الكتاب: منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة المؤلف: تامر محمد محمود متولي الناشر: دار ماجد عسيري الطبعة: الأولى 1425هـ-2004م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة تامر محمد محمود متولي الكتاب: منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة المؤلف: تامر محمد محمود متولي الناشر: دار ماجد عسيري الطبعة: الأولى 1425هـ-2004م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة تأليف: تامر محمد متولي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وارث كل مالك وما ملك، ومهلك الحي، ومحيي من هلك، والصلاة والسلام على النبي الخاتم الذي من اتبع سنته سعد ونجا ومن تنكب عنها شقي وهلك1. أما بعد: فإن قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية، أنشأ ـ يوم أنشأ ـ من أجل أن يشيد بناءها، ويعيد لها رونقها وبهاءها، على نفس الأسس والقواعد التي أرساها سلفنا الصالح، وما برح القسم من ذلك الحين، يضع اللبنة تلو الأخرى، حتى اتضحت معالم هذا البناء، بعد ما كاد أن يعفو رسم الملة بفعل البدع المزيغة والعقائد المضلة، ويذهب حسنها بتقديم آراء الرجال، وتأخير الأدلة. فما زال أبناء هذا القسم يزيلون ما علا هذا البناء من غبار، حملته رياح الجنوب والشمال، فعلت جداره، ويميطون عنه لثام الباطل ويكشفون ستاره، ويظهر مذهب السلف كالشمس وقت الظهر، ويذهب دنس الفلسفة ويحل محلها الطهر، ويخرجون كنوز كتب السلف التي أكل حروفها الدهر. لقد كاد مذهب السلف أن يندرس إلا بقايا في من أهل الحديث وغيرهم. تمسكوا به على خوف من أقوامهم، أن يشوا بهم إلى الحكام فيجعلونهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 غيابات السجن، بحجة التمذهب بمذهب جديد والابتداع في الدين، والقول بالحشو والتجسيم. وظلت الحال كذلك إلى أن ظهر في أوائل القرن الثامن الهجري، زعيم المجددين وقائد النهضة الإسلامية الحديثة، شيخ الإسلام ـ غير مدافع ـ أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية يحمل مشعل الدعوة إلى مذهب السلف من جديد فهاجم جميع الفرق القائمة يومه ذاك، وأظهر مذهب السلف بأدلة الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة. فظهر مذهب السلف واتبعه كبار أئمة عصره، ولكن لم يكن لهؤلاء شوكة ودولة تنصر مذهبهم وتنشر آراءهم، إلا أنهم تركوا ثروة علمية كبيرة انتفع بها خلق كثير. حتى جاء القرن الثالث عشر الهجري وظهر في نجد الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، يحمل نفس الدعوة التي حملها ابن تيمية، ويقوم بنفس العبء، ولكنه في هذه المرة كانت معه شوكة وله دولة، أصبح مذهب السلف مذهبها ودعوتها وغايتها، فانتشر في الآفاق وأصبح له في كل مكان من الأرض أنصار وأعوان ودعاة. واستدار الزمان كهيئته يوم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فانتشرت أنوار التوحيد وأدي حق الله على العبيد. ووصل مذهب السلف إلى مصر قديماً مع ابن تيمية، وحديثاً مع أبناء محمد بن عبد الوهاب الذين اتخذوا لأنفسهم بمصر بيوتاً، وصارت بيوتهم قبلة للعلماء الموحدين. وفي مصر تعرف رشيد رضا على مذهب السلف، حيث لم يعرفه في وطنه الشام، واطمأن به قلبه بمطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته، فتمذهب به ودعا إليه وعمل على نشره بواسطة مجلته الذائعة الصيت، فوصل هذا المذهب إلى كل مكان وصلت إليه مجلة المنار. لقد بلغ رشيد رضا من الشهرة والمكانة مبلغاً عظيماً، فتردد اسمه في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، بل في كل مكان طلعت عليه الشمس. ولقد كانت المدرسة التي أسسها رشيد رضا وانتشرت أفكارها بفضل مجلة المنار، محط أنظار الباحثين من المسلمين وغير المسلمين، باعتبارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 مدرسة الإصلاح الإسلامي التي أرادت أن توفق بين الإسلام وحاجات العصر الحديث. وكانت كل الدراسات التي تناولت الحياة العقلية في هذه الفترة تدور بكاملها حول مدرسة المنار وحزب الأستاذ الإمام، وأول من أطلق عليه هذا اللقب هو رشيد رضا. وإن "الشيخ محمد عبده "لم يحصل على هذه المرتبة إلا بفضل الدعاية التي نشرها له الشيخ رشيد رضا في مجلته؛ وقد كان له ما أراد؛ فانتصر حزب "الأستاذ الإمام" في المجال السياسي وفي المجال العلمي. لقد دعا رشيد رضا في حياته كثيراً لإنشاء جماعات تدعو إلى الإسلام وتقوم بنشره، على أسس سلفية نابذةً التقليد والبدع والخرافات، داعية إلى الإسلام الخالص من شوائب الشرك والبدع. وبالفعل قامت جماعات على هذه الأسس منها جماعة الدعوة والإرشاد التي أسسها هو بنفسه وأنشأ لها مدرسة كانت بمثابة التطبيق العملي لأفكار رشيد رضا؛ وفي هذه المدرسة تخرج دعاة أنشأوا هم بدورهم جماعات تحمل أفكار شيخهم ومعلمهم، ومنها جماعات أنصار السنة التي انتشرت في أماكن عديدة من العالم، تحمل نفس الأفكار التي دعا إليهارشيد رضا. وهناك جماعات أخرى ادعت أنها امتداد لرشيد رضا، خلافته في الإصلاح، وهي تردد بعض عباراته؛ وتتخذ منها شعاراً ودستوراً لعملها، دون أن تلتزم بحقيقة ما كان عليه رشيد رضا. هذه الجماعات وتلك موجودة إلى الآن. وتأثر برشيد رضا آخرون أخذوا منه أسوأ ما فيه، وتتبعوا ما تعثر فيه وزادوا عليه، من هؤلاء أبو رية في ظلماته، وأحمد أمين في فجره وضحاه، وفريد وجدي في موسوعته، وتبعهم في ذلك آخرون، اعتمدوا جميعاً على عثرات هذا الرجل، وجعلوها أساساً لهم في عملهم. لذلك كله كان من الأهمية بمكان معرفة منهج الشيخ محمد رشيد رضا في مسائل العقيدة ووزنها بميزان الشرع وإظهار محاسنه وبيان حقيقة منهجه للكافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 لقد اختلفت الآراء حول رشيد رضا، فيعده بعضهم خليفة الأستاذ الإمام 1 والمصلح السلفي 2، ويعده آخرون فيلسوفاً متضلعاً من الثقافة الغربية 3. ولقد اتهم الشيخ رشيد رضا بالعقلانية؛ وأعني بها تقديم العقل على الشرع، كما اتهم بإنكار السنة والدعوة إلى الاقتصار على القرآن، واتهم بإنكار حقائق من الشرع كالملائكة، والجن، والشياطين، وأبوة آدم، ونبوته، والسحر، وأشراط الساعة، والتوفيق بين نظرية دارون والقرآن، إلى غير ذلك، فما هي الحقيقة؟. كل ذلك دفعني دفعاً إلى بحث رشيد رضا. ومما يجعلني جديراً ببحث رشيد رضا أن بيني وبينه سنداً عالياً، إذ أنه شيخ شيخي، فقد لازمت فضيلة الشيخ محمد علي عبد الرحيم الرئيس السابق لجمعية أنصار السنة، حتى وفاته ـ رحمه الله ـ وهو أحد المعاصرين لرشيد رضا والمتأثرين به، فهو قرين حامد الفقي وطبقته. والشيخ رشيد رضا شخصية غنية وقوية، وكان لديه قدرة كبيرة على الكتابة وهو مشارك في كثير من العلوم على طريقة المتقدمين، لذا فإنني كتبت في جميع العلوم تقريباً من الفقه والحديث والتفسير والكلام. إلا أن الطابع الغالب عليه هو طابع المتكلمين، ولا جرم في ذلك إذ كانت البيئة العلمية يومئذ هي بيئة كلامية، لذا فإن هذا البحث يظهر فيه بوضوح هذا الطابع إذ أنه سيناقش القضايا الأساسية في جميع أبواب العقيدة تقريباً، فسنرى فيه "نظرية المعرفة" بين السلف والمتكلمين، ومن مسألة "حدوث العالم" وما اعتراها من أفهام ثم حلها حلاً صحيحاً يوافق ما جاء به القرآن. كما أننا سنرى فيه تصحيح الخطأ في مسمى الإله ومعنى العبادة، إلى فناء النار، وغير ذلك من المباحث التي أثارها المتكلمون وناقشها   1 انظر: محمد رجب البيومي: النهضة الإصلاحية (1/235) 2 انظر: محمد عبد الله السلمان: الشيخ رشيد رضا المصلح السلفي. 3 انظر: حمود التويجري: الرد القويم (ص: 256) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 رشيد رضا ولكن سيكون الميزان الذي نزن به هذه المسائل كلها هو الميزان السلفي الذي يطرح الأفكار الفلسفية والكلامية، ويعتمد رأساً على الكتاب والسنة وفهم سلف هذه الأمة قبل ظهور علم الكلام والفلسفة فيها. وسأحاول في هذا البحث بيان المؤثرات المتعددة التي أثرت في رشيد رضا ومصادر الآراء والمواقف التي اتخذها في كل مسألة، كما سأحاول أن أبين للقراء الأثر الذي تركه رشيد رضا في من بعده. وفي كل ذلك سأعتمد منهج المقارنة لأنه يقوم في البحوث النظرية مقام التجربة في البحوث التجريبية 1. وعلى الرغم من صعوبة هذا البحث، فإنه كان مفيداً للغاية، والدليل على ذلك هو العناوين التي تضمنها والمراجع التي رجعت إليها. لقد كان هذا الموضوع مما ينوء بالعدد من الطلاب ولكن كانت الفائدة على قدر المشقة. والذي حدا بي إلى اختيار موضوع من هذا النوع هو إشارة أستاذي عبد الرزاق العباد، لقد عملت طيلة ثلاث سنوات متواصلة دون انقطاع ولا حصلت خلالها على إجازة واحدة إلا يسيراً؛ أياماً معدودات، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً. لقد كنت أنوي في البداية أن أقوم بكل عمل ممكن حول رشيد رضا والاستفادة منه في كافة العلوم الشرعية والعربية وغيرها، إلا أنني بعد وقت قصير أدركت بعد الشقة، وخشيت أن أكون كمن بالغ في الوضوء وابتدع حتى خرج وقت الصلاة وضاق عليه ما اتسع، فقصرت الأمر على مباحث العقيدة ومن ذلك الوقت ما خيرت بين طريقين إلا اخترت أخصرهما ما لم يكن عيباً في البحث.   1 انظر: أكرم العمري: تعليقة في منهج البحث (ص: 38) ط. مكتبة الدار بالمدينة، الثانية 1412هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وحتى يتسم البحث بالعمق والأصالة لا بد أن يتوفر فيه شرطان: الأول: التفرغ، والثاني: المصادر الأصلية. فأما الشرط الأول فقد قامت الجامعة الإسلامية ممثلة في قسم العقيدة وكلية الدعوة، والعمادات المعاونة بكل ما تستطيع في هذا الصدد، فتفرغت كزملائي لهذا العمل طيلة سنوات الدراسة، ولم أشعر بأية صعوبة في هذا الجانب، مادياً أو معنوياً. وفيما يتعلق بالشرط الثاني فقد توفرت لي بحمد الله تعالى كافةُ المصادر التي أستطيع من خلالها الوقوف على منهج وآراء رشيد رضا مع مقارنتها بمذهب السلف، إلا أنه واجهتني بعض الصعوبات في الحصول على مراجع هامة في التاريخ العام وأخرى في مقارنة الأديان، إذ واجهت نقصاً في هذين الموضوعين، إلا أنني تمكنت بفضل الله تعالى من الوقوف على المصادر التي أثبت من خلالها تأثر رشيد رضا بمن سبقه وتأثيره فيمن بعده. والتأثير والتأثر هما ركنا منهج المقارنة العلمية. كما أن النقد هو السبيل لتمييز الغث من السمين. وعندما أنقد رشيد رضا لا ألوي على شيء، كيف وهو القائل: "للنقد على العلم فضل يذكر، ومنة لا تنكر، فهو الذي يجلو حقائقه ويميط عنه شوائبه ... وإذا أبيح النقد في أمة واستحبه أبناؤها، كان ذلك قائداً لها إلى بحابح المدنية وآية على حياة العلم فيها ... " 1. وفيما يتعلق بمنهجي في توثيق المعلومات الواردة فإنني حاولت سلوك أيسر السبل التي تيسر على القارئ الوصول إلى مراده والتثبت من صحة المعلومات الواردة، فقد عزوت الآيات إلى سورها، كما أنني خرجت الأحاديث مشيراً إلى اسم صاحب المصنف واسم المصنف ثم البيانات الداخلية كاسم الكتاب والباب، ورقم الأحاديث مع بيان رقم الجزء والصفحة. وفيما يتعلق بصحيح مسلم فإني اعتمدت المشهور في تقسيمه فذكرت اسم الكتاب فقط دون اسم الباب واستبدلت ذلك برقم الحديث   1 مجلة المنار (9/66) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 في الكتاب كما ذكرت الرقم العام لأحاديث الصحيح والتي وضعها جميعاً الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي 1، وزدت أيضاً رقم الجزء والصفحة اعتماداً على طبعته فمهما أطلقت العزو فإليها، وإن أردت غيرها، كالمطبوع مع شرح النووي، بينت ذلك. وفيما يتعلق بالحكم على الأحاديث، فما كان في البخاري ومسلم فهو معلم بالصحة دون شك، فإذا كان الحديث في البخاري، اكتفيت بذكره فيه لأن إيراد الطرق المتعددة دون قصد بيان التواتر ليس من صلب العلم 2، فإن لم يكن في البخاري وكان في مسلم فكذلك. فإن لم يكن فيهما ذكرت من خرجه من أصحاب الكتب الستة، إن كان عندهم، أو من غيرهم. وذكرت حكم أهل العلم عليه. ورغبة في الاختصار ومخافة السآمة والتكرار فإنني أحياناً أذكر آراء رشيد رضا مستدلاً عليها من كلامه تضميناً مميزاً كلامه بالأقواس التي تدل على ذلك. مع عزو ذلك إلى مواضعه من كتابات رشيد رضا، وشرط ذلك كله عدم اللبس. وأما غيره من المصادر فإنني أذكر اسم المصنف والمصنف وكامل بياناته عند أول مرة يرد ذكره فيها. ثم أعيد ذلك في ثبت المصادر مرتباً إياه على أسماء المؤلفين وأعتمد في هذا الترتيب اسم الشهرة الذي يعرف به المصنف ليسهل الرجوع إليه والعثور عليه، وعند تكرار اسم الكتاب والمصنف فإنني أختصر أحياناً هذين شريطة ألا يحدث لبس في ذلك، مع تصرفات أخرى بقصد السهولة والاختصار ولكنها لا تخفى على القراء إن شاء الله تعالى.   1 محمد فؤاد عبد الباقي؛ عالم بتنسيق الأحاديث النبوية، ووضع الفهارس للأحاديث الشريفة والآيات القرآنية، مصري الأبوين، ولد ونشأ ودرس بالقاهرة، وانقطع إلى التأليف، وكفّ بصره قبل وفاته في القاهرة، توفي سنة 1968م. انظر: الزركلي: الأعلام (6/333) . 2 انظر: الشاطبي: الموافقات (1/ 81 ـ 82) ط. دار المعرفة بيروت، مع شرح الشيخ عبد الله دراز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقد ترجمت للأعلام غير المشهورين والذين احتجت إلى ذكر أقوالهم لبيان قوة هذا القول وقيمته العلمية التي تظهر بمعرفة قدر صاحبه. ومخالفة للمتكلمين، فقد انصرفت عن تقسيمهم لمسائل العقيدة إلى إلهيات ونبوات وسمعيات، وقسمته حسب تقسيم الكتاب والسنة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر إلا أنني جعلته داخلاً في الإيمان بالله تعالى لأن البحث فيه من توابع البحث في العلم والإرادة وسائر الصفات الإلهية. وقد حاولت أن أجعل هذه الأبواب والفصول مترابطة يمسك بعضها برقاب بعض، بحيث لو رفعت العناوين لظهر البحث وكأنه جملة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 خطة البحث: وقد قسمت البحث إلى تمهيد وثلاثة أبواب أساسية: فالتمهيد: فيه دراسة لعصر رشيد رضا وحياته، ومنهجه في الاستدلال، وقد قسمت هذا التمهيد إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول: دراسة لعصر رشيد رضا، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في الحياة السياسية؛ وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: الحياة السياسية في الدولة العثمانية. المطلب الثاني: الحياة السياسية في مصر. المطلب الثالث: الحياة السياسية في الشام. المبحث الثاني: الحياة العلمية؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: الحياة العلمية في مصر. المطلب الثاني: الحياة العلمية في الشام. المبحث الثالث: الحياة الدينية. الفصل الثاني: دراسة لحياة رشيد رضا الشخصية؛ وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده ونشأته وصفاته؛ وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: اسمه ونسبه. المطلب الثاني: مولده ونشأته. المطلب الثالث: أخلاقه وصفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المبحث الثاني: طلبه للعلم؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: نشأته العلمية. المطلب الثاني: هجرته إلى مصر. المبحث الثالث: شيوخه. المبحث الرابع: مذهبه وآراؤه الفقهية؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: مذهب رشيد رضا الفقهي. المطلب الثاني: موقف رشيد رضا من ربا الفضل. المبحث الخامس: أثر رشيد رضا في العالم الإسلامي؛ وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: أثر المنار في مصر والهند. المطلب الثاني: مدرسة الدعوة والإرشاد. المطلب الثالث: مؤلفات رشيد رضا. المطلب الرابع: الكتابات حول رشيد رضا. المبحث السادس: وفاة الشيخ رشيد رضا. وأما الفصل الثالث، والذي كنت أود أن يكون باباً مستقلاً لدخوله دخولاً أولياً في الموضوع إذ يتناول "منهج رشيد رضا في الاستدلال وموقفه من علم الكلام" إلا أنني رأيت أن الالتزام بالخطة المقدمة أولى، وقد جاء هذا الفصل في خمسة مباحث: المبحث الأول: مصادر التلقي عند رشيد رضا؛ وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: القرآن الكريم. المطلب الثاني: السنة. المطلب الثالث: الإجماع. المطلب الرابع: الفطرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 المطلب الخامس: العقل. المبحث الثاني: قواعد الاستدلال عن رشيد رضا. المبحث الثالث: موقف رشيد رضا من علم الكلام؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: نشأة رشيد رضا الأولى على مذهب الأشعرية، وتحوله عنه. المطلب الثاني: مخالفة رشيد رضا للمتكلمين. المبحث الرابع: موقف رشيد رضا من شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته. المبحث الخامس: موارد رشيد رضا في العقيدة. وبانتهاء موارد رشيد رضا ينتهي الحديث عن منهجه في الاستدلال ويبدأ البحث في آرائه في مسائل العقيدة بالباب الأول الذي يحتوي على خمسة فصول: وعنوانه: منهج رشيد رضا في الإيمان بالله تعالى، وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: تعريف رشيد رضا للإيمان ومباحثه، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: تعريف الإيمان؛ وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الإيمان في اللغة. المطلب الثاني: تعريف الإيمان في الشرع. المطلب الثالث: أدلة أهل السنة على خصال الإيمان الثلاثة. المبحث الثاني: الصلة بين الإيمان والإسلام. المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه. المبحث الرابع: الكبائر؛ وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الكبيرة، وحكم مرتكبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المطلب الثاني: التجنس. المطلب الثالث: الحكم بغير ما أنزل الله. ثم الفصل الثاني: منهج رشيد رضا في إثبات الربوبية؛ وفيه مدخل وثلاثة مباحث: فالمدخل: في تقسيم التوحيد عند رشيد رضا. والمبحث الأول: تعريف الربوبية؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: معنى كلمة الرب في اللغة. المطلب الثاني: المعنى الشرعي لتوحيد الربوبية. المبحث الثاني: منهج رشيد رضا في أدلة معرفة الله تعالى؛ وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: الفطرة عند رشيد رضا. المطلب الثاني: النظر في الملكوت. المطلب الثالث: الرسل وآياتهم. المطلب الرابع: الاحتياط الواجب. المطلب الخامس: موقف رشيد رضا من مسألة حدوث العالم. المبحث الثالث: بدء الخلق. ثم الفصل الثالث: منهج رشيد رضا في إثبات الأسماء والصفات، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في إثبات الأسماء الحسنى؛ وفيه سبعة مطالب: المطلب الأول: موقف الناس من الأسماء الإلهية. المطلب الثاني: مسألة الاسم والمسمى. المطلب الثالث: مصادر معرفة أسماء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المطلب الرابع: عدد أسماء الله تعالى. المطلب الخامس: معنى إحصاء أسماء الله تعالى. المطلب السادس: اسم الله الأعظم. المطلب السابع: الإلحاد في أسماء الله تعالى. المبحث الثاني: في قواعد الصفات الإلهية؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: منهج السلف في الصفات وتقرير رشيد رضا له جملة. المطلب الثاني: موقف رشيد رضا من قواعد المتكلمين. المبحث الثالث: الصفات التي تكلم عنها رشيد رضا؛ وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: تقسيم الصفات. المطلب الثاني: صفات الذات العقلية. المطلب الثالث: صفات الفعل العقلية. المطلب الرابع: صفات الذات الخبرية. المطلب الخامس: صفات الفعل الخبرية. والفصل الرابع: منهج رشيد رضا في إثبات الألوهية ونفي الشرك والبدع، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: إثبات الألوهية؛ وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الإله. المطلب الثاني: العبادة. المطلب الثالث: بعض أنواع العبادة التي ذكرها رشيد رضا. المبحث الثاني: نفي الشرك ومظاهره؛ وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: تعريف الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المطلب الثاني: أقسام الشرك. المطلب الثالث: منشأ الشرك. المطلب الرابع: مفاسد الشرك ومساوئه. المطلب الخامس: مظاهر الشرك. المبحث الثالث: رفض البدع ومظاهرها؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: تعريف البدعة لغة وشرعاً. المطلب الثاني: مظاهر البدع التي تعرض لها الشيخ رشيد. والفصل الخامس والأخير: وفيه منهج رشيد رضا في إثبات القدر، وفيه أحد عشر مبحثاً: المبحث الأول: نشأة القدر ومواقف الناس فيه. المبحث الثاني: تعريف القدر لغة وشرعاً؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: تعريف القدر لغة. المطلب الثاني: تعريف القدر شرعاً. المبحث الثالث: بيان رشيد رضا لأركان القدر؛ وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: العلم. المطلب الثاني: الكتابة. المطلب الثالث: الإرادة. المطلب الرابع: الخلق. المبحث الرابع: القدر والأسباب. المبحث الخامس: الهدى والضلال. المبحث السادس: الحكمة والتعليل في أفعال لله تعالى. المبحث السابع: الحسن والقبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المبحث الثامن: الصلاح والأصلح. المبحث التاسع: العمر والرزق والدعاء. المبحث العاشر: الشرعيات والكونيات. المبحث الحادي عشر: الاحتجاج بالقدر. وبنهاية هذا الفصل ينتهي الباب الأول وهو أكبر أبواب البحث. ويليه الباب الثاني كما أنه يليه أيضاً في الحجم، وعنوانه: منهج رشيد رضا في الإيمان بالملائكة والكتب والرسل. وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: الإيمان بالملائكة وفيه مبحثان: المبحث الأول: الملائكة؛ وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: وجوب الإيمان بالملائكة جملة وتفصيلاً. المطلب الثاني: وظائف الملائكة وخصائصهم. المطلب الثالث: التفاضل بين الملائكة والأنبياء. المبحث الثاني: الجن والشياطين؛ وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: معنى الجن والشياطين. المطلب الثاني: رؤية الجن. المطلب الثالث: دخول الجن في جسم الإنسان. الفصل الثاني: الإيمان بالكتب، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: القرآن. المبحث الثاني: التوراة. المبحث الثالث: الإنجيل. الفصل الثالث: الإيمان بالرسل، وفيه عشرة مباحث: المبحث الأول: تعريف النبي والرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المبحث الثاني: الحاجة إلى الوحي والنبوة. المبحث الثالث: معنى الوحي وأنواعه وشبهة الوحي النفسي؛ وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الوحي. المطلب الثاني: الوحي النفسي. المطلب الثالث: الوحي والنبوة عند أهل الكتاب. المبحث الرابع: عدد الرسل. المبحث الخامس: صفات الرسل ووظائفهم؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: صفات الرسل. المطلب الثاني: وظيفة الرسل. المبحث السادس: عصمة الأنبياء؛ وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: تعريف العصمة. المطلب الثاني: بعض مسائل العصمة. المطلب الثالث: الأدلة العقلية والنقلية على ثبوت العصمة. المطلب الرابع: دفع شبهات حول العصمة. المطلب الخامس: عصمة الأنبياء عند أهل الكتاب. المبحث السابع: آيات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق الأشقياء؛ وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: تعريف الشيخ رشيد للآية والمعجزة. المطلب الثاني: أنواع الآيات. المطلب الثالث: كرامات الأولياء. المطلب الرابع: الفرق بين آيات الأنبياء وخوارق الأشقياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 المبحث الثامن: نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: حاجة العالم لبعثة خاتم المرسلين. المطلب الثاني: أدلة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. المبحث التاسع: منهج رشيد رضا في الصحابة. المبحث العاشر: الخلافة والإمامة؛ وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: تعريف الخلافة والإمامة. المطلب الثاني: طرق التولي. المطلب الثالث: وظيفة الإمام. المطلب الرابع: ما يخرج به الخليفة عن الإمامة. المطلب الخامس: تعدد الأئمة. الباب الثالث: منهج الشيخ محمد رشيد في الإيمان باليوم الآخر، وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: إثبات رشيد رضا لليوم الآخر، وفيه مبحثان: المبحث الأول: إثبات الشيخ رشيد لليوم الآخر جملة وحكمه. المبحث الثاني: الموت والبرزخ. الفصل الثاني: البعث وأدلته؛ وفيه مبحثان: المبحث الأول: أدلة البعث؛ وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: النشأة الأولى. المطلب الثاني: الاستدلال على البعث بالخلق. المطلب الثالث: المشاهدة. المطلب الرابع: قدرة الله. المبحث الثاني: البعث يكون بالجسد والروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الفصل الثالث: الساعة وأشراطها، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الساعة؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: تعريف الساعة لغة واصطلاحاً وشرعاً. المطلب الثاني: علم الساعة. المبحث الثاني: أشراط الساعة؛ وفيه مطلبان: المطلب الأول: موقف الشيخ رشيد من أشراط الساعة جملة. المطلب الثاني: موقف رشيد رضا من أشراط الساعة تفصيلاً. الفصل الرابع: الصور والموازين؛ وفيه مبحثان: المبحث الأول: الصور. المبحث الثاني: الموازين الفصل الخامس: الجنة والنار؛ وفيه مبحثان: المبحث الأول: الجنة ونعيمها. المبحث الثاني: النار وعذابها. ثم الخاتمة ـ ونسأل الله حسنها ـ وقد جعلت فيها نتائج البحث وأثبت فيها بعضاً من التوصيات، ثم ختمت الجميع بعدد من الأثبات: الأول: ثبت الآيات. الثاني: ثبت الأحاديث والآثار. الثالث: ثبت الأعلام. الرابع: ثبت المصادر والمراجع. الخامس: ثبت الموضوعات. أما بعد؛ فإن أستاذي الدكتور الشيخ محمد باكريم باعبد الله، قد بذل جهداً كبيراً طيلة ثلاث سنوات، وكنت أذهب إليه في كل مكان، في الكلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وعمادة المكتبات والبيت، حتى كنت ألاحقه في مواقف السيارات في المسجد النبوي، وكان يقابل هذا بالرضا والقبول وبذل ما يستطيعه من مساعدة ومشاورة، كما أنه قرأ بحثي هذا مرتين كاملتين على طول البحث وكثرة مشاغله، لذا فإنه لزاماً عليّ أن أنوه هنا بجهوده وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك له ذخراً في الآخرة. وأن يجعل من لسانه سيفاً يمحق به الباطل ويقيمه في الأواخر مقام سفيان في الأوائل. وإن أنسى فلا أنسى أن أتقدم بالشكر والتقدير لجميع أساتذتي الذين أعدوني وزملائي في السنة المنهجية، وعلى رأسهم الشيخ الرئيس صالح بن سعد السحيمي. كما أشكر فضيلة عميد كلية الدعوة الشيخ الدكتور عبيداً السحيمي الذي قدم لي كل معاونة طلبتها، وأشكر جميع عمداء الجامعة الإسلامية، حرسها الله تعالى، وأبقاها لخدمة الدين والعلم، كما أتقدم بالشكر إلى أصحاب الفضيلة أعضاء لجنة المناقشة الذين تجشموا عناء القراءة والتصحيح فشكر الله لهم. ثم أما بعد؛ فإني أشكر الله تعالى من قبل ومن بعد أن وفقني لدراسة علوم الدين والعقيدة السلفية خصوصاً، فالحمد الله أولاً وآخراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 تمهيد : لا نستطيع أن نتناول بحث عقيدة أو فكر إنسان دونما نظر إلى الظروف والأحوال التي لا بست نشأته وحياته، إذ أن ذلك على الأقل سيفسر لنا كثيراً من الآراء التي تبناها والمواقف التي اتخذها حيال قضايا ومسائل بعينها. إن الإنسان لا يستطيع أن ينمو بمعزل عمن حوله، ولا بد أن يتأثر بالبيئة والظروف التي نشأ فيها، إما إيجاباً بأن يخضع لها ويسير في اتجاه ريحها، أو سلباً بأن يرفضها ويتخذ منها موقفاً معارضاً، راغباً في إصلاحها. لذلك فإنني سأتحدث فيما يلي عن الحالة السياسية في الفترة التي عاش فيها الشيخ رشيد، وكذلك الحالة العلمية والدينية، غير أني سأقتصر في هاتين الأخيرتين على الحديث عن مصر والشام فقط، حيث إن الشيخ رشيد لم يعش إلا فيهما. ولم يتأثر علمياً ودينياً إلا بالحالة العامة فيهما. أما السياسية فلا بد أن أحوال الدولة العثمانية السياسية قد أثرت في هاتين الولايتين فكان لا بد من إضافة مطلب ثالث للحديث عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 * الفصل الأول: دراسة لعصر رشيد رضا المبحث الأول: الحياة السياسية تمهيد ... تمهيد: عاش الشيخ رشيد بين 1282هـ = 1865م، و1354هـ. =1935م. أي أنه عاش بين نهاية القرن الثالث عشر إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري = الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي. وأود فيما يلي إلقاء نظرة على الحالة السياسية في الفترة التي عاشها الشيخ رشيد، ويقتضي ذلك الحديث عن الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة التي كانت الشام ـ موطن الشيخ رشيد الأول ـ خاضعة لها، وبالتالي الحديث عن الشام نفسها، ثم الحديث عن مصر ـ الموطن الأخير للشيخ رشيد ـ والتي قضى فيها جل عمره، ولم يُعرف الشيخ رشيد رضا إلا فيها، وهناك ووري في ترابها. فإذا سينقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب: الأول: أتحدث فيه عن الدولة العثمانية، والثاني: عن مصر، والثالث عن الشام، وسيكون الحديث في ذلك كله متناسباً مع الفترة التي عاشها الشيخ رشيد في هذه الأماكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 المطلب الأول: الحياة السياسية في الدولة العثمانية : عندما استولت الدولة العثمانية على البلاد العربية كانت قد وصلت إلى أوج قوتها، وأقصى حدود اتساعها. وبلغت ذروة مجدها. فإن طور "الاستيلاء والتوسع" في هذه الدولة قد بلغ مداه في عهد السلطان العاشر: "سليمان القانوني" 1 أو كما يسميه الأوربيون: "سليمان العظيم" 2. إذ كانت الدولة العلية في عهده قد شملت شبه جزيرة مورة مع جميع بلاد البلقان وسارابيا والقرم، كما ضمت معظم أقسام المجر ووصلت إلى أسوار فيينا 3. ويبدو أن الدولة العثمانية، أو الدولة العلية كانت قد انقطعت أنفاسها عندما وصلت إلى أسوار فيينا، فلم تتوسع حدود الدولة بعد ذلك توسعاً يذكر، بل أخذت تتقلص وتتراجع شيئاً فشيئاً 4. وصارت الدولة تفقد البلاد العربية الواحدة بعد الأخرى وفي تواريخ مختلفة. فلقد استولت فرنسا على الجزائر سنة 1830م. واستولت انجلترا على عدن 1839م. وبعد نحو أربعين عاماً احتلت فرنسا تونس 1881م. واحتلت إنجلترا مصر سنة 1882م. 5 وبعد ثلاثة عقود استولت إيطاليا على طرابلس الغرب سنة 1912م. وفي الأخير خرجت بقية البلاد العربية من حوزة الدولة العثمانية   1 انظر ترجمته عند: إبراهيم حليم: تاريخ الدولة العثمانية (ص 87) ط. مؤسسة الكتب الثقافية، ط1. وانظر محمود شاكر: التاريخ الإسلامي، ط. المكتب الإسلامي (8/104) ، وأحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي (5/ 658) . وبروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ط. دار العلم للملايين، الخامسة، سنة 1968م. (ص450) . 2 انظر: بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية (ص457) . 3 انظر: ساطع الحصري: الدول العربية والدولة العثمانية، ط. دار العلم للملايين، بيروت (ص11ـ 12) . 4 ساطع الحصري: المصدر نفسه (ص11) . 5 المصدر نفسه: الصفحة نفسها. وانظر تفاصيل احتلال مصر: عند: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة، ط. مطبعة الهلال، الثانية 1925م. (من ص236 إلى ص 274) ، وبتفصيل أكبر: عبد الرحمن الرافعي: الثورة العرابية، ط. دار المعارف ـ مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 خلال الحرب العالمية الأولى التي امتدت من 1914م. ـ 1918م. 1. وبدأت أحوال الدولة تسير في الانحطاط ـ كما ذكرت ـ وبدءاً من عهد سليمان القانوني في أواخر القرن السادس عشر فقد بدأ الاختلال في أمور الدولة، أول ما بدأ باختلال نظام الانكشارية 2 الذي تحول في آخر الأمر إلى آلة فوضى وفساد 3. وتبع ذلك فساد أمور الإدارة بوجه عام، وضعفت لذلك الحكومة المركزية 4. وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا النظام إلى نتائج سيئة لأنه يفسح المجال أمام الولاة ومطامعهم 5. فالحكومة المركزية تميل أحياناً إلى استرضاء الوالي وتبقيه في منصبه تحت بعض الشروط، وتجنح أحياناً إلى الشدة وتأمر ولاة الولايات المجاورة بإرسال حملات عسكرية لتأديبه وإخضاعه لأوامر السلطنة. والوالي الذي ينجح في الحركة التأديبية بناء على أوامر السلطة كثيراً ما يطلب مكافأة له على عمله، إما بإقطاعه بعض المقاطعات الغنية وإما بتولية أحد أبنائه أو أقربائه 6. إن الوقائع التي حدثت في مصر في عهد محمد علي باشا كانت دليلاً على الحالة التي وصلت إليها "الدولة العلية"، ولا يمكن أن نفهم تلك الأحداث على حقيقتها ما لم تؤخذ بنظر الاعتبار حالة الدولة العلية يومئذ.   1 انظر: ساطع الحصري: مصدر سابق (ص9ـ 10) ، وأحمد شلبي: مصدر سابق (5/ 697) وما = = بعدها. 2 هم جند أنشأه العثمانيون على شكل خاص وأكثرهم من أصل مسيحي، من غلمان البلاد المفتوحة الذين فقدوا آباءهم فربوهم تربية إسلامية وعسكرية، ليكونوا لهم جنداً ليس لهم عصبية جنسية ولا دينية. وكان لهذه الفرقة تقسيم وتنظيم خاص، ليس له مثيل. انظر: جورجي زيدان: مصر العثمانية (ص: 65ـ 66) ط. دار الهلال، ت: محمد حرب. 3 انظر: بروكلمان: مرجع سابق (ص 539) . ومحمود شاكر: مرجع سابق (8/112ـ 113) ، وساطع الحصري: مرجع سابق (ص:47) . 4 ساطع الحصري: مرجع سابق (ص 48) . 5 نفس المصدر (ص49) ، ومحمود شاكر: مصدر سابق (8/121) . 6 كما في حالة محمد علي: انظر: جورجي زيدان: تاريخ مصر (ص160) ، وقطاوي: "محمد علي وأوروبا" ط. دار المعارف، مصر. (ص193وص:78) . ومحمد حرب: السلطان عبد الحميد الثاني (ص22ـ 23) دار القلم ـ دمشق. ط1، 1410هـ. =1990م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ففي منتصف القرن الثاني عشر الهجري = بدايات القرن السابع عشر الميلادي كانت حالة الدولة العثمانية قد بلغت أشد حالات فسادها بينما كانت أوروبا تتقدم في كل النواحي المدنية،. لذلك قام بعض المفكرين العثمانيين بالقول بضرورة الاستفادة من التقدم الغربي الأوروبي، لضمان المحافظة على وحدة الدولة العثمانية وعلى دوامها واستمرارها. ومن ثم أصبحت البلاد أمام بداية حركة إصلاحية تستلهم الغرب. وأول حركة إصلاحية بهذا المفهوم كانت في عهد السلطان "أحمد الثالث" 1. ويشكل هذا العهد ـ بحركته الإصلاحية ـ ابتداء نفوذ الثقافة الغربية في الدولة العثمانية. وأخذت الدول الأوروبية تكتسب في بلاد المسلمين ميادين للعلاقات الثقافية بجانب علاقاتها السياسية بالدولة 2. لذلك أخذت الدولة بإرسال السفراء إلى باريس وفيينا بقصد التعرف على أوروبة 3. وتوالت محاولات السلاطين الإصلاحية في الدولة العثمانية، غير أن تشخيص المرض لم يكن صحيحاً، فلذلك لم يكن الدواء ناجعاً. لقد كان تشخيص رجال الدولة للفساد الحاصل على المستوى الثقافي والديني والسياسي، خاطئاً من الأساس، إن كل ما ساد تصوره وقتها إن الدولة العثمانية تهزم في الحروب، إذن فالوسيلة الوحيدة لإعادة البنيان تكمن ـ فقط ـ في إقامة جيش قوي 4. لقد قام هذا الجيش ـ نفسه ـ بالتمرد على السلطان نتيجة إنشائه " جيشاً قوياً جديداً على النظام الأوروبي" 5. وبقيت أحوال الدولة هكذا تتدهور من سيء إلى أسوأ، وحتى جاء عبد الحميد الثاني وحاول أن يصنع شيئاً، أخر به سقوط الدولة ثلاثين عاماً 6.   