل، لأن ذلك يحتفظ برهبتها الدائمة في نفس الطفل، فالتهديد بالمقاطعة يروع الطفل, أما المقاطعة الفعلية فسيتعودها إن تكررت. والتهديد بالحرمان موجع. والحرمان الفعلي موجع كذلك في مبدأ الأمر. ولكنه إن طال تعودته النفس وفقد تأثيره. والتهديد بالضرب مفزع. أما الضرب الفعلي فهو موجع في البدء، عديم التأثير في النهاية. ولا ضرر بعد التهديد من عدم تنفيذه في بعض الأحيان اكتفاء بأثره المرهوب1. فليس من الضروري أن ينفذ التهديد بالفعل حين يقع من الطفل ما هدد من أجله بالعقوبة. إنما يمكن أن يستتاب دون تنفيذ التهديد. بشرط واحد، وهو ألا يعتقد الطفل أن التهديد هو لمجرد التهديد لا للتنفيذ! فإنه إن اعتقد ذلك فلن يهمه التهديد بطبيعة الحال! فمن أجل ذلك ينبغي أن ينفذ التهديد -ولو مرة- إذا أحس المربي أن الطفل قد استخف بالتهديد ولم يعد يهمه أمره. أما إذا وجد أنه ما زال يخاف منه ويتقيه -ولو وقع في الخطأ المنهي عنه أكثر من مرة- فلا بأس بالاستمرار في التهديد بغير تنفيذ. وعمر رضي الله عنه يقول: علق عصاك بحيث يراها أهل الدار! أي: للتهديد! ولكنه لم ينصح باستعمالها في كل مرة! بهذه الصورة -وبالحكمة الواجبة- تؤدي العقوبة دورها في التربية في وقت الحاجة إليها، وتتعاون المثوبة والعقوبة معًا على إقامة البناء النفسي السليم للطفل، على خطي الفطرة الطبيعيين: خطي الخوف والرجاء.   1 هنا تفترق المثوبة عن العقوبة. فلا ضرر من عدم تنفيذ التهديد بالعقوبة أحيانًا. ولكن عدم تنفيذ الوعد الموعود بالمثوبة أمر شديد الخطورة في جميع الأحوال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 ومن وسائل التربية، التربية بالعادة. أي: تعويد الطفل على أشياء معينة حتى تصبح عادة ذاتية له، يقوم بها دون حاجة إلى توجيه. ومن أبرز أمثلة "العادة" في منهج التربية الإسلامية شعائر العبادة وفي مقدمتها الصلاة. فهي تتحول بالتعويد إلى عادة لصيقة بالإنسان لا يستريح حتى يؤديها. وليست الشعائر التعبدية وحدها هي العادات التي ينشئها منهج التربية الإسلامية، ولكنها في الواقع كل أنماط السلوك الإسلامي، وكل الآداب والآخلاقيات الإسلامية: آداب الطعام والشراب، وآداب المشي، وآداب الجلوس، وآداب النوم، وآداب اليقظة، وآداب التحية, وآداب الأسرة, وآداب الجنس, وآداب قضاء الضرورة, وآداب الحديث، وآداب الاجتماع. وآداب الافتراق، وآداب السفر، وآداب العودة من السفر.. إلخ.. إلخ. وقد كانت هذه كلها أمورًا جديدة على المسلمين، لم يكونوا يمارسونها في الجاهلية، فعودهم الرسول صلى الله عليه وسلم إياها ورباهم عليها بالقدوة والتلقين والمتابعة والتوجيه حتى صارت عادات متأصلة في نفوسهم, وطابعًا مميزًا لهم، يميز المسلمين عن غير المسلمين في كل الأرض. والأبوان المسلمان يعودان طفلهما هذه العادات بالوسائل ذاتها: القدوة والتلقين والمتابعة والتوجيه، حتى إذا اكتمل نموهم كان قد اكتمل في ذات الوقت تعودهم العادات الإسلامية، وهي كما رأينا منهج شامل يشمل حياة الإنسان كلها من يقظته إلى منامه إلى يقظته التالية. ويشمل حياة الفرد وحياة الأسرة وحياة الجماعة وحياة الرجل وحياة المرأة وحياة الطفل جميعًا. والتعويد لا يتم بسهولة بطبيعة الحال. فليس يكفي أن تقول للطفل مرة -أو حتى مرات- اصنع كذا فيصنع! فالعادة المطلوبة هي قيد على السلوك أو ضبط له في اتجاه معين. وكل قيد أو ضبط يحتاج إلى جهد معين لكي يتم؛ ولكنه بعد أن يتم يصبح أمرًا سهلًا للغاية ينفذ بأيسر الجهد أو بغير جهد على الإطلاق. ويكون الجهد -على العكس- هو محاولة إبطاله أو تغييره! والعادة ضرورية جدًّا في حياة الإنسان لكي تصبح الخبرة القديمة عادة، ويتسع الجهد البشري لاكتساب خبرات جديدة على الدوام، وإلا فلو أن الإنسان ظل يبذل في كل عملية من عملياته الجسدية أو الشعورية أو الذهنية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 ذات الجهد الذي بذله فيها أول مرة وهو يتعلمها أو يجربها لأول مرة، فسيظل جهده محصورًا في عمليات محدودة لا يستطيع تخطيها ولا الإضافة عليها. ولكن من تيسيرات الفطرة التي يعين بها الخالق هذا الكائن البشري على أداء مهمته الضخمة، مهمة الخلافة في الأرض، أن جعل في كيانه القدرة على التعود على الأشياء التي يمارسها أكثر من مرة بانتظام معين. وبمجرد أن تتحول الخبرة الجديدة إلى عادة، ينطلق الجهد العصبي الذي كان مخصصًا لها، ليعمل في ميادين جديدة، ويساعد في اكتساب خبرات جديدة. كما يكون لديك طاقة كهربائية توجهها لإدارة آلة معينة، ثم تسحبها لإدارة آلة جديدة. وهكذا. مع الفارق وهو أن الآلة البشرية تظل عاملة بعد أن تسحب منها شحنتها الأولى، أو القسط الأكبر منها، بينما الآلة المادية تكف عن العمل إن حولت عنها التيار. ومن معينات الفطرة في هذا الأمر أن الجهاز العصبي ذاته هو الذي يساعد على التعود، بمقدار ما يكون رافضًا أو معوقًا في بادئ الأمر! فالخبرة الجديدة كأنما تحفر حفرًا على المسطح العصبي، يحتاج في بادئ الأمر إلى جهد لتعميقه، ويحتاج كذلك إلى مداومة لفترة من الوقت. كالقناة التي تشقها في الأرض، تبذل جهدًا في شقها. ثم إن تركتها تردمها الأتربة كأنك لم تشقها من قبل، وتحتاج إلى أن تحفرها من جديد، بذات الجهد الأول أو قريب منه. ولكنك إن أعدت المرور عليها مرات صارت عميقة بالقدر الكافي، فلا تنطمر تماما حتى لو أهملتها بعض الوقت، ولا تحتاج حين تعود إلى استخدامها أن تشقها من جديد، وإنما تحتاج إلى جهد قليل لإزاحة ما علاها من الركام. أما إن داومت استخدامها فقد رسخت في الأرض ولم تعد في حاجة إلى جهد، وصارت تجذب الماء للمرور فيها كلما مر بها، فلا يغادرها إلى سواها. مثل هذا يحدث في داخل الجهاز العصبي. فالخبرة الجديدة تلقي قدرًا من المقاومة في بادئ الأمر حتى تخط لها خطًّا متميزًا أو قناة متميزة تسير فيها. حتى إذا تعمقت القناة بالقدر الكافي -عن طريق التكرار- سارت في داخلها الخبرة بجهد أيسر، حتى تتم في النهاية بلا جهد يذكر، بل أكثر من ذلك أن هذه القناة العصبية هي التي تجذب الخبرة المتصلة بها للسير فيها! ففي الموعد المحدد، الذي يتعود عليه الإنسان، أو في المناسبة المحددة لاستخدام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 تلك الخبرة، تنبعث الإشارة التي تستدعي الخبرة من مكمنها وتسيرها في قناتها، وإلا أحس الإنسان بالقلق أو التعب أو التوتر العصبي أو النفسي. وهكذا تتكون العادة في داخل النفس، وترسخ حتى تصبح ضرورة لا بد من أدائها في موعدها أو في مناسبتها! وتكوين العادة في الصغر أيسر بكثير من تكوينها في الكبر. ذلك أن الجهاز العصبي الغض للطفل أكثر قابلية للتشكيل وأيسر حفرًا على مسطحه. أما في الكبر ففضلًا عن اشتغال الجهاز العصبي بكثير من المشاغل، ووجود مئات أو ألوف من القنوات المتشابكة على سطحه، التي لا تترك من ازدحامها مجالا كبيرا للإضافة, فإن الجهاز العصبي ذاته يفقد مع الكبر كثيرا من مرونته الأولى فيصبح الحفر عليه أشق.. ومع ذلك فهو ليس مستحيلًا في أي فترة من فترات العمر، خاصة حين تحدث انفعالة ضخمة، كما حدث للمؤمنين حين دخلوا الإسلام أول مرة، فإن الشحنة الجديدة كأنما تغسل الجهاز العصبي من رواسبه، وتعده للتلقي من جديد. ومن أجل هذه السهولة في تكوين العادة في الصغر يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعويد الأطفال على الصلاة قبل موعد التكليف بها بزمن كبير. حتى إذا جاء وقت التكليف كانت قد أصبحت عادة بالفعل، ولم تكن في حاجة إلى إنشائها ابتداء بما يستلزمه ذلك من جهد. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر" 1. فمنذ السابعة يبدأ تعويد الأطفال على الصلاة، مع أنهم لن يكلفوا بها إلا بعد سنوات قد تمتد إلى خمس أو ست. لتكون هناك فسحة طويلة لإنشاء هذه العادة وترسيخها؛ حتى إذا بلغ الطفل العاشرة، وصار على مقربة من موعد التكليف، فقد وجب أن يكون قد تعودها بالفعل. فإن لم يكن قد تعودها من تلقاء نفسه خلال سنوات التعويد الثلاث، فلا بد من إجراء حاسم يضمن إنشاء هذه العادة وترسيخها. وقد اختص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة بهذا الأمر   1 أخرجه أبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 لأنها هي عنوان الإسلام الأول والأكبر، حتى ليقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة" 1. ولكن جميع آداب الإسلام وأوامره سائرة على ذات النهج. وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد لها زمنًا معينًا كالصلاة. فكلها تحتاج إلى تعويد مبكر، وكلها تحتاج بعد فترة من الوقت إلى الإلزام بها بالحسم إن لم يتعودها الصغير من تلقاء نفسه. والقدوة الصالحة من أعظم المعينات على تكوين العادات الطيبة، حتى إنها لتيسر معظم الجهد في كثير من الحالات، ذلك أن الطفل يحب المحاكاة من تلقاء نفسه، وأطفال المسلمين يحاكون أبويهم في الصلاة حتى من قبل أن يتعلموا النطق! ويصبح تعويدهم عليها أمرًا سهلًا في الموعد المحدد. إلا الشواذ من الأطفال. والشذوذ أمر متوقع حدوثه دائمًا بسبب وراثات سيئة أو ظروف خاصة سيئة. وهؤلاء هم الذين يحتاجون إلى المزيد من الجهد للتعويد -بالتلقين إلى جانب القدوة- وهؤلاء هم الذين توقع عليهم العقوبة إن لم يستجيبوا للتعويد في الموعد المحدد. وكما يكون تكوين العادة بالقدوة فإنه يكون بالتشجيع، ويكون عن طريق الإلزام باللطف، أو الإلزام بالشدة. فتعويد الطفل -مثلًا- على تنظيم أشيائه وترتيبها وعدم إلقائها وبعثرتها في الحجرة أمر ضروري ولازم. وقد يصنعه من تلقاء نفسه نتيجة وراثات طيبة، أو نتيجة القدوة الصالحة أمامه2. فإذا لم يصنع وجب تشجيعه على ذلك بكل وسائل التشجيع الحسية والمعنوية التي مر ذكرها من قبل، ومن أهمها إضفاء المديح له والإشادة بنظافته وترتيبه ونظامه. فإن كان كل ذلك لا يجدي فلا بد من الأمر، ومتابعة الأمر حتى ينفذ. ومداومة الأمر والمتابعة حتى تتكون العادة. فإذا كان الأمر لا ينفذ، أو لا ينفذ إلا ما دامت الرقابة قائمة، فالمسألة في حاجة إلى مزيد من الحسم. إلى حد العقوبة بكل درجاتها التي بيناها من قبل.   1 أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. 2 يحدث في أحيان غير نادرة أن يقوم الطفل بترتيب أشيائه وتنظيمها من تلقاء نفسه، استجابة لاستعداد وراثي فائق، على الرغم من وجود القدوة السيئة أمامه متمثلة في أحد والديه أو كليهما1 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 ومثل ذلك يقال في كل العادات التي يراد تعويد الطفل عليها، وكل العادات السيئة التي يراد تبديلها أو الكف أنها. والتعويد في الحقيقة هو أكثر ما يستغرق الجهد من الأبوين، وهو هو عملية التربية الحقيقية. فبغير أن تتكون للطفل عادات سليمة لا نكون قد صنعنا شيئًا في الواقع إلا الأماني الطيبة التي لا تغني شيئًا في واقع الأمر. والإسلام في ذلك واضح أشد الوضوح. إنه لا يعتبر التحول الحقيقي قد تم حتى يتحول إلى عمل ملموس في واقع الحياة. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 1. فهذا التفكير الإيماني كله، وهذا التذكر وهذا التدبر ... وهذا التوجه الحار الصادق إلى الله، الذي لا ينبع إلا من قلب مؤمن بحق. وهذا الاستغفار والإنابة, وهذا الإقرار بالإيمان بمجرد سماع الداعي إليه. هذا كله أصبح مقبولًا ومستجابًا عند الله حين صار عملًا يعمل! فلم يقل النص القرآني إن الله استجاب للدعاء وهو دعاء، وللتفكر وهو مجرد تفكر، وللإقرار بالإيمان وهو مجرد إقرار. إنما قال إنه استجاب لما تحول ذلك كله إلى عمل. وأبرز السياق هنا نماذج معينة من العمل. تتناسب مع جو السورة التي تتحدث كلها عن معركة لا إله إلا الله. والقرآن يزيد الأمر وضوحًا وصراحة:   1 سورة آل عمران 190-195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} 1. ومنهج التربية الإسلامية هو المنهج المستمد من الوحي الرباني في الكتاب والسنة. وهو يهدف إلى تحقيق ذات المبادئ الربانية. يهدف إلى تحويل المشاعر والأفكار والنوايا الطيبة إلى عمل له وجود واقعي، وإلى سلوك عملي مؤثر في واقع الحياة. والوسيلة العملية إلى ذلك هو تحويل القيم والمبادئ -بالتربية- إلى سلوك واقعي متمثل في عادة متعمقة الجذور في النفس، كما تم الأمر في الجماعة المسلمة الأولى، التي رباها الرسول صلى الله عليه وسلم على عينه بالهدي الرباني. ولكن هنا ينبغي التنبيه إلى أمر هام. فالعادة -بقدر لزومها في التربية وضرورتها في إقامة مجتمع ذي طابع سلوكي محدد- لها ضررها وخطورتها في ذات الوقت إن لم يتنبه القائمون بأمر التربية إلى مكمن ذلك الخطر فيها! فعلى قدر ما تيسر من طبع السلوك العملي بالطابع المطلوب بلا جهد، فهي عرضة لأن تحول السلوك إلى أداء آلي خال من الإحساس بالقيم الحقيقية التي هي الرصيد الواقعي لذلك السلوك، والتي لا يساوي السلوك شيئًا إن فقدها، حتى وإن بدا جميل الصورة ومثيرًا للإعجاب! تلك فائدة العادة وذلك ضررها. وعلى المربي أن يأخذ الفائدة ويتجنب الضرر. وذلك بأن يكون هو ذاته مستشعرًا للقيم والمبادئ الإسلامية من وراء سلوكه اليومي، ولا يكون مؤديًا لهذا السلوك بطريقة آلية، وخاصة في الصلاة وهي عنوان الإسلام، وأشد الأمور عرضة في ذات الوقت أن تؤدي أداء آليًّا بغير رصيد واقعي من الخشية والتقوى لله. وذلك وحده يعطي جوًّا معينًا للبيت المسلم، يلتقطه الصغير ويؤثر فيه بوعي وبغير وعي. فتظل تلك القيم حية في نفسه ولا تتحول إلى أداء آلي. ثم بمداومة تذكير الصغير بالله. وبأن الأعمال كلها تعمل على وجهها الذي تؤدى به؛ لأن الله يريدها كذلك. ولأننا حين نصنع ذلك نكون موضع رضا   1 سورة النساء 123-124. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 الله، ومستحقين لنعم الله. فهذا التذكير بالله هو الضمان ضد تحول السلوك إلى أداء آلي. وهو الرصيد الحقيقي للقيم والمبادئ، والرصيد الحقيقي للتربية الإسلامية كذلك. وعلى قدر هذا التذكر الحي لله. والإحساس الحي بوجوده سبحانه وبرقابته على الأعمال، يكون رصيد التربية في دنيا الواقع، وتكون فاعليتها في النفس. فلا عجب إذن أن تكون جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الجماعة المثالية في تاريخ البشرية كله، بما كانت عليه من ذكر دائم لله، وإحساس حي بوجوده، وتوجه دائم إليه بالخشية والتقوى لتنال رضاه. من وسائل التربية الفعالة كذلك التربية بالأحداث. أي: استغلال حدث معين لإعطاء توجيه معين. وميزته على التوجيهات الأخرى التي تعطى للطفل باستمرار، أنه يجيء في أعقاب حديث يهز النفس كلها هزًّا فتكون أكثر قابلية للتأثر، ويكون التوجيه أفعل وأعمق وأطول أمدًا في التأثير من التوجيهات العابرة التي تأتي "على البارد" بغير انفعال. وقد كانت الأحداث في حياة الجماعة المسلمة الأولى، والتوجيهات القرآنية المتنزلة فيها، من أبلغ وسائل التربية لهذه الجماعة وأعمقها أثرًا فيها ... ففي كل حدث درس. وفي كل درس عبرة لا تنسى. كان الحدث يهز الجماعة المسلمة كلها فتنفعل به انفعالًا يصل إلى درجة التوهج في داخل النفوس. وعندئذ ينزل التوجيه -والنفوس في هذا التوهج- فيترك طابعه الذي لا يزول. أو كان يحدث الحدث فيتنزل التعليق عليه حارًّا متدفقًا فيكون هو الذي يشعل النفوس إلى درجة التوهج، وفي ثناياه يجيء التوجيه المطلوب، كما يطرق الحديد بعد تحميته حتى يتوهج، فيشكل على الشكل المطلوب! ومراجعة سريعة لسورة الأنفال -التي نزلت تعليقا على ما حدث بين المؤمنين من خلاف على توزيع أنفال بدر- وسورة آل عمران التي نزلت تعليقا على هزيمة أحد، التي نتجت عن عصيان فريق من المؤمنين لأوامر الرسول القائد عليه صلوات الله وسلامه، وسورة التوبة التي نزلت تعليقًا على موقف المنافقين من غزوة تبوك -غزوة العسرة- وسورة الأحزاب التي نزلت تعليقًا على الهزة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 التي أصابت المؤمنين يوم الأحزاب، وسورة النور، التي نزلت تعليقًا على حادثة الإفك. ترينا كيف كانت طريقة التربية بالأحداث على المنهج القرآني. كيف كان الشعور يحمى ليتوهج، ثم تنزل الطرقات عنيفة متوالية، فإذا هي تطبع في النفس طابعًا لا ينتهي بعد أن تبرد المشاعر وتهدأ، بل يصبح جزءًا من كيانها لا يزول. ولذلك كان الدرس يقال مرة ثم لا يعاد.. قال لهم في سورة الأنفال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنغال: 20] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] . {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] . فما عادوا بعدها لما نهوا عنه.. وقال لهم في سورة آل عمران: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 129] . فما بارحهم هذا الاستعلاء بالإيمان بعد ذلك أبدا بصرف النظر عن وضعهم في المعركة منتصرين أو منهزمين! وهكذا ... وهكذا من أثر تلك الطرقات على أثر تلك الأحداث. وقد كانت تلك الأحداث في حياة الجماعة الأولى مرتبة في علم الله لتتنزل بها هذه التوجيهات وتلقى فيها تلك الدروس التربوية العميقة الأثر في حياة تلك الجماعة التي صنعت التاريخ: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} 1. {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِذْ   1 سورة آل عمران 166-167. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} 1. والمربي لا يستطيع بطبيعة الحال أِن يفتعل الأحداث! فهي تجري بقدر الله في الصغيرة والكبيرة سواء. ولكن تطبيق المنهج يقتضي منه أن ينتهز الفرص المناسبة ليلقي دروسه التربوية في الأحداث التي تقع -بقدر الله- والتي يرى أنها صالحة لتوجيه تربوي معين. سواء كان الانفعال بالحدث قائمًا في نفس الطفل بالفعل، أو كان على المربي أن يثير ذلك الانفعال بتعليقاته عليه، حتى إذا علم أن التوهج الشعوري قد حدث داخل نفسه أعطاه التوجيه المطلوب. وغالبًا ما يجيء الأمر بعد مخالفة تقع من الطفل ويكون لها أثر غير عادي في حياته. فعندئذ يكون التوجيه أفعل. أما أحداث كل يوم العادية فليست هي المقصودة بالتربية بالأحداث، ولا تصلح لذلك، لأن التعليق والتوجيه ينبغي أن يكون مناسبًا للحدث ذاته حتى لا يشعر الطفل بالمبالغة التي تفقد التوجيه وزنه في حسه! ولقد يحدث بطبيعة الحال أن يكون الطفل مستهينًا بما وقع منه، والمربي -بخبرته- يراه عظيمًا وخطيرًا وفي حاجة إلى توجيه شديد. فعندئذ يبين للطفل جسامة ما حدث منه، ويوضح له أن الاستهانة من جانبه خطأ ينبغي الكف عنه. كما حدث للمؤمنين في حادث الإفك: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2. فقد صحح لهم خطأهم في تصورهم أن هذا الذي فعلوه كان هينًا. وبين لهم أنه كبيرة من الكبائر، وبين لهم ما كان ينبغي أن يكون عليه السلوك الصحيح في هذا الموقف. ثم أعطاهم توجيهًا حادًّا عنيفًا حاسمًا يشتمل على تهديد خفي.   1 سورة الأنفال 41-42. 2 سورة النور 15-18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 لهم بالخروج من دائرة الإيمان إن عادوا إلى مثل ما فعلوه. وقال لهم في النهاية إنه يعلمهم ويبين لهم الآيات بعلمه سبحانه وحكمته. والمنهج في هذه الآيات واضح مفصل مسلسل. وهو دستورنا في التربية حين تحدث المواقف التي تستدعي نوعًا خاصًّا من التوحيد، وهي مواقف لا تخلو منها حياة إنسان. والتربية بالقصة لون آخر من التربية يستخدم الحادث، ولكنه حادث خارجي، يقع لأشخاص آخرين غير قارئ القصة أو مستمعها.. ومع ذلك فهو مؤثر في النفس كما لو كان يقع للإنسان ذاته! وهذا التأثير للقصة يقع عن طريقين اثنين في وقت واحد، يقوي كل منهما الآخر ويزيد مفعوله. أحدهما هو المشاركة الوجدانية، فالأشخاص في القصة يضفي عليهم الفن القصصي حياة وحركة فيصبحون أحياء يتملاهم الخيال ويتابع حركتهم، ومن ثم يشاركهم وجدانيًّا فيما هم من أحداث وانفعالات. فيفرح لهم أو يحزن، أو يحنق عليهم أو يتشفى فيهم كما لو كانوا يعملون أعمالهم اللحظة، ويثيرون مشاعرنا تجاههم الآن. أما الطريق الآخر فربما كان يتم على غير وعي كامل من الإنسان. ذلك أن قارئ القصة أو سامعها يضع نفسه في موضع أشخاص القصة أو يضع نفسه إزاءهم، ويظل طيلة القصة يعقد مقارنة خفية بينه وبينهم، فإن كانوا في موقف البطولة والرفعة والتميز، تمنى لو كان في موقفهم ويصنع مثل صنيعهم البطولي. وإن كانوا في موقف يثير الازدراء والكراهية حمد لنفسه أنه ليس كذلك! واعتز بنفسه أنه لا يقف مثل هذه المواقف المسفة! ومن هنا يحدث تأثر ذاتي إلى جانب المشاركة الوجدانية، ينتج من هذا التلبس بأشخاص القصة, ووضع الإنسان نفسه محلهم أو بإزائهم، وعقد المقارنة بينه وبينهم. وبهذا التأثير المزدوج تثير القصة انفعالاتنا وتؤثر فينا تأثيرًا توجيهيًّا يرتفع بقدر ما تكون طريقة الأداء الفنية بليغة ومؤثرة، وبقدر ما تكون المواقف داخل القصة مواقف "إنسانية" عامة لا مواقف فردية ذاتية. ومن هنا خطورة "الفن" في التربية. إن الفنان ذو براعة خاصة، تجعله يستطيع التأثير في الناس من خلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 وصفه للمواقف والمشاعر والأحداث. ولا يكاد ينجو إنسان من تأثير الفن عليه, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من البيان لسحرًا! " 1. فإذا كان الفن الذي يقدمه الفنان للناس زائفًا. وإذا كان يصف الانحراف والجريمة كأنها بطولة محببة، فهو قمين -ببراعته الفنية المؤثرة- أن يفسد مشاعر القارئ ويحببه في الجريمة وفي الفاحشة بما يزين من صورتها في حسه، وخاصة جرائم الجنس، وعند المراهقين والشباب صغار السن بصفة خاصة. أما إن كان على بينة من ربه، وأوتي البراعة الفنية، فهو قمين أن ينشئ في نفوس قراءه حبًّا للقيم العليا والمواقف الإنسانية الفائقة فيدفعهم ذلك إلى محاولة الصعود. ولقد استخدم القرآن القصة استخدامًا واسعًا جدًّا في تثبيت القيم الإيمانية وترسيخها وتعميقها في نفوس المؤمنين. يستوي في ذلك قصص الأنبياء، وقصص المؤمنين الذي ابتلوا فصبروا حتى جاءهم النصر أو قدموا أنفسهم شهداء للحق، وقصص المكذبين وطغيانهم الموقوت، الذي يمد الله لهم فيه فترة من الوقت ليزدادوا طغيانًا وتجبرًا، ثم يدمر عليهم في النهاية ويسحقهم، أو مشاهد القيامة الشبيهة بالقصة، المساوية لها في التأثير إن لم تكن أعظم تأثيرًا. واستخدام القرآن للقصة في التربية يقررها كمبدأ من مبادئ التربية الإسلامية، علينا أن نستخدمه ونستغل قوة تأثيره في الكبار والصغار سواء. ونستطيع -بالنسبة للطفل- أن نبسط له قصص القرآن بلغة سهلة يستطيع أن يستوعبها سماعًا أو قراءة كما نستطيع أن نؤلف له قصصًا مناسبة تؤكد على الفضائل والمشاعر النظيفة والمواقف الطيبة التي نريد تثبيتها وتوجيه الطفل إليها، كما تنفر من المواقف السيئة والمشاعر الهابطة والرذائل التي نريد إبعاد الطفل عنها. ولا بأس -تربويًّا وفنيًّا- من استخدام الحيوان وإعطائه صورًا إنسانية. ومن استخدام مخلوقات خارقة "أو خرافية" كذلك بشرط أن يكون لها مغزى تربوي، فالطفل يصدقها في مرحلة معينة من عمره حين يكون خياله واسعًا وفياضًا، وتعطيه الأثر التربوي المقصود، ثم يكبر ويعلم أنها كانت   1 أخرجه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 قصص خرافة، ولا يزول من نفسه مع ذلك أثرها التربوي المقصود! وينبغي أن تكون القصة أو الأحدوثة "الحدوتة" مشوقة للطفل ومناسبة لكل عمر، ومصوغة في القالب الذي ينفذ إلى حسه بسهولة، ومواقفها في الوقت ذاته دافعة إلى الخير مبعدة عن الشر. فلا نرسم موقفًا هابطًا في صورة جميلة محببة، ولا نرسم موقفًا عاليًا في صورة تثير السخرية أو النفور. والكتابة للأطفال وتأليف القصص لهم موهبة خاصة لا يؤتاها كل إنسان. مضافًا إليها خبرة ودراسة دقيقة تعين الموهبة وتوجهها إلى الصواب. وليس كل أب أو أم على هذه الموهبة. فالفنانون قلة في البشرية، وفنانو الطفولة أقل.. ولكن حسب أي أب أو أم أن يلجأ إلى الرصيد الموجود بالفعل فينتقي منه ما يناسب طفله. وإن كنا نقول بهذه المناسبة إن كتب الأطفال الإسلامية قليلة جدًّا إلى درجة معينة! وإنه على الرغم من الثراء غير العادي الذي يحفل به التاريخ الإسلامي، في الشخصيات والمواقف والأحداث البطولية، والنماذج الفائقة من البشر في كل اتجاه، فإن ما كتب عنها سواء للكبار أو الصغار ضئيل ضآلة مؤسفة، والنقص أشد فيما يخص الصغار. وحقًّا إنه ليس كل إنسان يحسن الكتابة للأطفال ولو أوتي الرغبة وتوفرت لديه المادة. ولكني أعتقد أنه لو اتجهت النية وانعقد العزم فسنجد بين الكتاب والفنانين المسلمين من ينتدب لهذا الأمر ويوليه جهده وعنايته. المهم أن نبدأ. بإحساس من الواجب الذي يؤدى لله. بقي لدينا من وسائل التربية التي ذكرناها وسيلتان متقاربتان في الأسلوب متشابهتان في الغاية. إحداهما تتصل بالجهد الفائض والأخرى تتصل بالوقت الفائض. وكلتاهما ذات أهمية في التربية، ينبغي أن يحسب لها الحساب. فأما الجهد الفائض -وهناك دائمًا عند الأطفال "والشباب من بعد" جهد فائض- فينبغي أن يستنفد في عمل طيب، سواء كانت له منفعة مادية أو لم تكن. فليس المهم بالنسبة للطفل الصغير النفع المادي، بقدر ما يهم البناء النفسي السليم. وإن الجاهلية الحديثة في الغرب لتشغل جانبًا من هذا الجهد الفائض في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 تشغيل الأطفال في عمل يدر عليهم كسبًا ينفقونه على أنفسهم "مصروف اليد" لأن أهلهم لا ينفقون عليهم، بدعوى تعويدهم الاعتماد على أنفسهم من صغرهم، وتربية الشعور بالمسئولية في نفوسهم، وتعويدهم على العمل ذاته منذ طفولتهم. والإسلام -إن كان يبني الشخصية الإسلامية على تحمل التبعة والجهد، وعلى النشاط والكد، وعلى التدريب العملي على الحياة منذ الصغر، وعلى إعداد النفس "للتجنيد" فيما بعد. فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم الأولاد السباحة والفروسية- إلا أنه لا يذهب إلى هذا المدى من تشغيل الأطفال بغير ضرورة وأهلهم موسرون. إنما يكلف أهلهم بالإنفاق الكامل عليهم حتى يبلغوا من التكليف. وليست الوسيلة الوحيدة لتعويدهم العمل والشعور بالتبعة هو تكليفهم بالإنفاق على أنفسهم جزئيًّا وهم أطفال, وكليًّا وهم مراهقون! "بعد الشهادة الثانوية" إنما يكون ذلك كله تحبيبًا لا إلزامًا، حتى يحين وقت الإلزام. ولكن الإسلام حريص على أي حال على استنفاد الجهد الفائض في عمل طيب. لأن تركه بغير توجيه صالح مجال فساد كبير للصغار والكبار سواء! إن هذا الجهد الفائض سيستنفد لا محالة في شيء ما, فإن لم يستنفد في الخير فلا بد أن يستنفد في الشر! ومن هنا خطورته، ومن هنا تبعة المربي إزاءه. لا بد من تنظيم منطلقات لهذا الجهد، لتصريفه فيما ينفع البناء النفسي السليم للطفل. وبالنسبة للطفل الصغير حتى السابعة وما بعدها يكون اللعب جانبًا هامًّا من حياته. فالجهد الفائض يمكن أن يصرف في اللعب، كله أو بعضه على الأقل. واللعب ذاته بالنسبة للصغير مجال واسع للتربية والتوجيه وتنمية المواهب والقدرات والاستعدادات. فهو ليس مجرد إنفاق طاقة فائضة، ولكنه فرصة للتربية والتدريب في ذات الوقت. ومن هنا ينبغي أن يكون اللعب موجهًا وتحت إشراف المربي، سواء كان لعبًا فرديًّا للطفل في سنواته الأولى أو لعبًا جماعيًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 حين يكبر ويستطيع المشاركة مع الآخرين ويتذوقها، وذلك حين ينمو في نفسه الخط الجماعي بعد الخط الفردي1. وليس معنى كونه موجهًا، وكونه تحت إشراف المربي أن يكون إلزامًا وقسرًا كالدروس المقيدة في المدرسة! كلا! إن هذا يزهد الطفل في اللعب ويكرهه فيه! إنما المقصود أن يرغب الطفل ويحبب في أنواع اللعب التي يراها المربي مفيدة له أو الموصوفة في الكتب المتخصصة "وليس هنا مجال الحديث التفصيلي في هذا الشأن" وأن يكون الإشراف من بعيد حتى لا يحمل صورة الإلزام والمراقبة، فاللعب "لعب" على كل حال، وقلبه إلى "جد" يفسد طعمه ويفسد مفعوله! إنما يمكن أن يأخذ الإشراف صورة المشاركة الخفيفة بين الحين والحين، أو صورة هذا السؤال للطفل: بأي شيء تلعب؟ لا! هناك لعبة أجمل! انظر! تصنع كذا وكذا.. ومع ذلك فإن لم يستسغ الطفل اقتراحك فليس لك أن تقسره عليه! إنما يكون من واجبك في بعض الحالات أن تكفه عن لعبة معينة إذا كان فيها خطر عليه، أو كانت تعوده عادة سيئة لا ينبغي أن يتعود عليها. ولا بأس -إلى جانب اللعب- من تشجيع الطفل على القيام بأعمال معينة لاستنفاد الطاقة الفائضة لديه. كتكليفه بترتيب أشيائه وتنظيمها فهذا عمل، ذو هدف مزدوج: استنفاد الطاقة أولًا، وتربية عادة طيبة في ذات الوقت. أو تشجيعه على القيام ببعض الأعمال في المنزل، أو تكليفه بشراء أشياء من الخارج حين يكبر سنة ويصبح صالحًا للخروج والتعامل مع الآخرين. إلى غير ذلك من الأعمال النافعة، التي لا تبقي للطفل جهدًا فائضًا يصرفه في شر أو سوء. وليس المقصود بطبيعة الحال إنهاك الطفل بالعمل بحجة استنفاد الفائض من طاقته! فلا ننسى أنه بعد طفل! وأن اللهو والمرح هو عالمه الأصيل الذي لا ينبغي إفساده "بالعمل" بمعناه الجاد إلا بعد سن معينة "في السبع الثانية لا في الأولى" ولا ننسى كذلك أن إرهاقه بدنيًّا أو عصبيًّا يعاكس نموه الطبيعي ويؤثر على صحته. وليس هذا هو المقصود!   1 راجع فصل "خطوط متقابلة" في الجزء الأول من "منهج التربية الإسلامية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 والوقت الفائض شبيه بالجهد الفائض.. إنه طاقة، ينبغي أن تصرف في الخير وإلا صرفت في الشر. ومن هنا فإن "وقت الفراغ" أمر شديد الخطورة، إن لم يحسن استخدامه وشغله فيما لا يضر. وإن "شغل أوقات الفراغ" لهو مشكلة من أسوأ المشاكل في الجاهلية. وفي جاهلية القرن العشرين بصفة خاصة! وما الخمر والميسر، والمخدرات، و"حانات" الرقص المجنون، وانحراف الشباب وجنوحه إلى الجريمة وإلى الشذوذ إلخ.. إلخ.. ما كل ذلك إلا صدى لمشكلة الوقت الفائض الذي لا يعرفون له متصرفًا إلا هذا السوء! و"الحضارة" الجاهلية في القرن العشرين هي التي أوجدت هذه المشكلة بهذه الصورة دون شك، بقتلها إنسانية الإنسان وطمس إشراقة روحه، وتحويله إلى آلة تعمل معظم النهار، وحيوان ينطلق سواد الليل. والفراغ في الجاهلية الحديثة ليس في حقيقته فراغ الوقت، ولنه فراغ النفس.. فراغ القلب.. فراغ الروح. فراغ القيم والمبادئ العليا. فراغ الأهداف الجادة التي تشغل الإنسان حين يكون على صورته الربانية "في أحسن تقويم". فراغ العمل على إقامة الخلافة الراشدة في الأرض، بكل ما تشمله من جهد جاد وجهاد للباطل، وعمل لإقامة الحق. وحين يوفر التقدم العلمي والصناعي جهد الإنسان البدني، ويوفر له مزيدًا من الوقت، ثم يكون في نفسه وقلبه وروحه ذلك الفراغ، فهنا تحدث المشلكة التي يحلونها بالخمر والميسر والجنس. والجنون. ثم يقولون إنها ضريبة الحضارة! كلا! إنها جريمة الجاهلية. وفي الإسلام لا توجد هذه المشكلة قط. لأنه لا فراغ! لا يمكن أن يوجد الفراغ في قلب عامر بذكر الله! ولا في روح متعبدة لله! ولا في نفس مستقيمة على هدى الله! وكيف يوجد الفراغ والإنسان مشغول بإقامة الخلافة الراشدة، عامل على إقامتها في ذات نفسه، وساع إلى إقامتها في واقع الحياة؟ كلا! لا فراغ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 والعبادة -بمعناها الواسع الشامل- أي: التوجه إلى الله بكل عمل، والسير على هدى منهجه في كل عمل. تملأ الفراغ كل الفراغ! ومن هنا لا يحتاج المسلم إلى الخمر والميسر ولا يغرق في حمى الجنس ولا في المخدرات، لأنه لا يحس ذلك الفراغ الداخلي القاتل الذي يهرب منه في هذه الأشياء! ومع ذلك فقد حرص الإسلام على "شغل أوقات الفراغ" -حين توجد- بالعمل النافع المثمر الذي يعين الإنسان على الطريق. يشغله في الذكر والعبادة التطوعية بعد أداء الفرائض. يشغله في حفظ القرآن وتلاوته تعبدًا إلى الله. يشغله في زيارة الأصحاب والأحباب وعيادة الأرضى من المعارف والأصدقاء. يشغله في ساعة مرح نظيف مع الزوجة والأولاد في البيت، أو مع الأحباب المؤمنين في أي مكان. وكلها طاعات يتقرب بها إلى الله، وتزيد نفسه ثراء في كل مرة؛ لأنها تضيف إلى رصيد الخير فيها، ولا تستنفد طاقة النفس في التفاهات أو في المدمرات من الشهوات. والإسلام حريص على تعويد أتباعه على ذلك منذ صغرهم لكي لا تنشأ عندهم عادة "قتل الوقت" بالسيئ من العادات أو المشاعر أو الأفكار أو الأعمال. فوقت الفراغ فرصة لكل سيئ من الأمور إذا لم يحسن استغلاله, وخاصة إن وجدت الطاقة الفائضة، فهنا يكون الفساد أشد. وبالنسبة للطفل فإن الطاقة الفائضة والوقت الفائض أمران متداخلان متقاربان. فما قلناه هناك بشأن الطاقة الفائضة نقوله هنا مرة أخرى بالنسبة للوقت الفائض: اللعب، وتنظيم أشيائه وترتيبها، والتشجيع على بعض الأعمال المنزلية. ثم نصيف إليه بالنسبة للوقت، بعض أوقات يجتمع فيها الأبوان بالطفل، يحدثانه بقصة، أو يستمعان منه إلى قصة، أو يخرجون في نزهة أو زيارة لبعض الأصدقاء، فكلها أمور تشغل الوقت في النافع، ولا تترك فراغًا للسيئات.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 ثم تجيء مرحلة شديدة الأهمية في حياة الطفل. حين يبدأ يبحث عن الخالق. إن الفطرة البشرية تتيقظ لوجود خالقها في مرحلة باكرة جدًّا. منذ الطفولة. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1. ولا نعلم نحن كيف أخذ الله ميثاق الفطرة, ولا متى ثم ذلك. ولكنا نعلم أن هناك منافذ في الفطرة تتلقى تأثيرات معينة من الكون والحياة، فتستيقظ إلى حقيقة الخلق، وتنبعث تبحث عن الخالق. سواء اهتدت إلى الله الحق، فعرفته على حقيقته المنفردة، المنزهة عن الشبيه والشريك، أم ضلت فتصورته في صورة ضالة وأشركت معه آلهة أخرى. في كل حالة -مهتدية أو ضالة- هي تبحث عن الخالق، وتتقدم إليه بلون من ألوان العبادة. وهذه التأثيرات المنبعثة من الكون والحياة ذات ثقل بالغ, لا يتسنى للفطرة أن تفلت من وقعها عليها. فتنطلق -حتمًا- تسأل من الخالق؟ من المدبر؟ من وراء الأحداث الجارية التي تحدث في الكون؟ من منشئ الحياة وواهبها للأحياء وآخذها منها؟ من صاحب القدرة القادرة الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض. في كلمة: هو الله! ثم تتصوره في أي صورة وتعبده حسبما تصورته! الكون بضخامته الهائلة. والكون بدقته المعجزة. وظاهرة الحياة والموت. وظاهرة حدوث الأحداث وجريانها. وظاهرة القدرة القادرة إلى جانب العجز البشري. وعجز الإنسان عن استشفاف الغيب.   1 سورة الأعراف 172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 كلها منافذ يوقع الكون والحياة توقيعاتهما عليها فتستيقظ تبحث عن الخالق.. وكلها من موحيات العقيدة في نفس الإنسان1. والطفل -في سن باكرة جدًّا- تستيقظ فطرته لهذه التوقيعات فيروح يبحث عن الخالق. إنه في سن معينة يبدأ يمطر أهله بالأسئلة، التي قد لا يجدون لها إجابة مقنعة بالنسبة للطفل، وهي في الحقيقة بدء تيقظه لهذه الحقيقة الضخمة. حقيقة الخلق.. وحقيقة الألوهية. حين يبدأ يسأل: السماء مدورة.. لماذا؟ السماء زرقاء.. لماذا؟ الشمس أكبر من القمر.. لماذا؟ أين تذهب الشمس في الليل؟ أين يذهب القمر حين لا يكون موجودًا في السماء؟ أين آخر الأرض؟ ما الذي يحمل الأرض؟ وما الذي يحمل السماء؟ أو يسأل: كيف جئت إلى الوجود؟ إلى مئات أخرى من الأسئلة التي ليس لها إلا إجابة واحدة: الله هو الذي خلقها. أو الله هو الذي جعلها هكذا. إنه عندئذ يكون قد أخذ يتلقى توقيعات الكون والحياة، وبدأت فطرته تستيقظ. تبحث عن الله. هنا يجيء دور التربية لتأسيس العقيدة السليمة في نفس الطفل، في لحظة تهيئها الفطري لاستقبال العقيدة. إن الطفل ذاته هو الذي ينبعث للسؤال، ولا يحتاج أن ينبهه أحد إلى ذلك, ولا أن يستلفت نظره، فقد تكفل الخالق سبحانه، وهو يأخذ على الفطرة ميثاقها، أن يوقظها، ويوجهها لتبحث عنه وتهتدي إليه.. وإن كان   1 انظر فصل "العقيدة" من كتاب "دراسات في النفس الإنسانية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 من رحمته البالغة أنه لم يأخذ الفطرة بميثاقها وحده, وإنما أرسل الرسل يذكرون الفطرة بميثاقها، ويهدونها إلى الطريق الحق: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. وما مهمة المربي إلا أن يلتقط الخيط، وينتهز الفرصة السانحة، ليعرف الطفل بإلهه الحق، ويربط مشاعره به، ويعلق قلبه بالتطلع إليه والخشية منه. وينبغي أن نتذكر بطبيعة الحال أن مدارك الطفل ما تزال صغيرة، وأن قدرته على الاستيعاب محدودة، فنحدثه بما يناسب قدرته ومداركه لا بما نعرفه نحن عن حقيقة الألوهية، وإن كانت هناك حقائق يلتقي عندها الصغير والكبير: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2. للكبار هي أم للصغار أم لهم جميعًا؟ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 3. للكبار هي أم للصغار أم لهم جميعًا؟ فأما ما يعجز عن فهمه وإدراكه فيؤجل حتى يحين وقته. إنما المهم أن نبدأ معه حين يبدأ هو, يستطلع أحوال الكون والحياة من حوله، ويسأل الأسئلة التي لا إجابة لها إلا: الله. وسنقول له أشياء لن يستطيع تصورها ولا تخيلها، ولكنا مع ذلك لا بد أن نلقيها في خلده حتى يتم إدراكها فيما بعد. حين نقول له إن الله يرانا ويسمعنا, وإن كنا نحن لا نراه: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 4. فلن يفهم ذلك وهو صغير. ولكنه حين يكبر يستطيع أن يستوعب هذا الأمر على أنه حقيقة، وإن كان سيعرف أنه لن يدرك الكنه لأن ذلك خارج عن نطاق الإدراك البشري! ومع ذلك فلا بد أن نقول له هذه الحقيقة لأنه يظل يسأل دائمًا: أين الله؟ ولماذا لا نراه!   1 سورة النساء 165. 2 سورة الرعد 16. 3 سورة لقمان 10. 4 سورة الأنعام 103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وحين نحدثه عن رضا الله وعن غضب الله، فلن يدركه إلا في صورة حسية، وقد يجسم صورة للرضا والغضب.. ومع ذلك فلا بد أن نحدثه عن رضا الله وغضبه لنزرع في نفسه الفضائل التي ينبغي أن يمارسها، والسيئات التي ينبغي أن يحجم عنها. وذات يوم.. حين ينضج عقله وتتسع مداركه، فسيعلم أن تصوره لله سبحانه وتعالى في طفولته كان تصورًا ساذجًا وغير صحيح، ولكن الأثر التربوي الذي ارتبط بفكرته عن الله في طفولته سيبقى. وسيتعمق ويرسخ, ويقوم عليه بناء نفسي سليم. إن تأسيس العقيدة السليمة منذ الصغر أمر بالغ الأهمية في منهج التربية الإسلامية. وأمر بالغ السهولة كذلك! فما على المربي -كما قلنا- إلا أن يلتقط الخيط وينتهز الفرصة السانحة. ولكن هناك محاذير ينبغي للمربي أن يتوقاها: فلا يجوز له أن يثقل ذهن الطفل ويكده في تصور أمور لا يستطيع أن يتصورها أو يدركها. ولا داعي للعجلة على الإطلاق. فسيحين الوقت لكل شيء فيما بعد. ولا يجوز له أن يتكئ على خط الخوف حتى يرعب الطفل بغير موجب، بكثرة الحديث عن غضب الله وعذابه والنار وبشاعتها. إنما ينبغي -كما هو مقرر في المنهج الرباني في كتاب الله وسنة رسوله- المزاوجة الدائمة بين الرضا والغضب، والنعيم والعذاب. وينبغي كذلك أن نبدأ بالترغيب لا بالترهيب، حتى يتعلق قلب الطفل بالله من خيط الرجاء أولًا فهو أحوج في صغره إلى الحب. ولا بأس بأن يصل الترهيب إلى نفس الطفل من طريق غير مباشر. كأن يقال له حين يقوم بعمل خير: إن الله سيحبه من أجل هذا العمل ويدخله الجنة. وإنه ليس كالأولاد الآخرين الذين يعملون السيئات، والذين سيعذبهم الله في النار. فنكون قد ذكرنا له العذاب ولكن من طرف خفي، يحدث في نفسه الرهبة المطلوبة, ولكنها لا ترتبط بشخصه مباشرة فتفزعه في سنه الصغيرة دون موجب تربوي. وعن طريق التعريف الدائم بالله، كلما نمت مدارك الطفل واتسعت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وربط القلب والمشاعر دائمًا به، تستنبت الفضائل في نفس الطفل، ويعمق فيه حبر الخير، ويبعد عن الشر. ورويدًا رويدًا -ودون عجلة على الإطلاق- يفهم الطفل حقيقة الألوهية، وواجب العبودية نحوه، ومعنى العبودية الحقة. ورويدًا رويدًا كذلك يحفظ بعض آيات القرآن، سواء من السور القصيرة أو من القصص الوارد في السور المتوسطة والطويلة، ليكون ذخيرة له عندما يبدأ في الصلاة، وليتعود القرب من القرآن والأنس إليه والإقبال عليه. والقدوة في هذا الأمر كله هي المعين الأول على بناء العقيدة السليمة والسلوك الإيماني القويم. ثم يأتي وقت يخرج فيه الطفل إلى الشارع. ولا بد أن يحدث ذلك ما لم تتدخل عوامل غير طبيعية تمنع الطفل من الخروج. وفي المجتمع المسلم، الذي يتحاكم إلى شريعة الله، ويطبق في أمور حياته منهج الله، يكون الشارع إسلاميًّا كما يكون البيت. ومعنى كون الشارع إسلاميًّا أن تراعى فيه حرمات الله، ولا يقع فيه ما يخالف أوامر الله وتوجيهاته. فإذا وقع ذلك -ولا بد أن يقع بين الحين والحين, ما دمنا في مجتمع بشري لا ملائكي- فإنه يكون موضع الاستنكار لا محالة، لا موضع الترحيب، ولا موضع عدم المبالاة. فأول ما يلفت النظر في الشارع المسلم أنه لا توجد فيه امرأة متبرجة بحال من الأحوال، لأن المجتمع المسلم لا يسكت على هذا الأمر بالذات، من بين جميع الأمور، لشدة ما نبه إليه كتاب الله وسنة رسوله. ولا تجد بالتالي شبابًا متسكعًا صناعته معاكسة الرائحات والغاديات، لأن الإسلام شدد على هذه كما شدد على تلك. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. فهي أوامر مشددة للرجال والنساء جميعًا ألا يقعدوا وألا يقعدن للفتنة في الطرقات "ولا في غير الطرقات بطبيعة الحال"! تلك سمة بارزة مميزة للشارع المسلم، لا تخطئها العين خلال قرون متطاولة من التاريخ، كان الشارع الجاهلي فيها، في خارج العالم الإسلامي يعج بالمنكرات. وقد ظل الشارع المسلم محافظًا على سمته تلك طالما كان المجتمع مسلمًا تراعى فيه حرمات الله، ذلك أن الشارع جزء من المجتمع بطبيعة الحال، يأخذ لونه وسمته، ويتزيا بزيه وينطبع بطابعه. فلما ارتد المجتمع جاهليًّا في القرن الأخير، صار الشارع جاهليًا بالضرورة، وخرجت المرأة متبرجة في الطريق، وخرجت الفتنة وراءها من كل طريق، كما خطط لها أعداء الإسلام من الصليبيين والصهيونيين في غفلة كاملة من المسلمين2. وفي الشارع المسلم لا يتحدث الناس عن الفاحشة. فليس الأمر فقط أنه لا توجد الفتنة الهائجة التي تفتن الناس -رجالًا ونساء- وتخرجهم عن طاعة الله ورسوله. ولكن الأمر أبعد من ذلك في المحافظة على الأعراض وعلى الأخلاق في المنهج الرباني، فالفاحشة ذاتها لا تذكر إلا بشهود أربعة! وإلا فهي قذف توقع على قائله عقوبة القذف: ثمانين جلدة، ولا تقبل شهادته أبدًا إلا أن يتوب وتعلم توبته. وحكمة الشرع في ذلك واضحة. فحين لا يتحدث الناس عن ارتكاب الفاحشة، تظل مرهوبة في النفوس لا يقدم عليها أحد استعظامًا لأمرها، بالإضافة إلى شدة العقوبة المفروضة عليها. أما حين يكثر الحديث فيها وتصبح حديثًا شائعًا متداولًا فإن رهبتها تذهب من النفوس. فمن أجل صيانة المجتمع من الفاحشة كان هذا الأمر بعدم الحديث فيها إلا بشهود أربعة. وحين يوجد الشهود يقام الحد، فيكون أرهب في النفس. ولحكمة كذلك جاء في القرآن:   1 سورة النور 30-31. 2 انظر فصل "أثر المخطط الصليبي الصهيوني في حياة المسلمين" من كتاب "المستشرقون والإسلام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1 زيادة في إشاعة الرهبة من هذه الجريمة بالذات، التي تحل كيان الأمم وتذهب بتماسكها حين تتفشى فيها. ولا يوجد من ثم في الشارع المسلم ذلك السيل من الشتائم البذيئة القذرة التي يفيض بها الشارع الجاهلي؛ لأنها كلها تدخل في دائرة القذف وتوقع عليها -في الشرع الإسلامي- عقوبة الجلد وإسقاط الشهادة، وهو نوع من إسقاط الاعتبار. وهكذا لا تلتقط أذن السائر أو السائرة في الطريق كلمة تخدش الحياء. فتظل النفوس نظيفة من الداخل، لأنها لا ترى الفاحشة ولا تسمع عنها ولو إيحاء من بعيد! وللمجتمع المسلم وسائله بطبيعة الحال لضمان التلبية النظيفة لدافع الفطرة.. نتحدث عنه في الفصل القادم حين نتحدث عن مشاكل الجنس للمراهقة والشباب المبكر. إنما نتحدث هنا بالقدر الذي يتعلق بالشارع المسلم ونظافته من الفاحشة، وذلك جزء من التربية الأخلاقية للمجتمع المسلم في شئون الجنس، نستكمل الحديث عنها هناك. وفي الشارع المسلم تراعى الأخلاق العامة التي يفصلها المنهج الرباني, وتفصلها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة. فلا يتحلق الناس في وسط الطريق، ولا يعطلون المرور فيه، ولا يتصايحون فيه كالأنعام، ولا يهرجون تهريج التافهين الفارغين الذين لا تشغلهم جديات الأمور. ولا تقع المعارك المتكررة فيه ولا السباب واللعان، فإن وقعت قام أناس في الحال يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويردون الأمور إلى نصابها من موظفي الدولة المختصين "أي: الشرطة" أو غيرهم من الناس، ولا يتحلقون "للفرجة" وزيادة الضجيج! ولا يكون الشارع بصورة من الصور ملتقى الفارغين من الناس. فليس في المجتمع المسلم فارغون يتسكعون في الطرقات! إنما يمضي كل إنسان إلى عمل يشغله. فإن كان عمله في الطريق، بائعًا أو شاريًا، أو عاملًا أو صانعًا فهو مشغول كذلك في مهمته لا يجد الفراغ النفسي ولا فراغ الوقت الذي يتسكع به في الشارع مخالفًا لآداب الإسلام.   1 سورة النور 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وغني عن الذكر أن الشارع المسلم لا يستخدم في قضاء الضرورة فهذه من الملاعن الثلاث التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الشارع الإسلامي باختصار صورة معبرة عن أخلاقيات المجتمع المسلم ومبادئه وقيمه ومفاهيمه. سواء في ذلك أخلاقيات الجنس، أو أخلاقيات التعامل: في البيع والشراء. أو السلام والتحية. أو آداب المرور. أو آداب الجلوس. أو آداب العلاقة بين الصغير والكبير، أو بين السائر والجالس. إلخ.. إلخ. كما أنه صورة معبرة عن التحاكم إلى شريعة الله. فالأمور لا تجري في فوضى بلا ضابط. إنما يضبطها الشرع الرباني والمنهج الرباني. فهي إما أن تسير كما أمر بها الله ورسوله، وإما أن تقوم بما أمر به الله ورسوله، من أول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى التعزير إلى إقامة الحد. وبعبارة أخرى فإن الله "موجود" في حس الناس في الشارع الإسلامي، كما هو موجود في حسهم في البيت الإسلامي والمجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية. تشعر بآثار هذا الوجود في توقير الله وإطاعة أوامره، وتجنب نواهيه. وحين يخرج الطفل المسلم على الشارع المسلم فلا ضير. بل هو لا بد أن يخرج لا محالة ما دام سوي البدن والعقل والنفس. فمنذ مولده يظل عالمه يتسع رويدًا رويدًا حتى يشمل في النهاية كل الكون، المحسوس منه وغير المحسوس، وقد يظل عالمه في الشهور الأولى محصورًا في حضن أمه وثديها ووجهها وفراشة الذي ينام فيه. ولكنه بعد قليل يبدأ يأنس إلى أشخاص آخرين غير الأم: يأنس لأبيه، ولإخوته إن كان له إخوة، أو لوجوه أخرى من المقيمين معه في المنزل، ثم يبدأ يأنس لآخرين ممن يزورون البيت بين الحين والحين، ويتعرف عليهم إذا عادوا إليه. ثم يبدأ يمشي بنفسه فيصبح لعالمه أبعاد أخرى غير التي كانت له وهو محمول بين ذراعي من يحمله أو يحتضنه. ثم يطل من الباب أو النافذة فيرى عالمًا أكبر من البيت، وأشمل وأفسح، فتتوق نفسه إلى الفرجة ثم إلى الخروج. ويجد والديه يمنعانه في بادئ الأمر، ويزيده ذلك شوقًا وتحرقًا. حتى يسمح له في النهاية بالخروج! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 والخروج إلى الشارع تجربة ضخمة في حس الطفل، مفيدة ومثمرة وضرورية. فمنذ اللحظة التي يتسع فيها عالمه النفسي والوجداني والعقلي عن حدود البيت، يصبح البيت في حسه قيدًا يرغب في الانفلات منه. وعندئذ لا بد أن يسمح له بالخروج، في صحبة الآخرين في مبدأ الأمر إلى أن يطمأن إلى خروجه وحده فيما بعد. وحبسه في البيت -تحت أي ستار كان- هو تعويق لنموه النفسي والعقلي والوجداني، يترك طابعه فيه بقية العمر إذا لم يصحح في حركة تصحيح جذري. فقد يطبعه بالجبن والخوف. أو يطبعه بالانطواء والعزلة. أو يطبعه بالنفرة من الناس. أو يطبعه بالاضطراب والحيرة عند مواجهة المواقف الجديدة. أو يطبعه برفض كل تجربة جديدة يخوضها وحده، ويتمسك بأن يخوضها غيره له أو يخوضها معه ليطمئن! أو يطبعه بذلك كله في آن واحد! ذلك أن الشارع هو مجال اكتساب الخبرة ونمو الشخصية في ذلك كله! في الشارع يرى أناسًا أغرابًا لا تربطهم به صلة كتلك التي تربطه بأهل المنزل.. فيتعود أن يرى الأغراب ويعيش بينهم بلا توجس. وفي الشارع يجد أقرانًا في مثل سنه وأكبر وأصغر. فيتعامل معهم في لعب أو حديث أو حتى مشاجرة. وفي كل مرة يكتسب خبرة جديدة ويتخطى حاجزًا من الحواجز، ويمارس الحياة ممارسة فعلية. فالحياة أخذ وعطاء. وسلم وحرب. وغلبة وغلب. وخصام وصلح. وحب وكره. واجتماع وافتراق. وجهد يبذل, ورغائب تتحقق أو لا تتحقق. ولا يمكن أن يتم ذلك كله في داخل البيت، ولو كان فيه إخوة وأخوات وأقارب. فالحياة ليست مقصورة على التعامل مع الأقارب. إنما يقع أكثرها تعاملًا مع أناس لا تربطهم بالإنسان رابطة قرابة ولا صداقة. فما لم يتعود الإنسان ذلك في صغره، ويمارسه ويتدرب عليه تدريبًا عمليًّا، فستظل نفسه متوجسة مضطربة لا تجد طمأنينتها واستقرارها في المجتمع الكبير. ومن هنا يكون الخروج إلى الشارع وممارسة الحياة فيه ضرورة للطفل، لا يكتمل بنيانه النفسي والعقلي إلا به، ولا تنمو كل جوانب شخصيته إلا فيه. فإن منع من الخروج إليه -لأي سبب- فستظل جوانب من نفسه ضامرة غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 نامية، وتظل فاعليته وإيجابيته ناقصة بمقدار ضمور هذه الجوانب وعجزها عن "التعامل" مع المواقف والأشخاص.. والشارع كذلك هو الذي يكشف الجوانب الكامنة من طبيعة الطفل، التي قد لا تتبدى داخل البيت، أو قد يبدو عكسها داخل البيت! فهناك طفل وديع جدًّا في البيت، "عفريت" في الخارج. وهناك العكس: لا يهدأ في البيت لحظة فإذا خرج إلى الشارع ظل ساكنًا صامتًا لا يتحرك ولا يتكلم. كلاهما غير طبيعي. وكلاهما في حاجة إلى دراسة لتبين السبب في ذلك التناقض. وقد يكون تناقضًا مأمون العاقبة. فلا بأس. وقد يكون اختلالًا في الشخصية فلا بد من علاجه. وهناك طفل ميال إلى السيطرة. أو إلى العدوان. وطفل خانع للسلطة مستسلم للعدوان. كلاهما في حاجة إلى علاج. ولن يتبين ذلك الخلل في نفسه إلا حين يخرج إلى الشارع بالفعل، ويتعامل مع الآخرين على الطبيعة. وهناك طفيل بخيل يضن بأشيائه أو بجهده على الناس. وآخر متلاف لا يبقي شيئًا، ولا يدخل جهدا لمن يستحق ولمن لا يستحق. كل تلك الأمور وعشرات أمثالها في حاجة إلى مراجعة ومتابعة وضبط، ولن يتبينها الوالدان بتمامها والطفل محجوز داخل البيت، وداخل نوع محدد من التعامل، وهو التعامل مع الأهل والأقارب. إنما تتبين الأمور على حقيقتها من خلال التعامل مع الأغراب. ولا بد أن يعطى الطفل الفرصة لهذا التعامل، لتنمية شخصيته إلى أبعادها الطبيعية من جانب، ولكشف جوانب الخلل فيها للوالدين من جانب آخر ليعملا على إصلاحها. والشارع -بعد- ككل شيء في الحياة، وككل وسيلة من وسائل التربية، لا يخلو من المخاطر! فبصرف النظر عن حوادث الطريق، وهي قدر مقدور لا فرار منه، وإن وجبت الحيطة أخذًا بالأسباب كما أمر الإسلام: "اعقلها وتوكل" 1, فهناك -حتى في الشارع المسلم والمجتمع المسلم- أقران سوء! وهناك مستويات من التربية مختلفة، ومستويات من الأخلاق مختلفة.   