1 انظر: ترجمته عند: إبراهيم حليم: الدولة العثمانية (ص158) وما بعدها، وانظر حركته الإصلاحية، عند: محمد حرب: السلطان عبد الحميد الثاني (ص17) . 2 انظر: محمد حرب: مرجع سابق (ص17) . 3 المصدر السابق: نفس الصفحة. 4 انظر: محمد حرب: مرجع سابق (ص20) . 5 انظر: إبراهيم حليم: الدولة العثمانية (ص195) وما بعدها. ومحمد حرب: مرجع سابق (ص21) . 6 انظر تفاصيل عمل عبد الحميد: عبد الحميد: مذكراتي السياسية (ص5ـ 7) . مقدمة محمد حرب، ط. مؤسسة الرسالة، الخامسة، 1406هـ. وترجمته هناك (ص11) ، ومحمد حرب: السلطان عبد الحميد (ص105) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 إن المرض الحقيقي للدولة العلية لم يكن في جيشها الضعيف، ولكن كان في دينها، لقد استشرت العقيدة الماتريدية 1، في جسد الدولة وكذلك الأشعرية، والتي تعتبر الإنسان مجبوراً على عمله، ليس له فيه اختيار 2، كما أنها تعتبر العمل ليس شرطاً في الإيمان مما يدعو المسلم إلى الركون إلى الأماني الكاذبة والأوهام البالية. كما أصيبت الدولة العلية كذلك بداء الصوفية، التي تغلغلت في أرجاء الدولة حتى وصلت إلى رأس الدولة العلية 3. ولا ننكر أن يكون للأدواء الأخرى أثرها، إلا أننا نقول: إن هذا الداء هو أصل كل البلايا التي حلت بالدولة، وما بعده تبع له. وللأسف لم يلتفت أحدٌ للصوت الذي نادى باستلهام الشريعة في الإصلاحات الجديدة، فذهبت كل الإصلاحات أدراج الرياح.   1 نسبة إلى أبي منصور الماتريدي: انظر: بروكلمان: تاريخ الأدب العربي (4/41ـ 43) ، ط. دار المعارف ـ مصر. وطاش كبرى زاده: مفتاح السعادة (2/151ـ 152) ط. دار الكتب الحديثة، مصر. 2 سيأتي الكلام على هذه المسائل في موضعها إن شاء الله تعالى 3 انظر: عبد الحميد الثاني: مذكراتي (ص306/ حاشية) ، ومحمد حرب: السلطان عبد الحميد (ص90) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المطلب الثاني: الحياة السياسية في مصر تعتبر مصر الحديثة ابنة " محمد علي" 4 وأسرته. وقد عاش الشيخ رشيد في مصر في ظل حكم هذه الأسرة. لذا يحسن ـ ونحن نعرض للحالة السياسية في عصر الشيخ رشيد ـ أن نتناول "مصر الحديثة"، ولو بشيء من الاختصار. مصر بعد الحملة الفرنسية وارتقاء محمد علي لعرشها: كانت أحوال مصر وظروفها بعد خروج الحملة الفرنسية منها مجالاً   4 انظر ترجمته: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة (ص149) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يستطيع أن يقتحمه كل مغامر. لقد وجدت ثلاث قوى كلها تحاول السيطرة على مصر بعد الفرنسيين، هم: الأتراك، والمماليك والإنجليز 1. لقد هبط "محمد علي" على مصر مع الجيوش الإنجليزية والتركية التي حشدت لمنازلة "بونابرت" وإخراجه من مصر 2. وكان "محمد علي" جندياً ألبانياً عسكرياً بحتاً، وكان مع ذلك أمياً لا يحسن الكتابة 3. لقد أعجب منذ نعومة أظفاره بأوروبة وخاصة فرنسا أيما إعجاب، وتأثر بها أعمق تأثير، ولقد ولد وعاش فترة طويلة قبل مجيئه إلى مصر قريباً من هذه الحضارة الجديدة 4. لقد أحسن محمد علي استغلال الظروف التي مرت بها مصر بعد خروج بونابرت وحملته واستطاع بذكاء أن يصل إلى كرسي مصر وعرشها 5. وإذا قيل: إنه كان عبقرياً حين استطاع أن يصل إلى عرش مصر وخزائنها فلزاماً أن يقال: أيضاً: إن استطاعته الاستمرار في الحكم والانفراد به أدل على تمتعه بعبقرية وشخصية ذكية وتفوق ذاتي 6. لقد تخلص محمد علي من المماليك الذين كانوا دائماً مصدراً ومثاراً لكثير من الفتن، وكم أقضوا مضجع الوالي الجديد. كما أنه تخلص من العلماء الذي تزعموا الشعب المصري، وحملوا "محمدَ علي" إلى كرسي عرش مصر فصار عزيزاً لها 7.   1 انظر تفصيل هذه الأحوال: بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية (ص542) . ومحمود الشرقاوي: مصر في القرن الثامن عشر، ط. الانجلو مصرية (3/151) ، وأحمد شلبي: التاريخ الإسلامي (5/350) وما بعدها. 2 قطاوي: محمد علي وأوروبا (ص:20) . 3 انظر: جورجي زيدان: مصر الحديثة (ص199) ، وكرد علي: الإسلام والحضارة العربية (ص373) ط لجنة التأليف، الثالثة 1968م القاهرة. 4 انظر: قطاوي: محمد على وأوروبا (ص27) . 5 انظر هذه الملابسات: عبد الرحمن الرافعي: الحملة الفرنسية (ص9) وما بعدها. ط. نهضة مصر، الرابعة، 1381هـ. 6 قطاوي: "محمد علي وأوروبا" (ص193) . 7 انظر: جورجي زيدان: مصر الحديثة (ص160) وما بعدها. وأحمد شلبي: التاريخ الإسلامي (5/352) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 كما إنه تقرب من فرنسا وإنجلترا ليتحرر من الوصاية العثمانية 1. وقدم خدماته للدولة في اليونان 2 ونجد 3. لكنه سرعان ما تعدى على سيادتها وسبب لها حرجاً شديداً عندما هاجم سوريا وبقي حاكماً عليها بالقوة تسع سنوات إلى أن أخرجته الدول الغربية بعد استغاثة الدولة العثمانية بها4. وبناء على معاهدة سنة 1840م. صار لمحمد علي وأبنائه حكم مصر وراثياً بموجب "خط شريف" من السلطان العثماني 5. محمد علي وبناء الدولة الحديثة: وبينما كان السلطان "محمود" 6 لا يزال منهمكاً في العمل على زيادة فعالية الدولة من طريق الإصلاحات ولكن من غير طائل، كان تابعه المصري "محمد علي" قد سبقه في هذا السبيل سبقاً بعيداً، لكنه أيضاً مضى في ذلك مستلهماً الحضارة الغربية الحديثة. اهتم "محمد علي" اهتماماً كبيراً بأن يجعل مصر دولة حديثة تلحق بركب التقدم الأوروبي الذي كان "محمد علي" على صلة بنهضته واتجه أول ما اتجه نحو الجيش معتمداً فيه على ضابط فرنسي بقي من حملة بونابرت 7. وفي عهده حدثت مجموعة كبيرة من الإصلاحات الزراعية فأنشأ السدود   1 قطاوي: مرجع سابق (ص61) ، وبروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية (ص546) . 2 انظر: قطاوي: مرجع سابق (ص78) . وعبد الرحمن زكي: التاريخ الحربي لعصر محمد علي (43ـ 89) ط. دار المعارف، 1369هـ. 3 انظر: جورجي زيدان: تاريخ مصر (ص157) وما بعدها. وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/362) ، وآراء أخرى: سليمان بن محمد الغنام: قراءة جديدة في حروب محمد علي التوسعية، ط. الكتاب = = العربي السعودي، ط. أولى سنة 1400هـ (ص5) وما بعدها. 4 انظر التفاصيل: بروكلمان: المرجع السابق (ص546) وما بعدها. 5 انظر هذا الخط الشريف عند: جورجي زيدان: مصر الحديثة (ص 172) ، وانظر أيضاً: د. محمد فؤاد شكري: مصر والسودان (ص15) وما بعدها. ط. دار المعارف، مصر 1958م. 6 انظر ترجمته: إبراهيم حليم: الدولة العثمانية (ص 207) . 7 انظر جورجي زيدان: مرجع سابق (ص184) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والقناطر وحفر الترع، وأدخل محاصيل جديدة لم تكن من قبل كالقطن، والذي أصبح بعد ذلك ذا شهرة عالمية. وفي مجال الصناعة أدخل صناعات هامة، فبالإضافة إلى مصانع الأسلحة كان هناك مصانع الغزل والنسيج ومصانع سبك الحديد، ومصانع السكر والورق والصابون والزجاج 1. وأرسل أول بعثة مصرية إلى فرنسا وكانت تتكون من أربعين شاباً من الأتراك والمصريين، زاد عددهم فيما بعد، ولما عاد أعضاء البعثة اعتمد عليهم محمد علي وأحلهم محل الأجانب ومضى أبناؤه من بعده على ذلك في الاهتمام بأمر مصر التي أضحت ملكاً لهم. وحتى وصل الأمر إلى حفيده: "إسماعيل" 2 بن إبراهيم الذي كان يقول: " إن بلادي ليست من أفريقيا بل هي جزء من أوروبا" 3. ولم يشذ عن هذا الخط من أبناء محمد علي إلا خليفته وابن ابنه الأكبر "طوسون" والذي ولي بعد وفاة إبراهيم باشا: وهو عباس باشا الأول 4. لقد كان هذا الرجل قد تربى تربية دينية شرقية وعرف عنه بغضه للفرنساويين وبلغ به الأمر إلى أن عمل على إيقاف إيفاد البعثات إلى فرنسا واتخذه الأوربيون عموماً ـ ولا سيما في فرنسا ـ التي كانت تعرف بغضه لها ـ هدفاً لسهامهم. لذلك يقول عنه بروكلمان: " إنه كان مسلماً متعصباً يزدري التربية الأوروبية ازدراءً بعيداً 5. ويتهمه بأنه كان طاغية 6، والحق أنه كان متديناً تقياً. وندلل على ذلك بحادثين: الأول قبل ولا يته: فقد   1 انظر تفاصيل إصلاحات محمد علي: جورجي زيدان: مرجع سابق (ص168ـ 197) . وقطاوي: محمد على وأوروبا (ص197 و202) . 2 انظر ترجمته: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة (ص:204) 3 انظر: قطاوي: محمد علي وأوروبة (ص 27) . 4 انظر: جورجي زيدان، مصدر سابق (ص:201) والزركلي: الأعلام (3/ 261) . 5 تاريخ الشعوب الإسلامية (ص566) . 6 المصدر السابق (ص575) ، ويسخر منه: إلياس الأيوبي: انظر: مصر في عهد إسماعيل (1/ 182ـ 183و 230) ط. دار الكتب المصرية، سنة 1341هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 استطاع عباس الأول محافظ مصر آنذاك لجده "محمد علي" أن يخرج الوهابيين 1 من أبناء ابن سعود والذين سجنهم محمد علي في القلعة بحيلة دبرها، ولم يستطع الجنود أن يخبروا "محمد علي" إلا بعد ثلاثة أيام خوفاً منه، ولكنه على كل حال لم يفعل شيئاً لأنه كان يثق بعباس 2. ومنذ ذلك الحين صار عباس صديقاً حميماً لفيصل بن سعود إلى نهاية حياتهما 3. ولا ريب أن انتشار أئمة الدعوة في مصر كان له الفضل الأكبر في سريان عقيدة التوحيد هناك، ولا سيما أن هؤلاء "الوهابيين" كانوا طلبة علم، فالتحقوا بالأزهر ودرسوا فيه ودرسوا ... وكان عباس الأول هو الوحيد من أولاد محمد علي الذي كان يتردد إلى المساجد في شهر رمضان لاستماع الدروس والمواعظ الدينية 4. وفي أيام عباس باشا لم يكن أحد يستطيع أن يسير في الشوارع وقت الصلاة وإلا تعرض لسياط "الشاويشية" الأتراك، جنود عباس 5. وفيما عدا عباس كان أبناء محمد علي جميعاً يميلون إلى أبيهم "محمد علي الكبير" ويتبعون سياسته في الحكم مائلين إلى الغرب. وبعد عباس الأول تولى عرش مصر محمد سعيد باشا 6 بن محمد علي، الذي وقع اتفاق حفر قناة السويس مع الفرنسيين، وقد كان في بنود   1 لقد عرف أئمة الدعوة ـ رحهمهم الله ـ بهذا اللقب خارج بلادهم واشتهروا به بسبب نبز خصوم الدعوة لهم به، وإلا فإن هذه الدعوة لا تنسب إلا إلى صاحبها صلى الله عليه وسلم فهي ليست مذهباً لهم يصح نسبتها إليهم. وانظر مجلة المنار (32/ 685) . 2 انظر تفاصيل تلك الحادثة: الأمير محمد علي: مجموعة خطابات عباس الأول (ص5) . 3 المصدر السابق (ص5ـ 6) ، وانظر ابن بشر: عنوان المجد، ط. مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. (1/215) . وفيصل، هو: ابن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود. انظر: ابن بشر: عنوان المجد (2/ 84) 4 الأمير محمد علي: مجموعة خطابات عباس الأول (ص: 4) 5 المصدر نفسه (ص6) . 6 انظر ترجمته: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة (ص: 203) ، والزركلي الأعلام (6/ 140ـ 141) ط. دار العلم للملايين بيروت، الثانية عشرة 1997م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 هذا الاتفاق شروط مجحفة بمصر والمصريين 1، إلا أن إسماعيل باشا أو إسماعيل العظيم كما يسميه الأوروبيون 2، والذي كان أكبر الناس شبهاً بجده في سياسته استطاع أن يعدل هذه الشروط ويتخلص من الإجحاف 3. ولقد كانت جهود إسماعيل باشا لرفع شأن بلاده في مضمار الحضارة موفقة أيضاً، فقد اهتم اهتماماً بالغاً بتنمية مصر من كافة الجهات، فخدم الزراعة والصناعة والتعليم بما لم يفعله أحد قبله، ولقد أصبح القطن المصري أو الذهب الأبيض ذا شهرة عالمية لا سيما بعد توقف أميركا عن إنتاجه بسبب الحرب الأهلية هناك، فارتفع سعر القطن المصري الذي توسع في زراعته جداً، فأصبح مصدر خير كبير لمصر، استمر إلى يومنا هذا 4، ولكنه كان متعجلاً في خطته، فأسرع إلى تنفيذها، وتوسع في الاقتراض معتمداً على "الذهب الأبيض" الذي ما لبث أن انخفض سعره بسبب توقف الحرب الأهلية في أميركا وعودة القطن الأميركي إلى السوق 5، وبدأت الأزمة المالية تشتد، وحاول إسماعيل الخروج منها بكل سبيل حتى باع أملاكه وأملاك أسرته، إلا أن أوروبا لم تشأ أن تمكنه من ذلك فعملت على خلعه ونجحت في ذلك. وفي عهد ابنه توفيق استغلت إنجلترا حماقة أحد ضباط الجيش المصري واحتلت مصر بجيوشها، ومن ذلك الحين أصبح في مصر حاكمان: أحدهما شرعي هو: الخديوي، والآخر فعلي هو: إنجلترا 6.   1 انظر هذه الشروط: د. محمد صالح منسي: مشروع قناة السويس (ص: 202) وما بعدها، وانظر: الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي: السخرة في حفر قناة السويس، ط. منشأة المعارف، الإسكندرية. 2 انظر: قطاوي: مصدر سابق (ص: 17) ، وبروكلمان: تاريخ الشعوب (ص: 577) 3 انظر: الأيوبي: مصدر سابق (1/ 325) 4 انظر: تفصيل جهود إسماعيل عند الأيوبي: مصدر سابق (1/ 86 ـ 254) 5 انظر: الأيوبي: مصدر سابق (2/ 254) وما بعدها. 6 انظر تفاصيل ذلك: الرافعي: الثورة العرابية، ط. دار المعارف، مصر (ص: 329) وما بعدها، وزيدان: مصدر سابق (ص:236) وما بعدها، وبروكلمان: تاريخ الشعوب (ص:736) ، ومحمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص: 90) ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى، 1399هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ولم تفلح محاولات " عباس الثاني" 1 ابن محمد توفيق في أن يقيد سلطة إنجلترا، ولأنه كان وطنياً صادقاً متحالفاً مع الشعب المصري ضد إنجلترا وموالياً للسلطان العثماني، لم يكن أمام بريطانيا بعد قيام الحرب العالمية الأولى إلاّ أن تقيله وتستبدل به "السلطان حسين كامل" 2 وبذلك انقطعت كل علاقة لمصر مع الدولة العثمانية وأصبحت مصر مملكة واقعة تحت سيطرة التاج البريطاني. ثم في عهد أحمد فؤاد الأول خرجت انجلترا جزئياً ثم خرجت نهائياً في عهد الجمهورية. وكان آخر من حكم مصر من أسرة محمد علي هو "أحمد فؤاد الثاني" 3. لقد أصبحت مصر في عهد أسرة "محمد علي" امبراطورية تمتد من البحر المتوسط شمالاً إلى أربع درجات جنوب خط الاستواء، وضمت أريتريا والصومال وهرر في الحبشة، ومن سواحل البحر الأحمر إلى شرق بحيرة تشاد غرباً، وتم لمصر الاستيلاء على نهر النيل من منبعه إلى مصبه، وأصبح في قبضتها هذا النهر السعيد الذي عليه مدار الحياة في البلاد 4. ومن الناحية الاقتصادية أصبحت مصر دولة غنية بسبب زراعة "إسماعيل" للقطن المصري والتي كانت أبعد أثراً من شق قناة السويس نفسها، وبحفر هذه القناة زادت مكانة مصر وأهميتها العالمية 5.   1 انظر ترجمته عند: جورجي زيدان (ص: 335) والزركلي: الأعلام (3/ 260ـ 261) وانظر: الرافعي: مصطفى كامل (ص: 320 ـ343) ط. دار المعارف، مصر. 2 انظر: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (18/ 53) وما بعدها. 3 انظر: محمد حسين هيكل: مذكرات في السياسة المصرية (2/ 319ـ 320) ط. دار المعارف، = = مصر. 4 انظر: عمر طوسون: مديرية خط الاستواء (3/ 218) ط. مطبعة العدل، إسكندرية، سنة 1355هـ، ومحمد صبري: مصر في أفريقية الشرقية (ص:13) ، ط. مطبعة مصر ومكتبتها، 1939هـ. 5 انظر: بروكلمان: تاريخ الشعوب (ص: 576) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المطلب الثالث: الحياة السياسية في الشام : كانت بلاد الشام على عهد المماليك مقسمة إلى ست "نيابات" هي: نيابة حلب، وحماة، وطرابلس، وصفد، والكرك، فعبارة "بلاد الشام" في عصر المماليك تشمل ما يسمى اليوم بالجمهورية العربية السورية، ولبنان، وفلسطين والأردن بالإضافة إلى المناطق التي تقع بين خط الحدود الحالي مع تركيا وبين سفوح جبال طوروس والتي اغتصبتها تركيا من سوريا إبان الاستعمار الفرنسي 1، وقد أبقى الأتراك الدوائر النيابية في الشام على نحو ما كانت عليه على عهد المماليك ولكنهم بدلوا بعض الشيء في نظام التسمية فدعيت النيابة ولاية أو إيالة وأصبح الحاكم يسمى الوالي بدل النائب 2. ثم اندمجت هذه الولايات بعضها في بعض عقب الحركة الاستقلالية التي قادها الغزالي 3 فأصبحت ولايات الشام ثلاث: هي ولاية دمشق وحلب طرابلس، ثم صارت صيدا ولاية سنة 1660 لتكون مركزاً للرقابة على لبنان 4. الولاة: لم تفز سوريا أو "الشام" بولاياتها، بمثل ما فازت به أختها مصر من الحكم الذاتي شبه الاستقلالي، بل بقيت من الفتح العثماني تسير من سيء إلى أسوأ، وتعاقب تبدل الولاة عليها، والسعيد منهم من كان يحول عليه الحول، وأكثرهم يقيمون فيها أشهراً ثم يصرفون ويستبدل غيرهم بهم.   1 انظر: أكرم حسن العلبي: دمشق بين عصر المماليك والعثمانيين (ص:24ـ25) ط. المؤسسة المتحدة للتوزيع: الأولى: 1982م =1402هـ. وأحمد شلبي: التاريخ الإسلامي (5/494) . 2 انظر: ساطع الحصري: البلاد العربية (ص: 230) ، وأحمد شلبي: التاريخ الإسلامي (5/494) . 3 انظر تفاصيل ذلك: أحمد شلبي: المرجع السابق (5/503) . 4 المصدر السابق (5/494) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وكانت الولاية منصباً رسمياً للباشا. إذ لم يكن هناك مماليك كأولئك الذين كانوا في مصر ينازعون الباشا سلطانه أو ينغصون عليه عيشه، ثم إن قرب سوريا من تركية ضمن للولاة الباشوات نوعاً من الهيبة. ومن هنا كان تكالب الولاة على سوريا ملحوظاً، وكان الطامعون في الولاية مستعدين أن يدفعوا رشوة باهظة لينالوها، فكثر بذلك عدد الولاة في كل ولايات سوريا إذ بلغ عددهم في ولاية دمشق 133والياً خلال السنين المائة والأربع والثمانين التي ابتدأت بالفتح العثماني 1. الامتيازات وتقسيم الشام: تقدمت فرنسا إلى الدولة العثمانية ـ وهي في أوج قوتها ـ باسم الصداقة والدبلوماسية تطلب مركزاً لرعاياها داخل الدولة العلية يمتاز عن رعايا باقي الدول وقد نجحت في ذلك فحصلت سنة 1535 على هذا الامتياز، وما إن حصلت فرنسا على هذا الحق حتى حصلت روسيا على حق مثيل له بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس 2. وكانت أوروبا تنتهز الفرص من حين لآخر لتحصل على مزيد من الامتيازات للمسيحيين وبالتالي مزيد من حقوق التدخل باسم حمايتهم. ونتيجة لذلك برز الموارنة في لبنان مؤيدين بفرنسا ووقف الدروز مؤيدين بإنجلترا وقامت فتن وثورات 3. وفي عام 1864 ونتيجة لتوالي الفتن والتدخل الأوروبي انفصلت لبنان رسمياً عن الدولة العثمانية وسوريا وظلت كذلك حتى قيام الحرب العالمية الأولى4. وبعد الحرب العالمية الأولى حصلت فرنسا على حق الانتداب على   1 انظر: محمد كرد علي: خطط الشام (2/235) ، ط. دار العلم للملايين، بيروت، الثالثة، 1403هـ. وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/492) . 2 انظر: أحمد شلبي: المرجع السابق (5/495) وما بعدها. 3 انظر: محمود شاكر: التاريخ الإسلامي (8/181) ، وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/497) ، ومحمد كرد علي: خطط الشام (3/107) . 4 انظر: أحمد شلبي: مرجع سابق (5/499) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 سوريا ولبنان وانتزعت أجزاء من سوريا وضمّت إلى لبنان باسم "لبنان الكبير" 1، ثم تلا ذلك تقسيم آخر في ظل هذا الانتداب هو انتزاع فلسطين من سوريا وإخضاعها للانتداب الإنجليزي بناء على ما قرره مؤتمر سان ريمو في إبريل 1920 ونص في صك الانتداب على أن تعمل إنجلترا لتحقيق وعد بلفور بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود 2.   1 انظر: بروكلمان: تاريخ الشعوب (ص:762ـ 763) ، وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/499ـ500) . 2 انظر: بروكلمان: مرجع سابق (ص:759 وص:768) وما بعدها، وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/500) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المبحث الثاني: الحالة العلمية المطلب الأول: الحياة العلمية في مصر ... المبحث الثاني: الحالة العلمية: لا يعنينا أن نتطرق لجميع مظاهر هذه الحياة، لأنه موضوع طويل، وإنما أريد أن أعطي صورة عامة موجزة عن الحالة العلمية والثقافية في مصر والشام وهما القطران اللذان أمضى الشيخ رشيد فيهما حياته. المطلب الأول: الحياة العلمية في مصر: شهدت مصر في عهد محمد علي وأسرته نهضة علمية وثقافية كبرى، ولئن كان التعليم في عهد محمد علي هو تعليم لا من أجل التعليم، ولكن تعليم من أجل "الجيش القوي" إلا أنه على كل حال قد نفع نفعاً كبيراً. فإنه قد وجد طريقاً إلى المدارس التي أنشئت من حربية وصناعية وهندسية وطبية، وكان لا بد للمصريين أن يحسنوا اللغات الأجنبية ليفهموا عنهم فوجدت الحاجة إلى مدرسة الألسن وإلى بعوث ترسل إلى الغرب، وأنشئ في أثناء ذلك كثير من المدارس الابتدائية والثانوية. البعثات 1:   كان غرض محمد علي من هذه البعثات تخريج شبان في الفنون 1 يجب الاحتراز دائماً من مثل هذه البعثات فلربما كان إثمها أكبر من نفعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لعسكرية والاقتصاد والميكانيكا والطب والتعدين والترجمة. ففي سنة 1826 أرسل إلى فرنسا أول بعثة تعليمية أرسلت إليها وكانت مؤلفة من أربعين شاباً، معظمهم من تلامذة "القصر العيني" وبعضهم من طلبة مدرسة الطب وأمرهم بتعلم الفنون العسكرية والقوانين الإدارية والهندسة المدنية والحربية ولقد نجحت هذه البعثة نجاحاً كبيراً حمل محمد علي على إرسال نيف ومائة طالباً إلى باريس وعلى إبطال البعثات التي كان يرسلها قبل إلى إيطاليا وإنجلترا، والبلاد الأخرى 1. وفي عهد "إسماعيل" الذي عني بالبعوث فاختار مجموعة من الشبان أوفدهم إلى فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وغيرها لدراسة الطب والهندسة والقانون والفنون الجميلة وبلغ عدد أعضاء البعوث في عهده مائتي شخص. فسار "إسماعيل" على نهج جده في ذلك 2. المدارس: أنشأ "محمد علي" بمصر مجموعة من المدارس العليا مثل مدرسة الطب التي أنشأها "كلوت بك" 3، ومدرسة الهندسة ومدرسة الصيدلة ومدرسة الزراعة ومدرسة الألسن والمدارس الحربية المختلفة. كما أنشأ عدداً من المدارس الابتدائية والثانوية، كما وجه بعض الاهتمام كذلك إلى الأزهر الذي وجد فيه معيناً يسد حاجته من الطلاب لتغذية المدارس العليا والبعثات. وبلغت المدارس من الكثرة في عهد محمد علي أن أنشأ لها ديواناً لم تمض بضع سنوات حتى أصبحت المدارس التابعة له سبعين مدرسة منها ستة عشر مدرسة عليا 4.   1 انظر لمعرفة البعثات في عهده: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة (ص: 2193) ، وإلياس الأيوبي: تاريخ مصر في عهد إسماعيل (1/171) ، ومحمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية (ص: 373) ، وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/356) . 2 وعن البعوث في عهده انظر: إلياس الأيوبي: مرجع سابق (1/228) ، وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/382) . 3 انظر: ترجمته: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة (ص189ـ 190) . 4 انظر تفصيلات عن هذه المدارس: الأيوبي: مرجع سابق (1/169) وما بعدها، وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وفي عهد إسماعيل أعيد ديوان المدارس الذي يعتبر النواة لوزارة المعارف، وأصدر لائحة التعليم، ونشر التعليم الابتدائي في المدن والقرى، فقد أنشئ في عهد إسماعيل أربعة آلاف وثمانمائة وسبعة عشر مدرسة، وكان عدد المدارس قبله مائة وخمسة وثمانين مدرسة فقط، وربط إسماعيل بين الكتاتيب وبين المدارس الابتدائية، وأكثر من المدارس التجهيزية والفنية والعالية. وكان نشاط إسماعيل في التعليم الفني والعالي نشاطاً مزدوجاً، فقد أعاد من جانب المدارس العالية والفنية التي كان محمد علي قد أنشأها ثم أهملت من بعده. ومن جانب آخر أنشأ طائفة جديدة من المدارس كمدرسة الإدارة التي تحولت من بعد إلى مدرسة الحقوق، ومدرسة الألسن التي تحولت بعد ذلك إلى مدرسة المعلمين العليا، ودار العلوم التي كانت مصدر إزعاج من بعد للاحتلال الإنجليزي 1. الطباعة: كان بونابرت قد ترك لنا مطبعة قبل رحيله، ولكنها أهملت فيما بعد، وضربت عليها العنكبوت بنسجها. وربما أخذ نابليون معه أجزاءها الرئيسة. حتى جاء محمد علي وأنشأ المطبعة الأهلية في بولاق على أنقاض مطبعة بونابرت. فاستحضر لها العدد والحروف واستقدم العمال من أوروبة وسوريا فأداروها واصطنعوا حروفاً جديدة تشبه حروفها الأصلية. ولا يمضي النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى تكثر المطابع ويكثر طبع الكتب العربية القديمة ودواوين الشعر. وكان لذلك تأثير واسع في حياتنا الأدبية 2. وفي عهد إسماعيل صارت دار الطباعة أكبر مطبعة عربية في العالم حتى بلغ متوسط المؤلفات المطبوعة فيها سنوياً ـ على عهده ـ نيفاً وعشرين مؤلفاً،   1 انظر لمعرفة جهود إسماعيل في ذلك: الأيوبي: مرجع سابق (1/187) وما بعدها، وأحمد شلبي: = = مرجع سابق (5/382) وما بعدها. 2 انظر عن المطبعة الأميرية: جورجي زيدان: مرجع سابق (ص:197) وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/356) وشوقي ضيف: الأدب العربي المعاصر في مصر (ص:30) ، ط. دار المعارف، مصر، السادسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فضلاً عن الكتب المترجمة وخلافه 1. وعلى كل حال كانت المطبعة عاملاً مهماً ومؤثراً في إيقاظ العقل المصري في القرن الماضي، فقد كان المؤلفون يعتمدون على النسخ باليد قبل ظهور المطبعة، وكان هذا النسخ يكلف أثماناً باهظة، ولم يكن كل الناس يستطيع أن يتكلف ذلك، فلما ظهرت المطبعة عملت على نشر الكتب وأصبح الكتاب الواحد يطبع منه مئات النسخ بل آلافها. الصحف: ولقد سهلت المطبعة إصدار الصحف، وأول صحيفة ظهرت هي: "الوقائع المصرية" التي أنشأها "محمد علي" وكانت تصدر أول ما صدرت باللسانين: العربي والتركي. حتى إذا كان عصر إسماعيل كثرت الصحف وكان يصدرها الوطنيون وغيرهم على السواء 2. الأزهر: والأزهر هو المعهد العلمي الديني الكبير الذي بقي بعد سقوط بغداد، وتوقف الدراسة بجامع بني أمية في دمشق، وأصبح هو الموئل لطلاب العلوم الشرعية والعربية، ولم تزل قوته ونهضته باقية على عهد المماليك، إلا أنه أخذ في الضعف بدءاً من فتح العثمانيين لمصر، وفي عهد "محمد علي" وأسرته ومع ميلهم إلى التعليم على الطريقة الغربية، بقي الأزهر شامخاً في وسط هذه الموجة العاتية، وتحمل كل ما وجه إليه من انتقادات 3. لقد أصبح في مصر تياران: عربي يمثله الأزهر، وغربي: تمثله   1 انظر الأيوبي: مرجع سابق (1/243) وشوقي ضيف: مرجع سابق (ص:30) 2 انظر الأيوبي: المصدر نفسه (1/244) وشوقي ضيف: المصدر نفسه (ص:33) وما بعدها. 3 انظر هذه الانتقادات: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (5/686ـ 687) وعبد المتعال الصعيدي: تاريخ الإصلاح في الأزهر (ص:9) وما بعدها. ط. مطبعة الاعتماد بمصر، الأولى. وشوقي ضيف: مرجع سابق: (ص:19) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لمدارس الجديدة، ومنها دار العلوم. فالأزهر هو الذي حافظ على اللغة العربية والعلوم الدينية القرونَ المتطاولةَ الماضيةَ، ولم يبق غيره في هذا العهد، فإن المدارس الدينية التي أنشأها المماليك والأيوبيون من قبلهم أغلقت أبوابها، وبقي الأزهر صامداً حتى استطاع أخيراً تلامذة الأفغاني وعلى رأسهم "محمد عبده" أن يحدثوا به من "التغيير" ما عجز عنه أسلافهم، فقد أصبح محمد عبده عضواً في مجلس إدارته، وبمعاونة "كرومر" استطاع أن يحقق نتائج كبيرة في مشروعه ذلك 1. ومهما يكن من شيء فقد بقي الأزهر في هذه الحقبة الجامعة الدينية الوحيدة التي يفد إليها الطلاب من كل فج عميق، إلا أنه لم يجد من أسرة محمد علي الاهتمام الذي وجده غيره من المدارس، وإن كانوا استعانوا بأبنائه في نهضتهم، إلا أنه بدا في ذلك العهد أن الأزهر ليس هذا زمانه 2.   1 انظر: محمد عبد الله عنان: تاريخ الجامع الأزهر (ص:234) وما بعدها، ط. مؤسسة الخانجي، مصر، الثانية 1378هـ 2 انظر المرجع نفسه (ص:229) وما بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المطلب الثاني: الحياة العلمية في الشام : لم تكد تمضي مدة طويلة على دخول العثمانيين الشام حتى تدنت الحركة العلمية فيها تدنياً ظاهراً. وكان التدريس في العهد المملوكي يتم في المساجد والمدارس. إلا أن هذه جميعاً قد تدهورت تدريجياً حتى توقفت تماماً بعد الفتح العثماني، بما في ذلك الجامع الأموي الذي كان يساوي الأزهر في القاهرة إلا أنه ظهر قبله بثلاثة قرون 3. وفي النصف الثاني من هذا القرن ـ الثالث عشر الهجري ـ بدأت تباشير بعض العلوم الرياضية والطبيعية ـ وكانت ضعفت ضعفاً أشبه بالاندراس ـ تهب على الشام من طريق مصر بسبب الحركة التي بعثها   3 انظر: أكرم حسن العلبي: دمشق (ص:165و175) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 عزيزها "محمد علي". لقد تخرج بعض الشاميين في مدارسه 1. وفيما يتعلق بالعلوم الدينية فقد قدم الشاميون إلى الأزهر لتلقي هذه العلوم عوضاً عن تلقيها في جامع بني أمية في حاضرتهم "دمشق". ورغم أن الدولة العثمانية كانت قد أنشأت المدارس العالية في الآستانة ودخل فيها بعض الشاميين، كما أنها فتحت مدارس رسمية لها بالشام، ولكن في كل ذلك، كان التعليم باللغة التركية، لذلك قل إقبال أبناء العرب عليها 2. ومما زاد الطين بلة، أن الدولة لم تكن تشجع المدارس الخاصة التي كان ينشئها المتحمسون لخدمة بلادهم وأمتهم. مما يجعلها عاجزة عن الاستمرار في أداء مهمتها، فقد اضطر الشيخ حسين الجسر 3 إلى إغلاق مدرسته التي افتتحها في طرابلس، وكان التعليم فيها باللغة العربية، وتعنى بكافة العلوم العربية والشرعية والعصرية، لأن الدولة لم تساعدها. وأما المطابع فبالرغم من أن المطابع وصلت إلى الشام قبل أن تعرفها مصر، إلا أنها كانت قليلة ونادرة، فلا نجد ذكراً لها في بلاد الشام إلا في النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي. وقد أخذ إبراهيم باشا ـ أثناء حملته على الشام ـ مطبعة حملها معه إلى هناك 4. حتى إذا انتهى النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي أخذت المطابع تنتشر شيئاً فشيئاً في بلاد الشام. ولذلك كانت الكتب عزيزة لا يكاد يملكها إلا الموسرون، وأما أصحاب المكتبات الخاصة فهم مع قلتهم بخلاء بها خوفاً من السارقين والعابثين 5.   1 انظر: محمد كرد علي: خطط الشام (4/62) وما بعدها 2 انظر: محمد كرد علي: المرجع السابق (4/62) 3 انظر حكاية هذه المدرسة عند رشيد رضا: المنار والأزهر (ص:139) وستأتي ترجمة الشيخ حسين الجسر ـ إن شاء الله تعالى ـ. 4 انظر: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية (ص:376) 5 انظر المصدر السابق، الصفحة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وأما الصحافة فلم تكن هذه المهنة تتمتع بحرية كافية فقد كانت الرقابة عليها شديدة، بخلاف مصر التي كانت تتمتع بقدر أكبر من الحرية مما دفع كثيراً من العلماء من المسلمين وغيرهم للرغبة في الهجرة إليها، وإصدار الصحف فيها مما زاد هذه الصحف في مصر حتى وصل إلى "المائة صحيفة" 1. ولا يمنع ذلك من وجود صحف في بلاد الشام إلا أنها كانت قليلة الانتشار. وإذا كان هذا حال المسلمين الثقافي والعلمي هناك، فإن حال الطوائف الأخرى كان أسعد، إذ أنشأت هذه الطوائف المدارس الخاصة بها، لا سيما مدارس الإرساليات التبشيرية وكان التعليم بالعربية وبغيرها من اللغات 2. كما أنهم أيضاً أنشأوا الصحف التي تنطق بلسانهم 3.   1 وقد وجد عدة صحف يصدرها شوام، منها الأهرام، ومنها أيضاً مجلات: كمجلة المنار، وغيرها. وانظر بروكلمان: تاريخ الشعوب (ص:615) 2 انظر: محمد كرد علي: خطط الشام (4/63) 3 انظر: محمد السلمان: رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد عبد الوهاب، ط. مكتبة المعلا، الكويت، الأولى، 1409هـ. (ص:142ـ 143) وبروكلمان: تاريخ الشعوب: (614ـ 615) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 المبحث الثالث: الحياة الدينية : لا شك أن الموجة التي ركبها محمد علي وأولاده، ومن قبله سلاطين العثمانيين، من استلهام الحضارة الغربية في عملية الإصلاح والبناء، وما ابتعثوه من بعوث وما استقدموه من رجال يحملون في طياتهم أفكار وآراء مجتمعاتهم، ويعيشون بين المجتمعات الإسلامية وينظر إليهم باعتبارهم المنقذين لبلادنا، الناهضين بها من عثرتها. لا شك أنه كان لهذا كله أكبر الأثر على نشوء حالة جديدة وأفكار حادثة، في الحياة الدينية في العالم الإسلامي 1. فبالإضافة إلى مشاكل الحياة الدينية الموجودة كالعقائد المبتدعة والأعمال المخالفة للشرع والتي انتشرت في بلاد المسلمين في القرون المتأخرة، والتي أدت أخيراً إلى المرض المزمن الذي فتك بدولتهم، فإنه ظهر في هذه الحياة مشاكل جديدة لم تكن من قبل والتي أتى بها الأوروبيون "المصلحون" معهم، فيما حملوه من متاعهم. لقد صار للأوروبيين في العصر الأخير قوة وغلبة على أمم العالم، وكانوا قديماً قد اعتنقوا المسيحية "الجديدة" 2وبعد اطلاعهم على نتائج   1 انظر التفصيلات عند: محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص12/15) 2 عن تطور المسيحية وتحولها: انظر: شارجني بير: المسيحية نشأتها وتطورها. ترجمة: الدكتور عبد الحليم محمود، ط. المكتبة العصرية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بحوثهم الحديثة ورقيهم في العلوم والصناعات، وموقف الكنيسة من هذا التقدم 1، بدا لعقلائهم أن دينهم الذي اعتنقوه لا يتفق مع العقل والعلم، ثم طردوا هذه النتيجة على كل دين 2. فكان هذا منشأ الإلحاد في أوروبة، الذي أتى إلينا معهم من خلال الاحتكاك المباشر في مصر لما أتوا مستعمرين. وفي أوروبة لما ذهبنا متعلمين. لقد انتقلت عقلية الإلحاد الأوروبي إلى العقلية المصرية وفشت بين المتعلمين العصريين في المدارس الجديدة التي لم يكن فيها صبغة دينية 3. لقد بدا أن "العلم الحديث " قد قضى على الأديان كلها ولم يستثن منها الإسلام 4. وتسللت هذه الأفكار حتى وصلت إلى عقول بعض العلماء 5ولقد كان دستور هذا العلم الحديث هو: "كل معقول لا يؤيده محسوس لا يلتفت إليه"6. وبناء على ذلك طرحت فكرة الإيمان بالله وحده، وهي رأس الدين وأساسه الأول، وبدا أن هذه الفكرة قد سيطرت على عقول الكتاب والمفكرين حتى في الصحف والمجلات السيارة. وتبعاً لإنكار هذه الفكرة جاءت فكرة أخرى هي: إنكار كل ما يتصل بعالم الغيب 7. ولم يتوقف الأمر عند أصول الدين بل امتد أيضاً إلى فروعه الفقهية   1 انظر عن موقف الكنيسة هذا: موريس كروزيه: تاريخ الحضارات العام، ط. عويدات للنشر والتوزيع، بيروت (4/ 264) والشيخ محمد عبده: مجلة المنار (5/42) وما بعدها. 2 انظر: مصطفى صبري: "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين" (1/166، 216و2/16ـ 18) ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت. ومحمد رشيد رضا: مجلة المنار (27/509 و30/509) 3 انظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/166) وانظر أيضاً: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (14/544 و 1/260) ومحمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (12 ـ20) 4 انظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/216) 5 انظر: مصطفى صبري (1/98و 32 ـ 33و 66) 6 المصدر نفسه (1/244) 7 المصدر نفسه (1/32ـ 33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فقد أراد جماعة من المتعلمين على الطريقة الحديثة، والمفتونين بالحضارة الأوروبية والعلم الحديث، طرح الفروع الفقهية بدعوى عدم مناسبتها للحالة العصرية. وقد ظهر ذلك حول حجاب المرأة المسلمة في كتابين لقاسم أمين، هما: "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" 1. وامتد أيضاً ليشمل جميع كتب الفقه الإسلامي 2. فتبين من هنا أن الفتنة المثارة ضد الدين، الواصلة إلى حد إنكار وجود الله تعالى، لعدم كونه ـ بحسب دستور العلم الحديث ـ في متناول التجربة الحسية، أو لكونه لا يزال محلاً للشك في وجوده على الأقل. وإنكار معجزات الأنبياء المستلزم لإنكار النبوة، لكونها أيضاً من الخوارق التي لا يقدر على تجربتها في هذا الزمان، والتشكيك في أخبار الأنبياء عن الغيب والمستقبل، بل وإخبارهم عما سبق أيضاً من أخبار الأمم السابقة ـ قد طمت وعمت ووصلت إلى علماء الأزهر الجدد من تلامذة "الأستاذ الإمام" والكتاب العصريين الذين كانوا أيضاً من تلامذة "الأستاذ الإمام" وقد قويت هذه الفتنة وشد أزرها العلم الحديث، وتهيبها علماء الأزهر الباقون على عقيدة الإسلام وسكتوا عنها 3. ومن ناحية أخرى، ومع وصول الأوروبيين وسيطرتهم على مقاليد الأمور في مصر، شعر النصارى بقوة لم تكن قد دبت في جسدهم المنهوك من قبل، وقد شد أزرهم المستعمر الأوروبي الذي يدين بدينهم ـ ولو بحسب الدعوى الظاهرة ـ مع هزيمة دولة المسلمين ووصولها إلى أقصى دركات ضعفها. فدفعهم ذلك إلى التقوي بهذا الأوروبي القوي على المسلم   1 نشر قاسم أمين أولاً:"تحرير المرأة " وبعده بعام نشر "المرأة الجديدة" وقاسم أمين أحد تلامذة محمد عبده، لذلك فقد قرظ الشيخ رشيد كتابه وأثنى عليه: انظر: مجلة المنار (3/850 و 2/248) وانظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/35ـ 36) 2 انظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/32) ومحمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص:51) 3 انظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/343) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 المهزوم الضعيف، وبدأت دعوة قوية للتنصير في مصر على صفحات الصحف والجرائد والمجلات والتي كانت تصل إلى كبار علماء الدين الإسلامي حتى شيخ الأزهر 1 وأصبح عمل المنصرين جهاراً نهاراً، والدعوة إلى المسيحية تزداد نشاطاً. وقد تتخذ شكل القوة والإرهاب أيضاً2. لقد بلغت القوة ـ المتوهمة ـ لدى النصارى أن ألفوا وعقدوا مؤتمراً لهم ينادون فيه بمطالبهم الدينية 3 وبلغت الدعوة هذه مبلغاً حتى عقد علماء الأزهر مؤتمراً نادوا فيه بوقف هذه الموجة 4. وثالثة الأثافي في الحياة الدينية هي البدع والخرافات التي استشرت في المجتمع، وقد لفتت هذه البدع أنظار الجميع حتى الكتَّاب النصارى، الذين تناولوها بالتحليل، ولقد وصلت هذه البدع إلى حد الشرك بالله تعالى في ألوهيته وربوبيته على السواء 5. لقد كانت هذه الصورة للحياة الدينية تعكس قوة هذا الدين الذي يهدمه أعداؤه من الخارج ويهدمه أهله من الداخل، ولا يزال شامخاً منتصراً لم ينل منه أي من الفريقين، ولا يزال من أهله طائفة على الحق ظاهرة تبين حقيقته وتنصر شريعته. ولقد بدا أثر هذه الحالة الدينية على الشيخ رشيد رضا واضحاً، فلقد حاول ـ بما أتيح له من وسيلة ـ أن يقاوم جميع هذه المظاهر، ويرد على شبهات الملحدين، وعلى النصارى المعتدين على دين الأغلبية من سكان   1 انظر: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (6/425ـ426) ، وأيضاً (4/379ـ380) ، وتفسير المنار (6/25) ، والمجلة أيضاً (31/619) . 2 انظر: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (2/140) . 3 المصدر السابق (29/ 292) ورد عليه المسلمون بمؤتمر آخر، انظر: مجلة المنار (14/353 و389 و449 و457) . 4 انظر: محمد رشيد: مجلة المنار (4/202ـ211) 5 انظر: جولد سيهر: العقيدة والشريعة ط. الثانية دار الكتب الحديثة بمصر (ص254) وما بعدها، وأيضاً له: مذاهب التفسير الإسلامي ط. مكتبة الخانجي بمصر (363) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مصر، كما أنه قاوم بكل ما يستطيع البدع ومظاهرها 1. ولكنه في كل ذلك لم يسلم من الخطأ، فقد وقع في عدة مشاكل وهو يدفع شبهات الملحدين التي يثيرونها بين الحين والآخر، فلقد حاول مثلاً بيان موافقة نظرية النشوء والارتقاء ـ والتي انتشرت آنذاك وشغلت المثقفين والمتدينين على السواء ـ لآيات القرآن 2، ولكنه عاد وفرح بما اتضح بعد ذلك من فساد هذه النظرية 3. كما أنه في رده لهذه الشبهات قد تجاوز فرد أحاديث صحيحة لأنها لا توافق عقليات العصريين 4. وفي مواجهته للبدع والخرافات اتخذ موقفاً متشدداً من كرامات الأولياء ومن تلبس الجن في الإنسان 5. أما مسألة الأديان فقد أحسن الشيخ رشيد فيها كل الإحسان بحيث يستحق ذلك بحثاً مستقلاً في جهوده في هذا الميدان، ونحن في انتظار من يجلي لنا هذا الموقف، وأرجو أن يوفقني الله لذلك.   1 انظر: مجلة المنار (1/82ـ87) ، والتفسير (8/549) . 2 انظر: مجلة المنار (9/ 141 و 33/ 58ـ64) . 3 انظر: مجلة المنار (30/ 593 و 31/ 130) 4 سيأتي بيان موقفه من السنة. 5 انظر (ص: 687) من هذا البحث، و (ص:609) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الفصل الثاني: دراسة لحياة رشيد رضا الشخصية المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده ونشأته وصفاته المطلب الأول: اسمه ونسبه ... المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده ونشأته وصفاته: المطلب الأول: اسمه ونسبه: هو: "السيد محمد رشيد بن السيد علي رضا بن السيد محمد شمس الدين بن السيد بهاء الدين بن السيد منلا خليفة البغدادي 1. أصل هذه الأسرة من الحجاز ثم انتقلوا إلى العراق فنزلوا النجف ثم نزحوا إلى الشام، وسكنوا قرية القلمون، من أعمال طرابلس الشام 2. ولم أجد خلافاً في اسم الشيخ رشيد إلا أن بعضهم طعن في نسبه إلى البيت النبوي. ولم يكن عند هؤلاء حجة إلا أنهم بحثوا في " الدفاتر" فلم يجدوا فيها هذا النسب 3. وقد تناولت الرد على هذا الطعن بالتفصيل   1 انظر: شكيب أرسلان: رشيد رضا، ط. مطبعة ابن زيدون، دمشق، الأولى، 1356هـ (811) . ومحمد منير آغا: نموذج من الأعمال الخيرية، ط. مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، الثانية 1409هـ. (ص:82) وأحمد شاكر: مجلة المقتطف: اكتوبر 1935م. والزركلي: الأعلام (6/ 126) 2 انظر: رشيد رضا: المنار والأزهر (133) ، ط. المنار، سنة 1353هـ. 3 انظر: فهد الرومي: "منهج المدرسة العقلية في التفسير": (ص:170) ط. مؤسسة الرسالة، الأولى 1401هـ. ومحمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص:102ـ 103) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 منذ ست سنوات عندما كتبت عن منهج الشيخ رشيد في التفسير 1. وأكتفي هنا بذكر نقطتين: أولاهما: أنه ـ ومن حيث الشريعة ـ لا يجوز الطعن في الأنساب، فالناس مؤتمنون على أنسابهم، وهم أعلم بها. والثانية: أن هذا النسب ثابت في الحقيقة متواترٌ عن أهل بلدة القلمون، وهم مشهورون بذلك. ثم إن نسب أسرة الشيخ رشيد نفسه قد ثبت بالبحث الجاد 2. وفوق ذلك كله ـ لم يكن هذا النسب ليصد الشيخ رشيد عن اتخاذ المواقف الصحيحة حيال مسائل العقيدة، فقد هاجم الرافضة هجوماً عنيفاً في كتبه ومجلته لا سيما في كتابه الهام "السنة والشيعة" إذ أن ذلك الهجوم كان صادراً عن عقيدة راسخة لا تتأثر بدعوى التشيع لأهل البيت، وكذلك موقفه من الشريف حسين بن علي وأسرته، فبالرغم من كونهم أشرافاً ينتسبون للبيت النبوي، إلا أن ذلك لم يشفع لهم عند "السيد رشيد"، ولم يجعله ناصراً لهم على خصومهم، بل وقف موقفاً معادياً ومؤيداً لابن سعود الذي لا يتمتع بهذه المزية، وذلك لأن الأولين وهم "المعروفون بالشرفاء ظلوا على ضلالهم في الطعن على دين الوهابية وافتراء الأكاذيب عليهم، وكان أشدهم في الطعن وفي عداوة آل سعود الأمير حسين بن علي ... 3. وأما هؤلاء النجديون المنبوذون بلقب "الوهابية" فهم "سُنِّيّون متمسكون بمذهب السلف في العقائد " 4.   1 انظر: تامر محمد متولي: "منهج الشيخ محمد رشيد في تفسيره" (ص:20) بحث على الآلة الكاتبة: كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية: سنة 1413هـ. 2 فقد بحثه شكيب أرسلان: انظر: شكيب أرسلان: "رشيد رضا" (ص:809) وأيضاً: محمد = = بهجت البيطار: المصاب العام بوفاة الأستاذ الإمام: مجلة المجمع العلمي العربي (1/366) وانظر: عبد الله أمين: نعي فقيد الإسلام: مجلة المنار: (35/ 154) 3 انظر: محمد رشيد رضا: الوهابيون والحجاز (ص9) . ط. الهند، إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة الإسلامية السلفية ببنارس. 4 المصدر السابق (ص:10) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المطلب الثاني: مولده ونشأته : ولد الشيخ رشيد في 27 جمادى الأولى سنة 1282هـ الموافق 23من سبتمبر 1865م. 1، وقد ذكر بعضهم تاريخاً آخر لولادته 2، إلا أن هذا التاريخ الذي ذكرته هو الذي أجمعت عليه المصادر. وأما مكان ولادته فهو قرية القلمون، وهي قرية من أعمال طرابلس الشام تقع على شاطئ البحر المتوسط، وتبعد عن طرابلس زهاء ثلاثة أميال 3. نشأ الشيخ رشيد في هذه القرية التي اشتهر أهلها بالشرف وحسن السيرة، وبقلة ظهور المنكر بينهم. ومع حسن واعتدال مناخها 4. وأسرة الشيخ رشيد أسرة ذات شرف ومكانة وكرامة، ودين وتقوى وعزة نفس، بين أهل هذه القرية، وكان لها أثر كبير فيها، فقد كان والد الشيخ رشيد شيخاً للقلمون وإماماً لمسجدها، وكان قد بدأ في طلب العلم في طرابلس على الشيخ "محمود نشابة" ثم لم يلبث أن انقطع عن ذلك لحاجة والده إليه 5. وتوفي والد الشيخ رشيد في رجب سنة 1323هـ.= سبتمبر 1905م. 6.   1 انظر: عبد الرحمن عاصم: مجلة المنار (35/480) وشكيب أرسلان: مرجع سابق (ص:15) وأحمد شاكر: مرجع سابق: نفس الصفحة. وعبد الله أمين: مجلة المنار (35/154) 2 انظر: محمد منير آغا: مرجع سابق: (ص:82) فقد ذكر أنه ولد سنة 1281هـ. 3 انظر: رشيد رضا: المنار والأزهر (ص:133) وحبيب جاماتي: مجلة المنار (35/208) 4 انظر: حبيب جاماتي: المرجع السابق: نفس الصفحة. ورشيد رضا: المنار والأزهر (ص133) 5 انظر: رشيد رضا: المنار والأزهر (ص:134ـ 136) وحبيب جاماتي: المرجع السابق. وانظر رشيد رضا: مجلة المنار (8/553) 6 انظر: مجلة المنار (8/553) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ووالدة الشيخ رشيد اسمها:"فاطمة" وتنتسب إلى البيت النبوي من جهة الأب والأم، ويكثر الشيخ رشيد من الثناء عليها 1. وقد توفيت بمصر في ربيع الآخر سنة 1350هـ = سبتمبر1931م. 2.   1 انظر: رشيد رضا: المنار والأزهر (ص:133) ومجلة المنار (32/73ـ 79) 2 مجلة المنار (32/ص:73) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 المطلب الثالث: أخلاقه وصفاته : نشأ الشيخ رشيد في هذه البيئة على محاسن الأخلاق فكان حيياً متعبداً متنسكاً، مواظباً على قراءة القرآن والأذكار 3. ولم تتعلم نفسه عادة من العادات السيئة المضرة 4. وكان الشيخ رشيد ـ وقت شبابه ـ شجاعاً جريئاً في مواطن الحق، على الحكام والعلماء 5. يقول الشيخ رشيد عن نفسه: “نشأت في حجر العبادة فألفها وجداني ونشطت فيها أعضائي من الصغر، فخفت علي في الكبر، كنت من سن المراهقة أذهب إلى المسجد في السحر ولا أعود إلى البيت إلا بعد ارتفاع الشمس ... " 6. وكان الشيخ رشيد أول أمره يتعبد على طريقة الصوفية، إلا أنه رجع عن ذلك واستبدلها بالسنة 7.   3 رشيد رضا: المنار والأزهر (ص: 137) ، وعبد الرحمن عاصم: مجلة المنار (35/ 480) 4 عبد الرحمن عاصم: المصدر السابق: نفس الصفحة. 5 المصدر السابق: نفس الصفحة. 6 رشيد رضا: المنار والأزهر (ص:146) ، ولكن هناك صورة أخرى يرسمها له بعض خصومه، انظر: محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص: 102) 7 انظر: رشيد رضا: المصدر السابق (ص147) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 المبحث الثاني: طلبه للعلم : المطلب الأول: نشأته العلمية : تعلم الشيخ رشيد ـ أول ما تعلم ـ في كتاب قريته "القلمون" فقرأ القرآن وتعلم الخط ومبادئ الحساب 1. ثم انتقل إلى طرابلس والتحق بالمدرسة "الرشيدية" وهي مدرسة ابتدائية تابعة للدولة، يُدَرَّس فيها الصرف والنحو ومبادئ الجغرافية، وعلم الحال ـ العقائد والعبادات ـ، واللغة التركية واللغة العربية ولكن جميع التدريس فيها باللغة التركية. ولم يبق الشيخ رشيد في هذه المدرسة إلا سنة واحدة 2. ثم انتقل إلى المدرسة التي أسسها شيخه الأول الشيخ حسين الجسر، وهي المدرسة "الوطنية الإسلامية" وهي أرقى من المدرسة الرشيدية، وجميع التعليم فيها باللغة العربية إلا اللغتين التركية والفرنسية، وتدرس فيها العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية مع التربية الإسلامية الوطنية، تجاه التربية الأجنبية في مدارس الدول الأوروبية والأمريكية 3. إلا   1 انظر: رشيد رضا: المنار والأزهر (ص 139) . 2 المصدر نفسه 3 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أن هذه المدرسة لم تلبث إلا قليلاً حتى أغلقت بسبب عدم مساعدة الدولة لها 1. ثم انتقل الشيخ للدرس على شيخه حسين الجسر. لقد اكتسب الشيخ رشيد كثيراً من معارفه بقراءاته الشخصية وجهوده الذاتية وتوجيه بعض العلماء له. لقد كان شديد العناية بمطالعة كتب الأدب والتصوف وكان أعجب كتب التصوف عنده كتاب الإحياء للغزالي. ولقد طالعه الشيخ رشيد كله وأكثر مراجعته وأعاد قراءة أبوابه عوداً على بدء، ثم صار يقرأه للناس، وكان لهذا الكتاب أكبر الأثر في دين الشيخ رشيد وأخلاقه، وأما ما فيه من أخطاء فقد استطاع الشيخ رشيد ـ لا سيما بعد اشتغاله بعلم الحديث ـ أن يتقي هذه الأخطاء ويعالج ما علق منها برأسه شيئاً فشيئاً 2. ثم بعد هجرته إلى مصر ووقوفه على كتب شيخ الإسلام ومدرسته تحول تدريجياً لمذهب السلف3.   1 نفس المصدر والصفحة. 2 نفس المصدر (ص 140) . 3 وسوف يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المطلب الثاني: هجرته إلى مصر : ونظراً للحالة السياسية والعلمية في الشام فقد كان طبيعياً أن يرحل رشيد رضا إلى مصر، لقد كانت رحلة الشيخ رشيد رضا من طرابلس الشام عام 1898م إلى مصر رمز عزيمته القوية في التصدي للدور الكبير الذي التزم به طيلة حياته. لقد كان وراء رحلته من سوريا إلى مصر عوامل وظروف متشابكة. يتعلق بعضها بالدولة العثمانية عامة وولاية سوريا خاصة. ويتعلق بعضها الآخر بظروفه الشخصية وأوضاع أسرته. لقد اضطرت الدولة العثمانية لاتخاذ سياسة متشددة فيما يتعلق بسوريا، نظراً لحساسية هذه الولاية بالنسبة للدولة إذ إنها الطريق إلى العاصمة العثمانية ومن دخلها أصبح بوسعه تهديد الدولة في عاصمتها. كما أنها تشكل بوابة الدولة إلى ولاياتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 في الشرق العربي، وطريق الوصول إلى الحجاز، ونظراً كذلك لعدم تجانس الولاية في انتماءات أهلها الدينية وولاءاتهم السياسية1. ونتيجة لما سبق فقد وقفت السلطة العثمانية من ولاية سوريا موقفاً خاصاً اتسم بالحساسية المفرطة تجاه ما يكتب أو ينشر في صحافتها أو فيما يتصل بعلاقات الأفراد والجماعات واتصالاتهم الخارجية، وتشددت في مراقبة ما يصدر فيها من مطبوعات. كما راقبت سلوك من تشتبه فيهم من أبنائها خشية إقامة علاقات مع جهات أجنبية. كل ذلك أشعر أبناءها دون سواهم من أبناء الولايات العربية الأخرى بوطأة المراقبة الحكومية لعلاقاتهم ومطبوعاتهم مما دفع بعضهم للتفكير بالهجرة 2. قال الشيخ رشيد: "عزمت على الهجرة إلى مصر لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم، ومن مناهل العلم العذبة الموارد، ومن طرق النشر الكثيرة المصادر، وكان أعظم ما أرجوه من الاستفادة في مصر: الوقوف على ما استفاده الشيخ محمد عبده من الحكمة والخبرة وخطة الإصلاح التي استفادها من صحبة السيد جمال الدين، وأن أعمل معه وبإرشاده في هذا الجو الحُر ... " 3. وبعد أن حصل الشيخ على موافقة والديه سافر سراً إلى الإسكندرية 4. فمما سبق نستطيع أن نتعرف على أسباب هجرة الشيخ رشيد إلى مصر. إنه عزم على القيام بمهمة إصلاحية متعاوناً مع الشيخ محمد عبده، وللاستفادة من ملازمة هذا الأخير لجمال الدين الأفغاني، فيقول: "لئن فاتني لقاء المعلم الأول، فلن يفوتني لقاء المعلم الثاني ... " 5.   1 انظر: أحمد بركات: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية (ص 24ـ27) دار عمار الأردن ـ ط الأولى 1409هـ 1989م. 2 انظر: رشيد رضا: المنار والأزهر (ص 191) فقد بين هناك سبب هجرته. وانظر أيضاً: أحمد بركات: مرجع سابق (ص 26ـ27) . وانظر: مجلة المنار (21/ 377) . 3 المنار والأزهر (ص 191) . 4 المرجع السابق (ص 192ـ193) ، وتاريخ الأستاذ الإمام (ص 1/998) . 5 مجلة المنار (21/377) ، وتلاحظ استعمال الشيخ رشيد لمصطلحات الفلاسفة فإنهم يطلقون "المعلم الأول" على أرسطو. انظر: طاش كبرى زادة: مفتاح السعادة (1/ 293 و294) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 كان وصول الشيخ رشيد إلى الإسكندرية في 8 رجب 1315هـ ـ 3 يناير 1897م، وبعد سياحة له في الوجه البحري استغرقت أسبوعين، انتقل إلى القاهرة حيث حل ضيفاً على الشيخ "محمد عبده" 1. وكان الشيخ محمد عبده هو الشخصية الوحيدة في مصر التي يعرفها رشيد رضا قبل هجرته. لقد سبق له التعرف عليه واللقاء به والاجتماع إليه أثناء فترة نفيه إلى بيروت (24 ديسمبر 1882 ـ 1885م) على أثر أحداث حركة عرابي 2. ولم يغادر رشيد رضا مصر من ذلك الحين إلا سنة 1326هـ ـ 1908م زائراً لوطنه سوريا وقد تعرض هناك للاعتداء مرتين 3. وفي رمضان 1327هـ ـ1909م زار الأستانة 4، وفي عام 1913م زار الهند 5، وفي عام 1920م زار دمشق 6. لقد أصبحت مصر هي الوطن للشيخ رشيد، وعاش فيها حياته وأصدر فيها مجلته "المنار" المجلة المنقطعة النظير، في سعة الرواج وبعد الأثر واستقطاب أهل العلم والرأي. لقد كانت "المنار" صدى هموم العالم الإسلامي في القضايا المصيرية كالتساؤل حول سر تقدم الغرب وتأخر الشرق، وكالثورة على الاحتلال الأجنبي، وحول متطلبات الحياة العصرية.   1 انظر: تاريخ الأستاذ الإمام (1/998) . 2 المصدر نفسه (1/995) . 3 انظر: مجلة المنار (11/706ـ716) . 4 انظر: مجلة المنار (12/ 956ـ 959) و (13/ 145ـ150) . 5 انظر: المصدر السابق (16/ 77ـ80 و104 ـ106) كما أنه زار الحجاز حاجاً انظر: المصدر نفسه (19/307ـ310) . 6 انظر المصدر نفسه (21/377 ـ382) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المبحث الثالث: شيوخه : ترك الشيخ رشيد المدارس وتحول إلى التلقي عن المشايخ، وقد تلقى الشيخ رشيد عن عدد منهم هم: 1 ـ الشيخ حسين الجسر: وهو أول شيوخ الشيخ رشيد 1. واسمه: الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن الحاج مصطفى الجسر، وأصله من مدينة دمياط بمصر، فقد هاجر والد جده إلى الشام حوالي عام 1178هـ. فقطن دمشق مدة قليلة ثم تركها إلى طرابلس الشام. وبدأ الشيخ حسين الجسر في تلقي علومه في طرابلس فقرأ القرآن ولازم بعض المشايخ 2، ومنهم الشيخ محمود نشابة. شيخ الشيخ رشيد، وشيخ والده من قبل 3. ولما بلغ الثالثة عشرة هاجر إلى مصر وذلك سنة 1279هـ. قاصداً   1 انظر: المنار والأزهر (ص141) ومجلة المنار (7/99) ومحمد الجسر: مقدمة الرسالة الحميدية (ص: ب) ط. إدارة الطباعة المنيرية سنة 1352هـ. 2 انظر: رشيد رضا: مجلة المنار (21/160) ومحمد الجسر: المرجع السابق (ص: د) 3 انظر: مجلة المنار (8/553) و (21/160) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الانتظام في صفوف طلبة الأزهر، وسكن في رواق الشوام 1. وقد بقي هناك خمس سنوات، ولكنه لم يتم دراسته به إذ اضطرته الظروف للعودة إلى بلده سنة 1284= 1867م. 2. وكان الشيخ حسين الجسر أشعرياً فقد ألف كتابه " الحصون الحميدية" وسلك فيه طريقة المتكلمين الأشاعرة 3. وألّف "الرسالة الحميدية" ليوفق بين النصوص الدينية ونظرية النشوء والارتقاء 4. وكان الشيخ حسين الجسر مقلداً أيضاً 5. وأخذ الشيخ رشيد عنه العلوم العربية والشرعية والعقلية ما عدا الحديث وفقه الشافعية، وشرح الشيخ حسين الجسر للشيخ رشيد حاشية البيجوري على الجوهرة في العقائد على الطريقة الأشعرية 6.كما قرأ عليه كتباً في المنطق 7. ويبدو أن عدم اكتمال الدرس المنهجي للشيخ حسين الجسر قد كان له أثر عليه فرغم أنه كان يشرح الكتب العالية في الكلام إلا أنه كان يزعجه ما كان يوجه إليه من أسئلة، وقال ذات مرة للشيخ رشيد: "..لا تسألني في الدرس عن شيء فإن كل ما أعرفه أقوله ولا يبقى عندي غيره" 8. وبينما كان توجيه الأسئلة المحرجة إلى المشايخ وجوابهم عنها في جامع الأمويين هو الدليل الوحيد على رسوخ هؤلاء العلماء وإجازتهم للتدريس، إلا أن الأمر تغير وأصبح العلماء ينفرون من أسئلة طلابهم 9. وكثيراً ما كان الشيخ رشيد لا يقنع بشرح شيخه فيراجعه فيه 10.   1 محمد الجسر: المرجع السابق (ص: ج) 2 نفس المرجع والصفحة. 3 انظر: رشيد رضا: مجلة المنار (19/69) 4 انظر: محمد الجسر: قصة الإيمان (ص:211ـ 212) 5 انظر: رشيد رضا: مجلة المنار (21/162) 6 انظر: المنار والأزهر (ص:145) ومجلة المنار (9/69) 7 انظر: المنار والأزهر (ص144) 8 المنار والأزهر: (ص145) 9 انظر: أكرم حسن العلبي: دمشق (ص:170و171) 10 انظر: المنار ولأزهر (ص:145) ومجلة المنار (21/ 162) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 2ـ الشيخ محمود نشابه: 1. وعلى العكس من الشيخ حسين الجسر كان الشيخ محمود نشابة الذي أقام بالأزهر زهاء ثلاثين سنة طالباً ومدرساً وأتقن جميع العلوم التي تدرس فيه آنذاك حتى علم الجبر والمقابلة. وحصل الشيخ محمود نشابة على إجازات بثمانية عشر علماً. وتلقى كتب الحديث عن مشايخ الأزهر 2. ثم عاد إلى طرابلس وقضى بقية عمره هناك، فتخرج به كثيرون، وكان شيخ الشافعية والحنفية جميعاً، وقلما أتقن أحد فقه المذهبين مثله، وكان يُشبَّه بالشافعي 3. وقد أدركه الشيخ رشيد في أوائل طلبه للعلم وقرأ عليه الأربعين النووية وأجازه بها قبل الشروع في الطلب، وحضر درسه لشرح البخاري في الجامع الكبير، وقرأ عليه صحيح مسلم وشرح المنهاج بداره، وحضر عليه طائفة من شرح التحرير في فقه الشافعية. ويقول عنه الشيخ رشيد: " وما عرفت قيمته وتفوقه على جميع من لقيت من علماء الإسلام في علومه إلا بقراءة صحيح مسلم عليه، فإنني كنت أقرأ عليه المتن فيضبط لي الرواية أصح الضبط، من غير مراجعة ولا نظر في شرح، وأسأله عن كل ما يشكل عليَّ من مسائل الرواية والدراية فيجيبني عنه أصح جواب، وكنت أراجع بعض تلك المسائل بعد الدرس في شرح مسلم وغيره، ولا أذكر أنني عثرت له على خطأ في شيء منها" 4. ويبدو أن طول المكث في طلب العلم وتدريسه هو السبب في نبوغ 5 الشيخ نشابة، وكان ينبغي للشيخ رشيد أن يفطن لذلك، لكنه للأسف يرى   1 انظر: محمد منير آغا: نموذج من الأعمال الخيرية (ص:449) ومجلة المنار (21/155) 2 انظر: مجلة المنار (21/ 155) والمنار والأزهر (ص:142) 3 انظر: محمد منير آغا الدمشقي: نموذج من الأعمال الخيرية (ص:449) 4 انظر: مجلة المنار (21/155) 5 كان طول الملازمة للمشايخ يعني الرسوخ في العلم، إذ أن طول صحبة العلماء وملازمتهم والأخذ عنهم يزيد القوة العلمية للطلاب، بينما صار طول المكث في المدارس على النظام الحديث يعني كثرة الرسوب مما يعكس البلادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ـ كما يرى شيخه محمد عبده ـ أن طول المكث في المدارس ضار 1. وتوفي الشيخ نشابة سنة 1307هـ. 2. 3 ـ الشيخ عبد الغني الرافعي: وهو من مشاهير القطر الشامي في عصره 3. وقد حصل العلوم والفنون الدينية واللغوية في طرابلس ودمشق الشام، وكان فيها يومئذ نفر من أكبر علماء الإسلام. وقد امتاز بين فقهاء عصره بالجمع بين النبوغ في علوم الشرع والتصوف والأدب. ولي الإفتاء في طرابلس وهو أعلى منصب لرجال العلم آنذاك، وولي قضاء اليمن 4، واستفاد من إقامته هناك فوائد عظيمة، منها أن مذاكرته ومناظراته لعلماء الزيدية قوى في نفسه ملكة الاستقلال في الفهم، وهناك عثر على كتاب "نيل الأوطار" للشوكاني، ولما عاد إلى طرابلس كان يقرأه درساً للنابغين من طلابه 5. وأدركه الشيخ رشيد وهو في شيخوخته، وحضر عليه بعض دروسه في نيل الأوطار لكنه لم يكن ـ لكونه مبتدئاً ـ يفهم الاصطلاحات الأصولية والحديثية فيه ـ لذلك لم يستفد منه شيئاً يذكر 6. وإلى الشيخ نشابة والرافعي انتهت رياسة العلم في طرابلس. ويقارن الشيخ رشيد بين هذين الشيخين فيقول: " إن الشيخ نشابة كان أوسع اطلاعاً من الشيخ الرافعي، إلا أن الشيخ نشابة كان مقلداً والرافعي كان مستقلاً في الفهم، وقد وقع بينهما مناظرة حول قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} 7 فقد استخرج الشيخ عبد الغني مائة سؤال من هذه الآية وطرحها   1 انظر المنار والأزهر (ص:196) 2 انظر: محمد منير آغا الدمشقي: نموذج (ص:449) 3 انظر: محمد منير آغا: نموذج (ص:449) ورشيد رضا: مجلة المنار (21/157) 4 انظر: رشيد رضا: مجلة المنار (21/ 157) 5 المصدر السابق (21/ 159) 6 نفس المصدر والصفحة 7 سورة البقرة: من الآية: (32) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 على الشيخ نشابة، فكان يقول له: إسأل هيه، إسأل هيه، فما زال السائل حتى فرغ مما عنده ولم يعجز المسؤول، ولا توقف في سؤال من تلك الأسئلة 1. 4 ـ الشيخ محمد القاوقجي (أبو المحاسن) 2: ويصفه الشيخ رشيد بأنه "العالم المحدث العابد الشهير" 3. أخذ عنه الشيخ رشيد كتابه في الأحاديث المسلسلة، ومنها المسلسل بالأولية 4. وكتابه "المعجم الوجيز" في الحديث 5. وكان الشيخ القاوقجي من أهل الطريقة الشاذلية 6. وتأثر به الشيخ رشيد في هذا الاتجاه أول الأمر. 5 ـ الشيخ محمد عبده: وهو خاتمة شيوخ الشيخ رشيد رضا 7. وهو الذي أطلق عليه لقب "الأستاذ الإمام" وكان " محمد عبده" يقول عن الشيخ رشيد: إنه: " ترجمان أفكاره" 8 ويأمل أن يكون خليفته في الإصلاح 9. وبقي الشيخ رشيد على علاقته بشيخه إلى آخر حياته، ودفن بجواره في مقابر المجاورين.   1 مجلة المنار (1/160) 2 انظر المنار والأزهر: (ص:147) ومحمد منير آغا: نموذج (ص:449) ، وانظر: مجلة التقوى اللبنانية: العدد 27 سنة 1413هـ. (ص: 18ـ 19) . 3 انظر: المنار والأزهر (ص: 142) . 4 انظر المنار والأزهر (ص: 142) ومجلة المنار (14/ 428) والوحي المحمدي (ص: 153) وتفسير المنار (7/ 468) . 5 انظر تفسير المنار (7/ 468) بالهامش. والمنار والأزهر (ص: 142) . 6 انظر المنار والأزهر (ص: 147) ومجلة المنار (14/ 428) . 7 انظر: مجلة المنار (1/2) وألف الشيخ رشيد كتاباً في ترجمة شيخه "محمد عبده" ربما يكون أكبر ترجمة لشيخ في التاريخ. إذ بلغ ثلاث مجلدات. انظر: مجلة المنار (8/379) وما بعدها. 8 انظر: محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام (1/1025) . 9 المصدر السابق (1/ 1024ـ1026) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لقد اختلف الناس اختلافاً كثيراً حول الشيخ " محمد عبده" ومذهبه الديني والسياسي. فبينما يعده البعض إمام المصلحين المجددين 1 يعتبره البعض الآخر سبب كل شر أتى من بعده 2. ومن خلال بحثي هذا ظهر لي أن الشيخ محمد عبده كان متأثراً بالفلاسفة القدماء والمحدثين على السواء، لقد قرأ الإشارات لابن سينا بشرح الطوسي مع الأفغاني 3. وكان يدافع عن مذاهب الفلاسفة في حاشيته على شرح الدواني على العقائد العضدية 4. كما أنه أعلن في الأزهر على الملأ رفضه لدليل الأشعرية والمتكلمين على وجود الله ـ واتُهِم يومئذ بالكفر لإنكاره وجود الله 5. ولما ذهب إلى فرنسا لقي هناك عدداً من الفلاسفة وعاشرهم وناقشهم وأفشى بعضهم عنه أنه كان يقول بقدم العالم 6. وفي كلامه ما يدل على ذهابه مذهبهم، فإنه يقول كثيراً في آيات القرآن الكريم إنها وردت مورد التمثيل والتخييل 7، ويتأول الرجوع إلى الله تعالى 8، كما هو مذهب الفلاسفة. ولا ريب أن مذهب الفلاسفة جاءه من طريق الأفغاني 9.   1 انظر: أحمد أمين: زعماء الإصلاح (ص 280) . 2 انظر: مصطفى صبري: موقف العقل (1/345) ، ومحمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص 85) وما بعدها. 3 انظر: مجلة المنار (1/716ـ 721) ، ولمحمد عبده شرح البصائر النصيرية في المنطق وشرحه في الأزهر، انظر: تاريخ الأستاذ الإمام (1/ 778) 4 انظر: سليمان دنيا: مقدمة حاشية محمد عبده على الدوانية: ط الحلبي، مصر (ص:6) وما بعدها، وانظر: مجلة المنار (5/ 361ـ 380) 5 انظر: مجلة المنار (5/ 395) 6 انظر: مجلة المنار (32/ 588) ، وانظر: محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص: 79 و96) . 7 انظر مثلاً في التأويل: تفسير المنار (2/ 456، و2/ 470و213) ومجلة المنار (7/ 181) والتفسير أيضاً (1/ 438ـ 439) و (1/ 254ـ 255) 8 انظر تفسير المنار (4/ 198و 3/ 104) 9 انظر: محمد حسين المرجع السابق (ص: 70) وما بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 موقف الشيخ محمد عبده من "حدوث العالم": ومما يوضح اتجاه الشيخ محمد عبده معرفة موقفه من مسألة "حدوث العالم" التي خالف فيها الفلاسفةُ جميع أهل الملل، فنستطيع بوقوفنا على رأيه أن نعرف مع من يقف. لقد اتهم "محمد عبده" بالقول بقدم العالم، ولكن ردّ رشيد رضا هذه التهمة رداً شديداً 1، وقد ادعى أحد أصدقائه من فلاسفة أوروبا أنه صرح له بهذا الرأي 2، وإنني لا أستبعد ذلك، بل أقول: إن الشيخ "محمد عبده" كان متأثراً بالفلسفة القديمة التي أخذها من الأفغاني، وبالفلسفة الحديثة التي أخذها من حياته في أوروبا، ومن إتقانه للغة الفرنسية لغة الفلاسفة المحدثين 3. ولدي أدلة على ذلك 4: الأول: أن الشيخ محمد عبده حضر دروس الإشارات لابن سينا وشرحه له شيخه الأفغاني 5. فلا يبعد أن يقع في قلبه مذهب ابن سينا، المتبع لأرسطو في هذه المسألة. الثاني: دفاعه عن الفلاسفة، وشرحه لمذاهبهم بما يدل علىمعرفته التامة بها، وإيمانه بمبادئها. فقد ردّ على أحد النصارى رداً طويلاً لأنه تناول ابن رشد بالنقد في مجلته 6. الثالث: قوله بعدم تكفير الفلاسفة ـ ولو بناء على قولهم بقدم العالم ـ "محتجاً بأنه اجتهاد واقع مواقع القبول عند الله تعالى" 7.   1 انظر: مجلة المنار (32/ 588) . 2 المصدر نفسه 3 انظر: مجلة المنار (1/ 846) وانظر: تفسير المنار (7/ 237) . 4 ويجوز أن يكون رجع عن ذلك كما يحاول رشيد رضا أن يقنعنا، كما سيأتي قريباً. 5 انظر: مجلة المنار (1/ 716ـ 721) 6 مجلة المنار: (5/ 361ـ 380) . 7 محمد عبده: حاشية على شرح الدواني (1/ 181) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فإن قيل: لقد برهن الشيخ محمد عبده في حاشيته على شرح الجلال الدواني للعقائد العضدية ـ على حدوث العالم ـ فيجب أن يكون كافياً لإزالة المخاوف، فأجيب: بأنه ليس كافياً، لأمور: الأول: أن تقريره لحدوث العالم كان بعد ردّ لكثير من أدلة حدوثه ومناقشته للمتكلمين فيها، فكان تقريره لحدوث العالم ضعيفاً 1. الثاني: أن طريقة الفلاسفة هي: مخاطبة "الجمهور" بما يوافق معتقداتهم، مع الإشارة إلى حقيقة ما يرونه، بالإشارة أحياناً، وصريح العبارة أحياناً أخرى2. ولقد هوجم الشيخ محمد عبده كثيراً واتهم بأنه ينكر وجود الله ـ بناء على مهاجمته لطريقة المتكلمين، وما ثم بعد طريقتهم إلا مذهب الفلاسفة. فلا يمكن أن يكون محمد عبده يريد إثبات وجود على الله على مذهب السلف ولا يكفي أيضاً دفاع الشيخ رشيد عنه، لأنه هكذا يفعل دائماً، فلا نركن كل الركون إلى دفاعه. إلا أن الشيخ رشيد يقول إن الأستاذ الإمام كان يدعو لمذهب السلف 3، ويقول بقولهم في الإيمان 4 وأنه مات عليه 5. ولو كان ما يقوله الشيخ رشيد حقاً ـ وإنا لنرجو ذلك ـ فإن الفضل في ذلك إلى الشيخ رشيد نفسه، الذي انتفع به الأستاذ الإمام في الوقت الذي تضرر منه الشيخ رشيد.   1 انظر: د. سليمان دنيا: محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين ـ مقدمة لحاشية: محمد عبده على العقائد العضدية. ط. الحلبي، مصر (1/21ـ 22) . 2 انظر: المصدر نفسه. 3 مجلة المنار (29/ 290) و31/ 123) وتفسير المنار (1/ 395) 4 انظر: تفسير المنار (2/ 405) 5 انظر: تفسير المنار (3/ 364) غير أن الشيخ رشيد يقرر أن أستاذه على عودته إلى مذهب السلف كان لا يزال متأثراً بمذهب الأشعرية. انظر: تفسير المنار (1/ 395) وانظر أيضاً تاريخ الأستاذ الإمام (1/ 778) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 المبحث الرابع: مذهبه وآرؤه الفقهية المطلب الأول: مذهب رشيد رضا الفقهي ... المبحث الرابع: مذهبه وآراؤه الفقهية: المطلب الأول: مذهب رشيد رضا الفقهي: لقد درس الشيخ رشيد مذهب الشافعية على شيخه العلامة "محمود نشابة" 1. لكن لم يلبث الشيخ رشيد أن حمل على التقليد والمقلدين، فقد ظهر للشيخ رشيد " تحريم التقليد والأخذ فيه بآراء البشر ... " 2. وأن " التقليد في الدين باطل لأنه ينافي أصل العلم اليقين. فإن المقلد في الدين هو من يعتمد في دينه على قول من يثق به من أهله وقومه أو معلمه، وليس على علم ولا بصيرة" 3. وأما الأدلة على بطلان التقليد، فيورد الشيخ رشيد عند كل مناسبة ما يمكنه من أدلة يرى أنها تدل على بطلان التقليد، وبالجملة: "فكل ما ورد ... من القرآن أو السنة من كون هذا الدين علماً مؤيداً بالحجة وبصائر للناس وآيات بينات فهو مبطل للتقليد، وكل ما ورد فيهما من النعي على   1 وقد سبق بيان ذلك؛ انظر (ص:56) . 2 تفسير المنار (9/570) . 3 المصدر السابق (8/288) ، وأيضاً (5/296) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الكفار وعيبهم بالجهل وعدم العلم، ووصفهم بالصم البكم العمي، وبكونهم لا يعقلون فهو مبطل للتقليد. وكل ما فيه من مطالبتهم بالدليل على ما يدعون وبالعلم والعقل فكذلك ... " 1. ويذهب إلى أن الاستدلال هو من الفطرة، وأن التقليد مفسد لها 2. ويرى الشيخ رشيد أن التقليد ليس من العلم في شيء، والمقلد لا يكون عالماً ولا مفيداً للعلم ولا مستفيداً له 3. ويشير إلى مساوئ التقليد وأثره على المقلد فيقول: " ومن رزئ بالتقليد كان محروماً من ثمرة العقل وهي الحكمة ومحروماً من الخير الكثير الذي أوجبه الله لصاحب الحكمة ... فيكون كالكرة تتقاذفه وسوسة شياطين الجن وجهالة شياطين الإنس، يتوهم أنه قد يستغني بعقول الناس عن عقله وبفقه الناس عن فقه القرآن ... " 4. ومن مساوئ التقليد ـ كما يرى الشيخ رشيد ـ أن "الاختلاف هو أثر طبيعي للتقليد، والانتصار للرؤساء الذين اتخذوا أنداداً ... إذ لولا التقليد لسهل على الأمة أن ترجع في كل عصر أقوال المجتهدين والمستنبطين إلى قول واحد يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله ... " 5. وفي سبيل محاربة التقليد نشر عدة مقالات عبارة عن حوار بين مقلد من أنصار التقليد وبين صاحب حجة يحمل على التقليد، ثم أُرسل له كتاب أعلام الموقعين لابن القيم 6 وفيه مناظرة مشابهة للأولى فنشرها كذلك 7.   1 المصدر السابق نفس الصفحة. 2 انظر: تفسير المنار (5/ 429) 3 مجلة المنار (6/521) . 4 تفسير المنار (3/76) . 5 المصدر نفسه (2/108) . 