1 رواه البيهقي وابن حبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وقد قلنا أكثر من مرة إن المجتمع الإسلامي ليس مجتمعًا من الملائكة. كلا! إنه مجتمع بشري تمامًا، لم يتغير من بشريته شيء. كل ما في الأمر أنها بشرية فائقة، ارتفعت -بمجموعها- إلى أقصى درجات ارتفاعها. ولكن ليس معنى هذا أنها ارتفعت كلها إلى القمة! فسيظل فيها من هو في المستوى الأدنى للحياة الإسلامية الصحيحة، وسيظل فيها من هو تحت المستوى الأدنى بدرجات. أي: تحت الصفر! وهؤلاء وهؤلاء كانوا سيصبحون في المجتمع الجاهلي أشد سوءًا وأكثر حطة. وقد رفعهم المجتمع الإسلامي درجات كثيرة، فوصل منهم من وصل إلى نقطة الصفر، وظل بعضهم دونها بدرجات لأنهم كانوا لولا ذلك في الدرك الأسفل من الوجود! وإذن فليس كل الناس في المجتمع الإسلامي ولا كل الأطفال على المستوى المطلوب. حقيقة إنه لا يوجد الهبوط الفاحش الذي يوجد في المجتمع الجاهلي، ولكن توجد درجات من السوء أقل. وطفلك المسلم، الذي ربيته في بيتك تربية إسلامية، عرضة أن تختل موازينه حين يختلط بتلك المستويات الأدنى من التربية والأخلاق. ونبادر هنا فنقول إن كلمة "المستوى" لا تشير في المجتمع المسلم إلى المستوى الاقتصادي! كلا! إن هذا أمر لا علاقة له البتة بالمستويات النفسية والخلقية في المجتمع المسلم. والإسلام لا يقوم الناس على أساس الفقر والغنى. إنما يقسمهم إلى أتقياء وغير أتقياء، بصرف النظر عن الغنى والفقر، واللون والجنس. واللغة والدم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1. وقد كان بلال العبد الحبشي الفقير المعدم في أعلى القمة من المجتمع المسلم، حتى يقول عنه عمر العربي القرشي، أمير المؤمنين، "سيدنا بلال". كلا! لا تنصرف كلمة "المستوى" في المجتمع الإسلامي إلى حسب أو نسب أو غنى أو فقر. إنما تنصرف إلى مقدار التمكن في الإسلام،   1 سورة الحجرات 13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 والتشبع بروحه والسير على منهجه والسلوك الواقعي على مقتضاه. وبهذا المعنى نقول: إن طفلك الذي ربيته على المنهج الإسلامي وبلغت به مستوى عاليًا من التربية الإسلامية قد يختلط في الشارع بمستويات أخلاقية وتربوية أدنى من مستوى طفلك فيختل توازنه ويضيع أثر جهدك الذي جهدته في تربيته. نعم. ذلك عرضة أن يحدث. وإن لم يكن -في المجتمع الإسلامي الحقيقي- هو الاحتمال الأرجح. ومع ذلك فلا بديل! إن البديل المتخيل، وهو حبس طفلك في البيت أشد ضررًا من تعريضه لمخاطر الاختلاط بتلك المستويات الأدنى من البشر! فهناك سيكون عرضة لضمور الشخصية، والانطواء والعزلة والاضطراب والحيرة بعد ذلك في المجتمع الكبير. وحين تخرج طفلك إلى الشارع فقد تختل موازينه بالاحتكاك بأقران السوء، فيتعود عادات سيئة، أو ينحرف انحرافات خلقية فيكذب ويسرق أو يعصي التوجيهات والأوامر، أو يتجاوز القدر المسموح به من اللعب أو قضاء الوقت في خارج البيت.. إلخ.. إلخ. عندئذ لا بد من تدخل الوالدين للتصحيح. والتصحيح السريع قبل أن تتمكن الانحرافات منه، ولكن ليس بحرمان الطفل من الشارع وحبسه في البيت، إلا أن يكون ذلك لفترة قصيرة كعقاب وعلاج. لا بد من مزيد من الجهد يبذل مع الطفل. مزيد من النصح، ومزيد من التلقين، ومزيد من استنفاد الطاقة في الخير، ومزيد من شغل أوقات الفراغ في العمل النافع، ومزيد من التشجيع على الأخلاق الفاضلة. ومزيد إذا لزم الأمر من العقاب! ولكن خسائر النزول إلى الشارع في النهاية ستكون أقل من خسائر القبوع في داخل البيت. وما دامت الرعاية قائمة والعين ساهرة على التصحيح السريع أولًا بأول قبل أن يتمكن الانحراف من نفس الطفل ويصعب التصحيح! وهذا كله فضلًا على أنك -في المجتمع الإسلامي الحقيقي- ستجد من بين الأطفال الأسوياء، الذين تلقوا منهج التربية الإسلامية في بيوتهم ونشئوا عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 العدد الكافي الذي تنتقي منه لطفلك أصدقاء مأمونين لا تخاف منهم على طفلك بل ترغب أن يصاحبوه! ثم يذهب الطفل إلى المدرسة. والمفروض -في المجتمع المسلم، الذي يتحاكم إلى شريعة الله ويطبق منهج الله- أن تكون المدرسة إسلامية، بمعنى أنها تربي تلاميذها ليكونوا مسلمين صالحين، وتتمشى مع التربية الإسلامية التي بدأها الطفل في المنزل وتسير بها خطوات جديدة نحو الاكتمال. بل المفروض -وفيها مدرسون متخصصون في التربية- أن تصحح وتقوم ما عسى أن يكون البيت المسلم قد نسيه، أو لم يحسن التوجيه فيه. فليس كل الآباء موهوبين في فن التربية، وليس كلهم على المستوى المطلوب من حسن التصرف وسعة الإدراك والمرونة اللازمة لعملية التربية. أما المدرسة فتلك وظيفتها الأولى: أن تربي على منهج من التربية مدروس ومفصل ومؤصل، وللمدرسين به خبرة وعلم. وسيكون منهج التربية في المدرسة الإسلامية بطبيعة الحال هو منهج التربية الإسلامية, وسيكون المدرسون قد درسوه في المعاهد التي تتولى تخريج المعلمين، وتخصصوا فيه، وأصبحوا على دراية به ودربة عليه. وإذا كان أي منهج في الأرض يحتاج أن يكون المدرس الذي يقوم بالتربية على مقتضاه متشعبًا به، مؤمنًا بما جاء فيه، متحمسًا لتطبيقه، وإلا فلن يرجى منه أن يطبقه بإخلاص، ولا أن يؤتى ثمارًا حقيقية على يديه. إذا كان هذا هو الشأن في أي منهج تربوي مطبق في أي مكان في الأرض، فالمنهج الإسلامي هو أولى المناهج جميعًا أن يكون كذلك، لأن ذلك أصل من أصوله العميقة: أن يكون قول الإنسان وعمله متطابقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 1. ثم إن الإسلام عقيدة، في الوقت الذي هو نظام حكم، ونظام مجتمع،   1 سورة الصف 2-3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 ومنهج تربية. وقد يصلح في أي شيء أن يؤدي الإنسان عمله على طريقة "تسديد الخانات" إلا في العقيدة! ومقتضى ذلك كله أن يكون المدرسون في المدرسة الإسلامية مسلمين! لا مسلمين بأسمائهم وشهادات ميلادهم! فهذه إن أغنت في أي مكان -وهي لا تغني-! فلن تغني في المدرسة بصفة خاصة، حيث المجال هو التربية، والتربية في حاجة إلى إيمان حقيقي بالمنهج، وليس إلى التظاهر بالإيمان به أو إدعاء الإيمان! المدرسة الإسلامية تقوم على مدرس مسلم، يمارس الإسلام حقيقة، ويتخلق بخلق القرآن في سلوكه وتعامله وسمته ومظهره وسائر شأنه. وهو فوق ذلك عليم بمبادئ الإسلام وقيمه ومفاهيمه. وعليم بمنهج التربية الإسلامية في صورته النظرية والتطبيقية، ومدرب على طريقة تطبيقه قبل أن يتخرج ويمارس عمله في المدرسة. إلى جانب تخصصه العلمي في المادة التي يدرسها. وهذه الصورة التي تبدو عجيبة من العجائب في المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه، هي البديهية الأولى في المجتمع المسلم الحقيقي، الذي يمارس الإسلام بالفعل، ويستمد منه قيمه ومفاهيمه ومعايير حياته. بل لا يمكن تصور المدرسة الإسلامية أصلًا بغير هذا العنصر الأولى، الذي لا قيام لها من غيره. وفي الدولة المسلمة التي تحكم بشريعة الله وتطبق منهجه في الحياة، تكون معاهد التربية الإسلامية هي التي تتكفل بتخريج هؤلاء المدرسين، وتعليمهم منهج التربية الإسلامية، وتدريبهم عليه تدريبًا كافيًا قبل مزاولتهم العمل في المدارس. وتختار من بين المتقدمين إليها أفضلهم خلقًا وأقدرهم -في نظرها- على حمل رسالة الإسلام والتربية الإسلامية، إلى جانب التفوق العلمي المطلوب في كل حالة. وحين يكون المجتمع مسلمًا بالفعل فلن تجد معاهد التربية الإسلامية عنتًا في الحصول على حاجتها من الطلاب الذين تتوفر فيهم الشروط الخلقية والدينية المطلوبة -إلى جانب الشروط العلمية- لأن ذلك سيكون هو الأصل في هذا المجتمع، وما عداه قلة شاذة ناشزة. ثم يكون عليها أن تؤهلهم التأهيل التربوي الخاص الذي يجعلهم قادرين على التربية بمقتضى المنهج الإسلامي. وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 يحتاج، ككل شيء بطبيعة الحال، إلى مواهب خاصة تراعيها دائمًا معاهد التربية في اختيار طلابها، كما يحتاج إلى تدريب خاص. والمدرس المختار على هذه المعايير، والمدرب على هذه الصورة، فهو الذي سيلتقي أولئك الأطفال الذين جاءوا من بيوتهم إلى المدرسة، فيكمل معهم شوط التربية الذي بدأوه في منازلهم، أو يبدأ معهم من جديد إن رأى أن الأمر يحتاج إلى البدء من جديد، وستكون المدرسة بهذه الصورة محضنًا إسلاميًّا كاملًا مهمته الأولى هي تنشئة الأطفال في جو إسلامي وبروح إسلامية، وتعريفهم بربهم وبحقائق دينهم -بقدر ما تتسع له مداركهم- وربط قلوبهم بالله، وتعويدهم على عادات الإسلام، وطبعهم بطابعه الأخلاقي المميز، المستمد من كتاب الله وسنة رسوله، إلى جانب تعليمهم العلم الضروري لهم من لغات ورياضيات وإنسانيات وتدريبات عملية ويدوية وبدنية ... إلخ. لقد كانت المدرسة في المجتمع الإسلامي الأول تقام داخل المسجد. ولهذا دلالته الخاصة في منهج التربية الإسلامية. فلا فرق بين المدرسة والمسجد في الحقيقة. كلاهما يقوم بالتربية، وكلاهما يقوم بالتعليم. ولئن كان التخصص قد أصبح سمة هذا العصر، ولئن كانت المدرسة قد أخذت صورة معينة في نظام فصولها، وسبوراتها، ومقاعدها، وملاعبها. إلخ، لا يتسع له المسجد ولا يصلح له، فضلًا عن الأعداد الغفيرة التي تؤم المدارس وتزدحم فيها، ولا يمكن للمسجد أن يستوعبها. لئن كان هذا كله قد فرق بين مبنى المسجد ومبنى المدرسة وفصل بينهما، فإنه -بالنسبة للتربية الإسلامية- لا يفرق بينهما في المنهج ولا يفصل بينهما في الغاية. إنما يؤدي كل منهما دوره على طريقته، متكاملين، ملتقيين على الغاية، مشتركين في الطريق. والمفروض في المدرسة الإسلامية أن تمارس شعائر العبادة بصورة جماعية في وقتها، سواء صلاة الظهر إن كانت المدرسة صباحية أو العصر إن كانت مسائية أو المغرب أو العشاء إن كانت ليلية. بحيث لا يمر الوقت المكتوب لأداء الفريضة والتلاميذ بعيدون عن أدائها أو مبعدون عنها. والمفروض أن يشترك النظار "والناظرات" والمدرسون "والمدرسات" في أداء هذه الفرائض ليكون جو العبادة شاملًا، وليلتقي التلاميذ ومدرسوهم لقاء العقيدة في الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 فلذلك أدنى أن يربط بين قلوبهم، وأن يكون تأثيرهم أفعل في نفوس تلاميذهم، وأدنى أن يؤتي المنهج التربوي ثماره المرجوة. والمفروض كذلك أن تكون أخلاقيات الإسلام هي قاعدة التعامل في المدرسة بين الناظر والمدرسين، وبين المدرسين والتلاميذ، لتكون المدرسة صورة حقيقية مصغرة للمجتمع الإسلامي الكبير، إن كانت متخصصة في عمل معين، فتخصصها لا يعزلها عن أخلاقيات المجتمع وأهدافه وقيمه ومبادئه وقواعد سلوكه. والمفروض -بداهة- أن تكون المدرسات والناظرات مرتديات زي الإسلام، متخلقات بأخلاق الإسلام، غير متبرجات تبرج الجاهلية، ليكن القدوة العملية لطالباتهن، وليكون هناك تطابق بين سلوكهن الشخصي ومظهرهن وبين المنهج الذي يربين بناتهن في المدرسة عليه. وغني عن الذكر أنه لن تكون في المدرسة الإسلامية تلك المدرسة التي تقول لبناتها في المدرسة الثانوية: إن البنت التي بلغت هذه السن وليس لها صديق، ينبغي أن تعرض نفسها على طبيب نفساني!! ولا المدرسة التي تأتي في الصباح لتحكي لبناتها تفاصيل سهرة الأمس مع أحد عشاقها1. ثم إن المدرسة الإسلامية ليست مدرسة لتحفيظ المعلومات للامتحان فيها آخر العام. ولئن كان الخط التاريخي الواقعي للمدرسة الإسلامية قد انحرف, كما انحرف المجتمع الإسلامي كله خلال القرون، فصارت في وقت من الأوقات تحفظ المعلومات ولا زيادة. فنحن إنما نعود إلى المنهج ذاته نستمد منه مباشرة بصرف النظر عن الانحراف التاريخي. والمنهج يعتبر المدرسة مكانًا لطبع التلاميذ بالطابع الإسلامي، إلى جانب تعليمهم العلوم كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة" 2. والطابع الإسلامي يكون شخصية إيجابية فاعلة في الأرض، متحملة   1 حدثت هذه وتلك في دنيا الواقع في بلد من بلاد الإسلام! "ولم يستنكرها على الصعيد الرسمي أحد! لأن القوم ثوريون تقدميون! 2 رواه ابن ماجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 لتبعة أعمالها، جريئة مقدامة، قابلة للتجنيد السريع، متأهبة له أبدًا. كما يكون شخصية استقلالية كما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين: "لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت, وإن أساءوا أسأت, ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا وإن أساءوا ألا تظلموا" 1. وهذا كله يقتضي أن تكون مهمة المدرسة أوسع بكثير من مجرد تلقين العلوم. إن مهمتها هي تكوين "الشخصية" وهي في منهجنا هذا "الشخصية الإسلامية" بطابعها المتميز. وما التحصيل العلمي إلا جانب واحد من جوانب الشخصية ليس هو أهمها بأي حال, وإن كانت له أهميته الذاتية، إنما أهم منه كيفية الاستفادة بهذا العلم، وكيفية التصرف في الحياة العملية، وكيفية التعامل مع الناس والأحداث. وذلك يحتاج إلى تدريب عملي لا إلى تلقين نظري. فالتلقين النظري علم يحفظ! أما التدريب العملي فخبرة مكتسبة ورصيد واقعي من التجربة بسند صاحبه في الموقف العملي وييسر له التصرف فيه. لا بد إذن أن تكون مناهج الدراسة في المدرسة عملية ونظرية معًا لا نظرية فحسب. وأن تكون في مدرسة البنين "ورشة" ضخمة إلى جانب الفصول، وفي مدرسة البنات بيت متكامل يدبرون شأنه. كما أنه لا بد من اشتراك التلاميذ في إدارة المدرسة والقيام ببعض شئونها ليتدربوا على حمل التبعة وليكتسبوا الخبرة. ولابد أن تكون الروح العسكرية واضحة في مدارس البنين، والروح المنزلية واضحة في مدارس البنات، لإعداد كل لدوره في مستقبل حياته بغير خلط كالذي تخلطه الجاهلية الحديثة بين البنين والبنات، لتخرج في النهاية هذا الجيل المترهل المتميع الذي يملأ الآن وجه الأرض. والذي لا تستطيع أن تحكم لأول وهلة -وأحيانًا لآخر وهلة- هل هو ولد أم بنت! إن الإسلام منهج للحياة جاد لا يهزل. يرفض التميع والانحلال والترهل.. من البنين والبنات سواء. ويرفض المتشبهين والمتشبهات بتوجيه صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم:   1 أخرجه الترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"1. ولقد يختلط البنون والبنات في سني الطفولة الأولى في المدرسة الواحدة إذا دعت إلى ذلك الضرورة. ولكن منذ نهاية المرحلة الأولى تبدأ في الفطرة تتميز خصائص الرجولة وخصائص الأنوثة. وما أراده الله فطرة لا ينبغي للبشر أن يحيدوا عنه، لأنهم حين يحيدون به عنه يفسدونه لا محالة، كما هو حادث لهذا الجيل. والمدرسة الإسلامية تطبق منهج الله ولا تطبق مناهج البشر الضالين في جاهليتهم. وهي لذلك تجعل مدرسة للبنين متخصصة ومدرسة للبنات متخصصة منذ يبدأ الفتى يستعد نفسيًّا وجسديًّا لمعالم الرجولة، وتبدأ الفتاة تستعد نفسيًّا وجسديًّا لمعالم الأنوثة، أي: ما يوازي في مدارسنا الحالية المرحلة الإعدادية. وليس المهم أن يشترك البنون والبنات في مواد دراسية واحدة أو لا يشتركوا "ولا بأس من المراحل الأولى من أن يشتركوا في بعضها على الأقل" ولكن المهم هو "الجو" الذي يسيطر على المدرسة وعلى الدراسة: جو الرجولة في مدارس الرجال، وجو الأنوثة في مدارس الإناث. وذلك جزء من "الشخصية الإسلامية" التي ينبغي على المدرسة أن تربيها. فالإسلام حريص على إعطاء الرجل المسلم شخصية الرجل الكامل الرجولة، وإعطاء المرأة المسلمة شخصية المرأة الكاملة الأنوثة. فهو دين الفطرة، المنزل من عند الله خالق هذه الفطرة، وخالق الزوجين الذكر والأنثى ليكونا زوجين اثنين، وليس جنسًا متميع الصفات، لا يصلح أن يكون رجلًا ولا يصلح أن يكون أنثى، ولا يصلح أن يكون "إنسانًا" على الإطلاق. ولقد نكون قد سبقنا المرحلة التي نتحدث عنها -وهي مرحلة الطفولة- بعض الشيء ونحن نتحدث عن مدرسة الرجولة ومدرسة الأنوثة. ولكن الواقع أن التهيؤ النفسي للرجولة والأنوثة يتم مبكرًا عن علاماته الجنسية المميزة، ثم إن مرحلتنا التي نتحدث عنها تمتد من الطفولة الصغيرة إلى الطفولة الكبيرة   1 أخرجه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 "فيما حول الثانية عشرة" فلسنا إذن بعيدين كثيرًا عن الرجولة والأنوثة في مرحلتنا التعليمية والتربوية الحاضرة. وأخيرًا فإن كثيرًا من المواد الدراسية ستختلف في منهج المدرسة الإسلامية عن المدارس الحالية, فحصة التاريخ الإسلامي بصفة خاصة ستروي التاريخ بصورة مختلفة تمامًا عن صورته الحالية1. وستكون أمجاد التاريخ الإسلامي وبطولاته جزءًا هامًّا من الدراسة في المدرسة، سواء في حصة التاريخ أو حصة اللغة العربية أو حصة التعبير الفني. كما أن حصة الجغرافيا ستدرس العالم الإسلامي كوحدة متميزة من الوجهة الاقتصادية والبشرية. وستكون حصة الدين حصة تربية دينية حقيقية وليست حصة نصوص دينية كما هي اليوم. حصة يعيش فيها التلاميذ في جو الإسلام، وتاريخه المجيد، ومفاهيمه الشاملة التي تشمل الحياة البشرية كلها من سياسة واقتصاد واجتماع وفكر وفن وأخلاق. ويرتبط فيها التلاميذ ارتباطًا وجدانيًّا بالله، فيخرجون من كل حصة أشد حبًّا لله وأشد توقيرًا له وخشية. المدرسة الإسلامية باختصار هي "معمل التفريخ" الذي ينشئ الأجيال المسلمة. أجيال تعرف دينها وتحبه وتعمل به. تعرف سعته وشموله وتكامله، وتعيشه وتمارسه في عالم الواقع. هي السند الحقيقي للبيت المسلم. تكمل رسالته وتزيدها رسوخًا، وتسعف هي فيما قصر فيه البيت. تربيتها وتعليمها، وجدها ولعبها، مستمدة كلها من روح الإسلام وتوجيهاته. الشخصية الإسلامية هي طابعها المميز، وهي النموذج الذي تسعى إلى تكثيره وتعميمه. الحب والاحترام المتبادل هو أساس العلاقات فيها. حب مستمد من الأخوة الشاملة في الله. واحترام من الصغير للكبير مستمد من أوامر الإسلام. النظام الدقيق إلى درجة الحسم هو طابع العمل فيها. نظام لا يسمح بالفوضى في الصغيرة ولا الكبيرة، ولا يتهاون استخفافًا ولا يؤدي العمل "تسديد خانات". والحرص الأبوي على صالح التلاميذ هو الدافع الذي يحرك العملية   1 انظر كتاب "كيف نكتب التاريخ الإسلامي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 التربوية والتعليمية، فهكذا يكون المربي المسلم في تبعته أمام الله: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1. والأمانة في التعليم، والأمانة في التعليم، هي مقتضى جو "الفريضة" الذي وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم طلب العلم حين قال: "طلب العلم فريضة". فلا غش من المدرس ولا غش من التلميذ! وحين يخرج الطفل إلى الشارع. ثم إلى المدرسة، يبدأ احتكاكه بالمجتمع الكبير. والشارع ولا شك جزء من المجتمع أكبر وأشمل، والنماذج التي يحويها أكثر تعدادًا وتباينًا وسعة. ولئن كان الشارع بالذات قطاعًا ممثلًا للمجتمع وقيمه وأخلاقه، إلا أنه -في المدن الكبيرة خاصة- لا يمكن أن يكون ممثلًا لكل نماذج المجتمع ولا كل اتجاهاته، كما يحدث في القرية الصغيرة أو المجتمعات البسيطة التركيب. وتعرف الطفل على المجتمع يتم تدريجيًّا وفي بطء، مع اتساع حركته فيه، واتساع مداركه وقدرته على الاستيعاب والفهم، وزيادة احتكاكه بالنماذج البشرية السابحة في تياره. وفي هذا المجتمع -على اتساعه- يعترف تدريجيًّا على الصورة النهائية لهذا المجتمع: قيمه ومبادئه وأفكاره وعاداته وتقاليده وأنماط سلوكه ودوافعه وأخلاقياته وطرق تعامله ومستوياته المختلفة في كل اتجاه. ولا شك أن هذا التعرف يستغرق سنوات كثيرة، ويتوقف في الكثير منه على الطفل ذاته: درجة ذكائه، وتركيزه، وقدرته الذاتية على التعامل المباشر مع المجتمع. فالطفل الذكي أقدر على النفاذ إلى داخل النموذج الذي يراه أمامه، وأقدر على الاستفادة من الخبرة المتحصلة لديه من كل تجربة يخوضها، فلا   1 أخرجه البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 يحتاج إلى تجارب كثيرة في الشيء الواحد كما يحتاج الطفل المتوسط الذكاء أو القليل الذكاء. والطفل ذو القدرة العالية على التركيز أقدر على استيعاب عدد أكبر من النماذج، من الطفل المشتت الانتباه. والقدرة على التركيز شيء غير الذكاء وقد لا يرتبط به. فهناك طفل شديد الذكاء ولكنه مهوش موزع الانتباه لا يستطيع التركيز على شيء. بينما يستطيع طفل عادي الذكاء ذو قدرة عالية على التركيز أن يحصل بانتباهه خبرات أكثر ومعلومات أكثر. أما الطفل البطيء التفكير فغالبًا ما يكون كذلك قليل القدرة على التركيز، ومن ثم بطيء التحصيل للخبرات والمعلومات سواء. كذلك الأمر في القدرة على التعامل المباشر مع المجتمع. فكلما زاد التعامل المباشر زاد رصيد الخبرة الذاتية ونمت الجوانب الاجتماعية من شخصية الطفل، فصارت حركته في المجتمع أيسر وأوسع، وصارت حصيلته في البداية أكبر. والطفل المنطوي على نفسه قد يكون -أحيانًا- ذا قدرة على التجريد النظري؛ وإذا كانت قدرته على التركيز عالية فقد يستطيع في أثناء تأملاته الصامتة التي ينفق فيها أكثر وقته وجهده أن يستخلص من أحوال المجتمع أكثر مما يستخلصه غيره من الأطفال, حتى أصحاب التعامل المباشر والحركة الواسعة، ذلك أن هذه التركيبة النفسية تهيئه لأن يكون "مفكرًا" أو فنانًا في المستقبل إنما وجد الظروف الملائمة والتوجيه الصائب. ولكنه يظل مع ذلك قليل الخبرة العملية، ضئيل الرصيد الواقعي في التجارب، فلا يحسن التعامل مع هذا المجتمع الذي يعرفه -نظريًّا- أكثر من غيره. ذلك أن المعرفة النظرية شيء، والخبرة العملية شيء آخر. وسيظل -رغم قدرته على التجريد النظري، ومعرفته النظرية بأحوال الناس ودوافعها وقيمها ومبادئها- غير مكتمل النمو النفسي، وغير قادر على خوض التجارب الحية بمفرده، وعرضة للحيرة والارتباك في المواقف المفاجئة، رغم معرفته النظرية بما ينبغي أن يكون عليه التصرف في هذه المواقف! وعاجلًا أو آجلًا بتعرف الطفل على مجتمعه. ويتأثر به في ذات الوقت.. فليس الأمر مقصورًا على التعرف. لأن عملية التعرف الاجتماعي لا تتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 في فراغ شعوري أو وجداني أو عصبي أو فكري. وليست كعملية التعرف على المعلومات البحتة التي تتم في نطاق الذهن وحده، ولا يصحبها إلا القليل من المشاعر النفسية العابرة. إن عملية التعرف الاجتماعي تتم بالكيان النفسي كله. ومن ثم فهي تستخدم كل الأجهزة النفسية القابلة للتأثير والتأثر. وإذ كان الطفل أضأل كيانًا -لصغر سنة وصغر حصيلته من التجربة والخبرة والمعرفة وضعف مقدراته جميعًا- بالإضافة إلى أنه فرد واحد إزاء المجتمع الكبير، فهو إذن عرضة لأن يتأثر، أكثر كثيرًا من أن يؤثر. وقد يكون الطفل المنطوي على نفسه أقل الأطفال عرضة للتأثير بالمجتمع، ولكنه لا بد أن يتأثر حتمًا قدرًا من التأثر. ثم إنه في النهاية ليس أفضل النماذج البشرية، وقد يكون أسوأها، ما لم يكن ذا مواهب فائقة جدًّا تعوض عليه ما يفقده من كيانه النفسي وخبرته الاجتماعية من جراء عزلته وانطوائه وسلبيته. والخلاصة أن الطفل سيتأثر تأثرًا لا محيص عنه بالمجتمع من حوله. ولا يمكن فصله وحجزه عن هذا التأثر إلا بحبسه حبسًا مطلقًا عن التعامل مع المجتمع. وهذا أمر لا سبيل إليه بحال من الأحوال. وليس من الصواب حتى إن أمكن تنفيذه، لأنه ينشئ إنسانًا مختلًّا مشوه التكوين النفسي، كالجسم الذي أصابه الكساح من عدم الحركة، فأصبح مشوهًا عاجزًا ناقص التكوين. وفي المجتمع المسلم تكون حركة الطفل في مختلف قنواته وتياراته هي الحركة السليمة الصحية الواجبة، التي ينبغي أن يدفع الوالدان طفلهما إليها دفعًا, حتى وإن كان كارهًا أو مترددًا أو خائفًا في مبدأ الأمر. إن التعامل الجديد. والتعامل مع الأغراب. له رهبة معينة في نفوس بعض الأطفال على الأقل. وهذه الرهبة ينبغي أن تزول بالتشجيع المستمر، والتعويد، والطمأنة، ومصاحبة الوالدين للطفل في مبدأ الأمر حتى يطمئن إلى التجربة الجديدة, وأنها مأمونة العاقبة ليس فيها ما يرهب أو يخيف. وبعض الأطفال ولا شك يكونون على العكس من ذلك مندفعين إلى التعامل مع المجتمع والانسياح فيه إلى الحد الذي يحوج الوالدين إلى الحد من هذا الانسياح، وضبطه في الحدود المأمونة التي لا تنشئ عند الطفل تأثرات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 ضارة. وهؤلاء وإن كانوا متعبين من هذا الجانب، إلا أنهم أقل تعبًا من الآخرين المنطوين على أنفسهم، الهاربين من التعامل مع المجتمع، الراهبين لكل تجربة جديدة، فهؤلاء يحتاجون إلى دفعهم دفعًا، كما يدفع الخائف من الماء دفعًا لكي يتعلم السباحة قهرًا عنه! وإلا فلن يتعلم أبدًا إذا ترك لتردده ورهبته وانزوائه. والطفل في ذلك كالطفلة سواء. ولئن كان الرجل -في المنهج الإسلامي- أكثر عرضة للاحتكاك بالمجتمع الخارجي، وأوجب أن يتدرب على ملاقاته وإحسان التعامل معه، وإحسان التصرف في المواقف المختلفة فيه، نظرًا لطبيعة التكاليف الملقاة على عاتقه.. فليس معنى هذا أن المرأة -في المنهج الإسلامي- معفاة من التعامل الخارجي، أو أن التدريب على هذا التعامل غير لازم لبناء كيانها النفسي السليم. فهي أولًا تتعامل تعاملًا كاملًا مع المجتمع النسائي. وهو مجتمع محتاج إلى الدربة الكاملة والخبرة والمرونة في التعامل معه كمجتمع الرجال بالنسبة للرجل سواء. إن لم يكن أكثر! ثم إنها هي المسئول الأول عن تربية أطفالها بنين وبنات، ويلزم لها -من أجل هذا الأمر- قدر كبير من الخبرة الاجتماعية تؤهلها لهذه الرسالة الكبيرة. وليس مقتضى ذلك -كما تزعم الجاهلية الحديثة- أن تشارك الرجل في عمله وفي مباذله وفي انحرافاته لكي تكسب تلك الخبرة. كلا! فقد كانت المرأة في الجماعة المسلمة الأولى تكتسب خبراتها كاملة. وتؤدي رسالتها كاملة دون أن تحتاج إلى التبذل والاختلاط بالرجال بغير ضرورة، ودون أن تحتاج للخروج إلى الطريق عارية تبتغي الفتنة. ولم يقل أحد إن اكتساب الخبرة مرادف للقذر الروحي والنفسي إلا في هذه الجاهلية الحاكمة بأمرها في هذا القرن العشرين. ثم إن المرأة في الإسلام مكلفة -من موضعها- برعاية القيم والمبادئ الإسلامية، ونشرها في المجتمع، والجهاد في سبيلها إن كان الخطر يتهددها من الخارج أو الداخل سواء. وهذا كله يحتاج أن تكون ذات معرفة بالدين، وذات خبرة بأحوال المجتمع، وذات دربة على التعامل معه. وكانت المرأة المسلمة في المجتمع الأول تصنع ذلك كله مع المحافظة الكاملة على أوامر الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 لها ونواهيه. فليست أوامر الله لها قيدًا على نموها النفسي والعقلي والروحي كما تزعم الجاهلية الحديثة. والطفلة إذن كالطفل في المجتمع الإسلامي في حاجة إلى التدريب على التعامل مع المجتمع، كل في حدود تكاليفه المقبلة واحتياجاته. وفي المجتمع المسلم -كما قلنا- تكون حركة الطفل في داخله هي الحركة السليمة الصحية اللازمة. فهذا المجتمع هو الترجمة الواقعية لمبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقه. مجتمع متواد متحاب مترابط. تجمع بينه أخوة الإسلام على غير قرابة ولا تعارف سابق: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. حيثما التقوا فهم إخوة في الله، يربط بينهم رباط العقيدة بمثل ما تربط قرابة الدم أو أشد. يتعاونون على البر والتقوى, ولا يتعاونون على الإثم والعدوان. يعين قويهم ضعيفهم وكبيرهم صغيرهم. ويتبادلون الاحترام والتوقير بما تقتضيه هذه الأخوة. ويتكافلون في السراء والضراء بما أمر الله. ويفشون السلام بينهم كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" 2. ويتعاملون بالصدق والأمانة والإخلاص. لا يغشون ولا يخادعون: "من غشنا فليس منا" 3. ويحرصون على إتقان أعمالهم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" 4. ويوفون بالوعد إذا وعدوا لأن خلف الوعد من النفاق: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف" 5. ويتعاملون فيما بينهم بالحسنى:   1 سورة الحجرات 10. 2 أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. 3 أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. 4 رواه أبو يعلى والعسكري عن عائشة رضي الله عنها. 5 أخرجه الشيخان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1. ويتحاكمون إلى الله ورسوله في أمور حياتهم كلها، صغيرها وكبيرها على السواء، في بيعهم وشرائهم؛ في عملهم وراحتهم، في سياستهم واقتصادهم؛ وفي نظرتهم للأمور وتقويمهم لما يجري في المجتمع من الأحداث. يتردد على ألسنتهم على الدوام ما أمر به الله ورسوله في هذا الشأن أو ذاك، ثم ينفذون هذه الأوامر طاعة لله وعبادة له، ويذكر بعضهم بعضًا إذا نسوا أو جهلوا ما أمر الله به. وكما قلنا أكثر من مرة، إنه ليس مجتمعًا ملائكيًّا. بل هو مجتمع بشري بحت، ولكنه في وضع فائق من البشرية. يصل أعلى نماذجه إلى القمة المثالية، حيث يلتقي المثال والواقع. ويبقى أدنى نماذجه تحت الصفر، ولكنها قليلة أولًا، وليست شديدة الهبوط بالمقدار الذي كان يمكن أن تكون عليه في جاهليتها؛ لأن الرفعة العامة في المجتمع قد رفعته كله درجات إلى أعلى، بمرتفعاته ومنخفضاته سواء. فالجريمة في هذا المجتمع تحدث ولا شك. وقد وقعت جرائم في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، أرقى مجتمعات البشرية في كل التاريخ. ولكنها نادرة الوقوع جدًّا. وتأخذ في الحال جزاءها فيكون ذلك مانعًا من التشجيع عليها والتمادي فيها. وتحدث الانحرافات الخلقية من كذب وخداع والتواء وخيانة. إلخ. ولكنها ليست السمة الغالبة للمجتمع. ثم هي مستنكرة. وهذا هو المهم. فليس في الإمكان -في أي مجتمع بشري على الأرض، ولا المجتمع الإسلامي في قمته- أن يكون الناس كلهم مستوين على أخلاقيات الإسلام ومنهجه التربوي. ولكن المهم أن يستنكر المجتمع ما يقع في داخله من انحرافات، فيبقى أثرها السام محصورًا في أضيق نطاق. أما وقوعها وعدم استنكارها فهو الذي يجعلها تتفشى تدريجيًّا حتى تصبح هي الغالبة. ومن أجل ذلك لعن الذين كفروا من بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى   1 سورة فصلت 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1. فهذا الإنكار هو صمام الأمن للمجتمع، الذي يقف انتشار السيئات فيه ويعصمه من الانحراف الشامل. فإذا لم يعمل هذا الصمام عمله فلا شيء يحول إذن بين المجتمع والفساد؛ حى تبقى فيه قلة صالحة تدعو فلا يستجاب لدعائها! عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كلم أحدًا، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول: فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم" , فما زاد عليهن حتى نزل2. هذه هي صورة المجتمع المسلم. الصورة الواقعية الخالصة، كما حدثت بالفعل في واقع التاريخ، وليست الصورة الخيالية التي لا تقبل التطبيق. وحين ينطلق الطفل إلى التعامل مع هذا المجتمع، كما لا بد أن يفعل، فهو في الواقع يثبت تلك القيم والمفاهيم والمبادئ والعادات والتقاليد وأنماط السلوك التي تربي عليها في البيت المسلم والمدرسة المسلمة، ويزيدها تمكنًا ورسوخًا وفاعلية. فتتواكب التأثيرات كلها في نفسه، يقوي بعضها بعضًا. ويسند بعضها بعضًا، فإذا هو في النهاية قد تهيأ ليأخذ مكانه في هذا المجتمع: فردًا صالحًا في مجتمع صالح. ولقد يحدث -كما لا بد أن يحدث- أن يصادف الطفل نماذج سيئة في هذا المجتمع ناشزة عنه. فإذا أدرك بوعيه، وبما تربى عليه في البيت والمدرسة من قيم وتصورات ومفاهيم، أنه نموذج سيئ وناشز، فقد انتفى الضرر المحتمل من هذا اللقاء، بل لقد أصبح لدى الطفل قدر مطمئن من المناعة يحميه من التأثر بما قد يلقاه في هذا المجتمع من سوء. وإلا فعلى الوالدين أن ينبهاه إلى هذه الحقيقة، ويبينا له الفرق بين هذا النموذج السيئ وبين النماذج   1 سورة المائدة 78-79. 2 رواه ابن ماجه وابن حيان في صحيحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 الصالحة الأخرى التي يلقاها ويعايشها، ويؤكدا له أن النماذج السيئة لا يقتدي بها إنما تتجنب وتنبذ، لأنها خارجة على طاعة الله ورسوله. وبهذه الطريقة يأمن الوالدان على طفلهما وهو يخوض تجاربه مع المجتمع، ويستخدمان النماذج الطيبة والهابطة كليهما في تثبيت القيم العالية في نفسه. أما الطيبة فعلى أنها النموذج الصالح الذي ينبغي الإقبال عليه والاقتداء به. وأما الهابطة فعلى أنها عاصية لله ورسوله ومن أجل ذلك فهي هابطة، فيكون ذلك نفسه تذكيرًا للطفل بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان الصالح. وحثًّا له بطريق المقارنة العكسية على أن يسلك الطريق القويم لكي لا يكون مثل هؤلاء المنحرفين. ذلك منهج التربية الإسلامية للطفل المسلم في المجتمع المسلم. منهج يتعهده بالرعاية والتقويم منذ مولده إلى نضوجه. في البيت والشارع والمدرسة والمجتمع على اتساعه. كل عامل من هذه العوامل يعطيه دفعة إلى الإمام، وتتكاتف جميعها- على اتفاق وتناسق- لتنشئ منه في النهاية إنسانًا صالحًا، هو الإنسان المسلم، الذي يقوم بدوره في هذا المجتمع، من مكانه الذي يقف فيه -أيًّا كان هذا المكان- يحمل مسئوليته في المجاهدة الدائمة لتكون كلمة الله هي العليا. يحكم منهج الله في ذات نفسه، ويلتفت إلى المجتمع ليرى إن كان منهج الله محكمًا فيه، وإلا وجب عليه أن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر ما حباه الله من جهد، حتى يستقيم من أمر المجتمع ما أعوج منه. والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة التي تحكم بشريعة الله وتطبق منهج الله، حريصان على هذا الأمر أشد الحرص: أمر تنشئة الأجيال على منهج الإسلام. فالدولة بسلطانها المستمد من قيامها على تحكيم شريعة الله، وبالوسائل المتاحة لها بحكم هذا السلطان، دائبة المراقبة لأحوال المجتمع من جهة تمنعه عن الانحراف، وتحافظ عليه نظيفًا كما أمر الله ورسوله، وتنشئ من جهة أخرى مدارس ومعاهد لتربية النشء تربية إسلامية، وتوجه وسائل الإعلام فيها من جهة ثالثة لتعريف الناس بدينهم، وتقريبهم من ربهم، ودعوتهم إلى الاستقامة على أمر الله. وهي في كل ذلك تعين البيت المسلم وتوجهه إلى تربية النشء الصالح، إحساسًا منها بأن هذه أمانة في عنقها لله. فهي لا تحكم الجيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 القائم وحده، ولكنها تهيئ لجيل قادم سيتسلم زمام الأمور من بعد؛ فينبغي أن يتسلمها قائمة على أمر الله ورسوله، ويكون هو كذلك ملتزمًا بأمر الله ورسوله، ليحمل الأمانة على ذات الطريق ولا ينحرف بها إلى طريق آخر. ويكون هذا من بديهيات كونها دولة مسلمة. والمجتمع كذلك في ذات الوضع. إنه يحس بثقل الأمانة على عاتقه فيعمل جاهدًا للوفاء بها. إنه لا يعيش ليومه وحده ثم يمضي، ولكنه يعد كذلك لغده. فهو مسئول أمام الله عن يومه كيف قضاه، وعن غده كيف أعد له. فأما يومه فعليه أن يتأكد فيه أن شريعة الله محكمة وأن منهجه نافذ في الأرض. وأما غده فعليه أن يهيئ له من ينفذ فيه شريعة الله ويحكم فيه منهجه، من الذين هم اليوم أطفال وغدًا شباب.. فينبغي أن يعاون في تنشئتهم على هذا الأمر بكل ما في طوقه من جهد، وأول ما يصنع في هذا السبيل هو إعطاء القدوة الصالحة. ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل على تقويم الانحراف والمنحرفين. ويكون هذا من بديهيات أنه مجتمع مسلم. والمدرسة المسلمة في ذات الوضع. إنها تحس أن في يدها أمانة التربية للجيل الناشئ، أكثر من أي جهة أخرى في المجتمع كله، بحكم أنها المتخصصة فنيًّا في هذا الأمر والمؤهلة علميًّا له. وأن كل خطأ يحدث في البيت أو في الشارع أو في المجتمع ويؤثر تأثيرًا سيئًا في الطفل فعليها هي تبعة تقويمه بما تملك من الوسائل الفنية والعلمية المتخصصة التي لا يملكها سواها. إنها -والتشبيه مع الفارق- مصنع هائل جدًّا، لصنع النماذج المطلوبة من البشر، ولإصلاح ما يتلف منها أو يعطب في الطريق. وعملها دائب في الإنشاء والإصلاح سواء؛ لأنها تملك الصناع المهرة المدربين، ولأنها هي المحملة بالأمانة الكبرى. والتشبيه مع الفارق. لأن صناعة النفوس أعلى وأثمن -وفي ذات الوقت أعقد كثيرًا- من صناعة الآلات والأدوات. والمدرسة في ذلك هي وريثة الأنبياء، حين تدرك مسئوليتها الحقيقية، وتقوم بها على وجهها الصحيح. وأخيرًا فالأسرة المسلمة في ذات الوضع. إنها تحس بالأمانة على ذات المستوى. أمانة لله. وإن كانت تزيد على الدولة والمجتمع والمدرسة أنها تحس إحساسًا مباشرًا أن طفلها هو ذات نفسها، على الحقيقية لا على المجاز. وتزيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 عليها عواطف الأبوة والأمومة التي لا يمكن أن يوازيها شيء في مشاعر الآخرين مهما أوتوا من الإخلاص والمودة والصدق. فالأبوان حين ينشئان طفلهما للمستقبل، يحسان في ذات الوقت أنه امتدادهما الذاتي في الأرض. فحبهما لصلاحه واستقامته حب مزدوج: حب لرؤية هذا الامتداد في أحسن صورة، وأداء للأمانة التي في عنقيهما لله. وهكذا تلتقي الجهات كلها والوسائل والأهداف كلها في طريق واحد، متساندة متكاتفة متواكبة، على اتفاق بينها وتناسق، لتربية الطفل على منهج التربية الإسلامية. ذلك في المجتمع المسلم. أما في المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه فالوضع مختلف من أساسه وفي جميع تفصيلاته وأحواله، من أول البيت إلى الشارع إلى المدرسة إلى المجتمع على اتساعه. البيت المسلم -بصورته التي ينبغي أن يكون عليها في الإسلام- أمر نادر الوجود جدًّا, وصعب في إنشائه أشد الصعوبة. وأما الشارع والمدرسة والمجتمع فأبعد شيء عن الصورة الإسلامية، وأدخل شيء في الجاهلية. إن الشباب المسلم يبحث عن زوجة مسلمة تقيم في ذات نفسها حكم الله ورسوله فلا يكاد يجدها إلا بشق الأنفس، وعلى ندرة بالغة. فقد عني المخطط الصليبي الصهيوني ضد الإسلام بإفساد المرأة وتعصيتها على الإسلام عناية خاصة، وأفرد لها في منهجه وسائل متعددة ومكثفة ودائبة لا تكف عن العمل لحظة، في المدرسة والشارع والسينما والتليفزيون والإذاعة والصحيفة والمجلة والكتاب والقصة والمسرحية وبيوت الأزياء وبيوت الزينة والإعلانات. وكل وسيلة وكل مكان. وكان من هدفه في ذلك كله تيسير الفساد وتعميمه على أوسع نطاق ممكن، وتصعيب الاستقامة على أمر الإسلام. وحقيقة إن عددًا من الفتيات يتكاثر باستمرار قد قد أفلتن من إسار الشيطان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} 1. ورحن في إيمان، واستعلاء بالإيمان، يعبدن الله حق عبادته غير مباليات بكيد الشيطان. ولكن ما زال العدد أقل من أن يفي بحاجة الشباب المسلم الذي يريد أن ينشئ بيوتًا مسلمة. وما زال هذا الشباب يعاني أزمة في تأسيس البيت المسلم الذي يتوق إليه. ثم هو حتى إن وجد بغيته بعد الجهد والمشقة لا يملك أن ينشئ أطفاله كما يريد. وأنى له ذلك وهو لا يستطيع -ولا ينبغي له- أن يحبس طفله داخل جدران بيته، ولا يستطيع في الوقت ذاته أن يصد عنه تيار الفساد الجارف الذي يصب عليه في الشارع والبيت والمجتمع؟! بل حتى إن حبسه داخل جدران بيته -وذلك مستحيل بطبيعة الحال- فهل يملك حتى هناك أن يحبس عنه الأغنية الخليعة يتغنى بها المذياع عند الجار وتخترق إليه النوافذ والجدران، أو يتغنى بها الرقعاء في الطريق وتصل أصواتهم إليه؟! ثم يخرج إلى الشارع الجاهلي فتنصب في أذنه الشتائم البذيئة القذرة، تعري كل مقدس، وتدنس كل حرمة، ولا يملك أن يصم أذنيه عنها أو لا يلقي باله إليها وهي تلاحقه في كل لحظة وفي كل شارع حتى أكبر شوارع العاصمة ذاتها بلا حياء. وذلك فضلًا عن التبرج الذي يقتل الإحساس بالعرض، والتخلع والتميع والرقاعة التي تدمر كل قيمة من قيم الإنسان، مجرد الإنسان، ولا نقول القيم العليا التي "ينبغي" أن يكون عليها الإنسان. ثم يذهب إلى المدرسة فيجد النفاق عملة متبادلة يتبادلها الجميع بلا تحرج، والكذب والخديعة والالتواء والغش و"تسديد الخانات" يقوم به الصغار والكبار سواء. فضلًا على منظر "الأبلة" الكاشفة عن صدرها وذراعيها وما فوق ساقيها وقد جاءت تقوم "بالتربية" في ذلك المكان كما يجد في   1 سورة النحل 99-100. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 المناهج وروح الدراسة ما يلوي عنقه ليًّا بعيدًا عن الإسلام، ويبعده عن عبادة الله الواحد بلا شريك، ويعبده لمختلف الأرباب التي تعبدها الجاهلية المعاصرة من دون الله! ثم يتطرق إلى المجتمع الواسع فيجد فيه كل رذيلة يمكن أن تتصور أو لا تتصور. ويجدها تحدث كل يوم. ويجدها تحدث بغير إنكار، لأنها هي العملة السائدة في المجتمع. بل يجد الفضيلة هي الشذوذ الذي يستنكر. يقال عن صاحبها: إنه عبيط! أو إنه أحمق! أو إنه مجنون يلقي بنفسه إلى التهلكة! أما إن قام واحد في هذا المجتمع يدعو إلى تحكيم شريعة الله فقد قامت القيامة ودقت أجراس الخطر، وتنادت الجاهلية بكل وسائل إعلامها: تعالوا وانظروا: رجعي ما زال ينادي بالرجعية!! ثم يأخذونه إلى حيث يعود أو لا يعود! فأنى له أن يربي طفله على منهج التربية الإسلامية في صورته الصحيحة المتكاملة؟! أمر عسير أشد العسر! ومع ذلك فهو مطالب بالعمل في هذا السبيل! مطالب بأمر الله ورسوله.. لا يملك الفكاك من الأمر، ولا يملك وهو يقف بين يدي مولاه يوم القيامة أن يقول: كنا مستضعفين في الأرض! {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 1. وهو ليس مطالبًا بالمستحيل. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 2. ولكنه مطالب بالمجاهدة بأقصى ما في وسعه من طاقة الجهد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 3. وفي حالات نادرة -بقدرات ومواهب فائقة- قد يستطيع بالفعل أن يرى طفله تربية إسلامية صحيحة, برغم كل الفساد المصبوب عليه من المجتمع الجاهلي الواغل في الفساد..   1 سورة القيامة 14-15. 2 سورة البقرة 286. 3 سورة العنكبوت 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 ولكننا لا نتوقع من كل الناس أن يصلوا إلى تلك المرتبة الفائقة. وإن كان المسلمون جميعًا مكلفين أن يجاهدوا للوصول إليها، فإن وصلوا فقد تحقق لهم الخير كله. وإلا فقد بذلوا أقصى طاقة جهدهم وأجرهم على الله. وليس هناك -كما قلنا- حلول سحرية للمشكلات. إنما هو الجهد. والصبر على الجهد. والصبر على مداومة الجهد. والصبر على بطء الثمرة مع مداومة الجهد! وسيجد الشاب المسلم أول مشكلة له في محاولة العثور على الزوجة المسلمة، التي أسلمت نفسها لله وخرجت من إسار الشيطان، ورضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، فارتدت الزي الذي يرضاه الإسلام، وتخلقت بالأخلاق الإسلام، وارتفعت على دنايا الجاهلية في الفكر والسلوك. وحين لا يجد فعلية أن يختار من يتوسم فيها أكثر من غيرها الاستجابة لأمر الله ورسوله. وليبدأ عمله بتربيتها هي على منهج الله ورسوله، حتى تتهيأ نفسها لطاعة الله. ويثقل في حسها حب الله واتباع منهجه على اتباع المجتمع وانحرافاته. ولا ينبغي له أبدًا أن يتعجل، أو أن يعتقد أن الطريق أمامة معبد، وأنها ساعة يقضيها في الوعظ والإرشاد ثم تنتهي المشكلة من جذورها, وينتهي أثر المجتمع الفاسد في لحظات! كلا! فليتجنب هذا الوهم، لكي لا يتعب وينفذ جهده في أثناء الطريق! وليحذر كذلك أن يدعوها إلى تغيير زيها بادئ ذي بدء! إنما ينبغي أن يبدأ معها من أول الطريق. يبدأ بتأسيس العقيدة السليمة وترسيخها في نفسها، وجعلها تعيش بوجدانها مع الله. يعلمها إن "الإسلام" معناه الإذعان لله فيما أمر به. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1 وأن من حلاوة إيمان المرء "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" 2. وحين تعيش في جو الإيمان، وتحب الله ورسوله حقًّا، سيسهل عليها   1 سورة الأحزاب 36. 2 البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 -رويدًا رويدًا- أن تنخلع من إسار الجاهلية وتذعن لأمر الله، راضية بالإذعان لأنه عبادة. وراضية بأمر الله لأنه هو الخير. ثم معتزة بالإيمان، مستعلية به على كل إغراء الشيطان. وحين يراها -في بعض الفترات في أثناء الطريق- تتأرجح بين ثقل المجتمع في حسها وبين مقتضيات العقيدة فليصبر. ولا يتعجل. ولا ييأس. لأن الجهد الشيطاني لإفساد المرأة المسلمة وتصعيب طريق الإسلام عليها جهد ضخم جدًّا لا يسهل التحول عنه في لحظات قليلة إلا لمن أوتيت العزم، وأولات العزم كأولي العزم ليسوا هم الكثرة الغالبة من الناس! وفي النهاية، بعد الجهد، والصبر على الجهد، والصبر على المعاناة، فهو حري أن يوفق بإذن الله. ثم تأتي مشكلة الأطفال.. سينشئهم على الإسلام ويفسدهم الشارع والمدرسة والمجتمع كله. ومع ذلك فلا خيار. وليس هناك بديل. ولا حلول سحرية للمشكلات! لا تستطيع -ولا يحمل بك- أن تحجز طفلك عن الشارع. حتى وأنت تعلم أنه شارع جاهلي! إنما عليك أن تقوم بعملية غسيل يومية لما أصاب طفلك من قدر الجاهلية في الطريق! وقد تفلح في ذلك تمامًا وقد لا تفلح. ولكن عليك المجاهدة الدائمة في كل حال. وهو عذاب ومشقة. ولكنك تؤديه لله. وتعلم أن جزاءه الكامل عند الله. ويعينك في ذلك أن تجعل العلاقة بينك وبين طفلك قوية متينة عميقة. فحين يكون الطفل محبًّا لوالديه. متعلقًا برضاهما عنه، يكون وزن البيت في حسه أثقل من وزن الشارع، فيستطيع البيت من ثم أن يصلح ما يفسده الشارع، كله إن وفق الله، أو بعضه على الأقل بإذن الله. ولا تستطيع -ولا يجمل بك- أن تحجز طفلك عن المدرسة. حتى وأنت تعلم أنها مدرسة جاهلية! وفي المدرسة ستقابلك مشكلة مضاعفة. وهي مشكلة "الأبلة" المتبرجة، المتناقضة تمامًا لصورة الأم المسلمة في البيت. وقد تستطيع بالنسبة للشارع أن تقول لطفلك: إن هؤلاء الأطفال سيئون ومنحرفون و ... و ... ولا تصنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 مثلهم لأنك غيرهم. ولكنك لا تستطيع بمثل هذه البساطة أن تقول ذلك عن مدرسة الطفل، وإلا فلن يتلقى منها العلم! ولا تستطيع كذلك أن تقول له إنها على صواب فيما تصنع بنفسها، وإلا فإن أمه إذن تكون على خطأ! وهو دائمًا يلحظ هذا التناقض بين زيها وزي أمة المسلمة, ولا يمكن أن يمر عليه بغير سؤال! وتلك إحدى المشكلات التي ليس لها حل سحري! وكل ما يمكن أن تفعله هو أن تقول إن ما تصنعه أمه هو الأفضل. وذلك ريثما يدرك الطفل حين يكبر ويعي، الفارق بين زي الإسلام وزي الجاهلية، ويدرك أن هذا حلال وذاك حرام! وعليك هنا كذلك أن تقوم بعملية غسيل يومي لما يصيب الطفل من أدران الجاهلية في المدرسة، سواء من الأقران الملازمين في الفصل أو من المدرسة المتبرجة، أو من النفاق والغش والخداع وتسديد الخانات. أو غير ذلك من الأدران التي ستلصق به حتمًا ولا تستطيع حجزها عنه. وقد تفلح عملية الغسيل في ذلك تمامًا وقد لا تفلح. ولكنها دون شك ستخفف الأدران إن لم تكن قادرةعلى إزالتها إزالة تامة. ومرة أخرى سيعينك حسن علاقتك بطفلك في هذا الأمر. وحين تكون الأم حبيبة إلى الطفل فسيفضل قدوتها على قدوة المدرسة وإن أحبها لحسن طريقتها في التعليم أو لأي سبب آخر. وحين يكون الأب حبيبًا إلى طفله فستكون القيم والمبادئ التي يغرسها في نفسه أقرب إلى التأثير من القيم الوافدة من غير هذا الطريق. ثم في النهاية سيخرج الطفل إلى المجتمع الواسع، الذي يعج بالفساد كالمستنقع الآسن. ولا حيلة لك ولا خيار! إن حجزته عن التعامل مع المجتمع فأنت تشيع الكساح في كيانه النفسي. وإن أطلقته فسيجيء إليك كل يوم موحلًا بالأقذار! ولا خيار. ولا حلول سحرية. الغسيل اليومي الشاق المرهق الذي قد يفلح مع ذلك تمامًا وقد لا يفلح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 ولكنه في كل حال سيخفف أدران الجاهلية ويمحو شيئًا من آثارها في نفس الطفل. وسينشأ الطفل ذاته محيرًا بين قيمك ومفاهيمك الإسلامية التي تنشئه عليها، وبين السلوك الجاهلي المنحرف السائد في المجتمع. ويظل بين الشد والجذب حتى يستقيم عوده ويأخذ المناعة ويستقيم على أمر الله، بتوفيق من الله. ولا حيلة لك في هذه الحيرة، ولا في ذلك الشد والجذب. إنه عناء شاق مرهق لك ولزوجتك ولطفلك جميعًا في هذا المجتمع الجاهلي. ومع ذلك فلا خيار.. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1. وذلك حتى يقوم الحكم الإسلامي الصحيح في الأرض، فينسخ الباطل ويقيم الحق.   1 سورة الأنعام 131. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 الباب الرابع: من الصبا إلى الشباب الباكر نحن الآن مع كائن جديد لا يريد أن يكون طفلًا، ويكره أن يعامل على أنه طفل صغير كما كان بالأمس القريب. ويريد أن يعامل على أنه إنسان كبير. يريد أن يعامل على أنه رجل إذا كان ولدًا، وعلى أنه أنثى ناضجة إن كانت بنتًا! نحن في فترة "انقلاب" كامل. وقد مرت تغيرات كبيرة من قبل في حياة الطفل, ولكننا ربما لم نلتفت إليها كثيرًا لأنها جاءت تدريجية، أو لأننا نتوقع أن تكون حياة الطفل كثيرة التقلب فلا تفاجئنا التقلبات كثيرًا حين تحدث. مرت على الطفل فترة في بداية طفولته كان فيها خياليًّا جدًّا. خياله واسع وحي وفياض. فهو من فرط حيويته وسعة خياله يضفي الحياة على كل كائن حوله، وليس على الأحياء وحدهم من ناس وحيوان. فالحائط حي والعصا حية، واللعبة حية يناديها ويتوقع أن ترد عليه أو ربما تخيل أنها ترد عليه بالفعل. وحين يقع وهو يتعلم المشيء فإنه يتخيل أن الأرض قد ضربته، ويغضب منها لأنها آلمته. حتى إذا جاءت أمه وضربتها، فإنه يصدق أنها تألمت بالفعل من الضرب، وأن أمه ثأرت له منها. فيرضى. ثم تأتي مرحلة أخرى من الخيال، يفرق فيها الطفل بين الخيال والواقع, ولكنه ليس تفريقًا حاسمًا. فهو يركب العصا على أنها حصان، ويضربها لتجري, أو تلاعب البنت عروستها على أنها كائن حي يتجاوب. ويعلم الولد أن العصا عصا وليست حصانًا في الحقيقة، وأنه هو الذي يجري بها حين يضربها، وليست هي التي تجري من تلقاء ذاتها. وتعلم البنت أن العروسة عروسة وليست ولدًا ولا بنتًا على الحقيقة، وأنها لا تنام من تلقاء نفسها, ولكنها هي التي تنيمها، ولا تقف من ذات نفسها ولكنها هي التي توقفها، ومع ذلك فإن الولد والبنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 يعيشان خيالهما كأنه واقع، بعد أن كانا في المرحلة السابقة يعيشانه واقعًا بالفعل. فهنا ما زال في الطفل قدر من الحيوية الفياضة يضفي الحياة على الكائنات، ولكن فيه من الوعي ما يعلم به أنها جمادات لا تنطق ولا تتحرك. ثم هو يحب عملية الإحياء هذه ويستريح إليها ويستكثر منها، فيعيش في نصف وعي، حالمًا طول يومه مع الكائنات التي يحييها بخياله ثم يعايشها كأنها حية. ثم تأتي مرحلة -تدريبية ولا شك- ولكنها شبه مفاجئة لسرعة الانتقال فيها. يلقي الفتى فيها عصاه ولعبه التي يحييها بخياله، ويصبح واقعيًّا جدًّا. يريد أن يعرف كل شيء على حقيقته، ويعيشه في عالم الحقيقة الحسية الملموسة. لم يعد الآن يتخيل العصا حصانًا. كلا! إنها عصا على الحقيقة الكاملة. والحصان حصان, لا التباس بينهما ولا مجال للالتباس. إنه يريد أن يركب الحصان الحقيقي إن أمكن، أو على الأقل يعرف كل شيء عنه! والعربة اللعبة التي كان يتخيلها كبيرة وضخمة وذات سائق يسوقها وذات حظيرة تبيت فيها صارت لعبة ضئيلة لا تغني نهمه ولا تشبع حاجته. إنه اليوم يريد السيارة الحقيقية ويريد أن يعرف -على الحقيقة- كيف تسير، وكيف تدور عجلاتها، وكيف تفرمل، وكيف تنعطف يمنة ويسرة، وكيف تصلح حين تعطب، وأين يذهب الوقود الذي يوضع فيها, وماذا يحدث لها حين ينفد الوقود. والبنت تلقي عرائسها العزيزة عليها. أو إن لم تلقها تمامًا فهي لا تتعامل معها على أنها كائن حي ولا على أنها مزيج من الخيال والحقيقة. ولكن على أنها لعبة فحسب. إنها الآن تريد أشياء أخرى. تريد أن تتعرف على العالم كله، ولكنه بصفة خاصة على "عالم المرأة" وما يحويه من أسرار! إنها الفترة التي يأخذ الطفل يتعرف فيها على الكون من حوله. فترة "جمع المعلومات" والتزود منها بأكبر قدر مستطاع. لم يعد الطفل الآن يصدق قصص الجن والعفاريت والحيوانات التي تتكلم. فقد عرفها وخبرها وجمع عنها من المعلومات ما فيه الكفاية. إنما صار نهمه الآن في القراءة أو الاستمتاع متجهًا إلى التعرف على الأشياء التي لا يعرفها، أو زيادة المعرفة بما عرفه من قبل. ثم إنه ليشعر بالامتياز على أقرانه بقدر ما يعلم من معلومات، ويكون من أسعد لحظاته أن يسمع زميلًا له يتحدث عن شيء فيخطئ في بيان بعض خصائصه فيصححها له! أو زميلًا يتساءل عن أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 يدخل في حيز معلوماته فينطلق بالإجابة. والطفل والطفلة في ذلك سواء كلاهما واقعي، وكلاهما مهتم بعالمه والتعرف عليه. ولكن هذه الفترة تنتهي في صورة شبه مفاجئة، ويحدث "انقلاب" من نوع آخر. إنه انقلاب عاطفي هذه المرة.. والخيال ينبعث إلى أشده مرة أخرى بعد فترة الواقعية السابقة. ولكنه خيال من نوع جديد غير خيال الطفولة بجنه وعفاريته ولعبه الحية التي يحييها بخياله ويعايشها. إنه خيال "وجداني" هذه المرة. مرتبط بالانقلاب العاطفي الجديد. هائم في أحلام ومثل عليا وعوالم مضيئة من صنع الخيال. وإنه لانقلاب مفاجئ للطفل نفسه، ولذلك فكثيرًا ما يعتريه الخجل أو الحيرة والارتباك. وكثيرًا ما يهرب من الناس ليعيش بمفرده في عالمه الخاص. ولا شك أن التغيرات الجسدية التي تطرأ على الطفل هي "مركز" ذلك الانقلاب. ولكن "إشعاعاته" أوسع بكثير جدًّا من تغيرات الجسد. بحيث يمكن أن ننظر إليه على أنه انقلاب نفسي أكثر مما هو جسدي كما يبدو للوهلة الأولى. وإن كان على أي حال يشمل النفس والجسد جميعهما وعلى نطاق واحد. تلك المرحلة التي نحن بصددها الآن هي مرحلة المراهقة، ثم البلوغ. المرحلة التي تبدأ تبرز يها سمات الرجولة والأنوثة، ويتهيأ لها الجسم بتغيرات معينة، فيخشوشن صوت الولد ويرق صوت البنت، ثم تبدأ أعضاء الجسم تنمو تهيؤًا للبلوغ، الذي يبدأ فيه النضج الجسدي. ولكن قبل أن يلحظ الطفل هذه التغيرات الجسدية في كيانه، يكون قد بدأ يتململ من نظرة الناس إليه على أنه طفل! وبدأ يعلن أنه لم يعد طفلًا! ويطالب والديه والآخرين بتغيير النظرة إليه! إنه إذن تغيير نفسي شامل حتى قبل أن يدرك الطفل من تغيرات جسمه أنه لم يعد طفلًا بالفعل! وقد يكون النشاط الداخلي للهرمونات التي تهيئ الجسم للبلوغ هو المسئول عن هذه التغيرات النفسية. فإنها تتأخر بالفعل إذا تأخر البلوغ. ولكن العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 لم يظل لنا حتى اللحظة كيف تصنع الهرمونات في "النفس" ما تصنع. وقد يكون العلم على بينة مما تصنعه الهرمونات أو أية كيماويات أخرى من تغيرات جسدية -حيوية وعصبية- أما تأثيرها في "النفس" فما زال موضع دراسة لم تسفر بعد عن نتيجة حاسمة. والدراسات التي تجري على المخ البشري تحاول أن تجد حلًّا لهذا السؤال. وتفترض فرضًا تسعى إلى إثباته هو أن المخ يحتوي خلايا "نفسية" مجاورة وموازية للخلايا العصبية، تتأثر معها -أو بمفردها- بمؤثرات معينة. وأيًّا كان أمر هذه الدراسة، فالثابت على أي حال أن هناك "كيانًا نفسيًّا" للإنسان قائمًا بذاته كالكيان الجسدي، ولكنهما متصلان بصورة من الصور، بحيث يؤثر كل منهما في الآخر ويتلقى تأثيراته. فحتى على فرض أن هرمونات الجنس هي التي تحدث هذه التغيرات النفسية، فهي لا تحدثها بذاتها كنتيجة مباشرة لما تحمله من مواد كيماوية. ولكن لأنها -بكيماوياتها- تنبه مراكز معينة في المخ، هي المتصلة بالعواطف، والأحلام، والمثل.. إلخ، وهي التي تجعل الطفل يحس من الداخل بأنه لم يعد طفلًا. مع أن كل شيء فيه يبدو لعين الرائي أنه طفل ما يزال! يمكن أن يقال من ناحية أخرى، معنوية بحتة، أو نفسية بحتة، إن مجموع الخبرات والمعلومات التي يكتسبها الطفل تدريجيًّا في الفترة الأخيرة من طفولته، وهي التي تجعله يستنكف أن يعامل على أنه طفل، حتى يبلغ اعتداده بها حدًّا معينًا يجعله يميز تميزًا واضحًا بينه وبين الأطفال الذين لا يعلمون هذه المعلومات ولا هذه الخبرات، ولا يستطيعون بعد أن يستوعبوها. يبدو ذلك من قوله عن أي طفل من الأطفال الذين يصغرونه: "إنه ما زال طفلًا "عيل" لا يعرف شيئًا! " فكأنه يعتد "بالمعرفة" ويجعلها هي الفارق الأساسي -أو من بين الفوارق الأساسية- بينه وبين الأطفال. ولا يمتنع على أي حال أن يتواكب تأثير الهرمونات الجنسية مع هذا التهيؤ "النفسي" البحت فيزيده قوة حتى يصبح شعورًا غلابًا في نفس الطفل. في هذه الفترة من المراهقة -وقيل البلوغ- يتجمع الصبيان في مجموعات من الذكور لا تقبل الإناث في وسطا -في العادة- وتتجمع البنات في مجموعات من الإناث لا تقبل الصبيان في وسطها كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 ويعجب الإنسان من هذه النفرة المؤقتة من الجنس الآخر كيف تكون. ثم يكون بعدها ذلك الانقلاب الهائل نحو الجنس الآخر. بحيث يصبح حنينًا متدفقًا يشغل المشاعر والخيال! تجد البنات في مجموعة يلعبن. فإذا جاء في وسطها ولد يطردنه من بينهن قائلات: "نحن بنات أنت ولد فلماذا تأتي في وسطنا؟! هل أنت بنت "أو بنوتة! " تلعب مع البنات؟! ". وتجد الصبيان في مجموعة يلعبون، فإذا جاءت في سوطهن بنت تصايحوا عليها وطردوها: "نحن صبيان فما الذي يأتي بالبنات في وسطنا؟! اذهبي فالعبي مع البنات اللواتي مثلك"!. ومع أن علم النفس الغربي ذاته يعلم هذه الحقيقة ويسجلها، فإن الجاهلية الحديثة تنشئ مدارس إعدادية مشتركة لتكسر هذا الحاجز الفطري وتحاول تغيير طبائع النفوس! ولمصلحة من تغير الطبائع، وما الغاية من تغييرها إلا التعجيل بالفساد، خوفًا من أن يتأخر -قليلًا- إلى مرحلة البلوغ؟! وفي تلك الفترة -قبل البلوغ- تنشأ زمالات وصداقات عميقة في نطاق كل من الأولاد والبنات على حدة. فيصطفي الولد مجموعة من الأولاد يصاحبهم ثم يصطفي من بينها زميلًا أو أكثر، كما تصطفي البنت صديقة أو أكثر، تكون بينهم مودة خاصة غير العلاقات العامة التي تربط المجموعة كلها من الأولاد أو البنات. بحيث يكون ذلك أمرًا معروفًا وملحوظًا، وكثيرًا ما يثير الغيرة في نفوس الأقران، وبين البنات بصفة خاصة. وتكون هناك "قيم" معينة في داخل تلك المجاميع، يعتبر اتباعها ضروريًّا لعضوية الجماعة، ونقصها أو نقضها مبررًا للطرد منها، أو للتنديد بصاحبها. فلكل لعبة -مثلًا- أصول. واللعب الآن جماعي وليس فرديًّا أو ذاتيًّا كما كان من قبل. واحترام هذه الأصول أمر شديد الأهمية في نظر الجماعة بحيث يصبح الخارج عليها خارجًا على الجماعة ذاتها، وينبذ منها -ولو مؤقتًا- ريثما يتعهد باتباعها، "وذلك أوضح في محيط الأولاد بصفة خاصة، حيث تكون ارتباطات البنات ارتباطات صداقة أكثر منها اشتراكًا في لعب جماعية. وإن كان للبنات لعبهن المشترك كذلك". وكذلك للصداقة أصول. منها المحافظة على المواعيد والوعود. ومنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 عدم تغيير الصديق. فهذه خيانة! "وخاصة في عالم البنات ولكنها موجودة كذلك بين الأولاد". ثم إن التعامل كله له أصول. هي الصدق والأمانة وعدم الغش وعدم الالتواء مع أفراد المجموعة، وعدم الوشاية بأسرارها لمجموعة أخرى! كما أن هناك ولاء وتناصرًا بينها ضد المجموعات الأخرى! إنها فترة تكون "القيم" و"المثل العليا" على المستوى الجماعي، ولكنه محصورًا -ما يزال- في نطاق المجموعة الخاصة، التي تشبه "القبيلة" على المستوى البشري الواسع. إن الطفل في الحقيقة يعيد -في كيانه الخاص- تاريخ البشرية كلها حتى يصل -وتصل- إلى مرحلة الرشد! أو أن البشرية مرت -في نموها التاريخي- بمراحل مشابهة لمراحل النمو الفردي، فمرت بفترة طفولة باكرة، وطفولة متأخرة، ومراهقة ثم نضوج.. هما خطان متوازيان على أية حال، من هذا الاتجاه أو ذاك. وهذه الفترة الغريبة من حياة الطفل، التي ينفر فيها -نفرة مؤقتة- من الجنس الآخر، ويكون مجموعات من جنسه، هي الفترة التي يبدأ فيها -كما رأينا- تكون القيم والمثل العليا في داخل نطاق تلك المجموعة الصغيرة. فكأنما هي "شتلة" نبات تستنبت في مكان معين محدود، لتستزرع بعد ذلك على نطاق واسع في كل مكان! وكأنما هذه المجموعة الصغيرة التي يؤثر الفتى أو الفتاة صحبتها، ويؤثرانها على كل ما عداها، هي السور الذي تحمى به هذه "الشتلة" حتى يتم استنباتها، لتوزع فيما بعد على الاتساع، بغير حواجز ولا أسوار! إنها من عجائب الفطرة التي لا يملك الإنسان إزاءها إلا أن يهتف: سبحان الخالق المبدع.. الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى! ولكن الذي يعنينا هنا -من زاوية نظر منهج التربية الإسلامية- أن نقرر أن القيم والمثل العليا فطرة. تنشأ تلقائيًّا من داخل النفس، في مرحلة معينة من مراحل نموها. وإنما التوجيه الخارجي هو الذي يشكل القيم ويحددها. أو تقول أدق من ذلك: "إن النفس البشرية مهيأة -فطريًّا- لإفراز تلك القيم وهذه المثل، في هذه المرحلة المعينة من العمر، ولكن التوجيه -قبل ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وبعد ذلك- هو الذي يجعل تلك القيم المفرزة تلقائيًّا تجد تربة صالحة فتستمر في نموها وتترعرع، أو لا تجد تلك التربة فتذبل وتموت ولا تعود إلى الظهور، أو تتخذ صورة منتكسة بفعل الجاهلية. إنها على أي حال إفراز بشري طبيعي في الغالبية العظمى من الناس في تلك المرحلة "فهناك قلة شاذة لا تتقبل هذه القيم وترفض العمل بها، فتكون سبب مشكلات دائمة في مجموعات الصبيان والبنات"ويكون هذا مصداق الحديث النبوي الشريف: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة". وفي فطرة البشر -على الرغم من مزاعم التفسير المادي للتاريخ- قيم ومثل لا علاقة لها البتة بالأحوال الاقتصادية ولا أطوارها " الحتمية! " لأنها تنشأ في نفوس كل الأطفال في جميع الأحوال الاقتصادية "فيما عدا القلة الشاذة التي لا تنفي القاعدة بل تقررها". ومهمة المربي هنا أن يلتقط الخيط وينتهز هذه الفرصة السانحة لتثبيت تلك القيم وتقويمها إذا انحرفت. إنها فرصة ربانية "وستجيء وشيكًا فرصة أخرى نتحدث عنها في مكانها" يمكن أن يعاد فيها تشكيل النفس كلها إذا كانت في حاجة إلى إعادة التشكيل فإذا كانت فرصة الطفولة قد أفلتت -لأي سبب من الأسباب- فستتهيأ في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها فرصتان هائلتان لإعادة التشكيل: إحداهما هذه السابقة للبلوغ، والأخرى التي تحدث في مرحلة البلوغ. إن التغير الطبيعي الذي ينشأ في داخل النفس، يعطي الفرصة للمربي أن يتدخل في عملية التغيير ليوجهها الوجهة التي يرغبها. خاصة وأن هذه الفترة -بطبيعتها كما قلنا- هي فترة التكون التلقائي للقيم والمثل على المستوى الاجتماعي، بعد أن كانت في الفترة السابقة تكون -بالقدوة والتلقين والعادة- على المستوى الفردي. فإذا كانت الفترة الأولى -لسبب ما- لم تثمر ثمرتها المرجوة، فهنا مجال لمحاولة جديدة قد تعطي تلك الثمرة بعد الجهد المطلوب. يستطيع المربي أولًا -ونحن نتكلم هنا عن المجتمع الإسلامي الحقيقي- أن ينتقي لطفله أصلح النماذج، سواء للمصاحبة العامة في المجموعة أو للصداقة الخاصة التي تكون طابع هذه الفترة. ويكون ذلك بالتلطف لا بالفرض الصريح. فالصداقة لا يمكن أن تفرض على النفس فرضًا. إنما يمكن أن تهيأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 لها الفرص التي تنميها وتوثقها. فيستطيع الأب أن يدعو أصدقاء ابنه إلى البيت, ويسامرهم ويكرمهم فتتوطد صداقة ابنه بهم، وتستطيع الأم كذلك مع صديقات بنتها. ويستطيع المربي كذلك -بمفرده، أو بالاشتراك مع أهل الصديق المختار، أو أهل المجموعة كلها- أن يشرف ويوجه تلك الصداقات وجهة صالحة، بتوجيه نشاطها إلى حيث يرجى الخير. فيقترح عليهم -مثلًا- نزهات في أماكن معينة، أو قراءات يساعدهم فيها، أو حلقات يعقدها لهم بغير تكلف يوجههم فيها إلى الخير. حتى لا ينصرف نشاطهم إلى العبث أو الفساد أو التدمير، وتنتكس القيم في نفوسهم، فبدلًا من أن تكون تعاونًا على البر والتقوى تكون "تعاونًا" كذلك ولكن على الإثم والعدوان! كما يستطيع أن يسأل ابنه -لا سؤال المستجوب ولكن سؤال المستطلع- عن أحوال زملائه معه وأحواله مع زملائه، فإذا أخذ الطفل يقص قصصه -على راحته- راح المربي يلقي توجيهاته لتصحيح ما ينبغي تصحيحه من تلك القيم، مرشدًا طفله إلى الصواب. وأخيرًا فإن على المربي أن يقطع تلك الصداقات إذا وجد فيها انحرافًا أو إغراء بالانحراف، على أن يوضح لطفله أنه لا يلغيها من حيث المبدأ، ولا يمانع في أن يكون لطفله صداقات واجتماعات مع الأصدقاء، ولكنه يعترض على فلان بالذات، أو على تلك المجموعة بالذات لأن أخلاقها سيئة، ولأنها تصنع كذا وكذا من الأمور. ولقد سبق أن قلنا في مبدأ حديثنا عن تلك الفترة إن الطفل يكره فيها أن يعامل كطفل، مع أنه في عين الرائي لم يزد شيئًا حقيقيًّا عن الأمس القريب! وهذا الأمر يصنع مشكلة في بيوت كثير من الناس مع أولادهم وبناتهم. ولا ينبغي أن يكون كذلك! إن علاجه -على المنهج الإسلامي- غاية في السهولة بحيث لا ينشئ مشكلة على الإطلاق. الولد يريد أن يحس أنه رجل. والبنت تريد أن تحس أنها أنثى ناضجة. ماذا علينا لو أعطيناهما هذا الإحساس؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 لا شيء على الإطلاق! إن الأب يقول: هذا الولد! إنه لا يريد أن يطيع أمري! يريد أن يدعي أنه رجل "عايز يعمل راجل". والأم تقول: هذه البنت! إنها لا تريد أن تطيع أمري! تريد أن تجعل نفسها فتاة كبيرة! والولد والبنت يقولان: إن أهلنا ما زالوا يعاملوننا على أننا أطفال. لقد كبرنا. ولم نعد أطفالًا! ويدور الوالدان وأولادهما في حلقة مفرغة على هذه الصورة. ولا بد من كسر الحلقة المفرغة ليستقيم الأمر. إن الولد والبنت لا يطيعان الأمر لا رغبة في المعصية. إنهما فقط يريدان الاعتراف لهما بأنهما لم يعودا طفلين. ولو حدث ذلك لانتهت المشكلة على الفور. ولانتهى هذا العصيان بكل مشكلاته. والمربي الحصيف لا ينتظر حتى يتحول الأمر إلى مشكلة ثم يبحث لها عن حل. إنه يتقي المشكلة ابتداء, ويحول دون حدوثها. وهل في حالتنا هذه يستطيع أن يحول دون حدوثها بغاية من اليسر. حين يحس الأب أو الأم أن الولد بدأ يحس بأنه أكبر من طفل، فعليهما أن يسارعا -بفرح- إلى تقبل هذا الأمر، وعليهما هما أن يسعيا إلى إعلانه: إن ابننا -فلانًا- لم يعد الآن طفلًا! إنه أصبح رجلًا! كم يثلج صدر الصبى هذا الإعلان! كم يغذي إحساسه بذاته ويطمئنه على ذاته! ثم على الفور ينبغي أن يتغير السلوك. لإعطاء هذا الإعلان رصيدًا من الواقع. فبدلًا من أن يشتري له أبوه حاجاته دون مشورة منه ولا إشراك له في الأمر، ينبغي الآن أن يأخذ رأيه: ما رأيك في هذا الحذاء؟ ما رأيك في هذا القماش؟ ما رأيك في هذا اللون؟. أو بدلًا من ذلك -إذا كان قد دربه تدريبًا مناسبًا من قبل- يعطيه النقود ويترك له حرية شراء أشيائه، مع التوجيه اللازم والنصائح اللازمة بطبيعة الحال، بأن يشتري البضاعة الطيبة ذات الثمن المناسب. ثم ... يشركه في شئون الأسرة: ما رأيك في المشكلة الفلانية؟ وليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 من الضروري أن يأخذ برأيه في شيء -إلا أن يكون صوابًا يستحق الأخذ به- ولكن تكفي المشورة في ذاتها، فهي تعطيه الإحساس بأنه أصبح كبيرًا بالفعل. ثم يرسله بين الحين والحين نائبًا عنه في قضاء أمر من الأمور. يقابل أحد معارفه أو يبلغه رسالة منه أو يقضي عملًا في السوق، أو في مكتب البريد، أو في ديوان من دواوين الحكومة. إلى آخر ما يعن للوالد من حاجات. كما أن الأم تستطيع أن تعهد إليه ببعض المسئوليات التي يقوم بها أبوه في العادة، لتشعره أنها تثق به كما تثق بوالده، أي: على مستوى الرجولة. كأن يذهب مع أخته في مشوار معين. أو يشتري شيئًا لأخيه الأصغر. أو يستقبل ضيوف والده في غيبته ... إلخ ... إلخ. إن الوالدين بهذه الطريقة يكسبان كسبين عظيمين في آن واحد: الأول هو حل العقدة الشائكة في نفس الطفل، التي تحرج صدره وتحمله على العصيان، وهي استمرار والديه في النظر إليه على أنه طفل. فإذا اطمأن بهذه الصورة إلى "رد الاعتبار" أو بالأحرى "إثبات الاعتبار" فقد انحلت العقدة وذهب العصيان. والثاني أنهما يدربانه تدريبًا عمليًّا على خبرات الحياة ومقتضياتها، فضلًا على تنمية شخصية الطفل بإتاجة الفرصة له للتعامل الفعلي مع المجتمع، وهو التعامل الذي قلنا إنه ضرورة لازمة للنمو السليم للإنسان. وهما -بعد- لم يخسرا شيئًا في واقع الأمر، فهو ابنهما، وعليهما أن يفرحا بكبره ونمو شخصيته، لا أن يعاندا معه كالأطفال، ويصرا على معاملته كالأطفال! والأمر مع البنت كذلك، وإن كان علاجها يقع على عاتق أمها أكثر مما يقع على أبيها. فإذا رأت الأم بوادر هذه "الحالة" التي تنتاب الأولاد والبنات في هذه السن، فلتبادر هي بالتقاط الخيط، ولتعلن أمام الأب والإخوة والأصدقاء: إن بنتنا -فلانة- لم تعد اليوم طفلة! إنها صارت "ست بيت"! فهذا الإعلان يصنع في نفسها كما صنع الإعلان السابق في نفس الصبي. ويطمئنها على ذاتها ويرضي نزعتها إلى تكبير نفسها. ثم على الأم أن تشفع ذلك بتغيير جذري في المعاملة، كالتغيير الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 ذكرناه مع الولد، مع الفارق في الاختصاصات. ففي شراء الأشياء اللازمة لها عليها أن تستشيرها في كل شيء يخصها، أو تسمح لها بالشراء لنفسها إن رأت ذلك مناسبًا بعد تدريب سابق. ولا عليها أن يكون اختيارها سيئًا مرة أو غير موفق مرات. إنه لا بد من هذا التدريب ولو ببعض الخسائر المادية "والأمر كذلك بالنسبة للصبي". ثم عليها أن تشركها في تدبير المنزل. فهذا الذي يثبت لها إثباتًا عمليًّا أن أهلها لم يعودوا ينظرون إليها كطفلة. ويكون من المقيد جدًّا أن تعهد إليها أمها بعملية متكاملة ولو كانت صغيرة جدًّا. كإعداد المائدة مثلًا، أو إعداد "السلاطة" أو أي أمر يمكن أن تستقل به، مع اشتراكها في الأمور الكبيرة، فذلك أفعل في علاج الأمر، وأدعى لأن تشعر بذاتيتها وكيانها من أن تكون دائمًا تبعًا، أو جزءًا صغيرًا من كل لا تسيطر عليه. ثم عليها تدريجيًّا أن تشركها في المسئولية لا في العمل وحده. كأن تشارك -ولو بالرأي- في عمل الميزانية. أو في اختيار ملابس لإخوتها الصغار. إلخ. وكذلك تشجعها على الدخول عند الضيفات, والجلوس معهن بعض الوقت وتبادل بعض الحديث. كل ذلك يحل عقدة "الكِبَر" عندها على صورة مفيدة ونافعة. فيسلس قيادها لأمها ولا تعود تعصي أوامرها، وفي الوقت ذاته تنمو شخصيتها, وتكتسب خبرات اجتماعية وخبرات في تدبير المنزل هي في حاجة إليها جمعيًا. فإذا انتهت هذه الفترة بمشاكلها، وأهمها رغبة "الكبر" بالنسبة للولد والبنت كليهما، ومشكلة الاطمئنان على الجماعات والصداقات التي ينخرط فيها الأطفال، وأنها لا تؤثر على أخلاقهم ولا تذهب بمجهود التربية السابق. وإذا انتهز المربي الحكيم فرصة تكون القيم, والمثل على المستوى الاجتماعي فزاد من تأكيد هذه القيم وترسيخها. عندئذ تبدأ الجولة الثانية من هذه المرحلة وهي جولة البلوغ، وما يصاحبها من انقلاب شامل في النفس. إن الفتى والفتاة في هذه المرحلة -ولا نقول بعد الطفل والطفلة، فإنهما بالفعل لم يعودا طفلين- قد دخلا الآن -رسميًّا- في مرحلة جديدة من عمرها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 لها متطلباتها الخاصة، ولها آفاقها الخاصة، وعلى المربين فيها واجباتهم الخاصة. ونهم أن نقول إن هذه المرحلة هي أخطر مراحل العمر كله بالنسبة للفتى والفتاة سواء. لولا أننا نعود فنرى أن كل المراحل في الحقيقة خطيرة! وإن أي انحراف في إحداها يمكن أن يسبب العطب والفساد إلى بقية العمر إذا لم يتدارك بالعلاج. مرحلة الطفولة خطيرة. ومرحلة المراهقة خطيرة. ومرحلة الشباب الباكر خطيرة. ومرحلة النضوج كذلك! ثم إنه من ناحية أخرى لا توجد مشكلات حقيقية في أي مرحلة من مراحل العمر غير قابلة للعلاج والحل، في الظروف الطبيعية السوية للبيت والشارع والمدرسة والمجتمع. إنما توجد المشكلات وتتفاقم، لا من ذات المرحلة التي يمر بها الإنسان في مراحل نموه المختلفة. إنما من الانحرافات التي تطرأ على واحد من هذه العوامل الأربعة أو منها كلها جميعًا. إن "المشكلة" الكبرى التي تتحدث عنها كتب التربية وعلم النفس في هذه الفترة هي مشكلة الجنس. فالتغيرات الجسدية التي تعلن بدء النضوج الجنسي تفرض نفسها فرضًا على الفتى المراهق والفتاة المراهقة، وتشغلهما، وتشد انتباههما إلى علاقات الجنس ومشاعره، بصورة تلقائية ليس منها بد، ولا يمكن تحاشيها. ولكن هذا في ذاته ليس مشكلة. وفي الإسلام بالذات لا توجد للجنس مشكلة، ولا لأي أمر آخر في الحقيقة حين يتبع المنهج الرباني في كل أمور الحياة. فإن الله -الذي فطر الفطرة البشرية- لم يجعل فيها -في ذاتها- مشاكل، في أي مرحلة من مراحل نموها. إنما تنشأ المشكلة من مخالفة الفطرة التي فطر الله الناس عليها لأي سبب من الأسباب. وليس معنى هذا أن الحياة في ظل الإسلام رخاء ناعمة هادئة لينة لا تعب فيها ولا عناء. كلا! إن الحياة كلها عناء. ولن تنفك كذلك. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 1.   1 سورة الانشقاق 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} 1. ولكن التعب والعناء شيء و"المشكلة" شيء آخر. إنك لكي تفلح الأرض تتعب. تشقها، وتبذر فيها البذور بعد انتقائها، وتسقيها، وترعاها من الحشائش الضارة، وترعاها من الآفات، وتحافظ عليها من أي مغير يغير عليها من حشرة أو حيوان أو إنسان. وتظل تتعهدها يومًا بعد يوم حتى تؤتي أكلها وتجمع حصادها. وكل ذلك "كدح" و"كبد" وتعب ومشقة. ولكن هل هو "مشكلة"؟! إنه يصبح مشكلة فقط إذا غاب واحد من هذه العناصر كلها، أو تعذر، أو تعقد، أو فسد حاله. وإنك لكي تتاجر تتعب. تجمع المال الذي تبدأ به تجارتك، وتختار نوع التجارة الذي تنوي العمل فيه، وتكسب فيه خبرة كافية، وتدرس السوق واحتياجاته، ثم تشتري بضاعتك، ثم تعرضها العرض الذي يضمن رواجها، ثم تجتذب إليك الزبائن بحسن المعاملة والأمانة والصدق. ثم تكون معرضًا في كل وقت للكسب والخسارة فينبغي أن تجتهد بأقصى جهدك لتكسب ولا تخسر. كل ذلك تعب ومشقة. ولكنه ليس مشكلة إلا إذا تعرض شيء من هذه العناصر كلها إلى ظروف غير طبيعية، فجعل الخسارة هي الحصيلة وليست الربح. أو هي الأمر الأرجح الذي لا تستطيع تلافيه إلا بجهد غير طبيعي. وإنك لكي تتعلم وتدرس, تتعب ... تذهب إلى مكان الدراسة وتحبس نفسك للدرس، وتنتبه انتباهًا مركزًا لكي لا يفوتك البيان والشرح، وتعود إلى البيت تستذكر، وتسهر الليالي الطويلة في الاستذكار مع التركيز والانتباه، وتبذل في ذلك كله جهدًا عصبيًّا وذهنيًّا وجسديًّا، حتى يأتي الامتحان، وتحرص على أن تحصل على الدرجات العالية لييسر لك ذلك مرحلتك القادمة وهكذا سنة بعد سنة حتى إذا وصلت إلى المرحلة النهائية كان قد أجهدك المشوار. تعب ومشقة وكدح. ولكنه ليس مشكلة، إلا إذا وجدت عقبات غير   1 سورة البلد 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 عادية في الطريق تجعل في تحصيل العلم مشقة زائدة عن الحد، أو تجعل له نتيجة غير مضمونة رغم العناء والجهد. وكل أمور الحياة كذلك. وحين نقول إنه ليس في الإ سلام مشكلة للجنس ولا لأي شيء آخر، فهذا الذي نعنيه. لا نعني أن الحياة خالية من الكدح والمشقة. فذلك مخالف لسنة الله ومشيئته في خلق هذا الكائن البشري، الذي خلق ليعمل -أي: ليكدح وينصب- وليكون عمله هو مجال الابتلاء في الدنيا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 1 ومجال الجزاء في الآخرة بالنعيم أو العذاب: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 3. وإنما نعني أن الكدح في المنهج الإسلامي يسير في خطه الطبيعي، ويؤتي ثماره الطبيعية، ثم تكون هذه الثمار هي أطيب الثمار التي يمكن للبشر أن يحصلوا عليها في الأرض. وهنا مفرق الطريق بين كدح البشر في الجاهلية وكدحهم في الإسلام. في الحالين يكدحون، ثم يكون كدحهم وبالًا عليهم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما جميعًا؛ أو يكون كدحهم مباركًا في الدنيا والآخرة جميعًا. ثم نعود فنقول إن الحياة في ظل الإسلام لا تخلو من المشكلات بمعناها الذي شرحناه في السطورالسابقة. ولكن لا يكون السبب فيها أبدًا هو الإسلام. إنما يكون السبب أحد شيئين: إما تفريط المسلمين في إسلامهم فيحدث الانحراف في حياتهم، ويتسبب الانحراف في قيام المشكلات، وإما كيد أعداء الإسلام في الداخل أو الخارج بما يحدث الاضطراب في حياة المسلمين. والنوع الأول من المشكلات ليس مفروضًا أن يحدث، وحينما يحدث فإنما تقع تبعته على المسلمين أنفسهم. وأما الآخر فلا معدى من حدوثه، ما دام   1 سورة هود 7. 2 سورة الأنعام 60. 3 سورة الأنبياء 47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 في البشر من يكره الحق ويكره الخروج من الظلمات إلى النور. ومن أجل هذا الأمر كتب على المسلمين الجهاد والقتال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2. {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 3. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 4. تلك هي الصورة الإسلامية الصحيحة للحياة. ليست بحال من الأحوال خالية من الجهد والمشقة والكدح والكبد، ولكن في سبيل ثمرة لا تتحقق أبدًا في غير الإسلام. وليست خالية من المشكلات ولكن ليس سببها هو الإسلام. بينما الحياة في الجاهلية جهد كذلك ومشقة وكدح وكبد، ولكن في سبيل ثمرة فاسدة معطوبة لا يمكن أن تخلو من العطب. ومشكلات سببها النظام ذاته وليست آتية إليه من أعداء النظام. فمن شاء أن يقول: ما دام الأمر تعبًا هنا وتعبًا هناك، فلنأخذ أيسر الجهدين وهو تعب الجاهلية، فهو مخطئ مرتين: المرة الأولى لأن متاعب الجاهلية ليست في الحقيقة أيسر من متاعب الإسلام وإن بدت للوهلة الأولى كذلك. إنها تبدو كذلك لأن الشهوات   1 سورة البقرة 216. 2 سورة البقرة 251. 3 سورة الحج 40. 4 سورة الحديد 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 ميسرة فيها على المستوى الحيواني، ولكنها تكلف الناس مع ذلك من أمنهم وطمأنينتهم وراحة أعصابهم ما تشهد به قوائم المرضى في العيادات النفسية والعصبية في كل العالم "المتحضر" وما تشهد به انحرافات الشباب في ذلك العالم، الذي يحس بالضياع ويبحث له عن وجود، ويغرق في الجنس والمخدرات لينسى، ثم لا يستطيع أن ينسى، وإنما يقع فقط في حمأة الإدمان في الجنس والمخدرات سواء. كما تشهد به النسبة المروعة للجريمة، التي هي آخذة أبدًا في الارتفاع، رغم كل الجهود التي تقوم بها الحكومات في ذلك العالم "المتحضر"! والخطأ الثاني وهو الأجسم والأخطر، حتى لو تحققت المتعة الكاملة على الأرض، هو تعريض النفس للعذاب الرهيب في الآخرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} 1. والله لا يدعو الناس إلى الإسلام لكي يرتاحوا -في الحياة الدنيا- من الجهد، وهو يعلم أن أحدًا في الحياة الدنيا لا يرتاح من الجهد. إنما يدعوهم ليؤمنوا به وينفذوا منهجه ويكدحوا في سبيله ويجاهدوا ويحتملوا مشقة الجهد في سبيل ثمرة أرضية لا توجد في غير الإسلام، وفي سبيل ثمرة في الآخرة لا تنال بغير الإسلام. والله -من قبل ومن بعد- غني عن عباده وعن عبادة عباده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2. {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 3. والله الخالق يملك سبحانه بما أنه هو الخالق لهذه العباد أن يكلفها ما شاء دون أن يسأل لماذا فعل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 4.   1 سورة القتال 12. 2 سورة الذاريات 56-58. 3 سورة العنكبوت 6. 4 سورة الأنبياء 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 ولكن من رحمته لا يكلف نفسًا إلا وسعها. ثم من رحمته لا يكلفهم لذات نفسه -سبحانه- وهو الغني؛ إنما يكلفهم ما يصلح حياتهم على الأرض، ثم يأجرهم عليه في الآخرة وهم كانوا هم الكاسبين! هو الذي وهب لهم متاع الحياة الدنيا، ثم يأجرهم على الاستمتاع به إن استقاموا في ذلك على منهج الله! {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. هو الذي وهب لهم أموالهم وأنفسهم ثم يشتريها منهم -وهو واهبها! - بأن لهم الجنة! {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} 2. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3. ونعود إلى "مشكلة" الجنس في المرحلة التي نحن بصددها، فلا نجد للجنس "مشكلة" في الإسلام. أما الجهد والمشقة فواقعان نعم. واقعان في الطفولة. وواقعان في المراهقة. وواقعان في الشباب. وواقعان في الكهولة. وواقعان في الشيخوخة. واقعان من أول العمر إلى منتهاه. هل يتم تعليم المشي في الطفولة بلا مشقة؟ وتعلم الكلام؟ والتسنين؟ والتربية على العادات الطيبة والسلوك المستقيم؟ كلا! لكل مرحلة في حياة الإنسان جهدها ومشقتها. ولكن الله من جانب آخر قد زود الإنسان بالقدرة على احتمال الجهد والمشقة.   1 سورة الأعراف 32. 2 سورة البقرة 245. 3 سورة التوبة 111. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 فالأمر -من طرفيه- متوازن. جهد مفروض من ناحية، وقدرة على بذله واحتماله من ناحية أخرى. بل إن الأمر في الفطرة البشرية أعجب من ذلك! إن طاقة الجهد المذخورة في كيان الإنسان وجدت لتبذل! فإذا لم تبذل تمرض، ويمرض معها الإنسان!! وحين نظن -بنظرتنا البشرية القاصرة- أننا نحل للإنسان مشكلاته إذا وفرنا عليه الجهد البتة، وجعلنا حياته رخاء لينة، فإننا نكون نحن الذين نخلق له المشكلة في الحقيقة، لأننا نتسبب في أن نجعل في حوزته جهدًا زائدًا -أو فائضًا- لا يجد منصرفه الطبيعي، فإما أن ينصرف في الفساد وهو الأرجح، وإما أن يترهل صاحبه ويمرض. وكلاهما فساد! وليس معنى ذلك أن نتعمد الجهد ونفتعله افتعالًا حتى نصل إلى درجة الإجهاد! كلا! إن منهج الله يحوي المقادير المضبوطة لكل شيء. وما علينا إلا اتباعه. وهو ينظم نفسه بنفسه. في الجهد المبذول وفي توزيع الطاقة وفي الثمرة سواء. وحين يختل الميزان بسبب انحراف البشر، ويحتاج الأمر إلى الجهد الزائد والمشقة التي تفوق الاحتمال العادي، فإن الله يختار من عباده قومًا يخصهم برحمته وفضله، ويؤتيهم طاقة على احتمال الجهد الزائد، ثم يتخذ منهم شهداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 1. {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 2.   1 سورة المائدة 54. 2 سورة آل عمران 139-142. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 تلك هي ذروة "الكدح" في حياة البشر في ظل الإسلام.. وهي -بجهدها العادي، وجهدها الزائد- في حدود طاقة البشر كما خلقها الله؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. ثم إنها تستنفد الجهد الذي لا بد أن يبذل، لكي تظل النفس البشرية صحيحة سليمة لا يصيبها العطب بالاسترخاء والترهل، أو بصرف الطاقة في الفساد! وحين يسير الناس على المنهج الرباني ويلتزمونه، ويبذلون الجهد المطلوب بالقدر الذي رتبه الله في الفطرة من ناحية وفي النظام الذي أنزله مفصلًا على قد الفطرة من ناحية أخرى، تستقيم الأحوال كلها في الأرض، فضلًا على الجزاء الذي ينتظر المؤمنين في الآخرة. وفي ذلك تستوي الطفولة، والمراهقة، والشباب، والكهولة، والشيخوخة. لكل منها جهدها ومشقتها، ولكن في حدود طاقة الفطرة، وفي حدود صحة الفطرة كذلك وسلامتها. فإن كانت فترة المراهقة والبلوغ تبدو أكثر خطورة وحروجة، فبسبب التفجر العاطفي والجسدي الهائل الذي يصاحبها، ويبدو كأنما تفجر فجأة، فيصبح كالفيضان الذي يوشك أن يحطم الجسور. ولكنا حين نرقب الفيضان من مبدئه، ثم نرتب له منصرفاته، ثم نجعل الجسور قوية الاحتمال. نكون في مأمن من غائلة الفيضان. وإن كنا دائمًا في كل مراحل العمر، في حاجة إلى اليقظة الدائمة والحذر والاستعداد. الجنس -ككل طاقة حيوية في كيان الإنسان- خلقه الله ليعمل، ورتب له وهيأ له من المشاعر والأفكار في داخل النفس ما يوائم ويواكب الطاقة الجسدية، ليسيرا معًا متوازيين متساندين متلاقيين كما يحدث في كل المسائل الحيوية الأخرى، ثم رتب له وهيأ له في منهجه المنزل من التنظيمات والتوجيهات والتشريعات ما يحقق أهدافه في أسلم وضع وأنظف وضع، كطريقة الإسلام في كل شيء. ليست إذن مشاعر الجنس وأفكاره بدعًا بين المشاعر والأفكار. وليست خصائص الجنس الجسدية بدعًا بين خصائص الجسد، وليس الجنس كعملية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 حيوية بدعًا بين العمليات الحيوية التي يقوم بها الإسنان من طعام وشراب وإفراز.. إلخ. ومن هنا لا يضع الإسلام حاجزًا نفسيًّا خاصًّا أمام الجنس، غير ما يضعه لغيره من ألوان النشاط البشري، لا في طريقة الحديث عنه، ولا فيما يصرح به منه أو يمنع. أي: بعبارة أخرى، ليس الجنس في ذاته موضوعًا "محرمًا" في الإسلام, ولا يمارس الإسلام أي لون من ألوان "الكبت" فيما يتعلق بالجنس. ولنعد إلى تعريف الكبت في علم النفس الغربي، بل عند فرويد بالذات، مبتدع قصة الكبت الجنسي وملصقها بالدين. إن فرويد نفسه -الذي سعى إلى تلويث صورة الدين في نفوس الناس بكل ما أوتي من جهد، تحقيقًا لمخططات حكماء صهيون لإفساد كل البشرية1- فرويد نفسه يقول في كتابه three contributions to the sexual theory إن الكبت ليس هو الامتناع عن إتيان العمل الغريزي -فذلك مجرد "تعليق" للعمل- ولكن الكبت هو استقذار الدافع الغريزي والشعور بأنه دنس لا ينبغي للإنسان أن يفكر فيه. فيكبته في اللاشعور. وهذا الكبت -بمعنى الاستقذار- يظل قائمًا في النفس ولو أتى الإنسان الفعل الغريزي في اليوم عشرين مرة! فلا علاقة له بالممارسة، إنها علاقته بالشعور. فإذا كان هذا قول فرويد -أبو الكبت ومبتدعه وملصقه بالدين- فليس لأحد من عوام "المثقفين" عندنا أن يقول شيئًا من عند نفسه يلصقه "بالعلم"، ويتوهم أنه عالم نفساني كبير! حقيقة إن فرويد -بخبثه الشيطاني- قد أعطى إيحاء -مجرد إيحاء- بأن الامتناع عن الممارسة يصاحبه -في العادة- كبت نفسي، وهذا ما يلتقطه عوام المثقفين ويتعالمون به! ولكنه لم يقل إن كل امتناع هو كبت، بل نص نصًّا صريحًا على أن الكبت ليس هو مجرد الامتناع، وسمى ذلك تعليقًا للعمل الغريزي supension "أي: إرجاء له".   1 راجع "بروتوكولات حكماء صهيون" -الإشارة إلى دور فرويد في المخطط الصهيوني- وفصل "اليهود الثلاثة" في كتاب "التطور والثبات". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 ولسنا نستمد حقائق منهجنا الرباني من شهادات فرويد ولا غيره من {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} كما سماهم القرآن. فهؤلاء يقولون ما يقولون، ويتخبطون كما يشاءون. ولكنا فقط بصدد تصحيح وهم هائل يعشش في نفوس "المثقفين! " وعقولهم، ويحسبونه علمًا، ويتوهمون أن فرويد قد قال به. فإذا علموا فرويد نفسه -الذين يتلقون منه تعاليمهم- لم يقل ما يتوهمون أنه قاله، فلربما يفيئون إلى أنفسهم، ويخجلون من ترديد كلام ليس لهم به علم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 1. إنما نقول إنه حتى مع التسليم بأن الكبت ينشأ من استقذار الدافع الغريزي -وهذا جائز2- وأنه ينشئ اضطرابات نفيسة وعصبية، فإن الإسلام لا يستقذر الدافع الجنسي في ذاته، ومن ثم لا "يكبته" البتة. إنما الذي يستقذره الإسلام ويستنكره هو الجريمة. وجريمة الجنس، كجريمة السرقة، كجريمة القتل، كغيرها من الجرائم كلها دنس يستقذره الإسلام؛ لأنها تجاوز لما أمر الله به، واغتصاب لحق لا يحق للإنسان اغتصابه. وطريقة الإسلام في استقذار جريمة الجنس، هي ذات طريقته في استقذار جريمة السرقة، هي ذات طريقته في استقذار جريمة القتل، هي ذات طريقته في استقذار كل تجاوز عما أمر به الله. {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ   1 سورة الإسراء 36. 2 لا شك عندي أن استقذار الدافع الجنسي -أو أي دافع حيوي- ينشئ اضطرابًا شديدًا في النفس، ما بين الدفعة الحيوية الضاغطة وبين الشعور بالدنس والقذارة. ولكن الذي يحتاج إلى دراسة علمية هو مسألة الكبت "اللاشعوري" الذي يردده فرويد في جميع كتاباته. وكل شيء يقرره العلم على سبيل اليقين فنحن لا نرفضه. أما الدعاوي الذاتية -وفي مقدمتها عقدة أوديب التي زعمها فرويد- فنحن في حل من عدم الإيمان بها حتى يقوم عليها دليل علمي مقبول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا، وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} 1. وإذا كان الجنس -في الإسلام، وفي البشرية السوية كلها- يتم في ستر عن العيون، فليس ذلك نتيجة استقذاره. فإن الاستحمام -وهو أنظف نظافة يقوم بها الإنسان في بدنه- يتم كذلك في ستر عن العيون! ولم يزعم أحد أن الاستحمام عملية مستقذرة! وأن سترها عن العيون ناشئ عن استقذارها! إنما الستر أو الجهر عملية منفصلة تمامًا عن الاستقذار أو الاستطياب. ومتصلة بشيء آخر، هو الضرر الخلقي الذي ينشأ -أو لا ينشأ- من الجهر. كما أنه متصل بالحياء الفطري الذي أودعه الله في الفطرة البشرية واختصها به، والذي يجعلها -في حالتها السوية- تخجل من كشف العورات. فأما البهائم، والبشرية التي يراد لها في جاهليتها الحديثة أن تكون كالبهائم، فتكشف عوراتها كما تشاء! ولتمارس الجنس في العراء المكشوف كما تشاء! كلا! ليس الستر نتيجة الاستقذار. ولكنه مقتضى الرفعة والتكريم الذي كرم به الله الإنسان أن يكون كالبهائم والسائمات: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} 2. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 3. أما الجنس في ذاته -كدافع من دوافع الفطرة، وكاستجابة واقعية لدافع الفطرة، وكمشاعر وأفكار- فليس حوله طيف من استقذار أو إنكار: "حبب إلي من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة" 4.   1 سورة الإسراء 31-38. 2 سورة الأعراف 26. 3 سورة الإسراء 70. 4 رواه أحمد والنسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 "وإن في بضع أحدكم "أي ممارسة العمل الجنسي مع الزوجة" لأجرا". قالوا: يا رسول الله! أإن أحدنا ليأتي شهوته ثم يكون له عليها أجر؟! قال: "أرأيتم إن وضعها في حرام، أليس عليه فيها وزر؟ فإذ وضعها في حلال فله عليها أجر! " 1. ثم إنه -في الإسلام- يمارس باسم الله، ويقرأ اسم الله عليه وهو أطهر الأسماء وأعظم الأسماء. ومن هنا لا ينشأ الاضطراب في النفس من مشاعر الجنس, ولا من كل ما يتعلق به من عمل. إنما ينحصر الاستقذار في الجريمة. وطريقة الإسلام في معالجة الجنس، كطريقته في معالجة كل الدوافع التي خلقها الله لتعمل لا لتكبت ولا لتعطل، أنه يقرها بادئ ذي بدء، نظيفة في ذاتها، محببة، بل مطلوبة، بل مستنكرًا تحريمها وكبتها وإغلاق الطريق دونها: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2. {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} 3. "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني" 4. ثم إن الإسلام يقيم أمام الدوافع الفطرية كلها -وليس الجنس بدعًا بينها- حواجز لا تغلق مجراها ولكن ترفعها وتضبط منصرفها، أشبه بالقناطر تقام أمام التيار، لا لتغلق المجرى، ولكن لترفع مستوى التيار، وتضبط منصرفه، ثم تتيح له -بعد رفعه- أن يصل إلى مجالات أخرى لم يكن ليصل إليها من قبل وهو في مستواه الأدنى. نفس الشيء يصنعه الإسلام مع دوافع الفطرة.. يقيم لها "ضوابط" لا   1 رواه مسلم. 2 سورة الأعراف 32. 3 سورة الحديد 27. 4 أخرجه الشيخان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 تكبتها، بمعنى أنها لا تستقذرها، ولكن تحدد لها المنصرفات المسموح بها. وهي {حُدُودُ اللَّهِ} التي حددها وقال: {فَلا تَعْتَدُوهَا} والتي يعلم الله بعلمه وحكمته أنها هي الحدود الآمنة لتصريف تلك الطاقة، والتي يعلم الله بعلمه وحكمته أنها هي الحدود الآمنة لتصريف تلك الطاقة، التي يتحقق بها خير الفرد والمجتمع كله، وخير النوع البشري جميعًا. وفي الوقت ذاته يرفع مستواها -بهذه الضوابط- فيكون أداؤها على طريقة الإنسان لا على طريقة الحيوان، طريقة لا يقوم بها الجسد وحده، ولكن يقوم بها كيان "الإنسان" كله، بما فيه من عواطف وأفكار ومشاعر، وإشراقات روحية كذلك. ثم يطلق "المحجوز" من الطاقة، على مستواها الأعلى، فتكون تنظيمات سياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية من ناحية، وتكون فنونًا وعلومًا من ناحية أخرى، ولم يكن ذلك كله ليتيسر لو أنفقت الطاقة كلها -في مستواها الأدنى- على طريقة الحيوان، الذي لا ينشئ نظمًا ولا حضارات، ولا فنونًا ولا علومًا ولا ثقافات! والجاهلية تعترف بضرورة "التنظيم" و"الضبط" لكل دوافع الفطرة إلا الجنس! هو وحده من بين دوافع الإنسان الفطرية يراد له أن يكون بلا ضابط إلا الرغبة المحمومة والسعار المجنون! إن الجاهلية لا تبيح إطلاق دافع التملك بلا ضابط ولا تنظيم، يستولي الإنسان على كل ما تهفو له نفسه من أي مكان يشاء. وتعتبر ذلك -في الجاهلية الغربية- سرقة يعاقب عليها القانون بالحبس. وفي الجاهلية الشرقية جريمة تخريب أو اغتصاب لملك البروليتاريا تعاقب عليه بأي شيء ما بين الحبس والإعدام. وكذلك تصنع في دافع الطعام، ودافع الملبس، ودافع المسكن. لا تتركها نهب الشهوات. الجنس وحده بدع بين الدوافع الفطرية له طريق خاص؟! لماذا؟! لأن الشياطين التي تحكم الأرض اليوم تريد ذلك! تريد أن تستعبد البشرية لشهواتها لتجرها من خطامها كالحمير: "الأمميون "كل الأمم من غير اليهود" هم الحمير الذين خلقهم الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 ليركبهم شعب الله المختار!! " كذلك يقول التلمود لليهود، وكذلك يفعلون بالبشرية التي أسلمت لهم قيادها, وغاصت لقمتها في حمأة الجنس المسعور! الإسلام لا يستقذر الجنس ولكنه لا يطلقه من عقاله يستعبد الإنسان بالشهوة. يضبطه. فيبيحه في الحدود المشروعة التي شرعها الله. ويدعو إليه عندئذ ويشجع عليه: "تناكحوا تكثروا. فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة" 1. ويضبطه. فيجعله مشاعر مودة ورحمة لا مجرد جسد بهيمي هائج كالحيوان: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 2. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} 3. وقيل في تفسير التقديم: إنه العواطف والتهيئة النفسية والشعورية حتى لا يكون دفعة جسد فحسب. ويضبطه. فيجعله أسرة وأطفالًا وتنظيمات اقتصادية واجتماعية وفكرية وأخلاقية شاملة. وهو ذات الطريق الذي يسلكه مع شهوة الطعام، وشهوة الملبس، وشهوة المسكن، وشهوة المال، وشهوة السلطان، إلخ. فليس الجنس بدعًا بين دوافع الإنسان، ولا يخصه الإسلام بقيد خاص لا يقيد به بقية دوافع الفطرة، ليرفعها كلها إلى مستوى "الإنسان". أما حل "المسألة" الجنسية ولا نقول "المشكلة" الجنسية في منهج التربية الإسلامية، فهو حل شامل يشمل المسألة من أطرافها جميعًا: أخلاقياتها،   1 رواه عبد الرزاق والبيهقي. 2 سورة الروم 21. 3 سورة البقرة 223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 واقتصادياتها، واجتماعياتها، كما يشمل جوانبها الجسدية والروحية والشعورية كلها في آن واحد. ونتتبع الخيط التربوي من أوله، فنجد أن الإسلام قد ربى الطفل1من قبل على حب الله وخشيته من ناحية، وعلى القدرة على الضبط من جانب آخر. فأما حب الله وخشيته فقد تربى عليه منذ عرف الله. منذ راح يبحث عن الخالق، فدله مربيه عليه وربط قلبه به. وأما القدرة على الضبط فقد تعودها منذ طفولته, وعلى المدى الطويل حتى أصبح اليوم في مرحلة البلوغ. وحقيقة أن الدفعة الجديدة -الفوارة الموارة- قد تعصف -إذا تركت وشأنها- بقدرته السابقة على الضبط، وبخشيته السابقة من الله. والإسلام لا يتركها وشأنها حتى تفعل ذلك! فالفطرة -ذات الدفعة الفوارة الموارة- هي الفطرة التي خلقها الله، والإسلام هو دين الله المنزل، المفصل على قد هذه الفطرة. ولم يجعل الله في الفطرة دافعًا قهريًّا يدفع إلى معصيته سبحانه، ثم يحرمه ويطلب من الناس ألا يعصوه! كلا! ليس الأمر كما قال الشاعر الجاهلي الحديث يخاطب ربه: خلقت الجمال لنا فتنة ... وقلت لنا يا عباد اتقون فقد أبرز ذلك الشاعر الجاهلي عنصرًا واحدًا من عناصر الإنسان وهو "الدوافع" أو "الشهوات" وأغفل العنصر الآخر المقابل وهو "الضوابط" التي تضبط تلك الدفعات. والله يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا   1 حين نقول الطفل نقصد الولد والبنت على السواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 1. فيذكر الدوافع والضوابط معًا.. فالذين {اتَّقَوْا} يتعرضون لذات الدوافع كما يتعرض غيرهم من الناس، لأنها مزينة للناس جميعًا ومحببة للناس جميعًا. ولكنهم يستخدمون ضوابطهم، فيصبرون, ويصدقون، ويقنتون، وينفقون ويستغفرون بالأسحار، فيكون جزاؤهم هو الجنات والخلود، والأزواج المطهرة والرضوان من الله. وهكذا يكون الإنسان في صورته العليا، "في أحسن تقويم" لا كما أراده الشاعر الجاهلي مفتونًا بالشهوات. ومنهج التربية الإسلامية وهو يعالج مسألة الجنس التي تفجأ الفتى والفتاة بطاقة دافعة لا قبل لهما بها، يعود إلى نقطة البدء: حب الله وخشيته، والقدرة على الضبط، ثم يثني بأمور أخرى. ومما يلفت النظر أنه في هذا الوقت بالذات تصبح الصلاة والصيام فرضًا, وقد كانت الصلاة من قبل مجرد عادة تؤسس! هنا إشعار للفتى والفتاة بالتكليف الحق من قبل الله، وبالتعرض الحق للثواب والعقاب، وقد كان ما مضى كله مجرد تعويد على التكليف. هذا ضابط من الضوابط يتكأ عليه الآن بالذات، إزاء هذه الدفعة الفوارة الموارة المفاجئة! ولكن للإسلام -كما قلنا- وسائله الأخرى. إن الجنس ليس شحنة جسد خالصة كما يراد تصويره في التفسير الجثماني للمشاعر. ولكنه شحنة نفسية كذلك. بالإضافة إلى الشحنة الروحية التي تصحبه، وسنتحدث عنها قائمة بذاتها فيما بعد. فماذا تريد الشحنة النفسية على وجه التحديد؟ إنها تحدث في نفس الفتى رغبة قوية أن يكون رجلًا، وفي نفس الفتاة رغبة قوية أن تكون أنثى ناضجة. لقد التقينا بهذه الرغبة من قبل في المراهقة قبل البلوغ. ولكنها كانت إلى   1 سورة آل عمران 14-17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 طفولة الأطفال أقرب. أما اليوم فهي جادة وملحة وحقيقية. ثم إن لها -مما طرأ على الجسم من تغيرات- ما يبررها! وهنا أحد الخيوط التي يستخدمها منهج التربية الإسلامية في معالجة المسألة الجنسية. إن تحقيق هذه الرغبة النفسية يفرغ شحنة هائلة، تظل لولا ذلك ملحة ضاغطة، وتأخذ صورة الضغط الجسدي إلى جانب الضغط النفسي. لأن الإنسان -في النهاية- وعاء واحد متحد الكيان؛ وكل ضغط يضغط عليه كله. وكل تخفيف يخفف عنه كله. لذلك يلجأ المنهج الرباني إلى تحقيق هذه الرغبة النفسية بكل الوسائل، فيكون ذلك -من أحد جوانبه- تحقيقًا للكيان الجنسي الجديد، يخفف ضغطه على الأعصاب. والتكليف هو جانب من جوانب ذلك التحقيق! الآن صار الفتى رجلًا.. وكلفه الله التكاليف. أصبح محاسبًا على أعماله منذ اليوم؛ لأنه لم يعد طفلًا بعد الآن! والآن صارت الفتاة أنثى، وتلقت التكليف الرباني، لأنها لم تعد طفلة منذ اليوم. إنه إحساس عميق جدًّا في الجو الإسلامي الحقيقي، يملأ النفس اعتزازًا ويحقق لها كيان النضخ الذي تهفو إلى تحقيقه. والمنهج الإسلامي يضيف إلى التكليف الشرعي حمل التكاليف الدنيوية كذلك. فقد صار الفتى منذ اليوم مسئولًا في البيت وفي المجتمع، لأنه "بلغ مبلغ الرجال" فصار واحدًا منهم، يتصرف مثلهم، ويعهد إليه بالأمور مثلهم. وقد صارت الفتاة مسئولة في البيت -ميدانها الأصيل- لأنها "بلغت مبلغ النساء" ودخلت عالمهن بالفعل فصارت واحدة منهن، يعهد إليها بما يعهد إليهن من أمور. ولا يغفل المنهج بطبيعة الحال أن خبرة الفتى والفتاة محدودة حتى اللحظة. ولكنه يهدف إلى زيادتها وتوكيدها بهذه الطريقة، في ذات الوقت الذي يهدف فيه إلى تحقيق الرجولة للفتى والأنوثة للفتاة، لاستيعاب جانب من شحنة الجنس الفوارة الموارة، وتصريفها عن هذا الطريق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 ثم يلجأ المنهج إلى التربية عن طريق استنفاد الطاقة وشغل أوقات الفراغ، ليستنفد قدرًا آخر من شحنة الجنس. فأما الفتى فيقول له: تعلم السباحة. وتعلم الفروسية. وكلاهما جهد بدني شاق، وكلاهما كذلك من مظاهر الرجولة والقوة والفتوة. ومن هنا يستنفدان قدرًا مزدوجًا من الشحنة: من الجسد والنفس على السواء. وأما الفتاة فيكلفها تدبير البيت ورعاية شئونه. وهو جهد بدني شاق من ناحية. كما أنه من مظاهر الأنوثة الناضجة المستمكنة من أنوثتها1. ومن هنا يستنفد قدرًا مزدوجًا من شحنة الجسد وشحنة النفس على السواء. هذا، والمجتمع الإسلامي كما ذكرنا من قبل خال من الفتنة الهائجة التي تثير الدوافع، وتهيجها إلى درجة السعار الذي يستعصي على الضبط. فلا تبرج يفتن الفتى ويخرجه عن طاقة احتماله. ولا دفعات شيطانية تفتن الفتاة وتوجهها إلى التبرج والاستعراض لتكسب إعجاب الشباب. ولا مناظر خليعة في صحيفة ولا مجلة ولا سينما ولا مسرح ولا إعلان تثير فورة الجسد، ولا أغاني رقيعة تثير كوامن الحيوان، ولا مجال للإثارة من أي نوع، لا بالحركة ولا الإشارة ولا اللفظة ولا التلميح ولا التصريح. هذه النظافة التي يحرص عليها الإسلام حرصًا بالغًا، وتصل كما أسلفنا إلى تحريم الحديث عن الجريمة الخلقية إلا بأربعة شهود، هي جزء رئيسي من منهج التربية الإسلامية في مسألة الجنس. فهو لا يكلف الشباب الضبط ثم يثير دوافعهم إلى المدى الذي لا يقف له إلا أولو العزم من البشر، وهم دائمًا قليل. إنما يجتث الفتنة المثيرة من جذورها قبل أن يكلف الناس الضبط، على طريقته في التكاليف جميعًا. يهيئ لها العدة قبل إصدار الأمر بالتكليف، وقبل المعاقبة على مخالفة التكليف. ثم هو -على طريقته- يساير الفطرة ولكنه يرفعها إلى أفقها الأعلى.   1 هذا في الفطرة السليمة. أما الفطرة المنتكسة في الجاهلية الحديثة التي تنفر من "تهمة" عمل أي شيء في البيت خشية أن تكون رجعية.. فلها حديث آخر! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وفي فطرة الجنسين في تلك الفترة، أو منذ تلك الفترة إلى آخر العمر، أن يسعى كل جنس إلى الحصول على إعجاب الجنس الآخر. والله هو الذي خلق هذا الدافع على هذه الصورة لحكمة يريدها: يريد أن يبذل كل جنس جهده في رفع طاقته إلى أقصى مدى ارتفاعها قبل أن يحدث التزاوج، حتى إذا حدث كان الزوجان في قمة نشاطهما وحيويتهما وتهيئهما لهذا الحدث الضخم. والجاهلية تحول هذا الدافع -بالنسبة للفتاة خاصة- إلى عملية استعراض جسدي على المستوى الأدنى، والإسلام يحوله إلى مستواه الأرفع. ذلك أن الجاهلية تريد الجسد وحده، والإسلام يريد "الإنسان" بكيانه كله. الإنسان {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . فحيث تدفع الجاهلية الفتاة إلى تعرية جسدها، والتفنن كما تقول صحف الجاهلية في إبراز مفاتنها، لتنال إعجاب الشباب، بعد أن تكون تلك الجاهلية قد ربت هذا الشباب بالفعل على صورته الحيوانية: صورة الإعجاب بالجسد العاري ومفاتنه المبذولة, وتلقي الحياة كلها من طاقة الجنس وحده، فإن الإسلام يجعل وسيلة الفتاة إلى الحصول على إعجاب الشباب هي المحافظة الشديدة على أخلاقها، وعدم التفريط فيها بأية صورة من الصور، كما يجعل وسيلتها حسن إدارة البيت وحسن التهيؤ للأمومة، التي هي أعظم وظائفها وأخطرها، بعد أن يكون قد ربي الشباب بالفعل على الإعجاب بالقيم الخلقية و"الإنسانية" في المرأة، ونفره من فتنة اللحم العاري المبذول. والأمر كذلك من الجانب الآخر، جانب الشاب. فحيث تربيه الجاهلية الحديثة على التميع والتطري والتقصع والتفاهة والسطحية، وتربي الفتاة على الإعجاب به في هذه الصورة الزرية المتدنية، يربيه الإسلام على الرجولة الحقة. على الجد والشهامة والكرامة. والقوة والفروسية والصلابة. والقدرة النفسية والبدنية على تحمل المسئوليات والنهوض بها. ويربي الفتاة -على فطرتها الأصيلة- على الإعجاب به في هذه الصورة المستعلية. وبذلك يستخدم المنهج الرباني خيوط الفطرة في رفع الإنسان إلى أعلى درجاته، في الوقت الذي تستخدم الجاهلية ذات الخيوط لتهوي بالإنسان إلى الدرك الأسفل من الحيوانية! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} 1. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2. وثمت خيط آخر من خيوط الفطرة يستخدمه المنهج الرباني. ففي هذه الفترة التي تنفجر فيها شحنة الجنس، تنفجر شحنة روحية عجيبة، شفافة صافية مشرقة، ربما تكون في حس الجاهلية متناقضة مع شحنة الجنس بصورتها "الأرضية" الحسية الغليظة المعتمة. وحين ينظر إلى الجنس على أنه شيء مستقذر، تكون شحنة الروح بالفعل متناقضة معها، ومحيرة في تناقضها. أما حين يؤخذ الأمر من وجهة الفطرة السليمة فلا تناقض. فلا شيء في الفطرية السليمة مستقذر. ثم إن الإنسان -في النهاية- وحدة متكاملة تشمل الروح والجسد على السواء، ولا عجب أن تنطلق شحنة الجسد وشحنة الروح في وقت واحد وعلى صعيد واحد. إن مرحلة البلوغ هي مرحلة بداية النضج. يتفجر فيها الكيان البشري بكامله. لينضج بكامله. ومن هنا يتم -في بناء الفطرة السليم- انطلاق شحنة الجسد وشحنة الروح في دفعة واحدة. وإذا كان الطفل في الفترة السابقة ينمو على دفعات. مرة ينمو خياله ومرة تنمو واقعيته. مرة تنمو عضلاته ومرة تنمو عظامه. مرة تنمو قدرته على تعلم اللغة -أي لغة، وأي عدد من اللغات- ومرة تتوقف هذه القدرة أو تبطئ وتنمو قدرته على جمع المعلومات. إذا كان الأمر كذلك في الطفولة -مع عدم التوقف التام في الحقيقة في أي عنصر من العناصر، إنما هي مسألة تبادل نسبي في معدلات النمو المختلفة- فإنه الآن -في مرحلة البلوغ- تنطلق معدلات النمو كلها تقريبًا دفعة واحدة. فيحدث نمو سريع في كل اتجاه. ومن بين هذه الاتجاهات المختلفة، المتكاملة في ذات الوقت، تنطلق شحنة الجسد وشحنة الروح معًا في آن.   1 سورة البقرة 138. 2 سورة المائدة 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وإن في ذلك لعبرة للجاهلية التي تهمل شحنة الروح وتحاول جهدها أن تكبتها، لتطلق العنان لشحنة الجسد وحدها، فتنطلق في سعار محموم لا يعرفه حتى الحيوان، الذي تلهمه غريزته متى يبدأ ومتى يكف، بينما يبدأ الإنسان في الجاهلية ثم لا يكف أبدًا. كالمجنون. وإن فيه لعبرة أخرى للجاهلية. فحين تنطلق في الفطرة السوية شحنة الجنس، لتؤدي دورها المطلوب في الحياة، تنطلق معها شحنة الروح "لتضبطها" وتسيطر عليها، لكي لا تنطلق كالحيوان! ثم إن فيه لعبرة ثالثة للجاهلية، إن شحنة الجنس ليست جسدًا ينزو كالحيوان، إنها تنطلق من كيان النفس بأجمعه بما في ذلك الروح. أو قل إن شئت إن الفطرة السوية لا تسمح أن يتصرف الإنسان بجسده وحده، إنما هي -بحكم التكوين السوي ذاته- تفرض عليه أن يتصرف بكل كيانه في وقت واحد. فينصرف بعقله وجسمه وروحه جميعها في آن. هذه الشحنة الروحية التي تتفجر في مرحلة البلوغ تأخذ صورة مشاعر دينية صافية رائقة شفافة، تجنح ببعض الشباب أحيانًا إلى الصوفية، ما لم يتداركها المربي بالتوجيه الصحيح. كما تأخذ صورة مثل عليا شاملة، وأحلام "بعالم المثل" تجنح ببعض الشباب أحيانًا إلى أحلام اليقظة ما لم يتداركها المربي بالتوجيه الصحيح. كما تأخذ صورة حنين مبهم إلى الجنس الآخر، تجنح ببعض الشباب إلى المشغلة العاطفية ما لم يتداركها المربي بالتوجيه الصحيح. وإذا تخيلنا -لمجرد التقريب- أن الإنسان روح وعقل وجسم، وأن شحنة الروح المنطلقة قد امتدت واتسعت حتى ضمت هذا الكيان كله وشملته، فإنها من حيث انطلقت مع خطها الأصيل تأخذ صورة المشاعر الدينية، ومن حيث لامست العقل تأخذ صورة "عالم المثل" ومن حيث لامست الجسد بشحنته الفائرة تأخذ صورة هذا الحنين المبهم إلى الجنس الآخر، وأحلام اللقاء. وبذلك تشمل الكيان البشري كله بإشعاعاتها الصافية. وهنا الفرصة الذهنية للمربي الحكيم أن ينتهز فرصة انطلاق هذه الشحنة الروحية الهائلة ليعيد تشكيل النفس التي بين يديه على وضعها الصحيح, إن كان ذلك قد فاته في الطفولة لسبب من الأسباب، أو يثبت هذا الكيان في صورته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 السليمة إن كان قد سار في طريقه السليم من قبل، فيعمق كل القيم والمبادئ السابقة ويزيدها رسوخًا. إن هذه العاطفة الدينية تأتي في موعدها المناسب، مع بدء التكليف الرباني، لتصل القلب بالله، وتربطه به برباطي الحب والتقوى، فلا ينقطع هذا الرباط بعد ذلك أبدًا حين تجد الأحداث ويضرب الإنسان في خضم الحياة يلتقي بأزمات تلو أزمات. والمربي المسلم بطبيعة الحال ينمي هذه المشاعر الدينية ويوثقها، بمراقبة قيام الفتى "والفتاة" بشعائر العبادة، وبالتشجيع على تأدية بعض النوافل. وبقراءة القرآن والتعرف على بعض معانيه ومراميه، والحياة في ظله فترات متقاربة أو منظمة دائمة، واستجاشة المعاني الدينية في الإحسان إلى الفقراء ومساعدة الضعفاء وكفالة المحتاجين، والتزاور والالتقاء على حلقة دراسة دينية بين الحين والحين، والحديث المستفيض عن الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة الأولى: كيف كانت حياتهم ترجمة صادقة لمبادئ الإسلام وقيمه. وذكر نماذج حية من البطولات الإسلامية في كل مجال. فهذه بالذات هي فترة الإعجاب الشديد بالبطولة، والرغبة في الاقتداء بها. وعلى هذا المنهج ينمي المربي المشاعر الدينية ويتلافى كذلك تحولها إلى مشاعر صوفية، قد تكون شفيفة ولكنها سلبية، تأخذ بعض معاني الإسلام ولكنها تهمل أهم ما فيه: الإيجابية الواقعية الفاعلة في واقع الأرض. وأما النزعة المتسامية إلى المثل العليا فعلى المربي أن يستغلها كذلك بتمامها. لقد كانت الفترة السابقة مباشرة -قبل البلوغ- فترة تكون بعض المثل العليا على المستوى الاجتماعي، ولكن في نطاق "المجموعة" التي ينتمي إليها الطفل، أو في نطاق صداقاته الخاصة. أما الآن فإن المثل العليا تتكون على المستوى "الإنساني" كله، وشاملة لجميع القيم بلا استثناء. إنها حلم "بعالم المثل" الذي تتحقق فيه كل المثاليات. وكما كان للمشاعر الدينية آفاقها العالية واحتمالات انحرافها، فكذلك لأحلام المثل هذه آفاقها واحتمالات انحرافها. ومهمة المربي دائمًا أن يأخذ الآفاق العالية ويتلافى الانحراف. فهنا ينبغي تشجيع هذه المثل التي تأتي طواعية من داخل النفس بلا جهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 في إنشائها. ولكن الجهد المطلوب ينبغي أن يبذل في تحويلها إلى حقيقة واقعة، والحيلولة بينها وبين أن تصبح أحلام يقظة تستهلك الطاقة النفسية المخصصة لها بغير أن تثمر ثمرة! وهو جهد غير قليل. ولكنه واجب وضروري، وإلا تحولت إلى قوة معطلة بدلًا من أن تصبح قوة دافعة. فإذا تعود الفتى و"الفتاة" على أحلام اليقظة فإنه يستسهل حل أزماته ومشكلاته -خيالًا- عن هذا الطريق السهل، ولا يتحرك لحلها حلًا واقعيًّا على الطبيعة، كما يفعل مدمن المخدرات، يتخيل في لحظة "نشوته" أنه قادر على حل مشكلات الأرض كلها لو عرضت عليه. فما الداعي إذن لأن يجهد ذهنه في حلها الآن، ما دام سيحلها -في حينها- بإشارة واحدة من يده؟! وقد يكون طفلك فنانًا موهوبًا أو مفكرًا فيركز في تلك الفترة على التأمل الصامت الذي يشبه أحلام اليقظة. ولكن لا تخاطر بتركه لتأملاته على أمل أن يصبح فنانًا أو مفكرًا! إنه إن كان كذلك حقًّا فستغلب عليه نزعته فيما بعد؛ ولكن عليك أن توقظه دائمًا من أحلامه تلك، بتكليفه بأمور يقضيها بوعيه الكامل، تستغرق وقته وجهده، وبتقليل فرص خلوه إلى نفسه منفردًا بقدر الإمكان. على أنه لا يمكنك -وليس من المصلحة- إطفاء شعلة الخيال إطلاقًا وكفها عن العمل. إن جزءًا من هذه الأحلام مفيد فلا تحاول قتله. فإذا لم يتخيل صبيك صورة مثالية للحياة البشرية فلن يسعى إلى تحقيقها في ذات نفسه ولا في غيره. والمربي المسلم بصفة خاصة يملك فرصة لا يملكها غيره من المربين، هي أن يشبع هذه الأحلام بمثل واقعية من سير الجماعة المسلمة الأولى، التي يلتقي فيها الواقع بالمثال، فتستوعب نزعة الأحلام في نفسه، وفي ذات الوقت تضع أمامه قدوة واقعية يحاول محاكاتها فيكون بذلك الخير. وأما ذلك الحنين المبهم إلى الجنس الآخر فلا ضير فيه إلا أن يتحول إلى مشغلة عاطفية، عندئذ ينبغي على المربي أن يصرف صبيه عنه باستنفاد الطاقة الفائضة وشغل الوقت الفائض في عمل نافع: العبادة والذكر والدراسة والرحلات والمعسكرات "للصبيان" والالتقاء بالآخرين المشغولين بجديات الأمور ومشاركتهم في جديات أمورهم. والأمر كذلك مع الصبية ولكن في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 نطاق فطرتها السوية، في تدبير شئون البيت ورعاية من يكون فيه من الصغار، ومساعدة الأم في تبعاتها ومشاغلها وجهدها. ثم إن النظام الإسلامي -بعد هذا التهذيب كله, وهذا الضبط كله, وهذا التحويل للطاقة إلى أبواب الخير النافعة وإلى بناء الكيان النفسي على صورة سليمة- لا يهدف أبدًا إلى جعل ذلك كله بديلًا من الاستجابة الفطرية لدافع الجنس! كلا! إنما ذلك كله تمهيد للاستجابة الفعلية ولكن بعد الضبط والتنظيف والتصعيد، حتى يأخذ ذلك الدافع مساحته الطبيعية بلا زيادة، ولا يصبح -الآن ولا بعد الآن- مشغلة للحس والنفس. فإنما خلقه الله في الفطرة ليؤدي مهمته ولكن لا ليعطل الدوافع الأخرى أو يشغلها عن وجهتها. لذلك يدعو الإسلام -بعد هذا الجهد كله- إلى التعجيل بالزواج والتبكير فيه. ويرتب شئونه كلها -الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، والروحية، والتربوية -لتهيئة هذا الأمر في أيسر صورة، ولا يقيم حاجزًا واحدًا أمام تنفيذه، ولا يجعل شيئًا من الأشياء يحول دونه، إلا في الظروف القهرية التي تستعصي على الحل، وهنا يستخدم مزيدًا من الضبط: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 1. "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" 2. ومع ذلك يجعل الدولة مكلفة -من بيت المال- بإعانة من تحول ظروفه المالية دون إتمام ذلك الأمر الذي لا ينبغي أن يحول دونه شيء. كما يجعل عدم المغالاة في المهور جزءًا من توجيهاته للمسلمين، ويجعل زخرف الحياة وزينتها أمرًا خفيف الوزن في نفوسهم، فلا تقوم ضخامة المهر أو ضخامة تكاليف التأثيث عقبة في سبيل إتمام الزواج. وبذلك كله تتيسر المهمة، بعد أن تكون النفوس قد أخذت حظها من التهذيب والضبط والارتفاع. فما إن يبلغ الفتى مرحلة الشباب، وما إن تستكمل   1 سورة النور 33. 2 أخرجه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 الفتاة نضجها النفسي والعاطفي "وهي أسرع نموًا من الشاب في هذا الشأن" حتى تكون الأمور كلها قد تهيأت للتنفيذ. وما نقول -مع ذلك- إن الفترة التي تنقضي ما بين تفجر الطاقة الجنسية في كيان الفتى والفتاة، وما بين الاستجابة العملية لهذا الدافع، وهي تستغرق سنوات تطول أو تقصر. ما نقول إنها فترة هينة لينة ميسرة غاية اليسر! ولا إنها خالية من المشقة والجهد والمعاناة. كلا! ما نقول ذلك وما بنا أن نقوله. لقد أسلفنا أن الحياة كلها جهد ومشقة، وكبد وكدح. ولن تكون غير ذلك. فلئن كانت مشقة هذه الفترة هي الصبر على دوافع الجنس حتى يستجاب لها في صورة مشروعة، فإن مشقة الفترة التالية هي ما يترتب على هذه الاستجابة ذاتها من مطالب وتكاليف! كلا! إنه لا يتم شيء في الأرض بلا مشقة! ثم إنه -كما قلنا- لا تستقيم الحياة في صورتها الصحية السليمة إلا ببذل الجهد وتحمل المشقة، وإلا ترهلت النفوس وفسدت الأرض! وإنما الذي نقوله إن الإسلام -وهو يكلف الناس الضبط في هذه الفترة، التي يعمل على تقصيرها لا إطالتها- يضع الضمانات كلها: التشريعية والتنظيمية والتوجيهية، لكي يكون الضبط أمرًا مستطاعًا في حدود الطاقة، ولا يكون أمرًا خارجًا على الطاقة. فهو إذ يعترف بالدافع الجنسي نظيفًا طاهرًا بادئ ذي بدء يحول دون نشأة الكبت المتعب للأعصاب والنفوس. وإذ يجعل المدى إلى التنفيذ الفعلي قريبًا وميسرًا يجعل في القلب طمأنينة إلى تحقيقه. وإذ ينظف المجتمع من الفتنة الهائجة والمثيرات الجنونية لا يجعل هذا الدافع في حالة هياج مستمر مسعور. وإذ يستنفد جزءًا كبيرًا من الشحنة النفسية والجسدية في تربية الفتى على الرجولة الحقة, والفتاة على الأنوثة الحقة يخفف كثيرًا من ضغط هذه الشحنة على الأعصاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وإذ يستجيش المشاعر الدينية -وهي مستجاشة بصورة تلقائية- ويربط بين القلب البشري وبين الله برباط الحب والتقوى. فإنه يحبب للإنسان الطاعة، وييسر عليه احتمال المشقة في سبيلها. وإذ يستنفد جزءًا من الطاقة وجزءًا من الوقت في محاولة تحويل نزعة المثل العليا إلى واقع، وممارستها في عالم الواقع، فإنه يوجد مشغلة فعلية تشغل الإنسان عن دوافع الجنس الملحة، وتصرفه إلى مجالات أخرى بناءة. وإذا يتكاتف البيت المسلم والشارع المسلم والمدرسة المسلمة والمجتمع المسلم على هذه الأمور كلها، كل في حدود طاقته وفي مجال اختصاصه، فإن الأمر يصبح في النهاية ميسرًا إلى أقرب درجة مستطاعة من اليسر، وتكون المشقة في حدود الطاقة وحدود الاحتمال، فتكون مشقة بناءة هادفة، متمشية مع طبيعة الفطرة، معينة على استكمال بنائها. وبذلك كله لا يصبح الجنس "مشكلة" في المنهج الرباني. إنما يصبح فقط -ككل شأن آخر- مسألة في حاجة إلى قدر من الجهد لضبطها وتنظيمها، كما ينبغي لكل شيء في حياة الإنسان، الذي يتميز بالضبط والتنظيم الواعي عن سائر ما على الأرض من كائنات! إنما يكون الجنس مشكلة حقيقية في الجاهلية! فالجاهلية بسوء توجيهها وسوء تصريفها -المتعمد أو الذي تنساق إليه بحكم جهلها وانحرافها- هي التي تجعل من هذا الأمر الطبيعي في حياة البشرية مشكلة تستعصي على الحل. إنها منذ البدء تنشئ الإنسان تنشئة خاطئة منحرفة، تجعل كل الدوافع الفطرية عرضة للانحراف. ومع أنها تبذل الجهد -بطريقة معجبة- في ضبط بعض هذه الدوافع وتهذيبها، فإنها -عمدًا أو جهالة- تترك بعضها الآخر بغير تهذيب ولا ضبط، وفي مقدمتها -في الجاهلية الغربية- شهوة الجنس وشهوة المال وشهوة السيطرة والسلطان "التي تأخذ صورة سيطرة رأس المال" وفي الجاهلية الشرقية شهوة الجنس وشهوة السلطان مع حصر هذه الأخيرة في يد "الحزب" أو "الدولة" أو "الزعيم" المقدس صاحب السلطان! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 والجنس -كما هو ظاهر- عامل مشترك في الجاهليتين معًا. وإن كان يأخذ من الوجهة "التنظيمية" صورة خاصة في هذه وتلك. تلتقي الجاهلية كلها على إهمال القيم الدينية "أو نبذها نبذًا مطلقًا كما في الشرق" وعدم العمل على ضبط الدافع الجنسي ولا تهذيبه، وعلى ملء المجتمع بكل ألوان الإثارة الفاجرة في المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة والصحيفة والمجلة والإعلان والمكتب والمصنع والطريق. ثم تلتقي كلها على تيسير الفاحشة وتهيئة كل الوسائل لها، سواء أتاحت الزواج الصوري في مكاتب الزواج كما تفعل الجاهلية الشرقية، أم تركته "رباطًا مقدسًا" ووضعت في سبيله العراقيل كما تفعل الجاهلية الغربية. والنتيجة النهائية أن تغرق البشرية في الفاحشة وفي سعار الجنس المحموم، وأن تصبح علاقة الجنسين علاقة حيوانية هابطة، تضم جسدين هائجين ولا تعرف إشراقة الروح. ونحن، في جاهليتنا المعاصرة، بحكم ظروفنا التاريخية في القرنين الأخيرين، والقرن الأخير خاصة، نتبع في موقفنا تجاه المسألة الجنسية جاهلية الغرب في الأغلب، نقول ما تقول، ونفعل ما تفعل، ونحتج بما تحتج به، وإن كان فينا من يتبع جاهلية الشرق ويدعو إليها. يقول الكاتب الأمريكي "ول ديوارانت" في كتابه "مباهج الفلسفة": "فحياة المدينة تفضي إلى كل مثبط عن الزواج، في الوقت الذي تقدم فيه إلى الناس كل باعث على الصلة الجنسية وكل سبيل يسهل أداءها. ولكن النمو الجنسي يتم مبكرًا عما كان من قبل، كما يتأخر النمو الاقتصادي. فإذا كان قمع الرغبة شيئًا عمليًّا ومعقولًا في ظل النظام الاقتصادي الزراعي، فإنه الآن يبدو أمرًا عسيرًا وغير طبيعي في حضارة صناعية أجلت الزواج حتى بالنسبة للرجال حتى لقد يصل إلى سن الثلاثين. ولا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة، وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان في الزمن القديم؛ وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضعًا للسخرية؛ ويختفي الحياء الذي كان يضفي على الجمال جمالًا، ويفاخر الرجال بتعداد خطاياهم، وتطالب النساء بحقها في مغامرات غير محدودة على قدم المساواة من الرجال، ويصبح الاتصال قبل الزواج أمرًا مألوفًا، وتختفي البغايا من الشوارع بمنافسة الهاويات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 لا برقابة البوليس. لقد تمزقت أوصال القانون الأخلاقي الزراعي، ولم يعد العالم المدني يحكم به"1. "ولسنا ندري مقدار الشر الاجتماعي الذي يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسئولًا عنه.. ولكن معظم هذا الشر يرجع في أكبر الظن في عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعي للحياة الزوجية. وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعود قبله. وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة. وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه في عالم خلقه الإنسان2. وهذا هو الرأي الشائع لمعظم المفكرين في الوقت الحاضر. غير أنه من المخجل أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية، وهي تعرض علينا في المسارح وكتب الأدب المكشوف، تلك التي تحاول كسب المال باستثارة الرغبة الجنسية في الرجال والنساء المحرومين -وهم في حمى الفوضى الصناعية- من حمى الزواج ورعايته للصحة3. "ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة. لأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر. ويجد الرجل لإرضاء غرائزه الخاصة في هذه الفترة من التأجيل نظامًا دوليًّا مجهزًا بأحدث التحسينات، ومنظما بأسمى ضروب الإدارة العلمية. ويبدو أن العالم قد ابتدع كل طريقة يمكن تصورها لإثارة الرغبات وإشباعها"4. "ويقبل الحب فلا يجرؤ الشباب على الزواج وجيوبه صفر من المال، ثم يطرق الحب مرة أخرى باب القلب أكثر ضعفًا "وقد مرت السنوات"   1 ص126-127 ج1. ويلاحظ أنه يتخذ نفس الموقف الذي يتخذه التفسير المادي للتاريخ في ربط التمسك بالأخلاق بالمجتمع الزراعي، وربط التخلي عن الأخلاق -في مسائل الجنس خاصة- بالانتقال إلى المجتمع الصناعي! ونحن -بالتالي- نصنع نفس الشيء! ونندد بالتقاليد "البالية! " التي تفرض على المرأة المحافظة على العفة، ونعدها من مخلفات الماضي السخيفة التي ينبغي أن نترفع عنها "! " في المجتمع الصناعي " المتطور" كأنما "التطور" يقتضي حيوانية الإنسان وارتداده عن إنسانيته!! 2 أي: في منهج جاهلي صنعه الإنسان بنفسه بعيدا عن هدي الله، ورافضًا للاهتداء بهدي الله. 3 ألف هذا الكتاب سنة 1929، وقد زاد العدد أضعافًا مضاعفة بعد ذلك! 4 ص127-128 ج1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 ومع ذلك لم تمتلئ الجيوب بما يكفي للزواج. ثم يقبل الحب مرة أخرى أضعف حيوية وقوة عما كان من قبل "وقد مرت سنوات" فيجد الجيوب عامرة، فيحتفل الزواج بموت الحب. "حتى إذا سئمت فتاة المدينة الانتظار اندفعت بما لم يسبق له مثيل في تيار المغامرات الواهية. فهي واقعة تحت تأثير إغراء مخيف من الغزل والتسلية وهدايا من الجوارب وحفلات من الشمبانيا في نظير الاستمتاع بالمباهج الجنسية. وقد ترجع حرية سلوكها في بعض الأحيان إلى انعكاس حريتها الاقتصادية1. فلم تعد تعتمد على الرجل في معاشها، وقد لا يقبل الرجل على الزواج من امرأة برعت مثله في فنون الحب. ولكن قدرتها على كسب دخل حسن هو الذي يجعل الزوج المنتظر يتخلى عن تردده. إذ كيف يمكن أن يكفي أجره المتواضع للإنفاق عليهما معا في مستواهما الحاضر من المعيشة؟ 2. وهذا الذي يقوله "ول ديورانت" وصف صادق لما يجري في الجاهلية الغربية، والذي زادت نسبته اتساعًا منذ ألف كتابه هذا سنة 1929! وإن كانت كل المبررات التي يسوقها مبررات جاهلية بحتة، يمكن أن تفسر الواقع ولكن لا يمكن بحال أن تبرره. فليس فيها ضرورة واحدة "حتمية" كما يزعم التفسير المادي "الجاهلي" للتاريخ. إنما هي كلها ضرورات مفتعلة تسير حسب المخطط الشرير لإفساد البشرية. ونحن نتبعهم في كل ما صنعوه، بل نجري وراءهم لاهثين خشية أن يكون قد فاتنا قدر من انحرافاتهم لم نفعله، فنكون رجعيين ومتأخرين بذلك القدر! نصعب الزواج بكل وسائل التصعيب، ونطلق وسائل الإثارة بأقصى ما في طاقتنا من جهد. ثم يروح "علماؤنا" و"مفكرونا" و"كتابنا" والمشرفون على وسائل الإعلام منا، يناقشون "مشكلات الشباب"! المشكلات التي صنعناها لهم نحن بأيدينا باتباع مناهج الجاهلية! ثم يبحثون عن الحلول..   1 مرة أخرى يأخذ المؤلف -الأمريكي- موقف التفسير المادي للتاريخ، ويربط بين "حرية" التحلل للمرأة وبين استقلالها اقتصاديًّا! 2 ص223 ج1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وماذا تكون الحلول، وكيف تكون -ما دمنا نسير في ركاب الجاهلية- إلا ما وصلت إليه تلك الجاهلية قبلنا من حلول؟! لا بد أن نطلق "الحرية" الجنسية للشباب، حتى لا يصيبه "الكبت"، ولا تتبدد طاقته الحيوية في الاضطرابات النفسية والعصبية التي يصنعها الكبت! نفس القولة التي قالتها الجاهلية هناك. انسياقًا وراء المخطط الشرير. أما أن نسعى إلى تنظيف الحياة "الإنسانية" من الهبوط الحيواني المزري الذي تعيش فيه، وتنظيف وسائل الإعلام من القذر المنتن الذي تخلطه الجاهلية "بالفن" وتناول الجنس بصورته الفطرية السوية التي تجمع شحنة الجسد وشحنة الروح في كيان واحد، وتيسر الزواج في سنه الطبيعية بدلًا من تيسير الفاحشة في تلك السن. أما هذا كله فلا نصنعه ولا نفكر فيه. يا لله! أنكون رجعيين إلى حد النظافة؟!! نظافة الحس والشعور والسلوك والتفكير؟! ويقول العالم عنا إننا متأخرون، نفكر بنظافة الدين، في وسط القذارة الشاملة التي تنشئها الحضارة الجاهلية في القرن العشرين؟!! كل شيء إلا هذه التهمة الشنيعة التي لا يطيقها على نفسه إلا رجعي متطهر يريد أن يخالف فطرة الحيوان! {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 1. وكذلك صارت سخرية المساخر في الجاهليات القديمة هي الشعار الذي ترفعه الجاهلية الحديثة بلا تحرج ولا تأثم ولا خجل ولا مداراة. ومتى كان الخجل من صفات الحيوان؟! والذين يريدون التربية الإسلامية في هذا المجتمع الجاهلي يدفعون الضريبة مضاعفة! إنه يجدون الطريقة مسدودًا أمامهم لتنفيذ المنهج الرباني، في الوقت الذي تلاحقهم الجاهلية بكل وسائل الإثارة المحمومة في الشارع وفي المجتمع   1 سورة الأعراف 82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 على اتساعه، وتضغط على حسهم وأعصابهم بصورة لا يصمد لها إلا أولو العزم من البشر وهم دائمًا قلة. بينما "التيسيرات" التي تتيحها الجاهلية لأبنائها هي تيسيرات مرفوضة في حسهم أصلًا، لأنها تيسيرات دنسة هابطة لا يرضى عنها الله ورسوله، ولا تليق بـ"الإنسان" الذي كرمه الله. والذين يريدون الله ورسوله، ويريدون أن يطبقوا المنهج الرباني في الأرض وفي ذوات أنفسهم، لأن هذا هو مقتضى إسلامهم، ولا يكون لإسلامهم بدونه معنى.. هؤلاء لا يمكن أن يستبيحوا لأنفسهم الفاحشة استجابة لضغط الجاهلية، لأنهم إذن يعلنون انتصار الجاهلية في ذوات أنفسهم على العقيدة، وانتصار الباطل على الحق، وانتصار الشيطان على الإيمان. وإن حياتهم لتصبح قطعة من العذاب.. والجاهلية تؤزهم أزًّا ثم تسد أمامهم كل طريق نظيف، ولا تفتح أمامهم إلا الطريق الواحد الذي حرمه الله ورسوله. وهذه المشقة البالغة التي يجدونها في حياتهم هي المقصودة بالذات في المخطط الشرير لإفساد البشرية، حتى لا يفلت الناس من الضغوط الهائلة التي تدفعهم إلى الجريمة, ولا يجدوا طريق النظافة ميسرًا حتى لا يبطل مفعول المخطط الشرير. وفي لمحة من لمحات الوحي قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر" 1. وإنه لهو هذا الزمان الذي نعيش فيه. ولا حيلة مع ذلك ولا خيار. إنه إما الصبر على هذا الجحيم الأرضي الذي تصنعه الشياطين في الأرض، وإما إعلان الهزيمة وانتصار الشيطان! وليعلم كل مسلم يريد أن يطبق منهج الله في الأرض وفي ذات نفسه أن معركته مع الجاهلية في هذا الشأن ليست معركة "أخلاقية" وإنما هي معركة عقيدة. الجاهلية تريد أن تفتنه عن عقيدته ذاتها. تريد أن تقول له - بلسانها أو   1 أخرجه الترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 بفعلها سواء- إن ما أنزله الله وأمر به إنما هو أمور "مثالية" غير قابلة للتطبيق! وإن "التطور" -الذي هو قوة "حتمية"! - يجعل من المستحيل تطبيق المنهج الرباني الذي أمر الله بتطبيقه! كأنما كان الله -سبحانه وتعالى عما تقوله الجاهلية علوًّا كبيرًا- يجهل وهو ينزل منهجه ويأمر باتباعه إلى آخر الزمان، أنه سيأتي تطور "حتمي! " يمنع تطبيق منهجه، ويجعل أوامره -سبحانه- غير ذات موضوع! إنها معركة عقيدة. إما أن يخوضها المسلم بروح الجهاد في سبيل الله وسبيل العقيدة، وإما انتصار الجاهلية في ذات نفسه وانتصار الشيطان. وإنها لمعركة عنيفة وشاقة ومرهقة ما في ذلك شك. ولكن جزاءها كذلك هائل وضخم إنه الجنة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وفي سبيل هذا الجزاء الضخم يخوض المسلم معركته مع الجاهلية، ويستمد من الله العون للانتصار فيها على ذات نفسه وعلى كيد الشيطان. ولن يناله "الكبت" الذي يخوفونه منه! إن الكبت ينشأ أصلًا من استقذار الدافع الفطري. والإسلام لا يستقذر دوافع الفطرة، إنما يستقذر الهبوط بها إلى مستوى الحيوان، بغير ضوابط الحيوان الفطرية التي تقف به دون حد الهلاك. لذلك يقول القرآن عن أولئك الهابطين: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} 2. كالأنعام في ظاهر السلوك. ولكنهم أضل في الحقيقة. فالحيوان يتبع فطرته كما خلقها الله، والإنسان الهابط يخالف الفطرة السوية، ثم لا يجد ما يقف به دون حد الهلاك! والتربية الإسلامية تشد الإنسان من خيط الرفعة، ولا تترك ثقلة الدوافع تجذبه إلى أسفل فيكون أضل من الحيوان.. ولا تكبت دوافعه مع ذلك وإنما تهذبها وتضبطها..   1 سورة السجدة 17. 2 سورة الأعراف 179. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 وفي المجتمع المسلم تكون المسألة ميسرة برغم ما فيها من جهد؛ لأنه الجهد الواقع في حدود الطاقة، والضروري في ذات الوقت لمنع الفطرة من الترحل والتفكك والانحلال. أما في المجتمع الجاهلي، وبصورته التي هو عليها في جاهلية القرن العشرين خاصة، فالأمر غاية في المشقة، ومجهد أشد الجهد. ولكنه مع ذلك غير داخل في دائرة الكبت. لأنه لا صلة له باستقذار الدافع الجنسي الفطري، الذي خلقه الله ليعمل، لا ليكبت ولا ليستقذر. ولكنه رسم له حدودًا مشروعة، علم الخالق الحكيم أنها هي المأمونة التي لا تؤدي إلى الدمار للفرد أو المجتمع سواء. وحين يتعرض الإنسان في معركة من أجل العقيدة إلى ألوان من الحرمان: الحرمان من المال أو المكانة أو الأمن أو السلامة، وقد يصل الأمر به إلى الحرمان من الحياة. فإن حرمانه من حقه الرباني المشروع من الجنس لا يزيد على أن يكون أحد ألوان الحرمان التي يتعرض لها في معركة العقيدة. والحرمان كله مشقة وجهد. والحرمان من الجنس مشقة كذلك وجهد. ولكنه يبذلهما في سبيل الله، ويتلقى عليهما الجزاء من الله، ويقضي حياته بما فيها من جهد زائد عن الحد، عالمًا بأن الجاهلية هي التي تجهده وتشقيه ببعدها عن منهج الله، وراضيًا بدوره في معركة العقيدة، أنه مضمون الجزاء عند الله، وأنه هو السبيل الذي لا سبيل غيره لتغيير الواقع السيئ الذي تعيشه الجاهلية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1. وسبيل المربي إلى صيانة فتاه وفتاته عن أقذار الجاهلية الدنسة لن يكون سبيلًا بحال من الأحوال. فدفعة الجنس الفوارة لها ضغطها على الأعصاب. وبعد الأمل في الزواج القريب له ضغطه على الأعصاب. والمثيرات المجنونة في الشارع والمجتمع والصحافة والسينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون والكتاب لها ضغطها على الأعصاب.   1 سورة الرعد 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 والمغريات الميسرة لها ضغطها على الأعصاب. والقدوة السيئة في المجتمع كله، صغيره وكبيره، لها ضغطها على الأعصاب. ولا حيلة للمربي في ذلك كله؛ لأنه لا يستطيع أن يغير شيئًا منه. إنما حيلته الوحيدة أن يقوي الجسور في البنيان النفسي لفتاه وفتاته لكي تقاوم الفيضان! وسيلته هي تعميق الإحساس بالله في نفس الشخص الذي يربيه -فتى كان أو فتاة- وأن يحاول أن يجعل حب الله ورسوله أثقل في قلبه من ضغط المجتمع كله، وطاعة الله ورسوله أحب إليه من طاعة المجتمع كله. ووسيلته أن يكون "صديقًا" لمن يربيه، وأن يجعل الصلة التي تربطه بالبيت أقوى وأثقل من الصلة التي تربطه بالمجتمع، وأن تكون صلة المودة بين الولد وأبيه، وبين الفتاة وأمها كافية "للمكاشفة" التي يمكن عن طريقها تصفية الضغط الزائد عن الحد، والتوجيه إلى اجتناب ما تغرق فيه الجاهلية الدنسة من الأوزار. ووسيلته هي شغل الوقت في الطاعات والعبادات، والدراسات النافعة الشاغلة عن تفاهات الجاهلية وقذاراتها، واستنفاد الطاقة فيما يقوي الجسد على احتمال الجهد, ويقوي الروح على مقاومة الغواية. ووسيلته هي الغسيل اليومي الدائم لأدران المجتمع الجاهلي قبل أن تلصق بالنفس. وبعد ذلك فقد يثمر هذا الجهد كله ثمرته المطلوبة.. وقد يقصر ... وفي كلا الحالين لا خيار. إنه لا بد من بذل الجهد. والثمرة من عند الله! ومن "مخاطر" تلك الفترة كذلك القابلية الشديدة للاستهواء. ففي هذا السن يكون الفتى والفتاة قابلين للاستهواء بسهولة، لمن هم في سنهم، ولمن هم أكبر منهم، ولمن هم أشخاص خياليون في القصص والمسرحيات، ولمن هم أشخاص حقيقيون في التاريخ. وهذه ليست "مشكلة" في الإسلام، ولكنها على وجه التأكيد مشكلة في الجاهلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 فمنهج التربية الإسلامية يستغل هذه القابلية الطبيعية للاستهواء في هذه المرحلة، ليجذب منها الفتى والفتاة إلى خط الصعود وإلى الفضيلة وإلى القيم العليا والمبادئ الإنسانية الرفيعة. إن الله هو الذي خلق الطاقات والاستعدادات في النفس، وخلقها لتؤدي مهمة معينة في التكوين النفسي للإنسان. وحين يكون منهج الله هو الذي يطبق في الأرض، يكون كل شيء في موضعه في داخل النفس وفي واقع الحياة. ولا تكون الطاقات والاستعدادات مصدر خطر على الكيان البشري، إنما تكون قوة بانية مفيدة. وحقيقية إن الكيان البشري -في صورته الطبيعية- قابل لأن يطرأ عليه المرض كقابليته للصحة والاستقامة: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1. ولكن التربية الإسلامية على منهج الله هي التي تعين الإنسان على تزكية نفسه، أي: تقويمها على الفطرة السليمة. وهذا الاستعداد الشديد للاستهواء في تلك المرحلة من العمر لم يخلقه الله عبثًا. ولم يخلقه ليكون "مشكلة" للإنسان، ولا ليكون -في ذاته- مصدر خطر عليه. ولكنه -ككل ما أودع الله في الفطرة من الطاقات والاستعدادات- يؤدي مهمته في البناء السليم للنفس حين يوجه التوجيه الصالح، على هدى المنهج الرباني؛ ويكون خطرًا عظيمًا مدمرًا حين يوجه التوجيه السيئ على هدى المناهج الجاهلية. وهذه مسألة هامة ينبغي التنويه عنها. فإن مناهج الجاهلية في التربية وعلم النفس كثيرًا ما تشير إلى استعداد معين أو طاقة معينة في الكيان البشري على أنها -في ذاتها- خطرة، أو أنها -في ذاتها- مشكلة. وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق. والمسلم -مربيًّا كان أو دارسًا- ينبغي أن يستمد حقائق حياته من كتاب الله وسنة رسوله، لا من أي مصدر من تلك المصادر الجاهلية التي تغير الحقائق جهلًا أو عمدًا لغاية خبيثة. والمصادر الربانية تقول إن   1 سورة الشمس 7-10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 الله بالناس رءوف رحيم، وإنه لم يخلقهم ليعنتهم، ولا ليكلفهم فوق طاقتهم ولا ما يخالف فطرتهم، وإن ما وهب الله لهم من مواهب -سواء في صورة طاقات واستعدادات نفسية، أو طاقات كونية مذخورة في الكون- إنما وهبها لهم لخيرهم ولصالحهم، لا ليشقيهم بها ويشيع في نفوسهم الاضطراب والحيرة، بشرط أن يتبعوا منهج الله في كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها على السواء. ومرة أخرى نقول إنه ليس معنى ذلك أن الحياة في ظل المنهج الرباني ستكون خالية من الجهد والكدح. كلا! لن تكون كذلك. لأن الإنسان خلق ليكدح في الأرض. ثم إن حياته لو خلت من الكدح والجهد فإنها تفسد وتترهل، وتصبح مصدر تعب وشقاء لا مصدر راحة ولا سعادة! إنما معناه أن الجهد سيكون -من ناحية- في حدود الطاقة، ومن ناحية أخرى ستكون نتيجته ثمرة جنية طيبة لا ثمرة نكدة خبيثة كالتي يثمرها الجهد في الجاهلية. وهذه القابلية الشديدة للاستهواء في هذا السن، هي واحدة من الاستعدادات البشرية الفطرية، لا خطر فيها -في ذاتها- إنما ينشأ الخطر عنها -في الجاهلية- لأنها تعرض الفتى والفتاة للانحرافات الحادة حين يكون الاستهواء متجهًا إلى النماذج السيئة من البشرية، سواء كان السوء خلقيًّا بالمعنى المتعارف عليه، أو إنسانيًّا بصفة عامة. فالفتى يتعرض في تلك المرحلة -في الجاهلية- لأن تستهويه نماذج العصابات الشريرة: عصابات السرقة والقتل وقطع الطريق والسطو والجريمة عامة. وتستهويه كذلك نماذج السلوك الجنسي الفاسد، سواء منه الشاذ والطبيعي. وحقيقية إنه قد لا ينخرط في سلك هذه العصابات في سنه تلك وإنما في سن أكبر "وإن كانت الجاهلية الحديثة أو المخطط الشرير لإفساد البشرية قد وصل إلى إغراء الفتيان حتى في السن المبكرة بالانخراط في الفساد" ولكنه حتى إن لم يشترك الآن في هذه العصابات ونشاطها المنحرف فإنه يتهيأ لذلك نفسيًّا -بالإعجاب- حتى إذا جاءت السن التي يجسر فيها على المخاطرة انخرط في الفساد بالفعل. وغالبًا ما يكون مصادقًا لتلك العصابات أو متفرجًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 عليها من قرب، يتشرب روحها، ويتعلم أساليبها، ويتدرب عليها سرًّا، حتى إذا آنس في نفسه القدرة أخذ في المغامرة حتى يصبح واحدًا من أفراد العصابة، يشارك في نشاطها المخرب، ويفاخر بذلك أمام أقرانه. أما الفتاة فهي عرضة للانحراف الخلقي -الجنسي- بصفة خاصة، وإن كانت الجاهلية الحديثة -أو المخطط الشرير لإفساد البشرية- قد أشركتها كذلك في عصابات السرقة والقتل والسطو والتخريب. وتجيء السينما والتلفزيون فيخدمان كل الأهداف الشريرة لذلك المخطط الشرير، فتصور الجرمة -سواء جريمة الجنس أو جرائم السرقة والسطو وقطع الطريق.. إلخ- تصويرًا مغريًا في صورة "بطولات" فتزيد الفتنة اشتعالًا بالنسبة للفتى والفتاة، وتهيئهما للجريمة، إما في سنهما الباكرة تلك، وإما في المرحلة التالية مباشرة، حيث تكون بذرة الشر قد تعمقت في النفس في انتظار الفرصة المواتية. ومن هنا تصبح القابلية للاستهواء خطرًا عظيمًا في الجاهلية. لا لأنها خطرة في ذاتها، ولكن لأن التوجيه الجاهلي المدمر هو الذي يسمها بسمة الخطورة ويوجهها وجهة الشر. أما في ظل المنهج الرباني، وفي المجتمع المسلم الذي يطبق المنهج الرباني، فإن هذه القابلية الشديدة للاستهواء تكون عونًا هائلًا للمربي، يستخدمها في تقويم النفس التي يربيها، وبنائها البناء الصحيح. فإنما هي طاقة تصلح للتوجيه للخير كقابليتها للتوجيه للشر. وحيث توجهها الجاهلية إلى الجريمة والانحراف، فإن المنهج الرباني يوجهها إلى البطولات الحقيقية ذات المستويات الرفيعة في كل اتجاه، فتنجذب إليها وتعجب بها وتسعى إلى محاكاتها فيكون الخير في كل حال، سواء وصل الفتى والفتاة إلى تلك المستويات الرفيعة بالفعل، أو وقفت المحاولة عند حد معين، هو -على أي حال- خير من عدم المحاولة، وخير من قدوة السوء! ولكن "المشكلة" ستظل قائمة بالنسبة للمربي المسلم الذي يربي فتاه أو فتاته في ظل الأوضاع الجاهلية! فنزعة الاستهواء القائمة في نفسيهما عرضة لأن تلتقط شيئًا من الشر الذي يغمر المجتمع الجاهلي ويلون كل تصرفاته. ويحتاج الأمر إلى جهد زائد يبذل في تحويل هذه النفوس الصغيرة الغضة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 عن الشر، وجذبها إلى الخير، الذي لا يرون نماذج حقيقية له فيما حولهما من المجتمع، إنما يرونه -على الأكثر- في البيت المسلم الذي يتربون فيه، ثم في نماذج المجتمع المسلم التاريخي الذي يسمعون عنه ولا يرونه بالفعل؛ وفيما يدعو إليه كتاب الله وسنة رسوله. كما يحتاج الأمر إلى الغسيل اليومي الدائم لإزالة أدران الجاهلية قبل أن تلصق في النفوس، وإلى الاجتهاد في اختيار الأصدقاء من أنظف النماذج المتيسرة في هذا المجتمع الجاهلي وأقربها إلى الاستقامة. وكذلك في اختيار الصحيفة والمجلة والكتاب وإن كان هذا مهمة عسيرة، فالفساد سار فيها كلها على السواء! أما السينما والتلفزيون فينبغي على المربي المسلم أن يبذر في فتاه وفتاته كل استنكاف من قذاراتهما وكل ترفع على ما فيهما من فساد، حتى ينفرا منهما تلقائيًّا دون حجر. فالحجر بغير اقتناع بأسبابه لا يؤدي وظيفته التربوية المطلوبة. وهو جهد لا بد أن يبذل على كل حال. والله هو الذي يعطي الثمرة في كل حال! وأخيرًا فإن من "مشكلات" تلك الفترة فيما تقول الجاهلية مسألة الصراع بين الأجيال: بين جيل الآباء وجيل الأبناء، والشقاق الذي ينشب بينهما، ويجعل الفتى والفتاة ينظران إلى أبويهما نظرتهما إلى جيل "متخلف" غير واع وغير مدرك "للتطور" الذي وصلت إليه الأمور في المجتمع الجديد، ومن هنا لا يقتنعان بتوجيهاتهما وأوامرهما ولا ينفذانها. ثم يقوم الصراع من الجانبين. وعلى الرغم من كون هذه "المشكلة" تنبت بذورها في المرحلة التي نحن بصددها الآن، فإننا نؤثر أن نؤجل الحديث عنها إلى الفصل القادم حين نتحدث عن مرحلة الشباب المتجه إلى النضوج. فالمشكلة أظهر هناك وأوضح، وشكوى الآباء فيها أشد، إذ تصل إلى حد التمرد الكامل على أوامر الوالدين. وسنرى هنالك -كما رأينا هنا، وكما رأينا من قبل- أن الجاهلية هي التي تنشئ المشكلة ثم تروح تبحث لها -أو تتظاهر بالبحث- عن حلول! بينما هي في الإسلام أمر يجري على الفطرة بلا مشاكل ولا أخطار! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الباب الخامس: من الشباب الباكر إلى النضج هذه مرحلة من أخصب مراحل العمر، ومن أجملها عند الإنسان حين تصبح ذكرى فيما بعد! ولئن كانت مرحلة النضج التي تلي ذلك هي أهم مراحل العمر من الناحية العملية، إذ هي مرحلة الإنتاج من ناحية، ومرحلة استواء الشخصية على صورتها المتكاملة من ناحية أخرى، إلا أن مرحلة الشباب الباكر حتى النضج هي أكثر فترات العمر حيوية ونشاطًا وتدفقًا وتطلعًا وحركة. إنها مرحلة نمو واع، وتطلع إلى الزيادة في كل اتجاه. نمو جسدي ظاهر وتطلع إلى مزيد. ونمو عقلي ظاهر وتطلع إلى مزيد. ونمو نفسي. ونمو عاطفي. ونمو روحي. نمو في الخبرة ونمو في القدرة ونمو في المعرفة ونمو في المواهب والاستعدادات ... نمو في كل اتجاه.. وتطلع دائم إلى المزيد. هي فترة العواطف المتدفقة من كل نوع. وفترة التحصيل العلمي والقراءة والاطلاع. وفترة النشاط الجثماني الموار. وفترة التعلق بالمثل والمثاليات. وفترة التفكير في مشاكل المجتمع ومشاكل السياسة ومشاكل البشرية! وهي فترة الرغبة الدافعة في الإصلاح والعمل المتحمس للتغيير، ومن هذا فهي فترة الانتماء إلى "الجماعات" و"الجمعيات" و"الأحزاب" و"التكتلات"، سواء كانت هذه كلها مما يستحق أو لا يستحق، فالرغبة في "الانتماء" والرغبة في الإصلاح والتغيير، كثيرًا ما تكون أكبر عند الشباب من القدرة على التمييز والقدرة على التمحيص. وكثيرًا ما يكون البريق الخاطف أكثر لفتًا للشباب في هذه المرحلة من الجوهر والمضمون. ولكنه -حين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 ينتمي -فهو ينتمي بكل إخلاصه وكل مثاليته وكل جهده وكل حيويته، وكل رغبته الحقيقية العميقة في الإصلاح والتغيير. فترة خصبة لا تتكرر في حياة الإنسان. والحق أنه لا توجد مرحلة تتكرر! فالطفولة لا تتكرر، والمراهقة لا تتكرر، كما أن هذه المرحلة أيضًا لا تتكرر. ولكن الإنسان حين يدلف إلى الشيخوخة ويعاوده الحنين إلى ما مر من سنوات العمر. فقليلًا ما يفكر في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو يتمنى العودة إليها، ولكنه دائمٌا يحن إلى مرحلة الشباب. ذلك أنها تتميز بالحيوية والوعي في آن واحد. ولئن كان الوعي يظل مع الإنسان بعد ذلك. بل يزيد ويتركز، ويصبح هو أهم ما يملكه الإنسان مع الخبرة المتزايدة، إلا أن الحيوية هي التي تظل تتضاءل حتى تخفت. ومن هنا يتمنى الشيخ -الذي يملك الوعي- أن يسترد ما فقده من حيوية الشباب! ولئن كانت مرحلة الطفولة مرحلة نمو وتغير دائم لا يتوقف، حتى إن اليوم الواحد قد يضيف مزيدًا من النمو في بعض الأحيان، سواء في مرحلة المشي أو مرحلة النطق أو مرحلة التقاط الخبرات وظهور الاستعدادات. ولئن كانت مرحلة المراهقة مرحلة تفجر جسدي وروحي مع النمو العقلي المتزايد. فإن مرحلة الشباب الباكر الممتدة حتى النضج هي مرحلة نمو من نوع متميز. ليس فيها التغير السريع الذي يميز مرحلة الطفولة، ولا التفجر المتقلب الذي يصحب مرحلة المراهقة، إنما فيها النمو المفضي إلى النضج وهو لون خاص غير اللونين السابقين. أرأيت إلى الثمرة كادت تنضج؟! إن فيها كل ملامح الثمرة الناضجة أو معظمها، ولكنها لم تنضج بعد. وهي تتغير -إذا لاحظتها- يومًا بعد يوم، ولكنها تتغير وهي -تقريبًا- على صورتها! وإن التغير الذي يحدث فيها لعظيم الأهمية ولا شك، لأنه هو الذي يؤهلها لأن تصبح ثمرة ناضجة نافعة مرغوبة ومطلوبة. ولكنه لا يكاد يغير شيئًا من ملامحها الأصيلة، إنما يركز كل شيء فيها حتى تصبح في النهاية مكتملة النمو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وهذه المرحلة في حياة الإنسان أقرب شيء إلى ذلك. إن ملامح الشخصية قد بدأت تبرز. وهناك تغير مستمر يطرأ عليها لا يتوقف. ولكنه لا يغير الملامح الرئيسية بقدر ما يركزها ويزيدها بروزًا، حتى تصل إلى صورتها المتكاملة. إنه لا يضيف عناصر جديدة بقدر ما يقوي ويركز ويصقل العناصر الموجودة بالفعل. وهذا هو الذي يميزها أساسًا عن المرحلتين السابقتين. فالتغير في مرحلة الطفولة هو تغير إضافة مستمرة. إضافة عناصر جديدة لم تكن موجودة من قبل "أي: كانت كامنة لم تظهر بعد، كما تكون الزهرة كامنة في كمها لا تراها العيون" والتغير في مرحلة المراهقة هو تغير إضافة كذلك. ففي الجسم تنمو أعضاء كانت ساكنة من قبل وتؤدي وظائف جديدة لم تكن تكن تؤدى من قبل, وفي النفس تتفجر مشاعر وعواطف من نوع جديد لم يكن موجودًا من قبل، واهتمامات جديدة مفاجئة. ولكن الذي يفرقها عن مرحلة الطفولة أن الإضافات هنا حادة ومتفجرة. وفي الطفولة كانت تدريجية وبطيئة. أما مرحلة الشباب الباكر التي تؤدي إلى النضخ، فهي مع حيويتها الفائقة وخصوبتها، فإن الإضافة الهامة فيها هي الإضافة التي توسع وتعمق ما هو موجود بالفعل من الناحية الجسدية والعقلية والنفسية والروحية، أكثر مما هي إضافة عناصر جديدة لم تكن موجودة من قبل. وليس معنى هذا أنه لا تضاف عناصر جديدة إلى الشخصية! كلا! فهناك إضافات هامة وخطيرة وحيوية. بل معناه فقط أن الصورة الحقيقية للإضافة ليست كما يراها الشاب من زاوية رصده الخاصة حين ينظر إلى نفسه، فيظن أن كل شيء فيه قد تغير، وأنه يفتح كل يوم آفاقًا جديدة ويكتشف من نفسه جديدًا كل يوم! إنما السبب في هذه الرؤية التي يراها الشاب في نفسه أن الآن قد دخل في مرحلة الوعي. فهو يعي أحاسيسه وأفكاره، ويعي التغيرات التي تطرأ على نفسه وفكره وجسمه وروحه، فيخيل إليه أنها جديدة جدة كاملة، وأنها قد نبتت في كيانه فجأة بغير جذور سابقة! أما الذي يرقب الأحوال من الخارج فإن له رؤية أخرى! صحيح أنه جدت -وتجد- أشياء جديدة لم يكن لها وجود واضح من قبل، ولكن معظم التغير الحادث هو في الحقيقة إضافة على الخطوط الموجودة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 لفعل، والتي لم يكن الشاب على وعي كامل بها من قبل، لأنه -في المراهقة- يعيش فترة حالمة، تحلم أكثر ما تتجه إلى الإدراك والوعي. ففي المراهقة تبدأ فورة الجسد. وفي الشباب الباكر تتركز هذه الفورة وتزداد قوة، سواء في طول القامة، أو نمو الأعضاء. أو قيامها بوظائفها. وفي المراهقة كذلك تبدأ فورة النفس والمشاعر، وفورة الأحلام والتطلعات، وفورة القيم والمبادئ. وفي الشباب الباكر تتركز هذه الفورة وتزداد قوة. فالمشاعر متحمسة, والعواطف جياشة. والأحلام والتطلعات أقوى ولكنها أكثر واقعية من خيالات المراهقة الحالمة، لأنها تتطلع إلى حلول عملية "سواء كانت هذه الحلول ممكنة التطبيق حقيقة أو متعذرة أو حتى مستحيلة! إنما المهم أن طريقة تناولها والتفكير فيها طريقة عملية, وليست مجرد خيالات حالمة على طريقة المراهقة" أما القيم والمبادئ فهي اليوم أكثر اتساعًا وأكثر وعيًا وأكثر جدية، في حين كانت في فترة المراهقة قيمًا ساذجة ومبادئ محصورة النطاق. وفي المراهقة بدأت المواهب والاستعدادات تظهر, ولكنها الآن أكثر بروزًا وأوضح. وهكذا يمكن أن نقول في جميع الاتجاهات. فيها إضافة، وإضافة حيوية، ولكنها إضافة التعميق والتحسين فيما هو موجود بالفعل، أكثر مما هي إضافة جديد لم تكن له جذور من قبل. وإذا كانت هذه رؤية عامة لهذه المرحلة من العمر، فإنه يجب أن نفرق تفريقًا واضحًا بين البنين والبنات فيها، لأن الواقع الفطري هو الذي ينشئ تلك التفرقة، ولو كرهتها الجاهلية المعاصرة وحاولت أن تغفلها أو حتى تتبجح بإنكارها، أو تعمل على إزالتها. إن المشهود الذي يقرره علم وظائف الأعضاء، وكانت أجيال البشرية السابقة تعرفه وتقره وتتعامل على أساسه حتى جاءت الجاهلية المعاصرة فحاولت أن تنفيه أو تنفي آثاره، هو أن البنات أسرع نضجًا من البنين في هذه المرحلة بشكل واضح. فإذا كانت مرحلة البلوغ متساوية -تقريبًا- عند البنين والبنات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 فيما بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة في الغالب1، فإن النمو بعد ذلك لا يأخذ طريقًا متساويًا عند البنين والبنات، فبينما تسرع الفتاة فتأخذ تمام نضجها الجسدي ابتداء من السادسة عشرة أو السابعة عشرة، يتأخر الفتى فلا يصل إلى مثل هذا المستوى من النضج قبل العشرين أو الحادية والعشرين. وبينما يكون الشبان -على الرغم من المسحة العاطفية التي تشمل الجنسين في تلك الفترة- أكثر اهتمامًا بالمسائل العامة، سياسية واجتماعية وبشرية، وأكثر ميلًا إلى التفكير الفلسفي والعقلي، وأكثر اهتمامًا بتغيير الواقع وإصلاحه، تكون الفتيات أكثر انشغالًا بأمور ذات صبغة خاصة أو عائلية، وأكثر انسياقًا مع الأمور العاطفية، وأكثر إحساسًا بنتائج التغير الجسدي الذي يصل سريعًا إلى مرحلة النضج, فتكون أكثر انشغالًا بهندامها وزينتها, وأكثر تفكيرًا في الزوج المرتقب أو الخطيب، وأكثر استعدادًا لبدء الحياة البيتية التي تحلم بها، التي يكون لها فيها كيان مستقل وزوج وأولاد. والجاهلية المعاصرة تكره أن تقر بهذا الواقع، لأن لها مخططات لا يناسبها الإقرار به ومسايرته. ومن ثم فهي إما أن تتجاهله وإما أن تنفيه أو تحاول العمل على تغييره. ومن بين وسائل التغيير التي تحاولها توحيد برامج الدراسة وتوحيد مراحلها وسنواتها كذلك. فتوحيد برامج الدراسة تحاول به هذه الجاهلية أن تبث "الاسترجال" في عقل المرأة على خط مضاد لخط أنوثتها المتميزة، إذ إنها برامج رجالية في الأصل، فصلت على قد الرجل وقصد بها إعانته على أداء وظائفه، والمرأة تدفع إليها دفعًا سواء كانت مناسبة أو غير مناسبة لطبيعتها. وتوحيد سنوات الدراسة ومراحلها تهدف به إلى تأخير سن التخرج بالنسبة للفتاة. وبالتالي تأخير سن الزواج عن اللحظة التي يكتمل نموها الجسدي وتكون كاملة الخصوبة وكاملة الاستعداد. ويبرر هذا بمبررات ظاهرية كثيرة ومتنوعة.   1 في حالات نادرة يحدث البلوغ قبل ذلك -في الثانية عشرة- والبنات أكثر من البنين في ذلك، وفي أحوال أخرى يتأخر عن الرابعة عشرة والبنات أقل من البنين في ذلك! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 فتارة يقال إن العلم قد أثبت أن البنت والولد متساويان في نسبة الذكاء. وتارة يقال إن التجربة أثبتت أن البنت أكثر تفوقًا من الولد في مواده الرجالية الأصيلة. وتارة يقال إن الزواج الباكر للبنت هو "وأد" لمواهبها وحرمان للمجتمع من نشاطها! وتارة يقال إن الزواج فن يحتاج إلى "خبرة".. وإن الفتاة ينبغي أن تحصل على هذه الخبرة من تجاربها الاجتماعية -والعاطفية كذلك! - لكي تصبح زوجة "صالحة! ". وتارة يقال إن الزواج له تكاليف، وإن المرأة ينبغي أن تسهم في التكاليف بأن تكون عاملة متكسبة، ولن تعمل وتتكسب حتى تتخطى كل مراحل الدراسة وسنواتها الطوال. ومن بين وسائل التغيير كذلك محاولة شغل بعض النساء والفتيات بالأمور العامة -ولو تظاهرًا- حتى لا يقال إن المرأة -والفتاة في هذه السن خاصة- تكون مشغولة بكيانها الخاص أكثر من أي شيء آخر. ومن بينها كذلك نزع الحياء الفطري الذي هو من سمات الأنثى عامة، ومن سمات هذه الفترة بصفة خاصة1، وذلك بتعرية الجسد حتى يفقد حياءه، وتشجيع الحديث في مسائل الجنس -فضلًا عن الممارسة بطبيعة الحال- لأن الحديث المكشوف في مسائل الجنس أشد قتلًا للحياء من الممارسة الفعلية التي يمكن أن تتم في خفاء عن العيون "وإن كانت الجاهلية المعاصرة تمارس الجنس في غير خفاء إمعانًا في قتل الحياء! ". ومن بينها كذلك توحيد نوع التعامل مع الذكر والأنثى في كل شيء: في الدراسة -والجامعية منها بصفة خاصة- وفي الوظيفة، وفي المركبة العامة، وفي لوائح الدولة، وفي المحظور وفي المباح. وفي كل شيء على الإطلاق حتى تنسى المرأة أنها أنثى، وتتحول إلى مسخ لا سمة له ولا كيان!   1 هناك قصة عجيبة حدثت في النصف الأول من هذا القرن وشغلت العلماء والصحافة فترة طويلة -وإن كانت الآن تكاد تكون منسية تمامًا- مؤداها أن بنتًا ولدتها أمها في الغابة وتركتها هناك "تخلصًا منها في الغالب" فتبنتها غزالة فأرضعتها، ونشأت بين الغزلان حتى صارت مثلهم تمشي على أربع، وتجري بسرعة هائلة، حتى وقعت في قبضة مجموعة من البشر، فأجريت عليها مجموعة من الدراسات العلمية، وتعهدها العلماء حتى صارت تمشي مرفوعة القامة وتعلمت الكلام، وصارت تدريجيًّا تتعلم أحوال البشر. وموضع العبرة في القصة أن الفتاة حين بلغت عمرًا نفسيًّا معينًا أحست تلقائيًّا بالخجل الجنسي الذي لم تكن تحسه من قبل! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 ولكن الفطرة أعمق وأصدق وأعصى من كل هذه المحاولات! يقول الدكتور "ألكسيس كاريل" في كتابه "الإنسان ذلك المجهول": "إن الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تأتي من الشكل الخاص بالأعضاء التناسلية، ومن وجود الرحم والحمل، أو من طريقة التعليم، إذ إنها ذات طبيعة أكثر أهمية من ذلك. إنها تنشأ من تكون الأنسجة ذاتها، ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيماوية محددة يفرزها المبيض. ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهرية بالمدافعين عن المرأة إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليمًا واحدًا، وأن يمنحها سلطات واحدة ومسئوليات متشابهة. والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الرجل. فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها. والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائها، وفوق كل شيء بالنسبة لجهازها العصبي. فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة للانثناء، شأنها شأن قوانين العالم الكوكبي, فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها، ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كما هي، فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعًا لطبيعتهن، دون أن يحاولن تقليد الذكور. فإن دورهن في تقدم الحضارة أسمى من دور الرجال، فيجب عليهم ألا يتخلين عن وظائفهن المحددة" "ص114 من الترجمة العربية". "إن دور الرجل في التناسل قصير الأمد. أما دور المرأة فيطول إلى تسعة أشهر. وفي خلال هذه الفترة يغذى الجنين بمواد كيماوية ترشح من دم الأم من خلال أغشية الخلاص. وبينما تمد الأم جنينها بالعناصر التي تتكون منها أنسجته، فإنها تسلم مواد معينة تفرزها أعضاء الجنين. وهذه المواد قد تكون نافعة وقد تكون خطرة. فحقيقة الأمر أن الجنين ينشأ تقريبًا من الأب كما ينشأ من الأم، وأن مخلوقًا من أصل غريب جزئيًّا يتخذ له مأوى في جسم المرأة، فتتعرض المرأة لتأثيره خلال فترة الحمل. وقد تتسمم المرأة في بعض الأحيان بواسطة جنينها، كما أن أحوالها الفسيولوجية والنفسية تكون دائمة التغير بتأثيره. صفوة القول إن وجود الجنين، الذي تختلف أنسجته اختلافًا كبيرًا عن أنسجة الأم، بسبب صغرها من ناحية، ولأنها -جزئيًّا- من أنسجة زوجها، يحدث أثرًا كبيرًا في المرأة. وإن أهمية وظيفة الحمل والوضع بالنسبة للأم لم تفهم حتى الآن بدرجة كافية، مع أن هذه الوظيفة لازمة لاكتمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 نمو المرأة. ومن ثم فمن سخف الرأي أن تتنكر للأمومة. ولذا يجب ألا تلقن الفتاة التدريب العقلي والمادي، ولا أن تبث في نفسها النزعات التي يتلقاها الفتيان وتبث فيهم. يجب أن يولي المربون اهتمامًا شديدًا للخصائص العضوية والعقلية في الذكر والأنثى، وكذلك لوظائفها الطبيعية. فهناك اختلافات بين الجنسين غير قابلة للنقض. ولذلك فلا مناص من أن نحسب حساب هذه الاختلافات ونحن نسعى لإنشاء عالم متمدين" "ص116-117 من الترجمة العربية". "يجب أن تعاد للمرأة وظيفتها الطبيعية التي لا تشتمل على الحمل فقط، بل أيضًا على رعاية صغارها" "ص369 من الترجمة العربية". تلك صرخة عالم غربي في وجه الجاهلية المعاصرة. ولكنها تذهب صرخة في واد!! ولا يعنينا -ونحن نتحدث عن منهج التربية الإسلامية- ماذا تفعل الجاهليات ببناتها، وماذا تقول في تبرير ذلك. إنما أشرنا إلى ما تفعله الجاهلية المعاصرة بسبب ما يقع في مجتمعاتنا نحن الجاهلية, التي تأخذ وسائل حياتها وغاياتها من تلك الجاهلية الغربية، فتضع للبنات ذات المناهج التي تضعها للنبين، وتمررهن في ذات المراحل الدراسية وذات السنوات، ثم تتجه اتجاهًا متزايدًا إلى إلغاء كل فرق في التعامل بين البنين والبنات في كل شيء. حتى التدريب العسكري في المدارس والجامعات! ذلك فضلًا عن اتباع ذات الوسائل والغايات في تأخير سن الزواج للأولاد والبنات، ورفع الحظر عن العلاقات "الحرة" في المرحلة الطويلة التي تسبق الزواج! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى إن دخلوا جحر ضب دخلتموه"! قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟! قال: "اليهود والنصارى"! 1. ومصداق ذلك ما يحدث اليوم في جاهلية القرن العشرين! سواء من جانب اليهود والنصارى أو من جانب "المسلمين! ". ولئن كانت فترة الطفولة في حاجة إلى رعاية شديدة من المربين لأنها   1 أخرجه البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 الفترة التي توضع فيها الأسس التي ترتكز عليها الشخصية فيما بعد، وكانت فترة المراهقة في حاجة إلى رعاية شديدة كذلك؛ لأنها مرحلة تفجر في كيان الطفل، إن لم توجه له العناية فهو عرضة أن يدمر هذا الكيان وينشئه في طريق محفوف بالمخاطر. فإن مرحلة الشباب الباكر أشد حاجة إلى الرعاية؛ لأنها فترة تكوّن الثمرة المؤدي إلى النضج، وما لم تتعهد الثمرة فإن جهد الغرس كله يمكن أن يضيع! وبسبب الخصوبة الفائقة في تلك الفترة تكون الحاجة الشديدة إلى الرعاية، لأنها يمكن أن تكون خصبة في الشر مثلما يمكن أن تكون خصبة في الخير، والتوجيه الرشيد هو الذي يستطيع أن يغلب احتمال الخير، ويجعل الثمرة تنضج -في موعدها- على سواء، بينما الغفلة والإهمال، أو التوجيه الخاطئ، يمكن أن يؤدي إلى تغليب احتمال الشر، وتخريج شخصية شاذة أو منحرفة يشقى بها صاحبها ويشقى معه أهله، وقد يشقى بها المجتمع أو تشقى به البشرية!! وكم من طغاة التاريخ الذين تسميهم الجاهلية "عظماء! " قد تلقوا بذور انحرافاتهم في هذه الفترة الخطيرة من العمر. ثم تلقفتهم الشياطين! 1. تبدأ المرحلة التي نحن بصددها من نهاية المراهقة وتنتهي بمرحلة النضج، وإذا كان من العسير أن نحدد حدودًا حاسمة لأي مرحلة من مراحل العمر؛ لأنها جميعًا متداخلة بعضها في بعض، ومتدرجة بعضها من بعض، فإن هناك حدودًا تقريبية لكل مرحلة، لا تخطئ العين رؤيتها وتقديرها، وإن كانت تختلف مع ذلك اختلافات فردية من إنسان إلى آخر. والذي يغلب على مجموع الأطفال أن تبدأ مرحلة المراهقة ما بين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وأن تنتهي ما بين السابعة عشرة والثامنة عشرة, لتبدأ مرحلة الشباب الباكر، التي تستغرق ما بين هذه السن إلى ما بعد العشرين بسنوات. فإذا افترضنا بصفة عامة أن الشاب الذي نتحدث عنه الآن هو ما بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، فلا ينفي ذلك أفرادًا من الشباب يبدءون   1 انظر -على سبيل المثال- كتاب "لعبة الأمم" تأليف مايلز كويلاند! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 قبل ذلك بعام أو عامين؛ لأن عندهم استعدادات فائقة، وتبكيرًا في النمو، وأن أفرادًا آخرين يتأخرون بعض الشيء في نقطة البدء، أي: يظلون في فترة المراهقة مدة أطول. ثم ينبغي أن نعلم كذلك أن المرحلة ذاتها تختلف بالنسبة للفتيات. فإذا كانت بداية المراهقة واحدة بالنسبة للبنين والبنات فإن الانتقال منها إلى مرحلة الشباب الباكر أسرع بالنسبة للبنات، لأن نموهن الجسدي أسرع بكثير، والنمو النفسي يتواكب مع النمو الجسدي كذلك فيسبق مثيله عند الأولاد، ومن هنا فلا تلبث الفتاة أن تكون مراهقة حتى تكون شابة! وقد يظل نموها العقلي في طريقه المتدرج ولكن نموها النفسي والعاطفي ينضج أسرع. فإذا أخذنا فتى وفتاة في سن السابعة عشرة فقد يكون مستواهما العقلي واحدًا أو متقاربًا، ولكن نموهما النفسي لا يكون كذلك. فبينما الفتى تبدو عليه بقايا الطفولة التي يحاول إخفاءها ليظهر بمظهر الرجال، فإن البنت لا يمكن أن تخطئها العين فتحسبها طفلة، سواء في تكوين جسدها أو تصرفها كأنثى، إنما غاية ما يقال فيها إنها أنثى صغيرة، بينما لا يقال للولد -بعد- إنه رجل صغير! وبالإضافة إلى ذلك فإن خط النضج ذاته مختلف. فليست المسألة فقط أن الفتاة تنضج أسرع من الفتى، ولكنها كذلك تنضج على خط مخالف، رغم وجود سمات عامة مشتركة بين الذكور والإناث في هذه المرحلة وفي كل مرحلة من مراحل العمر كله. ولحكمة عليا خلق الله هذا الاختلاف، ليتهيأ كل من الجنسين لوظيفته وتكاليفه. فإذا كانت الجاهليات -أو الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة- تريد أن تغير خلق الله، وتبذل في ذلك أقصى جهدها، فليست العبرة بما تصنعه الجاهلية في هذا السبيل، إنما العبرة بالنتائج المترتبة على معاكسة خط الفطرة وتغيير خلق الله. أهي نتائج سعيدة وسارة؟ أم إنها -كما يشهد واقع المجتمعات التي تحكمها هذه الجاهلية- هي الحيرة والقلق والاضطراب والضياع، والأمراض النفسية والعصبية والانتحار والجنون، والشذوذ والتشرد والجنوح الإجرامي، وزيادة نسبة الطلاق، وتفكك الأسرة، والشقاء الذي يهرب منه الناس بالإدمان على الخمر والإدمان على المخدرات؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 وليست هذه الآثار كلها ناجمة بطبيعة الحال عن مرض واحد بعينه أو انحراف واحد من انحرافات الجاهلية، بل هي حصيلة كل الأمراض وكل الانحرافات في وقت واحد. ولكن من أبرزها جميعًا ولا شك إفساد فطرة المرأة بقضية المساواة المطلقة بين الجنسين، ومحاولة "ترجيل" المرأة وصرفها عن أنوثتها ووظائفها الأنثوية، في ذات الوقت الذي تدفع فيه هي والرجل سواء إلى حمأة الجنس المسعورة، حيث يبقى لها هذا المجال وحده -من كل مجالات حياتها- تمارس فيه كيانها كأنثى، ولكن في غير النظافة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله ورفعه -منذ خلقه إنسانًا- أن يهبط إلى مستوى الحيوان! وسواء كانت المرأة الجاهلية المعاصرة في الغرب واعية أو غير واعية لذلك التناقض الحادث في شخصيتها، حيث تمارس الحياة كلها كأنها رجل او امرأة رجلة، إلا لحظة الجنس المسعورة فتمارسها أنثى بطبيعة الأنثى وكيان الأنثى، فإن هذا التناقض يسري في كيانها ويمزقه على أي حال ويحمله فوق طاقته. وقد بدأت أخيرًا -رغم كل محاولات الجاهلية لصدها عن إفاقتها- بدأت تشكو شقاوتها علانية في الصحف والحلقات التليفزيونية، وتقول إنها ضجرت وتعبت وتريد أن تعود إلى البيت أنثى وأم أولاد! 1 وخلاصة القول بالنسبة إلينا أننا لا بد أن نتحدث حديثين مختلفين -في هذا الفصل والفصل الذي يليه2- عن كل من الجنسين، رغم وجود سمات عامة مشتركة بين الجنسين، فهما -من قبل ومن بعد- جنسان من كائن واحد هو "الإنسان"! نحن الآن مع كائن هو في حس نفسه جديد كل الجدة، وهو في حسنا نحن ابننا أو بنتنا اللذين كانا منذ قليل طفلين كبيرين، نلحظ نموهما الصاعد ولكنه لايفجؤنا بذات القدر الذي يفجأ الشاب نفسه أو الفتاة! وحقيقة إن هناك ما يفجؤنا من حال هذا الكائن الجديد. ولكن ألم يفجأنا   1 من بين النماذج على ذلك حلقات حوار تليفزيونية طويلة في التلفزيون الفرنسي استغرقت شهورًا طويلة من سنة 1977. أفضت فيها بعض نساء المجتمع بهذه الحقائق. 2 نتحدث في الفصل القادم عن مرحلة النضج الأخيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وهو وليد حين حاول الكلام أول مرة، وحين حاول المشي أول مرة، وحين بدأ ينطق بعض الكلمات بالفعل، وحين خطا خطواته الأولى بالفعل؟! ألم يفجأنا بعد ذلك حين استقامت لغته واستقام مشيه وجريه وصعوده وهبوطه؟ ألم يفجأنا وهو يفك لعبته ويحاول إعادة تركيبها، وحين حاول أن يركب الدراجة أو يقفز فوق السور؟ ألم يفجأنا حين بدأ يتعلم القراءة ويتعلم الحساب؟ ألم يفجأنا حين ذهب إلى السوق أول مرة وعاد؟ وحين ذهب إلى المدرسة وعاد؟ وحين بدأ يستذكر دروسه؟ ألم يفجأنا -في مراهقته- بتغيرات جسده ونفسه وشعوره وفكره؟! بل! وهو اليوم يفجؤنا كذلك بما يجد من شئونه! ولكنه ليس -كما يرى هو من نفسه- كائنًا جديدًا كل الجدة هبط اللحظة من السماء! ذلك أنه يعي أحواله -عن كثب- لأول مرة، أما نحن فنعي أحواله -عن كثب- منذ هو في "اللفة" وليد! ومع ذلك فكمية التغير التي نلحظها ضخمة وهائلة، وإن كانت كما قلنا من قبل لا تتعلق بإضافة عناصر جديدة لم يكن لها وجود من قبل, بقدر ما تتعلق بالزيادة والبروز فيما هو كائن من قبل بالفعل. فأما الشاب فقد بدأت عضلاته تبرز، وبدأ هو كذلك يهتم بإبراز عضلاته، إنه يمارس ألوانًا من الرياضة البدنية بغير ملل، يصرف فيها جزءًا من طاقته الحيوية الفائضة، ويستكمل بها في ذات الوقت نموه الجسمي وقدراته الجسمية، من رشاقة الحركة والتوازن والصلابة والاحتمال. وتختلف الميول الرياضية كثيرًا من شاب إلى آخر. فهذا يحب كرة القدم، وهذا يحب كرة السلة، وهذا يحب "العقلة" و"المتوازيين" وهذا يحب رفع الأثقال، وهذا يحب ركوب الدراجة، وهذا يحب ركوب الخيل، وهذا يحب السباحة أو التجديف. ولكن الأغلب أن تكون للشاب ممارسات رياضية مختلفة مع هواية محببة غالبة عليه. ولا يمنع هذا من وجود حالات شاذة لا تميل إلى الرياضة لأسباب جسدية أو أسباب نفسية. فأما الأسباب الجسدية فقد تكون ضعفًا وراثيًّا أو مكتسبًا نتيجة أمراض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 في الطفولة، تجعل الرياضة أمرًا شاقًّا أو مجهدًا فينصرف الشاب عنها على رغبة فيها أو على عزوف. وأما الأسباب النفسية فقد تكون انطواء وخجلًا وخشية من الفشل أمام الآخرين، أي: نقصًا في ثقة الولد بنفسه بصفة عامة، وقد تكون اعتدادًا شديدًا بالنفس ولكن في اتجاه آخر! فقد يخيل للفتى أنه عبقري أو فيلسوف أو أديب أو فنان. وأنه من أجل ذلك أرفع من أن يتميز بطاقته البدنية؛ لأنه يتميز بطاقته العقلية أو موهبته الفنية! أو قد تستغرقه هذه الموهبة بالفعل فتأخذ وقته وجهده فينصرف عن الرياضة، أو قد تكون له هواية عقلية كالشطرنج, أو الورق يجلس إليها الساعات الطوال لا يتحرك, فيتعود جسمه على السكون بدلًا من الحركة. أو قد تكون له مفاسد خلقية تشغله عن رياضته1. ثم إن مواهبه واستعداداته بدأت تبرز. وبدأ هو يهتم بإبرازها والتميز بها, ومحاولة التفوق بها على الآخرين. والمواهب والاستعدادات كثيرة ومتنوعة. فهذا ميال للآداب أو الفنون، وهذا ميال للعلوم أو المهارة اليدوية. هذا له قدرة على حفظ الشعر أو النصوص الأدبية أو له براعة أسلوبية نثرية أو شعرية. وهذا رسام ماهر. وهذا بارع في حل المسائل الرياضية. وهذا له ميول هندسية أو ميكانيكية. إلخ.. إلخ. ولقد ظهرت هذه المواهب والاستعدادات من قبل فترة المراهقة ولكنها كانت ما تزال طفلة. أما اليوم فهي أبرز وأوضح، ولها إنتاج ظاهر. وعلى أساسها يختار الشاب حرفته المستقبلة، سواء وفق في دراسته للوصول إليها أم لم يوفق. فهو يقول لنفسه: أريد أن أكون طبيبًا أو مهندسًا أو أديبًا أو فنانًا أو باحثًا اجتماعيًّا أو مؤرخًا.. أو فيلسوفًا! ويحاول أن يختار الدراسة التي تناسب استعداداته وميوله. وفي حالات شاذة نادرة يحلم بالبطولة عن طريق الشر، فيقول لنفسه:   1 نتحدث هنا عن الشباب بصفة عامة لا عن الشباب المسلم بالذات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 أريد أن أكون فتاكًا أو قاطع طريق أو عضوًا في عصابة من العصابات التي ترهب الناس. ثم لقد نما نموًّا نفسيًّا هائلًا في هذه الفترة. لقد كان في طفولته مشغولًا بنفسه يعيش في محيطها، وفي حدود عالم قريب محدود. فطعامه وشرابه وإفرازاته وملابسه ولعبه وأدواته هي المسائل الكبرى التي تشغله، والتي يطلب من والديه أن يحققاها له كلما أرادها أو رغب فيها, وهو يتوقع من والديه أن يكونا حت تصرفه دائمًا كلما أرادها أو أراد منهما أن يحققا له شيئًا من مطالبه المتوالية التي لا تكف, وإن كانت محدودة النطاق. ثم يكبر قليلًا، ويتسع عالمه قليلًا، ولكنه ما زال ممركزًا حول نفسه. فذاته هي مركز حياته ومركز اهتمامه. وأبواه، ومن حوله، هم "الأدوات" التي يستخدمها لتحقيق رغباته، ويتوقع منهم أن يكونوا دائمي الاهتمام به، دائمي التلبية لما يعن له من حاجات. فإذا استقام على منهج التربية السليم فسيتعود أن يضبط بعض رغباته ويسيطر عليها، ولكنه ما زال يعيش ممركزًا حول ذاته؛ لأن هذا طابع المرحلة الطبيعي الذي لا بد أن يأخذ مجراه. ثم يكبر أكثر، ويتسع عالمه أكثر، فيتعرف على وجوه جديدة غير الوالدين، وأماكن جديدة غير المنزل، وتنشأ بينه وبين بعض الناس وبعض الأماكن صداقات، ويطلب من والديه أحيانًا أن يخرجا به خارج المنزل ليرى شيئًا معينًا مما أصبح يحبه، أو يلتقي بأشخاص معينين صغار أو كبار يكون قد تعلق بهم. ولكنه ما زال في ذلك كله مركز الاهتمام حول ذاته قبل كل شيء. ومنهج التربية السليم يعوده شيئًا فشيئًا أن يخرج من دائرة ذاته، فيعطي من لعبه ومن حلواه لأطفال غيره، ويتعاون معهم في اللعب، ويتعود أن يأخذ منهم ويعطي. كما يعوده أن يلتزم آدابًا معينة تجاه الآخرين تخرجه من دائرة ذاته إلى تعود احترام الآخرين، فيتعود أن يحس بوجود ذوات أخرى غير ذاته، فيخف تدريجيًّا تعلقه بذاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وكل ذلك واجب على المربي، ولكنه يؤتي ثماره على المدى، ويظل طابع الطفولة هو التمركز حول الذات. ثم تجيء فترة المراهقة فيحدث فيها نمو نفساني ملحوظ. إن المراهق أيضًا ممركز حول ذاته، ولكن على طريقة أخرى غير طريقة الطفل. ثم إنه -مع اهتمامه الشديد بذاته، ورغبته الشديدة في أن يظل اهتمام الآخرين متعلقًا به- فإن له مشاعر كثيرة يتوجه بها نحو الآخرين، ويهتم فيها بأشخاصهم. إن الطفل -في تمركزه حول نفسه- يظل يستخدم الآخرين لتحقيق طلباته؛ لأنه بطبيعة الحال لا يملك أن يلبي لنفسه كل ما يريد من حاجات, وإن ربي تربية استقلالية وعود منذ صغره الاعتماد على نفسه، أما المراهق فإنه -في تمركزه حول نفسه- يريد أن يثبت وجوده، يريد أن يهتم الناس به لما يفعله هو لا بما يفعله الآخرون له! إنه -في خياله أو في وهمه- بطل! إنه خارق القدرة! إنه حدث تاريخي! وهو يريد من الناس أن يعرفوا بطولته الفائقة هذه ويقروا بها! ولذلك فهو يحاول لفت نظرهم دائمًا بما يأتي من الأعمال التي يراها خارقة وغير مسبوقة! ولا شك أن المراهق المسلم شيء آخر مختلف كثيرًا عن المراهق الجاهلي، في هذه النقطة وفي غيرها من النقاط كما بينا في الفصل السابق. ولكن ليس في الإمكان -ولا من المصلحة- قتل الشعور بالذات في هذه المرحلة، ولا كذلك في أي مرحلة أخرى. إنما ينبغي تهذيب هذه الشعور بما بينا من منهج التربية الإسلامية وما سنبين فيما بعد. أما الفترة التي نحن بصددها فقد حدث فيها نمو نفسي هائل. لم يعد الفتى ممركزًا حول ذاته بالصورة التي كان عليها في الطفولة وفي المراهقة، إنما صار خط "الغيرية" واضحًا وبارزًا في نفسه وفي حياته. لم يفقد إحساسه بذاته، وليس من المصلحة أن يحدث ذلك. ولكن انظر إلى اهتماماته. لقد كان المراهق قد بدأ يهتم بالآخرين ... ولكن من كان أولئك الآخرون؟ إنهم أشخاص محدودون يتعلق بهم ولاؤه وحبه وعواطفه. أما المجتمع. أما المجموع البشري. فأشباح من بعيد لم تتبين ملامحها في حسه بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 أما الشاب فقد اقترب من الصورة أو اقتربت منه الصورة حتى صارت في البؤرة وصارت محل التركيز. إنه اليوم مشغول بالمجتمع من حوله، ومشغول بالبشرية! "مشغول بالآخرين"! ما سبب تعاسة الناس في الأرض؟ ما سبب ما يقع على البشر من مظالم؟ هل السبب كامن في الناس أنفسهم؟ أم في حكامهم؟ أم في النظم السائدة بينهم؟ ومن أين يبدأ الإصلاح والتغيير لإزالة الظلم والشقاء في المجتمع القريب أو في البشرية كلها على السواء: يبدأ من إصلاح الناس، أو إصلاح الحكام، أو إصلاح النظم؟ وما طريق الإصلاح لهذا كله؟ وما المبادئ التي يقوم عليها الإصلاح؟ ومن -من الجماعات أو الهيئات أو الأحزاب أو التكتلات- هو أقومها مبادئ، وأقومها طريقة، وأقربها إلى تحقيق الإصلاح المنشود؟ ومن هذا الخيط يسعى الشباب من جانبه إلى "الانتماء"، كما تتسارع الجماعات والهيئات والأحزاب والتكتلات إلى جذب الشباب إليها من هذا الخيط ذاته؛ لأنها تعلم وجوده، وتستغل وجوده، ثم تمضي بالشباب بعد ذلك في طريق الهدى أو في طريق الضلال. في طريق الله أو في طريق الشيطان، وما أقل فيها من يتجه إلى الله، وما أكثر من يتجه إلى الشيطان. والشباب في الحالتين منقاد بإخلاصه الذاتي لمن يظن أنه على يديهم يتم الخلاص, ويبيت يحلم "بالبطولة" عن هذا الطريق. وتصل مشاعر الشباب في هذه الأمور إلى درجة الحماسة المتوقدة وإلى درجة الفدائية والتضحية بالنفس في سبيل ما يرى أنه الحق. وتستغل الجماعات والدول هذه المشاعر لما تريد تحقيقه من خير حقيقي أو خير مزيف أو شر صريح! فتجند طاقة الشباب وحماسته وفدائيته في الطريق الذي تريد، فيسخو الشباب بما يراد منه من جهد أو مال أو تعرض للخطر أو بذل للدماء، ومن أجل هذا تستكثر التكتلات الحركية من الشباب بين أعضائها، ومن أجل ذلك أيضًا تجند الدول جيوشها من الشاب. وإذا كانت هذه هي الصورة العامة, فلا ينفي ذلك وجود حالات شاذة نادرة ينحرف فيها إحساس الشباب "بالآخرين" إلى بغض وكراهية، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 متعة مريضة وتلذذ بالشر والإيذاء، فيجند الشاب ولاءه وجهده وفدائيته لعصابات القتل والسلب والنهب والاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض, ويجد "بطولته" في هذا الطريق! وينمو الشاب عاطفيًّا كذلك. لقد كان في مراهقته يتخذ أصدقاء يلعب معهم حينًا ويلهو، ويستذكر معهم حينًا آخر، ويخرجون في نزهات أو جولات، ويكونون أحيانًا "جماعات" صغيرة تقوم ببعض ألوان النشاط. ثم كانت له "اهتمامات" بالجنس الآخر1. أما اليوم فقد اتسع مجال عواطفه وتضاعف.. إن له اليوم أصدقاء، قد يصطفي من بينهم واحدًا أو أكثر يلازمه ويستخلصه لنفسه ويفضي إليه بذات نفسه وأسراره. ولكنه مع ذلك قادر على منح صداقته وزمالته لعدد واسع من الناس. ومن هنا يمكن أن يحس بالزمالة لفرقة كاملة من فرق الدراسة -وخاصة الدراسة الجامعية- بينما كان في مراهقته لا يصادق من فرقته إلا أفرادًا معينين. ويستطيع أن يحس بالزمالة لفريق رياضي كامل، أو مجموعة كبيرة من البشر في الهيئة أو الجماعة أو الحزب أو التكتل الذي ينتمي إليه. وتظل هذه الزمالة أو الصداقة تتعمق على مدى الأيام، ومنها ما ييقى إلى نهاية العمر، بينما كانت زمالات المراهقة موقوتة سرعان ما تفرقها الأحداث! ثم إن له عواطف اجتماعية، وأخرى إنسانية. عواطف موجهة إلى المجتمع الذي يعيش فيه. إلى مجموع الناس في هذا المجتمع لا إلى أعيانهم ولا أشخاص معينين منهم. يحس نحوهم برابطة ما. رابطة معنوية ولكنها عميقة وقوية، تأخذ شكل "المفهوم" الذي يعيش به، سويًّا كان هذا المفهوم أو غير سوي، فتأخذ شكل أخوة في الله. أو شكل   1 نتحدث هنا -كما سبق القول- عن اتجاهات الفطرة الطبيعية، لا عن انحرافات الجاهلية. والجاهلية المعاصرة بسلوكها الواقعي وصحافتها وإذاعتها وتليفزيونها وأفلامها وبرامجها التمثيلية هي أشد جاهليات التاريخ انغماسًا في الفساد الخلقي وأكثرها ليًّا للفطر عن طريقها الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 رابطة وطنية، أو قومية، أو عرفية، أو لغوية. أو ما يكون من أنواع الروابط بين الناس. وعواطف موجهة إلى الإنسان. إلى المجموع البشري بصرف النظر عن الأقوام والأجناس واللغات والألوان. يحب أن يتعرف إليهم، ويحب أن يتعاون معهم على الخير. ولا ينفي هذا بطبيعة الحال أن تكون هناك عواطف مضادة. فالحب والكره خطان أصيلان من خطوط الفطرة، والفطرة السوية تكره كما أنها تحب. تكره الشر والباطل وتكره الشريرين والمبطلين. ولكن بصرف النظر عن البيئة التي تحيط بالشاب والمفاهيم التي يعيشها -ونحن حتى الآن نتحدث عن "الشاب" بصفة عامة ولم نتحدث بعد عن "الشاب المسلم" ولا عن دور التربية الإسلامية في تربية الشباب -بصرف النظر عن ذلك كله فإن وجود المشاعر "الإنسانية" وعواطف المودة والحب "للمجموع" الذي يراه الإنسان رؤية مباشرة, ولكنه يتجه إليه بعواطفه.. لا ينفي كل ذلك أن تكون هناك عواطف كره وعداء. على نفس الدرجة من الحماسة والعمق، لفئات معينة داخل المجتمع، أو كتل معينة من مجموع البشرية. والهيئات والجماعات والأحزاب والتكتلات، والدول كذلك، تستغل مشاعر الكره كما تستغل مشاعر الحب، وتجندها لحسابها، وتصل بها إلى تحقيق أهدافها، سواء كانت أهداف خير أو شر. وقليلًا ما تكون للخير وما أكثر ما تكون للشر، وما أكثر الحروب والصراعات الباطلة في حياة البشرية، التي يقودها أفراد وهيئات وحكومات ذات مصالح معينة. ووقودها الشباب! ومن بين العواطف التي نمت ما يتصل بالجنس الآخر. لقد كانت هناك اهتمامات بالجنس الآخر في فترة المراهقة، وأحلام وخيالات. وقد تستمر هذه الرؤى المسحورة فترة من الوقت دون ارتباط معين. وقد ترسم هالات سحرية حول وجه معين لا مزية له في نظر الآخرين، ولا في نظره هو نفسه حين يأخذ في شيء من النضج فيما بعد. ولكنه في فترة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 المراهقة يضفي من خياله المسحور على كل شيء حوله فتبدو الأشياء العادية كأنها أطياف من عالم مسحور! وفي مبدأ الفترة التي نتحدث عنها تكون في نفسه بقية من هذا الخيال المسحور تشكل عواطفه نحو الجنس الآخر. ولكنها -تدريجيًّا- تأخذ صورًا أكثر تحديدًا وأكثر واقعية. إن هذه الفترة -في الفطرة السوية- هي فترة البحث الجاد عن شريكة الحياة. وفي غير الجاهلية المعاصرة كان الناس يتسجيبون لدافع الفطرة السوية، فيتم الزواج بالفعل في فترة الشباب الباكر، وتكون تجربة الزواج من التجارب المؤهلة لتمام النضج. ولكن الجاهلية المعاصرة -لأمور كثيرة تراد- أبطلت ذلك كله، وأحدثت واقعًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا لا ييسر الزواج المبكر بل يضع أمامه كل العراقيل كما قال "ول ديورانت" فيما نقلناه عنه من قبل، في ذات الوقت الذي تيسر فيه كل أنواع الفاحشة, وتصبح هي الأصل في حياة الناس! ثم تصاغ حول هذا الواقع نظريات وأفكار زائفة لتبريره, وتثبيته وتزيينه لكي لا يرجع الناس عنه ولا يفيئوا إلى فطرتهم السوية! فأما الواقع فهو تعجيز الشباب عن الكسب المؤهل للزواج حتى فترة متأخرة من العمر، وتصعيب الحياة وتكثير مطالبها، ورفع أسعارها حتى تصبح حاجزًا يصعب تخطيه أو يستحيل تخطيه! وأما النظريات والأفكار فتقول إن الشباب ينبغي أن ينضج أولًا قبل أن يتزوج لكي يستقر زواجه فيما بعد، ولا ينضج حتى تكون له علاقات جنسية كاملة واقعية ينضج من خلالها، ثم يتزوج بعد ذلك إن أراد! من ثم تتحول فترة الشباب الباكر في هذه الجاهلية إلى فترة من العبث الماجن الذي لا تحده حدود. ثم تؤلف كتب في التربية وعلم النفس تقول: إن هذه الفترة فترة يتجه فيما كل من الجنسين إلى إقامة علاقات "واقعية" مع الجنس الآخر للتعرف عليه تمهيدًا للزواج والاستقرار الذي يأتي في مرحلة متأخرة فيما بعد، وإنه لا بد من وجود هذه العلاقات وإتاحتها لكي لا يحدث الكبت واضطراب الأعصاب، وإن الحالات التي لا تقوم فيها مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 هذه العلاقات تعتبر حالات شاذة تحتاج إلى علاج! ثم تقوم العيادات النفسية بتكملة الحلقة. فتنصح الزائرين والزائرات من الشبان والفتيات أن يقيموا علاقات تذهب عن نفوسهم الحزن وترفع الكبت وتطلق الشحنة الحبيسة في الأعصاب! وتعلم الجاهلية في سريرة نفسها -أو يعلم الشياطين الذين يخططون لها- أن هذه كلها أمور مفتعلة وحجج غير حقيقية! فهناك شباب -غير قليل- في تلك المجتمعات المتفسخة، ينشئ علاقات "مستقرة" أي: تقوم فيها معاشرة كمعاشرة الأزواج، ينجم عنها بنون وبنات، وتؤجر لها المساكن ويشترى لها الأثاث. ثم لا يتزوجون! فليست الإمكانات المادية إذن هي التي تنقصهم، ولا هي ضرورة النضج قبل الاستقرار، إنما هي الرغبة المجنونة في معصية الله واتباع الشيطان! ثم إن العلاقات الزوجية التي تنشأ بعد فترة العبث الماجن في الشباب الباكر لم تثبت حتى الآن أنها علاقات مستقرة وناضجة، بل الثابت من الإحصاءات أنه كلما أمعن الشباب في "التجربة" بحثًا عن النضج المزعوم والاستقرار، زادت نسبة الطلاق بعد الزواج، وزادت البيوت المهجورة التي هجرها الزوج أو الزوجة بحثًا عن "تجربة" جديدة! ونضرب صفحًا عن الجاهلية وما تفتعله وما تفعله، ونعود إلى عواطف الجنس في الفطرة، فنقول: إن هذه الفترة هي فترة البحث الجاد عن شريكة الحياة. فلم تعد المسألة مجرد أحلام مسحورة وهيام وخيالات. إنما هي عواطف واقعية تتجه إلى شخصية محددة. أو هو بحث واقعي عن شخصية محددة تتوفر فيها شروط معينة تتلاءم مع المفهوم الذي يعيش الشاب به، والصورة التي يريد تحقيقها، ولا يمنع هذا من وجود الرؤى المسحورة التي تصنع الهالات حول شخصية معينة قد تبدو في نظر الآخرين عادية بغير هالات. فهذا من طبيعة تلك الفترة من العمر عند بعض الناس على الأقل، الذين يلعب الخيال والفن دورًا في حياتهم، وهو من دوافع الفطرة الطبيعية التي أودعها الله في كيان الإنسان لتحدث التلاحم المطلوب بين شقي النفس الإنسانية: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1 إنما الفارق بين هذه العواطف وعواطف المراهقة أنها هنا واقع تحفه الأحلام، وهي هناك أحلام بغير واقع حقيقي ولا هدف واقعي، ولا سعي جدي إلى غاية محددة. وينمو الفتى نموًا عقليًّا واسع المدى. حقيقة إن خبراته لا تكتمل في هذه المرحلة من العمر. بل إن مرحلة النضوج ذاتها لا تكتمل الخبرة في أولها، ولا يزال الإنسان يتعلم ويضيف إلى خبراته مهما امتد به العمر. إنما يكون الإنسان في سن الأربعين مثلًا قد حصل على قدر معقول من الخبرة والتجربة يؤهله لحمل المسئوليات الكبيرة. ويلفت نظرنا في هذا الباب بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الأربعين من عمره، وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2. فالخبرة إذن لا تكتمل في مرحلة الشباب الباكر، بل الأحرى أنها تبتدئ حينئذ مجرد بدء، وتظل السنوات تضيف إليها حتى يحصل الإنسان نصيبه منها في سن متأخرة. ولكن النمو العقلي, والاستعداد لتلقي التجارب واستفادة الخبرة منها هو الذي يحدث في هذه الفترة على نطاق واسع. فأما مستوى الذكاء المقدور للإنسان فإنه يبلغ ذروته في هذه الفترة, ولا يكاد يزيد بعد ذلك، كما تبلغ القامة ذروتها في الارتفاع المقدور لها ولا تكاد تزيد بعد ذلك! أما الحصيلة العقلية التي يؤهل لها ذلك المستوى من الذكاء فهي تمتد بامتداد العمر، أو على الأقل حتى تنتهي الفترة الخصبة من العمر. ولكن القدرة على التحصيل في هذه الفترة بالذات قدرة فائقة بشكل ملحوظ. وفي   1 سورة الروم 21. 2 سورة الأحقاف 15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 تلك الفترة يقرأ الشباب معظم قراءاته ويطلع معظم إطلاعاته، قبل أن تخبو فيه رغبة القراءة والاطلاع بعد إتمام دراسته والانغماس في مشاغل الحياة. والأصل الواجب ألا ينقطع الإنسان عن التحصيل والاطلاع لكي لا يتوقف نموه العقلي والعلمي. والعملي كذلك. لكن حتى الذين يقومون بهذا "الواجب" يعلمون أن فترة "النهم" في القراءة والاطلاع هي فترة الشباب الباكر، حيث الرغبة والقدرة معًا متوفرتان، وحيث يستطيع بعض الناس أن يقرأ كتابًا كاملًا كل يوم، بلا ملل ولا رغبة في الانصراف! وتبدأ هذه الفترة -على نظم الدراسة الحالية- في نهاية المرحلة الثانوية ثم تستوعب المرحلة الجامعية كلها وسنوات أخرى بعد التخرج. وفيها يحصل الشاب -سواء عن طريق الدراسة المقررة أو عن طريق اطلاعاته الخاصة- الجسم الأكبر من "المعرفة" التي يعيش بها بقية حياته، يضيف إليها دراسات واطلاعات جديدة فيما بعد إن كان من أصحاب النفس الطويل في التعلم، ويتوقف عندنا إن كان ممن تفتر حماستهم للمعرفة بعد ذلك. ولا يكاد يوجد نوع من المعرفة يستعصي على الشباب في تلك الفترة -مع مراعاة الميول والاستعدادات الخاصة بالطبع- إلا ما كان من أنواع المعرفة في حاجة إلى الخبرة بجانب القدرة على الفهم والاستيعاب. ومن هنا ينجز الشباب دراسته الجامعية بنجاح، وينجز كذلك قدرًا من دراساته العليا بقدرة ملحوظة على الاستيعاب والتحصيل. ويتعرض لمناقشة كل المشكلات، شاعرًا أن لديه القدرة على مناقشتها! وكثيرًا ما تكون مناقشته سطحية أو متلفسفة بغير موجب! ذلك أن النظر في المشكلات والبحث عن حلول لها أمر يتعلق بالخبرة والممارسة أكثر مما يتعلق بالمعلومات المحشودة في ذهن الإنسان. ولكن الشباب لا يدرك هذه الحقيقة إلا متأخرًا، حين يحصل قدرًا معقولًا من الخبرة والممارسة الواقعية! أما في شبابه الباكر فيظن أن معلوماته وقدرته على التفكير المجرد كفيلتان بحل أعقد مشكلات البشرية! ومن ثم يجد في نفسه الجرأة على النقد، وإعلان رأيه في بساطة واعتداد وبلا تحفظ! كما يكون نقده قاطعًا وحاسمًا لا يقبل الرفق ولا التوسط، ويكون مقتنعًا بمنطقيته وسلامته فلا يسهل عليه الرجوع عنه! ولذلك يتعرض الشباب للاندفاع والشطط في تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 الفترة ما لم يجد التوجيه التربوي السليم الذي يعوده على الانضباط ويقوم بين يديه المعايير. ومع ذلك الاعتداد بالذات، والاعتداد بالعلم، والاعتداد بالرأي، والاعتداد بالقدرة على النظر في الأمور، فإنه في نفس الشاب كما كان في نفس المراهق من قبل قابلية شديدة للاستهواء! بل ربما كانت أوسع مدى وأعمق غورًا من قابلية المراهق لها. هنا إعجاب شديد بالبطولة والتفوق، إن لم يضبط ضبطًا سليمًا فهو عرضة للانحراف الشديد، الذي يصل إلى "عبادة" البطولة في كثير من جاهليات التاريخ قديمها وحديثها سواء. وليس هتلر إلا نموذجًا واحدًا من نماذج الجاهلية المعاصرة وغيره في عالم السياسة كثير. غير أن الجاهلية المعاصرة قد هبطت هبوطًا شائنًا بمستوى "البطولة"، وعبثت عبثًا ماجنًا بقابلية الشباب للاستهواء، فجعلت ممثلي السينما "وممثلاتها" الرقعاء هم الأبطال الذين يجرون الشباب عن طريقهم من خيط الاستهواء ليلقوا بهم في حمأة التفسخ النفسي والفساد الخلقي والتفاهة والتميع والانحلال! وبصرف النظر عن هذه الجاهلية بالذات، فإن هذه القابلية الشديدة العميقة للاستهواء هي التي تجمع الشباب حول القادة والزعماء، وحول الفنانين والكتاب، وحول المفكرين والعلماء، سواء كان التجمع فكريًّا أو عاطفيًّا يبدو في إظهار الأعجاب بما يصدر عنهم من أقوال أو أفعال، والتحمس له، والدفاع عنه ضد المعارضين والمنتقدين، أو تجمعًا حركيًّا في القضايا السياسية والاجتماعية. يصل كلاهما إلى التعصب أحيانًا وإلى العدوان. وظاهرة الاعتداد بالذات والاستهواء للآخرين -رغم تناقضهما الظاهري- موجودتان بصورة طبيعية في الفطرة، لأنهما خطان من الخطوط المتقابلة في النفس البشرية، يتم عن طريقهما -في الفطرة السوية- التلقي من المصادر الجديرة بالتلقي عنها، والإيجابية اللازمة للحركة في ذات الوقت1، ولكنهما عرضة للانحراف ككل خطوط الفطرة حين يعوزهما التوجيه التربوي الصحيح،   1 انظر فصل "خطوط متقابلة في النفس البشرية" في الجزء الأول من كتاب "منهج التربية الإسلامية" الفقرة الخاصة بالسلبية والإيجابية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 فيتلقى الشاب -بدافع الإعجاب- من مصدر لا ينبغي التلقي عنه، ثم يعتد بما يتلقاه عن هذا المصدر إلى درجة التعصب، كأن الأفكار أو الأفعال التي يتعصب لها هي أفكاره الذاتية وأفعاله الذاتية! ونحن -حتى الآن- نستعرض ملامح هذه المرحلة كما توجد عادة في نفوس الشباب، ولم نتحدث بعد عن الشاب المسلم وعن التوجيه الإسلامي لتلك الملامح والسمات، وإن كنا نستطيع أن نقدر -سفلًا- موقف المنهج الإسلامي مما يحدث في الفطرة من انحرافات. تحدثنا حتى الآن عن النمو الجسدي، ونمو الاستعدادات والمواهب، والنمو النفسي، والنمو العاطفي، والنمو العقلي، وبقي أن نتحدث عن النمو الروحي. لقد بدأ هذا النمو في فترة المراهقة، وهو هنا يتسع ويتعمق. قل إن شئت إن البذرة الأولى لتفتح الفطرة لخالقها قد بدأت مبكرة في مرحلة الطفولة حين بدأ الطفل يتساءل عن أسرار الكون من حوله, ويريد أن يعرف من الصانع لهذا الوجود كله. لكن الصلة الوجدانية بالخالق قد أخذت صورة أوضح وأدق مع التفجر الذي حدث في كيان الفتى في سن المراهقة، حين تفجرت الطاقات معلنة عن وجودها, كما تنبثق الأزهار في الشجرة خارجة من أكمامها لتحمل الثمرة فيما بعد. وهناك في تلك المرحلة جاء التكليف الرباني، الذي يفرض على الإنسان -رجلًا أو امرأة- في سن البلوغ. جاء وقد أعد له فاطر هذه الفطرة سبحانه. أعد له بهذا الانبثاق الروحي الذي يصحب مرحلة البلوغ. والآن نجد هذه الطاقة الروحية في أصفى حالاتها "ما لم تتدخل الجاهلية تدخلًا جذريًّا لإفسادها". إنها فترة تدين وبحث في أمور الدين. فترة رغبة في التعرف الواعي على الخالق -سبحانه- بصفاته وأسمائه وأفعاله، ومحاولة الاقتراب إلى أقصى المدى من حقيقة الألوهية. فترة نظر في الوجود ومحاولة التعرف على أسراره. فترة حب فياض للكائنات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 ولئن كان بعض هذا كله يأخذ صورة ذهنية فلسفية جدلية، إلا أن جانبًا آخر منه يأخذ صورة روحية وجدانية عميقة. والشباب -بغير توجيه سليم- يتعرض في هذه الفترة أحيانًا للشك "الفلسفي" في قضايا الألوهية والوحي والبعث والنشور والحساب والجزاء. ولكنه حتى عندئذ يعاني قلقًا "روحيًّا" لا ذهنيًّا فحسب. لأن الجانب الروحي في كيانه متفتح وفي حالة نشاط. وحين لا يجد الزاد الصحيح فإنه يضطرب ويختل، ويكون القلق هو العارض الدال على ذلك. ولكنه حتى في حالة اضطرابه موجود ومؤثر ومتأثر في ذات الوقت. إن هذا التفتح الروحي -في حالته السوية- يحدث صلة عميقة جدًّا بالله، ثم بالكون والحياة والأحياء. صلة بالله تظهر في التفكر والذكر والعبادة والرغبة القوية في التقرب إلى الله بالنوافل وبصالح المشاعر وصالح الأعمال. وصلة بالكون والحياة والأحياء تشعر الإنسان أن الحياة منبثة في تضاعيف هذا الكون كله، وأنه هو جزء من هذا الوجود الحي، مترابط معه، موصول، متصاحب معه، وليس جزءًا معزولًا عنه ولا معاديًا له. وحتى في حالة الضلال فقد يوجد هذا التدفق الروحي كله في صورة وثنية ضالة، تعبد الله على ضلالة، وتعبد الكون في صورة "عبادة الطبيعة" وتنحرف إلى ألوان من التقديس للحياة والأحياء. ولكنها في هذه وتلك طاقة روحية أكيدة، عميقة الوجود في الكيان النفسي في تلك الفترة بالذات. والجاهلية المعاصرة -وحدها تقريبًا في تاريخ الجاهليات- هي التي تعمل جاهدة على طمس طاقة الروح وتجريد الإنسان منها حتى في صورتها الوثنية الضالة، ليصبح بعد ذلك حيوانًا هابطًا أو آلة صماء. وهي درجة من الانحراف نحسبها فريدة في تاريخ البشرية. فحتى اليهود في جاهليتهم المادية التي غرقوا فيها، كانت لديهم حين جاء الإسلام بقية -منحرفة- من طاقة الروح استخدموها في السحر: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1. أما جاهلية "العلم" في هذا القرن العشرين، فهي أجهل جاهليات التاريخ! الآن وقد أعطينا وصفًا سريعًا للسمات البارزة في هذه المرحلة عند الشباب، نتحدث عن الشاب المسلم في هذه المرحلة، كيف يتكون وكيف يكون؟. إن الإسلام دين الفطرة، ما جاء ليغير مسار الفطرة أو يغير بناءها. إنما جاء ليبين لها مسارها الصحيح ويقيمها عليه، لأن فاطر هذه الفطرة هو الذي نزل هذا الدين، وفصل فيه منهج الحياة. وقد فصله سبحانه بحيث يتلبس بالفطرة تمامًا -في حالة سوائها- ويقومها في حالة انحرافها لتستقيم. وكل ما عرضناه من سمات هذه الفترة فإن له توجيهه المناسب في المنهج الرباني، الذي يجعله في أحسن تقويم. وما علينا -في التربية- إلا أن نطبق توجيهات المنهج, فإذا لدينا ذلك الشاب المؤمن الذي نشأ في طاعة الله، والذي نوه به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن المستحقين للجنة عند الله: "سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله" 2. وإنها لصورة كريمة حقًّا ومشرقة حقًّا تلك التي تصفها تلك الكلمات: شاب نشأ في طاعة الله.   1 سورة البقرة 101-102. 2 أخرجه الشيخان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 وهذه الصورة الكريمة لم تكن قط خيالُا مثاليًّا غير قابل للتطبيق، بل كانت واقعًا. لأن المنهج الرباني نزل لينشئ واقعًا مشهودًا في الأرض، لا لينشئ أحلامًا جميلة غير قابلة للتطبيق. وانظر إلى الشباب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد التابعين كيف كانوا. بل انظر إلى شباب المسلمين في قرون متطاولة من التاريخ بعد تلك الفترة المثالية الفريدة، ثم انظر إلى شباب الجاهلية المعاصرة الممسوخ المشوه الكيان، واعجب -إن شئت- كيف كون هذا وذاك نموذجين لنوع واحد من الخلق، هو "الإنسان"! لا جرم أن الآخرين هم كالأنعام بل هم أضل! ألا إنه الإنسان مرة في أحسن تقويم، ومرة أسفل سافلين! {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 1. قلنا في عرضنا لسمات هذه الفترة: إن القوة الجثمانية للشاب بدأت تظهر، وبدأ هو يعنى بإبرازها. ونقول هنا: إن منهج التربية الإسلامية يعطي هذه الظاهرة حقها ولكن على طريقته الخاصة. إن كثيرًا من مناهج التربية في القديم والحديث قد أولت عنايتها لهذه الظاهرة فجعلت للشباب ساحات وملاعب يدرب فيها عضلاته ويقويها ويستزيد فيها من قوة الجسد إلى أقصى الغاية. والشباب من تلقاء نفسه -ولو ترك بغير توجيه على الإطلاق- يتجه إلى اللعب والرياضة لتصريف الفائض من طاقته الحيوية وتقوية جسمه في ذات الوقت. وكان اليونان والرومان يعنون عناية شديدة. بكمال الجسم وجماله واقتداره وقوته، كما كان غيرهم من الشعوب. والإسلام كذلك يعني بقوة الإجسام واقتدارها، فيوجه الشباب إلى   1 سورة التين 4-6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 الرياضة وخاصة السباحة والرماية. يقول الحديث: "علموا أولادكم السباحة والرمي"1. ولكن العبرة ليست بتقوية الجسم وتدريبه. إنما تكمن العبرة -التربوية- في الهدف من وراء ذلك. هل القوة الجسدية غاية في ذاتها كما كانت عند الإغريق؟ أم هي وسيلة لغاية؟ وأي غاية هي؟ الاستمتاع بمتاع الأرض إلى أطول مدى مستطاع دون أمراض أو بأقل قدر من الأمراض كما هو الهدف الغالب من الرياضة في الجاهلية المعاصرة؟ أم هو الكسب المادي كما تصنع هذه الجاهلية في مباريات المحترفين من لاعبي الكرة والمصارعين والملاكمين؟ أم هو تلهية الجماهير عن مظالم الطغاة كما هو مشاهد من "جنون الكرة" في كثير من بقاع الأرض؟ أم هو الإعداد للقتال كما كان في روما القديمة وكما كانت النازية تصنع في التاريخ القريب؟ وحين يكون الهدف هو الإعداد للقتال فأي قتال هو؟ وفي سبيل أي شيء؟! إنها -كما ترى- أهداف متعددة ومختلفة، وإن كانت صورة الأداء واحدة في جميع الحالات. والعبرة بالهدف لا بصورة الأداء. والإسلام يعنى بقوة الأجسام لسببين: أحدهما عام والآخر خاص. فأما السبب العام فهو الذي يبينه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير" 2, وأما السبب الخاص فهو الإعداد للجهاد في سبيل الله. والسببان يلتقيان في الحقيقة. فهذا الدين دين قوة وغلبة، وليس دين استخذاء وضعف. وقد نزل ليحكم الأرض، ويقيم فيها حكم الله، ويزيل منها الطواغيت التي تعبد الناس لها من دون الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3.   1 رواه الديلمي. 2 رواه ابن ماجه. 3 سورة البقرة 143. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 3. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 4. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} 5. {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 6. ودين على هذا النحو، يعد أهله لإقامة الحق والعدل في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالة الطواغيت من الأرض ليكون الدين كله لله لا للطواغيت. دين كهذا يحتاج إلى قوة وإلى أقوياء. والقوة معنى شامل، يشمل قوة الأرواح وقوة العقول وقوة النفوس وقوة الأبدان. والإسلام حريص عليها كلها في آن. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصًا على أبدان أمته أن تكون قوية صحيحة، كما كان حريصًا على أرواحهم وعقولهم ونفوسهم. وقد أوصاهم ألا يسرفوا في الطعام, وبين لهم أن المعدة بيت الداء, لتظل أجسامهم بعيدة عن الأمراض. كما أوصاهم أن يتدربوا التدريبات الرياضية العنيفة كالسباحة والرماية وركوب الخيل لتشتد أجسامهم وتقوى، وتكون عدة لهم في الجهاد. ولكن ما الفرق إذن بين الإسلام وبين الدولة الرومانية القديمة أو بينه وبين النازية الحديثة، وقد كانت كلتاهما تدعو إلى القوة والغلبة، وتعد شبابها للقتال؟   1 سورة الصف 9. 2 سورة الأنفال 39. 3 سورة التحريم 9. 4 سورة التوبة 123. 5 سورة الأنفال 60. 6 سورة الفتح 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 الفرق ليس في الصورة وإنما في الجوهر. ليس في الوسيلة وإنما في الغاية. لماذا يقاتل الإسلام، ولماذا يقاتل الكفار في القديم أو الحديث؟ {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} 1. إنه ليس القتال في ذاته، إنما السبيل والغاية في سبيل من؟ وفي سبيل ماذا؟ لتوسيع الرقعة؟ لإرضاء الزهو؟ لاستعباد الآخرين وقهرهم ونهب خيراتهم؟ لتحقيق المصالح الخاصة؟ للتكالب على متاع الأرض؟! تلك هي الأهداف التي تقاتل من أجلها الجاهليات. وتقدم شبابها وقودًا لصراعاتها. وتلك بالذات التي جاء الإسلام ليحاربها. ويقاتل الطغاة الذين يسخرون شعوبهم من أجلها، ويحرر تلك الشعوب من استعباد الطغاة لها، وذلك بأن يدعوهم لعبادة الله الواحد فيتحرروا لتوهم من جميع الأرباب الزائفة التي تعبد من دون الله، وفي مقدمتها أولئك الطغاة بنظمهم وتشريعاتهم التي يستعبدون بها الناس. وأمر المسلمين أن يدعو الناس إلى الإسلام أولًا، فإن أسلموا -لله لا لهم- فقد انتهى الأمر, ولم يعد هناك قتال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2. فالإسلام إذن دين دعوة أولًا. دعوة لله. فإن أبى الناس الإسلام، وأبوا الخيار الثاني وهو إعلان الخضوع لقوة الإسلام وعدم الخروج عليه أو مناوأته، فعندئذ يقاتلون. ويقاتلون لا لإكراههم على العقيدة ولكن لإقامة العدل الرباني في الأرض، المتمثل في تحكيم شريعته، والناس أحرار بعقائدهم في ظل الإسلام. من أجل هذه الأهداف يقاتل المسلمون. لتكون كلمة الله هي العليا. لا ليكون جنس أو قوم أو أفراد من البشر هم الأعلون. وحين يربي الإسلام أهله جميعًا -وشبابه خاصة- على القوة، بما في   1 سورة النساء 76. 2 سورة التوبة 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ذلك قوة الأبدان، فليس لينكبوا على متاع الأرض حلاله وحرامه سواء، ولا ليتكسبوا بأجسامهم في مباريات محترفة، ولا ليتلهوا عن محاربة الظلم الواقع عليهم، ولا ليطغوا به في الأرض ويظلموا، ولا لينهبوا خيرات الشعوب. إنما يربيهم على القوة -بما في ذلك قوة الأبدان- وهو يذكرهم في كل لحظة أنهم عباد الرحمن، الذين يخشعون للرحمن، ويأتمرون بأمر الرحمن، كما وصفهم القرآن في آخر [سورة الفرقان: 63-76] . {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} . {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} , وهكذا لا تنفصل تربية الأجسام في منهج التربية الإسلامية عن تربية الأرواح، وتكون الأجسام القوية وسيلة لنشر الخير في الأرض، لا لنشر الشر والفساد. وفي ذلك يتفرد المنهج الرباني عن مناهج البشر كلها خلال التاريخ. وقلنا هناك إن المواهب والاستعدادات بدأت تظهر، وبدأ الشاب يعتز بها وينميها. والإسلام حريص على هذه المواهب والاستعدادات يربيها وينميها ولا يكبتها ولا يتركها تتبدد بغير طائل. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف كل موهبة من مواهب أصحابه ثم يستخدمها في خير مجالاتها، ويستخدم صاحبها حيث تكون موهبته أنفع للإسلام والمسلمين. وذلك هو منهج التربية الإسلامية. إن الموهبة في ذاتها طاقة يمكن أن تستخدم في سبيل الخير كما تستخدم في سبيل الشر سواء. وليست هناك موهبة شريرة بذاتها ولا خيرة بذاتها. إنما التوجيه الذي تتلقاه هو الذي يجعلها خيرة أو شريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 فماذا يتوقع من منهج التربية الإسلامية إزاء المواهب والاستعدادات؟ إنه لا يكبتها لأنها موهبة ربانية. وكل ما وهب الله للبشر فهو رزق ينبغي أن ينموه ويستغلوه ويشكروا فضل الله عليهم فيه. ولا يبددها لأن تبديد الطاقة مخالف لتعاليم الإسلام كلها ومخالف لروحه كذلك. إنما يوجهها وجهة الخير، التي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة، وتنفع الناس: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} 1. ولنأخذ مثلًا موهبة الشعر، التي يظن أن الإسلام حاربها وكرهها وكره الناس فيها، بسبب قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 2. فبصرف النظر عن أن هذه الآيات نزلت في شعراء المشركين, الذين كانوا يهاجمون الإسلام ويسبون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. فإن العبرة بالنص ذاته لا بسبب نزوله. فالنص يصف سلوكًا معينًا هو في ذاته معيب ولا يستحق الاحترام أو التقدير: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} {يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . ثم إن النص القرآني الذي بدأ بقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} لم يجعلها قضية عامة شاملة لا استثناء فيها. إنما استثنى منها -برغم صيغة العموم في الآية الأولى- طائفة معينة ذات سلوك آخر مختلف. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 3. فتبين من النص أنه ليس الشعر في ذاته هو الملعون ولا الشعراء بجملتهم جميعًا. إنما السلوك الجاهلي بالشعر هو المذموم، والسلوك الإيماني به خارج من الذم، بل هو في مقام المديح من ظاهر ما وصف به ذلك الفريق ومعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرب إليه حسان بن ثابت "شاعر الرسول   1 سورة الرعد 17. 2 سورة الشعراء 224-226. 3 سورة الشعراء 227. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 كما يطلق عليه" ويستحثه على القول، ويقول له: "قل وروح القدس معك" وهو أكبر تشجيع له وأكرم تشجيع. فلم تكن الموهبة في ذاتها إذن، إنما طريقة السلوك بهذه الموهبة، هي التي تضعها في سجل الخير أو سجل الشر، والتي تجعلها مطلوبة ومرغوبة أو منبوذة ومذمومة. وهنا -بالنسبة للشعر- يعرض سؤالان، نجيب عليهما لأنهما في نظرنا داخلان في منهج التربية الإسلامية: ألا نقدر الفن ذاته كفن، بصرف النظر عن الموضوع الذي يتناوله؟! ثم.. هل نريد الشعر -أو الفن عامة- وعظًا ودعوة إلى مكارم الأخلاق, لكي نبيحه ونشجع الشاب الموهوب عليه، وإلا قتلنا موهبته وضيعناها؟ فأما الفن للفن فهي صيحة جاهلية لا يقرها الإسلام ولا يتقبلها. بل إن الشيوعية ذاتها -وهي جاهلية- قد رفضت أن يكون الفن عاريًا من الالتزام, ولكنها حددت مجال الالتزام في حدود جاهليتها وحدها، أي: الحديث عن الشيوعية وعن صراع الطبقات, وعن آلام الطبقة الكادحة المسحوقة تحت ضغط الإقطاع والرأسمالية! وحرمت -مثلًا- أن يكون الحديث عن آلام هذه الطبقة من الزاوية "الإنسانية" فهذا في نظرها عبث فارغ لا يؤدي إلى شيء؛ لأن الإنسانية خرافة! إنما ينبغي أن يكون الحديث من خلال صراع الطبقات لكي يتفجر الحقد الطبقي وتثور الطبقة الكادحة, وتسحق ما عداها من الطبقات! والإسلام يرفض أن يقيم مفاهيمه على هذه الأسس المريضة الضيقة المحدودة الآفاق، وهو الذي يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1. ويقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 2. إنما يكره الإسلام الظلم، ويدعو إلى إزالته، ويندد بالساكتين عليه.   1 سورة الحجرات 13. 2 سورة الإسراء 70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 بدعوى أنهم مستضعفون في الأرض ويسميهم {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} .. ولكن لا على أساس الصراع الطبقي والحقد الطبقي، إنما على أساس إنسانية الإنسان، الذي كرمه الله وينبغي أن يظل مكرمًا. والذي خلقه في أحسن تقويم, ويأبي له أن يهبط أسفل سافلين. ثم يبين المنهج الذي يتم به تحرير الإنسان من كل طواغيت الأرض. وهو عبادة الله وحده بلا شريك، وإقامة المنهج الرباني في الأرض، وهو المنهج الذي يقف للطغاة بالمرصاد. والفن الإسلامي هو الذي يدور في فلك هذا المفهوم الواسع الشامل، الذي يأخذ الإنسان كلًّا متكاملًا كما هو في حقيقته، لا يتحدث عن معدته وحدها، ولا عن جانبه المادي وحده. إنما عن كيانه الإنساني كله الذي يشمل جسده وعقله وروحه، ويشمل دنياه وآخرته. ويشمل علاقته بربه وعلاقته بالكون والحياة والأحياء. وهذا شيء أضخم بكثير جدًّا من الوعظ والحديث المباشر عن مكارم الأخلاق. وأضخم من أي مفهوم فني عاشت به البشرية في أي وقت من الأوقات. فالشاب المسلم ذو الموهبة الفنية طاقة ثمينة ينبغي الحرص عليها وتشجيعها وتنميتها. وتوجيهها لخدمة الإسلام على ذات النحو الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشجع حسان بن ثابت على قول الشعر. ولئن كانت ظروف المعركة يومئذ قد اقتضت أن يكون شعر حسان رضي الله عنه دفاعًا مباشرًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام، وسبًّا مباشرًا للكفر والكفار، فليست هذه هي الطريقة الوحيدة للأداء في منهج الفن الإسلامي، إنما يكون الأمر أجمل من الوجهة الفنية كلما استطعنا أن نصل إلى أهدافنا ونبلغ توجيهاتنا عن طريق غير مباشر، من خلال حركة النفس البشرية في إطار الأحداث1. وإذا كنا تحدثنا عن الشعر والفن، فلا نحتاج أن نتحدث عن عناية الإسلام بالمواهب والاستعدادات الأخرى ذات الطابع العلمي أو العملي خاصة، فكلها طاقات يحرص عليها الإسلام، ويستخدمها المجتمع المسلم   1 انظر -إن شئت- حديثًا مفصلًا في هذا الموضوع في كتاب "منهج الفن الإسلامي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 والدولة المسلمة حين يقومان، وتستخدمها الجماعات الداعية إلى الإسلام في الوقت الحاضر، لخدمة الأهداف الإسلامية في جميع ميادين الحياة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية والعملية، وفي ميدان الدعوة كذلك، وهو ميدان واسع وبالغ الأهمية، فنحن نعيش في عصر صراع الدعوات "التي يسمونها أيديولوجيات" والذي تستخدم فيه كل وسائل الدعوة الظاهرة والخفية، ويحتاج من المسلمين إلى جهد فائق لتمييز الحق من الباطل، لذات أنفسهم وللبشرية كافة. وهنا كذلك يتميز المنهج الإسلامي عن المناهج التربوية الأخرى التي تعني عناية ملحوظة بتنمية المواهب والاستعدادات، كما رأينا تميزه من قبل في العناية بالطاقة الجسدية للشباب. إن المواهب -كل المواهب- هي كما قلنا طاقات يمكن أن تستخدم للخير كما تستخدم للشر. وجميع الأمم والمجتمعات تعلم ذلك، ولكنها تختلف في تقدير "الخير" و"الشر" باختلاف المفهوم الذي تعيش به، وباختلاف نظرتها إلى غاية الوجود الإنساني. فأما إن كانت غاية الوجود الإنساني مجهولة كما يقول الشاعر الجاهلي المعاصر: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ... ولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيت فكل إنسان إذن وشأنه. والموهوب وموهبته يتصرف بها كيف يشاء! لا معيار للخير أو الشر على الإطلاق! وأما إن كانت غاية الوجود الإنساني أن يحقق ذاته فردًا مستقلًّا قائمًا بذاته على حساب الجميع, وعلى الرغم من الجميع كما تقول وجودية سارتر1، لأن الوجود الإنساني كله لا غاية له, والوجود الكوني لا غاية له، فلم يبق إلا أن يحقق الإنسان وجوده الذاتي على هذه الصورة، فالمواهب والاستعدادات كلها عبث، ولا مجال للحرص على أي شيء منها في هذه الحياة، إلا بقدر ما تعين صاحبها على سحق الوجود البشري كله لتبقى الذات المفردة لصاحبها!   1 انظر مسرحيته "الجحيم هو الآخرون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 وأما إن كانت الغاية هي العمارة المادية للأرض والاستمتاع بما فيها من متاع بصرف النظر عن حرامه وحلاله وحقه وباطله، كما هو شأن الجاهلية المعاصرة في عمومها، فستحدث تنمية هائلة للاستعدادات والمواهب في جميع الاتجاهات -والعملية خاصة- ولكن على ذات الأساس الذي لا يفرق بين الحلال والحرام والحق والباطل، وتستخدم الاستعدادات والمواهب على نطاق واسع في خدمة الصراع الجبار الذي يحدث بين الأفراد والجماعات والدول والشعوب التي تتصارع كلها على متاع الأرض، ويسعى بعضها إلى سحق بعض! وتكون المواهب والاستعدادات كلها -أو جلها- في خدمة الشيطان، كما تستخدم الطاقة الذرية في التخريب والتدمير، وكما تستخدم حبوب منع الحمل لإشاعة الفاحشة في الأرض، وكما يستخدم فن الصورة المتحركة في إفساد الأخلاق وحل الروابط البشرية في السينما والتليفزيون، وكما يستخدم "العلم" كله -حتى النافع منه- في إفساد العقيدة وصرف الناس عن عبادة الله، بدعوى أن الإنسان قد شب عن الطوق ولم يعد في حاجة إلى وصاية الله! أما في منهج التربية الإسلامية فتنمي المواهب والاستعدادات لتخدم غاية الوجود الإنساني كما حددها الله خالق الإنسان: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. على المعنى الواسع الشامل للعبادة الذي لا ينحصر في شعائر التعبد كما صار في حس الأجيال المتأخرة من المسلمين، إنما يشمل الحياة كلها بكل فكرها وشعورها وسلوكها, كما فهمت الأجيال الأولى من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم, من توجيهات القرآن وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} 2. فهي تشمل الخلافة في الأرض، وتشمل عمارة الأرض ولكن على منهج الله. ليست العمارة المادية وحدها هي المطلوبة من الإنسان ليحقق وجوده   1 سورة الذاريات 56. 2 سورة الأنعام 162-163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 الصحيح في الأرض. إنما هي العمارة على أساس من القيم والمبادئ التي تليق بالإنسان. على أساس إقامة الحق والعدل الربانيين في واقع الأرض. ومن ثم يكون المتاع محكومًا بمعيار الحق والباطل والحلال والحرام، الذي هو معيار الدنيا والآخرة في ذات الوقت. وفي خدمة هذا المنهج الواضح المفصل في الكتاب والسنة، تنمي المواهب والاستعدادات في منهج التربية الإسلامية، فتكون ذات هدف خير واضح، وتكون في خدمة الله لا في خدمة الشيطان. ولقد نحتاج أن نتعلم من الجاهلية المعاصرة وسائلها البارعة في تنمية الاستعدادات والمواهب، وهي وسائل بارعة حقًّا، ما دام الخط قد انقطع بيننا وبين واقعنا التاريخي الذي كانت فيه الأمة الإسلامية أبرع أمة في الأرض وأحسنها استخدامًا لمواهب أبنائها واستعداداتهم الفطرية.. ولكن الذي يحدث حين نرسل أبناءنا ليتعلموا في معاهد الغرب وجامعاته وسائل تنمية هذه الاستعدادات، أنهم لا ينقلون الوسيلة وحدها كما ينبغي أن يحدث، إنما ينقلون الوسيلة ملفعة بالغاية، فيختلط الخير بالشر -ويغلب الشر- لأن أبناءنا هؤلاء -حين يعودون- يعجزون عن استخلاص الوسيلة وحدها وتطويعها لأهداف أخرى من عند أنفسهم. لأننا نرسلهم -في الحقيقة- وليست لهم أهداف ذاتية ولا منهج ذاتي يفكرون به ويسلكونه، لأننا -في حقيقة الواقع- لا نعيش الإسلام منهج حياة، فلا نملك ما نتميز به عن الجاهلية السئدة في الأرض! ولقد كانت أوربا في بدء نهضتها ترسل أبناءها ليتعلموا العلم في مدارس المسلمين في الأندلس, والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من أماكن الحضارة الإسلامية، فيتعلمون الوسائل وحدها ويرفضون أن يأخذوا معها أهدافها الإسلامية وهي الحق المنزل من عند الله، ويصرون -يومئذ- على باطلهم، الذي كفروا به اليوم فأسلمهم إلى الضياع. أفنكون نحن على هذه الدرجة من الهوان فنعجز عن فصل الوسائل عن الغايات المنحرفة التي تتلفع بها، ونصر على أن نتبع أوربا في طريق ضياعها, ونحن نملك الحق المنزل من عند الله؟! وتحدثنا عن النمو النفسي الذي ينقل اهتمامات الشاب من محيطها الضيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 الذي كان يعيش فيه في طفولته ومراهقته، إلى نطاق واسع يشمل المجتمع الذي يعيش فيه، والمجتمع البشري كذلك. ومنهج التربية الإسلامية يستوعب هذا النمو النفسي ويوجهه وجهة الخير على خطىي المنهج الرباني المنزل من عند الله. إن المنهج الرباني يدعو إلى ترابط المجتمع، بل الأمة الإسلامية بأسرها، فيحدث المؤمنين بأنهم إخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. ويحدد هذه الأخوة تحديدًا واضحًا. إنها الأخوة في العقيدة. إنها ليست رابطة الدم ولا الجنس ولا اللغة ولا القوم ولا الأرض ولا المصالح المشتركة، ولا أي آصرة مما تقيم عليه الجاهليات روابطها في القديم أو الحديث. إنما يكون لهذه الروابط كلها وزن حين تكون قائمة في ظل العقيدة: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2. أما في غير العقيدة فكلها روابط منبتة ومحرمة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 3. وليس معنى هذا هو العداء للبشرية: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 4. فالعقيدة محور الحياة، ومحور الحركة، ومحور المشاعر، ومحور السلوك.   1 سورة الحجرات 10. 2 سورة الأنفال 75. 3 سورة التوبة 24. 4 سورة الممتحنة 8-9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 والولاء هو للمؤمنين: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 1. ومن هنا يوجه الشباب في المنهج الإسلامي إلى أن يكون ولاؤهم لجماعة المؤمنين، وأن تكون مشاعرهم نحو البشرية كلها بحسب موقف هذه البشرية من دين الله ومن المؤمنين. أما داخل الجماعة المسلمة فهذه هي التوجيهات والتعليمات التي يتربى عليها الشباب "وغير الشباب بطبيعة الحال! ": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} 2. وعلى المربي أن يتابع ترسيخ هذه الأخلاقيات حتى تصبح عادة. وتصبح دستورًا داخليًّا يتصرف الشاب بمقتضاه تلقائيًّا, كلما عرض موقف من المواقف المذكورة في تلك الآيات. ويحتاج الأمر إلى تذكير مستمر حتى ترسخ هذه العادة. ويكون عدم الترحيب وإظهار الاستنكار والامتناع عن الاستماع، من وسائل الصد عن الوقوع فيما نهى الله عنه من السخرية والغمز واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن بغير تأكد والتجسس والغيبة والنميمة. إلخ. وهكذا تشكل مشاعر الولاء على صورتها السليمة التي يريدها الإسلام. ثم إن من علائم الأخوة ووسائلها التكافل في المجتمع المسلم بين القادرين وغير القادرين. وهذا أيضًا يحتاج إلى توجيه وإلى تعويد. والقدوة أمر عظيم الأثر في ذلك. فحين يرى الشاب -منذ كان طفلًا ومراهقًا- أن أبويه -إن كانا من القادرين- يقومان بكفالة المحتاجين ممن يعرفونهما فإن هذا سيؤثر في نفسه ويعوده على مشاعر التكافل.   1 سورة المائدة 55. 2 سورة الحجرات 11-12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 والإسلام لا يقصر التكافل على المال. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ألوان من التكافل غير المال: "إن أبواب الخير لكثيرة. التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى وتدل المستدل عن حاجته. وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف" 1. ثم هناك التعاون: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2. والتعاون يحتاج إلى تربية، تبدأ منذ الطفولة وتأخذ حيزًا أكبر في فترة المراهقة. ولكن مجالها الأوسع هو فترة الشباب، لأنها الفترة التي يتجه فيها الشباب من ذات نفسه إلى التكتل والتجمع، والتي يملك فيها في الوقت ذاته القدرة الجسمية والنفسية والعقلية التي تجعل التعاون مثمرًا وملموس الفائدة. وغرس التعاون يحتاج إلى التركيز على خط الغيرية, الذي ينمو من تلقاء نفسه في تلك الفترة، وضبط الخطوط الأخرى التي تعاكسه. وهي موجودة في الفطرة وجودًا تلقائيًّا، ولا ضير منها في صورتها العادية، ولكنها عرضة للتضخم المنحرف إن لم توجه التوجيه السليم. وأبرز الخطوط التي تعاكس خط الغيرية حين تنحرف هو شعور الإنسان المتضخم بذاته. ومثل هذا الشخص لا يتعاون مع الآخرين، لأنه يتوقع من الآخرين أن يخدموه لا أن يقوم هو بخدمتهم! وغالبًا ما يكون هذا الشخص قد مرد على انحرافه هذا منذ الطفولة بأن كان طفلًا مدللًا يسارع أبواه إلى إجابة طلباته المعقولة وغير المعقولة، ويحيطانه باهتمام زائد يضخم تمركزه الطبيعي حول ذاته ثم تجيء فترة المراهقة فالشباب فتزيد انحرافه تضخمًا. وحب السيطرة كذلك مما يفسد الغيرية ويفسد القدرة على التعاون، وهو لون منحرف من ألون إثبات الذات، يدفع صاحبه إلى الإحساس بأنه ليس في مستوى الآخرين وإنما أعلى منهم، ومن ثم فلا ينبغي أن يتعاون معهم، وإنما يأمرهم ليطيعوا!   1 رواه ابن حبان والبيهقي. 2 سورة المائدة 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وواجب المربي أن يصلح هذه الانحرافات حتى وإن كانت نبتت في مرحلة الطفولة, ولم تقوم في موعدها المناسب هناك. ففترة الشباب الباكر بخصوبتها الفائقة صالحة لتقويم ما لم يقوم من قبل، بتنمية الاتجاهات السليمة ذات الجذور الموجودة في أصل الفطرة. ويملك المربي -وخاصة في المدرسة- وسائل كثيرة لتقويم هذه الانحرافات إن كانت موجودة، ولتنمية القدرة على التعاون الجماعي المثمر. وحياة المعسكرات من أنجع وسائل التربية في هذا الشأن -والشباب يحب المعسكرات بطبيعته- فإنه لا يمكن أن يظل شاب على جموده أو عزوفه حين يرى الباقين كلهم يقومون بالأعمال المطلوبة منهم في المعسكر. إنما يخجل من موقفه ويضطر ولو كارهًا في مبدأ الأمر أن يعمل. حتى يتعود أن يعمل بغير تضجر ولا كراهية. وسيجد الآخرين -وهم زملاء على نفس الدرجة ونفس المستوى- يقدمون له الخدمات فيستحي ألا يقدم لهم الخدمات بدوره. وهكذا يتعود على التعاون حتى يصبح سجية فيه. وحب الرياسة والسيطرة يمكن علاجه كذلك في تلك الفترة, حتى وإن كان الشاب قد مرد عليه من أيام الطفولة أو المراهقة، وليس من الضروري أن تكون وسيلة العلاج هي التحطيم! فهذه آخر الوسائل جميعًا، حين تفشل الوسائل "السلمية" كلها في العلاج! إنما أنجع الوسائل هو أن يعهد إلى مثل هذا الشاب بتحمل المسئولية. مسئولية حقيقية جادة، ويكون مسئولًا عنها أمام المربي الذي يتولى الإشراف عليه. عندئذ سيحس أن المسألة ليست هي "المريسة" الفارغة إنما هي القيام بالمسئولية على وجهها الأكمل الذي لا يعرضه للوم، ولا يعرض ذاته التي يعتز بها للحرج. وبذلك يصل المربي إلى هدفين طيبين بإجراء واحد، هما ضبط هذا الشعور المنحرف وتقويمه، وتعويد الشاب كذلك على تحمل التبعات. وكلاهما خير. أما الشاب الذي يحجم عن التعاون مع الآخرين بسبب انطوائه على نفسه وعزلته فينبغي تشجيعه تدريجيًّا على الخروج من عزلته ومشاركة زملائه حتى يأنس إلى ذلك ويتعود عليه. ومن وسائل الترابط في المجتمع المسلم كذلك الأمر بالمعروف والنهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 عن المنكر، ولكن في مودة ورفق، وبدافع حب الخير للآخرين لا بدافع التعالي عليهم وتجريحهم وإخراجهم. فالمجتمع الذي لا يأتمر بالمعروف ولا يتناهى عن المنكر مجتمع ملعون عند الله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1. والجاهلية المعاصرة أسوأ مثل في هذا الشأن. فهم لم يقفوا عند حد عدم التناهي عن المنكر الذي استحق اللعنة عند الله، إنما ذهبوا إلى أبعد من ذلك فأصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، وهي الدرجة التي تؤذن بالبوار والدمار فوق اللعنة. وهذا هو المصير المحتوم لهذه "الحضارة! " ما لم يغيروا ما بأنفسهم. ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محكوم بشروط من جانب آخر. فلا يجوز أن ينتهي إلى التنابز المنهي عنه، ولا إلى السخرية المنهي عنها كذلك، ولا إلى التجسس، ولا إلى إساءة الظن بغير دليل. إنما هي النصيحة المخلصة والمودة والرفق، وعدم التشهير وعدم الإحراج. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحاشى أن يذكر شخصًا بعينه في مجال الإنكار بل يقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا"، حتى ينبه الفاعل دون التشهير به على الملأ، لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن التشهير على الملأ يحرج صدر المشهر به, ولا يجعل كلمة النصيحة والتوجيه تأخذ مكانها الصحيح عنده. والمربي الحكيم يربي أبناءه على هذا الخلق الإسلامي بإعطاء القدوة من نفسه أولًا، وبالتوجيه والتذكير والتعويد. وينبغي أن نذكر بصفة عامة أن التنمية النفسية الصحيحة لا تتم في كيان فرد يعيش بمفرده في عزلة عن الآخرين، وفي هذه الفترة بالذات. فأما أنها لا تتم في كيان فرد بمفرده فلأنها مبنية أساسًا على "الغيرية". على التعامل مع الغير والترابط والتلاحم والتعاون. فهي -بطبيعتها- أمور جماعية، تحتاج إلى الوجود في جماعة والتعامل مع هذه الجماعة. وإلا فإنها   1 سورة المائدة 78-79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 تصبح أمورًا نظرية لا رصيد لها من الواقع، وتخيب حين تصطدم بالواقع! كيف يتدرب الشاب على الأخوة، إذا لم يمارس الأخوة بمشاعرها الحقيقية مع "الأخوة" الذين يربطهم به هذا الرباط؟ كيف يتدرب على التعاون إذا لم يقم بهذا التعاون بالفعل مع أفراد آخرين؟ كيف يتعود أن يؤثر على نفسه إن لم يكن هناك إلا نفسه؟ إن الوجود في جماعة هو الذي ينمي هذه المشاعر, وهذه الألوان من السلوك، ثم إنه هو الذي يبرز للمربي ما فيها من نقص يحتاج إلى توجيه أو تقويم. والشاب الذي يتربى في عزلة عن الآخرين -وإن حاول أن يستقيم على المنهج السليم- تنمو بعض جوانب نفسه, وتظل جوانب أخرى ضامرة؛ لأنها لا تعمل، وقد تكون -في ضمورها- منطوية على كثير من العيوب الخفية، التي تنكشف لا محالة عندما تضطره الظروف أن يعيش في مجتمع، أو قد تكون -من عدم الممارسة- عاجزة عن العمل، ومن ثم تعرض صاحبها للفشل. لذلك فلا بد من وجود جماعة. فأما إن كانت الدولة مسلمة والمجتمع مسلمًا فالأمر سهل، لأنه لا يزيد على وضع الشاب في مجموعة من زملائه في شكل "أسرة" مترابطة، يتعهدها المشرف عليها بالمعايشة والمصاحبة والملاحظة والتوجيه. ويقوم معها برحلات بين الحين والحين، ويقيم معها بعض المعسكرات التي يتدربون فيها على العمل والتعاون، ويلتقي معها في دروس مستمدة من القرآن والحديث والسيرة النبوية وسير الصحابة رضوان الله عليهم، تكون كلها مجالًا للتربية والتوجيه المباشر وغير المباشر، مع القيام بشعائر التعبد في مناسباتها، فتقام الصلاة جماعة، ولا بأس من تناول "الأسرة" طعام الإفطار في رمضان معًا في بعض الليالي وإحيائها بالذكر والعبادة وتلاوة القرآن مع صلاة القيام؛ حتى تكون ليالي عبادة متميزة تترك طابعها في الوجدان. كما تتزاور الأسرة وتتعاون على القيام ببعض الخدمات الاجتماعية التي تدخل في نطاق إمكانهم. إلى أمثال هذه الألوان من الشناط التي تطبع النمو النفسي بالطابع الإسلامي الصحيح. وأما حين نفتقد الدولة المسلمة والمجتمع المسلم اللذين يقومان بهذا التوجيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 بل نجد بدلًا من ذلك التشجيع والإغراء على قيام "ثلل"1 من الشباب تتسكع في الطرقات لمعاكسة المارين والمارات، أو تتجمع للعب الورق ولعب القمار، أو تذهب جماعة إلى أماكن اللهو والفساد والعبث والمجون، أو تقتضي وقتها في تفاهات فارغة تكره الجد وتنفلت منه، أو تتحلق حول التلفزيون الساعات الطوال حول مسرحية عابثة أو فلم هابط. إلى أمثال هذه الألوان من النشاط التخريبي الذي يخرب بنية النفس ويحل روابطها. عندئذ لا مناص من أن تقوم الجماعة التي تنذر نفسها للدعوة بتربية الشباب التربية الإسلامية الواجبة. ولن يكون لها سلطان بطبيعة الحال على الشباب كله، ولن تمنع سبيل الفساد في المجتمع من أن يجري مجراه ما دامت الدولة تيسر له وتشجع عليه بوسائل إعلامها ونظامها كله، ولكنها ستستخلص الفئة النظيفة من الشباب من أن يجرفها التيار الجارف، وتكون منطقة جذب دائم لمزيد من الشباب الراغب في الخروج من الحمأة الدنسة والتطهر من أرجاس الجاهلية. ولن ترضى الجاهلية بطبيعة الحال عن هذه الجماعة، ولن يرضى "الملأ" المسيطرون على الجاهلية بوجود فئة متطهرة بين ظهرانيها، فتتصايح عليها كما تصايحت الجاهلية من قبل: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 2 وتتصدى الجاهلية للجماعة تريد الفتك بها، ويقع الابتلاء، ويقع في الطريق شهداء، ويعذب معذبون. ويتربى الشباب في داخل المحنة، في البوتقة التي تصهر النفوس والمشاعر كما تصهر الأجساد بالعذاب. وتتم سنة الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 3. ويتم التمحيص الذي يعقبه التمكين حسب سنة الله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} 4.   1 ثلل جمع ثلة، وهي التي يسمونها في اللغة الدارجة "شلة" ومعنى ثلة في الفصحى المجموعة القليلة كما في قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} . 2 سورة الأعراف 82. 3 سورة العنكبوت 2-3. 4 سورة آل عمران 140-141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 ويتم تأهيل أهل الجنة للجنة حسب سنة الله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 1. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 2. وتحدثنا قبل عن النمو العاطفي في مرحلة الشباب الباكر. والتربية الإسلامية معنية بالنمو العاطفي عنايتها بكل أنواع النمو في الكائن البشري. إن العواطف ليست "شأنًا خاصًّا" لصاحبها كما تعلن الجاهلية المعاصرة، ومن ثم يقع في دائرة "حريته الشخصية" أن يتصرف بها كما يشاء! إن هذه الجاهلية -لغاية في نفس "يعقوب"- تطلق "الحرية الشخصية" للإنسان ابتداء من فترة المراهقة, ثم خاصة في فترة الشباب، لتحطم بها مقدسات البشرية كلها من عقيدة وأخلاق، بينما هي تضيق كل التضييق على هذه الحرية الشخصية في المجال الذي كان ينبغي أن تطلق فيه! فالدين والأخلاق، والتقاليد الاجتماعية، والزواج، والأسرة.. كل هذه نهب مباح للحرية الشخصية تقتحمها اقتحامًا وتلتهمها التهامًا, ولا تذر فيها شيئًا قائمًا على أصوله. أما حين تمس مصالح الرأسمالية في الغرب، أو تمس مصالح الحزب الشيوعي الحاكم أو اللجنة التنفيذية العليا أو الزعيم المقدس في الشرق، فهنا تخرس الألسنة المدافعة عن الحرية الشخصية أو تخرس، وتتسارع الأنظمة والتشريعات وأجهزة السلطة في تأديب المعتدي الأثيم الذي سولت له نفسه ما سولت، وقد لا ترضى في تأديبه بأقل من الإعدام! ويقال عندئذ إنه اعتدى على "الصالح العام"!!   1 سورة آل عمران 142. 2 سورة البقرة 214. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 والإسلام يحترم العواطف البشرية -كلها على إطلاقها- ولكنه لا يقبل لها أن تطغى وتتجاوز الحد. عواطف الأم لابنها والأب لابنه، وعواطف الولد لوالديه، وعواطف الجنس، وعواطف الإخاء والزمالة, والعواطف الاجتماعية، والعواطف الإنسانية.. كلها عواطف عميقة في الفطرة، وكلها لها وزنها وتقديرها في دين الفطرة. بشرط واحد، هو ألا تطغى وتتجاوز الحد. والذي يرسم الحد هو الله. ومن غيره يملك هذا الحق؟ {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 1. فمن كونه سبحانه وتعالى هو الخالق، فهو الآمر. ولا يحق لكائن من كان أن يكون له "الأمر" حتى يكون خالقًا مثل الله! كذلك لأنه هو سبحانه "العليم الحكيم" فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه الفطرة وما يصلحها، ويعلم الحدود التي ينبغي أن يقف عندها الإنسان فلا يتعداها أو لا يقربها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 2. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} 3. ولا يحق لكائن من كان أن يكون له الأمر حتى يكون عليمًا حكيمًا مثل الله، يعلم حقيقة خلق الإنسان وحقيقة نفسه، وحقيقة ماضيه وحاضره ومستقبله إلى أن تقوم الساعة وبعد أن تقوم الساعة. فإن لم يكن هناك من أحد يخلق مع الله، أو يعلم علم الله ويملك حكمته، فليس من حق أحد أن يكون له الأمر. أن يقول هذا حلال وهذا حرام. هذا حسن وهذا قبيح. هذا مباح وهذا غير مباح. إلا بإذن من الله، وإلا فهو الشرك واتخاذ الشركاء من دون الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 4.   1 سورة الأعراف 54. 2 سورة البقرة 229. 3 سورة البقرة 187. 4 سورة الشورى 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 أما المؤمنون فهذه سبيلهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 1. فكل ما أحله الله ورسوله فهو حلال, وكل ما حرمه الله ورسوله فهو حرام. وكذلك المستحب والمكروه والمباح. المرجع فيها هو الله والرسول وحتى ما يجتهد فيه البشر فهم يجتهدون فيه بإذن من الله وإلا ما حق لهم الاجتهاد. وقد كلف الله الوالدين رعاية ولدهما وهدايته إلى الإسلام. فتلك هي الحدود التي تدور فيها عواطفهما نحوه، ملتزمة بأمر الله. فلا يجوز لهما أن ينشئاه على الكفر، أو ينشئاه بلا دين ولا أخلاق كما تفعل الجاهلية المعاصرة. وكلف الأبناء أن يرعوا حق الوالدين وأوصاهم بهما خيرًا وإحسانًا والأم بصفة خاصة. فتلك هي حدود عواطف الأبناء للآباء. فلا يجوز لهم أن يهجروا آباءهم -وخاصة في شيخوختهم- كما يفعل الأبناء في تلك الجاهلية، حيث لا يعرف الولد ولا البنت أبويهما منذ يخرجان في سن الشباب، ولا يكلفان نفسيهما الإنفاق عليهما ولو كانا معوزين وكان الأولاد من أصحاب الملايين! وأحل الله عواطف الجنس، وأشار إليها على أنها آية من آيات الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 2. ولكنه اشترط أن تكون حلالًا طيبًا، لا سفاحًا ولا فاحشة ولا اتخاذ أخدان كما تفعل الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} 3. {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} 4. فليس في الإسلام كبت لعواطف الجنس، وليس فيه حجر على الشباب أن يحس بها، والمنهج الرباني المتكامل -حين يطبق في واقع الأرض- لا يجعل الجنس مشكلة كما أشرنا في الفصل السابق، ولا يجعله أزمات بالنسبة   1 سورة النساء 59. 2 سورة الروم 21. 3 سورة النساء 24. 4 سورة النساء 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 للشباب، ولا يجعله أمرًا يتلف الأعصاب ويرهق المشاعر. إنما يجعله أمرًا طبيعيًّا سهلًا ميسرًا مثمرًا مباركًا ينشر في المجتمع السعادة والخير والنماء. أما حين تعقد الجاهلية الأمور -كما وضح "ول ديورانت" في كتابه- وتسد كل الطرق النظيفة وتفتح كل أبواب الدنس الفاحش، فهي التي تصنع الأزمة بأيديها للشباب، ثم تروح تتظاهر بالعطف عليهم والسعي إلى حل مشكلاتهم النفسية والعصبية، بمزيد من سعار الجنس المجنون!! وتصف ألسنتهم الكذب فتقول إن الدين هو المسئول عن الأزمة! والآن أصبحت أوربا بلا دين، ولم تعد هناك قيود البتة على النشاط الجنسي، سويه وشاذه سواء. فما بال المصحات العقلية عامرة بالمجانين، وما بال العيادات النفسية تزخر بالزائرين؟! {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. أما عواطف الإخاء والزمالة والعواطف الاجتماعية فقد رأينا كيف يحتفي الإسلام بها ويوجه إليها ويربي عليها. ولكن بشرط. هو أن تكون كلها في إطار الإسلام. فكلها عواطف ولاء. وولاء المؤمن محدد بالمؤمنين بعد الله ورسوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 2. فلا ولاء لفرد أو مجتمع لا يؤمن بالله، وعلامة الإيمان هي التحاكم إلى شريعة الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 3. ولا يعرف الإسلام أوثانًا تعبد من دون الله، يكون اسمها الوطنية أو القومية أو ما شابه ذلك من الأسماء، لا تكون داخلة في إطار الإسلام، أي: في إطار التحاكم إلى شريعة الله. إنما تكون هذه العلاقات كلها مباحة - بل مطلوبة أحيانًا- في ظل تلك المظلة الكبرى وهي الإيمان بالله والتحاكم إلى   1 سورة الأعراف 96. 2 سورة المائدة 55. 3 سورة النساء 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 شريعة الله، ومحرمة ومبتوتة في خارجها، في إطار هذين التوجيهين الربانيين: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2. فالتوجيه الأول يبت كل الصلات التي يراها علم الاجتماع "الجاهلي" هي الروابط التي تقوم عليها الأمة. من روابط الدم والأرض والمصالح المشتركة إلخ، إذا لم تكن قائمة على العقيدة. والتوجيه الثاني -في ظل العقيدة المشتركة- يجعل بعض الروابط أقرب وأوثق من بعضها الآخر، لأن لها ظروفًا طبيعية تجعلها كذلك، ولأنها -في صورتها تلك- لن تكون حواجز تحجز بين بعض المسلمين وبعض، أو تقيم بينهم العداوة والبغضاء والنفور والقطيعة. وبهذه المعايير الحاسمة يضبط الإسلام عواطف المؤمنين ضبطًا محكمًا فلا تتميع ولا تتذبذب في قضية خطيرة تقوم عليها كل حياة الدنيا, وكل حياة الآخرة، وهي أن يكون الدين كله لله ولا يكون لله فيه شركاء. والإسلام يوعي شبابه وأبناءه جميعًا لكي لا تأكلهم الدعوات الزائفة، ولا تخدعهم الشعارات الجوفاء، ولا تستهويهم الدعايات الكاذبة سواء للمبادئ أو الأشخاص. إنه يمنحهم المحك الذي يفرقون به بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والخير والشر. إنه صدق التحاكم إلى شريعة الله: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا   1 سورة التوبة 24. 2 سورة الأنفال 75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 1. وكل الدعوات الزائفة التي تلتهم الناس في الجاهلية -والشباب بصفة خاصة- لا اعتبار لها ولا وزن عند المسلم الذي يتربى على منهج التربية الإسلامية، لأنه يزنها بميزان الله -الإسلام- فلا يجدها ذات وزن! وحتى حين تتلبس هذه الدعوات بالإسلام فإنها لا تخدع المسلم الحق -أو لا ينبغي أن تخدعه- لأن كتاب الله يحمل إليه توعية كاملة في هذا الشأن. شأنه في كل أمر من أمور الحياة الأساسية: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2. والذين يقولون في دعاواهم: نأخذ من الإسلام كذا، ومن الديمقراطية كذا، ومن الاشتراكية كذا. ونظل مسلمين، يقول الله في أمثالهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 3. وهكذا تنضبط مشاعر المسلم وعواطفه، وتنضبط حركته كذلك في خضم التيارات. وتعنى التربية الإسلامية كذلك بالنمو العقلي الهائل الذي يحدث في هذه المرحلة من العمر. والعلم من الوسائل المعينة على تغذية العقل ولا شك. ووقت أن كان المسلمون مسلمين حقًّا كانوا هم أهل العلم في الأرض. وكانت أوربا تتعلم   1 سورة النور 47-52. 2 سورة المائدة 49-50. 3 سورة البقرة 85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 وتتثقف في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم. وكان الأوربيون يترقون في وظائفهم ومكانتهم الاجتماعية والفكرية والعلمية -في بلادهم- بمقدار ما نهلوا من العلم في مدارس المسلمين! ولكن هناك ما هو أهم من العلم في الحقيقة، وهو منهج التفكير. لأنه هو الذي يولد العلم والثقافة وطريقة النظر في الأمور. ويقول المنصفون من أهل الغرب -وما أقلهم! - إن أهم ما تعلمته أوربا من المسلمين في بدء نهضتها هو المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي بنت عليه أوربا كل تقدمها العلمي فيما بعد. والمنهج التجريبي في البحث العلمي هو بلا ريب نتاج الإسلام والتوجيه الإسلامي للعقل البشري. فقد كان المنهج -قبل المسلمين- هو منهج اليونان العقلي الفلسفي، الذي يكتفي بالإثبات العقلي وحده، ويعتبر القضية صحيحة إن صحت في الذهن، بصرف النظر عن موضعها من الواقع! فجاء الإسلام بتوجيهاته وتطبيقاته فحول العلم إلى مجراه التجريبي الواقعي. ثم إن للإسلام منهجًا للنظر في الأمور، هو المنهج العقلي المتجرد من الهوى وشهوة النفس، المنضبط في الوقت ذاته بالوحي. وهذا المنهج هو الذي أخرج تلك الثروة الهائلة المتمثلة في الفقه الإسلامي وأصوله. وهي من أضخم الثروات البشرية في التاريخ، ومن أكثرها دلالة. وقد انقطع الخيط اليوم أو كاد بين حاضرنا الضائع وهذا الماضي المجيد الذي يحمل تلك الثروة الفكرية الهائلة. وصرنا إذا أردنا أن نتعلم المنهج التجريبي أرسلنا أبناءنا إلى الجماعات الغربية، وإذا أردنا أن نتعلم منهج النظر -حتى في أخص شئون ديننا وهو الشريعة الإسلامية واللغة العربية -أرسلنا أبناءنا للمستشرقين!! وإرسال أبناءنا إلى الجامعات الغربية لتعلم المنهج التجريبي في البحث العلمي ضرورة لا محيص لنا اليوم عنها، إلى أن نسترد حاستنا العلمية التي فقدناها حين فقدنا حقيقة الإسلام في حياتنا وفي نفوسنا. ولا ضير علينا من ذلك إذ أخذنا احتياطاتنا لكي لا ينحرف شبابنا في لوثة الجاهلية الجارفة هناك. وذلك بألا نرسل إلا الشباب الذي نثق بإسلامه، بعد توعية كاملة بحقيقة الإسلام وحقيقة الجاهلية التي سيقابلونها، وأن يكونوا -زيادة في أسباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 الوقاية- من ذوي الخبرة بالحياة ومن المتزوجين حتى لا يجرفهم تيار الفساد ولا يخطف أبصارهم البريق الخاطف الخاوي من الرصيد الإنساني الحقيقي. أما إرسال أبنائنا إلى المستشرقين ليتعلموا اللغة العربية والشريعة على أيديهم فعجيبة من عجائب "المسملين" في هذا العصر، لا يفسرها شيء إلا الخواء العقيدي الذي يعيشونه، والذي حولهم إلى ذلك الغثاء الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل" 1. فما يأخذ أحد أمور دينه من أعداء دينه إلا أن يكون من غثاء السيل الذي تحدث عنه رسول الله، حتى لو كانوا يملكون منهجًا حقيقيًّا في النظر، ومنهجهم في النظر إلى الإسلام معروف. لا يمت إلى "العلم" بصلة على الإطلاق، إنما هي الرغبة في التجريح والتشويه وإلقاء الشبهات2. وواجب التربية الإسلامية على أي حال هو العودة بالشباب إلى معينهم الأصلي, يربون عليه منهج تفكيرهم ويغذون به عقولهم. العودة إلى الكتاب والسنة وكتب الفقه والأصول. حتى الذين يتعلمون الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والرياضيات. فهم في حاجة جميعًا إلى أن يكون لديهم منهج فكر سليم. والمسلم يتربى على تمحيص الحقيقة, والتجرد لها وعدم التأثر بمقررات سابقة ولا مقررات ذاتية لا برهان عليها، ولا بمجرد الظن: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 3. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 4.   1 أخرجه أبو داود. 2 انظر إن شئت كتاب "المستشرقون والإسلام". 3 سورة الإسراء 36. 4 سورة المؤمنون 71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 1. وحيت يتربى المسلم على هذا النحو لا يتعرض للاستهواء للباطل، وهو -كما قدمنا- من أشد ما يتعرض له الناس في مرحلة الشباب الباكر, حين لا يكون لديهم الميزان الصحيح الذي يزنون به الأمور، فتستهويهم المبادئ الزائفة والأشخاص الذين أوتوا القدرة على الخداع والتضليل. إن "الانقياد" خط من خطوط الفطرة كما أشرنا في هذا الكتاب وفي الكتاب الأول، من منهج التربية الإسلامية، ونحن نتحدث عن الخطوط المتقابلة في النفس البشرية، ومن بينها خطّا السلبية والإيجابية. وقد جعل الله هذه القابلية للانقياد في أصل الفطرة، لينقاد الصغير إلى مربيه، ولينقاد الكبير إلى تعاليم ربه، وينقاد الناس لأولي الأمر "المؤمنين" فتستقيم الأمور في الأرض. ولو لم يكن في النفس البشرية هذه القابلية للانقياد ما تم شيء من هذا كله، وما استقامت الأمور في حياة الناس. ولكن خط الانقياد -ككل خطوط النفس البشرية- عرضة للانحراف حين لا يتلقى التوجيه الصحيح. والشيطان -وأولياء الشيطان- يستخدمون هذا الخط ليبعدوا الإنسان عن الانقياد لله, أي: عن "الإسلام" وهو إسلام النفس كلها لله؛ فينقاد للشيطان. ومنهج التربية الإسلامية يركز على هذا الخط الخطير من خطوط النفس البشرية؛ ليقومه ويصحح مساره، بحيث يكون الانقياد لله, ولما جاء من عند الله، وليحصن الإنسان -والشباب خاصة- من الاستهواء لصيحات الباطل مهما كانت مزخرفة بمعسول القول. وهو منهج عقلي ونفسي في آن واحد. فالاستهواء في الحقيقة عملية مشتركة بين العقل والعاطفة. وتقويمها يحتاج إلى جهد في الجانبين معًا في آن واحد. جهد لتربية العقل على منهج سليم للنظر، وتربية النفس على الانضباط وعدم الانسياق وراء العواطف الجامحة. ومن أجل ذلك تحدثنا عن الاستهواء مرتين: مرة ونحن نتحدث عن النمو النفسي في أول الفصل، وهنا نحن نتحدث عن النمو العقلي.   1 سورة النجم 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 إن الجماعات والهيئات والأحزاب والتكتلات -كما أشرنا آنفًا- تستغل قابلية الشباب للاستهواء العقلي من ناحية، وحماستهم العاطفية وقابليتهم للاستهواء العاطفي من ناحية أخرى، لتحشرهم في زمرتها وتستخدمهم في تحقيق أغراضها. والشاب المسلم الذي يتربى على المنهج الحق يكون في مأمن من الاستهواء بجانبيه العقلي والعاطفي سواء؛ لأنه يملك المحك الذي يميز به بين الدعوات الحقة والدعوات الزائفة، وبين العاملين بصدق والمزيفين المخادعين. فهو بادئ ذي بدء لا يمكن أن ينتمي ولا أن يعطي ولاءه لتجمع غير قائم على الإسلام. فأما إذا كثرت اللافتات وكلها تحمل اسم الإسلام فعليه أن يرجع إلى المحك ذاته ليميز بينها ويعرف أيها أولى بالاتباع. والمحك واضع ... أيها أقرب تمثيلًا لحقيقة الإسلام المتكاملة التي يتمثل فيها الدين والدولة والدنيا والآخرة والفكر والسلوك ونشاط الجسد ونشاط العقل ونشاط الروح؟ لأن أي جانب من هذه الجوانب -وحده- لا يمثل حقيقة الإسلام وإن كان من الإسلام. فتربية الروح أمر جميل وضروري للحركة الإسلامية والحياة الإسلامية. ولكنها -وحدها- لا تكون المسلم الحق. وتربية الفكر بالثقافة الإسلامية أمر ضروري, ولكنها -وحدها- لا تكون المسلم الحق. وكذلك تربية الجسد بالنشاط والتدريبات. لا يكفي أي منها بمفرده، إنما يحتاج الأمر إليها جميعًا وفي وقت واحد. ثم إن تقديم الإسلام على أنه "دين" يعد للآخرة وحدها هو تقديم ناقص, كتقديمه على أنه نظم تعد للدنيا فحسب! ومهما كانت التربية التي تعد للآخرة من العمق والتأثير. ومهما كان الجهد الذي يبذل في تقديم النظم الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية الإسلامية، ونظام الدولة، وطريقة إقامة الخلافة، فأي منها لا يكفي وحده، ولا ينشئ الحركة الإسلامية الصحيحة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الرجال العاملين في الحقل الإسلامي لهم ميزانهم الذي يوزنون به كذلك. فهم يوزنون من جهة مدى إدراكهم للحقيقة الإسلامية في شمولها وتكاملها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 ومن جهة مدى قدرتهم على التحرك بمفاهيمهم الإسلامية بما يقتضيه الظرف الذي يعملون فيه. ومن جهة صدقهم في العمل، ومن جهة صبرهم وعزيمتهم عند الابتلاء. وهكذا فإن الشاب المسلم الذي يرى لافتات كثيرة تعمل للإسلام أو تتظاهر بالعامل للإسلام يجد أن بين يديه المعايير والموازين التي تمكنه من التمييز بين الخبيث والطيب، والتمييز بين المتفاضلين حتى إن كانوا كلهم طيبين, وهكذا لا يضل سعيه وهو يختار الطريق. كذلك فإن المنهج العقلي الإسلامي الذي يتربى عليه الشاب المسلم، يعاونه على التعرف على التيارات العالمية، السياسية والاجتماعية والفكرية، دون أن تغره مظاهرها، أو تغره الصورة التي تقنع بها الحقائق وتخفى عن العيون؛ ذلك لأنه يملك من وعيه الإسلامي ما يبصره بالحقائق. فلن يخفىي عليه مثلًا أن ما يمارسه الغرب اليوم ليس حضارة حقيقية ولكنه جاهلية، لأنه لا يتحاكم إلى شريعة الله ولا يطبق منهجه في الأرض. ولن يخدعه التقدم المادي والعلمي والتكنولوجي والتنظيمي الضخم الذي يملكه الغرب، عن انحرافاته النفسية والخلقية وخاصة في مجال التبذل الجنسي، وعن حتمية السنن الربانية التي تقرر أن مصير هذه الجاهلية إلى الدمار والبوار برغم كل قوتها الظاهرة، لأن سنة الله تقول: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 1. وحين يدرس التاريخ على حقيقته فلن تخدعه النشرات الإخبارية التي يسمعها هنا وهناك وهي تحدثه عن "التوسع الإمبريالي" ضد الأمة العربية وأنه هو محور الصراع والنزاع، لأنه سيعرف أنه عدوان صليبي على الأمة "المسلمة" لا ضد الأمة العربية، تسانده الصهيونية العالمية، كل لمصالحها، وكل لعداوتها التاريخية ضد الإسلام، وأن الهدف الحقيقي منها ليس امتلاك الأرض وتوسيع الرقعة "وإن كان هذا الهدف موجودًا بالفعل" إنما الهدف الحقيقي هو القضاء على الإسلام، وأنه حتى لو كان الهدف هو امتلاك الأرض   1 سورة الأنعام 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وتوسيع الرقعة فإنه لا سبيل إلى ذلك في الأرض الإسلامية إلا بالقضاء على الإسلام! وسيقرأ ويطلع ويجد من تصريحات زعماء الغرب وساسته وكتابه ما يكشف كشفًا واضحًا عن هذه الحقيقة، من مثل قول جلادستون رئيس الوزراة البريطانية في مجلس العموم البريطاني وقت احتلال الإنجليز لمصر عام 1882 م مشيرًا إلى القرآن: "إنه طالما بقي هذا الكتاب في أيدي المصريين فلن يقر لنا قرار في تلك البلاد! " وقول اللنبي حين دخل القدس عام 1917 على رأس الجيش العربي "! " الذي ذهب يقاتل تركيا: "الآن انتهت الحروب الصليبية! " "أي: بعد استرداد القدس من المسلمين! " وقول وزير الخارجية الفرنسية مسيو بيدو حين قام بعض أعضاء البرلمان الفرنسي يطلبون إنهاء الحرب في الشمال الإفريقي لأنها أنهكت فرنسا بغير طائل: "إن هذه حرب الهلال والصليب، وينبغي أن ينتصر الصليب! " وقول أنديرا غاندي في تصريح صحفي لها عام 1969 "إننا نحب جمال عبد الناصر ونؤيده لأنه قضى على الإخوان المسلمين في مصر! " إلخ إلخ إلخ. وهكذا -في جميع الاتجاهات- سيكون له موقفه المتميز، المبني على الدراسة الواعية وتمحيص الحقائق، والاهتداء بنور الحق المستمد من الكتاب والسنة، وقراءة الحياة على ضوء السنن الربانية التي لا تتخلف ولا تتبدل. وأخيرًا تحدثنا عن النمو الروحي في فترة الشباب الباكر. وبديهي أن يكون منهج التربية الإسلامية حفيًّا شديد الحفاوة بالنمو الروحي، لأنه القاعدة الحقيقية للتربية كلها في المنهج الإسلامي، كما أشرنا إلى ذلك في الكتاب الأول من "منهج التربية الإسلامية" في فصل "تربية الروح". ولا نحتاج أن نعيد هنا ما قلناه هناك. إنما نقول فقط إنه حيث تجنح الجاهلية المادية المعاصرة إلى طمس الجانب الروحي في نفوس الشباب، فإن التربية الإسلامية ترتكز ارتكازًا واضحًا على الجانب الروحي، لأنه هو الذي ينشئ الصلة العميقة بالله، ويربط القلب البشري به، يحبه ويخشاه. والشباب بفطرته -كما قلنا من قبل- يحس بالتفتح الروحي في تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 الفترة، ويتعلق بقضية الألوهية كما يحس بمشاعر عميقة من المودة للكون والحياة والأحياء. أفيكون عملنا نحن أن يطمس هذا التفتح ونغلق عليه منافذه، في الوقت الذي نوسع فيه منافذ الجنس حتى يصبح جنونًا مسعورًا يلتهم كيان الشباب؟! ولحساب من؟! وإذا كانت مناهج التربية الجاهلية في الغرب اليوم تزعم أنها تأخذ الواقع البشري كما هو بأمانة "علمية! " فأين تذهب هذه الأمانة يا ترى حين يتعلق الأمر بجانب الروح؟ ولماذا تخنس الجاهلية هنا بينما ترفع رأسها جاهرة هناك؟! أما الإسلام الذي يلتقي التقاء كاملًا مع الفطرة السوية لأنه دين الفطرة، فإنه يعمق هذا الجانب تعميقًا على ذات النهج الذي يعمق ويقوي به كل اتجاه آخر في الكيان البشري. فإذا كنا في تريتنا للشاب ننمي جسده، وننمي عقله، وننمي عواطفه، وننمي اهتماماته، فلماذا تبقى الروح وحدها بغير نماء؟! كلا! إنها ينبغي أن نأخذ نصيبها الطبيعي من التنمية، بل أن تكون حجر الأساس في التربية كلها؛ لأن هذا هو الذي يجعل الإنسان في أحسن تقويم كما خلقه الله، منذ خلقه من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 1. والتربية الإسلامية تأخذ التفتح الروحي التلقائي لدى الشباب فتوجهه إلى حب الله وخشيته، وهما الخيطان اللذان يربطان القلب البشري بالله، واللذان هما خلاصة العبادة وثمرتها كذلك: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2. والوسيلة هي ممارسة العبادة بكل ألوانها، مع الزيادة فيها -بالنوافل والتطوع- بقدر ما تطيق نفس كل شاب، دون قهر ولكن بالتحبيب والترغيب. ففي الصلاة فروض ونوافل، وفي الصيام فروض ونوافل، وفي الزكاة فروض وتطوع، وفي الحج والعمرة كذلك.   1 سورة ص71-72. 2 سورة الإسراء 57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 وتلاوة القرآن وحفظه من المعينات ولا شك. ولكن قراءته مع أحد التفاسير أبلغ نتيجة وأعمق أثرًا من الحفظ وحده، لأن التدبر مطلوب من المسلم، ولن يستطيع التدبر الصحيح دون أن يستعين ببعض التفاسير. وقراءة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وخاصة ما جاء في باب الترغيب والترهيب تكمل الجو الذي يحدثه القرآن في النفس. والحياة مع السيرة النبوية المطهرة ترفع الروح إلى آفاق عليا حين يعيش الإنسان مع أعظم شخصية في الوجود البشرى كله، ويقبس قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم تستضيء بها روحه وترفرف مع الملأ الأعلى. وقراءة سير الصحابة رضوان الله عليهم تندي الروح وتعمق بشاشة الإيمان، لأنها نماذج بشرية فائقة كانت تعيش كل لحظاتها مع الله، كما وصفهم الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 1. هذه كلها وسائل معينة على تربية الروح. ولكن المنهج الإسلامي -وهو يعمق الجانب الروحي ويركز عليه- لا يدعه تهويمات روحية مجردة، ولا مجرد ذكر بالقلب أو اللسان كما تصنع بعض الحركات التربوية الروحية في تاريخ الإسلام المعاصر أو تاريخه السابق، سواء في حلقات الذكر أو في العزلة الروحية المنصرفة إلى العبادة بمعنى الشعائر التعبدية. إن هذا الوصف الرباني ذاته الذي يصف فيه المولى جل وعلا تلك الفئة   1 سورة آل عمران 190-195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 الفريدة من البشر، التي تربت تربية كاملة على المنهج الإسلامي، ليلفت نظرنا بشدة إلى حقيقة إسلامية رئيسية، هي أن وجدانات القلب وحدها، والتذكر والتفكر والتدبر، كلها لا تكفي وحدها لإقامة الحياة الإسلامية والحركة الإسلامية. إن النص القرآني يعرض صورة شفيفة وضاءة "لأولي الألباب" الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون. ويعرض صورتهم وهم يتضرعون إلى الله ضراعة حارة أن يكفر عنهم سيئاتهم ويغفر لهم ذنوبهم ويدخلهم الجنة. ثم يقرر النص أن الله قد استجاب لضراعتهم فكفر عنهم سيئاتهم وغفر لهم ذنوبهم وأدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. فمتى استجاب سبحانه؟ هل استجاب للتذكر والتفكر والتدبر؟ أو استجاب للضراعة الإيمانية الحارة؟ إنه استجاب سبحانه حين تحول هذا إلى عمل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} . فالدرس إذن هو أن تتحول الأفكار والمشاعر إلى عمل مشهود في واقع الأرض. والتربية الروحية الصحيحة ينبغي أن تهدف إلى ذلك، فلا تكتفي بذكر اللسان والقلب، ولا بالشعائر التعبدية لتعميق الإيمان. إنما تسعى إلى تكوين تلك الصورة الشفيفة التي يصفها القرآن. أن يحدث الذكر بالعمل, وفي أثناء العمل لا بالشعائر التعبدية وحدها ولا في عزلة عن العمل الواقعي. لقد كان ذلك المسلم يذكر الله فيجاهد في سبيل الله بماله ونفسه؛ لأن الله الذي يذكره بلسانه وقلبه يأمره بذلك. وكان يذكر الله فيتحاكم إلى شريعته، لأن الله الذي يذكره يأمره بذلك. وكان يذكر الله فيعد ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل لإرهاب عدو الله. وكان يذكر الله فيطلب العلم. وكان يذكر الله فيضرب في فجاج الأرض يبتغي من رزق الله وفضله. وكان يذكر الله فيقوم بعمارة الأرض. وكان يذكر الله فينشر الدعوة. وكان يذكر الله فيحتمل الأذى في سبيل الله. ثم يظل -وهو يؤدي هذه الأوامر الربانية كلها- ذاكرًا لله، موصول القلب بالله. وهذا هو سر عظمتهم الفذة التي لا مثيل لها في التاريخ.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 لقد كان ذلك المسلم أعمق روحانية بكثير من ذلك الذاكر في خلوته، أو القائم بشعائر التعبد فحسب. فإن حمل هذه الروحانية والتحرك بها دون أن تتناثر أو تغيض أعمق بكثير وأهم بكثير من حملها في حالة السكون. حقيقة إن حملها في حالة السكون هو ذاته مرحلة من مراحل الروحانية والشفافية تحتاج إلى جهد ومجاهدة حتى يصل الإنسان إليها, ويصبر عليها ويستسيغها فلا تعود نفسه تتفلت منها. ولكن كم يدل على عمق الروحانية وتمكنها من النفس أن تتحرك في واقع الأرض, وأنت محافظ عليها لا تتفلت منها نفسك ولا تعرض عنها "للتفرغ" إلى العمل؟ إنها لا شك درجة أعمق وأقوى، وأجدر بمحاولة الوصول إليها. ولقد كانت هي سر عظمة ذلك الجيل، أو من أسرار عظمته الأصيلة، التي من أجلها استحق ذلك الوصف الرباني الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. والخلوة لا شك ضرورية بين الحين والحين. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ليخلو إلى ربه، وهو الموصول القلب لا يغفل عن ذكر الله لحظة، لأن ناشئة الليل -كما علمه ربه- {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا،} 2. ولكن العظمة الحقيقية هي أن يظل الإنسان في روحانيته، كلها أو بعضها، حين يقوم يمارس العمل في واقع الأرض. فلا يشغله العمل عن الروحانية ولا تشغله الروحانية عن العمل. بل تكون الروحانية هي التي تحفزه إلى العمل وإلى التمكن منه على أعلى الآفاق! هل رأيتهم -جيل الصحابة رضوان الله عليهم- وهم يقاتلون؟ هل رأيتهم وهم يضربون في مناكب الأرض؟ هل رأيتهم وهم يتزوجون وينسلون؟ هل رأيتهم وهم يقيمون السوق في المدينة ويروحون ويجيئون في التجارة. إلخ؟. هل تظن أحدًا من أهل الدنيا المتفرغين لها كان أشد منهم وطأة أو أشد تمكنًا في عمله منهم؟! ومع ذلك كانوا يحملون ذلك النور الصافي في قلوبهم،   1 سورة آل عمران 110. 2 سورة المزمل 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 الذي يضيء لهم أرواحهم من الداخل، ويضيء أمامهم الطريق فيصلون إلى الغاية في أسرع وأقصر مما يصل طلاب الدنيا المتفرغون! إنك تحتاج إلى سعة نفسية مضاعفة لتحمل في نفسك طاقة الروحاني المتفرغ للروح، وطاقة الأرضي المتفرغ للأرض، ثم تحملهما ممتزجين متفاعلين لا في عزلة هذه عن تلك. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فإنها هي الذروة العليا من التربية على المنهج الإسلامي الأصيل. وكما ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فلنرب أنفسنا وأبناءنا على ذلك. وإنه لجهد ولا شك. ولكنه هو الجهد المثمر. هو الجهد القمين بأن يغير واقع الأرض حقًّا كما غيرته تلك الحفنة القليلة من المؤمنين في زمن وجيز لا مثيل له في كل التاريخ البشري، في قصره وسرعته وعظمة آثاره. وحين تربي جيلًا من الشباب على هذا النحو، تكون قد صنعنا شيئًا حقيقيًّا لا للمسلمين وحدهم، ولكن لكل البشرية. على هذه الصورة الشاملة المتكاملة يعالج الإسلام النمو الجسدي والنمو النفسي والعاطفي والعقلي والروحي في مرحلة الشباب الباكر فيصل به وشيكًا إلى مرحلة النضج. وغني عن البيان أن الجاهلية لا تتركنا نربي أبناءنا على هذا النحو، لأن الجاهلية -في التاريخ كله- تكره النظافة النفسية والروحية وتتضجر من وجود المتطهرين فيها فتقول: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 1 لأن مجرد وجود النظافة -ولو في فرد واحد- يذكرهم بأنهم ملوثون, وهم لا يريدون أن يتذكروا؛ لأنهم يستمرئون الدنس الذي هم فيه. ومن أجل ذلك يطاردون ما يذكرهم، يحاولون أن يمحوه من الوجود: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} 2.   1 سورة الأعراف 82. 2 سورة النساء 89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 والجاهلية تطارد الشباب بالدنس الدائم في الإذاعة والصحافة والسينما والتليفزيون والنوادي والشوارع بل حتى داخل البيوت! ثم تتبجح فتقول: "تدين إذا شئت فنحن لا نحارب الدين! " كأن هذا كله ليس حربًا على الدين! ومع ذلك فحين تتدين بالفعل تنقض عليك الكلاب! لأن مجرد تدينك معناه أنك تحديت كل الشراك المنصوبة لك بيد الجاهلية. معناه أنك أشرت إليهم -ولو في داخل نفسك- فقلت لهم: إنكم ملوثون! وقد تتغاضى عنك الجاهلية إذا كنت من أصحاب العزلة الروحية لأنها تقول في سرها: دعه ينشغل عنا في عزلته ونمضي نحن فيما نريد! ولكنها لا تتغاضى عنك حين تتدين التدين الحق الذي يريده الله. الدين المتحرك في واقع الأرض. الدين الذي يغير واقع الحياة. ورغم ذلك فلا بد من التربية الإسلامية لكي نكون مسلمين. وأيًّا كان الجهد الذي يبذله السابح ضد التيار، ويبذله المدرب الذي يدربه. وأيًّا كانت الأخطار المحيطة بهما، فليس هناك طريق آخر. ليس هناك طريق سهل ميسر مأمون، ما دامت الجاهلية هي التي تحكم، وليست شريعة الله. ولقد نبذل الجهد ولا نصل إلى الغاية المطلوبة بالصورة التي نريد. ولكن هذا ليس معناه إلغاء المحاولة والركون إلى القعود. أولًا، لأنه بغير المحاولة فلن نصل إلى شيء على الإطلاق! وثانيًا، لأننا حتى إن لم نبلغ الغاية التي نريدها على المستوى الذي نريده، فلن نكون قط على صورة الجاهلية، لأن الجاهلية تستمرئ الدنس وتريده، أو على الأقل تسلم نفسها له بلا مقاومة. أما نحن فنريد ما أمرنا الله أن نريده ونسعى إلى تحقيقه. وثالثًا، لأننا حتى إن فشلنا فشلًا كاملًا- وذلك لا يحدث في الحقيقة- فإن من فضل الله علينا أن يثيبنا على الجهد الذي نبذله لا على النتائج التي نتوصل إليها؛ وحين نبذل جهد الطاقة فإنه يثيبنا بما تهفو له كل نفس مؤمنة: رضاه والجنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 تحدثنا حتى الآن عن الشاب المسلم في مجال التربية الإسلامية، وقلنا في مقدمة الفصل إن الفتاة تنضج أسرع من الفتى في تلك المرحلة وتنضج على خط آخر، وإنه من أجل هذا يلزمنا أن نتحدث حديثين مختلفين عن الشاب وعن الفتاة. وعلى الرغم من وجود مشابه عامة في خط النمو، فهو نمو جسدي، ونمو في المواهب والاستعدادات، ونمو في الاهتمامات النفسية، ونمو عاطفي لا يصلح معها أن نربيها على طريقة الفتى, وإن اتحدت الأهداف العامة في النهاية، وهي تربية الفرد المسلم والأسرة المسلمة للوصول إلى المجتمع المسلم والدولة المسلمة. الفتاة أسرع نموًّا بصفة عامة في الناحية الجسدية والنفسية والعاطفية، بحيث نستطيع أن نضع فتاة السابعة عشرة -من حيث النضج الجسدي- في مستوى الشاب الذي تجاوز العشرين ببضع سنوات، كل على طريقته. فحيث يكون النمو عند الشاب هو قوة العضلات وامتلاءها، وصلابة العود والذكورة البادية في كل شيء، يكون النمو عند الفتاة استدارة العضلات ولينها، والأنوثة البادية في كل شيء. والنمو النفسي والعاطفي يكون دائمًا متساوقًا مع النمو الجسدي. فالفتاة التي نما جسمها وأعضاء أنوثتها هذا النمو في السابعة عشرة, قد نمت نفسيًّا وعاطفيًّا كذلك -على اتجاهها الخاص- أكثر مما نما الشاب نفسيًّا وعاطفيًّا على اتجاهه، فأصبحت مهيأة لأن تكون ربة بيت، وتكون زوجة وأمًّا، بما لم يتهيأ مقابله شاب السابعة عشرة أن يكون مسئولًا عن بيت، أو يكون زوجًا وأبًا. ولذلك لا يتناسب مثلًا أن تتزوج فتاة في السابعة عشرة شابًّا في السابعة عشرة وهي في الواقع لا ترضى به! " لأنها تكون هي أنضج منه وأسبق في النمو! وإنما يتناسب أن تتزوج شابًّا قد جاوز العشرين فيحدث التكافؤ المطلوب. وبصرف النظر مؤقتًا عن نوع النمو المتخصص، فأي جريمة نرتكبها في حق الفتاة -بحجة تحريرها ومساواتها بالرجل- أن نعطلها سبع سنوات أو ثماني سنوات في أخصب فترات نموها، حتى يلحق بها الشاب ويساوقها -على خطه- في درجة النمو؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 ونحن نعطلها بطريقة الدراسة ومراحلها وسنواتها، المفصلة أصلًا على قد الشاب لا الفتاة، بزعم أنهما -من الناحية العقلية- يستوعبانها بطريقة واحدة وعلى مستوى واحد. وهذا الزعم قد يكون صحيحًا صحة كاملة. فإن النمو العقلي -بمعنى القدرة على التفكير ونسبة الذكاء- يتساوق عند الفتى والفتاة بنسبة واحدة أو نسب متقاربة. ومن ثم يمكن -كما يحدث الآن- أن تتلقى البنت والولد مواد دراسية واحدة، وتكون نسبة تحصيلهما منها ونجاحهما فيها متساوية. أو تتفوق الفتاة أحيانًا حين تستطيع أن تحبس نفسها عن المشاغل التي تشغل الولد في نوادي الرياضة أو تجمعات الطريق. ولا يكون التفوق حينئذ لمزيد من الذكاء أو القدرة إنما لبذل مزيد من الجهد الموفور. ولكن العبرة ليست بالقدرة العقلية على الدراسة والتحصيل. فنحن لا نعيش بعقولنا وحدها، ولكن بكياننا كله. كياننا النفسي والعاطفي والجسدي والعصبي، بالإضافة إلى كياننا العقلي والروحي. فماذا تجدي المساواة في جانب واحد -حتى إن كانت كاملة- إذا كان الاختلاف قائمًا في بقية الجوانب وكيف نستخلص الجانب المماثل وحده فنفصله عن بقية الكيان؟! ولقد مر بنا الحديث عن محاولات الجاهلية المعاصرة لإحداث المساواة المفتعلة في بقية الجوانب حتى تصبح المرأة رجلًا أو امرأة رجلة. وبصرف النظر عما تحدثه تلك المحاولات من تشويه في الفطرة، فإن النتائج العملية ذاتها تقول إن المرأة الجاهلية الغربية قد شقيت بفطرتها المشوهة تلك أكثر مما كانت تشقى وهو منظلومة مهددة الكيان في المرحلة السابقة من تلك الجاهلية، وإنها بدأت تشعر هي نفسها بذلك، وتطالب لنفسها أن تكون أنثى حقيقية وربة بيت وزوجة وأم أولاد. ودلالة ذلك أن هذه المحاولات لم تستطع في النهاية أن تغير حقيقة الفطرة رغم كل ما صاحبها من النشوة المؤقتة بالظفر والتحرر والانطلاق. لأن الفطرة -كما يقول ألكس كاريل بحق- أعمق بكثير من كل محاولة لتغييرها. إن الدراسة المشتركة على برامج موحدة ومراحل دراسية وسنوات موحدة لم تلغ فوارق الفطرة العميقة ولم تؤد إلى المساواة المطلقة في كل شيء.. فما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 قيمتها إذن، ولماذا نصر عليها؟! إلا أن تكون الرغبة المحمومة في تحدي الفطرة. من أجل الشيطان. وقد لا تستسيغ الفتاة وحمى المعركة دائرة ما تزال -ولفترة غير قصيرة بعدها- أن ترجع عما يسمونه "انتصارات" للمرأة! وأن تعود إلى تلقي برامج نسوية خاصة، لأن ذلك مرتبط في حسها بالمرحلة التي كان يقال لها فيها إنها "دون" الرجل، وإنها لا تصلح للدراسة التي يتلقاها الرجل لأن استعداداتها دون استعداداته. كما أنه مرتبط في حسها كذلك بالفترة التي كانت الجاهلية تعيرها فيها بأنها تحمل وتلد, وتقوم بشئون البيت الحقيرة, بينما يختص الرجل بجلائل الأعمال! وتعير فيها جملة بأنها أنثى مهما قامت به من أعمال! والإسلام ليست مهمته مساوقة الجاهلية ولا مداهنتها لكي ترضى عنه! {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 1. إنما جاء الإسلام لتقويم الجاهلية, وردها إلى سواء الفطرة باتباع منهج الله. وفي الجو الإسلامي لا تعير المرأة بأنها تحمل وتلد وتلي شئون المنزل، إنما تكرم من أجل ذلك: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 2. والإشارة واضحة في الآية. فالوصية بالإحسان هي للوالدين كليهما، ولكن الذي يذكر تفصيلًا هو الأم جزاء ما قامت به من عمل جليل هو الحمل والرضاعة حتى الفصال. والرجل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي، قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك"! قال: ثم من؟ قال: "أمك"! قال: ثم من؟ قال: "أبوك"! 3. وقوامة الرجل على المرأة، التي تأباها الزميلة الجاهلية من زميلها الجاهلي وهما جالسان إلى مقعد واحد في حجرة الدراسة يتنافسان ويتناطحان بقضية   1 سورة القلم 8-9. 2 سورة لقمان 14. 3 أخرجه الشيخان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 المساواة، ليس هدفها في الإسلام إهانة المرأة وتحقيرها وإنما هي لتنظيم التبعات، وتوزيع التكاليف بحسب الاستعدادات. فكيان المرأة الذي ينمو فيه الجانب العاطفي ليتواءم مع وظيفة الأمومة ورعاية الطفولة ليس هو الأصلح لوظيفة القوامة وحمل التبعات، التي تحتاج إلى الجانب العقلي والفكري أكثر، وهو الجانب الذي ينمو عند الرجل أكثر من الجانب العاطفي المتقلب بطبيعته، المتغير على الدوام، والذي يكون في مكانه الطبيعي في كيان المرأة ليتلقى مطالب الطفولة المتقلبة المتغيرة على الدوام! وخالق الفطرة هو أعلم بها وأعلم بما يصلحها ويصلح لها. ولكن خالق الفطرة لم يقل إن الرجل أعلى في درجة الإنسانية من المرأة أو إن المرأة من نوع آخر غير نوع الرجل. إنما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 1. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 2. والمرأة ذات الفطرة السوية تعتز بأنوثتها كا يعتز الرجل السوي برجولته سواء بسواء، لأن الله هو الذي أودع ذلك الاعتزاز في فطرة كل من الجنسين بجنسه. فإذا جاءت جالهية من الجاهليات -أو كل الجاهليات- فحقرت المرأة لأنها تحمل وتلد وتقوم بشئون البيت، فإن الإسلام لا يحقرها من أجل ذلك. بل يخبرها بأن الله يعطيها ثوابها على القيام بوظيفتها بقدر ما يأخذ الرجل ثوابه على القيام بوظيفته. فالجنة التي تمنح للمقاتلين والشهداء في سبيل الله هي ذاتها الجنة التي تدخلها المرأة الصالحة التي قامت بحق زوجها وأولادها. ومن هنا لا تشعر المرأة المسلمة -في المجتمع المسلم الحق- بتلك القضية المجنونة المثارة في الجاهلية المعاصرة. إنما المسألة في حسها -وفي حس الرجل المسلم كذلك- أنها قضية تكامل بين شقي النفس الإنسانية, وليست قضية تناطح على المساواة، وأنها كما وصفها الله:   1 سورة النساء 1. 2 سورة آل عمران 195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. ثم إنه لقاء للتعاون لا للخصام والتنافس. لقاء من أجل تكوين أسرة وتنشئة أطفال يتكون منهم الجيل الجديد. فهي إذن مسئولية أكبر من شخصي الزوج والزوجة، وأهم من أن ينشغل الناس عنها بالتفاهات. ومنهج التربية الإسلامية -في المجتمع المسلم الذي يلتزم بشريعة الله وينفذ أوامره- يعد الفتاة المسلمة في مرحلة الشباب الباكر لمهمتها العظيمة المرتقبة، حتى إذا جاءت الخطبة وجاء الزواج كانت مهيأة لدورها التهيئة الملائمة. والتهيئة في الحقيقة تبدأ من دور المراهقة، إن لم تبدأ بصورة مخففة من قبل ذلك، من نهاية فترة الطفولة، بتكليف البنت ببعض أمور البيت الخفيفة التي تكسبها التعود على رعاية أموره في المستقبل. ولكن من فترة المراهقة يبدأ الإعداد الجاد لتهيئتها لتكون ربة بيت. ذلك أن الفتاة تدلف من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الشباب الباكر بسرعة ملحوظة كما قدمنا. فينبغي ألا يتأخر الإعداد فيجيء الشباب فالنضج وهي لما تتهيأ لمهمتها بعد. وإدارة البيت ورعاية شئونه فن يحتاج إلى التدريب عليه. ولا يتم بين يوم وليلة. فهو ليس مجرد طبخات تطبخها حتى تجيدها، ولا مجرد تنظيف المنزل وترتيبه. إنما هو قبل كل شيء مسئولية. وفرق كبير بين فتاة دربت على القيام بهذه المسئولية وفتاة لم تدرب عليها، وإن أجادت الطهي والتنظيف والترتيب. إنما الشعور بالمسئولية هو الحافز الذي يحفز على متابعة شئون البيت، ووضع كل شيء في مكانه، وإعداد العدة لما يحتاج إلى إعداد، وملاحظة ما يتلف أو يضطرب نظامه، ومنه أكبر قدر ممكن من الفساد والتلف والاضطراب، وتهيئة أكبر قدر من التنظيم وحسن سير الأمور. وهذا أمر مختلف عن إتقان الطهي أو القدرة على التنظيف والترتيب، وإن كانت هذه كلها مطلوبة ولا شك. ولكنها -وحدها- لا تكوّن ربة البيت، إن لم يكن معها هذا الشعور بالمسئولية. وهو هو الذي نوه به الرسول صلى الله عليه وسلم: "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها" في الحديث المعروف   1 سورة الروم 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 الذي يبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1. وعلى طريقة الإسلام في التربية بالعادة -بعد القدوة- وتربية هذه العادة في سن باكرة، سابقة على التكليف الفعلي، فإن التربية الإسلامية تبدأ في تعويد البنت على هذه المسئولية منذ فترة المراهقة لتكون قد تدربت عليها حين تأتي مرحلة الشباب الباكر التي تمارس التكليف فيها في أية لحظة إذا قدر للفتاة أن تتزوج في سن مبكرة، كما كان الحال في المجتمع الإسلامي -قبل انتقال عدوى الجاهلية إليه بعد تنحية شريعة الله عن الحكم، وتنحية منهج الله عن العمل, وكان هذا هو الذي يتمشى مع الفطرة السوية كما خلقها الله. أما في الجاهلية المعاصرة فالفتاة لا تتدرب على عمل البيت. لأنها في البيت مشغولة بالاستذكار للمدرسة، وفي المدرسة تأخذ مناهج البنين التي لا تدرب على شئون البيت! بل تستنكر البنت في الجاهلية المعاصرة أن "تدخل المطبخ" أو تقوم بأي عمل من أعمال البيت على الإطلاق! وي! أتكون مثل أمها "العتيقة" التي انتهى زمانها ووضع جيلها على الرف؟! وي! أتتسامع بها زميلاتها في المدرسة فيتضاحكن عليها ويعيرنها؟! كلا! إنما تقوم بأعمال المنزل الفتاة التي لم يقدر لها -لأي سبب- أن تتعلم! أما المتعلمة فلماذا تصنع ذلك؟ إنها تعد نفسها للوظيفة بعد إتمام دراستها الجامعية. وليقم بعمل المنزل من يشاء! فإذا فجأها الزواج في نهاية المطاف وجدت نفسها -فجأة- بلا عدة ولا تدريب ولا استعداد! والجاهلية المعاصرة تزعم أنها تسارع إلى نجدة تلك الفتاة التي لم تتلق تدريبًا من قبل على أي شيء، والتي أعدت على طريقة الرجال ومناهجهم ومراحل دراستهم، لتكون مسخًا مشوهًا لا هو رجل ولا هو امرأة على السواء! تسارع إلى نجدتها بتوريطها في مزيد من البعد عن فطرتها السوية، ومزيد من تقديمها قربانًا للشيطان!   1 أخرجه البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 لا تشغلي بالك بهذه الأمور! تريدين الطعام؟ المطاعم على استعداد لأن تقدم لك ولزوجك الطعام الذي ترغبان فيه. وهناك وجبات خفيفة تقدم في كل مكان لقاء دريهمات، تسد الجوعة وتصرف النفس عن طلب الطعام. تريدين أحدًا لتنظيف البيت وترتيبه وأنت مشغولة في وظيفتك؟ هناك فتاة بالأجر تأتي إليك ساعة كل يوم أو كل أسبوع أو كلما طلبت. وفري من راتبك جزءًا لهذه المهمة واستريحي من العناء. رزقت بأطفال؟ لا بأس عليك ولا حرج. المحاضن موجودة تبذل لطفلك العناية الكاملة التي لا تستطيعينها في بيتك ولو كنت متفرغة! حمام دافئ كل يوم. طعام موزون بالجرام. تدريب جثماني على أسس علمية، لعب. تسلية. تعليم. كل ما تحلمين به من رعاية للأطفال. نعم.. نقول نعم مؤقتًا! وماذا بعد؟! وبعد يكون البيت كما وصفه "ول ديورانت" في كتابه، أشبه بفندق يلتقي فيه الزوج والزوجة اللذان يقوم كل منهما بدوره في الزواج كأنه وظيفة: الرجل في وظيفة الزوج والمرأة في وظيفة الزوجة. ويبرد البيت ويظلم ويبدو في حسيهما كأنه سجن مغلق، فتشرد الزوجة ويشرد الزوج ويتشرد الأولاد! ولا يعود في البيت ذلك السكن والسكينة التي جعلها الله آية في الزواج: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} 1. أما التربية في المحاضن فيكفينا شهادة من الجاهلية ذاتها {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} 2 كتاب "أطفال بلا أسر" لأنا فرويد، الذي تتحدث فيه عن الاختلالات التي تتم في نفوس أطفال المحاضن رغم كل "العناية" التي تبذل فيها للأطفال، لأنهم لا يجدون الحنان الضروري لهم والذي لا "تفرزه" إلا الأم.. الأم الحقيقية لا الحاضن التي تقوم بـ"وظيفة" أم. والله أرأف بالمرأة من أن يعرضها لهذا الفساد في الفطرة الذي يحول حياتها   1 سورة الروم 21. 2 سورة يوسف 26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 إلى ضياع نفسي وروحي وعاطفي، وأرأف بالأطفال من أن يعرضهم لهذا العنت الذي يسلمهم إلى الضياع. لهذا فإنه سبحانه يضع الموازين الحق التي تستقيم بها الأمور في الحياة الدنيا كما يضع الموازين الحق ليوم القيامة ليسأل الناس عما أفسدوا في الأرض ينبذ منهجه واتباع سبيل الشيطان: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. إن للفطرة ثقلًا ووجودًا حقيقيًّا مهما حاولت هذه الجاهلية إنكاره أو إخفاءه أو تغييره. وحين تشد الفطرة شدًّا إلى غير وجهتها الطبيعية فلقد تحتمل ذلك فترة من الوقت، يخيل للجاهلين فيها أنهم انتصروا عليها ونالوا مأربهم منها! ولكنها -بصرف النظر عن عودتها أو عدم عودتها إلى طبيعتها- لا بد أن تظهر عليها أعراض المرض الناجمة من شدها إلى غير وجهتها. لا يمكن أبدا أن تستوي الحياة بالفطرة سوية ومنحرفة على السواء! ولا يمكن أن تستقيم الأحوال بالفطرة موجهة إلى غير وجهتها الطبيعية كما تستقيم بها في وجهتها الصحيحة ووضعها الطبيعي. وهذه الأمراض النفسية والعصبية والعقلية والخلقية. والقلق والاضطراب والحيرة والضياع. والأسر المفككة، والأطفال المشردون والمراهقون الجانحون. وغيرها من الأعراض التي تجتمع المؤتمرات النفسية والطبية وعلماء الاجتماع وعلماء القانون وعلماء الجريمة لمحاولة حلها. هذه كلها لم تنشأ اعتباطًا بغير أسباب. ولا هي نتيجة "حتمية" للحضارة كما يزعمون، إنما تكمن أسبابها الرئيسية في المحاولة الشيطانية الدائبة لتغيير خلق الله، وترجيل المرأة وتأنيث الرجل، والمجافاة المقصودة لكل ما يأمر به الله. والفتاة المسلمة لا ينبغي لها بحال أن تقع في غواية الجاهلية المعاصرة وهي ترى برهان ربها في ظهور هذا الفساد المدمر الذي يؤذن بانهيار هذه الحضارة من قواعدها إن لم تعد إلى الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2.   1 سورة الأنعام 153. 2 سورة الروم 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وفي المجتمع المسلم -الذي يتحاكم إلى شريعة الله ويلتزم بمنهج الله- تعد الفتاة لوظيفتها -كما قلنا- منذ مرحلة المراهقة بصورة جادة، حتى إذا جاء التكليف كانت مهيأة له بالفعل وعلى أحسن صورة. وليس معنى ذلك ألا تتعلم! فلا الإسلام أمر بتجهيلها، ولا تركها جاهلة وعدم تعلمها مما تستقم به الأمور في المجتمع الإسلامي! ولقد كان وجود المرأة الجاهلة في المجتمع الإسلامي -على غير ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- من أكبر الثغرات التي نفذ منها الغزو الفكري إلى العالم الإسلامي, في محاولة الأعداء الجاهدة للقضاء على الإسلام في القرنين الماضيين. وما "قضية المرأة" المثارة اليوم في مجتمعاتنا من المحيط إلى المحيط، على نسق القضية الأوربية وبنفس أهدافها ونفس نتائجها، ومن تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد وتفكيك الأسرة وإفساد الجيل الناشئ وإشاعة القلق والاضطراب والحيرة والضياع.. ما هذه القضية على هذا النحو إلا نتيجة من نتائج وجود هذه الثغرة التي نفذ منها الأعداء. ولو كان المجتمع الإسلامي في القرنين الماضيين ملتزمًا بمنهج الله حقًّا ومنفذًا لتعاليمه على بصيرة، ما استطاع الأعداء أن ينفذوا من هذه الثغرة ولا من غيرها. لأن الإسلام الحق يسد الثغرات على الأعداء، ولأن الله سبحانه وتعالى تكفل بوقاية الأمة المسلمة من كيد الأعداء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 1. تكفل -سبحانه- بوقايتها من خلال طاعتها لله وتنفيذ أوامره. فقد جعل الله الوقاية في هذه الطاعة ذاتها، لأنها -أي: الطاعة- تحصن الفرد المسلم والمجتمع المسلم في جميع الاتجاهات. تحصنه بالقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تكون للدولة المسلمة ما دام أهلها عاملين بمقتضى الإسلام. وبالقوة الخلقية التي تستعصي على كيد الشيطان. وبالقوة العلمية التي يدفعهم إسلامهم إلى تحصيلها. وبكل أنواع القوة على الإطلاق.   1 سورة آل عمران 120. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 أما حين يتهاونون في تنفيذ أوامر ربهم فهنا تنفتح الثغرات للأعداء، وتنحسر عنهم الوقاية الربانية لأنهم لم يقوموا بشرطها الذي اشترطه عليهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} أي: تستقيموا على أمر الله ومنهجه. ومن ثم ينفذ الأعداء من الثغرات. والجهل الذي كان يغلف المرأة المسلمة، والمعاملة الجاهلية التي كانت تعامل بها في المجتمع المسلم1، هي التي هيأت للأعداء أن ينفذوا إلى العالم الإسلامي عن طريق دعاة يحملون أسماء إسلامية يطالبون بضرورة تحرير المرأة المسلمة وتعليمها2 فكان أن "تحررت" و"تعلمت" لا على النحو الذي يريده الله سبحانه وتعالى، ولكن على النحو الذي يريده الشياطين! وتطبيق المنهج الإسلامي في التربية لا يقتضي بحال أن تكون المرأة المسلمة جاهلة لا تتعلم، حتى بصرف النظر عن الأعداء قد نفذوا من هذه الثغرة بالذات لإفساد المجتمع المسلم. لأن طلب العلم فريضة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو -من ثم- فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولأن تربية النشء الجديد لا تكون عن جهالة بل ينبغي أن تكون على علم وعلى بصيرة إذا أريد لها أن تؤتي ثمارها على طريقة الإسلام. والآن بالذات -ونحن بصدد الدعوة إلى الإسلام، وتعريف الناس بما جهلوه منه، وتربيتهم عليه، وإزالة الغربة التي أحاطت به- نحتاج إلى داعية مسلمة تقوم بالدعوة في صفوف الفتيات. ولا بد للداعية أن تكون متعلمة لا جاهلة.   1 كان المجتمع مسلمًا بصفة عامة لتطبيق شريعة الله فيه، ولكن كانت فيه انحرافات جاهلية كثيرة من بينها طريقة معاملة المرأة. ولا تناقض بين الوصفين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه وهو من أجلة الصحابة: "أنت امرؤ فيك جاهلية"؛ لأنه سب بلالًا رضي الله عنه وقال له: يابن السوداء! أما مجتمعاتنا الحالية فهي مجتمعات جاهلية كاملة -وإن احتوت أفرادًا مسلمين في داخلها- لأنها لا تطبق شريعة الله أصلًا، وإنما تطبق شرائع جاهلية لم يأذن بها الله. 2 نادت المؤتمرات التبشيرية في مطلع هذا القرن بضرورة العمل على تحرير المرأة المسلمة وتعليمها "انظر كتاب الغارة على العالم الإسلامي ترجمة محب الدين الخطيب" وفي نفس الفترة نادى قاسم أمين بضرورة العمل على تحرير المرأة المسلمة وتعليمها! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 ولكن أي علم هو الذي نريد؟ نتحدث أولًا عما ينبغي في المجتمع المسلم- حين يوجد هذا المجتمع- ثم نتحدث عما نستطيعه اليوم في مجتمعاتنا الجاهلية المعاصرة. فأما في المجتمع المسلم فهناك علم مشترك بين الشاب والفتاة والمسلمين جميعًا صغيرهم وكبيرهم -كل بحسب سنه وما يناسبه- هو العلم بالدين. وقد كان العلم بالدين قد تحول عند الأجيال المتأخرة من المسلمين إلى مجموعة من الدراسات الفقهية الضيقة، وفي دائرة العبادات بصفة خاصة، لا تعطي روح الإسلام الحقيقية، ولا تنشئ تربية إسلامية حقيقية. وكان هذا أيضًا من الثغرات التي نفذ منها الأعداء. إنما العلم المطلوب بالدين هو الذي يعطي معرفة بالحقائق الإسلامية وهي عظيمة وضخمة وشاملة، ولا يقتصر على بعض مسائل الفقه. فعقيدة لا إله إلا الله شيء ضخم جدًّا أضخم من الكلمة. والصلاة شيء ضخم جدًا أضخم مما تشتمل عليه من حركات وسكنات. والعلم المطلوب هو الذي ينشئ هذه المعاني الكبيرة في النفوس، ويجعل الحياة تقوم عليها. وهذا القدر كما قلنا مشترك بين البنين والبنات، والشبان والفتيات، والرجال والنساء، كل بحسب سنه واستعداده. ثم ينبغي أن يكون هناك إلى جانب ذلك "تربية نسوية" تعد الفتاة لوظيفتها وتعلمها ما تحتاج إلى تعلمه من شئون هذه الوظيفة من إدارة شئون المنزل ورعاية شئون الأطفال والطرق المثلى لتربيتهم، وتحول مشاعر الجنس الفطرية إلى تهيؤ عملي لاستقبال حياة الزوجية المرتقبة، بدلًا من أن تحولها تبذلًا وسعيا وراء الإثارة والفتنة في محيط الشباب، مع الانصراف الكامل عن وظيفة الأمومة في ذات الوقت! وبعد ذلك تتعلم الفتاة ما تجد في نفسها قابلية له وقدرة عليه بغير قيود. إلا قيدًا واحدًا، هو ألا تصرفها هذه الدراسة نفسيًّا وعقليًّا عن وظيفتها الرئيسية التي ينبغي أن تعد من أجلها. أما في مجتمعاتنا الجاهلية المعاصرة، فنحن لا نملك البرامج ولا مراحل الدراسة ولا طريقة التدريس، ولا نملك المدرسة المسلمة التي تعطي القدوة بزيها وأخلاقها وفكرها وسمتها الإسلامي وروحها الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 فمهمتنا إذن مقصورة على البيت وعلى التجمعات النسائية التي تنشئها الجماعة الداعية إلى الله. ولن تكون مهمة البيت سهلة حين يحاول تربية فتاة مسلمة في وسط الخضم الجاهلي. فالمجتمع كله بنظمه وتنظيماته، بمناهج تعليمه ووسائل إعلامه، يحارب الإسلام، والفتاة المسلمة بالذات، التي تتحدى بزيها -مجرد زيها- كل صيحات الجاهلية. وتكفي نظرة واحدة إلى فتاة مسلمة ملتزمة وفتاة مستعبدة للجاهلية ليتضح المدى العميق الذي انحدرت إليه الجاهلية مع المرأة بالذات. فهنا الزي الذي لا يكشف ولا يصف ولا يشف ويتحاشى الفتنة، وهناك الزي الذي يكشف ويصف ويشف ويعمد إلى الفتنة. نقيضان كاملان من حيث المبدأ وكذلك في صورة التطبيق. والمجتمع يدعو إلى العري والتبرج وإبراز الفتنة ويحارب الالتزام بما أنزل الله. كما يدعو إلى تعرية العواطف وإبرازها وممارسة الفاحشة، ويحارب النظافة الحسية والشعورية التي أمر بها الله. ويدعو إلى الاختلاط -مع التبرج- ورفع حاجز الحياء الفطري، والانطلاق ذكرانًا وإناثًا كانطلاق البهيمة، ويحارب آداب الجنس وآداب المجتمع التي قررها الله. ومن ثم فتربية فتاة مسلمة ملتزمة في هذا الخضم الجاهلي لن تكون مسألة هينة. فضلًا عن تربية فتاة يصل الالتزام في حسها والوعي بحقائق دينها الضخمة الشاملة أن تصلح لأن تكون داعية للإسلام في محيط الجاهلية. ولكنا -مع الفتاة كما نحن مع الفتى- مطالبون بالمحاولة وبذل الجهد. لأننا بغير المحاولة لا نصل إلى شيء. ولأننا -بالمحاولة- نتحدث على أقل تقدير قدرًا من التغيير في الحاضر ينبني عليه التغيير المرجو في المستقبل. ولأن الله يأجرنا على الجهد المبذول -حين يكون جهد الطاقة- بما تهفو له كل نفس مؤمنة في الأرض: رضاه والجنة. ولئن كان جهدنا مع الفتاة أكبر من جهدنا مع الفتى بسبب ثقل العراقيل الموضوعة أمام الفتاة أكثر من الفتى، فإن ثمرة الجهد كذلك أخطر. فإنشاء أم مسلمة واعية فاهمة هو شيء ضخم سواء في محيط مجتمعاتنا أو على المستوى البشري كله، لأنه يعطي النموذج العملي لعودة الفطرة إلى حقيقتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وكنا -في نهاية الفصل السابق- قد أشرنا إلى "مشكلة" الصراع بين الأجيال، وأرجأنا الحديث عنها إلى هذا الفصل بوصفها أوضح في فترة الشباب الباكر منها في مرحلة المراهقة، وإن كانت -في الجاهلية المعاصرة- تبدأ مع المراهقين وتستمر في فترة الشباب. وهذه "المشكلة" في الجاهلية المعاصرة ذات أبعاد لا تقتصر على ما يحدث في داخل حدود الأسرة من صراعات بين الأبناء والآباء, تنتهي بالتمرد الكامل على سلطة الأبوين، وما ينجم عن ذلك من تفكك روابط الأسرة وجنوح الصغار ووقوعهم في عالم الجريمة وعالم الرذيلة وعالم المخدرات وما أشبه ذلك من ألوان الفساد. إنما تتعدى "المشكلة" هذه الحدود، وتمتد إلى آفاق اجتماعية وآفاق سياسية، متخذة -حتى الآن- مظهرين مختلفين من مظاهر "الرفض" أو "الاحتجاج" كما يسمونه، أحدهما يتسم بالتطري والترهل والميوعة، ويضم أصحاب النفوس المتجهة بطبيعتها أو بعوامل إفسادها إلى هذه الخصال المتميعة، في مثل حركات "الهيبيز" و"الخنافس" وما إلى ذلك من حركات، والآخر يتسم بالعنف، متمثلًا فيما قام في الغرب من حركات العنف الجماعية في السنوات الأخيرة، التي قام بقيادتها "مفكر" يهودي معاصر! ورغم انزعاج الحكومات الحقيقي أو المفتعل في الغرب من هذه الحركات بشقيها، فإن شيئًا حقيقيًّا لا يعمل هناك لوقفها، بل تعمل كل التيارات الجاهلية -في الصحافة والسينما والإذاعة والتلفزيون والمسرح ... إلخ- على تقوية هذا الصراع وتغذيته، والوصول به إلى صورة "المشكلة" الحادة التي تستعصي على العلاج. أما في مجتمعاتنا نحن الجاهلية فالظاهرة موجودة على الأقل في نطاق الأسرة بين جيل الأبناء والآباء, وبصفة خاصة بين الولد ووالده وبين البنت ووالدتها، تغذيها ذات الأدوات التي تغذيها هناك: الصحافة والسينما والإذاعة والتلفزيون والمسرح ... إلخ. ويراد منها ما أرادته المخططات الشريرة هناك1. ويقال فيما يقال إنها مشكلة طبيعية! وإن منشأها الطبيعي هو "التطور"   1 راجع "بروتوكولات حكماء صهيون" في شأن الفوضى الشاملة المراد نشرها في صفوف "الأمميين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 الهائل الذي حدث في حياة البشرية في القرنين الأخيرين، والقرن الأخير خاصة، وغير معالم الحياة كلها، المادية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأوجد قيمًا ومفاهيم جديدة في كل شأن من شئون الحياة -ومن بينها الأخلاق- وإن الجيل "الجديد" هو بطبيعة الحال أكثر تشبعًا بالقيم والمفاهيم الجديدة من الجيل السابق، الذي تربى في عصر سابق، على قيم ومفاهيم مخالفة، وليست لديه المرونة الكافية ليتخلى عن قيمه ومفاهيمه التي تربى عليها، ومن ثم ينشأ الصراع بينه وبين جيل الأبناء! ويكون مقتضى ذلك ولا شك أن الجيل السابق هو المخطئ، وأن الجيل "الجديد" هو المصيب! وأن هذا الجيل الجديد ينبغي أن يحطم "عنجهية" الجيل السابق واستبداده، بأن يعلم التمرد عليه، ويرغمه -في النهاية- على الخضوع له والانصياع لأمره، وإلا فليتركه وشأنه، ويمضي هو يحيا حياته الخاصة بعيدًا عن سيطرته أو إشرافه! وتكتب في ذلك المقالات والكتب والقصص والمسرحيات، ويعرض ما يعرض منها في السينما والتلفزيون وغيرها من وسائل "الإعلام"! وفي وسائل "إعلامنا" نحن تبرز بصفة خاصة صورة الأم الجاهلية الساذجة المحدودة الآفاق، التي تتمثل فيها التربية "الدينية" القديمة، وأمامها الفتاة "العصرية" المثقفة ذات "التجربة" والآفاق الأوسع، التي تقوم بتحطيم "التقاليد البالية" وتنشئ علاقات "حرة" مع الشبان، وتحدث ثورة عنيفة ضدها في البيت. ثم ينتهي الأمر بالرضى بالأمر الواقع، وترضح الأم -والأب كذلك- لما فعلته الفتاة "المتحررة" ويحتفلون جميعًا بتحطيم تلك التقاليد! وسواء كانت المشكلة طبيعية كما يزعم الدعاة "التقدميون" أو كانت مفتعلة، فقد نشأت أصلًا من لوثة التطور التي أصابت الفكر الأوربي بعد دارون، وطغت من هناك على كل الأرض. وفي غير هذا الكتاب تحدثت حديثًا مفصلًا عن قضية "التطور والثبات في حياة البشرية" وأشرت إلى أمرين رئيسيين: الأمر الأول: أن الحياة البشرية ليست كلها ثابتة وليست كلها متغيرة. إنما فيها جانب ثابت لا ينبغي أن يتغير، وإذا تغير تختل الحياة البشرية ويسودها الاضطراب. وفيها جانب متغير لا ينبغي أن يظل على حاله على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 الدوام، وإذا أريد له أن يبقى على حاله فإن الحياة تجمد وتقف عن النمو. وإن من الجوانب الثابتة في حياة البشرية -وفي حياة الكون كله- قضية الألوهية وما يتفرع عنها ويترتب عليها من مبادئ وقيم. فكون الله هو الإله الخالق، الذي خلق السموات والأرض وخلق الإنسان، قضية أزلية لا تتغير ولا يمكن أن تتغير. ويترتب عليها أن يعبد الإنسان ربه الذي خلقه ولا يعبد غيره، ولا يشرك به شيئًا، وتشمل هذه العبادة الاعتقاد بوحدانية الله بلا شريك، وأداء الشعائر التعبدية التي افترضها الله عليه. وتنفيذ شريعة الله دون غيرها من الشرائع، بما تشتمل عليه من نظم وأخلاقيات. وأما الجوانب المتغيرة فمنها "الصورة" السياسية، و"الصورة" الاجتماعية و"الصورة" الاقتصادية، وهذه تتغير على الدوام بحكم فاعلية الإنسان في الأرض "وهو مقتضى جعله خليفة في الأرض"1 وتفاعل عقله الدائم مع الكون المادي، بما ينشئ صورًا متجددة من الحياة المادية تؤثر بدورها في الصورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبشر. ولكن هذا التغيير لا ينبغي أن يكون منفلتًا من كل قيد، وإنما تحكمه -في تغيره- القيم الثابتة أو الجوانب الثابتة في حياة الإنسان، فتضبط منطلقه في الأرض دون أن تقف حركته أو تعوقها، وتمنع عن حياته الخلل والاضطراب. وأن الشريعة الربانية المنزلة قد روعي فيها -من لدن منزلها سبحانه- أن تستجيب للجانبين معًا على نحو معجز. ففي الجوانب الثابتة تعطي الشريعة تفصيلات ثابتة غير قابلة للتغيير، وفي الجوانب المتغيرة تعطي أصولًا عامة ثابتة، وتترك للعقل البشري المؤمن أن يجتهد بما يراه محققًا للمصلحة -في المصالح المرسلة التي لم ينزل فيها نص- بحيث لا يتخطى تلك الأصول الثابتة ولا يصطدم معها. وهذا هو الذي يعطي تلك الشريعة مرونتها وصلاحيتها لجميع الأجيال إلى قيام الساعة، تواكب نمو الحياة البشرية وتضبط منطلقه في ذات الوقت. والأمر الثاني: أن الداروينية بذاتها -بصرف النظر عن صحتها من الوجهة العلمية أو عدم صحتها2- لم تكن لتؤدي من تلقاء نفسها إلى ذلك التحول   1 {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة: 30] . 2 بعد تقدم العلم، وثبوت تفرد الإنسان لا نفسيًّا وعقليًّا فقط ولكن بيولوجيًّا أيضًا "انظر جوليان هكسلي في كتاب الإنسان في العالم الحديث" وثبوت أن لكل جنس من الكائنات صفات وراثية ثابتة وغير قابلة للتغير "انظر أي مرجع حديث في علم "الجينات"" تزلزلت كثير من القواعد التي بنى عليها دارون نظريته، ولكنا لا نتعرض لهذا الأمر، ولا نحتاج أن نتعرض له، إنما تقول إنه حتى لو سلمنا جدلًا بصحة النظرية، فلم تكن بذاتها تؤدي إلى الإلحاد، لولا صراع دارون مع الكنيسة وقوله: إن "الطبيعة" هي التي تخلق كل شيء, ولا حد لقدرتها على الخلق، بدلًا من أن يقول: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 الخطير الذي حدث في الفكر الأوربي بعدها، من انتشار الإلحاد من جهة، ورفض فكرة "الثبات" في أي شيء على الإطلاق من جهة أخرى. إنما ظروف أوربا المحلية هي التي أدت إلى ذلك بما كانت تشتمل عليه من فساد عقيدي1 وفساد ديني شامل2, وفساد سياسي واجتماعي واقتصادي وفكري3. إلخ، كما حدث استغلال مقصود لتلك الظروف من ناحية أخرى على يد ماركس وفرويد ودركايم وغيرهم من "المفكرين! " و"العلماء"! الذين أخرجوا الداروينية من نطاقها المحدود داخل المعمل, وداخل علم الحياة، ليستخرجوا منها ويبنوا عليها نظريات اقتصادية ونفسية واجتماعية تعامل الإنسان من جهة على أنه حيوان، وتهدم من جهة أخرى كل "الثوابت" في حياة البشرية من دين وأخلاق وتقاليد اجتماعية، لتضع بدلًا منها قيمًا متغيرة، أو تضع بدلًا منها أحيانًا فوضى لا ضابط لها ولا حدود! 4. وأيًّا كانت عوامل الخلل في الجاهلية الأوربية، وسواء كان ما حدث فيها تلقائي الحدوث أو مفتعلًا تقف وراءه وتدفعه القوى الشريرة في الأرض، فإن اللوثة التي أصابت الفكر الأوربي والحياة الأوربية بعد الداروينية هي وضع الحياة كلها -بجانبيها الثابت والمتغير معًا- على خط التغير، الذي يدعونه   1 مما أدخلته المجامع المقدسة من تحريفات متوالية لعقيدة التوحيد الصافية التي جاء بها عيسى عليه السلام. 2 يتمثل في الفساد الذاتي لرجال الدين، وطغيان الكنيسة الروحي والسياسي والمالي والعلمي، مع فضائح الأديرة وما كان فيها من فساد خلقي, ومهزلة صكوك الغفران. إلخ. 3 كان من الفساد الفكري في الحياة العقلية الأوربية تصور الثبات الكامل الدائم في كل شيء, في الكون والحياة, وعدم تصور حدوث التغير، فلما جاءت الداروينية بفكرة التطور الدائم وعدم ثبوت شيء على حاله في عالم الأحياء, أحدث ذلك زلزلة شديدة في الفكر الأوربي, بينما كان المسلمون يعرفون قضية الثبات والتغير منذ قرون! 4 انظر -إن شئت- كتاب "التطور والثبات في حياة البشرية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 التطور، ومن ثم انفلات البشرية إلى الفوضى الهائلة التي تعيشها اليوم، بدعوى أن التطور العلمي والمادي قمين بأن يغير الحياة كلها من ألفها إلى بائها, ولا يترك فيها شيئًا ثابتًا على الإطلاق! وي! التطور العلمي والمادي يلغي تلك الحقيقة الأزلية الأبدية: أن الله هو الخالق؟ ومن الخالق إذن؟ الطبيعة؟! وما الطبيعة؟! وكيف يتسنى للطبيعة التي يقول عنها دارون إنها لا عاقلة ولا مريدة، وإنها تخبط خبط عشواء، أن تخلق الإنسان المفكر المريد المدبر؟ كيف يتسنى للخالق أن يخلق من هو أسمى منه؟! وكيف يقولون من جانب آخر إن الإنسان سيد الطبيعة إذا كانت الطبيعة هي التي خلقت الإنسان؟! ما أبأس هذا التطور العلمي، وما أشد تخبطه -هو وعباده- في الظلمات! {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 1. من هذه اللوثة نشأ ما يسمونه في الجاهلية الأوربية المعاصرة "صراع الأجيال". فما دامت الحياة كلها موضوعة على خط التغير، فأنى للأجيال أن تلتقي على أمر واحد من أمور الحياة، والزمن "المتطور" قد فصل بين جيل وجيل إلى غير لقاء؟! فإذا تواجه جيلان -في أي أمر- فهي مواجهة الصراع لا مواجهة الهدنة ولا مواجهة الإتفاق! ثم تروح كل وسائل "الإعلام! " تغذي هذا الصراع الدائر وتقويه، وتنزع من قلوب "الجيل الجديد" أي توقير للجيل السابق، أي: الوالدين وما حولهما من قيم وتقاليد، وتزرع في تلك القلوب بذرة التمرد والعصيان.   1 سورة البقرة 257. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 ولربما كان الأمر يكون منطقيًّا ومفهومًا لو أن هذا الجيل الجديد -الصاعد- قد اكتشف الاختلالات القائمة في الجيل السابق فراح يقومها، ثم رفض الجيل السابق مقومات التقويم فتمرد الجيل الصاعد عليه، وأبى إلا إخضاعه أو إنشاء الحياة الجديدة على الرغم منه! ولكن أين ذلك من الواقع؟ ما مقومات الإصلاح التي يحملها "الهيبيز" بتبذلاتهم وجرائمهم والدنس الحيواني الذي يعيشون فيه، مع تمييع الفطرة التي لا تكاد تميز معها بين فتى أو فتاة؟ وحتى حركات العنف.. ما الذي تحمله من مقومات الإصلاح الجذرية لفساد الحياة الأوربية الذي يشمل كل جوانب الحياة؟ إن نقطة الخلل العظمى في الحياة الأوربية أنها "جاهلية" لا تعرف الله، ولا تحكم بما أنزل الله.. فماذا تملك حركات العنف من زاد يصلح هذا الخلل الأعظم ويرده عن الفساد؟! وما بنا أن نناقش الجاهلية الأوربية هنا أكثر من ذلك. إنما نسجل فقط أن ظاهرة "الصراع بين الأجيال" القائمة في تلك الجاهلية لا تعرفها قط الحياة الإسلامية الصحيحة التي تسير بمقتضى منهج الله. تعرف الحياة الإسلامية جيدًا ظاهرة "الاختلاف بين الأجيال" ولكنها لا تعرف قط ظاهرة "الصراع بين الأجيال". فأما الاختلاف بين الأجيال فأمر تنبه إليه عمر رضي الله عنه في وقت مبكر جدًّا من التاريخ الإسلامي، حين قال: "أحسنوا تربية أولادكم فقد خلقوا لجيل غير جيلكم" وكان يلمح بهذا إلى ما يحدث في حياة البشر من التغير في الصورة السياسية والصورة الاجتماعية والصورة الاقتصادية، فيقول: "أحسنوا تربية أولادكم" أي: اضبطوهم بالقيم الثابتة لكي لا يجرفهم التغير فيحيدوا عن سواء السبيل. وذلك هو حجر الزاوية في الحياة الإسلامية الصحيحة المحكومة بمنهج الله. إن صور الحياة تتغير، ولا بد لها أن تتغير. ولكن ينبغي أن تظل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 -في تغيرها- محكومة بمنهج الله، المنزل أصلًا لكي يواكب نمو الحياة الدائم، ويضبط منطلقه فلا يضل عن الطريق. تتغير صور الحياة، ولكن يظل الله هو المعبود. تتغير صور الحياة، ولكن تظل شريعة الله هي الحاكمة. تتغير صور الحياة، ولكن تظل أخلاقيات لا إله إلا الله هي التي تنظم علائق البشر. تتغير صورة الحياة، ولكن يظل البناء الرئيسي للفرد والأسرة والمجتمع والدولة لا يتغير، وهو قيامه على تقوى الله، وتنفيذه لأوامر الله. فإذا سأل سائل ساذج: وما الذي يمكن أن يتغير من الحياة إذن إذا ظلت هذه الأمور كلها ثابتة؟ نقول له: إن أشياء كثيرة جدًّا يمكن أن تتغير -في حدود النمو السوي للحياة البشرية- دون أن يحتاج ذلك لتغيير أمر واحد من هذه الأمور. يستطيع راكب الجمل أن يركب السيارة أو الطائرة أو الصاروخ. ولكن شيئًا من ذلك كله لا يجعله "يطغى" ويستكبر عن عبادة الله كما يصف القرآن: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} 1. ذلك أن راكب الصاروخ المسلم سيقول وهو يصعد إلى الصاروخ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} 2 فيظل -وهو يستخدم الصاروخ- شاعرًا بفضل الله عليه في وصوله إلى هذه الدرجة من العلم، ويظل موصول القلب به، شاكرًا لأنعمه، عابدًا له. ويستطيع الاقتصاد الرعوي أو الزراعي أن "يتطور" إلى اقتصاد صناعي. ولكن هذا لا يلجئه إلى استخدام الربا لأنه حرام، ولا الوصول إلى الاحتكار؛ لأنه ملعون، ولا السرقة ولا النهب ولا الغش ولا الترف ولا عدم توفية الأجير أجره لأن هذا كله محرم في الإسلام، وهو هو الذي تستخدمه الرأسمالية ويترتب عليه ما يترتب من ظلم وفساد في الأرض. وتستطيع الفتاة أن تتعلم، وأن تحذق كثيرًا من العلوم، وتحصل على   1 سورة العلق 6-7. 2 سورة الزخرف 13-14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 كثير من الدرجات العلمية حتى أعلاها، ولكن هذا لا يحتم عليها أن تتبرج، ولا أن تفقد أخلاقها، ولا أن يكون الاختلاط هو دستور المجتمع، فإن التبرج والفساد الخلقي ليس هو الذي يعطي "العلم"! وليس شرطًا من شروطه ولا أساسًا من أسسه! ثم لا يترتب على تعلم الفتاة المسلمة أن ترفض قوامة الرجل، لأن القوامة لم يكن سببها نيل الرجل لشهادة جامعية لا تستطيع المرأة الحصول عليها! إنما سببه فروق فطرية أودعها الله في فطرة كل من الرجل والمرأة؛ لتستقيم الحياة داخل الأسرة, وداخل المجتمع على وجهها الصحيح. وهكذا.. وهكذا مما لا يشمله الحصر! وحين تقوم الحياة الإسلامية الصحيحة على القيم والمبادئ الثابتة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، ثم تنمو وتتغير ما شاء لها الله أن تنمو وتتغير في حدود هذه القيم والمبادئ، فإن "اختلافًا" كبيرًا يمكن أن ينشأ بين الأجيال المتعاقبة من المسلمين، ولكن لا ينشأ ذلك الصراع بين الأجيال، الذي تمارسه الجاهلية المعاصرة ثم تعود تشكو منه جادة في شكواها أو هازلة! يمكن أن تتغير صورة الحياة من الجمل إلى السيارة إلى الصاروخ، ومن الاقتصاد الرعوي والزراعي إلى الاقتصاد الصناعي، ومن الفتاة التي تكتفي "بفك الخط" أو بما هو دونه إلى الفتاة الجامعية المثقفة، ومن الخيمة أو الكوخ الصغير إلى العمارة الشاهقة المزودة بالماء والكهرباء وكل "التكنولوجيا" المعاصرة. ولكن يلتقي راكب الجمل وراكب السيارة وراكب الصاروخ، والراعي والفلاح والعامل الصناعي، والفتاة التي تفك الخط أو لا تفكه والفتاة الجامعية المثقفة، وساكن الخيمة أو الكوخ وساكن العمارة الشاهقة. يلتقون كلهم على كلمة مبدئية يقولونها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلى الإقرار بشريعة الله وأنها هي التي تحكم الحياة، وعلى صلوات خمس يؤدونها في اليوم والليلة، وعلى صيام شهر رمضان، وعلى أداء الزكاة, لمن كان يملك نصاب الزكاة، وعلى حج البيت من استطاع إليه سبيلا، وعلى توقير الصغير للكبير، وعلى إفشاء السلام، وعلى التزام آداب الجنس، وآداب اللباس والزينة، وآداب الطعام، وآداب الكلام، وآداب الجوار، وآداب الحوار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 ويلتقون على الإيمان باليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب ويلتقون على اتخاذ القدوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلتقون ... ويلتقون ... ويلتقون. عندئذ "يختلفون" في أمور الحياة لمتغيرة ما شاء لهم الاختلاف, وتختلف وجهات نظرهم في بعض الأمور التي لا يحكمها نص معين أو في كثير منها. ولكن يبقى مع ذلك الاختلاف كله من الروابط ومن عوامل الالتقاء ما يجعلهم في أي جيل من الأجيال "أمة" واحدة، وما يجعلهم كذلك أمة واحدة خلال كل التاريخ. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 1. وعندئذ قد تختلف بعض وجهات النظر بين الولد وأبيه، وبين الفتاة وأمها، ولكن لا يحدث الصراع بين الجيلين، الذي يؤدي إلى التمرد والنشوز. فحين يلتقي الولد والوالد2 على منهج الله، وعلى ضرورة تطبيقه في واقع الحياة فمن أين يحدث الصراع؟ ثم حين يلتقي الولد والوالد على منهج الله. فمن أين يأتي التمرد الناشئ من اخلاف القيم والمبادئ التي تحكم الحياة؟ كلا! لا يحدث في الحياة الإسلامية الصحيحة صراع الأجيال. أما ما يحدث اليوم في مجتمعاتنا الجاهلية فهو هو الذي نحتاج إلى منهج التربية الإسلامية ليرده إلى الصواب! يرد الولد والوالد كليهما إلى منهج الله وشريعة الله!   1 سورة الأنبياء 92. 2 أي: "الأولاد" جميعًا من بنين وبنات، و"الوالدون" جميعًا من آباء وأمهات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 الباب السادس: مرحلة النضوج مرحلة النضوج هي المرحلة "المثمرة" في حياة الأمم والجماعات والشعوب. أرأيت إلى الزارع الذي يزرع حقله؟ إنه يختار الأرض ثم يهيئها للزرع. ينقيها من الحشائش الضارة ثم يحرثها، ثم يضع البذرة. ثم يظل يتعهدها ويسقيها حتى تخرج من باطن الأرض نبتة صغيرة، ثم يواليها بالرعاية حتى يقوم النبات على ساقه، ثم يتفتح ويزهر. إلى أي شيء يهدف من وراء هذا العمل كله، وهذا الجهد الدائب الذي يقوم به؟ إنه يهفو إلى "الثمرة" في نهاية المطاف، تعوضه عن جهده من ناحية، وتحمل من ناحية أخرى بذور الدورة القادمة، التي يتم بها الاستنبات من جديد. والبشرية تأخذ ذات الدورة.. ومنذ الطفولة الباكرة إلى الشباب الباكر جهد دائب متصل يقوم به الآباء والمربون في انتظار "الثمرة". والثمرة هي ذلك الكيان الناضج -رجلًا كان أو امرأة- الذي يحمل مسئوليته الفردية والاجتماعية، ثم يقوم بدوره في إنشاء جيل جديد يخلفه في مهمته على الأرض. مسئولية هائلة في الحقيقة.. وهي بالنسبة للإنسان المسلم أكبر وأخطر. إنها -بالنسبة للإنسان المسلم- مسئولية الخلافة الراشدة في الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 1. أو هي بعبارة أخرى مهمة عمارة الأرض بمقتضى منهج الله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} 2 وفي قصة آدم -كما وردت في مواضع شتى من القرآن الكريم- مجموعة من الحقائق بشأن مسئولية الإنسان في الأرض، ودوره في الحياة الدنيا.   1 سورة البقرة 30. 2 سورة هود 61. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 فقد خلق الإنسان ابتداء من قبضة من طين الأرض ونفخه من روح الله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 1. قبضة من طين الأرض تمنحه كيانه الجسدي الذي يتحرك ويعمل ويقوم بالنشاط الحيوي، والذي تكمن فيه في الوقت ذاته رغائب الأرض وشهواتها. ونفخة من روح الله تمنحه شفافية روحه، وإدراك عقله، وقدرته على التمييز بين الخير والشر، وإرادته الضابطة التي تتحكم في الشهوات: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} 3. وإذ ركب في كيانه مجموعة من الرغائب والشهوات قد أباح له الله قدرًا من المتاع الأرضي يستجيب لتلك الشهوات المركبة في كيانه، ويعلم الله أنه القدر النافع لهذا الكيان، المعين له على أداء مهمة الخلافة في الأرض، وجعله "خالصًا للذين يلتزمون به طاعة لله وإيمانًا به: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} 4. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5. وفي الوقت ذاته منع عنه قسطا آخر من المتاع يعلم سبحانه وتعالى أنه لا يفيد هذا الكيان في حياته الدنيا ولا يعينه على أداء مهمته في الأرض، بل يقعد به عن أدائها، ويهبط بالإنسان عن مستواه الذي كرمه الله به ورفعه عن عالم الحيوان. ولكنه جعل نقطة الابتلاء لهذا المخلوق البشري هي "تزيين" هذا المتاع، ليبتلي الإنسان في كيفية تصرفه في هذا الأمر: أيستجيب لدافع الشهوة ويتعدى   1 سورة ص71-72. 2 سورة الشمس 7-10. 3 سورة الإنسان 2-3. 4 سورة البقرة 36. 5 سورة الأعراف 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 الحدود المرسومة له ويهبط بذلك إلى مستوى الحيوان؟ أم يلجأ إلى طاقته الروحية، وعقله، وإرادته الضابطة، فيستجيب لأوامر الله، ويمتنع عن القدر الزائد من المتاع -وإن كان يشتهيه- فيحقق بذلك كيانه الأعلى، كيان الإنسان، وينصرف إلى الآفاق العليا التي كرمه الله بها، وفضله على كثير ممن خلق؟ ثم جعل له الجنة جزاء النجاح في الاختبار، والتزام حدود الله، التي تحقق له في ذات الوقت مصلحته الحقيقية في الحياة الدنيا، كما جعل النار جزاء المعصية التي ينتج عنها في الوقت ذاته البوار والدمار في حياته على الأرض. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} 1. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 2. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3. ولقد أخبره عند هبوطه إلى الأرض -بعد فتنة الشيطان له وإخراجه من الجنة -أنه سيرسل له هدى عليه أن يلتزم به, ليصلح حاله في الدنيا والآخرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4. وعلمه أن المطلوب منه -في كلمة واحدة- أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 6. ولكنها عبادة شاملة، تشمل كيان الإنسان كله، كما تشمل حياته كلها لا لحظة "التعبد" المعروفة فحسب:   1 سورة آل عمران 14. 2 سورة الكهف 7. 3 سورة النساء 13-14. 4 سورة البقرة 38-39. 5 سورة الذاريات 56. 6 سورة النساء 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} 1. وأن الهدى الرباني المنزل من عند الله هو الذي يشتمل على تفصيلات "العبادة" المطلوبة من الإنسان, فتكون العبادة المطلوبة في كل حالة هي الطاعة لهذا الهدى المنزل. وتكون عبادة الشيطان من الجانب الآخر هي مجافاة هذا الهدى والإعراض عنه، لأن هذه هي الغواية التي توعد الشيطان أن يوقع فيها بني آدم جزاء تسبب أبويهم في إخراج الشيطان من الجنة: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 2. {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4. وتلك هي المسئولية الملقاة على عاتق البشر أجمعين، والتي لا يؤديها في الحق إلا المؤمنون! أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، بهذا المعنى الواسع الشامل للعبادة، الذي يعني التوجه لله في كل أمر من الأمور، والالتزام بما أنزل الله في كل أمر من الأمور، سواء كان -في اصطلاح البشر- من أمور الآخرة، ويعنون بها الشعائر التعبدية، أم كان من أمور الدنيا التي يعنون بها عمارة الأرض. فكلاهما شيء واحد في الإسلام، تشمله تلك "العبادة" الشاملة التي تشمل كل حياة الإنسان. وذلك هو منهج التربية الإسلامية وخاصة في مرحلة النضوج5.   1 سورة الأنعام 162-163. 2 سورة ص 79-85. 3 سورة الأعراف 29-30. 4 سورة يس 60-61. 5 انظر -إن شئت- في الجزء الأول من منهج التربية الإسلامية فصل "منهج العبادة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 إن منهج التربية الإسلامية الذي بذل فيه الجهد منذ الطفولة الباكرة إلى الشباب الباكر، ليؤذن الآن أن يؤتي ثمرته. وثمرته هي "الإنسان الصالح" الذي يحمل "الأمانة" التي ناط الله به حملها بعد أن أشفقت من حملها السموات والأرض:1. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} 2. و"الإنسان الصالح" في الحقيقة هو أثمن ما في هذا الكون، لأنه موضع التكريم الرباني والتفضيل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 3. ولئن كان التكريم في الأصل لكل بني آدم، فإن الذي ظل مستحقًّا له هو الإنسان المؤمن وحده، أي: الإنسان الصالح، الذي زكى نفسه كا أمره الله. أما الذي دسى نفسه فقد نكس على رأسه ولم يعد من المكرمين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 4. {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 5. ولئن كانت الخلافة هي في الأصل "للإنسان" كله، فإن الإنسان المؤمن وحده -الإنسان الصالح- هو الذي يقوم بالخلافة الراشدة. أما الذين يرفضون الرشد فهم أولئك: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} 6.   1 في الجزء الأول فصل بعنوان "ثمرة التربية" يرجع إليه من أراد. 2 سورة الأحزاب 72. 3 سورة الإسراء 70. 4 سورة التين 4-6. 5 سورة الأعراف 179. 6 سورة الأعراف 146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 والغافلون هم أولئك الذين قال عنهم إنهم {كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} وهؤلاء لا يقومون بالخلافة الراشدة، إنما يقومون بجهد ضائع. ضائع في الدنيا والآخرة على السواء: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} 1. ولئن كانت عمارة الأرض يقوم بها "الإنسان" كله، فإن الإنسان المؤمن وحده هو الذي يقوم بهذه العمارة بمقتضى المنهج الرباني، فيثمر جهده الثمرة المباركة: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} 2. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 3. أما حين يكفرون فقد يفتح الله عليهم أبواب كل شيء, فترة من الوقت تطول أو تقصر. ولكن بغير بركات وبغير طمأنينة في الأرض، ثم في النهاية يدمر عليهم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 4. الإنسان الصالح هو الهدف النهائي من منهج التربية الإسلامية، وهو الثمرة كذلك. وفي مقدمة الكتاب الأول من "منهج التربية الإسلامية" أشرت إلى الفرق الهائل بين "الإنسان الصالح" الذي يسعى الإسلام إلى إنشائه، و"المواطن   1 سورة الكهف 103-105. 2 سورة الأعراف 58. 3 سورة الأعراف 96. 4 سورة الأنعام 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 الصالح" الذي تسعى إلى إنشائه مناهج التربية البشرية التي لا تقوم على المنهج الرباني، وإن بدا لأول وهلة أنهما شيء واحد بلا افتراق. وما نحتاج هنا أن نعيد ما قلناه هناك. إنما نقول باختصار: إن الإنسان الصالح يشتمل ابتداء على ما قد يشتمل عليه المواطن الصالح من عناصر الخير، ولكنهما يفترقان افتراقًا واسعًا بعد ذلك، ينشأ من قضية جوهرية في حياة هذا الكون كله, وحياة الإنسان كذلك، هي قضية المعبود الحقيقي: أهو الله وحده بلا شريك؟ أم له شركاء يعبدون معه أو يعبدون من دونه. كانت في الماضي أصنامًا حسية في الغالب، وهي اليوم أوثان معنوية من نوع آخر ولكنها تفضي إلى ذات النتيجة، تتخذ أسماء شتى، الوطنية. أو القومية. أو الإنتاج القومي. أو المصلحة القومية. أو الدولة، أو الحزب، أو المذهب أو الزعيم. تطاع في معصية الله، وتقدم على ما أنزل الله، فتكون في الحقيقة أربابًا معبودة من دون الله، وتنشأ عن ذلك فروق كبيرة في الدنيا، فضلًا عن المصير في الآخرة. فالرأسمالي الذي يستبيح لنفسه أن يمتص دماء الكادحين، ويغري البشرية بالفساد الخلقي والروحي والعقلي؛ لكي يربح الأرباح الفاحشة من منتجات ليست من مستلزمات الحياة الجادة النظيفة الهادفة، ثم يقيم الحروب المحلية أو العالمية لكي يؤمن أسواقًا لتصريف بضائعه. ذلك "مواطن صالح" في نظر الغرب الرأسمالي. بل هو صالح بمقدار ما يمعن في هذا الشر كله وينجح فيه! والمواطن في الشيوعية صالح بمقدار ما يستطيع أن يستعبد نفسه للزعيم والحزب والمذهب والدولة، ولا يفتح فمه بكلمة نقد واحدة لما قد يتراءى له مستوجبًا للنقد! ولا بأس عليه أن يقدس الزعيم القائم اليوم، حتى إذا مات ونبش قبره من بعده. أنحى باللائمة على الزعيم الأول وتابع الزعيم الأخير! ولا بأس عليه أن تجنده الدولة لإهلاك الناس بغير جزيرة, كما جندت روسيا مواطنيها الصالحين عام 1956 لهدم البيوت على سكانها أحياء في المجر، لأنهم تجرءوا فأرادوا أن يختاروا لأنفسهم طريقًا غير طريق الذل الذي عاينوه في الحكم الشيوعي "الإنساني" "الرفيع"! وهم بطبيعة الحال لا يقولون في كتبهم ولا دساتيرهم إن هذه أو تلك هي مواصفات المواطن الصالح! ولكن هذا هو التطبيق العملي الذي يكشف "المبادئ" على حقيقتها، ويكشف عن مفهوم القوم الحقيقي لمبادئهم، رغم كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 العبارات البراقة في الكتب والدساتير عن العدل، وعن الحرية والإخاء والمساواة. فإذا قال قائل منهم -أو من المدافعين عنهم- إن هذا خطأ في التطبيق، فليعطونا إذن مثالًا واحدًا للتطبيق المخالف لذلك في الشرق أو الغرب، وليرونا حركة التقويم الواحدة التي قامت لتصحح الخطأ وترده إلى الأصول!! أما مواصفات "الإنسان الصالح" فقد تضمنها كتاب منزل من عند الله، وسنن سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تضمنها واقع تاريخي ضخم شهدته البشرية أروع شهادة، وظل قائمًا في الأرض قرونًا طويلة رغم الانحراف المتزايد والبعد التدريجي عن منهج الله. أما انحرافات المسلمين التاريخية، التي بلغت ذروتها في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرض الإسلام، فهي انحرافات، لا يرضى بها أحد، ولا يبررها أحد، ولا يدافع عنها أحد! وقد قامت في التاريخ الإسلامي حركات متكررة لمحاولة تصحيحها، وردها إلى أصولها المتضمنة في الكتاب والسنة، على يد الدعاة والمجاهدين الذين لم ينقطع منهم تاريخ الإسلام، وها هي ذي حركات البعث الإسلامي القائمة اليوم، رغم كل الحرب المصبوبة عليها من كل أرجاء الأرض، تحاول أن تقوم انحراف المسلمين وتردهم إلى تلك الأصول. وهذا هو الفارق بين المنهج الرباني، القائم على العقيدة الصحيحة في الله، والمناهج البشرية القائمة على المصلحة أو على الحقد أو على شهوة السلطان. الإنسان الصالح هو الإنسان العابد لله، على المفهوم الشامل للعبادة الذي يشمل كل الحياة؛ وهو كذلك الإنسان الذي تتمثل فيه أخلاقيات لا إله إلا الله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} 1. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2. {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} 3. وهدف منهج التربية الإسلامية هو إنشاء هذا الإنسان الصالح، رجلًا وامرأة، وفردًا ومجتمعًا، وأمة ودولة. وفترة النضج بصفة خاصة هي التي يفترض أن يصل الإنسان فيها إلى نضجه التربوي، بعد ما بذل في تربيته على المنهج الرباني منذ الطفولة الباكرة إلى تلك اللحظة، ويصبح منذ الآن إنسانًا راشدًا يحمل مسئوليته ويقوم بدوره في تسيير عجلة الحياة. كان يتلقى من مربيه والمفروض فيه اليوم أن ينتقل إلى مقام التوجيه، لنفسه ثم للآخرين. كان غيره يعوله. والمفروض فيه اليوم أن يكون عائلًا، يكون أسرة ويكون مسئولًا عن إعالتها وعن توجيهها. كان يكتسب خبرات نظرية. والمفروض فيه اليوم أن يكتسب الخبرة العملية التي يعيش بها ما قدر له أن يعيش.   1 سورة الفرقان 63-76. 2 سورة المؤمنون 1-11. 3 سورة الشورى 37-39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 كان في موقف المتفرج أو المحبذ أو الناقد من بعيد. والمفروض فيه اليوم أن يشارك في الأمور بنفسه، ويأخذ دوره فيما كان يتفرج عليه من بعيد. إن السمات العامة لهذه الفترة هي الرغبة في حمل المسئولية، والرغبة في العمل واكتساب الخبرة العملية، ثم النظرة الواقعية إلى الأمور. وقد ركب الله هذه السمات في الفطرة لتقوم بدور معين في حياة البشرية. وسواء كانت المسئولية هي المسئولية في أضيق نطاقها, وهي السعي وراء الرزق، وإنشاء أسرة وتحمل تبعاتها، أو كانت هي المسئولية في أوسع نطاقها، كقيادة أمة أو قيادة دولة أو قيادة دعوة. وسواء كان العمل يدويًّا أو عقليًّا أو فنيًّا1. وسواء كانت الخبرة محصورة في نطاق المهنة التي يمتهنها الإنسان ليكسب رزقه، أو كانت خبرة علمية أو سياسية أو اقتصادية أو حربية أو تربوية أو قيادية لا تنحصر في شخص صاحبها, إنما تتعداه إلى الأمة التي ينتسب إليها. أو إلى كل البشرية. وسواء كان نطاق النظرة الواقعية محصورًا في المجال الذاتي الضيق، أو شاملًا لأمور المجتمع وأمور الحياة. فأوان هذه السمات كلها هو مرحلة النضج، وهي التي تنشئ الواقع العملي الذي تعيشه البشرية. والإسلام دين الفطرة ومنهجه التربوي يهدف إلى أخذ خير ما في الفطرة, وتقويم أعوجاجاتها حين تنحرف عن الطريق. فأما من حيث الرغبة في حمل المسئولية، فإننا نرى في جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم نماذج فريدة نادرة في التاريخ البشري كله. فشباب صغير، مما نراه في أيامنا هذه يلهو ويعبث وينفق وقته وجهده في اللهو والعبث والفساد،   1 أي: يشترك فيه العمل اليدوي والعقلي كالهندسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يعهد إليه بمهام خطيرة يعجب الإنسان لها ولا ينقضي عجبه منها! فكم كان عمر أسامة بن زيد حين عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيادة جيش من جيوش المسلمين؟! كان في الثامنة عشرة من عمره. وهي سن يقضيها بعض الناس في مراهقة مريضة أو عبث صبياني مرذول! ويقضيها في أحسن الأحوال في تطلع إلى اليوم الذي يحمل فيه المسئولية, ويقوم بعمل نافع في الحياة! وكان محمد بن القاسم في التاسعة عشرة حين وصل بفتوحاته في عهد الوليد بن عبد الملك إلى حدود الصين. وكان عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش دون الخامسة والعشرين حين أقام دولته في الأندلس. وغيرهم وغيرهم. ألا أن الإيمان الحق ليسرع بالإنسان إلى اكتمال النضج، ويشحذ العزيمة كما يشحذ المواهب، ويرفع من لديه الاستعداد إلى مستوى العبقرية! و"المسئولية" الضخمة التي يضع الإسلام الإنسان فيها -أيًّا كان تخصصه الفردي، وأيًّا كانت مواهبه واستعداداته- هي إقامة منهج الله في الأرض. هي المجاهدة لكي تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله. وهي مسئولية لا تنحصر في جانب واحد. لا تنحصر في "القتال" كما قد يبدو الأمر لأول وهلة. إنما القتال هو جانب واحد من جوانبها المتعددة. ولو كان الأمر أمر قتال فحسب، فقد كان يكفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يربي جيشًا من المقاتلين الشجعان ولا زيادة! وما أصغره من هدف لو انحصر فيه الأمر كله، هدف تحسنه كل الجاهليات الكبرى في التاريخ! عرفته من قبل الجاهلية الفرعونية والجاهلية الإغريقية والرومانية والفارسية وغيرها.. وعرفته في الحديث جاهليات أوربا وأمريكا، وتسابقت فيه وتفننت، سواء جيش هتلر من قبل، أو جيش روسيا وجيوش الحلفاء اليوم! إنما القتال أمر عارض يعرض في الطريق، لا هو أول الطريق ولا آخر الطريق! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 إنما أول الطريق هو بناء النفس الإنسانية على المنهج الحق. بناء "الإنسان الصالح" كما قلنا في هذا الفصل. بناء الإنسان الذي يعرف هذه الحقيقة الكبرى: "أنه لا إله إلا الله، ويؤمن بذلك الإيمان الحق، الذي يتعمق نفسه حتى آخر أعماقها، فيعيد إنشاءها، كما يمر المغنطيس على قطعة الحديد فيعيد ترتيب ذراتها، فإذا هي شيء آخر غير الذي كان من قبل. شيء تنبعث منه المغنطيسية وتنتج منه الكهرباء. فتصبح له "طاقة" جديدة لم تكن له من قبل. الإنسان الذي يرى الرؤية الصافية لهذا الوجود.. من خلقه؟ من أبدعه؟ من يدبر أمره؟ أي آيات معجزة فيه؟ ما دلالة هذه الآيات؟ ويرى الرؤية الصافية للوجود الإنساني: من أين؟ وإلى أين؟ من أين يبدأ وإلى أين المصير؟ وما الإنسان؟ أحيوان هو أم ملك أم شيطان أم "إنسان"؟! وما دوره في الأرض: يتجبر في الأرض؟ يتلذذ بمتاع الأرض؟ يقيم الحق والعدل في الأرض؟ يعبد الله؟ أم يعبد نفسه -أي: شهواته-؟ أم يعبد "الطبيعة"؟ أم يعبد الدولة؟ أم يعبد الدرهم والدينار -أو الدولار؟ وما مكانه من "القوى" الأخرى في الوجود: القوى المادية، والقوى الاقتصادية، والقوى التاريخية. أعبد لها هو أم سيد؟ وما دوره معها؟ يصوغها أم تصوغه؟ ويتفاعل معها تفاعل المسيطر أم تفاعل المغلوب على أمره الذي لا حيلة له. مئات من الأشياء تحتاج إلى رؤية صافية، لأنها هي هي التي تشكل منهج الحياة في الأرض، فضلًا عن مستقبل الإنسان في الآخرة. وأول الطريق في المنهج الرباني هو بناء النفس الإنسانية التي تملك الرؤية الصافية.. تملكها في العقيدة.. تملكها في لا إله إلا الله. إن هذه العقيدة الإسلامية الواضحة الصافية. "لا إله إلا الله" لهي التي تمنح هذه الرؤية الصافية التي يحتاج إليها الإنسان، حين تقول له: إن الله هو الذي خلق هذا الوجود وأبدعه، وهو الذي يدبر أمره، وهو الذي أودع فيه هذه الآيات المعجزة لتدل الإنسان على إلهه، وتعرفه بقدرته المعجزة التي لا يعجزها شيء في السموات ولا في الأرض، وتدله على أن السموات والأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 ما خلقت باطلًا، إنما خلقت بالحق. ومقتضى ذلك الحق هو البعث والنشور والحساب والجزاء: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 2. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 3. وهذه العقيدة هي التي تجيبه عن تساؤلات الفطرة: من أين وإلى أين، فتقول له إن الله هو الذي خلق الإنسان، فهذه بدايته، وأنه راجع إليه, فهذا منتهاه: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4. وهي التي تعرفه بحقيقة نفسه وحقيقة دوره على الأرض: إنه "إنسان" منذ مولده. لم يكن حيوانًا، وليس ملكًا، وليس شيطانًا، وليس إلهًا كذلك. إنما هو إنسان. خلق منذ أول لحظة خلقًا مغايرًا للحيوان، ولمهمة مختلفة عن مهمة الحيوان، هي الخلافة في الأرض، وتعمير الأرض بمقتضى منهج الله. ودوره في الأرض أن يعبد الله -بالمعنى الشامل للعبادة الذي بيناه من قبل- وليقيم الحق والعدل في الأرض، فتقوم حياته بالقسط، وليجاهد في سبيل ذلك كله بما يقتضيه منه الجهاد. وموقفه من "القوى" أنه هو القوة المسيطرة في الأرض، بمقتضى الخلافة التي خلقه الله من أجلها، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه ليقوم بها على وجهها الأكمل! وحين تعرف النفس الإنسانية ذلك كله تكون قد تهيأت للبناء السليم, ويكون هذا أول هدف تقوم به هذه العقيدة الضخمة في حياة النفوس.   1 سورة آل عمران 190-191. 2 سورة ص 27-28. 3 سورة المؤمنون 115. 4 سورة البقرة 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 ثم تكون الخطوة التالية هي إقامة البناء ذاته. هي بناء النفس بمقتضى هذا "العلم" الذي تعلمته من العقيدة. فإن لهذه العقيدة مقتضى. ولا تكون موجودة على الحقيقة إلا حين يتحقق مقتضاها في واقع الأرض. والبناء على مقتضى العلم يكون بتربية النفوس على طاعة الله. فإن النفوس التي تعلم -إلى درجة اليقين- أن الله واحد لا شريك له في الخلق ولا في الرزق ولا في الضر ولا في النفع ولا في التدبير. وتعلم -إلى درجة اليقين- أن مهمة الإنسان في الأرض محصورة في عبادة الله، ثم يتسع علمها فتعلم أن عبادة الله ليست هي ساعة "التعبد" التي لا تستغرق وقت الإنسان ولا جهده، ولا تكاد تشغل من حياته إلا سويعات من كل يوم، إنما هي الحياة كلها حتى الموت، بل الموت ذاته كذلك "بأن يكون على طاعة الله وفي سبيل الله": {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} 1 وأن العبادة الحقة هي القيام بكل التكاليف الربانية كما أمر بها الله، سواء كانت هي عمارة الأرض، أو السعي للرزق، أو إنشاء أسرة وتحمل تبعاتها، أو إقامة الحق والعدل في الأرض: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 2 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} 3 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 4 أو الجهاد في سبيل الله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} 5 أو كان غير ذلك من التكاليف الكثيرة المنبثة في كتاب الله وسنة رسوله. والنفوس التي تعلم إلى درجة اليقين أنها راجعة إلى الله فمحاسبها الله على   1 سورة الأنعام 162-163. 2 سورة النساء 58. 3 سورة النساء 135. 4 سورة المائدة 8. 5 سورة النساء 74-75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 الكبيرة والصغيرة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 1. تلك النفوس لا بد أن تخاف الله وتميل إلى طاعته. ولا نقول إنها ستكون نفوسًا ملائكية لا تخطئ أبدًا! كلا! إن الناس كلهم خطاءون كما قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خير الخطائين التوابون: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} 2. وهذه الخشية، أو الوجدان الديني الذي يؤدي إلى تقوى الله والسعي إلى مرضاة الله، هو الخطوة الثانية في منهج التربية الإسلامية، وهو الثمرة الثانية من ثمار هذه العقيدة الضخمة وآثارها في حياة النفوس. ثم الخطوة الأخيرة هي ترجمة هذا العلم, وهذا الوجدان إلى واقع عملي.. أي: تربية سلوك واقعي يتناسب مع هذا العلم, وما أنتجه في النفس من وجدان، بشتى الوسائل التي تحدثنا عنها من قبل، من تربية بالقدوة إلى تربية بالموعظة، إلى تربية بالمثوبة والعقوبة، إلى تربية بالعبادة، إلى تربية بالقصة، إلى تربية بالأحداث، إلى تربية باستنفاد الطاقة في الخير وشغل أوقات الفراغ في الخير. وهذا هو الذي قام به المربي الأعظم عليه صلوات الله وسلامه، فأنشأ به خير أمة أخرجت للناس، وخير جند قاتلوا في سبيل الحق والعدل، لأنهم قاتلوا في سبيل الله. كلا! لم يكن هم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يربي جيشًا من المقاتلين الشجعان ولا زيادة! إذن ما كان أيسر المهمة وأقل الجهد! إنما كان همه بناء تلك النفوس التي صنعت تلك العجائب في الأرض. ولم يكن أعجب ما صنعته تلك النفوس هو قتالها الرائع في سبيل العقيدة، وانتصارها الرائع على   1 سورة الزلزلة 7-8. 2 سورة آل عمران 135-136. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 أضعاف أضعافها في العدد والعدة -وإن كان هذا كله عجيبة من عجائب التاريخ- إنما كان أعجب منه -وأندر في تاريخ البشرية كله- ذلك العدل الذي حكموا به أنفسهم وحكموا به البلاد المفتوحة "وحادثة القبطي مع ابن عمرو بن العاص شاهد يكفي" وذلك الاستعلاء بالإيمان -وحده دون كل متاع الأرض- "وحادثة ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس شاهد يكفي" وذلك الإيثار الذي شهد به الله سبحانه وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 1 {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} 2 وتلك الطاعة الخالصة لله "وحادثة إعلان تحريم الخمر في المدينة شاهد يكفي" وذلك الخضوع للحق من أجل أنه الحق "وحادثة عمر مع سلمان حين قال له سلمان: لا سمع لك علينا اليوم ولا طاعة حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به؟ وحادثته مع المرأة التي قال لها: أخطأ عمر وأصابت امرأة، شاهد يكفي" وذلك التكافل الذي شهده المجتمع الإسلامي قرونًا عدة "رغم ما حدث من انحراف الحكم عن حقيقة الإسلام" وذلك الوفاء بالمواثيق الذي ظل المسلمون يحافظون عليه قرونًا عدة "رغم خيانات أعدائهم ونكثهم بالعهود والمواثيق, كما حدث مع صلاح الدين أيام الحروب الصليبية وغيره وغيره" وتلك الحضارة "الإنسانية" الرفيعة التي تتقدم التقدم المادي المتاح كله ثم لا تهمل عالم الروح ولا تفصل الدنيا عن الآخرة ولا ينسيها "التحضر" عبادة الله ولا نقول يصرفها عن الله، وتلك الأخلاق -وأخلاقيات الجنس خاصة- التي ظلت سائدة في المجتمع الإسلامي عدة قرون حتى بعد أن فسد الحكم وبعد عن الأخلاق. ذلك هو المنهج الرباني، وتلك حصيلته الواقعية لا في جيل الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما على مدى أجيال. ومرحلة النضج هي أولى المراحل أن يتمثل فيها هذا كله، إذا اعتبرنا   1 سورة الحشر 9. 2 سورة الإنسان 8-9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 المراحل السابقة كلها مراحل إعداد، واعتبرنا مرحلة النضج هي المرحلة التي تعطي "الثمرة" بعد طول الرعاية والإعداد. والقرآن إن كان يخاطب النفس البشرية بصفة عامة والمؤمنين بصفة خاصة، فإنه يخاطب مرحلة النضج بصفة أخص. ونحن -بالمنهج الإسلامي المتضمن في الكتاب والسنة- نربي "الإنسان" في جميع أطواره، طفلًا ومراهقًا وشابًّا صغيرًا وإنسانًا ناضجًا. ولكن الإنسان الناضج أقدر على التلقي المباشر من المنهج الإسلامي، يقرأ القرآن فيجد كأن القرآن يخاطبه خطابًا مباشرًا، ويقرأ توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم فيحس كأنما هي موجهة إليه بالذات. ثم يحس أنه يملك الآن من الوعي ومن الاستعداد ما يتعامل به تعاملًا مباشرًا مع الكتاب والسنة. وليس معنى هذا أن المربين قد انتهت الآن مهمتهم، ولم يعد لهم دور يؤدونه في مرحلة النضج. كلا! فقد كان المربي الأعظم صلوات الله عليه وسلامه يوجه الصغار والكبار، ويربي الصغار والكبار، لأن الناس جميعًا في حاجة إلى التربية والتوجيه في كل مرحلة من مراحل نموهم، إلى أن ينتهي دورهم في الحياة الدنيا. إنما معناه فقط أن الناس في مرحلة النضج في حاجة إلى نوع آخر من التوجيه غير الذي كانوا يتلقونه من قبل، هو التوجيه "العام" الذي يخاطب البشرية كلها أو يخاطب جماعة المؤمنين بصفة خاصة، وأن "المربي" الذي يحتاجون إليه الآن هو مرب من نوع آخر غير المربي "الخاص" الذي كان يتعهدهم منذ طفولتهم في البيت أو المدرسة، هو مرب له صفة "القيادة" سواء القيادة الفكرية أو الروحية أو السياسية أو الاجتماعية أو غيرها من أنواع القيادات. وفي المجتمع المسلم الذي يتحاكم إلى شريعة الله ويحكمه منهج الله، توجد هذه القيادة دائمًا في صورة من الصور. توجد بادئ ذي بدء في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. والسيرة النبوية الشريفة هي عنصر دائم من عناصر التربية الإسلامية لا يستغني عنه جيل من الأجيال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 وفي المراهقة والشباب الباكر ينصرف معظم "العمل" إلى التحصيل الدراسي والألعاب الرياضية، الفردية منها والجماعية. ويمكن استغلال كليهما في التربية كما أشرنا من قبل. أما في مرحلة النضج فإن العمل يتخذ طابع المسئولية، وهو الطابع العام لكل شيء في هذه المرحلة، كما يتجه إلى الناحية العملية من جهة أخرى. اليوم يعمل الشاب عملًا يحس أنه مسئول عنه لأنه هو وسيلته إلى الرزق. كما يحس أن التبعة الملقاة على عاتقه فيه أوسع من نطاق شخصه، لأنها تبعة اجتماعية. وقد تكون أخطر من ذلك تبعة "إنسانية" لذلك يحس دائمًا بالمسئولية وهو مقدم على العمل، سواء عمل حرًّا في التجارة أو الزراعة أو الصناعة، أو عمل موظفًا في وظائف الدولة أو في مؤسسة من المؤسسات. ثم إن العمل بطبيعته يحتاج إلى الخبرة العملية، لأنه إنتاج متداول بين أيدي الناس، وليس إنتاجًا ذاتيًّا محصورًا في محيط صاحبه وحده. والناس دائمًا تبحث عن الأجود في كل أمر من الأمور. وسواء كان العمل يدويًّا أو فنيًّا أو عقليًّا بحتًا فإن الخبرة مطلوبة فيه. فالناس تبحث عن العامل الماهر، كما تبحث عن المهندس الماهر والطبيب الماهر، كما تبحث عن السياسي الماهر والمفكر المقتدر. والإسلام يحث على العمل والإتقان فيه، ويكره الترف والكسل والفراغ. "من أمسى كالًّا من عمل يده أمسى مغفورًا له" 1. ويقبل الرسول صلى الله عليه وسلم يدًا, ورمت من كثرة العمل ويقول: "هذه يد يحبها الله ورسوله". ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب المؤمن المحترف" 2. ويقول: "لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" 3.   1 أخرجه الطبراني. 2 الطبراني والبيهقي. 3 أخرجه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 وأما الإتقان -الذي هو قرين الخبرة وثمرتها- فيقول عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" 1. وأما إنفاق الجهد في الجاد النافع من الأمور فيقول عنه: "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" 2. فيضع بتلك التوجيهات وأمثالها دستورًا شاملًا للعمل، هو جزء من منهج التربية الإسلامية في مرحلة النضوج خاصة، وقد ظلت الأمة الإسلامية تحافظ على هذه التوجيهات بقدر محافظتها على الروح الإسلامية الحقيقية، فكانت من أعظم الأمم إنتاجًا, ومن أعظمها ثرورة, ومن أعظمها خبرة وإتقانًا. فلما انحرفت انحرف مفهوم العمل عندها كما انحرف غيره من المفاهيم. فقعد الناس عن العمل وانصرفوا عن الحياة الدنيا، وكان هذا رد فعل للترف الذي تفشى في المجتمع الإسلام في المشرق والمغرب، مما أدى في النهاية إلى ضعف الإنتاج بصفة عامة، وضعف الأمة الإسلامية وتخلفها، في الوقت الذي أخذت قوة أعدائها المادية تتزايد على الدوام. وكلا الأمرين: الترف من ناحية، والانصراف عن العمل في الحياة الدنيا من ناحية أخرى، مخالف لروح الإسلام، وانحراف عن التربية الإسلامية الصحيحة. إنما يربي الإسلام أبناءه على العمل الجاد الهادف، الذي يعين على عمارة الأرض بمقتضى منهج االله. وحقيقة إن الإسلام يستحث على التخفف من متاع الأرض، لكي لا يثقل المتاع بالنفس فتركن إلى الدنيا وتنسى الآخرة، أو تنصرف عن الجهاد في سبيل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} 3. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً   1 رواه أبو يعلى والعسكري. 2 رواه الطبراني. 3 سورة التوبة 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} 1. ولكن هذا شيء، والتواكل المعيب والانصراف عن العمل في الحياة الدنيا شيء آخر. فالإسلام لا يعرف التواكل، وهو يكره العجز والكسل2, والقعود عن العمل، ولا يدعو إلى الفقر، ولا إلى الركون إليه والرضا به مع القدرة على تغييره. إنما يدعو إلى النشاط في طلب الرزق، والتوسع فيه، مع التخفيف من المتاع في ذات الوقت، وإنفاق المال في سبيل الله، سواء في إعانة المحتاجين في التجهيز لأعداء الله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} 3. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 4. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 5. وبذلك تظل الدولة الإسلامية قوية وغنية في مقابل أعدائها، ويظل أفراد الأمة بعيدين عن الترف المهلك، أقوياء النفوس بالتخفيف من المتاع. ويتحقق بذلك التوازن الذي تفتقده الجاهليات دائمًا إذ تجنح إلى الإغراق في الترف المادي، أو الزهد في المتاع والزهد في الإنتاج المادي بحجة الارتفاع بالروح، فتنحرف هنا وتنحرف هناك. وما أحوج البشرية كلها اليوم إلى المنهج الإسلامي المتوازن، تحافظ به على قدرتها التكنولوجية في الإنتاج المادي، دون أن تغرق في الترف المهلك والانحلال الخلقي الفتاك.   1 سورة النساء 77. 2 من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "وأعوذ بك من العجز والكسل". 3 سورة البقرة 177. 4 سورة الأنفال 60. 5 سورة البقرة 195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 وحين نتحدث عن "العمل" يعرض لنا في جاهليتنا المعاصرة موضوع عمل المرأة في خارج البيت. ففي المجتمعات الجاهلية التي تملأ وجه الأرض اليوم يعمل الرجال ويعمل النساء على السواء. ولا يكون الدافع إلى عمل المرأة في كل حالة هو الحاجة الاقتصادية سواء لنفسها أو للمجتمع الذي تعيش فيه "وإن قيل هذا في ظاهر الأمر للتبرير" إنما تعمل المرأة فقط لأن الرجل يعمل، ولأن المرأة ينبغي أن تعمل مثله، لكي تصبح مثله في كل شيء! ذلك أن الجاهلية تنشئ المرأة كالرجل، فتعلمها على مناهج الرجل، وتضع في رأسها أنها ينبغي أن تكون كالرجل في كل شيء، ثم تمضي في الطريق خطوة أبعد، فتدرب النساء على العمل كالرجال سواء. وعلى الرغم من أن معظم العمل المتاح للنساء في أمريكا هو عمل "السكرتيرات" سواء كانت "سكرتيرة" خاصة أو عامة. وأن معظم العمل المتاح للنساء في روسيا هو العمل اليدوي في المصانع, بالإضافة إلى تنظيف للشوارع, وحمل حقائب المسافرين في المطارات, ومحطات السكك الحديدية. فإن مجال العمل مفتوح -نظريًّا- للرجال والنساء على السواء، كما أن "العمل" في حد ذاته هو الأمر الطبيعي للنساء كما هو للرجال على السواء! وتحرص الجاهلية المعاصرة -في جميع الأحوال- على ألا تنشئ المرأة لتكون أنثى! لتكون زوجة وأمًّا وربة بيت، وليكون "البيت" في حسها هو "العمل" المطلوب منها، والذي تكون في وضعها الطبيعي حين تؤديه! إنما تضع في حسها احتقار هذا كله، والنظر إليه على أنه حطة من شأنها، وأنه -حتى إن شغلها في يوم من الأيام- فإنما يشغل جانبًا هامشيًّا من حياتها، ليس هو الجانب الأكبر ولا الأخطر ولا الأهم! إنما تتجه المرأة -"المثقفة"- أول ما تتجه حين تفرغ من دراستها -الرجالية- إلى "العمل" والعمل في مجالات الرجال بالذات لتحقق كيانها! أما أن تكون زوجة وأمًّا- إن حدث هذا في أي يوم من الأيام- فليس هذا هو الذي يحقق كيانها، ولا الذي يعطيها قيمتها في المجتمع! إنما هو عمل لا بأس من أدائه -أحيانًا! - على ذات الصورة الرجالية التي يمكن للرجل أن يقوم بها! فالرجل يعمل -أساسًا- في المصنع أو المتجر أو المكتب أو الديوان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 ثم يمكن أن يكون زوجًا وأبًا بالإضافة إلى عمله الأصلي في المصنع والمتجر والمكتب والديوان. هذا إن عن له أن يتزوج! وإلا فإنه يستطيع أن يقضي حاجة الجنس في الطريق أو في الغابة أو في صداقات الليل أو صداقات النهار! وهي كذلك. تعمل بصفة أساسية، ثم تكون زوجة وأمًّا -إن رغبت أو واتتها الفرصة- بالإضافة إلى عملها الأصلي، وإلا فهي في العمل أساسًا ثم تقضي حاجة الجنس كما يقضيها الرجل، في الطريق أو في الغابة أو في صداقات الليل أو صداقات النهار! ما أبأسها جاهلية! وما أبأس المرأة فيها بصفة خاصة برغم كل ما يقال لها ويقال عنها من تحرر، وكسب مكانة، ونيل حقوق! من يقول إن الزوجية من جانب المرأة كالزوجية من جانب الرجل؟ ومن يقول إن دور المرأة في "الأمومة" كدور الرجل في "الأبوة" سواء بسواء؟ من غير هذه الجاهلية التي تقودها الشياطين؟ وأيًّا كانت قدرة الشياطين على لي الفطرة عن سوائها فترة من الوقت تطول أو تقصر، فإن الفطرة -كما أشرنا آنفًا- أعمق وأصدق وأعصى من كل محاولات الجاهلية، ثم إنها قد بدأت تعلن بالفعل عن ثورتها، وعن رغبتها في العودة إلى استوائها المفقود. والإسلام على أي حال لا يصيخ سمعه لانحرافات الجاهلية، وهو الذي جاء ليصحح -على الدوام- انحرافات الجاهلية: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} 1، 2. والإسلام لا يحرم العمل على المرأة ما دامت تلتزم في زيها وسلوكها وأخلاقها بالتزامات الإسلام. وإلا فإن عملها حرام، لا لحرمة العمل في ذاته، ولكن لأنه يؤدي إلى ما حرمه الله من التبرج والفتنة وإفساد أخلاق المرأة والرجل سواء.   1 أي: بما يذكرهم بما ينبغي أن يتذكروه، ويزيل عنهم غفلتهم. 2 سورة المؤمنون 70-71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 ولكن الإسلام -مع إباحة الأصل- يكره للمرأة أن تعمل بغير ضرورة ملجئة ملحة. وفي المجتمع الإسلامي الحقيقي، الذي يطبق المنهج الرباني ويعيش في ظل الشريعة الإسلامية، لا تنشأ تلك الحاجة الملجئة الملحة إلا في أحوال نادرة لا تصبح قط أصلًا من أصول المجتمع الإسلامي. فالمرأة في جميع أحوالها مكفولة الرعاية في الإسلام، من أجل أن تتفرغ لوظيفتها العظمى في تنشئة الأجيال. ففي طفولتها يرعاها والدها أو من يكلف شرعًا بالإنفاق عليها في حالة عدم وجوده. ثم هي -زوجة- يكفلها زوجها، وأبناؤه من بعده إن عجز هو عن الكسب. وبيت المال مكلف بالإنفاق على من تقعده به وسائله عن العيش الكريم رجلًا كان أو امرأة، بالإضافة إلى التكافل الذي يتميز به المجتمع الإسلامي سواء على نطاق الأسرة أو على النطاق الأوسع، والذي ترعى به حاجة المحتاجين ويرفع عنهم العنت. وهكذا تجد المرأة في جميع الأحوال من يكفلها، فلا تحتاج إلى العمل إلا في النادر القليل. ثم إن في المجتمع الإسلامي من جانب آخر مجالات معينة لا يحسن أن تعمل فيها إلا المرأة، كتعليم البنات وتطبيب النساء وتمريضهن وما أشبه ذلك من الأعمال. فهذه تعمل فيها المرأة المسلمة الملتزمة بلا حرج. ولكن يظل البيت دائمًا هو الهدف الأول والموئل الأول، وتظل الأعمال الأخرى بديلًا ثانويًّا أو إضافة ثانوية، تقوم بها من كان لديها الرغبة من جهة والقدرة من جهة أخرى. والإسلام يساوق الفطرة التي تتجه في مرحلة النضج إلى العمل وتحمل المسئولية. ولكنه يوزع الأعمال حسب التكوين الفطري لكل من الرجل والمرأة، وحسب التكاليف المطلوبة من الرجل والمرأة، لحساب الأسرة وحساب المجتمع وحساب الأجيال، ولا يعتبر "العمل" هو فقط ذلك الذي يؤدى خارج البيت، والذي يتناول الإنسان عنه أجرًا معينًا في نهاية الشهر أو نهاية الأسبوع. إنما يتعامل مع حقائق الأشياء. "فالعمل" في حقيقته هو ذلك الذي يبذل فيه الجهد -الجثماني أو العقلي أو كلاهما معًا- ليؤدي خدمة معينة للبشرية، أيًّا كان المكان الذي يتم فيه، وأيًّا كانت صورة الأجر الذي يعطى عليه. ولا يقر الإسلام تلك اللوثة الجاهلية التي تخرج المرأة من عملها الفطري لتعمل عملًا آخر، تفقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 فيه أنوثتها وأخلاقها وفطرتها، ثم تفقد البشرية كلها من وراء ذلك "المربية" التي تربي الأجيال، وتتولى التربية بدلًا منها أجهزة ومؤسسات لا تغني غناء الأم، ولا تعطي الصحة النفسية المطلوبة لبني الإنسان1. ونعود إلى السمات المميزة لفترة النضج، فنجد النظرة الواقعية إلى الأمور، بعد النظرة الحالمة أيام المراهقة والخيال المجنح في فترة الشباب الباكر. ولقد قلنا في فترة الشباب الباكر إن الشباب في تلك الفترة يبدأ يفكر في "الحلول العملية" لمشكلات الكون كله! ولكن هذه " الحلول العملية" قد لا تكون عملية على الإطلاق! بل قد تكون أحيانًا مستحيلة التنفيذ! إنما قصدنا هناك أن نفرق بين طريقة المراهقة وطريقة الشباب الباكر في التفكير. فحيث "يحلم" المراهق مجرد حلم، فإن الشاب الصغير "يفكر" ويحاول أن يكون واقعيًّا في تفكيره. ولكن نقص الخبرة والعجز عن الإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه، تجعل تفكيره في "الحلول العملية" سطحيًّا في النهاية أو غير عملي على الإطلاق! أما هنا في مرحلة النضج فقد أخذت الأدوات تكتمل، فأصبح للواقعية رصيد حقيقي ترتكز عليه. والواقعية أمر ضروري لازم لحياة البشرية لا تستطيع أن تنهض بدونه. فالحياة معاناة واقعية، ومحاولة دائمة لمواجهة واقع معين لا معدى عن مواجهته بما فيه من مشكلات أو مشاق. ويحتاج الأمر دائما إلى الروح الواقعية في هذه المواجهة، وإلا تراكمت المشكلات والمشاق بدلًا من أن تحل، وأصبحت الحياة غير محتملة أو غير معقولة أو غير ممكنة على الإطلاق! وفي فترة الطفولة والمراهقة يقوم الأبوان بالدور "الواقعي" كله. فهما اللذان يواجهان الواقع, ويعدان الحلول لما يواجه الأسرة وما يواجه الطفل أو المراهق من أمور "إن كان الأفضل إشراكه في بعض الأمر لتدريبه وتنمية شخصيته من أجل المستقبل". أما في فترة الشباب الباكر فالشاب يشارك في بعض الأمر بالفعل، ولكن   1 انظر حديث "أنّا فرويد" عن المحاضن في كتاب "أطفال بلا أسر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 الخبرة والنظرة الواقعية لا تكون قد اكتملت عنده "إلا أن يكون ناضجًا نضوجًا مبكرًا لتفوق في شخصه أو لظروف عامة تعجل بالنضج كظروف الدعوة الإسلامية الأولى". وأما في مرحلة النضج فقد أصبح الأمر لزمًا، لأن الشاب يتحمل مسئولية نفسه، وغالبًا ما يكون معه أسرة كذلك يتحمل مسئوليتها، بالإضافة إلى مسئوليته الاجتماعية العامة "أو الإنسانية إن كان من ذوي الأفق الواسع أو المواهب الفائقة". وفي موعدها المناسب -في الفطرة الربانية- تجيء النظرة الواقعية لتؤدي دورها في حياة الإنسان. وللإسلام في تربية هذه الواقعية منهج محكم وشامل، لكي تؤدي مهمتها كاملة دون أن تتعرض للانحراف1. فاللإسلام أولًا منهجه للنظر العقلي: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 2. {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 3. فالتفكر، وإعمال العقل، وعدم اقتفاء ما لا دليل عليه، والشعور بالمسئولية عن كل كلمة ينطق بها الإنسان, وكل فكر يرد في ذهنه أن يمحصه ويقيمه على أسس سليمة، كل ذلك يجعل التفكير أدنى إلى السلامة وأبعد عن الشطط. ثم هناك التجرد الواجب في هذا الشأن: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} . {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} 4. {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} 5.   1 سنتحدث بعد عن بعض انحرافات الواقعية وخاصة في الجاهلية المعاصرة. 2 سورة الإسراء 36. 3 سورة سبأ 46. 4 سورة النازعات 40. 5 سورة النساء 135. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 1. ومقتضى ذلك هو النظر إلى الحقيقة في ذاتها، بحسب ما تهدي إليه الأدلة، دون تأثر بالهوى الذي يضل دائمًا عن الحق. كذلك لا ينبغي التقليد بغير بينة، واعتماد أقوال مسبقة للآخرين ليس عليها برهان: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 2. ولا اتباع الظن: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 3. هذا من جهة. ومن جهة أخرى يدعو الإسلام إلى النظر في الغاية المقصودة من كل أمر، لكي يكون التفكير مثمرًا. ولا يكون سفسطة فارغة، ولا تأملًا مبددًا في الهواء: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4. فليس هناك في الإسلام تلك الدعاوي الجاهلية التي تقول: العلم للعلم. أو الفن للفن. إلخ. إنما كل شيء ينبغي أن تكون له غاية واضحة منذ البدء. والغاية الكبرى التي تحكم جميع الغايات هي إحسان العبادة لله، على المعنى الشامل للعبادة الذي يشمل التكاليف كلها من شعائر التعبد إلى عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، إلى إقامة "الدين" خالصًا لله في الأرض: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5. قال: وما الإحسان؟ قال: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" 6. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 7. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 8.   1 سورة الفرقان 43. 2 سورة البقرة 170. 3 سورة النجم 36. 4 سورة البقرة 189. 5 سورة الذاريات 56. 6 من حديث "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم". 7 سورة هود 61. 8 سورة الأنفال 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 وليس هذا القيد -وهو الالتزام بالغاية- معوقًا للبحث العلمي كما قد يبدو لأول وهلة. بل العكس هو الصحيح. ففي ظل هذا القيد أو بالأحرى تلك "القيمة" العليا من قيم الحياة البشرية قامت -وأوربا في عصورها الوسطى المظلمة- أكبر حركة علمية في الأرض، هي التي أهدت للبشرية المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي تقوم عليه كل النهضة العلمية المعاصرة في الغرب. بل كان هذا القيد، أو بالأحرى تلك "القيمة" العليا بالذات، هي التي حولت العلم من تياره النظري الذي كان موروثًا عن اليونان إلى تياره العملي والتجريبي الذي صار إليه فيما بعد، وحدث على أثره كل ما حدث من التقدم في مجال العلم، وانتهت السفسطات الفلسفية التي كانت في نظر المسلمين من الجدل المنهي عنه، واتجه العلم إلى غاياته العملية التي صار إليها اليوم. حقيقة إن هدف العلم في الإسلام هو -كما قلنا- إحسان العبادة لله -أي: خدمة الله- وهدفه في الجاهلية المعاصرة هو خدمة الإنسان "نظريًّا على الأقل، وإلا فإن قسطًا غير قليل من هذا العلم موجه إلى تدمير الإنسان"! ولكن حماقة الجاهلية المعاصرة هي التي تجعل من خدمة الله وخدمة الإنسان هدفين متعارضين أو في القليل متغايرين! ومزية المنهج الإسلامي الشامل أنه يزيل هذا التعارض الوهمي "إذ لا تعارض في حقيقة الأمر حين يستقيم الإنسان على وضعه السوي" ويجعل خدمة الإنسان -في حدودها السوية- جزءًا من خدمة الله. لأن خدمة الله هي تنفيذ أوامره على وجهها الأكمل، ومن أوامر الله عمارة الأرض وتحقيق المطالب اللازمة للإنسان السوي. إنما يحدث التعارض بين خدمة الله وخدمة الإنسان حين يصر الإنسان على اتباع شهواته واتباع هواه بدلًا من منهج الله. عندئذ يحدث التعارض بالفعل لأن خدمة الله تصبح قيدًا يقيد تلك الشهوات. ولكن تجربة التاريخ تقول إن الإنسان حين يرفض هذا القيد الرباني على شهواته قد "يستمتع" لفترة من الوقت متاعًا زائدًا عن الحد، ولكنه يدمر نفسه في النهاية حين تجرفه الشهوات فلا يملك قياده منها، ويتحلل كيانه ويفسد، ويعجز عن الوفاء بمطالب "الإنسان" في أفقه الأعلى. لأنه يعيش على مستوى الحيوان. فلا يخدم نفسه في الحقيقة إنما يسعى إلى تدميرها، ولو جاء الدمار بعد أجيال. فالبشرية كيان ممتد لا يقف عند فرد بعينه ولا عند جيل، ولا ينبغي لفرد -ولا لجيل- أن يعمل على دمار أجيال تأتي بعده لمجرد أن يستمتع هو متاعًا زائدًا عن الحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وذلك فضلًا عن مصير الآخرة، وهو الأخطر والأهم، لأنه هو الأدوم والأخلد، وهو الذي يعول عليه في الحقيقة: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} 2. {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} 3. "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له: يابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟! فيقول: لا يا رب!! " 4. ومنهج الإسلام لا يحرم الإنسان من القسط المعقول من المتاع، ولا يحرم المتاع في ذاته، إنما يحرم الفاحشة، ويحرم على الإنسان أن تستعبده الشهوات فتبعده عن طريق الله وتدمر كيانه في الدنيا والآخرة. ويهديه -بدلًا من ذلك- إلى النهج الأقوم والأفضل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 5 {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 6.   1 سورة العنكبوت 64. 2 سورة محمد 12. 3 سورة الشعراء 205-207. 4 أخرجه مسلم. 5 سورة الأعراف 32-33. 6 سورة آل عمران 14-17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 وبذلك تصبح خدمة الإنسان جزءًا من خدمة الله بلا تعارض ولا افتراق. وكما يوجه الإسلام إلى النظر في الغاية يوجه كذلك إلى الجانب العملي، بمعنى تحويل المفاهيم النظرية إلى واقع مطبق. ولقد أشرنا في الفصل الماضي إلى هذا الدرس التوجيهي في القرآن. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًّا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 1. وقلنا إن هذا التفكر والتدبر والضراعة الحارة قد استجاب لها الله حين أصبحت عملًا يحقق مقتضى التفكير والتدبر والضراعة في صورة سلوك واقعي. ولئن كان هذا توجيهًا "عقيديًّا" بمعنى أنه توجيه إلى تحويل العقيدة من أمر مستكن داخل القلب إلى واقع سلوكي، فإنه في الحقيقة توجه شامل لكل نشاط الإنسان على الأرض، لأن العقيدة في الإسلام تشمل كل شيء في حياة الإنسان: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} 2. ومن ثم فهو توجيه للنظر العقلي كذلك، لتحويل هذا النظر في النهاية إلى صورة سلوكية تطبيقية مشهودة في واقع الأرض. وذلك كله تربية للنظرة الواقعية -في مرحلة النضج خاصة- في ضوء المنهج الإسلامي الشامل المحكم، ولكن بعيدًا عن انحرافات "الواقعية" كما نراها في الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة. فالواقعية في عرف الجاهلية المعاصرة هي الانصراف عن "المثاليات" بدعوى   1 سورة آل عمران 190-195. 2 سورة الأنعام 162-163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 أنها غير واقعية! ومعاملة الإنسان على مستواه الأدنى، قريبًا من غرائزه ودوافعه الدنيا، بدعوى أن هذا هو "الواقع" بالنسبة للإنسان! والواقعية من جهة أخرى هي البحث عن المنفعة من أي سبيل تجيء، وإقصاء "الأخلاق" من كل التعامل الأرضي سواء في عالم السياسة -والدولية بصفة خاصة- أو في العلاقات الاقتصادية أو العلاقات الاجتماعية.. إلخ. والواقعية من جهة ثالثة هي الانكباب على الحياة الدنيا "بدعوى إصلاحها! " والانصراف عن الآخرة بوصفها "غيبيان" لا ينبغي للعقل المتقدم أن يؤمن بها أو يعطل دفعة الحياة من أجلها! والواقعية من جهة رابعة هي حصر الأمور كلها في السبب الظاهر والنتيجة الحتمية، ونفي قدر الله المهيمن على الأمور. والواقعية أخيرًا هي نبذ العواطف "الإنسانية" بدعوى أنها مضيعة للوقت والجهد دون مقابل "مادي". تلك خمسة أنواع -على الأقل- من الانحرافات الواقعة في نظرة الجاهلية المعاصرة إلى "الواقعية"! والإسلام -وهو يربي النظرة الواقعية إلى الأمور في مرحلة النضج- يربيها بريئة من مثل هذه الانحرافات. فالواقعية الإسلامية -ابتداء- لا تأخذ الواقع الإنساني الأدنى على أنه هو "الإنسان" الذي ينبغي التعامل معه في عالم الواقع، ولا تنبذ الواقع الأعلى للإنسان، الذي يمكن أن يصل إليه بالتهذيب الروحي المستمر، الذي عاشته الأمة الإسلامية الأولى على فترة غير قصيرة من الزمن نموذج لما يستطيع الإنسان أن يصل إليه من درجات الصعود، وهو في حدود بشريته ما يزال. قل -إن شئتت- إن واقعية الإسلام هي الواقعية المثالية، التي تضع المثال على أنه قابل للتطبيق، وتحاول أن تصل إلى درجة المثال في غير عنت ولا اقتسار. هي الواقعية التي تأخذ الإنسان من واقعه الذي يعيشه- أيًّا كانت درجة هبوطه- وتحاول أن تصعد به إلى المرتقى السامق الذي يقدر عليه الإنسان وهو "في أحسن تقويم"1.   1 في "ظلال القرآن" حديث مستفيض في مواضع متعددة منه عن طريقة القرآن في رفع النفس البشرية إلى الآفاق العليا بغير قسر. واقرأ -إن شئت- فصل "بين الواقع والمثال" في الكتاب= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 ومزية هذه الواقعية أنها تأخذ الواقع البشري غير مخدوعة فيه، وغير مفترضة أن الإنسان ملك بلا نوازع ولا شهوات تقعد به وتثقله وتشده إلى الأرض. ولكنها في الوقت ذاته لا تترك هذا الواقع على حاله حين يهبط ويتدنى، إنما تعمل دائمًا على رفعه دون كبته ولا قسره على ما ليس في طبيعته، حتى تصل به إلى أقصى ما في طاقته من قدرة على الارتفاع. وهي قدرة غير قليلة في الحقيقة حين يلتفت الإنسان إلى تربيتها وتنميتها، أو "تزكيتها" بالتعبير القرآني الجميل. هذه الواقعية التي تقول للمؤمنين: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 1 فتقر الواقع على صورته الدنيا، ثم تعمل على رفعه فتقول: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2 حتى تصل إلى تلك النماذج العالية من المقاتلين في سبيل الله، اللذين {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} 3 والذين يقول أحدهم وهو يرمي تمرة كان يتبلغ بها: لئن بقيت حتى أنتهى من هذه إن هذا لأمر يطول! والتي تقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} 4 فتصف الواقع على صورته الدنيا، ثم تعمل على رفعه فتقول: {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} 5 حتى تصل إلى تلك النماذج العالية: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 6. والتي تقول: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} 7 فتصف الواقع على صورته الدنيا، ثم تعمل على رفعه فتقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 8 حتى تصل إلى تلك النماذج الشفيفة: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 9. وبذلك تكون واقعية تمامًا، ولكنها تتعامل مع الإنسان في واقعه الأعلى، ولا تقنع -كالجاهلية المعاصرة- بالواقع الأدنى، الذي يظل يتدنى كلما   1، 2 سورة البقرة 216. 3 سورة النساء 74. 4، 5، 6 سورة آل عمران 14-17. 7 سورة النساء 128. 8، 9 سورة الحشر 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 أعطي شرعية الوجود! والنماذج في الجاهلية المعاصرة أكثر من أن تحصى. كلما اعترف "الواقعيون" بالواقع الذي يرونه قائمًا في مجتمعهم، ولم يعملوا على مقاومته ولا محاولة رفعه بحجة "الواقعية"! "جاء" واقع جديد أسوأ منه، وصار بدوره "أمرًا واقعًا" يجد من يدافعون عنه، ويطالبون بالاعتراف به "لكي نكون واقعيين"! وهكذا أقر مجلس العموم البريطاني الشذوذ الجنسي واعتبره أمرًا مشروعًا يدخل في نطاق الحرية الشخصية، وباركته إحدى الكنائس في هولندا، فعقد القسيس عقد زواج "شرعي" في داخل الكنيسة بين شاب وشاب!! وأقر البرلمان الدنمركي تعاطي المخدرات التي يتناولها الفتيان والفتيات حقنًا تحد الجلد في الشوارع والمركبات العامة. وأقرت أوربا وأمريكا المسرحيات العارية التي يمارس فيها الجنس علانية على خشبة المسرح أو على شاشة التليفزيون.. ولا يستطيع الخيال أن يتصور ما يأتي به الغد من صور "الواقعية" المتدنية إلى أدنى من مستوى الحيوان! أما الواقعية التي تبحث عن "المنفعة" بصرف النظر عن "الأخلاق" فلا يقرها الإسلام في أي نوع من أنواع التعامل السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أيًّا كانت المبررات التي تعطى للتبرير. فهو يربي أبناءه مثلًا على الوفاء بالمواثيق سواء كان الوفاء بها صفقة رابحة من وجهة النظر البشرية أم صفقة خاسرة. ولا يجيز لأبنائه -كما تجيز الجاهلية المعاصرة في العلاقات الدولية خاصة- أن ينكلوا عن مواثيقهم حين يرون -بعين المصلحة القريبة- أن النكول عنها أربح لهم من المحافظة عليها: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 1. ويعتبر نقض المواثيق على هذه الصورة من جانب الأمة الإسلامية صدًّا عن سبيل الله:   1 سورة النحل 91-92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 {لا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. ويندد بأهل الكتاب الذين يقعون في هذه الخطيئة الكبرى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. بل حتى عند خوف الخيانة من الأعداء لا يجوز نقض الميثاق غدرًا، وإنما ينبغي إعلانهم بما وصل إلى علم المسلمين من أنباء استعدادهم للخيانة، ونبذ الميثاق إليهم علانية حتى لا يؤخذوا على غرة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 3. وهكذا لا تكون المصلحة القريبة هي الحكمة في المواثيق كما تصنع الجاهلية المعاصرة -في العلاقات الدولية خاصة- فتبرم الميثاق حين ترى لها مصلحة في إبرامه، وتنقضه حين تلوح لها المصلحة في نقضه، وتظل تلك المواثيق حبرًا على ورق، ويعرف الجميع أنها كذلك، حتى هيئة الأمم ومجلس الأمن وما كان قبلهما من عصبة الأمم وما يمكن أن يلحقهما من المؤسسات! ويظل التعامل الدولي قائمًا على شريعة الغاب: القوي هو صاحب الحق، والقوي يأكل الضعيف! وأما في العلاقات الاقتصادية فلا يجيز الإسلام سياسة الحصول على "الربح" من أي طريق ممكن، ولو دخل فيه التدليس والغش والخداع -بوسائل الخداع المختلفة وفي مقدمتها "الإعلان"- ولو دخل فيه إفساد الأخلاق لترويج صناعات مربحة كصناعة السينما وأدوات الزينة وأدوات "الإغراء" ولو دخل فيه قبل ذلك الربا، وهو عماد "الربح" في الجاهلية المعاصرة. إنما يقيم الإسلام اقتصادياته على النظافة "الأخلاقية" فيحرم الربا، ويحرم   1 سورة النحل 94. 2 سورة آل عمران 77. 3 سورة الأنفال 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 الغش والتدليس والخديعة، ويحرم ترويج الفساد بأي صورة من الصور مهما نتج عنه من "الربح". كذلك كل تعامل يقوم بين البشر بعضهم وبعض في ظل الإسلام، ولو كان هؤلاء البشر من الأعداء والمحاربين! يقول عمر لقائد جيشه في فتح فارس: إذا لاعب أحدكم أحد علوج الفرس فظن هذا أنه يعطيه عهد أمان فأنفذه!! ويرد أبو عبيدة الجزية إلى أهل الشام حين بلغه تجهيز هرقل لمحاربته ويقول لهم: إنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، ونحن لكم على الشرط إن نصرنا الله عليهم! ويقول أحد الولاة لعمر بن عبد العزيز: إن الناس يدخلون في دين الإسلام فتضيع علينا الجزية! فيقول له: إنما بعثناك هاديًا لا جابيًا! ويصل التعامل النظيف مع البلاد المفتوحة إلى حد أن يقول يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاجتبيتها، ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس! فاشتريت بها عبيدًا فأعتقتهم! وأما واقعية الانكباب على الحياة الدينا ونبذ الآخرة بدعوى إصلاح الأرض "وإن كان الفساد هو الغالب اليوم على الأرض التي انكب ذووها على إصلاحها! " فالإسلام لا يفرق بين الدنيا والآخرة، ولا بين صلاح الدنيا وصلاح الآخرة! لقد كان ازورار أوربا عن اليوم الآخر ناشئًا من ظروف معينة أحاطت بأوربا في قرونها الوسطى "المظلمة" حين كانت الكنيسة تفسد الدين، ثم تفسد الحياة باسم الدين، ثم تقول للناس تقبلوا ما في الحياة الدنيا من الفساد والظلم، وسيعوضكم الله خيرًا في الآخرة! كما كانت الرهبانية التي تهمل الحياة الدنيا إهمالًا كاملًا هي الصورة المثلى للحياة "المستقيمة" في ظل الكنيسة، من أجل الحصول على رضوان الله ونعيم الآخرة. فلما ضجت أوربا بواقعها السيئ وأرادت إصلاحه لم تصلحه على أساس من الدين، أي: الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن الصورة الوحيدة للدين عندها كانت هي التي تقدمها الكنيسة. وما أبشعها من صورة! ثم كانت أوربا -بسبب الروح الصليبية والحروب الصليبية- عمياء عن الدين الحقيقي الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 يمكن أن يحقق لها الإصلاح المنشود وهو الإسلام. لذلك كفرت بالله واليوم الآخر، وسمت كفرها ذلك "واقعية"! وقالت: نؤمن فقط بما تدركه الحواس! وسمت الإيمان بالله واليوم الآخر غيبيات مريضة ينبغي أن يتحرر منها التفكير العلمي والتفكير الواقعي اللائق بالإنسان المتحضر! ثم انكبت أوربا على "إصلاح" الأرض بعد طول إهمالها في ظل "التفكير الغيبي" المسيحي، فأقامت فيها العمران المادي الذي وصل إلى صورته الباهرة في ظل التقدم العلمي، وراحت تحاول أن تحطم الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي قام عندها في عصورها الوسطى في ظل العقلية "الغيبية" كما صاغتها الكنيسة، والذي تمثل عندهم في صورة الإقطاع، فكانت الديمقراطية الرأسمالية وتبعتها الشيوعية, وبصرف النظر عن كون الرأسمالية والشيوعية إصلاحًا في الأرض أو إفسادًا في الحقيقة يضاف إلى فساد الإقطاع من قبل، وكلها نظم جاهلية متعاقبة، فإن فكرة "الإصلاح" امتزجت في الحس الأوربي بالواقعية التي تنكر الآخرة وتنبذ الغيبيات. هذه الواقعية التي لا تؤمن إلا بما تدركه الحواس، والتي تجعل الإيمان بالله واليوم الآخر مزاجًا شخصيًّا لمن أراد أن يؤمن به، على ألا تكون له صلة على الإطلاق بواقع الحياة. هذه الواقعية لا يتقبلها الإسلام من جهة، ولم يقع في حياة المسلمين ما يدفعهم إليها من جهة أخرى! فالإسلام قائم على الإيمان بالغيب. ولكنه ليس الإيمان الأعمى بغير دليل، فمن صفات "عباد الرحمن": {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} 1. إنما هو الإيمان بالحق الذي تدل عليه الدلائل ولو لم تدركه الحواس، وهو على هذه الصورة الصفة الأولى التي يوصف بها المؤمنون، والتي يمتدحون بها كذلك: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 2.   1 سورة الفرقان 73. 2 سورة البقرة 1-3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 وهو مديح ولا شك، لأن القدرة على الإيمان بالغيب، وعدم الانحصار فيما تدركه الحواس، هو من آيات التكريم لهذا المخلوق البشري الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق، والذي أعده لدور الخلافة في الأرض، ولحمل الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض. والجاهلية المعاصرة -بما ترتكبه من حماقة مفرطة في حق "الإنسان"- تريد أن ترد عنه هذه الكرامة التي كرمه الله بها الله، وترده إلى عالم الحيوان الذي حبسته الداروينية في إطاره، فتحصره في ضيق العالم المحسوس، وتحجبه حتى عن دلالات هذا العالم التي تتجاوز مدى ما تدركه الحواس، وتحبس روحه عن التحليق الطليق في جو تلك الدلالات. والإسلام دين الفطرة.. يخاطب الفطرة كلها مجتمعة، ويتجاوب معها مجتمعة. يتيح لها، بل يحثها على النظر في العالم المحسوس، ولكنه لا يحبسها فيه، بل يطلقها تتدبر دلالاته، فتؤمن بالله واليوم الآخر: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 2. فالله حق. تدل دلائل الوجود كله على وجوده ووحدانيته. واليوم الآخر حق، يرشح للإيمان به قدرة الله على الخلق من جهة، ونفي العبث عن الحق جل جلاله من جهة أخرى. {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 3. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 4. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} 5. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ   1 سورة الذاريات 20-21. 2 سورة فصلت 53. 3 سورة إبراهيم 10. 4 سورة يس 78-79. 5 سورة المؤمنون 115-116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 1. وحين حبست الجاهلية المعاصرة روح الإنسان عن النظر في دلالات الكون المادي التي تتجاوز مدى ما تدركه الحواس. وقعت في حيرة وبلبلة في الرد على أسئلة الفطرة عن الخالق وعن مهمة الإنسان في الأرض وعن مصيره بعد الموت واضطرت أن تضع أجوبة زائفة عن هذه الأسئلة التي لا معدى عن ورودها على الفطرة ولا مهرب من الإجابة عنها: الطبيعة هي الخالق! "وظلت حقيقة الخلق وكنهه وكيفيته محجوبة عن الأبصار، تتهرب من الحديث عنها كل علوم الجاهلية! ". والإنسان سيد الطبيعة "وهي خالقته" وهو عبد الحتميات: المادية والاقتصادية والتاريخية "وهي من صنع الطبيعة والإنسان المقيد بقوانين الطبيعة"! وهكذا يتأرجح بين السيادة والعبودية للشيء الواحد! ويظل في حيرة بين هذه وتلك، بدلًا من الرؤية الواضحة الصافية المطمئنة حين يكون عبدًا لله وسيدًا للكون المادي الذي خلقه الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 3. أما مصيره بعد الموت فهو أمر تتجاهل الجاهلية المعاصرة الحديث فيه، أو تقول كما قالت جاهليات من قبل: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 4. أما الإسلام فيعطي الإنسان تصورًا كاملًا للبعث والنشور، والحساب والجزاء، كما يعطيه الإجابة الصحيحة لكل ما يرد على الفطرة من تساؤلات حول الكون والحياة والإنسان. ثم إن حياة المسلمين التاريخية لم يحدث فيها ما يدفعهم إلى إنكار "الغيبيات" من أجل إصلاح الأرض. بل حدث العكس! فإن العرب حملة هذا الدين   1 سورة ص 27-28. 2 سورة البقرة 21. 3 سورة الجاثية 13. 4 سورة الجاثية 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 الأوائل وهداة البشرية إليه -لم ينطلقوا إلى إصلاح الأرض إلا بعد أن آمنوا بالغيب! آمنوا بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين. ولم يكن أولئك العرب شيئًا مذكورًا في الأرض، ولا كان لهم دور في حياة البشرية حين كانوا محجوبين عن الإيمان بالغيب، ولا كانت لهم أهداف ولا آفاق أبعد من واقع الحس القريب. ولكنهم أصبحوا "خير أمة أخرجت للناس" وقاموا بأكبر حركة إصلاح في الأرض، يوم آمنوا بما تنكره الجاهلية المعاصرة، وانطلقوا يكيفون حياتهم الواقعة بحسب ما يأتيهم من عالم الغيب! لذلك ارتبط "الإصلاح" الحقيقي في حياة هذه الأمة بالإيمان بالغيب، على الصورة الإسلامية الصحيحة، بقدر ما ارتبط الإصلاح الزائف في حياة أوربا بنبذ الغيبيات والإيمان "بالواقع"! فإذا كانت الحياة الإسلامية قد انحرفت من القرون الأخيرة وأصابها الفساد، فلم يكن ذلك بسبب الإيمان بالغيب، إنما كان بسبب الانحراف عن المنهج الرباني الذي تلقاه المسلمون من عالم الغيب، وأصلحوا به الواقع يوم كانوا مستمسكين به على بصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 1. وأما واقعية السبب الظاهر والنتيجة الحتمية ونفي القدر الرباني المهيمن على الأمور، فقد لجأت إليه أوربا كذلك لذات الظروف السيئة التي مرت بها في قرونها الوسطى المظلمة. كان يقال للناس في أوربا في جاهلية الدين الكنسي المحرف في القرون الوسطى إن الواقع السيئ الذي يعيشونه قدر من عند الله لا يمكن تغييره ولا ينبغي كذلك تغيره، لأن محاولة التغيير هي تمرد على قدر الله! فلما حطمت أوربا نير الكنيسة قامت تحاول تغيير الواقع السيئ فلم تجد أنها مغلولة اليد عن التغيير بسبب قدر الله! ثم وجدت أن أحوالها الجديدة خير بكثير -في كل اتجاه بحسب ظنها- من واقعها السيئ الذي كانت تعيشه من   1 سورة يوسف 108. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 قبل، فآمنت أنه كان ينبغي أن تتحرك لتغييره, ولو كان ذلك تمردًا على قدر الله! وكانت حصيلتها من المعركة أنها اعتقدت أن الذي يفعل في هذا الكون هو السبب الظاهر والنتيجة الحتمية، وأن قدر الله شيء وهمي لا وجود له، وأنه حتى إن كان له وجود فالإنسان موكل بالتمرد على هذا القدر من أجل إصلاح الأرض!! وسميت هذه واقعية! ونقول هنا كما قلنا هناك إنه لا الإسلام يتقبل مثل هذه الواقعية المنحرفة، ولا كان في حياة المسلمين التاريخية ما يلجئهم إلى قبولها أو اللجوء إليها. الإسلام قائم على أساس أن الفاعلية الحقيقية في هذا الكون هي فاعلية قدر الله سبحانه وتعالى في كل أمر من الأمور: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3. {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} 4. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} 5. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 6. ومع هذا فإن الإنسان له دور يؤديه، بوصفه الخليفة في الأرض، المكلف بعمارتها والسعي في مناكبها، والحامل للأمانة فيها، والمحاسب في النهاية عن عمله في أثناء وجوده فيها، والذي يجري قدر الله فيها بمقتضى عمله إن خيرًا فخير ,إن شرًّا فشر:   1 سورة يس 83. 2 سورة القمر 49. 3 سورة آل عمران 26-27. 4 سورة يس 33-35. 5 سورة الواقعة 63-65. 6 سورة الأنفال 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1 {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 2. وبذلك يتوازن في حس المسلم إيمانه بفاعلية قدر الله في الكون وإيمانه بفاعلية الإنسان ومسئوليته عما يعمل، بغير تعارض ولا افتراق: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} 3. ثم إن الإسلام يعلم المسلم في ذات الوقت أن مع طلاقة المشيئة بالربانية فإن له سنة جارية تعمل في الكون حسب نواميس معينة غير قابلة للتغيير: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} 4. وأن على الإنسان أن يتجنب الاصطدام بهذه السنة ومعارضتها, فإن ذلك يجلب عليه الدمار والبوار، إنما عليه أن يتجاوب معها ويستجيب لها فيكتب له الفلاح. وهكذا يعمل المسلم في واقع الأرض ملتزمًا بتلك السنن، متوقعًا على الدوام أن يرى نتيجة عمله بمقتضى تلك السنن الربانية الثابتة، ولكنه يدرك على الدوام أنه ليس السبب الظاهر هو الذي يفعل، إنما هو الله. وأن النتيجة لا تأتي تلقائيًّا من السبب الظاهر، إنما تأتي من ترتيب الله لها وتقديره لها بقدر من عنده. وأنه لو شاء الله ألا تترتب النتيجة المعينة على السبب، إنما تترتب عليه نتيجة أخرى، فليس هناك قوة في الكون كله تحول دون ما قدر الله. ومن هنا لا يتعارض في حس المسلم إيمانه بالسبب والنتيجة -حسب السنة الربانية الجارية- وإيمانه بالمعجزة التي تختلف فيها النتيجة عن السبب الظاهر، وتعمل فيها سنة أخرى من سنن الله هي السنة الخارقة، فيؤمن بالوحي، وبالمعجزات والخوارق التي جاءت على يد الأنبياء والرسل، وبأن الله قادر على تغيير   1 سورة الأنفال 36. 2 سورة الروم 41. 3 سورة آل عمران 165-166. 4 سورة فاطر 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 نظام الكون كله متى شاء. ولكنه في الوقت ذاته يعمل على أساس أن السنة الجارية هي الأقرب احتمالًا. فيعد العدة ويتخذ الأسباب، ثم يتوكل على الله. ومن هنا كذلك لا يحتاج المسلم -لكي تكون له فاعليته في الأرض، ولكي يغير وينشئ- أن يلغي الإيمان بقدر الله وقدرته. ولا يدفعه إيمانه بقدر الله -على الطريقة الإسلامية الصحيحة- إلى السلبية والتواكل وعدم اتخاذ العدة وعدم اتخاذ الأسباب. إنما كان الانحراف الذي وقع فيه المسلمون في القرون الأخيرة سببه فساد عقيدة القضاء والقدر عندهم، لا تلك العقيدة في ذاتها، لأن هذه العقيدة ذاتها -في صورتها السوية- هي التي دفعت المسلمين إلى تلك الفاعلية الفذة في واقع الأرض، فغيروا فيها -في عالم الحرب وعالم السياسة وعالم العقيدة وعالم الاقتصاد وعالم المادة وعالم الفن ... إلخ- ما لم يتح لأمة أخرى في الأرض في مثل ذلك الزمن القصير! ولم يكن في حس المسلمين الأوائل قط أن الواقع الموجود لا يمكن تغييره لأنه قائم بقدر من الله! فقد جاءوا هم -بقدر من الله- لتغيير هذا الواقع، بمقتضى المنهج الرباني المنزل عليهم، وبمقتضى الأمانة التي يحملها "الإنسان"، وبمقتضى الفاعلية البشرية المتضمنة في "الخلافة" التي خلق الله من أجلها الإنسان. ولم يكن في حسهم كذلك أن محاولة تغيير الواقع السيئ أو الواقع المنحرف يكون تمردًا على قدر الله. لأن الله لم يقبل من المشركين قولهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} 1. إنما يتوجه المسلم -صاحب العقيدة السليمة- إلى تغيير الواقع السيئ والواقع المنحرف تطلعًا إلى قدر الله أن ينصره على هذا الواقع ويعينه على تغييره. وهذا معنى التوكل بعد اتخاذ الأسباب: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 2. فإذا قال قائل إن أوربا قد أبدعت ما أبدعت في ظل الإيمان بفاعلية الإنسان لا   1 سورة الأنعام 148. 2 سورة آل عمران 159. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 فاعلية الله، وفاعلية السبب الظاهر والنتيجة الحتمية لا فاعلية قدر الله، فذلك حق، ولكنها كذلك "أبدعت" هذا القدر الرهيب من القلق والاضطراب والحيرة والجنون والانتحار والأمراض النفسية والعصبية والجريمة والإدمان على الخمر والإدمان على المخدرات. لأن صراع السبب والنتيجة لا يأتي دائمًا على ما يهوى الإنسان، ولأن القلوب هناك لا تطمئن بذكر الله كما تطمئن قلوب المؤمنين: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 1 {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2. وقد أبدع هؤلاء المؤمنون ما أبدعوا من حضارة وتقدم في واقع الأرض، دون أن يصيبهم ما يصيب الجاهلية المعاصرة في قلق دائم واضطراب. أما الواقعية التي تسخر من العواطف البشرية، وتعدها مضيعة للوقت والجهد لا تأتي بعائد مادي، فقد حدثت في أوربا في الواقع نتيجة النضوب الروحي والوجداني الذي أصابهم بعد تنحية الدين من حياتهم، وقطع صلاتهم بالله واليوم الآخر. ولئن كانوا يسمونها واقعية فهم في الحقيقة يحاولون بذلك أن يستروا ذلك النضوب المعيب الذي يغشي حياتهم، والذي يعيشون في ظله آلات تعمل وتنتج دون أن تحس. بل إنها لتحس! تحس بالفراغ القاتل فتروح تحاول ملأه باللهو والعبث والمجون، وتحاول ملأه بالمخدرات والخمر، وتحاول ملأه بالإغراق في الجنس. ولتجأ أحيانًا إلى الكلاب! وعدد الكلاب في أوربا وأمريكا يكاد يصل أحيانا إلى نصف السكان! ثم قالوا إن هذا نتيجة التطور! ففي المجتمع الزراعي "المتأخر" تكون للناس عواطف ووجدانات، وروابط أسرية واجتماعية، ويتعاون الناس ويتوادون، لأن طبيعة الحياة الريفية تستوجب ذلك! أما في المجتمع الصناعي "المتطور" فتنفك هذه الروابط وتتقطع، لأن   1 سورة الرعد 28. 2 سورة التوبة 51. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 كل فرد من الناس له استقلاله الاقتصادي، حتى الرجل والمرأة اللذان يكونان زوجًا وزوجة "! " فيصبح لكل منهم عالم مستقل، وتصبح الروابط بينهم روابط "عملية" لا روابط عاطفية ووجدانية! وذلك فضلًا عن أن سكان المدينة المزدحمة بالسكان، الدائمي التنقل من مكان إلى مكان، لا يمكن أن يتعارفوا، ولا أن تقوم بينهم الروابط -إلا تلك الروابط التي يقتضيها العمل- فينفرط عقدهم، ويصبح لكل منهم كيانه المستقل، لا يتدخل في شئون أحد ولا يتدخل أحد في شئونه. حتى الجيران في البيت الواحد لا علاقة لأحدهم بالآخر! ومن ثم لم يعد هناك مجال للوجدانات والعواطف، وانصرف كل إنسان إلى تنمية دخله الخاص، والتمتع بالحياة في حدود كيانه الخاص! وصدقوا في وصف واقعهم الزري، وكذبوا في تعليله! وكذبوا كذلك في إعطائه صفة الشرعية والأمر الواقع المتسق مع طبائع الأشياء. فما يمكن -في خلق الله السوي- أن يهبط البشر عن إنسانيتهم كلما فتح عليهم فتح علمي أو تقدموا في عالم المادة، بله أن يهبطوا عن إنسانيتهم بمقدار ما يفتح عليهم في ميدان العلم والتقدم المادي! لا يمكن أن يكون الله قد كتب على البشرية كلما قامت بتسخير طاقات الكون المسخر لها من عند الله، وكلما مشت في مناكب الأرض تأكل من رزق الله، وكلما تقدمت في العلم الذي وهبها الله إياه، أن تنقلب مسخًا مشوهًا لا يمت بسبب إلى "الإنسان" الذي خلقه الله ليكون خليفة في الأرض، وكرمه وفضله ورفعه فوق سائر الكائنات! إنما يحدث هذا من الكفر بالله واليوم الآخر، ومن إقامة الحياة على غير الأسس الربانية التي أنزلها الله لتحكم حياة البشر على الأرض، ومن عمارة الأرض على غير المنهج الرباني الذي يكفل التقدم المادي والروحي في آن. كلا! ليس هو التطور، وإنما هو الانتكاس! {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} 1.   1 سورة المائدة 65-66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. فإذا كانوا اليوم متقدمين علميًّا واقتصاديًّا وحربيًّا وسياسيًّا وماديًّا برغم هذا الانتكاس في إنسانيتهم، فليس هذا مخالفًا لسنة الله التي عرفنا إياها في كتابه المنزل. إنما هو طور من أطوار تحركهم نحو الدمار: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 2. كلا! إنما أراد الله للإنسان أن يتقدم في ميدان العلم، وأن يسخر طاقات السموات والأرض ليقوم بعمارة الأرض والخلافة فيها "أي: السيطرة والتمكن والإنشاء والتغيير" وهو محافظ على إنسانيته الرفيعة التي كرمه الله بها، في كل مجال من مجالات الإنسانية، سواء مجال الحق والعدل، أو مجال العواطف الإنسانية، أو مجال الترابط الأسري، أو مجال الأخلاق. وذلك باتباع منهج الله. فحين يتبع الناس الهدى الرباني فسينشئون حضارة متوازنة، يتوازن فيها جانب المادة وجانب الروح. وقد تكفل الله بذلك للناس حين يؤمنون: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم} {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . أما حين ينسون ما ذكروا به فقد تفتح عليهم أبواب كل شيء فترة من الوقت، وقد يتمتعون ويأكلون كالأنعام. ولكنهم لا يجدون البركة في حياتهم قط ولا يجدون الاطمئنان، لأن الاطمئنان لا يجيء إلا من ذكر الله الذي يرفضون هم أن يذكروه، وأن يباركوا حياتهم بذكره: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 3. وكذب ما يقولونه من أن العواطف والوجدانات لا مكان لها في عصر التقدم العلمي والمادي! فما الذي يمنع الناس أن يكونوا آدميين حقًّا حين يتقدمون في ميدان العلم والإنتاج المادي؟!   1 سورة الأعراف 96. 2 سورة الأنعام 44. 3 سورة الرعد 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 ما الذي يمنعهم أن يتعارفوا؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1. وإذا كان أهل المدينة الواسعة لا يستطيعون أن يتعارفوا كلهم، ولا أن يمارسوا التواد والمحبة على النطاق الواسع، فما الذي يمنع الجيران من أن يصنعوا ذلك؟ وما الذي يمنع أهل الحي الواحد، لو أنهم جعلوا ذلك في حسابهم ولم ينظروا إليه على أنه مضيعة للوقت والجهد؟ وأين يذهب الوقت والجهد الذي يضن به هؤلاء على العواطف الإنسانية وعلاقات المودة والقربى؟ أيذهب حقًّا في التقدم العلمي وزيادة الإنتاج؟ فأين إذن الوقت الذي يذهب في الملاهي والمسارح و"علب الليل" ومباءات النهار؟! والذي يذهب في نوادي القمار؟! والذي يذهب في السكر، وفي غيبوبة المخدر؟! والذي يذهب في التخطيط لارتكاب الجرائم، سواء الفردية أو الجماعية أو الدولية، ثم في تنفيذ تلك المخططات؟! لو التقى أهل الحي في صلاة؟ لو التقوا في عيادة المريض منهم ومواساة المحزون؟ لو التقوا في سمر بريء نظيف يروحون فيه عن أنفسهم بغير مأثم؟ هل يؤثر ذلك في الإنتاج والتقدم العلمي؟! كلا! إنه ليس التطور وإنما هي الانتكاس. ومنهج التربية الإسلامية -وهو ينشئ الناس على الواقعية -لا يخفف عواطفهم، ولا ينزع روح المحبة والود بينهم، إنما يجعل ذلك متممًا للإيمان، وقرينًا للإيمان: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} 2. "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" 3.   1 سورة الحجرات 13. 2 سورة النساء 36. 3 أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 "إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى". قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها. فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور. ولا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". وقرأ هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1. نعم. وكذلك يكون "الإنسان" كما خلقه الله في أحسن تقويم. على هذا النحو الشامل المحكم يربي الإسلام الإنسان في مرحلة النضج.. يضعه أمام مسئولياته. وفي مقدمتها مسئوليته الكبرى أمام الله، التي تندرج تحتها جميع التكاليف وجميع المسئوليات. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} 2. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 3. ويعمق في حسه معنى التوجه إلى الله بالعبادة والشكر والتوبة والإنابة: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4. ويحثه على العمل المنتج وعلى اكتساب الخبرة التي تصل إلى حد الإتقان. ويربي فيه النظرة الواقعية إلى الأمور، بغير انحرافات الجاهلية في نظرتها الواقعية، فلا هو يفصل بينه وبين ربه، ولا بينه وبين مثله وقيمه، ولا بينه وبين أهله وعشيرته، ولا بين دنياه وآخرته.   1 أخرجه أبو داود. 2 سورة الرعد 19-21. 3 سورة النساء 58-59. 4 سورة الأحقاف 15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 واقعي. ولكنه لا يحصر نفسه في حدود ما تدركه الحواس. لأن حقيقة الوجود أكبر بكثير وأعظم بكثير من حدود ما تدركه الحواس. واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في الأرض.. في الحياة الدنيا؛ لأن حقيقة الآخرة أكبر بكثير وأخطر بكثير من حقيقة الأرض. ثم إنه لا انفصال في حسه بين العالم الحاضر والعالم المقبل، لأنها -كلها- رحلة واحدة أولها في الدنيا وآخرها في الآخرة. ولكنهما طريقان مختلفان في الحياة الدنيا يؤديان إلى نهايتين مختلفتين في الآخرة. أولاهما ينتهي فيها الكدح والمشقة والعذاب والجهد، ليبدأ نعيم لا حد له ولا انتهاء، والثانية ينتهي فيها ما قد يكون قد سبق من ألوان نعيم عارض، ثم يبدأ العذاب. {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 1. واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في الجانب المادي من الحياة. لأن حقيقة الروح أفسح بكثير وأعمق بكثير من حقيقة الحس وحقيقة المادة. ثم إنه لا يوجد في الحقيقة ذلك الانفصال المتوهم بين عالم المادة وعالم الروح. لا يوجد في حقيقة الإنسان ولا في حقيقة الكون. فأما الإنسان فقد خلق من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ممتزجتين مترابطتين لا تنفصل إحداهما عن الأخرى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 2. وأما الكون فقد أزاح العلم الحديث ذلك الفاصل المتوهم بين المادة والطاقة، ولم يعد أحد اليوم -من العلماء- يتحدث عن المادة بمعزل عن الطاقة أو عن الطاقة بمعزل عن المادة، لأنه لا عزلة في الحقيقة ولا انفصال! واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في حدود ذاته ولا حتى في حدود أسرته الصغيرة. فحقيقة الترابط في المجتمع وفي الوجود البشري كله أكبر بكثير وأخطر بكثير من حدود ذاته ومن حدود أسرته. ومن ثم فهو -مع اشتغاله بذاته وأسرته- مشتغل كذلك "بالأمور العامة" كما يسمونها في مصطلح هذا العصر.   1 سورة الأعراف 29-30. 2 سورة ص 71-72. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 ثم إن الإسلام يفرض عليه فرضًا أن يشتغل بهذه الأمور العامة، لأنه ما من موقف للناس في أي شيء من الأشياء إلا واقع في حدود شرع الله. فهو إما واجب وإما مستحب وإما مباح وإما مكروه وإما محرم. وهو مكلف أن يحكم فيه بما أنزل الله، ثم يكون له منه موقف معين بحسب هذا الحكم، فيقره ويدعو إليه، أو ينكره ويجاهده "بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان". واقعي ... ولكنه ليس جامد الحس متحجر العواطف؛ لأن نداوة العواطف الإنسانية كسب للنفس أعظم بكثير وأروح بكثير من الكسب المادي. إنها هي الوجود الحقيقي للنفس الإنسانية بعد أن تشبع حاجات الجسد وتستقر: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 3. ثم يطلقه الإسلام يحقق وجوده في الأرض. وجود الخليفة الراشد المكلف بعمارة الأرض بمقتضى منهج الله. يقيم فيها شريعة الله. ويمشي في مناكبها ليأكل من رزق الله. ويستغل الطاقات المسخرة له من عند الله. ويجاهد لإقامة الحق والعدل الذي يأمر به الله. ويكون في أثناء ذلك كله متخلقًا بأخلاق لا إله إلا الله، فيحقق بذلك المعنى الحقيقي لعبادة الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى   1 سورة الروم 21. 2 سورة التوبة 71. 3 سورة الفتح 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1. فتكون منه حينئذ تلك الثمرة الجنية التي يحبها الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} 3. ويكون حقًّا على الله أن يهديهم سواء السبيل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 4. وبعد فذلك هو المنهج الرباني في شموله وتكامله وعمقه وإحاطته. وتلك هي طريقته في معالجة النفس الإنسانية من الطفولة الباكرة إلى مرحلة النضج. إنه منهج كفيل بالفعل بإنشاء "الإنسان الصالح" فردًا وجماعة وأمة متكاملة. كفيل بإخراج تلك الأمة الخيرة التي استحقت ذلك الوصف الرباني: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 5. والتي جعلها الله أمة وسطًا لتكون شاهدة ورائدة لكل البشرية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 6. ولئن كانت هذه الأمة قد تهاوت -دهرًا- في أداء رسالتها التي كلفها بها الله. ولئن كان هذا التهاون لم يقف أثره عند هذه الأمة وما أصابها من ضعف وتخلف وهوان وتمزيق على يد أعدائها، بل تعداه إلى البشرية بأجمعها، التي فقدت الهداية الربانية التي كانت ممثلة في هذه الأمة، والتي تستطيع -وحدها- أن تقوم انحرافات البشرية وتصلحها. فراحت من جراء ذلك تتخبط في الظلمات، وتقودها الشياطين إلى مهاوٍ ومزالق لا مثيل لها في التاريخ البشري كله في شناعتها وبشاعة آثارها.   1 سورة البقرة 177. 2 سورة البينة 7-8. 3 سورة مريم 96. 4 سورة العنكبوت 69. 5 سورة آل عمران 110. 6 سورة البقرة 143. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 لئن كان هذا كله كذلك، فإن هناك اليوم حركات للبعث الإسلامي تبشر بالخير في كثير من أرجاء الأرض. وحين يتربى جيل جديد من المسلمين على منهج التربية الإسلامية؛ يكون قد تحقق هذا الخير الذي تبشر به حركات البعث الإسلامي. وهو خير مزدوج لا يقف أثره عند هذه الأمة وحدها، وإنما يتعداه إلى كل البشرية. فالبشرية الحائرة اليوم، التي تعاني لذع الضياع والحيرة والقلق والاضطراب. قد بدأت تبحث عن الطريق. ولن يكون الطريق إلا الإسلام. ولن يقدم الإسلام للبشرية الحائرة إلا من خلال بشر يؤمنون به، ويحملونه عقيدة مستقرة في القلب، وقيمًا ومبادئ متمثلة في واقع سلوكي مستمد من هذه العقيدة. وعندئذ ينشرح صدر البشرية الحائرة للإسلام، وتجد فيه طريق الخلاص. وحقيقة إن هناك عقبات كثيرة في الطريق. عقبات من القوى المعادية للإسلام في الأرض كلها، تحارب حركات البعث الإسلامي بضراوة، وتكيد لها بكل ما تملك من وسائل الكيد، من تشتيت وتفتيت واحتواء وفتنة وتعويق. وعقبات من الطغاة الذين يناوئون حركات البعث الإسلامي بكل ما في أيديهم من السلطان، وينكلون بالدعاة في أبشع صورة من صور التنكيل الجماعي شهدها التاريخ، لحسابهم الخاص أحيانًا، ولحساب تلك القوى المعادية في جميع الأحيان. وعقبات من مدى البعد الشاسع بين واقع هذه الأمة في تاريخها المعاصر وبين حقيقة الإسلام. وعقبات من توزع الجماعات الإسلامية ذاتها، وافتقارها إلى الرؤية الواضحة، والقيادة الواعية المقتدرة التي ترتفع إلى مستوى المسئولية ومستوى الأحداث. ولكن المبشرات أكبر من المعوقات! المبشرات -في داخل العالم الإسلامي- هي هذا التيار الزاخر من الشباب في كل مكان -فتيانًا وفتيات- يريدون الإسلام ويصرون عليه بوصفه البديل الوحيد من كل ألوان الجاهلية المعاصرة، والطريق الوحيد للخلاص ... وهم شباب يعلمون علم اليقين أن الإسلام يحارب، وأن طريق الإسلام مملوء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 بالعقبات ومملوء بالتضحيات. ومع ذلك يصرون على ارتياد الطريق. والمبشرات -على مستوى البشرية- هي بدء تيقظ الفطرة البشرية من دوامتها التي غرقت فيها في القرنين الأخيرين، والأخير بصفة خاصة، دوامة النظريات الزائفة والمذاهب المنحرفة والسلوك المجنون. واتجاهها إلى البحث عن بديل من هذه الدوامة يكون فيه طريق الخلاص -كما قلنا- إلا في المنهج الرباني المنزل، وإلا فهو المزيد من الجاهلية، والمزيد من الانحراف الذي يؤدي إلى الدمار. وهي مبشرات ضخمة سواء في أصالة اتجاهها وارتكازها على رصيد الفطرة ورصيد الحق1، أو في اتساع نطاقها على محيط الأرض. ولن يكون الأمر بالسهولة التي تكتب بها الكلمات أو تنطق بالأفواه. إنه في حاجة إلى جهاد مرير وصبر وتضحيات. ولكن الله هو الذي وعد المؤمنين الصادقين بالنصر حين يستقيمون له على الشرط: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 2. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3.   1 انظر "هذا الدين" و"المستقبل لهذا الدين". 2 سورة النور 55. 3 سورة يوسف 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 الباب السادس: مرحلة النضوج ... {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 1. وتوجد في العلماء، وهم ورثة الأنبياء. وليس العلماء هم حفظة العلم. فما أكثر الحفاظ وأقل العلماء! إنما هم العاملون بهذا العلم، الذين يربون بعلمهم الناس، ويعطون في سلوكهم الواقعي ترجمة عملية لما يقولونه لطلابهم من أمور هذا الدين. هم الذين يخشون ربهم حق خشيته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2. كما أن تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع المسلم هو بذاته تربية وتوجيه. أما في مجتمعاتنا الجاهلية المعاصرة فالقيادة والقدوة -لمن يريد الإسلام- ما تزال قائمة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته. ثم ينبغي أن تكون في جماعة تندب نفسها للدعوة، وتعطي من نفسها القدوة، وتقوم بدور التربية للناس في مرحلة النضج، وتعينهم على القيام بمسئوليتهم تجاه الله وتجاه الإسلام. كنا حتى الآن نتحدث عن السمة الأولى -والكبرى- من سمات مرحلة النضج، وهي الرغبة في تحمل المسئولية، واستطردنا منها إلى الحديث عن ماهية هذه المسئولية بالنسبة للإنسان المسلم، والتي تتلخص في إقامة منهج الله في الأرض، وإنشاء الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والدولة المسلمة التي تحكم بما أنزل الله. فذلك في الحقيقة هو المقتضى الحقيقي لشهادة لا إله إلا الله. ونعود إلى بقية السمات فنجد الرغبة في العمل والرغبة في اكتساب الخبرة العملية، وهما رغبتان متساوقتان في نفس الإنسان، وموجودتان في الحقيقة منذ الطفولة، ولكنهما يأخذان صورًا شتى. ففي الطفولة تتخذان صورة اللعب. وعن طريق اللعب يكتسب الطفل كثيرًا من خبراته كما يكتسب كثيرًا من معلوماته. وبذلك يمكن استغلال اللعب في التربية في هذه المرحلة من العمر.   1 سورة الأحزاب 21. 2 سورة فاطر 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الباب السابع: المحتويات الجزء الأول: في النظرية مقدمة الطبعة الثالثة 5 مقدمة الكتاب 7 تمهيد: الوسائل والأهداف 11 خصائص المنهج الإسلامي 18 منهج العبادة 34 تربية الروح 38 تربية العقل 75 تربية الجسم 104 خطوط متقابلة في النفس البشرية 126 الخوف والرجاء 127 الحب والكره 140 الواقع والخيال 148 الحسية والمعنوية 151 ما تدركه الحواس وما لا تدركه الحواس 155 الفردية والجماعية 162 الالتزام والتطوع 168 السلبية والإيجابية 174 من وسائل التربية 180 التربية بالقدوة 180 التربية بالموعظة 187 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 التربية بالعقوبة 189 التربية بالقصة 192 التربية بالعادة 200 تفريغ الطاقة 204 ملء الفراغ 206 التربية بالأحداث 207 المجتمع المسلم 216 ثمرة المسلم 223 بين الواقع والمثال 235 الجزء الثاني: في التطبيق مقدمة 241 كيف تربت الجماعة الأولى 251 موضوع القدوة في جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم 313 مع الطفولة حتى الصبا 324 من الصبا إلى الشباب الباكر 432 من الشباب الباكر إلى النضج 481 مرحلة النضوج 564 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618