6 هو شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، السلفي الكبير، صاحب التصانيف. الدرر الكامنة (3/400) 7 انظر: مجلة المنار (7/222) وما يليها من أعداد، وقد طبعت فيما بعد في كتاب مستقل باسم "يسر الإسلام وأصول التشريع العام". انظر: مجلة المنار (29/63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وفي هذا السبيل أيضاً كان يعتمد على فهمه في فتواه للقراء التي أنشأ لها باباً في مجلته وكانت تأتيه الفتاوى من كل فج عميق ليجيب عليها. ونتج عن ذلك آراء له كثيرة خالف فيها الفقهاء، لا سيما تلك التي تتعلق بمسائل جديدة لم تكن وقعت من قبل أو وقع بسببها حرج ومشقة على الناس يخالف يسر الإسلام ومسايرته للحياة في كل عصر ومصر 1. ومن هذه الآراء: اجتهاده في تذكية الحيوان بالصعق الكهربائي فإنه ذهب إلى جوازه معتمداً على فقهه هو مخالفاً للفقهاء راداً لأقوالهم. ولكن الشيخ رشيد في ذلك لم يأت ببينة من الشرع وإنما اعتمد على استحسانه فقط 2. ومنها أيضاً: نكاح الوثنيين فذهب إلى جواز نكاح نسائهم 3. ومنها: العمل بالحساب في الرؤية الشرعية 4. ورأيه في صندوق التوفير 5. وأهم هذه الاجتهادات: اجتهاده في إباحة ربا الفضل، لأنه ـ كما يقول ـ مُنع سداً للذريعة إلى الربا الجاهلي فيباح للضرورة، وهو ما أود أن أفصل فيه بعض الشيء. وقبل ذلك أريد أن أقف قليلاً عند هذا النص للشيخ رشيد إنه يقول: "إنه ليس في ديننا شيء ينافي المدنية الحاضرة المتفق على نفعها عند الأمم المترقية إلا بعض مسائل الربا، وإني مستعد للتوفيق بين الإسلام الحقيقي وكل ما يحتاج إليه العثمانيون لترقية دولتهم مما جربه الإفرنج قبلهم وغير ذلك، ولكن بشرط ألا ألتزم مذهباً من المذاهب بل القرآن والسنة الصحيحة ... " 6.   1 انظر: جولدتسهير: مذاهب التفسير الإسلامي (ص 352) وما بعدها. 2 انظر: تفسير المنار (6/144ـ145 و6/174) . 3 انظر: المصدر السابق (6/185ـ217) . 4 انظر: تفسير المنار (2/185) . 5 انظر: مجلة المنار (19/527) . 6 مجلة المنار (12/239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وفي هذا النص يظهر المقصد الأساسي للشيخ رشيد الذي من أجله صدرت عنه هذه الفتاوى ـ ومنها فتوى الربا ـ إنه حتى لا يكون الدين حجر عثرة في سبيل السير في طريق المدنية الحاضرة، لذلك يذهب محمد رشيد رضا ـ ومعه بقية أعضاء حزب الأستاذ الإمام ـ إلى تجديد الفقه، بوضع أسس جديدة: اجتهاد جديد وإجماع جديد، لتطوير الفقه حتى يستطيع أن يسير في الطريق الجديد، "فليست الشريعة محصورة في جلود كتب الحنفية " 1. إذاً نستطيع أن نفهم ـ في ضوء هذا القصد هذه الفتاوى الصادرة عن رشيد رضا وشيخه وسائر هذا الحزب. لقد بلغت الفتاوى التي جمعت للشيخ رشيد ـ ونشرت في مجلته ـ ألف فتوى جمعت في عدة مجلدات، ولا ريب أن بعض هذه الفتاوى له فيها أجران وبعضها ليس له فيها إلا أجر واحد، ومنها مسألة ربا الفضل.   1 نفس المصدر (6/508) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المطلب الثاني: موقف رشيد من ربا الفضل ... المطلب الثاني: موقف رشيد رضا من ربا الفضل: ـ تعريف ربا الفضل: اختلفت ألفاظ التعاريف لربا الفضل عند الفقهاء ـ رحمهم الله ـ ولكنها في الحقيقة تتواطأ على أنه: زيادة أحد البدلين من الأموال الربوية على الآخر، إذا اتفق البدلان في الجنس 2، وبصورة أخرى: "الزيادة في أحد البدلين الربويين المتفقين جنساً" 3. وعلة الربا عند الحنفية والحنابلة: الكيل والوزن مع اتحاد الجنس 4، واتحاد الجنس يخرج ما لو باع مكيلاً أو موزوناً بمكيل أو موزون من غير جنسه، كأن يبيع صاعاً من بر بصاعين من   2 انظر: د. عمر المترك: الربا والمعاملات المصرفية (ص:55) دار العاصمة. الثالثة 1418هـ. 3 المصدر السابق: نفس الصفحة. 4 انظر: الاختيار لتعليل المختار، ط. المعاهد الأزهرية (2/ 39) وابن قدامة: المغني (4/ 5) ط. الكليات الأزهرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تمر، أو يبيع ذهباً بفضة متفاضلاً يداً بيد فإنه لا ربا 1. وقوله: "زيادة" يشمل كل زيادة سواء كانت في القيمة أو في المقدار 2. وقد ذهب الجمهور إلى تحريم ربا الفضل في الأصناف الستة الآتية: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، فلا يجوز بيع جنس منها بجنسه متفاضلاً، حالاً أو مؤجلاً، فيحرم بيع درهم بدرهمين نقداً أو مؤجلاً وكذا بيع صاع بر بصاعي بر نقداً أو مؤجلاً 3. واستدل الجمهور بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 4، فأل في قوله: {الرِّبا} لاستغراق الجنس 5، فيكون لفظ الربا في الآية عاماً يتناول كل أنواع الربا فيدخل في ذلك ربا الفضل كما يدخل ربا النسيئة 6. السنة: ومن السنة أحاديث: منها حديث: عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" 7.ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب بيع صنف من هذه الأصناف الستة بجنسه أن يكونا متماثلين وأكد ذلك بقوله:"مثلاً بمثل" و "سواء بسواء" وبين أنه لا حرج في هذا البيع عند اختلاف الأجناس، فدل على أنه عند عدم اختلاف الأصناف ليس لهم الخيار في البيع كيف شاءوا 8.   1 انظر: المترك: مرجع سابق (ص: 54) 2 المصدر السابق (ص:53ـ 54) 3 انظر: ابن قدامة: المغني (4/ 3) ود. المترك مرجع سابق (ص: 56) 4 سورة البقرة: الآية: (275) 5 انظر: المترك: مصدر سابق (ص: 57) 6 المصدر السابق نفس الصفحة 7 مسلم: الصحيح: ك المساقاة: ح رقم: (181) (1587) (3/ 1211) ط. دار إحياء الكتب العربية، مصر، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. 8 انظر: د. المترك: مصدر سابق (ص: 58ـ 59) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ومنها حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز" 1. وأما الإجماع على ذلك فقد حكاه غير واحد من أهل العلم 2. قال شيخ الإسلام: "إن النهي عن الربا في القرآن يتناول كل ما نهى عنه من ربا النسئ والفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله، وإن قصر نصوص النهي على البعض إنما يقع ممن لم يفهم معاني النصوص" 3. وقد روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال بجوازه، ولكنه لم يسمع في ذلك شيئاً من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما اعتمد في رأيه على حديث أسامة " لا ربا إلا في النسيئة" 4، ثم رجع عن ذلك بعدما أخبره أبو سعيد بما سمع، وحديث أسامة: إما منسوخ أو معناه الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب: لا عالم إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما المراد نفي الأكمل لا نفي الأصل 5.   1 انظر: البخاري: الصحيح: ك البيوع: باب بيع الفضة بالفضة ح: 2177 (4/ 444 مع الفتح) ط. السلفية مع الفتح، مصورة الريان، ط. الثانية، 1409هـ 1988م. 2 انظر: ابن قدامة: المغني (4/ 3) والنووي: شرح مسلم (11/ 9) ط. دار الريان للتراث، الأولى 1407هـ والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن (3/ 352) وابن حجر الهيتمي: الزواجر (2/ 205) ط. مصطفى البابي الحلبي، الثانية، 1390هـ 3 الفتاوى الكبرى (1/ 412) ، وانظر: له مجموع الفتاوي (20/ 347) ط. عالم الكتب الرياض، 1312هـ 4 انظر: البخاري: الصحيح: ك البيوع باب بيع الدينار بالدينار نساء (ح: 2178 و2179، 4/ 445ـ 446 مع الفتح) 5 انظر: ابن حجر: فتح الباري (4/ 446ـ 447) ط. السلفية (مصورة الريان) الثانية. 1409هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 رأي الشيخ رشيد في ربا الفضل: لقد جمع الشيخ رشيد فتاواه في الربا والتي كانت منتشرة في مجلة المنار في كتاب مستقل باسم:"الربا والمعاملات في الإسلام" 1. فذهب الشيخ رشيد إلى أن الربا المحرم تحريم مقاصد هو ربا الجاهلية، وهو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير الدين المستحق، وأما ما عداه فيباح للحاجة والمصلحة لأنه حُرِّم لأنه وسيلة للأول ـ وهو ربا الجاهلية أو ربا النسيئة ـ فيقول: “وقد علمنا أن الله لم يحرم في كتابه إلا ربا النسيئة الذي هو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه.." 2. وقال: " وحديث النهي عن بيع النقدين 3 وأصول الأقوات إلا يداً بيد مثلاً بمثل ليس تفسيراً للربا في القرآن ولا حصراً للربا في البيع، وإنما هو لسد الذريعة لارتكاب ربا القرآن، وإلا فهو لذاته ليس فيه من المفسدة ما يقتضي هذا الوعيد الشديد في آيات البقرة.." 4. وقال: "..إذا تمهد هذا ظهر به أن الحق في الربا الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه وتوعد فاعله بما لم يتوعد على ذنب آخر أنه ربا النسيئة الذي كان معروفاً في الجاهلية ... ونعيد القول ونكرره بأنه هو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير الدين المستحق في الذمة إلى أجل آخر..فلا يدخل في مفهومه ما يزاد في أصل الدين عند عقده على ما يعطي للمدين، وبحاله وإنما هو ما يعطى لأجل تأخير الدين المستحق.." 5.   1 انظر: محمد رشيد رضا: الربا والمعاملات في الإسلام ط. مكتبة القاهرة مع تقديم محمد بهجت البيطار، وانظر: مجلة المنار (5/ 51ـ 55و 7/ 28و 28/ 575، 30/ 273ـ 291، و30/ 419، و 30/ 501و585و665و771و31/ 37و33/ 449و34/ 362و 34/ 465) 2 الربا والمعاملات في الإسلام (ص: 132) 3 يعني حديث:" الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى ... الحديث، انظر: مسلم: الصحيح: ك المساقاة، ح: رقم (81) (1584) (3/ 399) . وقد تقدم. 4 الربا والعاملات (ص: 83) 5 الربا والمعاملات في الإسلام (ص: 83) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أدلة الشيخ رشيد: وقد استند فيما ذهب إليه إلى دلالة اللغة والسنة والعقل. فأما اللغة، فقد قال الشيخ رشيد محتجاً بها لما ذهب إليه: "ويؤيد هذا أمران: أحدهما: الاستعمال اللغوي، ووجهه أن هذا اللفظ كان مستعملاً عند عرب الجاهلية من المشركين، وأهل الكتاب وغيرهم، وذكر في بعض السور المكية، فهو ليس من الألفاظ التي وضعت وضعاً جديداً في الشريعة فكانت مجملة ثم فسرت بعد ذلك بالأحاديث عند الحاجة إليها في التشريع العملي، بل اللام في "الربا" للعهد كما صرح به بعضهم" 1. مناقشة هذا الاستدلال: ويجاب بأن احتجاجه بالاستعمال اللغوي، بمعنى أن الربا ينصرف إلى ما تعارفوا على استعمال لفظ الربا فيه من معاملة، إنما كان يفيد في وقت تنزل آية تحريم الربا في سورة البقرة، وقبل بيان السنة، إذ ينصرف المقصود في الآية إلى ما عهدوه، أما بعد أن جاء بيان السنة، واستعمل الربا في أنواع أخرى من المعاملة لم تكن معروفة ولا معهودة عند العرب فقد أصبح لفظ الربا حقيقة شرعية وعلى هذه الحقيقة تحمل عبارات الشارع وإطلاقاته في الربا، فكما أفاد العهد حمل الربا على ما كان معهوداً دون غيره مما تناوله مطلق لفظ الربا في وضعه اللغوي، فإن الوضع الشرعي يفيد حمل الربا على ما وضع له شرعاً إذ الوضع الشرعي مقدم على الوضع اللغوي في عبارات الشارع 2. واستدل الشيخ رشيد بحديث أسامة المشار إليه آنفاً 3. وقد تقدم الجواب عنه مختصراً، وأزيد هنا أجوبة أخرى، منها: إن أسامة رضي الله   1 المصدر نفسه (ص: 75) 2 انظر: عبد الله السعيدي: الربا في المعاملات المصرفية. بحث للدكتوراه على الحاسب الآلي. بالجامعة الإسلامية، كلية الشريعة قسم الفقه 1416هـ 1996م. (ص: 67) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 عنه ربما سمع جواب مسألة خاصة، فسمع الجواب دون السؤال 1، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" 2 فظاهر هذا أن الوضوء لا يكون إلا من هذين، والواقع خلافه، وإنما كان هذا اللفظ جواباً لسؤال معين خرج على هذا النحو، ولا يمنع ذلك وجوب الوضوء من غير هذين. وهناك أجوبة أخرى للجمهور، منها: القول بالنسخ، ومنها ترجيح أحاديث تحريم ربا الفضل على حديث أسامة لرواياتها عن جماعة، وتقديم العمل بالمنطوق فيها دون العمل بالمفهوم في حديث أسامة 3. واستدل أيضاً بالعقل: فقال: " ... وثانيها أن الله توعد على أكل الربا بضروب من الوعيد لم تعهد في التنزيل ولا في السنة، ولا يماثلها إلا في الترهيب والزجر عما عظم أثمه وفحش ضرره من الكبائر 4. ويناقش هذا الاستدلال بإنه احتكام للعقل في غير موضعه واحتجاج بالرأي فيما لا مجال للرأي فيه، فإن مما لا مجال للرأي فيه ما جاء به النص، وإن مما جاءت به النصوص وعيد آكل الربا ولعنه وهذا هو ما عرفت به الكبيرة عند العلماء 5. إذاً فالراجح هو قول الجمهور بتحريم ربا الفضل للأسباب الآتية: أولاً: كثرة الروايات الصحيحة التي وردت في تحريم ربا الفضل، وقد خرجت في الصحيحين وغيرهما. ورويت عن عدد كبير من الصحابة وتلقتها الأمة بالقبول حتى حكي الإجماع في ذلك 6.   1 انظر: المترك: مرجع سابق (ص: 71ـ 72) 2 انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد، ط. دار الكتاب العربي، والريان 1407هـ (1/ 242 ـ 243) وابن حجر: فتح الباري (1/ 287) 3 انظر: المترك: مرجع سابق (ص: 73، 75) 4 الربا والمعاملات في الإسلام (ص: 75) 5 انظر: عبد الله السعيد: مرجع سابق (مرجع سابق (ص:29) 6 انظر: المترك: مرجع سابق (ص859) ، وانظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (20/ 347) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ثانياً:أن هذه الأحاديث ناطقة بتحريم ربا الفضل ولا تحتمل التأويل، بخلاف ما احتج به الشيخ رشيد من حديث أسامة، فإنه يدل بالمفهوم، والمفهوم يتطرق إليه الاحتمال 1. ثالثاً: ثبوت رجوع من قال بإباحة ربا الفضل من الصحابة كابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم 2. رابعاً: ضعف أدلة القائلين بجوازه كما رأيت 3. ولقد كان للشيخ رشيد اجتهادات كثيرة كما أشرت في أول هذا المبحث، وبعضها في مسائل كبيرة كمسألة الربا، وبعضها دون ذلك، ومما لا يقل خطورة عن مسألة الربا: كاجتهاده في " ذبائح أهل الكتاب" 4. وقد ترك لنا الشيخ رشيد فتاوى فقهية تعد من حيث كثرتها ثروة، ويجدر بها أن تنال عناية الباحثين في علم الفقه لوزن هذه الثروة وتقويمها.   1 انظر: محمد الأمين الجكني: شرح مراقي السعود (ص: 36) مطبعة المدني بمصر 1378هـ ومحمد الأمين الشنقيطي: مذكرة أصول الفقه (ص: 234) ط. دار القلم بيروت، والمترك: مرجع سابق (ص:86) 2 انظر: المترك: المرجع السابق (ص: 86) 3 انظر المترك: المرجع نفسه (87ـ 88) 4 انظر: مجلة المنار (8/ 255) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المبحث الخامس: أثر الشيخ رشيد رضا في العالم الإسلامي أهم الآثار التي يجب أن نشير إليها هنا هو " مجلة المنار"، لقد كانت هذه المجلة هي العمل الأساسي الذي قام به رشيد رضا طيلة حياته. وكل ما طبع بعد ذلك من كتبه ومؤلفاته هو في الحقيقة كان في صورته الأولى مقالات متفرقة في مجلة المنار، لقد كان إنشاء هذه المجلة من الأهداف الأساسية التي حدت بالشيخ رشيد للهجرة إلى مصر، وخير ما يحدد لنا أهداف مجلة المنار هي افتتاحية العدد الأول منها، فقد افتتحها رشيد رضا بقوله: "أما بعد: فهذا صوت صارخ بلسان عربي مبين ونداء حق يقرع سمع الناطق بالضاد مسامع جميع الشرقيين ... يقول: أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك حسبك، فقد جاوزت بنومك حد الراحة.." 1. وفي مقدمة الطبعة الثانية لهذا المجلد ـ الأول ـ يقول عن أغراض المنار، أن " أغراضها كثيرة يجمعها الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي لأمتنا الإسلامية، هي ومن يعيش معها وتتصل مصالحه بمصالحها، وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته لمصالح البشر في كل قطر وكل مصر، وإبطال ما يورد من الشبهات عليه، وتفنيد ما يعزى من الخرافات إليه.." 2.   1 مجلة المنار (1/ 1ـ 2) 2 مجلة المنار (12/ 1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ويرى كثيرون أن مجلة المنار كانت امتداد لأفكار وآراء العروة الوثقى1التي كان الشيخ رشيد معجباً بها أيما إعجاب، إلا أنها فاقت العروة الوثقى بطول البقاء وبعد الأثر 2. ومن أهم الأمور التي شغلت " مجلة المنار" الإصلاحية، "إصلاح الأزهر" وتجديد العلم وهداية الدين فيه، وما يحتاج إليه من العلوم والفنون آنذاك، ولقد اشتملت مجلة المنار على العديد من المقالات التي تضمنت هذا المعنى 3. وكان هدفاً أساسياً لرشيد رضا أن يجلس على عرش الأزهر أحد تلامذة "الأستاذ الإمام" وقد سعى له سعيه، ونجح في الأخير أن يكون سبباً أساسياً في ذهاب أحد خصوم "محمد عبده" وهو الأحمدي الظواهري، وإتيان أحد تلامذة "الأستاذ الإمام" وهو "محمد مصطفى المراغي" 4. وكان من الأبواب البارزة في مجلة المنار "باب البدع والخرافات والتقاليد والعادات" وهو باب يتطرق إلى الحديث عن أنواع البدع والخرافات التي دخلت في عقيدة الأمة الإسلامية وأفسدتها، كما أفسدت التقاليد والعادات المنحرفة أخلاقها 5. وعلى العموم؛ كانت مجلة المنار سلفية المنهج "غالباً" وغايتها موجهة إلى الإصلاح ـ بشكل عام ـ وإلى مواجهة ومحاربة البدع، والرجوع إلى ما كان عليه السلف من الدين 6.   1 العروة الوثقى: مجلة كان يصدرها من فرنسا الأفغاني ومحمد عبده أيام نفيهما هناك. 2 انظر: عبد المتعال الصعيدي: المجددون (ص:540) ط. مكتبة الآداب، مصر. ومجلة المنار (2/320،و 23/2، 8) 3 انظر: مجلة المنار (7/840، 10/123، 13/847، 21/ 362، 26/ 478، 30/ 316) 4 انظر: مجلة المنار (29/ 325 و401و539و30/ 478و 34/ 764) 5 انظر: مجلة المنار (3/ 711ـ 714) وورثتها في ذلك مجلة التوحيد، السنة 27 العدد 8 (ص: 40ـ43) 6 انظر: مجلة المنار (22/ 366) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ولقد انتشرت مجلة المنار في أرجاء العالم الإسلامي، وكان لهذا الانتشار أثره في نشر الأفكار السلفية في مجلة المنار. وبشكل خاص كان أثر المنار في مصر والهند ظاهراً وواضحاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المطلب الأول: أثر المنار في مصر والهند منذ أن بدأ رشيد رضا العمل في مصر والدعوة إلى الإصلاح وهو يسعى لإيجاد جماعة تتولى هذه المهمة، وكان يود أن يكون محمد عبده هو الزعيم لهذه الجماعة، إذ كان يمهد السبيل لجعل الأستاذ الإمام زعيم الإصلاح السياسي في جميع بلاد الإسلام. وقد نجح رشيد رضا في وضع محمد عبده في مكانة بحيث لا يجرؤ أحد على مطاولته ولا النيل منه، وذلك بسبب الدعاية الكثيرة التي كان يقوم بها لصالح " الأستاذ الإمام" في مجلة المنار. 1. لقد امتد فكر رشيد رضا وآراؤه في كل مصر، وأثر فيها أعمق الأثر، فلقد قامت جماعات كثيرة كلها تزعم أنها امتداد لرشيد رضا ومنهجه الإصلاحي، وكان من أبرز هذه الجمعيات التي اتفقت أفكارها ونشاطاتها مع رشيد رضا الإصلاحية؛ جمعية " الشبان المسلمين" التي قامت في حياته، وكان هو من مؤسسي هذه الجمعية، وعضواً في مجلس إدارتها وقام بوضع قانونها الأساسي بصورته النهائية 2. وفي اجتماعات" جمعية الشبان المسلمين" التقى برشيد رضا: حسن البنا، الذي أنشأ جماعة فيما بعد، وأراد أيضاً أن يجعلها امتداداً لعمل رشيد رضا الإصلاحي، وأنها امتداد له؛ مستشهداً في ذلك ببعض عبارات رشيد   1 أصبح في مصر لا يستطيع أحد أن ينتقد محمد عبده ويعد انتقاده كافياً كدليل على فساد قول صاحبه: انظر: مجلة المنار (33/ 40) 2 انظر: مجلة المنار (28/788) وأحمد الشوابكة: رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية (ص: 160) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 رضا 1، وحاول حسن البنا أن يتخذ من كلمات رشيد رضا دستوراً لجماعتة 2. غير أن الجماعة التي تعتبر بحق امتداداً لرشيد رضا بكل ما فيه من حسنات وغيرها، هي " جماعة أنصار السنة" الذي أسسها الشيخ محمد حامد الفقي، أحد علماء الأزهر وخطباء الأوقاف وتلامذة رشيد رضا في دار الدعوة والإرشاد، ولقد اقتبس الفقي اسم جماعته من عبارة رشيد رضا "أنصار السنة المحمدية" 3. ولقد ورثت هذه الجماعة رشيد رضا وتبنت أفكاره وآراءه ومنهجه في الإصلاح حتى أنني أستطيع القول: بأن كل حسنة لرشيد رضا هي كذلك في جماعة " أنصار السنة" وكل انتقاد وجه إليه سيوجه إليها أيضاً، وكل المواقف التي اتخذها قد تبنتها فيما بعد هذه الجماعة 4. ومن أمثلة ذلك: الموقف المتشدد من كرامات الأولياء حتى اشتهر أن أنصار السنة ينكرونها، وأيضاً مسألة السحر، فقد ورثت الجماعة موقف رشيد رضا من السحر جملة بأنه لا حقيقة له، وهو مجرد تأثير قوى النفس، وكذلك مسألة الأحاديث والاقتصار على الصحيحين، والمهدي، وسيأتي بيان ذلك تفصيلاً في محله، وفيما يتعلق بحامد الفقي، فقد وجه إليه انتقاد بشأن كلامه عن الملائكة5، وكذلك الجن 6. كما ورثت الجماعة حسناته كما هو معلوم باتباعها منهج السلف   1 انظر: مجلة المنار (35/ 1ـ 5) 2 انظر: مجلة المنار (35/5) 3 تفسير المنار (7/143) 4 على أن ذلك لم يكن عاماً، فقد كان موجوداً لا سيما بين المقربين من رشيد رضا، ويتلا شى كلما بعد به العهد. 5 انظر: المعصومي: تنبيه النبلاء من العلماء إلى قول حامد الفقي إن الملائكة غير عقلاء، ط. المطبعة السلفية بمصر، سنة 1374هـ 6 انظر: أحمد شاكر بيني وبين حامد الفقي (ضمن كلمة حق) ط. المكتبة السلفية بمصر، الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الصالح والدعوة إليه، في جميع أبواب الدين لا سيما التوحيد والصفات، ونبذ التقليد والعصبية المذهبية 1. أثر المنار في الهند: لقد وصلت مجلة المنار إلى الهند وبواسطتها تعرف الهنود على رشيد رضا وخطته الإصلاحية، وكان رشيد رضا شديد الاهتمام بمسلمي الهند، لذا فقد خص أبناء مسلمي الهند بنصيب وافر من مدرسة الدعوة والإرشاد، فتخرج فيها من الهنود من كان له جهود علمية وعملية في تحقيق الإصلاح الديني والتعليمي لدى مسلمي الهند. وقامت عدة جمعيات ومؤتمرات تدعو للعود إلى الإسلام في صورته الأولى ومحاربة البدع والخرافات المنتشرة بين المسلمين والاهتمام بالعلوم العصرية وإدخالها المدارس 2. وكانت نقطة الالتقاء بين رشيد رضا وعلماء الهند هي الاهتمام بعلوم السنة والحديث بشكل خاص 3، واعترافاً من علماء الهند بدور رشيد رضا وريادته للإصلاح الذي يسعون إليه فقد دعته جمعية "ندوة العلماء" لرئاسة مؤتمرها السنوي 4. ولم يقف أثر المنار عند مصر والهند، بل ذهبت المنار إلى أماكن كثيرة في العالم الإسلامي، فقد وصلت إلى أندونيسيا والمغرب العربي، وتونس والجزائر، وإلى استانبول وعمان والعراق والكويت 5.   1 انظر: أبو الوفاء درويش: مجلة التوحيد: السنة الخامسة والعشرون/ ذو القعدة 1417هـ (من روائع الماضي، ص: 61) وما بعدها. وعبد الرحمن الوكيل: الصفات الإلهية، ط. دار لينا. 2 انظر: مجلة المنار (27/ 634) وانظر: أيضاً (16/ 77) وما بعدها 3 انظر: مقدمة مفتاح السنة (ص: ق) ومجلة المنار (30/ 673) 4 انظر: مجلة المنار (16/ 77ـ 80، 104ـ 106) 5 انظر: مجلة المنار (16/ 396) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 المطلب الثاني: مدرسة دار الدعوة والإرشاد : تبرز أهمية هذه المدرسة باعتبارها مؤسسة منظمة تربوية تعليمية حاول من خلالها رشيد رضا أن ينقل كثيراً مما دعا إليه في مجال الإصلاح الديني والتعليمي من حيز النظرية إلى مجال التطبيق 1، لقد حاول إنشاء هذه المدرسة في عاصمة دولة الخلافة ولكنه فشل 2، ثم أنشأها أخيراً في مصر بمساعدة أميرها، فحددت القاهرة مركزاً رئيساً لجمعية " الدعوة والإرشاد" الخلفية القانونية لمدرسة " الدعوة والإرشاد" وكانت مدة الدراسة في هذه المدرسة ست سنوات تنقسم إلى مرحلتين 3. ويتبين من منهاج الدراسة النظري والعملي أن رشيد رضا حاول من خلاله تحقيق كثير من أسس الإصلاح الديني والتعليمي الذي كان يدعو إليه، فالمنهاج النظري يجمع بين العلوم الإسلامية والعلوم العصرية ـ كما كان يفعل أستاذه حسين الجسر في طرابلس ـ كما وضعت الكتب بلغة سهلة وأسلوب عصري4. لقد توقفت المدرسة أثناء الحرب العالمية الأولى بسبب اتقطاع الدعم المادي لها 5، ورغم الفترة المحدودة التي ظلت الدراسة بها قائمة، والتي لم تتعد أربع سنوات، إلا أن حماس رشيد رضا وحرصه على نجاح المدرسة، أدى إلى تخرج مجموعة من تلامذتها وهم مجتهدون للعمل على منهج الإصلاح الذي أرساه رشيد رضا ومزودون بكثير من العلوم والمعارف والخبرات التي أهلتهم فيما بعد للإسهامات العلمية والعملية في المناطق التي ذهبوا إليها.   1 انظر: عبد الرحمن عاصم: مجلة المنار (35/ 706) وعبد السميع البطل، مجلة المنار (35/ 195) 2 مجلة المنار (13/ 465) 3 مجلة المنار (14/ 786) 4 مجلة المنار (14/ 821 و785، 788ـ 789) 5 عبد السميع البطل: مجلة المنار (35/ 197ـ 198) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ولما أغلقت "دار الدعوة" تفرق طلابها في البلاد الإسلامية بعد أن تشبعوا بأفكار منشئها، ورضعوا من لبان مدرستهم خمس سنين وتحمسوا لأهدافها، فكان منهم المشتغل بالوعظ والإرشاد والمتصل بالملوك ورجال السياسة، ومن هؤلاء الطلاب: أ) الشيخ يوسف ياسين 1. ب) الشيخ أمين الحسيني 2. ج) الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الهندي 3. د) الشيخ محمد بسيوني عمران من جاوة بأندونيسيا 4. هـ) الشيخ محمد بهجت البيطار 5. من سوريا. و) الشيخ محمد حامد الفقي، مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية 6. ز) الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. من أئمة الحرم المكي 7. ح) الشيخ عبد الظاهر أبو السمح من أئمة الحرم المكي 8. ط) الشيخ عبد السميع البطل. من علماء مصر 9.   1 هو مستشار الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ انظر: الزركلي: الأعلام 8/ 253) 2 هو مفتي فلسطين وزعيمها السياسي: انظر: الزركلي المصدر السابق (6/ 45) 3 لم أجد له ترجمة. وانظر: مجلة المنار (35/ 199) 4 لم أجد له ترجمة. وانظر: مجلة المنار (35/ 199) 5 انظر: أحمد العلاونة (ذيل الأعلام) (ص: 167) 6 انظر: مجلة المنار (27/ 204و 32/ 683) وكحالة: معجم المؤلفين (9/172 ـ 173) 7 انظر: الزركلي: المصدر السابق (6/ 203) ومجلة التوحيد: السنة الخامسة والعشرون، عدد 6، (ص: 55) وما بعدها 8 انظر: الزركلي: المصدر السابق (4/ 11) وانظر: مجلة المنار (26/ 553) ومجلة التوحيد، السنة الرابعة والعشرون العدد التاسع (ص: 45) وما بعدها 9 انظر: مجلة المنار (35/ 199، 17/ 471) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ي) الشيخ محمد أبو زيد 1. وآخرون 2. ولا ريب أن لرشيد رضا تلاميذ غير هؤلاء، لم يتخرجوا في دار الدعوة والإرشاد، التي لم تبق إلا خمس سنوات، وإنما تخرجوا على الشيخ نفسه وعلى مجلته المنار، ومن أشهرهم: محمد أحمد عبد السلام القشيري 3. ومحمد علي عبد الرحيم 4. وقد لازمته حتى وفاته ـ رحمه الله تعالى ـ. وغير هؤلاء كثير يصعب حصرهم قد تأثروا بالدعوة السلفية التي ألقى الشيخ رشيد بذرتها في مصر وانتشرت في العالم بواسطة مجلة المنار، وتابعها من بعده، حامد الفقي وتلامذته 5. وأما المدرسون في "دار الدعوة" فقد كان يدرس فيها بجوار رشيد رضا الشيخ محب الدين الخطيب الذي هاجر إلى مصر سنة 1909م. وأنشأ فيها المكتبة السلفية الشهيرة 6.   1 انظر: مجلة المنار (21/ 49ـ 54، 22/ 43، 17/ 463) 2 من طلاب دار الدعوة أيضاً: 1/ عبد الله خدايار الهندي (المجلة 17/ 463) 2/ محمد أفندي الشريفي اللاذقي (المجلة ـ 17/ 469) 3/ أحمد كمال الغزي (17/ 470) 3 انظر: مجلة التوحيد: العدد الخامس السنة الخامسة والعشرون (ص:54ـ 57) وانظر: مجلة المنار (34/ 479) 4 انظر: مجلة التوحيد السنة العشرون عدد 4 جمادى الأولى، 1412هـ (ص:6) وما بعدها. 5 انظر: مجلة التوحيد: السنة الثالثة والعشرون العدد السادس (ص: 57ـ 58) والسنة الخامسة والعشرون العدد الثامن (ص: 57ـ 58) 6 انظر: محمد منير آغا: نموذج من الأعمال الخيرية (ص: 94ـ 96) والزركلي: الأعلام = = (5/282) ومجلة التوحيد، السنة الثالثة والعشرون العدد الخامس، جمادى الأولى (ص: 59) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأيضاً كان من المدرسين بها محمد توفيق صدقي الطبيب الشهير فقد كان يدرس فيها العلوم الطبيعية 1. ومنهم الشيخ أحمد العبد بن الشيخ سليمان العبد من علماء الأزهر 2، وغيرهم 3.   1 انظر: الزركلي: الأعلام (6/ 65) ومجلة المنار (16/ 2281) و 17/853 و 897 و 18/ 121 و 193و 273) 2 انظر: مجلة المنار (15/226ـ 227) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 المطلب الثالث: مؤلفات رشيد رضا : امتاز الشيخ رشيد بقدرة كبيرة على الكتابة، فكان يكتب في الساعات ما لا يقدر أن يسوده غيره في أسابيع، حتى لو قيل إن محصول قلمه قد يتوزع على عشرة كتاب كبار ونصيب كلٍّ منهم نصيب وافر لم يكن في ذلك أدنى غلو 4. والذي أريد أن أشير إليه هنا هو أن المؤلف الأساسي للشيخ رشيد هو "مجلة المنار" 5 إذ أنه لم يكتب قبلها إلا كتاباً واحداً أثناء طلبه للعلم وهو "الحكمة الشرعية" أما باقي كتبه التي ألفها، فقد كانت أول أمرها جزءاً من مجلته أفردها في كتاب مستقل لسبب أو لآخر، ولا يخرج عن هذه القاعدة شيء من مؤلفاته، بما فيها تفسير المنار الذي كان جزءاً أساسياً من "مجلة المنار" ثم طبع مفرداً فيما بعد. والمؤلفات التي طبعت ونشرت مستقلة للشيخ رشيد هي: 1/ تاريخ الأستاذ الإمام: طبع في ثلاثة أجزاء كبيرة، وكان الشيخ رشيد ينوي أن يتمها برابع 6.   3 انظر: أسماء أخرى: مجلة المنار (17/ 462) 4 انظر: شكيب أرسلان: رشيد رضا (ص:255ـ 256) 5 وكان هو محررها وكاتبها الأوحد. انظر: مجلة المنار (7/ 266) 6 طبع في مطبعة المنار على فترات متباعدة، وأصله في مجلة المنار، انظر: مجلة المنار (8/ 379، 31/5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 2/ ترجمة القرآن 1. 3/ تفسير الفاتحة ومشكلات القرآن 2. 4/ تفسير سورة الفاتحة، وست سور من خواتيم القرآن 3. 5/ خلاصة السيرة المحمدية 4. 6/ الخلافة 5. 7/ ذكرى المولد النبوي 6. 8/ السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة، طبع منه أولاً الجزء الأول في حياة الشيخ رشيد، ثم طبع في جزئين بعد وفاته باثنتي عشرة سنة 7. 9/ شبهات النصارى وحجج المسلمين 8. 10/ عقيدة الصلب والفداء 9. 11/ الربا والمعاملات في الإسلام، نشرت في كتاب بعد وفاة الشيخ رشيد بمعرفة محمد بهجت البيطار 10. 12/ مناسك الحج أحكامه وحِكَمه؛ ألفها أثناء رحلته إلى الحج 11.   1 طبع في مطبعة المنار سنة1344هـ = 1925م. وهي في المجلة، انظر: مجلة المنار (26/ 7و9 و485و12و492و574و565و580و681) والتفسير (9/ 314) وما بعدها 2 طبع في مطبعة المنار ثلاث مرات؛ الأخيرة سنة 1330هـ 1911م. 3 طبع في مطبعة المنار سنة 1353هـ =1934م. 4 طبع في مطبعة المنار سنة 1346هـ =1927م. 5 طبع في مطبعة المنار سنة 1341هـ =1922م. 6 انظر: شكيب أرسلان: رشيد رضا (ص:8ـ 13) ومحمد السلمان: مرجع سابق (ص: 373) 7 طبع في المنار سنة 1335هـ =1916م. 8 طبع في المنار سنة 1322هـ وانظر المجلة (6/ 217) وما بعدها 9 طبع في المنار سنة 1331هـ =1912م. 10 طبع بعد وفاته، وانظر المجلة (33/ 449) و (34/ 362) 11 انظر: المجلة (19/ 466) وقد طبع في المنار سنة1334هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 13/ يسر الإسلام وأصول التشريع العام 1. 14/ الوهابيون والحجاز 2. 15/ المنار والأزهر 3. 16/ نداء للجنس اللطيف 4. 17/ المسلمون والقبط 5. 18/ الوحي المحمدي 6. 19/ الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية 7. 20/ رسالة في حجة الإسلام الغزالي 8. 21/ رسالة في التوحيد: على طريقة السؤال والجواب 9. 22/ مساواة الرجل بالمرأة وأصلها مناظرة في الجامعة المصرية حول هذا الموضوع 10. 23/ المقصورة الرشيدية: وهي أبيات شعرية عارض فيها مقصورة ابن دريد 11.   1 طبع في المنار سنة 1347هـ 2 طبع سنة 1344هـ 3 طبع سنة 1353 وانظر المجلة (33/ 290و 683 و34/ 451و 34/ 630) 4 طبع في المنار سنة 1351هـ وانظر: تفسير المنار (2/ 376) بالهامش. 5 طبع في المنار سنة 1329هـ وانظر المجلة (14/ 159و29/ 292) 6 طبع لأول مرة في المنار سنة 1352هـ وأصله استطراد لتفسير قوله تعالى في سورة يونس {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم.. الآية} وانظر: مجلة المنار (33/ 316 و702) والتفسير (11/ 145) وما بعدها 7 لم ينشر وأشار إليه الشيخ رشيد: انظر: المنار والأزهر (ص: 189) 8 طبع بعضها فقط. انظر: محمد السلمان: مرجع سابق (ص: 377) 9 لم تطبع 10 طبع بعضها، وأصلها في المجلة: انظر: مجلة المنار (30/ 535و 610و690و777) 11 لم تطبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 24/ تفسير القرآن الحكيم: الشهير بتفسير المنار 1. 25/ الوحدة الإسلامية 2. هذا عدا ما طبعه الشيخ رشيد في مطبعته "المنار" لغيره من المؤلفين، فقد قامت مطبعة المنار بمصر بطبع ونشر كثير من الكتب المختلفة التخصصات، ولقد قام الشيخ رشيد بالتعليق على أكثرها، ولعل من أهم تلك الكتب التي طبعت في مطبعته وعلق عليها، تلك التي طبعها لحساب الدولة السعودية السلفية، بأمر من الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لتوزيعها على طلبة العلم 3، وأغلبها من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعض علماء الدعوة السلفية في نجد، كما أن بعضها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية 4، وكتب أئمة وعلماء المذهب الحنبلي بالإضافة إلى كتب التفسير؛ كتفسير البغوي وابن كثير. ولا شك أن اهتمام الشيخ رشيد بطبع مثل هذه الكتب والتعليق عليها يعطينا فكرة واضحة عن مقدار تأثره بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والدعوة السلفية عموماً، ولقد صارت مطبعة المنار أهم المطابع في مصر والعالم الإسلامي في طبع هذه الكتب 5.   1 وصل فيه الشيخ رشيد إلى سورة يوسف، ولم يتمه. وطبع في المنار مرتين 2 طبع سنة 1325هـ وانظر: قائمة بما لم يطبع: شكيب أرسلان: رشيد رضا (ص: 800ـ 801) 3 انظر: خير الدين الزركلي: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز (ص: 339 ط. دار العلم للملايين/ الثالثة 1977م. 4 هو الإمام المجتهد ناصر الشريعة والسنة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، شيخ الإسلام، ولد سنة 661هـ وتوفي سنة 728هـ ـ رحمه الله ـ انظر: الدرر الكامنة (1/144) وابن كثير: البداية والنهاية (14/135) وما بعدها. والبزار: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص: 18) ط. المكتب الإسلامي، الثانية 1396هـ. 5 انظر: شكيب أرسلان: رشيد رضا (ص: 336) وانظر قائمة بأسماء الكتب التي حققها الشيخ رشيد وهي من تأليف علماء نجد؛ عند: محمد السلمان: مرجع سابق: (381ـ 382) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المطلب الرابع: الكتابات حول رشيد رضا : لقد تعددت الكتابات حول رشيد رضا، وتنوعت بين بحث علمي وآخر تكميلي، وبين مقالة في مجلة، كما عقد عنه وحوله بعض المؤتمرات العلمية. فأما البحوث العلمية، فلا يتهيأ لكاتب أن يكتب عن "محمد عبده" دون أن يتحدث بإسهاب عن تلميذه "محمد رشيد رضا " لذلك فإن كل من كتب عن محمد عبده كتب عن رشيد رضا. ومن ذلك ما فعل د. عبد الله شحاته في: "منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن الكريم" 1، ود. عبد الغفار عبد الرحيم في "الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير" 2،وكذلك كل من كتب عن "المدرسة العقلية الحديثة" كتب فصلاً عن محمد عبده ومعه فصل آخر عن رشيد رضا، ومن ذلك ما فعل فهد الرومي في "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" 3، وفي "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر" 4، والأمين الصادق في "موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية" 5، وكل من كتب عن مناهج المفسرين، فإنه لا بد أن يتناول تفسير المنار ببحث فيه 6. وكل من كتب عن المجددين   1 انظر: د. عبد الله شحاته: "منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن الكريم" (ص: 133) ط. المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر. 2 انظر: د. عبد الغفار عبد الرحيم: الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير" (ص: 323) ط. المركز العربي للثقافة والعلوم. 3 انظر: د. فهد الرومي: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص: 170) ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الأولى، 1408هـ. 4 انظر: د. فهد الرومي: اتجاهات التفسير (ص: 803) ط. بإذن رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، الأولى، 1407هـ. 5 انظر: أمين الصادق: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية (2/ 183 و2/ 215 و2/ 251) ، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى 1418هـ وأرى أنه لا يزال هناك ما يقال في هذا الموضوع فإن الأخ الأمين لم يقل كل شيء. 6 ومن ذلك: د. محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون (2/ 550) ط. مكتبة وهبة، مصر الأولى 1409هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 والمصلحين فإنه يكتب عن رشيد رضا فصلاً في كتابه 1. وقد كتب عنه أيضاً المستشرقون، فقد كتب عنه جولد تسهير في "مذاهب التفسير الإسلامي" 2. وعندما كتب المستشرق آدم متز رسالته الجامعية عن "الإسلام والتجديد"، جعل محورها يدور حول "الأستاذ الإمام" ولكنه فسح المجال لبابين كبيرين تحدث في أحدهما عن "جمال الدين الأفغاني" وفي الآخر عن محمد رشيد رضا 3. وقد توالت الكتب الكثيرة في هذه الحقبة الأخيرة عن محمد عبده وتعاليمه، وكلها تقريباً ترجع إلى مؤلفات "رشيد رضا " وبحوثه وتعده المرجع الأوفى لأستاذه والامتداد الطبيعي لتياره. وبعد ذلك كله لقد خص رشيد رضا ببحوث علمية كان هو موضوعها ومحورها في عدة مسائل من العلم. منها في التربية والتفسير والإصلاح والسياسة والصحافة والدعوة. لقد فاقت البحوث التي كتبت عن رشيد رضا ما كتب عن أستاذه عدداً وموضوعاً. ففي مجال التربية كتب عنه بحثان، الأول: قدم في جامعة أم القرى بعنوان "الفكر التربوي عند محمد رشيد رضا" 4، وبنفس العنوان قدمت رسالة أخرى لجامعة الأزهر 5، وفي التفسير قدم حبيب السامرائي لجامعة   1 انظر: عبد المتعال الصعيدي: المجددون (ص: 450) ، ومحمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين (1/ 235) ، ط. دار القلم، دمشق، الأولى، 1415هـ. وانظر: د. صالح العبود: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي (ص:683) وما بعدها ط. الجامعة الإسلامية. 2 انظر: جولد تسهير: مذاهب التفسير الإسلامي (ص: 350) 3 انظر: رجب البيومي: المصدر السابق، نفس الصفحة 4 كلية التربية 1413هـ، وهو بحث للماجستير. 5 كلية التربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الأزهر حول: "رشيد رضا المفسر" 1، وحصل به على درجة الدكتواره. وفي نفس الجامعة قدم يوسف عبد المقصود بحثه عن "محمد رشيد رضا وجهوده في خدمة السنة" 2، وفي جامعة الأزهر أيضاً قدم أحمد الشرباصي بحثه للدكتوراه بعنوان "رشيد رضا عصره وحياته وجهوده الأدبية واللغوية" 3. وهناك أيضاً قدم جودة أحمد جودة بحثه عن مجلة المنار بعنوان "مجلة المنار وأثرها في قضايا الفكر الإسلامي" 4، وفي مدينة الإسكندرية وكلية الآداب قسم اللغة العربية وآدابها قدم إسماعيل شتا بحثه للدكتوراه بعنوان "محمد رشيد رضا في تفسير المنار وموقفه من حركة التجديد الديني" 5، بإشراف أستاذي محمد بدري عبد الجليل 6. وفي جامعة عين شمس بالقاهرة في كلية الآداب فرع التاريخ قدم أحمد الشوابكة بحثه للدكتوراه عن "محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية 7. وفي الرياض جامعة الإمام، كلية العلوم وقسم التاريخ، قدم محمد السلمان بحثاً قيماً عن "رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" وحصل به على درجة الماجستير 8. وفيما يتعلق بالعقيدة؛ فقد تقدم عبد الله بن رجاء العصيمي ببحث تكميلي في جامعة الإمام بعنوان "الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه الوحي   1 في كلية أصول الدين 1970م. 2 في كلية أصول الدين. 3 في كلية اللغة العربية 1967م لدرجة الدكتوراه. 4 في كلية أصول الدين. 5 مكتبة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية سنة 1988م. 6 هو أستاذ البلاغة والنقد في كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، وجامعة بيروت العربية. 7 انظر: أحمد الشوابكة: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية السياسية، ط. دار عمار، الأردن، الأولى، 1409هـ. 8 انظر: محمد السلمان: رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ط. مكتبة العلا، الكويت، الأولى، 1409هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المحمدي" 1 وكما هو واضح أن هذا البحث في موضوع خاص وكتاب خاص. وأيضاً ـ في العقيدة ـ أو بالأحرى "علم الكلام" قدم خليفة عبد الرؤوف بحثاً للماجستير في قسم "الفلسفة الإسلامية"!! بعنوان: "موقف الشيخ رشيد رضا من القضايا الكلامية" 2. ولم أستطع الاطلاع على هذا البحث لأحكم عليه، إلا أنني لا أكاد أشك في وجهته من خلال القسم الذي قدم فيه "الفلسفة الإسلامية" والموضوع الذي دار حوله "القضايا الكلامية". ويبقى هنا كتاب واحد لا يصنف مع البحوث العلمية ـ باعتراف كاتبه ـ ولم أكن أنوي ذكره هنا ـ إلا أن رغبة بعض من حولي مالت بي إلى هذا. هذا الكتاب وباعتراف صاحبه ليس بحثاً علمياً رغم أنه كتب على طرته أنه بحث للماجستير حول رشيد رضا: طود وإصلاح دعوة وداعية، جهاده في خدمة العقيدة، وأثره في الاتجاهات المعاصرة". وأقول إنه ليس بحثاً علمياً لأنه لم يخضع للإشراف العلمي في أي جامعة علمية في العالم 3. وأيضاً لأنه باعتراف صاحبه ـ افتقر إلى أهم عنصرين في البحوث العلمية وهما: الوقت والتفرغ والرجوع إلى المصادر الأصلية في موضوع البحث. فإدخال هذا الكتاب ضمن البحوث العلمية ينطوي على التدليس.   1 كلية الدعوة، قسم الدعوة والاحتساب 1407 هـ. 2 كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 1989م. 3 حصل هذا الكاتب وهو المهندس خالد فوزي على بكالوريوس الهندسة ثم التحق بمعهد إعداد الدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة، ومدة الدراسة فيه سنتان دراسيتان، والذي أفهمه أن هذا الطالب حصل على بكالوريوس العلوم الدينية والماجستير في هذين العامين، وهو ما لا يسمح به نظام التعليم العالي في المملكة العربية السعودية، كما أن هذا المعهد ليس تابعاً لوزارة التعليم العالي، بل هو معهد خاص له هدف خاص. ومن الأدلة على الخطأ في هذا العنوان واضطرابه أن هذا الكتاب طبع من قبل باسم آخر، وقال مؤلفه إن ذلك كان بناءً على طلب الناشر. انظر: (ص: 3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فهذا العنوان الطويل، الذي لا يتناسب مع البحوث العلمية الجادة، ولا يمكن لباحث أن يتناول كل موضوعاته هذه إلا إذا قصّر فيها جميعاً تقصيراً شديداً، لم يجب فيه صاحب هذا الكتاب عن أي تساؤل ولم يكتشف أي حقيقة، كما قال هو بنفسه 1. والذي منعه عن الإجابة هو "ضيق الوقت وافتقار هذا البحث إلى التحليل العلمي المتخصص الذي يوجد في البحوث التي كثرت مراجعها ومظانها، فلقلة المعرفة وندرة المراجع، والتعتيم الإعلامي الواضح الذي أضفي على شخصية هذا الرجل ... " 2، وفيما يتعلق بنتائج البحث يقول: "ولم أصل في هذا البحث إلى غاية منشودة أو أمنية مفقودة، ولكن هذه السطور تضع علامات استفهام كبيرة، وتطرح أسئلة كثيرة نبحث عن إجابتها ... " 3. وحتى لا يظن إن الكاتب قال ما قال من باب التواضع فإنني أذكر أمثلة تدل على صدقه: الأول: بسبب ضيق الوقت وعدم الاعتماد على المصادر الأصلية وهي هنا مؤلفات رشيد رضا ـ فقد وقع الكاتب في أوهام عجيبة منها: أ) ـ أنه رغم هذا العدد من البحوث العلمية التي كتبت عن رشيد رضا ـ ورغم أني اقترحت في بحثي هذا أيضاً عدة بحوث حول رشيد رضا ـ ورغم عدد المقالات التي كتبها طيلة خمس وثلاثين سنة في مجلة المنار، ورغم ما كتب عنه حياً وميتاً من هذه المقالات قديماً وحديثاً 4، وما عقد   1 انظر (ص:8) من كتابه ط. دار علماء السلف، الإسكندرية، الثانية، 1415هـ. 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 المصدر نفسه. 4 من المقالات القديمة؛ انظر مثلاً: فريد وجدي: مجلة نور الإسلام (الأزهر) عدد: رجب، 1354هـ، ومحمد مصطفى المراغي: (شيخ الأزهر) : مجلة المنار (35/ 186) ، ومصطفى عبد الرزاق (شيخ الأزهر) : مجلة الرسالة، العدد 9، (ص: 627) سنة 1945هـ، عدد يوليو. ومن المقالات الحديثة: انظر: محمد رجائي: رشيد رضا ومجلة المنار: مجلة المؤرخ العربي، العددان 41و 42، السنة السادسة عشرة 1410هـ (ص: 61 ـ 78) ومحمد أبو بكر حميد: الإمام محمد رشيد رضا: منار الإسلام في عصره: مجلة أهلاً وسهلاً السعودية: سنة 19، العدد 8، ربيع الأول: 1416هـ (ص: 38 ـ 41) وأحمد درنيقة: موقف رشيد رضا من الاستعمار الإيطالي والإنجليزي: مجلة التقوى، لبنان، العدد 66، ربيع الثاني: 1418هـ (ص: 30 ـ 31) ، وكاتب هذه المقالة له مقالات أخرى حول رشيد رضا في المجلة نفسها، كما أن له مؤلفاً حول الشيخ رشيد رضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 حوله من مؤتمرات شارك فيها حياً أو عقدت عنه بعد وفاته 1. إلا أن المؤلف صاحب الطود يتساءل متعجباً "عن التعتيم على حياة ومؤلفات رشيد رضا وعدم الاهتمام بها نصف أو ربع بل عشر ما لاقاه من هو دونه" 2. وعلى كل حال هو لم يجب أيضاً عن هذا السؤال الخطير. ب) ـ دعي رشيد رضا إلى حضور "المؤتمر السوري" في "جنيف" لمناقشة مستقبل سورية واستقلاله، عقد هذا المؤتمر في هذه المدينة الأوروبية. وقد اهتم رشيد رضا ـ كعادته في رحلاته كلها ـ بكتابة كل شيء حول هذا المؤتمر ـ بدءاً من أسبابه وجلساته إلى نتائجه، وكل ذلك في مجلة المنار 3، إلا أن صاحب"الطود" لم يوافق على أن المؤتمر عقد في جينيف بسويسرا، وربما لأنه "مؤتمر سوري" فلا بد أن يعقد في دمشق 4، والسبب في ذلك الوهم اعتماده على الوسائط في بحثه. جـ) ـ منذ الأعداد الأولى لمجلة المنار نشب صراع صحفي بين مجلة المنار وعدد من الصحف التبشيرية، وحمي وطيس المعركة وأثارت النقع   1 عقد حول رشيد رضا مؤتمر أو "حلقة دراسية" في جامعة الزرقاء الأردنية بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة بعنوان: "محمد رشيد رضا وجهوده الإصلاحية" اختتم أعماله يوم الأربعاء 28/ 7/ 1999م =15 ربيع الآخر 1420هـ. انظر: جريدة الشرق الأوسط، السعودية، عدد الأحد، 1/ 8/ 1999م (ص: 16) (ص:9) 3 انظر: مجلة المنار (23/ 114 ـ 120 و383 ـ 390و 441 ـ 459 و553 ـ 560 و696 ـ 802) ، وانظر: صورة شمسية للمؤتمرين عند: يوسف أيبش: رحلات رشيد رضا (ص: 321) ط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الثانية: 1979م. 4 انظر: كتابه (ص: 32 ـ 33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 حتى وصل إلى أنف الحاكم البريطاني في مصر الذي أوعز لرئيس وزرائها بإغلاق مجلة المنار، وكادت أن تغلق المجلة واستدعي رشيد رضا لمقابلة رئيس الوزراء، ولكنه رفض التنازل والتخلي عن رده على المبشرين ولو أغلقت مجلته وعاد إلى بلاده 1، ومع ذلك ـ وبسبب الاعتماد على المصادر الوسيطة، ادعى المؤلف أن رشيد رضا كان بينه وبين النصارى موالاة وملاينة 2. الثاني: وفيما يتعلق بالعقيدة، فقد تناول المؤلف كل جهود رشيد رضا في العقيدة في تسع وتسعين ومائة صفحة فلم يكن لتوحيد الربوبية أي نصيب، وحظي توحيد الألوهية بخمس صفحات، وكان أسعد المباحث حظاً مبحث الصفات، فقد فاز بسبع وأربعين صفحة تتبع فيها آيات الصفات في التفسير ـ كما فعل المغراوي ـ 3، وتوصل إلى نتائج عجيبة منها أنه ادعى أن رشيد رضا أثبت الوجه لله تعالى معتمداً على آية يرى رشيد رضا أنها ليست من آيات الصفات أصلاً 4. وبناءً على ذلك لا أعتبر هذا المؤلف من البحوث العلمية التي دارت حول رشيد رضا، وأعتقد أن إدخاله فيها ينطوي على التدليس.   1 انظر: مجلة المنار (17/ 478) 2 انظر: كتابه (ص: 55) 3 انظر: المفسرون بين التأويل والإثبات (1/ 262) وما بعدها ط. دار طيبة الرياض الأولى 1405هـ 4 انظر: كتابه (ص: 109 ـ 110) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 المبحث السادس: وفاة الشيخ رشيد : توفي الشيخ رشيد رحمه الله بعد عودته من وداع الأمير "سعود بن عبد العزيز" في ميناء السويس في طريقه إلى القاهرة، في يوم 23 جمادى الأولى 1354هـ = 22 أغسطس 1935م 1. وقد أحدثت وفاته صدى هائلاً في الأوساط المصرية سياسية وعلمية. ورثاه العلماء والأدباء والساسة على السواء 2. وبوفاة الشيخ رشيد انتهت قصة "المنار"، ولم تنجح أي محاولة أخرى لبعثها، لأن "المنار" كانت هي "رشيد رضا" 3. وكانت مجلة "الهدي النبوي" التي أسسها حامد الفقي هي الوريث الوحيد لمجلة المنار، كما كانت مطبعة أنصار السنة المحمدية هي المتمم لمطبعة المنار 4. ولقد دفن الشيخ رشيد بجوار شيخه "محمد عبده" في مقابر المجاورين بالأزهر 5.   1 انظر: مجلة المنار (35/153 و158 و215) وما بعدها. وكانت الوفاة طبيعية إلا أن صاحب الطود أراد أن يشكك في ذلك وبدون مبرر: انظر: رشيد رضا: طود إصلاح.. (ص: 9، 50) 2 انظر أثر وفاة الشيخ ورثاء الشعراء له: مجلة المنار (35/ 149 وما بعدها) . 3 ولقد حاول "حسن البنا" أن يصدر المجلة فأصدر منها أعداداً ثم توقف نظراً لاختلاف منهجه مع منهج الشيخ رشيد ورفض القراء لهذا المنهج. انظر: مجلة المنار: (35/ الجزء الخامس ص 3 و19 وما بعدها، والجزء السادس ص 63ـ64) . 4 مجلة التوحيد: السنة 23، عدد 6، (جمادى الآخرة) (ص: 59) 5 انظر: مجلة المنار (35/154) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الفصل الثالث: منهج رشيد رضا في الاستدلال وموقفه من علم الكلام تمهيد تمهيد ... تمهيد: إنه ـ ومن خلال قراءة مؤلفات الشيخ رشيد ـ تبين لي أنه اعتمد على المصادر الرئيسة المعتمدة عند أهل السنة والجماعة في تلقي وفهم العقيدة، هذه المصادر هي: الكتاب والسنة والإجماع 1، ثم فهمها على ضوء القواعد التي سار عليها وقررها سلفنا الصالح ـ رحمهم الله تعالى ـ وقد اتخذ الشيخ رشيد موقفاً رافضاً لمواقف المتكلمين وطريقتهم في الاستدلال على مسائل العقيدة، مؤيداً لمدرسة أهل السنة وطريقتهم. وقد قسمت الفصل إلى المباحث التالية: المبحث الأول: مصادر التلقي عند الشيخ رشيد؛ ويبحث تحته موقفه من المصادر الرئيسة، وهي: الكتاب والسنة والإجماع، والمصادر الثانوية، وهي: العقل والفطرة 2. المبحث الثاني: قواعد الاستدلال عند الشيخ رشيد، ويبحث فيه عن القواعد التي اعتمدها وسار عليها في فهمه للنصوص. المبحث الثالث: موقف الشيخ رشيد من علم الكلام والمتكلمين، وقد وجدت له موقفين: قديم وجديد.   1 انظر: الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه (1/55و86 و 154) ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1395هـ =1975م. وابن عبد البر: جامع بيان العلم (2/33) ط. دار الكتب العلمية، بيروت. 2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (3/ 338 ـ 339 و 4/ 45) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 المبحث الرابع: موقف رشيد رضا من شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته. المبحث الخامس: موارد الشيخ رشيد في العقيدة، إذ يتبين لنا من خلالها الكتب التي اعتمد عليها في بحث مسائل العقيدة، فيكون ذلك بمثابة التطبيق العملي بعد التقسيم النظري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 المبحث الأول: مصادر التلقي عند رشيد رضا المطلب الأول: القرآن الكريم ... المبحث الأول: مصادر التلقي عند رشيد رضا: تنقسم مصادر التلقي عند أهل السنة إلى قسمين: مصادر رئيسة هي: الكتاب والسنة والإجماع. ومصادر ثانوية هي: العقل السليم والفطرة القويمة، وفيما يلي نتعرف على موقف الشيخ رشيد من هذه المصادر جميعاً: المطلب الأول: القرآن الكريم: القرآن الكريم عند جميع المسلمين حجة في جميع قضايا الدين العلمية والعملية، الإنشائية والخبرية، وهو الفرقان بين الحق والباطل، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 1، وأقام الله تعالى به الحجة على العالمين: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2، فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله 3، وأمر الله تعالى   1 سورة الفرقان: الآية (1) 2 سورة الأنعام: الآية (19) 3 انظر: ابن القيم: مختصر الصواعق، للموصلي (ص75) ط. دار الكتب العلمية، الأ, لى1405هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 بالتحاكم إليه فقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 1، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 2. واعتمد الشيخ رشيد ـ كجميع المسلمين ـ على كتاب الله تعالى، مصدراً أساسياً في استمداد وبحث مسائل العقيدة، والاستدلال عليها. فمهما وجد في كتاب الله دليلاً على شيء منها أورده وقدمه على غيره من الأدلة. لأن الله تعالى إنما أنزل القرآن هداية للناس. لقد اعتنى الشيخ رشيد ببيان الحكمة من إنزال القرآن وكونه أُنزل هدايةً عامة للناس، وأوْرد الآيات والأحاديث التي تبين هذه الحكمة، وحمل على الذين اتخذوا قراءته هدفاً وحرفة دون الاهتداء به 3. وخلاصة ما قاله في ذلك: إن الله تعالى أنزل القرآن نوراً وهدى للناس ليهتدوا به ويسعدوا في الدنيا والآخرة. قال: "والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها ناطقة بأن القرآن أنزل عبرة وتذكرة وشفاءً لما في الصدور أي القلوب من أمراض الجهل بالله وبما على عباده من الحقوق" 4. واحتج أيضاً في تقرير هذا المعنى بالأحاديث الواردة في القرآن فقال وقد أورد عدداً منها 5:" وأما الأحاديث الواردة في القرآن فمنها ما ورد في حفظه وتعلمه وتعليمه وهذا مطلوب لأمرين: أحدهما: فرض عيني وهو معرفة العقائد الصحيحة والآداب الكاملة وفقه الأعمال التعبدية، والدنيوية التي فصَّلت السنة كيفياتها وبيّنت صورها. والثاني: فرض كفاية؛ وهو تبليغه بلفظه على الوجه الذي أُدّي إليه.." 6.   1 سورة الشورى: الآية (10) 2 سورة النساء: الآية (105) 3 وللشيخ رشيد فتويان في ذلك: الأولى مطولة في مجلة المنار (8/ 258) والثانية مختصرة في = = التفسير (1/ 4) وما بعدها 4 مجلة المنار (8/ 260) 5 انظر نفس المصدر والصفحة. 6 نفس المصدر (8/ 261) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ولما كانت هذه الحكمة من إنزال القرآن فقد تكفل الله تعالى بحفظه لحفظ هذه الهداية العامة والخاتمة، وقد تبدَّى هذا الحفظ في توثيق نص القرآن الكريم توثيقاً منقطع النظير على مرّ الأيام والعصور، فالقرآن كما يقول الشيخ رشيد هو:"الكتاب الإلهي الوحيد الذي نقل بنصه الحرفي تواتراً عمن جاء به بطريقي الحفظ والكتابة معاً.." 1. وفيما يتعلق بهذا الحفظ ترد شبهة نسخ بعض الآيات والتي وقع فيها الشيخ رشيد، ورفض القول بنسخ بعض الآيات، وسوف أتناول هذه المسألة بعد قليل. وإذا كانت الحكمة من إنزال القرآن هي الاهتداء به فإن ذلك يتوقف على فهم معانيه. فما هو منهج الشيخ رشيد في هذا الصدد؟ بين الشيخ رحمه الله المنهج الواجب اتباعه في تفسير القرآن وبيان معانيه، فقال: إن هناك علوماً لا بد منها في فهم هذا الكتاب كفنون العربية، واصطلاحات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن وقواعد النحو والمعاني، ومنها أيضاً معرفة سنن الله تعالى في هذا الكتاب 2. كل ذلك مما يعين على فهم معاني القرآن. ولكن الشيخ رشيد يحمل على بعض المفسرين الذين شغلوا قرّاءه عن مقاصده العالية وهدايته السامية، بمباحث الإعراب، وقواعد النحو ونكت المعاني ومصطلحات البيان، وكذلك ما يصرف عن هدايته من جدل المتكلمين وتخريجات الأصوليين وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، كما أن بعضها صرف الناس عن هدايته بكثرة الروايات وما مُزِجت به من خرافات الإسرائيليات 3. وزاد بعضهم صارفاً آخر عن هذه الهداية بما   1 الوحي المحمدي (ص:84) 2 انظر: تفسير المنار (1/ 7) 3 الإسرائيليات: جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل، والمراد بها هنا: الأخبار المروية عن كتب أهل الكتاب في التفسير والقصص والتاريخ والمواعظ. انظر: محمد أبو شهبة: الإسرائيليات والموضوعات (ص: 12ـ 13) ط مكتبة السنة ـ القاهرة، الرابعة سنة 1408هـ وعمر حسن فلاتة: الوضع في الحديث النبوي (1/330) مكتبة الغزالي، دمشق. 1401هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 يورده من العلوم الرياضية والهيئة الفلكية اليونانية من المتقدمين والمتأخرين 1. فيرى رحمه الله أنه لا ينبغي الإسراف في تناول هذه العلوم ويكتفى منها بالقدر الذي يعين على فهم هذا الكتاب على الوجه الذي أنزل من أجله "إذ أن الإكثار في مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج بالكثيرين عن المقصود بالكتاب الإلهي" 2. وقد ظهر لي أن المنهج الذي سار عليه الشيخ رشيد في فهم معاني القرآن أنه أولاً يفسر القرآن بالقرآن، أعني يفسر الآية بما يوضحها من آيات الكتاب الكريم. وهذه الطريقة هي أعلى مراتب التفسير، إذ أن القرآن يصدِّق بعضه بعضاً. وهو منهج صحيح ومعتبر عند أهل السنة والجماعة 3. ويتضح هذا المنهج عند الشيخ رشيد بأدنى بحث وتأمل. ونأخذ على ذلك أمثلة: من تفسيره للفاتحة: فعند تفسيره لقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 4 يقول: ويشبه هذا قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 5. وعند قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 6، قال: "وفي ذلك اليوم يوفى كل فرد من أفراد العالمين جزاءه كاملاً لا يظلم شيئاً منه، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 7."   1 انظر: تفسير المنار (1/7) 2 نفس المصدر (1/18) 3 انظر: ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير (ص: 41) ط السلفية، الرابعة، 1399هـ. وابن كثير: التفسير (1/4) ط. الأولى 1408هـ ط. الريان، مصورة دار الحديث، ومحمد الأمين الشنقيطي:= = أضواء البيان (1/3) ط. مكتبة ابن تيمية. 4 سورة الفاتحة: الآية: (6) 5 سورة العصر. وانظر: تفسير المنار (1/37) 6 سورة الفاتحة: الآية: (4) 7 سورة الزلزلة: الآية: (7و8) وانظر: تفسير المنار (1/55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وعند قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1، قال:" والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله، وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 2. وعند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 3، فسر الشيخ رشيد الهداية فيها بآيات مشابهة كقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 4، وقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 5، وبقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 6، قال: " وإنما المراد بهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة، فقد أحال على معلوم أجمله في الفاتحة وفصله في سائر القرآن.." 7. وعند قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 8 قال: "فهو كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 9. وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 10 وقوله: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 11 ومن هذا القبيل قوله عز وجل {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ   1 سورة الفاتحة: الآية: (5) وانظر: التفسير (1/60) 2 سورة هود: الآية: (123) 3 سورة الفاتحة: الآية: (6) 4 سورة البلد: الآية: (10) . 5 سورة فصلت: الآية: (17) 6 سورة الأنعام: الآية (90) 7 انظر: تفسير المنار (1/64 و66ـ67) 8 سورة النساء؛ الآية (1) 9 سورة الروم: الآية (21) 10 سورة النحل: الآية (72) 11 سورة الشورى: الآية (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 1 وقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 2 ومثلها في سورة البقرة 3 وسورة الجمعة 4، فلا فرق بين عبارة الآية التي نفسرها وعبارة هذه الآيات" 5. وعند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 6، قال مفسراً: "أي جعل لها زوجها من جنسها فكانا زوجين ذكراً وأنثى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} 7، كما أنه خلق من كل جنس وكل نوع من الأحياء زوجين اثنين، قال عز وجل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 8.." 9. ويلي هذا عند الشيخ رشيد تفسير الآية بما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لأن ما صح من المرفوع لا يقدم عليه شيء" 10. كما أنه يستند ـ مع السنة ـ إلى ما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول 11. يقول الشيخ رشيد مفصلاً منهجه بعد وفاة شيخه محمد عبده: "هذا وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه ـ رحمه الله تعالى ـ بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها وفي حكمها أو في تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة.." 12   1 سورة التوبة: الآية (128) 2 سورة آل عمران: الآية (164) 3 الآية (151) 4 الآية (2) 5 تفسير المنار (4/ 330) 6 سورة الأعراف: الآية (189) 7 سورة الحجرات: الآية (13) 8 سورة الذاريات: الآية (49) 9 تفسير المنار (9/ 517) وانظر: أيضاً أمثلة أخرى (8/ 284) وايضاً (8/ 9ـ 10) 10 تفسير المنار (1/ 7) 11 نفس المصدر والصفحة، و (6/ 196) 12 نفس المصدر (1/16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وهذا المنهج صحيح أيضاً معتمد عند أهل السنة 1. كما أن الشيخ رشيد يستعين أيضاً بلغة العرب 2، لأن القرآن نزل بلغتهم ولا يفهم إلا بها. فيجب لذلك تعلمها على كل مسلم 3. ويورد الآيات المصرحة بكون اللغة العربية هي لغة القرآن 4، ويقف بشدة ضد ترجمة القرآن ترجمة لفظية لأن ذلك غير مقدور عليه، وإن كان يجوز ترجمة معانيه. وأطال الشيخ في ذلك وطبع كتاباً حول هذا المعنى مستلاً من مجلة المنار 5. ومعتمداً على ابن تيمية ـ يبين الشيخ رشيد أنواع الاختلاف في التفسير فيقول:" إن الاختلاف في التفسير على نوعين: الأول: ما مستنده النقل فقط، والثاني: مستنده الاستدلال بالعقل، والأول: إما منقول عن النبي أو غيره، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه، ومنه ما لا يمكن ذلك، وهذا الأخير غالباً ـ مما لا فائدة في معرفته، كالمنقول عن أهل الكتاب، ومنه الصحيح وهو كثير. وأما الخطأ فيما طريقه الاستدلال فيرجع إلى أمرين حدثا بعد القرون المفضلة: الأول: حمل ألفاظ القرآن على معان اعتقدوها لتأييدها به كجميع الفرق والمذاهب في الأصول والفروع، فإنهم قد جعلوا مذاهبهم أصولاً والقرآن فرعاً لها يحمل عليها. والثاني: التفسير بمجرد دلالة اللغة العربية من غير مراعاة المتكلم بالقرآن وهو الله عز وجل والمنزَّل عليه والمخاطب به.."6. ومن المسائل الهامة التي ناقشها الشيخ رشيد في منهج الاستدلال   1 انظر: ابن تيمية مقدمة في أصول التفسير (ص: 41ـ 42) 2 انظر: تفسير المنار (1/21) و (6/ 196) و (9/ 310) وما بعدها 3 المصدر السابق (9/ 311) 4 المصدر السابق (9/ 314) ومجلة المنار (26/ 2) وما بعدها 5 انظر: مجلة المنار (26/411و491و493و481و 492و574و580و681) وأيضاً فتوى في حظر ترجمته (26/ 485) وانظر التفسير (9/ 325) حاشية. 6 تفسير المنار (1/ 908) وقارن مع ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير (ص:18) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بالقرآن الكريم: وجوب الإيمان بظاهر القرآن، فقد ردّ على من يقول: إن الإيمان بظاهر القرآن كفر، فقال: "وإننا لم يبلغنا أن أحداً من مبتدعة هذه الأمة ولا من أهل الكتاب تجرأ على مثل هذا القول في كتاب ربه، فزعم أن المؤمن به على ظاهره هو الكافر به، أي دون من يحرفه أو يتأوله برأيه أو تقليده ولو لبعض أدعياء العلم.."1. ويرد هذه الدعوى علمياً فيقول: "وأكتفي من جهة العقيدة بأن الإيمان بظاهر القرآن واجب بالإجماع، فإن أوهم تشبيهاً جزمنا بأن التشبيه غير مراد بدليل العقل والنقل، وفوضنا الأمر في كيفية ذلك وتأويله ـ أي ما يؤول إليه ـ إلى الله عز وجل ... 2. ويرفض الشيخ رشيد التأويل في آيات الكتاب رفضاً قاطعاً لأننا وكما يقول: "نرى كثيراً من المحرمات قد انتهكت في المسلمين بمثل تلك التأويلات.. ولقد صارت هذه الحيل على الله عز وجل، والتأويلات الباطلة الهادمة لدينه محدوده من علم الدين..3. ويقول مخاطباً المتأولين: "وليعلموا أنه لا يوجد كلام قط لا يمكن حمله على غير المراد منه، حملاً يقبله الكثير من الناس المشتغلين بالعلم، وليطالعوا كتاب "حجج القرآن"4 ويتأملوا كيف استدل جميع أصحاب المذاهب المبتدعة في الإسلام بآياته التي هي في منتهى البلاغة في البيان على تلك المذاهب المتناقضة.." 5. وهذان الموقفان من الشيخ رشيد من هاتين المسألتين أعني: الإيمان   1 مجلة المنار (33/ 373) والحق أن القائل بهذا وهو الشيخ يوسف الدجوي، قد قلد في ذلك المتكلمين قبله: انظر: ابن القيم: (مختصر الصواعق للموصلي) (ص: 18و22) وما بعدها. 2 مجلة المنار (33/ 373) 3 تفسير المنار (1/ 406) 4 كتاب "حجج القرآن" لأبي الفضائل أحمد بن محمد بن المظفر بن المختار الرازي الحنفي من أعيان القرن السابع، كان موجوداً إلى سنة 630 هـ جمع فيه خلاف الفرق المختلفة وحجج كل فرقة. انظر: حجج القرآن. ط: دار الكتب العلمية بيروت، الأولى 1406هـ. 5 مجلة المنار (13/ 421) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بظاهر القرآن ورفض التأويل، موقفان صحيحان ولا يعكر عليهما إلا وقوع الشيخ رشيد فيما رفضه وعارضه من التأويل، ومن ذلك ما فعله ـ متابعة لشيخه محمد عبده ـ عند تأويله للحوار الذي دار بين الله تبارك وتعالى والملائكة 1،وسكوته عن هذا التأويل أو بالأحرى عن هذا العبث، وكذلك تأويله لقصة البقرة في سورتها 2،وتأويل "محمد عبده" للملائكة 3. مما جعل الشيخ رشيد هدفاً للطعن عليه فيما بعد4، وكثيراً ما حاول الشيخ رشيد أن يجد تفسيراً لبعض الآيات يكون "مقبولاً" لدى العقول العصرية، مثلما فعل في حجارة قوم لوط 5، وسيأتي بيان موقفه من التأويل تفصيلاً إن شاء الله تعالى في موضعه. وموقف آخر لا نحمده له ـ فيما يتعلق بمنهجه في الاستدلال بالقرآن هو موقفه من نسخ التلاوة، وأريد أن أقف قليلاً عنده. النسخ: النسخ من مباحث علمي "الأصول وعلوم القرآن" فهو يُبحث في العلمين. وهو في اللغة: الرفع والإزالة 6. كما أنه يستعمل في النقل أيضاً 7. وشرعاً هو: إزالة الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً به مع تراخيه عنه8.والنسخ ثلاثة أنواع:   1 تفسير المنار (1/281و3/ 253و458، و8/ 332) والمجلة (5/87ـ88) 2 انظر: تفسير المنار (1/ 351) 3 نفس المصدر (1/ 254ـ 255) 4 انظر: مجلة المنار (32/679و753) 5 انظر: تفسير المنار (8/ 516و517) ومثله في خلق عيسى: التفسير (3/ 308) 6 انظر: الأصفهاني: المفردات (801) ط. دار القلم بيروت، الأولى 1412هـ مادة نسخ. والخطيب: الفقيه والمتفقه (1/ 80) ، الأصفهاني: بيان المختصر (2/ 489) ط. أم القرى، الأولى 1406هـ. ت. محمد مظهر بقا. 7 الخطيب: المصدر السابق: نفس الصفحة، وكذا الأصفهاني. 8 الخطيب: المصدر السابق: نفس الصفحة، وهناك تعاريف أخرى: انظر: الأصفهاني: بيان المختصر: نفس الصفحة، واخترت تعريف الخطيب ليدخل فيه منسوخ التلاوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 نسخ الحكم دون الرسم، وهو المشهور، وصنفت فيه الكتب، ونسخ الرسم دون الحكم، ونسخ الرسم والحكم 1. والأدلة على ثبوت النسخ آيات منها قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 2وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} 3، وترشدنا الآية الأخيرة إلى أن نسخ التلاوة كان مثار شبهة عند الكفار4. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} يرد شبهة البداء 5عند منكري النسخ إذ أن العلم يدفع هذا 6، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 7 أي أن تنساه 8ولا يثبت النسخ إلا بوحي. قال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 9. ولقد أثبت الشيخ رشيد من النسخ النوع الأول، وهو منسوخ الحكم دون التلاوة 10، وأنكر نسخ التلاوة مع الحكم أو وحدها 11.   1 انظر: الخطيب: المصدر السابق: نفس الصفحة، والسيوطي: الإتقان: 3/ 62. ط. المكتبة العصرية، 1408هـ. ت: محمد أبو الفضل إبراهيم. والزرقاني: مناهل العرفان (2/214) ط. دار إحياء الكتب العربية، فيصل الحلبي. ومحمد علي السايس: تفسير آيات الأحكام (1/28) ط. صبيح بمصر 2 سورة البقرة: الآية (106) 3 سورة النحل: الآية (101) 4 انظر: ابن كثير: التفسير (2/567) ، وصديق حسن خان: فتح البيان: (5/298) ط. دار أم القرى، القاهرة، 1965م. 5 البداء: هو الظهور بعد الخفاء، وأيضاً حدوث رأي جديد لم يكن من قبل، وهذان المعنيان مستحيلان على الله تعالى لكمال علمه تعالى. ويعتقد الرافضة جوازه على الله تعالى. انظر: غالب العواجي: فرق معاصرة (1/250ـ 251) 6 انظر: الأمين الشنقيطي: أضواء البيان (3/328) 7 سورة الأعلى: الآية (6،7) 8 الأمين الشنقيطي: المصدر السابق: نفس الصفحة. 9 سورة يونس: الآية (15) وانظر: الأمين الشنقيطي: المصدر السابق (ص:329) 10 انظر: تفسير المنار (1/413ـ 414) والمجلة (12/693) و (7/ 611ـ 612) 11 انظر: مجلة المنار (7/ 611) و (12/ 208) حاشية و (292) حاشية و (12/694) و (31/ 49) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وتعلل الشيخ رشيد في إنكاره لمنسوخ التلاوة مع الحكم أو وحده بأنه قد يعد شبهة على الدين 1. وبأن ما روي مما قيل أنه منسوخ لا يتفق مع أسلوب القرآن وبلاغته 2، وبأن القرآن لا يثبت بطريق الآحاد، وكون الآية منسوخة فرع كونها آية فلا بد فيه من التواتر المشروط لإثبات القرآن 3. ثم طعن في الأحاديث الواردة في ذلك ولم يستثن منها ما روي في الصحيحين. فأما إثباته لنسخ الأحكام مع بقاء لفظ الآيات فمن قوله: " وإنّ نسخ حكم في الشريعة بحكم آخر هو كنسخ شريعة بشريعة أخرى، معقول المعنى موافق لحكمة التشريع في انطباقها على مصالح الناس التي تختلف باختلاف الزمان والأحوال، لا شبهة فيه على أصل الدين ... "4. وفي حكمة بقاء الآية مع رفع الحكم، يقول: " حكمة بقاء الآية التي نسخ حكمها التذكر بنعمة النسخ والتعبد بتلاوتها ... "5. وأما إنكاره لمنسوخ التلاوة فقد ذكره في عدة مواضع من المجلة ففي المجلد السابع، قال: " أما نسخ لفظ الآية مع بقاء حكمها أو نسخ لفظها وحكمها معاً فمما لا يجب علينا اعتقاده وإن قال به القائلون ورواه الراوون، وقد علله القائلون به والتمسوا له من الحكمة ما هو أضعف من القول به وأبعد عن المعقول ... " 6. ويقول عن حكمة هذا النوع: " وأما نسخ التلاوة فلم تظهر لنا حكمته ولم يأت اليافعي 7 ولا من قبله من العلماء الذين اطلعنا على أقوالهم   1 انظر: مجلة المنار (7/ 612 و 33/35) . 2 المصدر السابق (7/612) . 3 المصدر السابق والصفحة. 4 نفس المصدر (12/693) . 5 نفس المصدر (7/611) ، وتفسير المنار (1/414) . 6 مجلة المنار (7/611) . 7 هو الشيخ صالح اليافعي من علماء اليمن ـ أقام في الهند ـ وهو الذي تولى الرد على من أنكر نسخ التلاوة في مجلة المنار. انظر: مجلة المنار (12/125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بحكمة مقنعة لمن كان مستقلاً في فهمه غير مقلد فيه لا سيما نسخ اللفظ مع بقاء الحكم" 1. وفيما يتعلق بالأدلة التي يسوقها المثبتون يقول: " وأما الدليل على وقوع ذلك فهو بعض الروايات عن الصحابة وهي وإن صحح مثل البخاري أسانيدها محل إشكال في متنها كأحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما ... " 2. ويقول: " وجملة القول أنه لم يرد في هذا المقام حديث صحيح السند إلا قول عمر 3 في الشيخ والشيخة إذا زنيا وهو من رواية الآحاد ... وأنا لا أعتقد صحته وإن روي في الصحيحين ... " 4. هذا هو حاصل ما قاله في إنكاره لمنسوخ التلاوة وقد خالف الشيخ رشيد في ذلك أهل السنة الذين يثبتون النسخ اعتماداً على الكتاب العزيز وعلى السنة المتواترة. وهو ما أود بيانه فيما يلي: لقد تواترت الأحاديث في منسوخ التلاوة 5 بحيث أصبح ذلك حقيقة لا تدفع، وكان الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أن من القرآن ما يرفع وينسخ وأن ذلك جائز ويقع. وكان بعضهم يرى جواز قراءة المنسوخ، فأعرض عن قراءته الصحابة. قال عمر رضي الله عنه: " عليٌّ أقضانا وأبيٌّ أقرؤنا وإنا لندع كثيراً من لحن أبيّ، وأبيّ يقول سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أدعه لشيء، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 6". وعن أبيٌّ قال: "صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الفجر وترك آية فجاء أبيّ وقد فاته بعض   1 مجلة المنار (12/694) . 2 نفس المصدر والصفحة. 3 سيأتي تخريجه بعد قليل إن شاء الله. 4 مجلة المنار (7/612) . وحاول الشيخ رشيد أن ينكر إنكاره ذلك في مناظراته للشيخ يوسف الدجوي، والحق أن إنكاره ثابت. انظر: مجلة المنار (33/33) وما بعدها. 5 انظر: الألباني: الصحيحة (6/961) ط. مكتبة المعارف، الرياض، الأولى 1417هـ. 6 سورة البقرة: الآية (106) ، وانظر هذا الأثر عند البخاري: الصحيح: كتاب: فضائل القرآن، باب: القراء من أصحاب النبي (، ح: 5005 (8/664) ، وقوله: من لحن أبيّ أي: ترك من قراءته مما نسخ من القرآن. انظر: البنا الساعاتي: الفتح الرباني (18/57) بالحاشية، ط. مطبعة الأخوان المسلمين، الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 صلاة، فلما انصرف قال يا رسول الله: نسخت هذه الآية أو أنسيتها، قال: لا، بل أنسيتها" 1. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: " قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يصليان بها، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه مما نُسخ أو نُسي" 2. ولقد كانت سورة الأحزاب تساوي أو تزيد على سورة البقرة، وكان فيها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عليم حكيم" 3. وكانت سورة البينة أطول مما هي عليه الآن، وقد قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبيّ، وفيها: "إن ذات الدين الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولاالنصرانية ولا المجوسية، من يعمل خيراً لن يكفره"، وقرأ عليه: "لو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثانياً ولو كان له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً ... " 4. ثم رفعت هذه الآيات وبقيت السورة كما هي الآن في المصحف. لقد رفعت سور بأكملها، ومنها سور طوال كسورة براءة 5. وتقول عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن" 6.   1 هذا الحديث من زوائد عبد الله بن أحمد في المسند ورجاله ثقات، انظر: البنا الساعاتي: الفتح الرباني (18/ 58) بالحاشية. 2 قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط (مجمع الزوائد 7/156) . 3 انظر: أحمد: المسند (5/132) ط. المكتب الإسلامي، والحاكم (4/ 359) وصححه وأقره الذهبي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ ت: مصطفى عبد القادر عطا. وحسّن ابن كثير إسناده: انظر التفسير (3/ 448) ، ورواه النسائي في السنن الكبرى: ك: الرجم، ح: 7150 (4/271) ط. دار الكتب العلمية، الأولى 1411هـ. 4 انظر: الترمذي: ك: المناقب، باب: من فضائل أُبي بن كعب، ح: 3898 (5/ 711) وقال: هذا حديث حسن. ط. الحلبي بمصر، تحقيق أحمد شاكر، وأحمد في المسند (5/ 132) وقد حكم الألباني بتواتر هذا الحديث. انظر: الصحيحة (6/ 961) 5 انظر: مسلم: الصحيح: ك: الزكاة، ح: 119 (1050) (2/ 726ـ عبد الباقي) . 6 رواه مسلم: الصحيح: ك: الرضاع، ح:24 (1452) (2/ 1075) ، وقولها: "وهن مما يقرأ من القرآن" فالظاهر أنها نسخت ولم يبلغ ذلك كل الناس فتوفي (وبعضهم يقرؤها ثم رفعت من صدورهم جميعاً كغيرها من المنسوخ. انظر: السيوطي: الإتقان (3/ 631) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقال عمر رضي الله عنه:"كان فيما أنزل من القرآن: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) " 1. وعنه أيضاً أنه كان في القرآن: "أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" 2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاته بهذا القرآن قبل نسخه ورفعه 3. وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ما ترك إلا ما بين الدفتين" 4. فإنه إنما أراد من القرآن الذي يتلى، وابن عباس نفسه روى شيئاً من المنسوخ 5. وإذا ثبت في كل ذلك الوقوع فقد ثبت الجواز، فهو أول أدلته، ومن جهة العقل، نقول: إن ما يتعلق بالنصوص القرآنية من التقيد بلفظها وجواز الصلاة بها، وحرمتها على الجنب في قراءتها ومسها شبيه كل الشبه بما يتعلق بها من دلالتها على الوجوب والحرمة ونحوهما، في أن كلاًّ من هذه المذكورات حكم شرعي يتعلق بالنص الكريم، وقد تقتضي المصلحة نسخ الجميع وقد تقتضي نسخ بعضها دون بعض، وإذن يجوز عقلاً أن تنسخ الآية تلاوة وحكماً، ويجوز أن تنسخ تلاوة لا حكماً، ويجوز أن تنسخ حكماً وتلاوةً 6. ونسخ اللفظ والتلاوة يكون بأن ينسيها الله ويرفعها من الصدور، ويأمر   1 رواه البخاري: الصحيح، ك: الحدود: باب: رجم الحبلى من الزنا، ح: 683 (12/148) . وانظر: الألباني: الصحيحة (6/972) 2 رواه البخاري: الصحيح: نفس الموضع السابق. 3 انظر: الطحاوي: مشكل الآثار (2/419) ط. مؤسسة الرسالة، الأولى، 1415هـ ت: شعيب الأرناؤوط. والبزار (4/244ح:3634) ط. مؤسسة علوم القرآن بيروت، الأولى 1409هـ. 4 انظر: البخاري: الصحيح: ك: فضائل القرآن، باب: من قال: لم يترك النبي (إلا ما بين الدفتين، ح: 5019، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (8/683) 5 انظر: أحمد: المسند (5/117) وصحح الألباني إسناده على شرط مسلم، وانظر: الصحيحة (6/966) 6 انظر: الزرقاني: مناهل العرفان (2/216) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بالإعراض عن تلاوتها وكتبها في المصحف 1، فتندرس على مر الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها الله في كتابه في قوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} 2، ولا يعرف اليوم منها شيء 3. وأما ما احتج به الشيخ رشيد من وجوب ثبوت القرآن بالتواتر؛ فنعم، لكن ليس المقام مقام إثبات القرآنية، بل إثبات النسخ، وهو لا يحتاج إلى التواتر، على أنه متواتر كما ذكرت، ولا يقول أحد بقرآنية المنسوخ، وبصحة التعبد بقرآته، ليلزمه ذلك، فإثبات النسخ شيء وإثبات القرآنية شيء آخر 4. وأما طعنه في الأحاديث ـ ولو في الصحيحين ـ فهو تعدٍ ومجازفة، وسوف أفصل وأرد على موقفه هذا في الكلام عن السنة كمصدر من مصادر التلقي ـ إن شاء الله ـ. وأما الحكمة في ذلك ـ والتي خفيت على الشيخ رشيد ـ فقد بين العلماء بعضها 5، ولا بد أنه يخفى على الجميع بعضها ـ فالله تعالى ذو الحكمة البالغة. والذي ظهر لي والله أعلم ـ أن هذا يجري على سنة الله تعالى في الاختبار وامتحان المؤمنين، ليعلم الراسخين في العلم والإيمان ويتميز هؤلاء عن غيرهم من ضعاف الإيمان والعلم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ   1 وقد رفض النبي (أن يستكتب عمر رضي الله عنه آية الرجم، انظر: أحمد: المسند (5/183) والنسائي: الكبرى (4/270/ 7145) والحاكم (4/401) وصححه وأقره الذهبي. وانظر: الألباني الصحيحة (6/ 974) 2 سورة الأعلى: الآية (19) 3 انظر: السيوطي: الإتقان (3/75) 4 انظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن، ط. المعارف، الرياض (ص:238) والألباني: الصحيحة (6/970ـ 971) 5 انظر: السيوطي: الإتقان (3/72) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} 1. وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} 2. وقال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 المطلب الثاني: السنة النبوية : المصدر الثاني من مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة: "السنة" 4. ومعناها في اللغة: الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو سيئة 5.   1 سورة الحج: الآيات: (52ـ 55) 2 سورة براءة: الآيات (124،125) ونحن الآن لا نقرأ إلا ربع هذه السورة، انظر: الحاكم: المستدرك (2/330) وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (7/ 28) وقال: رجاله ثقات. 3 سورة آل عمران: الآية (7) 4 انظر: الخطيب: الفقيه والمتفقه (1/86) وانظر: الشافعي: الرسالة (ص: 103و597) ط. دار الكتب العلمية، ت. أحمد شاكر. 5 انظر: الأزهري: تهذيب اللغة (12/ 298ـ 299 و301و304و306) ، ط. المؤسسة النصرية العامة للتأليف، ت. عبد السلام هارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وفي الشرع: ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته 1. أو ما رسم ليحتذى وجوباً أو استحباباً" 2. وعند الأصوليين: هي ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير 3. وعند الفقهاء: ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حكم هو دون الفرض، فهي ترادف المندوب، والمستحب والتطوع والنافلة والمرغب فيه 4. والذي نبحث فيه هو معنى السنة عند الأصوليين لأنه هو المناسب لمبحث الاستدلال عند الشيخ رشيد. السنة وحي من الله تعالى: أخبر الله تعالى في كتابه أن السنة هي وحي من الله تعالى كالقرآن الكريم، وأن مصدرها هو مصدره ومُنزلها هو مُنزله، تبارك وتعالى. لدينا آيات تنطق بذلك تصريحاً وأخرى تلويحاً، فمن الأولى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 5، فهذه الآية تدل صراحة على أنه كما ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي الجلي المتلو وهو القرآن، فكذلك كان ينزل عليه وحي آخر خفي غير متلو: هو السنة، وهي حجة كالأول 6. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 7، فالذكر المنزل هو الوحي المتلو والذكر الآخر ـ المنزل كذلك ـ هو المبين وهو الوحي غير المتلو، وهو السنة 8.   1 انظر: الخطيب: المصدر السابق (1/86) 2 المصدر السابق. 3 انظر: الآمدي: الاحكام (1/127) ط. صبيح بمصر 1387هـ والشوكاني: إرشاد الفحول (ص:33) ط. الحلبي، الأولى: 1356هـ 4 انظر: عبد الغني عبد الخالق: حجية السنة (ص51) وما بعدها. ط. المعهد العالمي، الأولى:1407هـ 5 سورة النجم: الآية (3) 6 انظر: محمد حبيب: السنة ومكانتها في ضوء القرآن الكريم (ص:89) ط. المكتبة البنورية. كراتشي: 1407هـ. 7 سورة النحل: الآية (44) 8 انظر: ابن كثير: التفسير (2/552) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 1، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 2، وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} 3. فتشير هذه الآيات وغيرها إلى أن الله أنزل على رسوله وحيين وأوجب على عباده الإيمان بهما، وتعلمهما والعمل بهما، وهما: الكتاب والحكمة، والكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة باتفاق السلف 4. ومن الآيات التي تُلَوِّح بهذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 5، فقد ذكر الله في هذه الآية أن جمع القرآن وترتيبه عليه ـ سبحانه ـ فكأن الله تعالى قد تكفل بجمع القرآن وترتيبه والواقع الذي يعرفه كل أحد أن القرآن لم يرتب على الترتيب الذي نزل عليه بل رتب كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترتيبه، فكأنه رتبه النبي صلى الله عليه وسلم فحقيقة الأمر أن ترتيب القرآن قد تكفل الله به وقام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الترتيب. فلا يمكن الجمع بين هذا التكفل وهذا الترتيب إلا على القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قام به بوحي من الله تعالى وهو الوحي غير المتلو ـ لأنا لا نجد أثراً لذلك بين الدفتين ـ وهو السنة 6. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} 7، فنسب الله حكم استقبال بيت المقدس إلى نفسه، ولكننا لا نجد آية في المصحف تشير إلى هذا الحكم، فالظاهر   1 سورة النساء: الآية (113) 2 سورة الجمعة: الآية (2) 3 سورة الأحزاب: الآية (34) 4 انظر: الشافعي: الرسالة (ص:32 فقرة 96) وابن القيم: الروح (ص:130) ط. دار الكتاب العربي. الثالثة 1408هـ، والخطيب: الفقيه والمتفقه (1/87) 5 سورة القيامة: الآية (17) 6 انظر: محمد حبيب: مصدر سابق (ص:92) 7 سورة البقرة: الآية: (143) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أن الأمر باستقبال بيت المقدس لم يكن بوحي متلو بل هو بوحي خفي غير متلو وهو حجة واجبة الاتباع وهو السنة 1. وقال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} 2 وليس خفياً أن هذا الإذن ليس موجوداً في القرآن ومع ذلك فقد نسبه الله تعالى لنفسه، حيث أوضح أنه بإذنه وأمره فلا مناص من القول: إن هذا الإذن كان بالوحي غير المتلو وهو السنة 3. وقال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} 4. فأين هذه الآية التي أظهر الله بها نبيه على هذا الإفشاء؟ إننا لا نجد في القرآن آية تبين ذلك فظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك بالوحي غير المتلو وهو وحي السنة 5. فثبت من كل ما سبق أن السنة وحي من الله تعالى وأنها حجة، يجب العمل بها كالقرآن، سواء منها ما كان على سبيل البيان أو على سبيل الاستقلال، وأصبح ذلك ضرورة دينية حتى قال بعض أهل العلم من السلف بكفر من ترك السنة 6. وإنما وقع الخلاف في مسائل ليست من الحجية 7. وقد تبين لي من خلال سبْر مؤلفات الشيخ رشيد أن له موقفين من السنة: الأول: إيجابي، والآخر: سلبي. وسأتناول هذين الموقفين في مسألتين: الموقف الإيجابي والموقف السلبي، ولدي مسألتان: الموقف الإيجابي ومنه موقفه من أحاديث الآحاد، ثم الموقف السلبي.   1 انظر: محمد حبيب: نفس المصدر (ص94) 2 سورة الحشر: الآية (5) 3 انظر: محمد حبيب: المصدر السابق (ص:95) 4 سورة التحريم: الآية (3) 5 محمد حبيب: مصدر سابق (ص:96) 6 انظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم (ص: 195) 7 انظر: عبد الغني عبد الخالق: مصدر سابق (ص:245ـ 246) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الموقف الأول: موقف الشيخ رشيد رضا الإيجابي من السنة: أول نقطة في هذا الموقف الإيجابي: أن الشيخ رشيد يعتبر أن الدين الإسلامي له مصدران هما الكتاب والسنة، خلافاً لمن يقول إن الإسلام هو القرآن وحده 1، ويقول: "إن الدين تعليم وتربية كما قال تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 2 والتعليم كان للآيات: الكتاب، والحكمة التي هي أسرار التنزيل وفلسفته 3، والتزكية أي التربية كانت بالسنة وهي طريقته في الاهتداء والعمل بالقرآن على الوجه الذي تتحقق به الحكمة منه ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} 4، والأسوة به القدوة في سيرته وأعماله ... " 5. ويقول: "وليس في السنة شيء لا أصل له في القرآن، بل كان خُلُق صاحب السنة القرآن، ولكن لا نستغني بالقرآن عن السنة إلا إذا استغنينا عن كون الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة لنا، وذلك فسوق عن هدى القرآن وإهمال لنصه ... " 6.   1 انظر: مجلة المنار (9/925) وما بعدها، وذلك جواباً لطبيب صديق للشيخ رشيد رضا قال: إن الإسلام هو القرآن وحده، ونشر الشيخ رشيد مقالاته ونشر ردوداً عليها. وقد أتى هذا الطبيب في مقالاته بالعجائب، منها اقتراح تخفيض عدد الصلوات وهيئتها. انظر: مجلة المنار (9/515) ، وردود عليه (6/610 و699) ثم رد له (9/906) . وقد خفف رشيد رضا بلة الطين، بقوله هذا، إلا أن د. محمد مطر الزهراني يرى أنه "زاد الطين بلة" ولم أدري ما وجهه، وقد نقل هذا الكلام عن رشيد رضا بالواسطة من درجتين. انظر: محمد مطر الزهراني: تدوين السنة (ص: 52) ط. مكتبة الصديق، الأولى، 1412هـ. 2 سورة البقرة: الآية (151) 3 نسبة الفلسفة للتنزيل غير سديدة، وكلمة الحكمة قبلها تغني عن هذه. 4 سورة الأحزاب: الآية (21) . 5 مجلة المنار (9/928ـ929) . 6 المصدر السابق (9/929) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ويعتبر الشيخ رشيد أن السنة وحي من الله تعالى كالقرآن: " ... وأعني بالوحي هنا: القرآن ... وكذلك الأحاديث النبوية عند من صحت عنده فصدق بالرواية" 1. ويقرر أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة حياً وميتاً فيقول: " ... إن طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته وبعد مماته فيما عُلِم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمر الدين الذي بعثه الله تعالى به كبيانه لصفة الصلوات وعددها والمناسك ولو بالفعل ... وغير ذلك من السنن العملية الدينية المتواترة، وكذا أقواله المتواترة التي أُمر بتبليغها في ما تدل عليه دلالة قطعية، وأما غير القطعي رواية ودلالة من سننه فهو محل الاجتهاد.." 2. ويرد على من يدعي أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم إنما تجب في حياته، ولا يجب العمل بعده إلا بالقرآن فيصفهم بأنهم "زنادقة ضالون مضلون يريدون هدم الإسلام بدعوى الإسلام" 3، ويقول: "بل تجب طاعة الرسول كما أطلقها الله تعالى ويجب التأسي به في كل زمان إلى يوم القيامة ... " 4. ومن المواقف البيضاء عند الشيخ رشيد دفاعه القوي عن أبي هريرة ـ محدث الإسلام ـ رضي الله عنه ـ وإني أرجو للشيخ رشيد ثواب هذا الدفاع يوم القيامة. إنه يجب عليّ أن أبرز هذا الدفاع الهام عن هذا المحدث الصحابي الكبير باختصار، لقد كان دفاع الشيخ رشيد عنه في مواجهة النصارى الضالين، الذين يريدون منا ـ نحن المسلمين ـ أن نكذب بالأحاديث المروية بطرق الرواية المضبوطة المتصلة بالسماع ونقل العدول الضابطين، وبينما هم يصدقون بالكذب والروايات التي هي أقرب للشائعات وليس لها سند ولا تقف على عمد، ولا ريب أن غرضهم من الطعن في السنة ـ هو وكما يقول الشيخ رشيد ـ: "الطعن في الشريعة وطرح الثقة بها" 5.   1 مجلة المنار (7/705) . 2 تفسير المنار (9/632ـ 633) . 3 نفس المصدر (9/633) . 4 نفس المصدر والصفحة. 5 مجلة المنار (19/49ـ50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 دفاع عن أبي هريرة: لقد وقف الشيخ رشيد لهؤلاء الطاعنين مدافعاً عن محدث الإسلام الصحابي الكبير أبي هريرة رضي الله عنه فقد لخّص شُبههم وأجاب عليها جميعاً وهدفه من ذلك أن يُثبت "أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه راوية عدل وأنه من نوابغ البشر في الحفظ والضبط لما يحفظ ... " 1. لقد لخص هذه المطاعن في ثلاث نقاط: الأولى: كثرة رواية أبي هريرة، وإنكار بعض الصحابة عليه في ذلك. الثانية: اتهامه في روايته وخوفه هو نفسه من تكذيب الناس له. الثالثة: عدم احتجاج بعض الفقهاء بروايته 2. وقد رد الشيخ رشيد على جميع هذه المطاعن رداً مفصلاً، ولكني سأقتصر على أهمه. ففيما يتعلق باتهام أبي هريرة في حديثه يقول الشيخ رشيد إن التهم ـ كما في الشرائع لا تثبت إلا بالبينة والدليل ولم يقم دليل واحد على صدق هذه التهمة، وإنما عرض لبعضهم شبه ـ قديماً وحديثاً ـ لكثرة روايته دون غيره من الصحابة، وهذه الشبه تزول إذا زال سببها وهو معرفة سبب كثرة رواياته وهو الموضوع الثاني 3. أسباب كثرة أحاديث أبي هريرة: قال الشيخ رشيد: "لكثرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أسباب استخرجناها من عدة روايات: أحدها: أنه قصد حفظ أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وضبط أحواله لأجل أن يستفيد منها ويفيد الناس، ولأجل هذا كان يلازمه ويسأله، وكان أكثر   1 المصدر السابق (19/97) ، وانظر: السباعي: السنة (ص: 294) ط. المكتب الإسلامي، بيروت ـ الرابعة ـ 1405هـ. 2 انظر مجلة المنار (19/25) فقد نقل الشيخ رشيد هناك هذه المطاعن. 3 انظر: مجلة المنار (19/37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الصحابة لا يجترئون على سؤاله" 1. وهذا ما شهد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ـ أعني حرصه على الحديث إذ قال له: "لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث" 2 واستشهدبه الشيخ رشيد 3. ثانياً: أنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله حتى في زيارته لنسائه وأصحابه ليستفيد منه ولو في الطريق فكانت السنين القليلة من صحبته له كالسنين الكثيرة، وشهد له بذلك الصحابة، فقال له ابن عمر: "أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه" 4. الثالث: أنه كان جيد الحفظ قوي الذاكرة ويرجع ذلك إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك وبشارته إياه بعدم النسيان 5. الرابع: أنه كان يحدث بما سمعه هو وما سمعه غيره وكان يتحرى ذلك فكثرت روايته بسبب ذلك، قال الشيخ رشيد: "فمن تدبر هذه الأسباب لم يستغرب كثرة رواية أبي هريرة ... " 6. وعن عدم أخذ بعض الفقهاء بروايته ـ لا سيما الحنفية ـ فيقول الشيخ رشيد: إن هذا غير صحيح فها هي كتب الحنفية في الحديث والفقه تكذب هذه الدعوى، وإنما المروي عن أبي حنيفة أنه يقدم رأي الصحابة على رأيه ـ لا روايتهم ـ إلا نفراً منهم أبو هريرة لأنه كان يهتم بالرواية ونشرها دون   1 مجلة المنار (19/37ـ38) . 2 رواه البخاري: الصحيح: ك. العلم: باب الحض على الحديث، ح: 99 (1/233) مع الفتح، = = وانظر: مجلة المنار (19/38) . 3 مجلة المنار (19/38) . 4 انظر: الترمذي: السنن: ك. المناقب، باب: مناقب أبي هريرة، ح: 3836 (5/684 ـ عطوة) . 5 انظر: الحاكم: المستدرك (3/582) وقال: صحيح الإسناد، وانظر: البخاري: الصحيح: ك. الحرث، باب ما جاء في الحرث، ح: 2350 (5/34ـ35) . 6 مجلة المنار (19/39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 العناية باستنباط الأحكام أي أنهم يرون أنه كان محدثاً فقط، وأما روايته فكرواية غيره من الصحابة مقبولة عند الجميع 1. وعن الأحاديث التي كان يخاف أبو هريرة من روايتها فيقول الشيخ رشيد: إن أبا هريرة كان يعلم أن كثيراً من الناس لا يصدقون الروايات التي تستبعد عقولهم وقوعها، وإن كانت جائزة في نفسها فيتوقع أن يكذبوه إذا هو حدّث بها، وهذا هو مراده بقوله: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم" 2. ومن النقاط البيضاء في موقف الشيخ رشيد من السنة اشتغاله بها تصحيحاً وتضعيفاً ونشراً لعلومها، فقد أفرد باباً لبيان الأحاديث الموضوعة لا سيما التي اتخذت سنداً لبدعة من البدع 3. وقام الشيخ رشيد بعملٍ لم يكن مألوفاً يومه ذاك وهو الحكم على كل حديث يورده في مجلته أو تفسيره. فيذكر مخرجيه ودرجته ويتكلم على أسانيدها ناقداً لها 4.وكان لهذا المنهج أثر كبير إذ أن ذيوع وانتشار مجلة المنار في العالم الإسلامي كان سبباً في نشر هذه الطريقة وسريانها في جميع الأماكن التي وصلت إليها "المنار". ومن هذه النقاط البيضاء: دفاع الشيخ رشيد عن المحدثين وثنائه عليهم وعلى طريقتهم، بدءاً من الصحابة كما رأينا دفاعه عن أبي هريرة إلى المؤلفين المتأخرين كالبخاري ومسلم. فيقول: "ولولا أن المحدثين ـ جزاهم الله خيراً ـ اعتنوا بضبط أخبار السلف والبحث في أسانيدها لرأينا في   1 انظر: مجلة المنار (19/47ـ 48) ، وتصديقاً لكلام الشيخ رشيد راجع: الزيلعي الحنفي: "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" (ص:13، 224، 128، 130) ط. دار الحديث بالقاهرة. 2 رواه البخاري: الصحيح: ك. العلم، باب: حفظ العلم، ح: 120 (1/261) مع الفتح. 3 وذلك بدءاً من المجلد الثالث. انظر: مجلة المنار (3/474) . 4 انظر مثلاً: مجلة المنار (2/18 و23 بالحاشية و36، 5/370 و4/11ـ 12 و14/104 و8/911) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الكتب ألوفاً من هذه الآثار التي لم نر فيها الآن إلا بضعة عشر ... " يعني الآثار المكذوبة 1. ويثني على البخاري ومسلم لشدة تحريهما 2. ومن المواقف البيضاء كذلك موقفه من أحاديث الآحاد: لقد كان الشيخ رشيد رحمه الله ـ تبعاً لشيخه محمد عبده ـ ولكثير من المتكلمين يقول: بأن أحاديث الآحاد 3 الصحيحة السند لا يؤخذ بها في العقائد لأنها ظنية باتفاق العلماء والعقلاء، والله تعالى يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} 4. ولكن الشيخ رحمه الله تحوّل عن هذا المذهب، فقد أجاب عن سؤال حول هذه المسألة فقال: " ... وقد فهم كثير من الناس من هذا القول ما لم يرده المحققون من قائليه فأخطأوا في فهم المراد، في فهم كلمتي الظن واليقين، فظنوا أن الأحاديث الصحيحة التي رواها الآحاد من الثقات العدول في صفات الباري عز وجل وفي أمور الآخرة لا يجب الإيمان بها شرعاً ولا يضر المسلم تكذيبها، وإن لم يكن عنده شك في صحتها، بناءً على أن   1 مجلة المنار (2/63) . 2 انظر: مجلة المنار (12/696) ، وانظر أيضاً (19/346ـ 348) . 3 الآحاد قسيم المتواتر: وهو ما جمع أربعة شروط: عدد كثير من الرواة أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، من أول الإسناد إلى انتهائه، ومستندهم إلى حس، وأن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه. والآحاد: هو ما فقد شرطاً من هذه الشروط. انظر: القاسمي: قواعد التحديث (ص:146) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1399هـ. وأحمد شاكر: شرح ألفية السيوطي (ص: 46ـ 47) ط. دار المعرفة، بيروت. وأشار ابن الصلاح إلى أن خبر الواحد يدخل في صناعة أهل الحديث دون المتواتر، لأن الأخير ضروري ولا يبحث في إسناده. وتعريف المتأخرين له تبعوا فيه غيرهم ـ يعني الأصوليين ـ. انظر: المقدمة: الموضع السابق، وانظر أيضاً: أحمد عبد الوهاب الشنقيطي: خبر الواحد وحجيته (ص:58) ط. الجامعة الإسلامية، الأولى 1413هـ. 4 سورة النجم، الآية: (28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أحاديث الآحاد لا تفيد في نفسها إلا الظن الذي لا يجوز الأخذ به في العقائد لأنه لا يغني من الحق شيئاً، وهذا الظن الذي فهموه من عبارة المتكلمين هو الذي لا يغني من الحق شيئاً، وما أظن أن مسلماً يعتد بعلمه يقول به ... " 1. ثم عرّف الشيخ رشيد المعنى الصحيح لكلمتي الظن واليقين لغة واصطلاحاً، ثم قال: "إذا فقهت هذا فاعلم أن كل اعتقاد يُستفاد من السماع يطلق عليه في اللغة اسم الظن باعتبار مأخذ لذاته، واسم اليقين إن جزم صاحبه به، وكذا اسم العلم أن مدلوله حقاً. ولكن نفس السماع أي: إدراك الأصوات المحقق لا يسمى ظناً بل علماً. وخبر التواتر إنما يفيد العلم القطعي بضرب من الاستدلال النظري وإن اعتمدوا أنه يفيد الضروري فإن من شروطه أن يخبر كل واحد من المخبرين الكثيرين عن حس، أي مما سمعه بأذنه أو رآه بعينه مثلاً وأن يقوم الدليل أو القرائن على أنهم لم يتواطؤوا على الكذب، وأن يتحقق ذلك في كل طبقة من الطبقات ... وقد اختلف العلماء في العدد الذي يحصل بخبره التواتر ... ولكنهم اتفقوا على أن آيته حصول العلم الجازم بمدلول الخبر، ومثل هذا العلم كثيراً ما يحصل بخبر الواحد ... مثال هذا النوع من خبر الواحد الذي يحصل به الاعتقاد الجازم ـ وإن لم يكن المخبر به متصفاً بعدالة رواة الحديث ـ أكثر ما نسمعه كل يوم ممن نعاشر ونخالط من أصدقائنا ومعاملينا ... ومن هذا القبيل كل خبر لا مجال للتهمة فيه، وأما إخبارهم فيما يتهمون فيه فهي التي يرتاب فيها ويحتاج إلى الأدلة والقرائن في تمييز راجحها من مرجوحها، مثال ذلك مدح النفس والدفاع عنها والطعن في الخصوم ... فالأخبار في أمثال هذه المسائل يكثر فيها الكذب والخلط؛ إما بالتعمد أو بعدم الضبط ... فمن وعى ما ذكرنا وتدبره يعلم منه ما يعلم من نفسه إذ هو فكّر في مصادر علمه، والمصادر التي يحدث بها ويتلقاها من غيره، وهو أن الأصل في أخبار جميع الناس الصدق، وأن   1 مجلة المنار (19/341ـ 343) وانظر الرأي القديم: مجلة المنار (7/ 612 و6/55 و 7/378) ، والتفسير (3/292 و 7/606) ورأي محمد عبده: المجلة (7/438) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الكذب إنما يقع لأسباب عارضة ... بل أقول: إن من هذه الأخبار ما يجزم العقل بصدقه وامتناع نقيضه وأعني بالعقل هنا ... العقل البشري الذي يبني حكمه على الاختيار ويزنه بميزان رعاية المصالح ودفع المضار، لا عقل واضعي المنطق والفلسفة الذي يجيز وقوع كل ما يمكن تصوره، ويحصر وقوع المحال في اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما ... " 1. وخلص الشيخ رشيد بعد شرح لما سبق واستطراد في علم المصطلح واصطلاحاته إلى أنّ أكثر الأحاديث الاحادية المتفق على صحتها لذاتها كأكثر الأحاديث المسندة في صحيحي البخاري ومسلم، جديرة بأن يجزم بها جزماً لا تردد فيه ولا اضطراب، وتعد أخبارها مفيدة لليقين بالمعنى اللغوي الذي تقدم، ولا شك في أن أهل العلم بهذا الشأن قلّما يشكّون في صحة حديث، فكيف يمكن لمسلم يجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بكذا ولا يؤمن بصدقه فيه؟ ... وليُعلم أنّي أعني بالمتفق عليه هنا ما لم ينتقد أحد من أئمة العلم متنه ولا سنده فيخرج من ذلك ما انتقده مثل الدارقطني ... " 2. وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد هو أحد ثلاثة أقوال في "خبر الواحد" من حيث إفادته العلم أو الظن، وبناءً عليه يؤخذ به في العقائد أو لا؟ الأول: عدم إفادته العلم مطلقاً، والثاني: إفادته العلم مطلقاً، والثالث: إفادته العلم إذا احتف بالقرائن وهذا هو الذي ذهب إليه الشيخ رشيد، وتبعه على ذلك تلامذته من بعده 3، وهذا هو المذهب الصحيح الموافق لما استقر عليه رأي المحدثين وعمل السلف 4. ويعد هذا الموقف من الشيخ   1 مجلة المنار (19/ 342ـ 348) باختصار. 2 مجلة المنار (19/ 348) . 3 انظر: أحمد محمد شاكر: شرح ألفية السيوطي (ص:3ـ5) ، والباعث الحثيث (ص:35ـ37) ط. دار الكتب العلمية بدون تاريخ. 4 انظر: أحمد شاكر: المصدرين السابقين: نفس الصفحات، وانظر: ابن الصلاح: المقدمة (ص:43ـ44) ط. مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى 1411هـ =1991م، وابن حجر: النكت (1/374) وما بعدها، ت. د. ربيع المدخلي، ط. الجامعة الإسلامية، الأولى 1404هـ =1984م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 رشيد أيضاً من مواقفه الصحيحة تجاه السنة النبوية لا سيما وهي مسألة ترتب عليها نزاع كبير في إثبات صفات الله تعالى، ولقد خطا الشيخ رشيد خطوة عملية في ذلك فأثبت الصفات الإلهية بهذا النوع من الحديث كما تراه في موضعه إن شاء الله. وهذه الصورة المشرقة من السنة شابها ما شوّهها واختلط بلونها الأبيض ألوان أخرى ذهبت بنصوعها، بدا الشيخ رشيد فيها مضطرباً فلقد وقع "محيي السنة" 1 في أخطاء فادحة ما كان ليقع فيها مثله، فبينما دافع عن أبي هريرة إلا أنه وقع في غيره من الصحابة أيضاً وهو تميم الداري، كما طعن في غيره من الرواة وبغير حق، بل لمجرد التذرع برد الأحاديث الصحيحة ولو في الصحيحين اللذين أثنى كثيراً على صاحبيهما، وهذه هي الصورة الأخرى لموقفه من السنة والتي اتخذها من طعن بعده في السنة تكئة يتكئ عليها في طعونه نظراً لمكانة الشيخ رشيد العلمية والأدبية. وهو ما أحاول رسمه في الصفحات التالية. الموقف الثاني: الموقف السلبي من السنة: لقد قسّم الشيخ رشيد السنة التي ذكرها في قوله "الإسلام هو القرآن والسنة" إلى سنة عملية وهي دين عام لكل زمان ومكان وهي التي تكون من الدين ويجب العمل بها. وإلى سنة قولية وهي ليست "ديناً عاماً" كالأولى لذلك لم يكتبها الصحابة ولم يعتنوا بجمعها بل نُقل عنهم الرغبة عن ذلك2. ويرى أن أركان الإسلام والإيمان مبيّنة في القرآن والسنة العملية 3،   1 هكذا أطلق عليه محبوه: انظر: رشيد رضا: مقدمة مفتاح كنوز السنة (ص: ن) . 2 انظر: مجلة المنار (9/ 929ـ930 و 12/699) ، ورسالة التوحيد (ص:200ـ202) بالحاشية ط. المنار، وقد قلده أبو رية: أضواء (ص:39 و55 و86ـ87 و368 و392) ط. دار المعارف ـ مصر الرابعة. 3 انظر: مجلة المنار (12/699) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وهي السنة "التي يجب أن تكون أصل القدوة" 1، وهي "ما كان عليه هو وخاصة أصحابه عملاً وسيرة فلا تتوقف على الأحاديث القولية" 2. ويقول: "فالسنة لا يراد بها إلا السيرة والطريقة المتبعة عنه صلى الله عليه وسلم بالعمل ... " 3. ويفرق الشيخ رشيد بين اصطلاحي السنة والحديث: "فإن السنة سيرته صلى الله عليه وسلم وتُعرف من الصحابة بالعمل وبالإخبار كنحو "من السنة كذا" كما كانوا يقولون، والتحديث نقل كلامه كما هو المتبادر، وإن اصطلح المحدثون بعد ذلك على تسمية كل كلام فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وسنة" 4. ثم ينعى على المحدثين ذلك فيقول: "ومن العجائب أن يغبى 5 بعض المحدثين أحياناً عن الفرق بين السنة والحديث في عُرف الصحابة الموافق لأصل اللغة فيحملوا السنة على اصطلاحهم الذي أحدثوه بعد ذلك ... " 6، ولكن ما مصير هذا العدد الكبير من الأحاديث التي تبدأ بـ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ يجيب الشيخ رشيد على ذلك بقوله: "وأما الأحاديث التي لم يجر عليها عمل جماعة المسلمين والسواد الأعظم من أهل الصدر الأول، ولا كتبها الراشدون ولا غيرهم من الصحابة ولا دعوا إليها، وإنما انفرد بها بعض الذين صرفوا همتهم إلى جمع الروايات وحفظ الأخبار والآثار ففيها تفصيل ملخصه أنه لا يجب على كل مكلف البحث عنها ولكن في معرفتها مزيد علم، ومن عرف شيئاً منها وصحّ عنده متناً وسنداً بلا معارض أقوى منه وجب عليه أن يقبله ويهتدي به ... " 7. ويقول في موضع آخر: "وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي   1 نفس المصدر (10/852) . 2 نفس المصدر والصفحة. 3 نفس المصدر (10/853) . 4 نفس المصدر والصفحة. 5 غبا عن الشيء: لم يفطن له، والمصدر: غباوة، وغبى على الشيء: إذا لم يعرفه. (الرازي: مختار الصحاح، ص: 196، مادة غبا) ط. مكتبة لبنان ـ بيروت. 6 مجلة المنار (10/ 853) . 7 مجلة المنار (12/699) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما صح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، فتلك الأقوال هي ينابيع الحِكم ومصابيح الظُلَم وجوامع الكلم، ومفخر للأمة على جميع الأمم، بل إن في الأحاديث التي لم تصح أسانيدها من البدائع والحِكم والروائع، والكلم الجوامع ما تتقاصر عنه أعناق العلماء ... " 1. فهذه "الأحاديث القولية" صالحة ـ عند الشيخ رشيد ـ للاهتداء لا للاحتجاج، وللاستشهاد بها مثلاً على قواعد النحو لا في مسائل الدين والفقه. والدليل الذي ساقه الشيخ رشيد على ذلك هو أن الصحابة لم يكتبوا هذه الأحاديث كما كتبوا القرآن بل رغبوا عن ذلك ونهوا عنه، فيقول: " وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه بل في نهيهم عنه قوِي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث ديناً عاماً كالقرآن. ولو كانوا فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كُتب وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها ... " 2. فقد بنى موقفه هذا على مسألة "كتابة الأحاديث" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد كتابتها ولم يأمر بها، وكذا الصحابة لم يكتبوها وكانوا ينهون عن كتابتها. وقد رد الشيخ رشيد كثيراً من الأحاديث الصحيحة بل والمتواترة لكونها قولية، ومنها: أحاديث نسخ التلاوة كما سبق، " ولو في الصحيحين" 3. وحديث سجود الشمس تحت العرش 4.   1 المصدر السابق (10/854) . 2 مجلة المنار (10/768) وقلده أبو رية: أضواء (ص:23، 46، 51، 77ـ86) . 3 وقد سبق الكلام على تخريجها والجواب على الشيخ رشيد في شأنها (ص:100) . 4 رواه البخاري: الصحيح، ك. بدء الخلق: ب: صفة الشمس والقمر، ح: 3199 (6/342 مع الفتح) وانظر مجلة المنار (19/ 623 و32/ 772) وتفسير المنار (8/ 211) بالحاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وحديث انشقاق القمر 1. وحديث الذباب 2. وأحاديث أشراط الساعة، كالمهدي، والدجال، ونزول عيسى 3. ويعتبر الشيخ رشيد هذا من قبيل رد الرواية لعلة في متنها وإن صحّ ـ بحسب صناعة تعديل الرجال ـ سندها. ومعنى "رد الرواية" كما يقول: "عدم تسليم إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي ... " 4، وليس تكذيباً للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا يستلزم الكفر، وإنما الكلام في رد الرواية لعلة في متنها 5. واستأنس الشيخ رشيد بالأحاديث التي انتقدت على الشيخين لعلة في متنها، فقال: "كتغليط مسلم وغيره لرواية شريك 6 عند البخاري في حديث المعراج 7، وتغليطهم لمسلم في حديث خلق الله التربة يوم السبت 8، وفي حديث   1 انظر: مجلة المنار (30/261 ـ 272 و 30/ 361ـ 376 و 31/ 63) خ: الصحيح: ك: مناقب الأنصار، ب: انشقاق القمر، ح: 6868، وسيأتي الكلام عليه تفصيلاً. انظر: (ص:716) 2 انظر: مجلة المنار (18/458 و29/ 48 ـ 51 و29/ 372) وانظر: البخاري: الصحيح، ك: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم ... "ح: 3320 (6/414 مع الفتح) . 3 وسيأتي الكلام على هذه الأحاديث وتخريجها والجواب على الشيخ رشيد فيها في موضعه إن شاء الله تعالى، في الباب الثالث. وقد قلده أبو رية في كل ذلك: انظر: أضواء (ص:181 ـ 182 و185 و243 و290) ونقل عنه نص كلامه. 4 مجلة المنار (14/624) . 5 المصدر السابق والصفحة. 6 هو: شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أبو عبد الله المدني، صدوق يخطئ، وقد اضطرب في حديث= = الإسراء، وإليه توجه انتقاد مسلم. انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 262 (1/148) ، وانظر أيضاً: ابن القيم: زاد المعاد (1/99 و 3/42) ، وابن حجر: فتح الباري (13/488ـ494) ، وهدي الساري (ص:402) . 7 رواه: البخاري: ك: التوحيد، باب: ما جاء في قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ح: 7517 (13/486) ، ومسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 262 (1/148) . 8 رواه مسلم: الصحيح، ك: صفات المنافقين، ح: 27 (4/2149) . وهذا الحديث علم من أعلام النبوة، ولله در أبي هريرة إذ حفظ لنا هذا العِلم والعَلم. ففي هذا الحديث فائدة زائدة على ما في كتاب الله تعالى، فقد أفادنا أن تصميم هذا العالم وتهيئة لبناته قد كان في آخر أيام عالم آخر قبله، ولا يزال الله تبارك وتعالى خالقاً على خلاف ما يقوله المتكلمون. ولولا حفظ أبي هريرة لضاعت هذه الفائدة الكبيرة. انظر: ابن تيمية: درء التعارض ط. دار الكنوز الأدبية، ت: رشاد سالم (8/280) وما بعدها و (ص: 287ـ289) ، وانظر أيضاً: محمد عبد الرزاق حمزة: ظلمات أبي رية (ص:151ـ153) ط. السلفية بمصر سنة 1378هـ، وانظر أيضاً: محمد أبو شهبة: دفاع عن السنة (ص:132ـ 134) ط. السنة بمصر، الأولى سنة 1409هـ. وقد قلد أبو رية رشيد رضا: انظر: أضواء (ص:219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 صلاة الكسوف 1 … فإذا جاز رد الرواية التي صحّ سندها في صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز رد رواية خلق الله التربة إلخ لمخالفتها للآيات … فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه ـ كالروايات في نسخ التلاوة ... ـ ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ... ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب بعد الغروب.." 2. واستند الشيخ رشيد في موقفه هذا إلى أمور، منها: الأول: عدم كتابة الحديث إلا في وقت متأخر وترجيحه لذلك بعد سرد الأدلة معتمداً على ابن عبد البر في الجامع 3. والسبب الثاني الذي حدا بالشيخ رشيد أن يرد هذه الأحاديث وغيرها، أنها رويت بالمعنى الذي فهمه الرواة، فجاءت مضطربة غير متوافقة وتعارضت فتساقطت، وادعى أن أكثر الأحاديث كذلك رويت بالمعنى 4.   1 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الكسوف، ح: 1 (901) وما بعده (2/ 618) وما بعدها، وانظر: النووي: شرح مسلم (6/198ـ 199) 2 مجلة المنار (14/623) . 3 انظر: مجلة المنار (10/752ـ 768) ، وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله (ص: 63ـ72) . 4 انظر: تفسير المنار (8/ 210 و 9/506) ، وقد قلده أبو رية؛ انظر: أضواء (ص:20 ـ 21 وص: 80 ـ 85) ونقل نص كلام رشيد رضا (ص:86 ـ87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 والسبب الثالث الذي جعل الشيخ رشيد يتخذ هذا الموقف هو رواية الصحابة الإسرائيليات عن مسلمة أهل الكتاب. وفي هذا السبيل فقد طعن الشيخ رشيد في مسلمة أهل الكتاب بدءاً من الصحابة كتميم الداري ومروراً بالتابعين ككعب الأحبار ووهب بن منبه، بل وتعدى طعنه حتى فيمن أجمع الناس على عدالتهم وقيل في أسانيدهم أنها أصح الأسانيد 1. لقد روى النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري حديث الجساسة، ولكن الشيخ رشيد لم يسلم ذلك بل زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً من تصديق المنافقين والكاذبين 2. إنني بحاجة ماسة إذاً إلى أن أجيب عن هذه الأصول الثلاثة التي اعتمد عليها الشيخ رشيد في موقفه هذا، وهي: كتابة الحديث، والرواية بالمعنى، ورواية الإسرائيليات. أما الأحاديث التي ردها فسيأتي الكلام على بعضها في مواضع متعددة في هذا البحث، إن شاء الله تعالى. أولاً: كتابة الحديث: اعتمد الشيخ رشيد في رده "للسنة القولية" أو "الأحاديث" على عدم الوثوق بها، لأنها كتبت في وقت متأخر، ولم تكتب في العهد النبوي ولم يكتبها الصحابة، مما يدل أيضاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يريدوا أن تكون هذه الأحاديث "ديناً عاماً" كالقرآن إذ أنهم لو فهموا رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: "لأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كُتب وضبطوا ما وثَقُوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها ... " 3. ويرى الشيخ رشيد أن السنة التي يجب أن تكون أصلاً للقدوة هي ما كان عليه النبي وخاصة أصحابه   1 انظر: تفسير المنار (9/495 ـ496) ، والمجلة (27/ 541 و752 و697 و783 و539 و618) وقلده أبو رية فنقل نصوصاً عنه كاملة، انظر: أضواء (ص: 146 ـ 149 و150 ـ 151 و157 و164 و174 ـ176 و181 و291) ، وستأتي تراجم هؤلاء. 2 وقلده أبو رية، انظر: أضواء (ص:42 ـ43) ، وانظر: تفسير المنار (9/495ـ 496) 3 مجلة المنار (10/ 768) ، وقارن مع أبي رية: (ص:51) فقد نقل نص كلامه هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 عملاً وسيرة، فلا تتوقف على الأحاديث القولية 1. ويحمل الشيخ رشيد على المحدثين الذين "يغبون أحياناً عن الفرق بين السنة والحديث في عرف الصحابة الموافق لأصل اللغة فيحملوا السنة على اصطلاحهم الذي أحدثوه بعد ذلك..2. ويضيف الشيخ رشيد دليلاً آخر على مذهبه في الأحاديث القولية وهو نهي الصحابة عن رواية هذه الأحاديث 3. وقد بنى الشيخ رشيد كما رأينا على مسألة عدم كتابة الحديث في وقت متقدم، لا سيما من النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد ثبت أن ذلك وقع وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأملى الحديث عليهم، وأن الصحابة كتبوا ذلك وأمروا به وأن التابعين تابعوهم على ذلك، والأدلة على ذلك الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة حديثه والأذن فيها كثيرة، منها: أولاً: إذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص بكتابة أحاديثه " القولية": فقد كان عبد الله بن عمرو حريصاً على العلم وكان يكتب كل شيء يقوله النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه بعض الصحابة عن ذلك، فلجأ عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستوضح منه الحكم الصحيح، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة، وأشار إلى فيه الشريف قائلاً: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج مني إلا حقاً" 4، ولا ريب أن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى فيه إشارة إلى كتابة أحاديثه القولية. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يشهد لعبد الله بن عمرو بالحفظ ويرجع السبب في ذلك إلى كتابته 5. وبهذه الطريقة تمكن عبد الله بن عمرو من جمع كتب كثيرة من الحديث النبوي.   1 نفس المصدر (10/ 852) 2 نفس المصدر (10/ 853) 3 نفس المصدر (10/ 849) 4 انظر: أحمد: المسند (2/ 12) 5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: العلم. باب: 39 كتابة العلم، ح: 113 (1/ 249 مع الفتح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يُكْتَبَ لرجل سأله ذلك، فقال: "اكتبوا لأبي شاة" 1. و "كتب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتاباً فيه أحكام الطهارة والصلاة والغنيمة والصدقة وكتاب الجراح والديات وغير ذلك" 2. ثانياً: علم الصحابة رضي الله عنهم بذلك وعملهم به، ونأخذ على ذلك أمثلة لكبار محدثي الصحابة الذين كانوا يكتبون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم " القولية": المثال الأول: كان أبو هريرة رضي الله عنه أول الأمر يعتمد على حفظه ويرفض الكتابة 3، إلا أنه سرعان ما عاد وكتب حديثه الذي يحفظه وأصبح يعتمد على هذا المكتوب عند شكه في رواية من مروياته 4. وقد أثنى أبو هريرة رضي الله عنه على حفظ عبد الله بن عمرو وأقر بأنه أحفظ منه بسبب كتابة عبد الله المبكرة. وكتب عن أبي هريرة تلامذته فقد كتب عنه همّام بن منبه صحيفته المشهورة بإملائه 5، وكتبها أيضاً أبو صالح السمّان 6، وكتبها عن أبي صالح الأعمش 7 فقد كتب ألف حديث مما رواه عن أبي هريرة 8. وكتب أيضاً عن أبي هريرة الأعرج 9 وآخرون 10.   1 البخاري: الصحيح: ك: العلم: باب كتابة العلم ح: 112 (1/ 248 مع الفتح) 2 انظر: الحاكم: المستدرك (1/394 ـ 395) وأشار إليه الترمذي؛ انظر: الجامع الصحيح (السنن) : كتاب الزكاة: باب ما جاء في زكاة الذهب والورق، ح: 620 (3/ 7) . 3 انظر: أبو خيثمة: العلم (ص: 33) ت: الألباني، ط. المكتب الإسلامي، الثانية 1403هـ =1983م. 4 انظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم (ص: 74) ، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (1/250) . 5 نشرها أحمد شاكر (ضمن المسند) انظر: مقدمة ج: 16، ط. دار المعارف، وأفردها رفعت فوزي: ط. مكتبة الخانجي، الأولى 1406هـ. 6 هو: ذكوان بن عبد الله مولى أم المؤمنين جويرية، حافظ حجة. السير (5/36) . 7 هو: سليمان بن مهران، شيخ المقرئين والمحدثين، حافظ إمام. السير (6/226) . 8 انظر: مسند علي بن الجعد (ص:80) (عن الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي: 1/98) .ط. شركة الطباعة السعودية، الرياض، الثالثة 1401هـ. 9 هو: عبد الرحمن بن هرمز: الإمام الحافظ الحجة المقرئ. انظر: السير (5/69) . 10 انظر للتفصيل: الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي (1/98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 المثال الثاني: عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان يكتب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستخدم مواليه أحياناً للكتابة 1، وكان يحث طلابه على كتابة العلم2، وقد ورد أنه كان ينهى عن الكتابة، فهل يتعارض ذلك مع ما قررته؟ أبداً فإن الذي ورد نهيه عنه هو كتابة آرائه، فعن طاوس 3قال: "إن كان الرجل يكتب إلى ابن عباس يسأله عن الأمر فيقول للرجل الذي جاء بالكتاب: "أخبر صاحبك بأن الأمر كذا وكذا، فإنا لا نكتب في الصحف إلا الرسائل والقرآن" 4. فإذاً كان يكتب الأحاديث دون رأيه وإلا فإنه أمر طلابه بالكتابة فقال: "قيدوا العلم بالكتابة" 5 وروي هذا الأمر بالكتابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً 6 وموقوفاً على عمر 7 وأنس 8 وعبد الله بن عمرو 9. المثال الثالث: أنس بن مالك رضي الله عنه وكان أنس يجيد الكتابة وقد بعثه أبو بكر إلى البحرين ساعياً 10. وبما أنه عاش مدة طويلة حتى قارب نهاية القرن الأول، ولم يبق من الصحابة إلا عدد ضئيل جداً، فقد كثُر تلاميذه حتى وصل الرواة عنه إلى مائتي نفس 11، وقد سبق أنه كان يأمر بالكتابة، ويقول: "قيدوا العلم بالكتابة" 12،   1 انظر: ابن سعد: الطبقات (2/283) ط. دار الكتب العلمية، الأولى. وابن حجر: الإصابة (4/332) ط. دار الكتب العلمية، بيروت. (مصورة) 2 انظر: ابن عبد البر: الجامع (ص:72) ، وأبو خيثمة: العلم (ص: 34) . 3 هو: ابن كيسان، فقيه قدوة، عالم اليمن، سمع عدداً من كبار الصحابة. السير (5/38ـ39) . 4 انظر: أبو خيثمة: العلم (ص: 11) . 5 ابن عبد البر: الجامع (ص: 72) . 6 ابن عبد البر: الجامع (ص:73) ، وانظر: الألباني: الصحيحة (ح: 2026) . 7 ابن عبد البر: الجامع (ص:72) . 8 أبو خيثمة: العلم (ص:29) . 9 ابن عبد البر: الجامع (ص: 73) 10 الذهبي: سير أعلام النبلاء (3/ 268 ـ 269) . 11 الذهبي: السير (3/266) ، ط. مؤسسة الرسالة. بيروت. 12 سبق تخريجه (ص: 126) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وكانت لديه كتب كثيرة، فإذا كثُر الناس عليه أخرجها لهم وقال: "هذه أحاديث سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبتها عنه" 1. وكان يملي على طلابه وهم يكتبون 2، وكتب عنه عدد من طلابه في واسط 3، وروى مسلم عنه أنه أعجبه حديث سمعه فقال لابنه: "اكتبه فكتبه" 4. وهؤلاء الأربعة عبد الله بن عمرو وأبو هريرة وابن عباس وأنس هم رواة الحديث النبوي المكثرون، يكتبون أحاديثهم ويكتب عنهم طلابهم، هذا وقد كتب أيضاً غيرهم، ولكني اقتصرت على هؤلاء لأنهم أكبر من روى من الحديث النبوي، ولأن المقام لا يحتمل إلا ذكر أمثلة 5. ثانياً: الرواية بالمعنى: الحجة الثانية التي بنى عليها الشيخ رشيد موقفه من "السنة القولية" أنها رويت بالمعنى وأن هذه الرواية بالمعنى هي سبب الاضطراب والاختلاف في الأحاديث الواردة، وهو ما أوجب ـ عند الشيخ رشيد ـ تساقطها وعدم الاعتداد بها. فقال: " لاشك في أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى كما هو معلوم، واتفق عليه العلماء ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها، وما دخل على بعض الأحاديث من المدرجات وهي ما يدرج في اللفظ المرفوع من كلام الرواة، فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه، وربما وقع في فهمه الخطأ ... وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها ... " 6.   1 الخطيب البغدادي: تقييد العلم (ص: 95ـ 96) ت: يوسف العش. 2 الخطيب: تاريخ بغداد (8/259) . 3 المصدر نفسه والصفحة نفسها. 4 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 54 (1/61 ـ62) عبد الباقي. 5 ولتفصيل ذلك راجع: أبو شهبة: دفاع عن السنة (ص:21) ، وأبو زهو: الحديث والمحدثون (ص:119) ط. الأولى، والسباعي: السنة (ص:58) ، والأعظمي: دراسات (1/92) وما بعدها، وعبد الغني عبد الخالق: حجية السنة (ص: 421) وما بعدها، وانظر أيضاً: رفيق العظم: التدوين في الإسلام: مجلة المنار (10/743 ـ 752) . 6 تفسير المنار (9/506 و 8/210 و 9/490) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ولقد كرر أبو رية 1 نفس الكلمات فقال: "إنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها مما سموه صحيحاً أو جعلوه حسناً، حديث قد جاء على لفظه ومحكم تركيبه كما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم ... " 2. وزاد أبو رية ذكر الأمثلة 3، واستشهد بكلام الشيخ رشيد في تفسيره 4، وأريد هنا أن أجيب وباختصار عن هذه الشبهة فأقول: أولاً: لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى نشر حديثه وحثّهم على روايته بلفظه فقال: "نضّر الله امرءواً سمع مقالتي فحفظها فوعاها فأداها كما سمعها فرب مُبَلَّغ أوعى من سامع" 5. ولا ريب أن أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانوا يعظمون أمره ويمتثلونه، ولقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على رجل علّمه دعاءً فقال فيه: "وبنبيك الذي أرسلت" فقال الرجل: "وبرسولك الذي أرسلت" فضربه النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال له: "وبنبيك الذي أرسلت" 6، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم ذلك وعملوا به. ونأخذ أمثلة على حرص هؤلاء ومن بعدهم على رواية اللفظ: أولاً: الصحابة: المثال الأول: ابن عباس رضي الله عنه ـ حبر الأمة ـ كان من المكثرين 7   1 أضواء البيان (ص:20) 2 أضواء (ص: 20) . 3 انظر: أضواء (ص:82 ـ 85) . 4 أضواء (ص: 86 ـ 87) وقد أكثر أبو رية من الاستشهاد والنقل عن الشيخ رشيد. انظر: محمد أبو شهبة: دفاع عن السنة (ص: 68) ، ومقدمة أضواء (ص:35) وما بعدها. ط. دار المعارف بمصر. 5 هذا حديث متواتر وقد أثبت تواتره فضيلة الشيخ العلامة: عبد المحسن العباد في دراسة وافية، انظر له: دراسة حديث "نضّر الله امرءاً سمع مقالتي ... ". 6 رواه البخاري: الصحيح، ك: الوضوء، باب: فضل من بات على وضوء، ح: 247 (1/ 426) مع الفتح، والرجل هو: البراء بن عازب رضي الله عنه راوي الحديث. 7 انظر: أحمد شاكر: الباعث الحثيث (ص: 187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وكان يكتب الحديث، وقال لطلابه: "قيدوا العلم بالكتابة" 1، وكان يحرص على اللفظ فإذا روى حديثاً وشك في ألفاظه بيّن ذلك فقد روى حديث وفد عبد القيس وفيه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الوفد؟ أو من القوم؟ وقال: مرحباً بالقوم أو بالوفد" 2. المثال الثاني: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه من المكثرين أيضاً 3، وكان يحرص على اللفظ، فقد سمع أبا هريرة يروي حديثاً فيه: "ذلك لك ومثله معه" فقال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، قال أبو هريرة: "ما حفظت إلا قوله: "ذلك لك ومثله معه" قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ذلك لك وعشرة أمثاله" 4. ولا تعارض بين الروايتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قالهما وروى كل واحد منهما ما سمعه 5. وعنه أيضاً في حديث الشفاعة: "ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) ... " 6. المثال الثالث: ابن مسعود: المقرئ الكبير، كان يحرص على اللفظ كما كان يكتب الحديث 7، فقد روى حديث آخر أهل النار خروجاً وفيه: "فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها" أو: "إن لك عشرة أمثال الدنيا" 8، وفيه أيضاً: "قال فيقول: أتسخر بي (أو: أتضحك بي) وأنت الملك" 9. المثال الرابع: أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ محدث الإسلام، من المكثرين10، كان يحرص على أداء اللفظ وإن شك في لفظين رواهما. ففي   1 سبق تخريجه (ص:126) . 2 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 24 (17) [1/47] 3 انظر: أحمد شاكر: الباعث (ص:187) . 4 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 299 (182) [1/163ـ 164] 5 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: (312) (189) [1/ 176] 6 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 306 (185) [1/172] 7 انظر: مصطفى الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي (1/125ـ 126) . 8 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 308 (186) [1/173] 9 مسلم: نفس الموضع السابق. 10 انظر: أحمد شاكر: الباعث (ص: 187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 حديث شعب الإيمان روى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة … " 1، وقد سبق تمسكه بما سمعه في حديث الشفاعة بينما تمسك أبو سعيد بما سمعه أيضاً. المثال الخامس: عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ من المكثرين، وكان أشد الناس حرصاً على لفظ الحديث، وكان يغضب غضباً شديداً إذا تغير لفظ الحديث، ونأخذ له روايتين: الأولى: سمع ابن عمر عبيد بن عمير 2 يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافقين كمثل الشاة الرابضة 3 بين الغنمين"، فقال ابن عمر: "ويلكم لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة 4 بين الغنمين" 5. فقد سمى ابن عمر الرواية بالمعنى كذباً. الثانية: روى ابن عمر حديث أركان الإسلام فقال: "بني الإسلام على خمس: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج" فقال رجل مستفهماً: الحج وصيام رمضان؟ قال: "لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" 6. فقد رفض ابن عمر مجرد التقديم والتأخير في الألفاظ. المثال السادس: أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ من المكثرين 7، وكان يتقي مع ذلك الحديث عن النبي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعمّد عليّ كذباً   1 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 58 (35) [1/63] 2 هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، أبو عاصم المكي، ولد على عهد النبي (ـ قاله مسلم ـ، وعدّه غيره في كبار التابعين، وكان قاصّ أهل مكة، مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر. التقريب (ص: 651) . 3 الرابضة: ربوض الغنم والبقر مثل بروك الإبل وبابه جلس. مختار الصحاح (ص: 97، مادة ربض) .وانظر: ابن الأثير: النهاية (2/ 185) ط. المكتبة العلمية، بيروت. 4 العائرة: أي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع (انظر: ابن الأثير النهاية 3/328) 5 انظر: أحمد: المسند (8/16) ت: أحمد شاكر، وصحح إسناده. ط. دار المعارف. 6 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 19 (16) [1/45] 7 انظر: أحمد شاكر: الباعث الحثيث (ص: 187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فليتبوأ مقعده من النار" 1، وكان إذا روى حرص على اللفظ، فقد روى حديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه (أو قال: لجاره) ما يحب لنفسه"، فقد تردد أنس في اللفظ فبيّن ذلك من حرصه على أداء اللفظ كما سمعه 2. المثال السابع: أبو بكرة - رضي الله عنه- روى حديث الكبائر فقال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثاً) الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور (أو: وقول الزور) ... " 3، وذلك أيضاً من الحرص على أداء ما سمع، وقد رواه أنس بلا تردد 4. وقد انتقل هذا المنهج للتابعين فقد تبعوا فيه الصحابة، ولنضرب لذلك ثلاثة أمثلة: المثال الأول: أبو حازم 5 عن سهل بن سعد؛ فقد روى عنه أبو حازم مرفوعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً، أو سبعمائة ألف ... " قال مسلم: " لا يدري أبو حازم أيهما قال" 6. المثال الثاني: أبو الزبير 7 عن جابر؛ فقد قال ابن جريج 8: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يُسأَل عن المُهلِّ؟   1 انظر: مسلم: الصحيح: المقدمة، ح: 2 (2) [1/10] 2 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 71و 72 (45) [1/67ـ 68] 3 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 143 (87) [1/91] 4 مسلم: الصحيح، ك: كتاب الإيمان، ح: 144 (88) [1/92] 5 هو: سلمة بن دينار، روى عن سهل بن سعد وأبي أمامة، إمام قدوة. السير (6/96) . 6 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 373 (219) [1/198ـ 199] 7 هو: محمد بن مسلم بن تدرس، إمام حافظ، مولى حكيم بن حزام، روى عن جابر، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وغيرهم. السير (5/380) . 8 هو: عبد الملك بن عبد العزيز، الإمام العلامة الحافظ شيخ الحرم، صاحب التصانيف، وأول من دوّن العلم بمكة، حدث عن عطاء بن أبي رباح فأكثر عنه، ونافع مولى ابن عمر. السير (6/325) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فقال: سمعت (ثم انتهى، فقال: أراه يعني) النبي صلى الله عليه وسلم .... " 1، فقد احتاط أبو الزبير للسماع. المثال الثالث: الأسود 2 عن عائشة، فقد قال الأسود: " عن عائشة أن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا قام من الليل فدخل إلى أهله فألم بهم ثم اضطجع، ولم تقل: نام. فإذا جاء المؤذن وثب، ولم تقل: قام. ثم أفاض على نفسه، ولم تقل: اغتسل" 3. ويشهد الأعمش 4 شهادة عامة لهذا الجيل فيقول: " كان هذا العلم عند أقوام لأن يخر من السماء أحب إليهم من أن يزيد فيه واواً أو ألفاً أو دالاً" 5. فإذا وصلنا إلى عصر المؤلفين نجد مالك بن أنس رحمه الله يحترز من تبديل لفظ بآخر كالذي والتي ونحوهما 6, وكذلك أحمد يقول: حدثنا يزيد بن هارون 7 وعباد بن عباد المهلبي 8 قالا: أخبرنا هشام، قال عباد: ابن زياد عن أبيه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي مرفوعاً: "ما من مسلم يصاب بمصيبة وإن طال عهدها، قال عباد: "وإن قدم عهدها"" 9، فقد أشار أحمد إلى اختلاف شيخيه في ملاحظتين أحدهما في الإسناد والأخرى في المتن وذكر لفظهما.   1 مسلم: الصحيح، ك: الحج، ح: 16 (1183) [2/840] 2 هو: ابن يزيد بن قيس النخعي، تابعي مخضرم، إمام قدوة، روى عن معاذ بن جبل وبلال وابن مسعود وعائشة وحذيفة وغيرهم. السير (4/50) . 3 الخطيب: الكفاية (ص: 174) .ط. دار الكتب العلمية (مصورة عن ط. الهند) بيروت 1409هـ. 4 سبقت ترجمته (ص:125) . 5 الخطيب: الكفاية (ص: 178) . 6 نفس المصدر والصفحة. 7 هو: ابن زادي، إمام قدوة، شيخ الإسلام، كان رأساً في العلم. السير (9/ 358) . 8 هو: ابن حبيب، إمام حافظ ثقة، حدث عن هشام بن عروة وجماعة. السير (8/294) . 9 أحمد: المسند (1/ 201) ط. الميمنية (مصورة المكتب الإسلامي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ومسلم رحمه الله يقول: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية. ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة 1 حدثنا أبو معاوية 2 ووكيع 3 ح وحدثنا ابن نمير 4، حدثنا أبي 5 جميعاً عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة 6، عن مسروق 7عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منّا من ضرب الخدود أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية" ثم قال مسلم: هذا حديث يحيى، وأما ابن نمير وأبو بكر فقالا: "وشق ودعا" بغير ألف" 8، فأنت ترى مسلماً أيضاً يحترز من الألف في الرواية، وهكذا صنع مسلم في كل كتابه، يبين اختلاف الرواة في الألفاظ وفي المتون والأسانيد. وهذا أبو داود 9، رحمه الله، يقول: " وقد روى حديثاً عن شيخين: عمرو بن مرزوق 10، ومحمد بن المثنى 11، فيبين اختلاف ألفاظهم، ولفظ الحديث: "ولولا أن يقول الناس" فقال: قال ابن المثنى: أن يقولوا. وبلفظ: "لقد أراك الله خيراً" فقال: "ولم يقل عمرو: لقد" 12.   1 هو عبد الله بن محمد الكوفي ـ واسطي الأصل ـ ثقة حافظ مصنف (ابن حجر: تقريب التهذيب، ص: 540) ط. دار العاصمة، الأولى 1416هـ 2 هو محمد بن خازم ـ بمعجمتين ـ الضرير الكوفي، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش (تقريب، ص: 840) 3 هو ابن الجراح أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة (تقريب، 1037) 4 هو محمد بن عبد الله بن نمير: ثقة حافظ فاضل من العاشرة (تقريب 866) 5 هو عبد الله بن نمير الكوفي أبو هشام ثقة حافظ من أهل السنة من كبار التاسعة (تقريب 553) 6 هو الهمداني الكوفي ثقة من الثالثة، روى له الجماعة (تقريب: 544ـ 545) 7 هو ابن الأجدع بن مالك، ثقة فقيه عابد مخضرم، من الثانية (تقريب: 935) 8 انظر: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 165 (103) [1/99] وانظر أيضاً: ك: الإيمان ح: 185 (117) [1/109] 9 هو السجستاني، صاحب السنن: سليمان بن الأشعث من كبار العلماء (تقريب: 404) 10 هو الباهلي، أبو عثمان البصري ثقة فاضل من صغار التاسعة (تقريب: 745) 11 هو العنزي، أبو موسى ثقة ثبت من العاشرة (تقريب: 892) 12 أبو داود: السنن، ك: الصلاة، أبواب: الأذان، باب: كيف الأذان، ح: 506) .ط. دار الحديث، سورية ت: الدعاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ثانياً: أن من كان يروي بالمعنى منهم ـ كان يقرن ذلك بما يدل عليه ـ إذا كان شاكاً في اللفظ ـ كأن يقول: نحواً من ذا قريباً من ذا 1، احتياطاً في الأداء. فهذا ما كان من الصحابة والتابعين عند رواية الحديث النبوي في الرواية بالمعنى وفي غير المتعبد بلفظه، ويتبعون ذلك بقول يفيد احتياطهم في روايته وينبهون أثناء سياق الحديث على موضع السهو أو التردد، بما لا تجده لأمة من الأمم في أي عصر من العصور، ويتضح ذلك بأدنى نظر في أي من كتب الرواية. وبناء على ذلك فإن كل ما كتبه المستشرقون ـ في الكتابة والرواية بالمعنى ـ وكذا من تبعهم من المسلمين ـ يصبح لا قيمة له. 2. ثالثاً: أن اختلاف ألفاظ الحديث التي تتوارد على معنى واحد لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها، بل كان لمجالسه صلى الله عليه وسلم المتعددة بتعدد الأزمنة والأمكنة والحوادث، والسامعين والمستفتين والمتخاصمين والمتغاضبين، والوافدين والمبعوثين، أثر في ذلك كبير، فكانت ألفاظه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تختلف في ذلك، إيجازاً وإطناباً، ووضوحاً وخفاءً، وتقديماً وتأخيراً، وزيادة ونقصاً، بحسب ما يقتضيه الحال ويدعو إليه المقام 3. رابعاً: وإذا أردنا أن نتبين حقيقة الأمر وننظر في الأمثلة التي ضربها هؤلاء لنا جدلاً، فسنجد العجب، إن هذه الأمثلة هي الأدلة على الاختلاف الناتج عن الرواية بالمعنى، والذي حدا بهم إلى رفض السنة، وسأعتمد على أبي رية فإنه ذكر أمثلة كثيرة لذلك 4.   1 انظر: أحمد: المسند (5/ 245) ت: أحمد شاكر، والخطيب: الكفاية (ص: 205) 2 ولقد أطلت في هذه المسالة لأني لم أجد من كتب فيها على نحو ما كتب مصطفى الأعظمي عن " الكتابة والتدوين" في "دراسات في الحديث النبوي" وتستحق هذه المسالة " الرواية بالمعنى" بحثاً كهذا فأرجو أن ينتدب لهذا إخواني في كلية الحديث الشريف. 3 انظر": أبو زهو: الحديث والمحدثون (ص:207) ، ط. مطبعة مصر، الأولى، 1378هـ. وقد خصص أبو زهو فصلاً للرد على دعوى الشيخ رشيد، انظر له: نفس المصدر (ص: 220ـ 242) وكذا أبو شهبة، انظر له: دفاع عن السنة (ص: 195) 4 انظر: أضواء (من ص: 82ـ 94) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المثال الأول: وهو حديث رواه مسلم: جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي آخر الحديث يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق". وفي رواية: "أفلح وأبيه إن صدق"، وفي ثالثة: "دخل الجنة وأبيه إن صدق" 1. هذا هو حجم الاختلاف الذي أقاموا عليه الدنيا: "أفلح إن صدق" أفلح وأبيه إن صدق" " ودخل الجنة وأبيه إن صدق". المثال الثاني 2: حديث الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم: وتقدم رجل بقوله: يا رسول الله: أنكحنيها ولم يكن معه من المهر غير بعض القرآن، فقال له صلى الله عليه وسلم: "أنكحتكها بما معك من القرآن"، وفي رواية: "زوجتكها بما معك من القرآن"، وفي رواية: "زوجتكها على ما معك"، وفي رابعة: "قد ملكتكها بما معك" 3. هذا الاختلاف: زوجتكها، ملكتكها، أنكحتكها، بما معك على ما معك..؟!. لقد تأسف هؤلاء على أن السنة رويت بالمعنى فأدت الرواية إلى هذا الاختلاف الشنيع، ولم تروَ باللفظ كما روي القرآن بلفظه، كما أنها لم تكتب كما كتب، هذا ما يقولونه 4، ولكن القرآن أيضاً وقع فيه مثل ما نقموه على السنة، فمتى جمع القرآن؟ 5. وماذا يقولون في اختلاف القراءات العشر المروية، بل إن القراءات أكثر من عشر بكثير 6. ما قولهم في قراءة:   1 انظر: مسلم: الصحيح: ك: االإيمان، ح: (8 و9و10 11، 12) (1/40 42) 2 انظر: أبو رية: أضواء (ص:91) 3 انظر: البخاري: الصحيح، ك: النكاح، باب: إذا كان الولي هو الخاطب، ح: 5132، وك: فضائل القرآن: باب: القراءة عن ظهر قلب، ح: 5030، ومسلم: الصحيح: ك: النكاح، ح: 77 (2/ 1041) وابن ماجه: السنن: ك: النكاح: باب: صداق النساء، ح: 1889 (1/ 608) 4 انظر: رشيد رضا: مجلة المنار (10/ 766) وأبو رية: أضواء (ص:20و76) 5 لم يجمع القرآن في زمن النبي (في مصحف واحد، وأول جمع بهذا المعنى كان في عهد الصديق، ثم الجمع الأكبر في عهد عثمان رضي الله عنهم، انظر: ابن أبي داود: المصاحف ط. مؤسسة قرطبة، مصر. (ص:5) وما بعدها، ود. لبيب السعيد: المصحف المرتل (ص:32) وما بعدها، ط. دار المعارف، بمصر. 6 انظر: ابن الجزري: النشر في القراءات العشر (1/ 88) وما بعدها، ط. مكتبة القاهرة بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 {فتثبتوا} بدلاً من {فَتَبَيَّنُوا} 1، و {ننسأها} بدلاً من {نُنْسِهَا} 2، وقراءة {لا تقتلوهم} و {لا تقاتلوهم} 3، و {إِثْمٌ كَبِيرٌ} و {إثم كثير} 4، {وَلَوْلا دَفْعُ} {ولولا دفاع الله} 5، و {وَسَارِعُوا} مع القراءة من دون الواو 6، وقراءة {لامَسْتُمُ} بالألف والقراءة بدونها 7، وقراءة {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} و {هل تستطيع ربَّك} 8، و {أنا اخترتك} و {أنّا اخترناك} 9، إلى غير ذلك من أوجه الخلاف في القراءة، هل يدل ذلك على الرواية بالمعنى وعلى الاختلاف، وهل يقولون في القرآن مثل ما قالوه في السنة؟. الرواية عن أهل الكتاب: الحجة الثالثة التي اتكأ عليها الشيخ رشيد في موقفه من السنة " القولية" هي رواية الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم عن مسلمة أهل الكتاب، وفي هذا السبيل طعن في مسلمة أهل الكتاب بدءاً من الصحابة كتميم الداري   1 قرأ حمزة والكسائي، بالثاء المثلثة بعدها باء موحدة بعدها مثناة فوقية، والباقون بباء موحدة بعدها مثناة تحتية فنون. انظر: (البنا: الإتحاف 1/ 518) ط. عالم الكتب. والكليات الأزهرية، الأولى 1407هـ. 2 قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بفتح النون والسين بعدها همزة ساكنة، وقرأ الباقون: بضم النون وكسر السين بلا همز (البنا: الإتحاف: 1/411) 3 قرأ حمزة والكسائي وخلف بغير ألف، والباقون: بالألف (البنا: 1/ 433) 4 قرأ حمزة والكسائي: بالثاء المثلثة، والباقون: بالباء الموحدة (البنا:1/ 437) 5 قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بكسر الدال وألف بعد الفاء، والباقون: بفتح الدال وسكون الفاء (البنا: المرجع السابق 1/ 446) 6 قرا نافع وابن عامر وأبو جعفر بغير واو، والباقون بالواو (البنا1/ 488) 7 قرأ حمزة والكسائي وخلف بدون ألف، والباقون: بإثباتها (البنا1/ 1/ 531) 8 قرأ الكسائي بتاء الخطاب ونصب {ربك} ، على التعظيم، والباقون: بياء الغيب، ورفع: {ربك} على الفاعلية. (البنا: الإتحاف 1/ 545) 9 قرأ حمزة بفتح الهمزة وتشديد النون في {أنّا} وقرأ {اخترتك} بنون مفتوحة وبعده ألف ضمير المتكلم، والباقون: بتخفيف النون في {أنا} و {اخترتك} بالتاء مضمومة من غير ألف على لفظ الواحد (البنا: 2/ 245) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 رضي الله عنه 1، ومروراً بالتابعين، ككعب الأحبار 2، ووهب بن منبه 3، ومن دون هؤلاء من الرواة، ولو عدَّلهم أهل الأرض، ولو كانت من أصح الأسانيد. ويحسن أولاً أن أنقل نصوصا في ذلك من كلام الشيخ رشيد، إنه يقول: "إن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم، وما كل مسلم مؤمن صادق، وما كانوا يفرقون في الأداء بين ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره، وما بلغهم عنه بمثل سمعت وحدثني وأخبرني، ومثل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال، أو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل المحدثون من بعد عند وضع مصطلح الحديث 4. وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كان يروي بعضهم عن بعض وعن التابعين حتى كعب الأحبار وأمثاله، والقاعدة عند أهل السنة: أن جميع الصحابة عدول فلا يخل جهل اسم راو منهم   1 هو تميم بن أوس بن خارجة الفلسطيني الداري، وفد سنة تسع فأسلم، حدث عنه النبي (، بقصة الجساسة في أمر الدجال، وله عدة أحاديث، وكان عابداً تلاءً لكتاب الله. حدّث عنه ابن عباس وأنس بن مالك وآخرون، جمع القرآن على عهد النبي (. وقال قتادة في قوله تعالى: {ومن عنده علم الكتاب} قال سلمان وابن سلام وتميم الداري. انظر ابن جرير: التفسير (13/177) ، والذهبي: السير (2/ 442) وما بعدها، وقد قلد أبو رية رشيد رضا في الطعن فيه. انظر: أضواء (ص: 181 ـ 182) ونقل نص كلامه هناك. 2 هو: كعب بن ماتع الحِمْيَري اليماني، العلامة الحبر، ثقة مخضرم، كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي (، قدم المدينة من اليمن في عهد عمر، فجالس الصحابة فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء. حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس وهو من قبيل رواية الصحابي عن التابعي، وهو نادر عزيز. توفي بحمص غازياً في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: السير (3/489 ـ 494) ، وابن حجر: تقريب التهذيب (ص: 812) . 3 هو: وهب بن منبه بن كامل، الإمام العلامة الأخباري القصصي، اليماني الصنعاني، أخو همام ومعقل وغيلان، ولد في زمن عثمان وأخذ عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد والنعمان بن بشير وغيرهم. له علم غزير في الإسرائيليات ومن صحائف أهل الكتاب. وروايته للمسند قليلة وهو ثقة. انظر: السير (4/544 ـ556) ، وابن حجر: التقريب (ص: 1045) . 4 هذا الكلام والخلط يدل على مقدار علم الشيخ رشيد بعلم الحديث روايته ودرايته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 بصحة السند، وهي قاعدة أغلبية وليست مطردة، فقد كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منافقون..1، ولكن البلية في الرواية عن مثل كعب الأحبار ... "2. وقال في الكلام على أشراط الساعة: “من رواة هذه الأخبار وهب بن منبه وقد جرحه بعضهم، وأخوه همام 3، وقد وثقه الجمهور، وهما من رواة الإسرائيليات، ككعب الأحبار، وحديث أبي هريرة الذي هو أقواها 4 رواه البخاري في التفسير 5، عن إسحاق 6 ـ غير منسوب ـ عن عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه ـ وعبد الرزاق على إمامته في هذه الصناعة قد جرحه بعض أئمتهم حتى بالكذب 7، ورواه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن المدني 8، مولى الحرقة عن أبيه 9، عن أبي هريرة، والعلاء ممن جرحوه من رجال مسلم، ضعفه يحيى بن معين، وقال ابن عدي: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم الرازي هو صالح الحديث أنكر من حديثه أشياء..10" وكل هؤلاء الرواة ضعفهم الشيخ رشيد في حديث واحد من أحاديث أشراط الساعة ليسقطه. وسأكتفي بإحالة القارئ على كتب التاريخ ليحكم بنفسه على هؤلاء   1 وهذا وهم عجيب أيضاً يدل على مدى علم الشيخ رشيد، وقد قلده أبو رية، ونقل عنه نص كلامه، انظر: أضواء (ص: 356ـ 359) فقد عقد فيه فصلاً كاملاً عن هذا الموضوع، كله من كلام الشيخ رشيد في التفسير. وانظر: الأعظمي: منهج النقد (ص:110) 2 تفسير المنار (9/ 506ـ 5-7) 3 أخو وهب بن منبه، محدث متقن، صاحب الصحيفة الشهيرة عن أبي هريرة، وقد سبق الحديث عنهاـ ثقة. انظر: السير (5/ 311ـ 313) والتقريب (ص: 1024) 4 يريد حديث طلوع الشمس من مغربها. انظر: تفسير المنار (8/ 210ـ 211) 5 باب: {لا ينفع نفساً إيمانها} ح: 4636، وسيأتي الكلام عليه في موضعه. 6 هو ابن نصر أو ابن منصور. انظر: ابن حجر: هدي الساري (241) 7 عبد الرزاق هو ابن همام بن نافع، عالم اليمن الثقة الحافظ، صاحب التصانيف والمصنف الشهير، كان يتشيع. السير (9/ 563ـ 580) والتقريب (ص: 607) 8 هو ابن يعقوب المدني صدوق ربما وهم. ابن حجر: التقريب (ص: 761) 9 هو عبد الرحمن بن يعقوب الجهني، مولى الحرقة ثقة من الثالثة (تقريب/ص: 605) 10 تفسير المنار (8/ 211) بالحاشية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الذين طعن فيهم الشيخ رشيد، وأكتفي في الرد على هذه المسألة الأساسية، وهي رواية الصحابة عن مسلمة أهل الكتاب لأن في كلام الشيخ رشيد ومن تبعه اتهام للصحابة بالغفلة وبعدم الفطنة والتمييز. الحكمة من رواية الصحابة الإسرائيليات: لقد قال الله تعالى مخاطباً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومخبراً عن أهل الكتاب: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، وقد أدب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وعلمهم المنهج في الرواية عن أهل الكتاب فقال لهم: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" 2. أفبعد هذا يجوز لأحد أن يتهمهم بالبلاهة والسذاجة وعدم التمييز وبتصديق الكاذبين؟؟! وفي ضوء الآية السابقة والحديث نستطيع القول: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستمعون لحكايات كعب ووهب ونحوهما، لا على سبيل التصديق بل على سبيل الاعتبار والاتعاظ، وليحمدوا الله تعالى على ما أنعم عليهم من الكتاب والحكمة، وبضدها تتبين الأشياء، والضد يظهر حسنه الضد، وتنقض عرى الإسلام إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3.   1 سورة آل عمران: الآية (78) 2 انظر: أبو داود: السنن: ك: العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، ح: 3644. وانظر أيضاً البخاري: الصحيح: ك: التوحيد: باب ما يجوز من تفسير التوراة..ح: 7542 (13/ 525 مع الفتح) 3 سورة يوسف: الآية (111) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 هل رجع الشيخ رشيد رضا عن هذه الآراء: إن سبب إثارة هذه المسألة ما ذكره الشيخ مصطفى السباعي 1 ـ رحمه الله ـ وهو من معاصري الشيخ رشيد؛ فقد قال عنه: "أما السيد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ فيظهر أنه كان في أول أمره متأثراً بوجهة أستاذه الشيخ محمد عبده ـ رحمه الله ـ وكان مثله في أول الأمر قليل البضاعة من الحديث، قليل المعرفة بعلومه، ولكنه منذ استلم لواء الإصلاح ... كثرت بضاعته من الحديث وخبرته بعلومه ... لقد أدْرَكْتُه ـ رحمه الله ـ في آخر حياته، وكنت أتردد على بيته فأستفيد من علمه وفهمه للشريعة، ودفاعه عن السنة ما أجد من حق تاريخه عليّ أن أشهد بأنه كان من أشد الناس أخذاً بالسنة (القولية) وإنكاراً لما يخالفها في المذاهب الفقهية" 2. وفي هذا النص مسائل: الأولى: أن قلة بضاعة الشيخ رشيد في علم الحديث رواية ودراية قد صرح بها هو نفسه فقال: " ... وصفت (بمحيي السنة) على ضعف حفظي للرواية، وقلة حظي من الدراية" 3. وأما تخريجه للأحاديث فقد كان يعتمد فيها على كتاب "مفتاح الصحيحين" المطبوع المشهور، وقد اشتهر الشيخ رشيد بذلك وساعده على ذلك عدم اشتغال الأزهريين بالحديث وتبحرهم في المذاهب الفقهية والكلامية 4. وأما رجوع الشيخ رشيد عن آرائه في السنة ـ وإن كنت أرجوه ـ إلا أنني لم أجد عليه دليلاً إلا قول الدكتور السباعي المتقدم. ولكن يوجد أدلة على ثبات الشيخ رشيد على هذه النظرية، فقد ظل   1 هو: مصطفى بن حسني أبو حسان السباعي عالم إسلامي مجاهد ولد بحمص، وتعلم بها وبالأزهر، وحصل على شهادة الدكتوراه من الأزهر، وعمل أستاذاً بكلية الحقوق بدمشق. ت: = = 1384هـ. =1967م. الزركلي: العلام (7/ 231) 2 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي (ص: 30) 3 مقدمة مفتاح كنوز السنة (ص: ق) و (ص: س) . 4 انظر: السباعي: السنة (ص: 30) ، ورشيد رضا: مقدمة مفتاح كنوز السنة (ص: ق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 يردد هذه الآراء حتى في المجلدات الأخيرة من المنار 1، ومع ذلك فإني أرجو أن أكون قد أخطأت نصاً أو أسأت فهماً لكلام الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ. وأما أخذ الشيخ رشيد بالسنن القولية كما حكى الدكتور السباعي فلا يتعارض مع نظريته تلك، فإنه يقول بجواز الاهتداء بالسنن القولية. وقد سبق بيان ذلك 2. أثر هذا الموقف للشيخ رشيد: لقد كانت المكانة العالية التي تبوأها الشيخ رشيد في العالم الإسلامي وانتشار مجلته " المنار" ونشره لمذهب السلف الذي جعل المسلمين يلتفون حول مجلته، كل ذلك جعل رأي الشيخ رشيد في السنة ينتشر بين الناس الذين اطلعوا على مجلته وآرائه. وأسوأ أثر لهذه الآراء هو الكتاب الذي أصدره "محمود أبو رية" حول السنة، وأعلن فيه رفضه لها جميعها وطعنه فيها وفي رواتها وناقليها. والحقيقة أن دعوى البحث والجد التي أعلنها أبو رية في مقدمة كتابه هي دعوى كاذبة. إن أبا رية لم يفعل شيئاً مما ادعاه هناك، وكل ما فعله أبو رية هو قراءة مجلة المنار، وجمع أقوال الشيخ رشيد رضا المتناثرة فيها، وزاد عليها سوء الظن وسوء الفهم، فكانت النتيجة هي: "أضواء على السنة المحمدية". لقد كان أبو رية، يردد بلا فهم ولا وعي كلام الشيخ رشيد رضا، ولقد نقل أبو رية عن الشيخ رشيد في كتابه ستة وعشرين مرة أو تزيد 3، وكانت هذه النقول تطول حتى تبلغ صفحات من مؤلفات الشيخ رشيد لا سيما التفسير والمجلة. لقد وصل الأمر إلى أن عقد فصلاً كاملاً   1 انظر: مجلة المنار (28/474، 29/42، 48 وما بعدها و 104 و509 وما بعدها و34/ 361 و35/64 وما بعدها) . 2 انظر (ص:120) من هذا البحث. 3 اعتمدت في عد هذه المرات على طبعة "أضواء ... " الرابعة التي طبعت في دار المعارف في مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 بعنوان "المنافقون من الصحابة" لم يكتب فيه كلمة واحدة، بل كان عبارة عن نقل عبارات لرشيد رضا مع عزوها إلى صفحاتها 1 وفي كل مرة ينقل فيها عن رشيد رضا يسبق اسمه بعبارات المديح والثناء، كالمحدث الفقيه ... والمحدث الكبير، وشيخ المحدثين 2. ولقد كانت هذه الملاحظة ـ أعني كثرة النقل عن رشيد رضا ـ محط انتقاد الذين قرظوا كتاب أبي رية؛ وكان جوابه: "أما الملاحظة الثانية التي لاحظها الدكتور الفاضل 3 فكانت بلسانه.. أنك قد أكثرت من النقل عن السيد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ وهذه الملاحظة سمعتها من غيره من كبار العلماء - وما لاحظه دكتورنا ومن معه - هو حق لا أماري فيه، وجوابي..أن هذا السيد يعتبر في هذا العصر من كبار أئمة الفقه المجتهدين عند أهل السنة الذين يعتد برأيهم ويوثق بعلمهم ... ، وأنه بلا منازع شيخ محدثي أهل السنة في عصرنا ... "4. لقد قلد أبو رية رشيد رضا في كل آرائه في السنة: في تقسيمها 5، وفي شبهات هذا التقسيم 6، وفي الطعن في الصحابة 7، وزاد عليه طعنه في أبي هريرة 8، وعبد الله بن سلام 9 رضي الله عنهما، وطعن في الأحاديث التي طعن فيها 10وزاد عليها، وقد نقل كلام الشيخ رشيد في   1 انظر: أضواء (من ص: 356 ـ 359) ، ولكن ليس هذا رأي رشيد في الصحابة. انظر: المجلة (28/ 503) و (ص:720) من هذا البحث وما بعدها. 2 أضواء (ص: 174 وص: 201 وص: 219) . 3 يعني: د. "طه حسين" الذي قرظ له أضواءه ويصفه أبو رية بـ: "نصير العلم والدين". انظر: أضواء (المقدمة ص: 7) . 4 أضواء (ص: 35) . 5 انظر: أضواء (ص: 392) . 6 انظر: أضواء (ص:20 ـ 21 و 23 و25 و46 و80 ـ 85 و 164 و 181 و 398) . 7 انظر: أضواء (ص: 164، 174 ـ 176 و 181) . 8 أضواء (ص: 219 ـ220) . 9 المصدر نفسه (ص: 150 ـ151) . 10 انظر: المصدر نفسه (ص: 82 ـ 85 و 89 ـ94 و 185 و 290و 241ـ 243) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أحاديث الأشراط ثم قال: "إنه نقل ذلك لينسحب هذا البحث على السنة كلها لا أحاديث الأشراط فحسب" 1. وأبو رية من المعاصرين للشيخ رشيد وكتب في مجلة المنار تقريظاً للتفسير 2. ولكن الآراء التي ذكرها في أضوائه لم يكن ليوافق عليها الشيخ رشيد لو كان حياً حين صدر الكتاب 3. ولا يقتصر هذا الأثر على أعداء السنة، بل امتد ليشمل "أنصار السنة" الذين ورثوا الشيخ رشيد رضا بكل ما فيه من حسنات وسيئات، فقد وقع من بعضهم إنكار للأحاديث الصحيحة، ولما دلت عليه كالمهدي والسحر 4، ولم يكن ذلك عاماً في هؤلاء بل كان يحدث فلتة بين الحين والآخر، كما كان هناك ميل إلى الاقتصار على الصحيحين دون سائر الكتب 5 عند آخرين 6.   1 المصدر نفسه (ص: 258) 2 انظر: مجلة المنار (34/ 212) وبينهما رسائل متبادلة: انظر: الشوابكة: مصدر سابق (ص: 159) بالحاشية. 3 انظر: السباعي: السنة (ص: 30) . 4 ألف أحد أعضاء الجماعة في الإسكندرية كتاباً يرد فيه أحاديث المهدي، وشافهني بعضهم بمسألة السحر. وأخبرني ببعض الحوادث الرئيس الحالي للجماعة، ليس هذا هو رأي الجميع، انظر: مجلة التوحيد، السنة 26، العدد 11 (ص: 52) وما بعدها. 5 ألف الشيخ "عبد العزيز بن راشد النجدي" المقيم والمتوفى بالإسكندرية كتاب "تيسير الوحيين بالاقتصار مع القرآن على الصحيحين" ط. السنة المحمدية، الثالثة، وانظر: مجلة التوحيد: السنة 26 العدد 3، ص: (46ـ 47) 6 يبحث أحد إخواننا في جامعة "أم القرى" جهود جمعية أنصار السنة في نشر العقيدة، ونسأل الله له التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 المطلب الثالث: الإجماع : الإجماع هو الأصل الثالث من أصول الأحكام، وهو حجة في كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 عصر من حجج الشرع، ودليل من أدلة الإحكام 1. وحقيقته ومعناه: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام 2. ويعتبر في الإجماع اتفاق كل من كان من أهل الاجتهاد 3، والإجماع على ضربين: أحدهما: إجماع الخاصة والعامة، وهو مثل إجماعهم على القبلة أنها الكعبة، وعلى صوم رمضان، ووجوب الحج، والوضوء، والصلوات. والثاني: إجماع الخاصة دون العامة مثل ما أجمع عليه العلماء من دقيق المسائل.. كـ "أن الوطء في الحج مفسد له، وكذا الوطء في الصوم، وأن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، وأن لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وأن لا وصية لوارث" 4. أما إجماع العامة فلا يعتبر وحده 5، ولا إجماع من فقد شرطاً من شروط الاجتهاد أو حصّل علماً دون باقي العلوم 6، ولا يكون الإجماع إلا عن نص أو دليل أو مستند 7، والدليل: إما كتاب أو سنة أو قياس 8،   1 انظر: الشافعي: الرسالة (ص: 475) ت: أحمد شاكر، والخطيب: الفقيه والمتفقه (1/ 154) ، وابن عبد البر: جامع العلم (2/ 26) ، وابن تيمية: المسودة (ص: 284) ت: عبد الحميد، ط. مطبعة المدني بمصر. وابن الحاجب: المختصر (1/ 529 مع شرح الأصفهاني) ط. ج: أم القرى، ت: محمد مظهر بقا. 2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (20/ 10) ، وانظر أيضاً: ابن النجار: شرح الكوكب المنير (2/211) . ط. أم القرى. 3 انظر: ابن الحاجب: المختصر مع الشرح (1/ 522) ، وابن النجار: شرح الكوكب (2/ 211) ط. مكتبة العبيكان، ت: محمد الزحيلي ونزيه حماد. 4 الخطيب: الفقيه والمتفقه: وقيل لا يعتبر العامة في هذا ولا ذاك. انظر: ابن النجار: مصدر سابق (2/ 224) . 5 المجد: المسودة (ص: 296) . 6 المصدر السابق: نفس الصفحة. 7 المصدر السابق: نفس الصفحة، وابن الحاجب: مصدر سابق (1/ 586) ، وابن النجار (2/ 259) . 8 المسودة (ص: 296) ، وابن الحاجب (1/ 587) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ويكون الإجماع في مسائل الاعتقاد كرؤية الله تعالى، ونفي الشرك، لتعضيد الأدلة وتقويتها، ولدفع احتمال الخطأ 1، وقد حكي الإجماع في مسائل الاعتقاد 2. وقد ظهر لي من خلال قراءة عبارات الشيخ رشيد أنه ـ ومعه ـ الأستاذ الإمام وحزبه لم يكونوا يفهمون الإجماع الشرعي الذي يتحدث عنه مؤلفو المسلمين، فالشيخ رشيد ـ وإن كان يرى أن الإجماع أصل من أصول الشرع ـ إلا أنه اختلط عليه بغيره، لاسيما المصالح المرسلة 3، وبناءً على ذلك لم يعرف الشيخ رشيد أهل هذا الإجماع الشرعي، وأدخل فيهم من ليس منهم وأخرج منه أهله. يرى الشيخ رشيد أن الإجماع أصل من أصول الشرع فيقول: "الأصل الثالث: إجماع أولي الأمر ـ وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجارة والصناعة والزراعة، وكذا رؤساء العمال والأحزاب، ومديرو الجرائد المحترمة، ورؤساء تحريرها، وطاعتهم حينئذ هي طاعة أولي الأمر..4. لقد قلد الشيخ رشيد في هذا شيخه محمد عبده الذي لا يعرف معنى الإجماع الشرعي أيضاً، إذ يقول: "إن المراد بأولي الأمر جماعة أهل الحلّ والعقد من المسلمين وهم: الأمراء، والحكئم والعلماء ورؤساء الجند.. وسائر المصالح العامة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم واجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا منَّا … ولا يخالفوا أمر الله ولا سنة   1 انظر: ابن الحاجب (1/ 618) . 2 انظر: ابن حزم: مراتب الإجماع (ص:167) وما بعدها، ط. دار الكتب العلمية، بيروت. 3 هي الوصف الذي لم يشهد الشرع لا بإلغائه ولا باعتباره. انظر: محمد الأمين: مذكرة أصول الفقه. (ص: 168) ، وابن قدامة الروضة (1/ 271ـ 275) ط. مكتبة العلوم والحكم (مصورة عن دار إحياء الكتب العربية، مصر) 4 تفسير المنار (5/ 187) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 رسوله صلى الله عليه وسلم..وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة وهو ما لولي الأمر سلطة فيه ووقوف عليه، وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحلّ والعقد..1" ومن الواضح البين أن "الأستاذ الإمام" يخلط بين الإجماع وبين المصالح المرسلة. وتبعه في ذلك رشيد رضا. إذ يقول عن صورة الإجماع:"هو أن يجتمع العلماء النابغون الموثوق بهم ويتذاكروا في المسائل التي لا نص فيها، ويكون ما يتفقون عليه هو المجمع عليه.."2، ويؤيد رأيي في عدم فهمهم وخلطهم، المثال الذي مثل به "الأستاذ الإمام" ونقله لنا الشيخ رشيد لأمور أُجمع عليها، فيقول:.."وذلك كالديوان الذي أنشأه عمر باستشارة أهل الرأي من الصحابة رضي الله عنهم وغيره من المصالح التي أحدثها برأي أولي الرأي من الصحابة ولم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.."3. ويتضح من قولهم: "لا نص فيها" ومن ترديدهم كلمة: " المصالح" أن حزب الأستاذ الإمام" اختلط عليهم الأمر، فبينما يقول الأصوليون: إن الإجماع لا يكون إلا عن نص، إما كتاب أو سنة أو اجتهاد ـ أي قياس ـ 4، يقول هؤلاء: " لا نص فيها"، وبينما يكون الإجماع في العبادات فنجد كتب الفقه القديمة والحديثة تقول في كل مسألة من المسائل الرئيسة كوجوب الطهارة للصلاة، مثلاً: الأصل فيها ـ بعد الكتاب والسنة ـ الإجماع 5. يريد حزب الأستاذ الإمام أن يخرج العبادات من دائرة الإجماع، لأنه فهم أن الإجماع هو إنشاء أمر لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ يعني يكون قريباً من   1 تفسير المنار (5/ 181) 2 المصدر نفسه (5/ 208) 3 المصدر نفسه (5/ 181) 4 انظر: ابن الحاجب: المختصر (1/ 586 مع شرح الأصفهاني) وابن النجار: شرح الكوكب (2/ 259) وابن تيمية: المسودة (ص: 296) 5 انظر مثلاً: ابن قدامة: المغني: كتاب صلاة الجمعة (2/ 295) والزكاة: 2/572) والحج (3/ 217) وانظر: الاختيار لتعليل المختار (1/ 131) ط. الأزهر، والإقناع في حلّ ألفاظ أبي شجاع (1/ 332) ط. الأزهر. 1399هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 البدعة ـ وكذلك يريد أن يخرج من دائرة الإجماع العقائد، ربما لنفس السبب، بينما نرى كثيراً من أهل العلم يحكي الإجماع في مسائل العقيدة كما أشرت آنفاً وبناءً على هذا الفهم أدخل الشيخ رشيد رؤساء المصالح كالجيش ورؤساء العمال والزرّاع ورؤساء تحرير الصحف في إجماعه هذا. وأخرج منه الفقهاء المجتهدين، لأنهم وبناءً على تعريف الأصوليين للمجتهد الذي " لا يتفق مع قول القائلين: إنهم أهل الحل والعقد ولا على المصلحة العامة، فإن العالمين بما ذكروه من شروط المجتهد لا يعرفون مصالح الأمة، والدولة والإدارة والسياسة، بل لا يوثق بعلمهم الذي اشترطوه في أحكام القضاء في هذا العصر..1" وأيضاً" إن حصر المجتهد بالمعنى الذي ذكروه لا يمكن، والعلم باتفاقهم على تفرقهم لا يمكن.." 2، ولا أدري لماذا يمكن حصر رؤساء العمال والزراع وتحرير الصحف ومديريها، ولا يمكن حصر الفقهاء والمجتهدين في الأمة؟ ‍‍‍‍‍‍، وأقول مرة أخرى: إن الشيخ رشيد يتحدث عن شيء آخر غير الإجماع الأصولي الذي يُذكر في مؤلفات علماء المسلمين، إنه ربما يتحدث عن كلمة "إجماع" التي كثر سماعها في تلك الأيام بعد إنشاء " البرلمانات" الحديثة. هذا هو ما أراه، وإذا أردت أن أحسن الظن بالشيخ رشيد وأسيئه بنفسي فليس أمامي إلا أن أتبع "جولد تسهير" 3 في رأيه أن رشيد رضا وحزب الأستاذ الإمام كانوا يقررون إجماعاً جديداً 4. ورد الشيخ رشيد استدلال العلماء بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى..} 5، على   1 تفسير المنار (5/ 205) 2 نفس المصدر (5/ 206) 3 هو أجنانس: مستشرق مجري، صحب الشيخ طاهراً الجزائري وعدداً من علماء الأزهر، له مؤلفات في الدين والأدب باللغات الأوروبية، وترجم بعضها للعربية. انظر: الزركلي: الأعلام (1/84) 4 انظر: جولد تسهير: "مذاهب التفسير الإسلامي" (ص: 352) 5 سورة النساء: الآية (115) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أن الإجماع حجة، وأريد أن أشير إلى أن أول من استدل بهذه الآية على حجية الإجماع هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وتبعه على ذلك العلماء من بعده 1، وأما الحجة الصحيحة على الإجماع عند الشيخ رشيد فهي قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 2، كما سبق.   1 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوي (9/ 178) وما بعدها وكذا (19/ 192) وما بعدها، وانظر أيضا: الخطيب: الفقيه والمتفقه (1/ 155) وابن عبد البر: جامع العلم (2/ 26) وابن الحاجب (1/ 537) (مع شرح الأصفهاني) وابن قدامة: روضة الناظر (1/ 222) ومحمد الأمين: المذكرة (ص:151) 2 سورة النساء: الآية (59) وانظر: تفسير المنار (5/ 417) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 المطلب الرابع: الفطرة : الفطرة هي الخلقة أو الدين 3، وقد اعتمد الشيخ رشيد على الفطرة في تقريره لمسائل العقيدة، ففي باب الإيمان بالله يقرر أن الإيمان بالله تعالى فطري، ويسمي هذا الإيمان ديناً فطرياً، ويقرر أن في هذا الدين الفطري عبادة فطرية ـ في مقابل الدين التعليمي والعبادة التعليمية ـ هي الدعاء 4، كما أنه يرى أنه يمكن استنباط التوحيد بالفطرة 5، ويقول: إنها طريقة القرآن، ويمدحها بقوله: "ولعل أرق أساليب الإقناع وأبلغ أساليب الإذعان بأصول الإيمان: إحالة المخاطبين إلى فطرهم وغرائزهم … "6، وبشكل عام يقرر الشيخ رشيد أن " الإسلام هو دين الفطرة السليمة "7. وهو في ذلك يخالف المتكلمين الذين يقولون بأن المعرفة نظرية   3 انظر: الرازي: مختار الصحاح (ص: 212) وابن عبد البر: التمهيد (18/ 72) ط. المغرب مصورة مكتبة العلوم والحكم. 4 انظر: الوحي المحمديّ (ص: 239ـ 240) ط. المكتب الإسلامي، التاسعة 1399هـ. 5 انظر: تفسير المنار (8/ 273) 6 تفسير المنار: (8/273) 7 الوحي المحمدي (ص: 238) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 جدلية، فالله تعالى لا يعرف ـ عندهم ـ إلا بالنظر الجدلي على طريقة اليونان، ويقولون: إنه أول واجب على المكلف 1. ومع أن الشيخ رشيد يقول بوجوب النظر، إلا أنه يقرر النظر الشرعي الذي دعا إليه القرآن، وليس النظر اليوناني الفلسفي الذي لا يستطيعه حتى الخاصة فضلاً عن العامة.   1 انظر: الباقلاني: التمهيد والأوائل (ص: 43) ط. مؤسسة الكتب الثقافية: الثالثة/ 1414هـ والبيجوري: تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص: 31و46ـ 48) ط. المعاهد الأزهرية 1406هـ مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 المطلب الخامس: العقل : " العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك، إنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحدها عن دركها.."2. " ولقد جاء القرآن بالأدلة العقلية على أكمل وجه، على أصول الدين من الإلهيات والنبوات والسمعيات وغيرها " 3.فهذه الأصول وإن كانت معلومة بالفطرة الضرورية البديهية، وبالشرعية النبوية الإلهية، فهو أيضاً معلوم بالأمثال المضروبة التي هي المقاييس العقلية 4. فالعقل دليل من أدلة المعرفة عامة والدينية فيها خاصة، والوحي جاء بالأدلة العقلية صافية من كل كدر، وقد وردت النصوص بمسائل الاعتقاد وبأدلتها العقلية التي يجب على العقل النظر فيها وفهمها على وجهها. وبما   2 ابن تيمية: مجموع الفتاوى (13/ 338ـ 39) 3 ابن تيمية: المصدر السابق (3/ 296) 4 المصدر السابق (2/ 37) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أن الشيخ رشيد ينسب إلى " المدرسة العقلية" فيكون من المناسب معرفة موقفه من العقل كمصدر من مصادر المعرفة. يقرر الشيخ رشيد أن الإسلام هو "دين العقل والفكر" 1.ومن محاسن الإسلام التي أراد الشيخ رشيد أن يميزها: "انطباق عقائده على العقل وآدابه على الفطرة وأحكامه على درء المفاسد وجلب المصالح" 2. وجعل هذه العبارة هي المقدمة الأساسية في كل جزء من تفسيره. فيرى أن العقائد الإسلامية تنطبق على العقل أي توافقه ولا تخالفه، وأنه يقبلها ويفهمها، فالعقل الصريح لا يمكن أن يعارض أبداً نصاً صحيحاً. ولذلك فإن الشيخ رشيد يقارن بين ورود كلمة " العقل" في القرآن الكريم، وبين ورودها في الكتب المقدسة المتداولة، ويقرر أنها ـ أي كلمة العقل ـ وما في معناها ـ ليست موجودة ولا مرة واحدة في هذه الكتب ـ بينما كثر ووردها في القرآن3. وأما ورود "العقل" في القرآن فأكثره كما يقول الشيخ رشيد: "قد جاء في الكلام على آيات الله، وكون المخاطبين بها والذين يفهمونها ويهتدون بها هم العقلاء، ويراد بهذه الآيات في الغالب آيات الكون الدالة على علم الله ومشيئته وحكمته ورحمته.. ويلي ذلك في الكثرة آيات كتابه التشريعية ووصاياه، كقوله تعالى في تفصيل الوصايا الجامعة من آخر سورة الأنعام: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 4 … وجعل إهمال استعمال العقل سبب عذاب الآخرة بقوله في أهل النار.. {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 5.. وكذلك آيات النظر العقلي والتفكر كثيرة   1 الوحي المحمدي (ص: 242) وانظر أيضاً: مجلة المنار (5/ 807) وأيضاً: (1/ 206) 2 تفسير المنار (3/ صفحة العنوان الثانية، وقد كرر الشيخ رشيد هذا المعنى في كل جزء، ولكن مع اختلاف يسير. 3 انظر: الوحي المحمدي (ص: 242) 4 سورة الأنعام: الآية (151) 5 سورة الملك: الآية (10) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 في الكتاب العزيز فمن تأملها علم أن أهل هذا الدين هم أهل النظر والتفكر والعقل والتدبر.."1. ولكن هل يستقل العقل في المعارف الدينية؟ يجيب الشيخ رشيد على ذلك بالنفي فيقول: " إن العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد إلهي.. وإنما على العقل بعد التصديق برسالة نبي أن يصدق بجميع ما جاء به، وإن لم يستطع الوصول إلى كنه بعضه والنفوذ إلى حقيقته.." 2. ويقول في موضع آخر:"ما شرع الله الدين للناس إلا لأنهم لا يستغنون عن هدايته بعقولهم، ومن كان يؤمن بدين منزل من عند الله لا يمكن أن يقبل ما يوافق عقله ويرد ما لا يوافقه من المسائل التي يعتقد أن الله فرضها عليه.. فمن فعل ذلك كان غير متبع لدين يؤمن به قطعاً وإنما يكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، فوظيفة العقل أن يعلم ويفهم ليعمل، لا أن يتحكم في دينه.. ثم إن عقول الناس تختلف اختلافاً كثيراً فيما يوافق أصحابها وما لا يوافقهم، وذلك يقتضي أن يكون لكل فرد ممن يحكمون عقولهم في الدين دين خاص به، وللمجموع أديان كثيرة بقدر عددهم..3. وقرر الشيخ رشيد مسألة هامة في ذلك، هي: " إن تحكيم العقل في كل مسألة من مسائل الدين مخالف لحكم العقل الصحيح.." 4. هذا الموقف الصحيح من الشيخ رشيد تجاه العقل لا بد أنه تأثر فيه بأبحاث شيخ الإسلام في كتبه التي وقعت تحت يده، لا سيما "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" 5، وأيضاً كتبه الأخرى، فإن شيخ الإسلام قد بث هذا الكلام في كثير من كتبه وفي مناسبات شتى.   1 الوحي المحمدي (ص: 244) 2 مجلة المنار (1/ 293) 3 المصدر نفسه (34/ 758) 4 المصدر نفسه (34/ 758ـ 759) 5 انظر: (ص:175) من هذا البحث (موارد الشيخ رشيد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وهذا الموقف من العقل هو الموقف الصحيح، فالإسلام دين العقل بهذه المعاني: أنه هاد للعقل ومرشد له وقائد، وهو مبادئ يفهمها العقل في سهولة ويسر، وهو لا يناقض العقل 1.   1 انظر: د. عبد الحليم محمود: الإسلام والعقل (ص: 12) ط. دار الكتب الحديثة، مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 المبحث الثاني: قواعد الاستدلال عند الشيخ رشيد رضا القاعدة الأولى: الإيمان بظاهر القرآن ... قواعد الاستدلال عند الشيخ رشيد رضا: هذه القواعد هي التي يتعامل بها مع النصوص ـ أعني نصوص الكتاب والسنة ـ وهي التي تميز أهل السنة من غيرهم من أهل الأهواء والبدع. وسوف أعرض بعض تلك القواعد التي وجدت أن الشيخ رشيد قد اتبعها في استدلاله بنصوص الشرع: القاعدة الأولى: الإيمان بظاهر القرآن: وهي قاعدة أساسية عند أهل السنة والجماعة خلافاً للمتكلمين الذين يرفضون هذه القاعدة حتى قالوا: إن الإيمان ببعض هذه الظواهر كفر 1. وقد ردّ على هذه الدعوى علماء أهل السنة، كما أن الشيخ رشيد اطلع على هذه الردود، ورد هو بدوره على هذه الدعوى وبَيَّن وجوب الإيمان بهذا الظاهر 2.   1 انظر: ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 167، 250) وما بعدها. ط. كلية الدعوة. ت: علي ناصر الفقيهي، ود. أحمد عطية الغامدي. وانظر أيضاً: ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل (1/ 16ـ 17 و 7/ 128) 2 انظر: مجلة المنار (33/ 373) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 القاعدة الثانية: الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة : لقد نهج الشيخ رشيد نهجاً لم يكن شائعاً يومه ذاك، وهو الاستدلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 على مسائل الدين بنصوص الكتاب والسنة مباشرة دون وسائط، وهو ما يسميه بـ"طريقة السلف في الاستدلال" وهو ما أثار عليه حفيظة معاصريه الذين رأوا في ذلك ادعاءه للاجتهاد الذي اشتهر منعه في تلك الأيام 1. ويعلل الشيخ رشيد طريقته هذه بأن "فهم القرآن والسنة أسهل من فهم كتب الفقهاء" 2. وبأن " الله تعالى ذم التقليد ونعى على أهله" 3.   1 انظر: المصدر السابق (7/ 958) والتفسير (8/ 269) 2 انظر: مجلة المنار (4/ 165) 3 المصدر السابق (4/ 167) وعلى النهج سار حامد الفقي وأنصار السنة، انظر: مجلة التوحيد، السنة 20 العدد 2 (صفر 1418هـ) (ص:55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 القاعدة الثالثة: رفض التأويل : وهي من قواعد أهل السنة في الاستدلال بالكتاب والسنة 4، وقد رفض الشيخ رشيد التأويل وبين خطره على الدين، وتلاعب أهله بنصوصه، وإن كان الشيخ رشيد قد وقع في التأويل أحياناً، كما أنه يرى أن التأويل يجوز عند عدم القدرة على دفع الشبه، لأنه خير من الكفر، وسيأتي تفنيد ذلك 5.   4 انظر: ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 159) وما بعدها. 5 انظر: تفسير المنار (3/ 174) وانظر: (ص:353) وما بعدها من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 القاعدة الرابعة: الردّ عند التنازع إلى الكتاب والسنة: وهذه القاعدة من قواعد أهل السنة التي ميزتهم عن أهل البدع، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 6. والرد إلى الله تعالى ردّ إلى كتابه والرد إلى رسوله ردٌّ إلى سنته 7. ويقرر الشيخ رشيد هذه القاعدة قائلاً: "القاعدة في كل ما حدث بعد الصدر الأول من الأقوال والآراء وتنازع فيه العلماء فلم يجمعوا فيه على قول: أنه يردّ إلى الكتاب   6 سورة النساء، الآية (59) 7 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (3/ 250) ، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 513) وما بعدها، ط. المكتب الإسلامي/ التاسعة 1408، ت: الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 والسنة، فيؤخذ ما وافقهما ويرد ما خالفهما عملاً بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية 1 2.   1 الآية: من سورة النساء رقم: (59) 2 انظر: تفسير المنار (7/ 552ـ 553) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 القاعدة الخامسة: مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم : وطريقة السلف هي فهم النصوص وإثبات ما دلت عليه من صفات وإثبات موافقتها لصحيح المنقول وصريح المعقول، لذلك فهي أسلم وأعلم وأحكم 3. وهذا ما قرره الشيخ رشيد، ولكنه بين أولاً ما هو مذهب السلف فقال: "وإنما مذهب أهل السنة والجماعة ما كان عليه السواد الأعظم من الصحابة وعلماء التابعين وأئمة الحديث والفقه، ممن تبعهم في الاعتصام بنصوص الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تكلف لإرجاع ظواهرها إلى ما ابتدع من البدع والآراء التي أحدثها أهل الأهواء.."4. ويقرر الشيخ رشيد أن هذا المذهب هو الأولى بالاتباع لأنه أسلم وأعلم وأحكم 5.   3 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (5/ 378ـ 379) 4 تفسير المنار (7/ 552) 5 انظر: مجلة المنار (8/ 614) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 القاعدة السادسة: درء التعارض بين العقل والنقل : لقد ألف شيخ الإسلام كتابه العظيم الذي يحمل هذا العنوان من أجل تقرير هذه المسألة. وقد اطلع الشيخ رشيد على هذا الكتاب، إذا أنه طبع في مطبعة بولاق بعد قدومه مصر بسنوات 6، وقد اعتمد عليه في تقرير هذه   6 انظر (ص:175) من هذا البحث وقد وصل إلى مصر سنة 1315هـ وأول عدد صدر من المنار سنة 1315هـ في شهر شوال (انظر: مجلة المنار 1/ 1من مقدمة الطبعة الثانية) .وطبع درء التعارض سنة 1321هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 القاعدة، ونقل عنه نقلاً طويلاً، وعلّق عليه قائلاً: "كل مؤمن سليم الفطرة صحيح العقل إذا قرأ هذا جزم بأنه الحق.." 1.   1 مجلة المنار (22/ 192) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 القاعدة السابعة: المحكم والمتشابه : اعتمد الشيخ رشيد أيضاً في فهم المحكم والمتشابه على شيخ الإسلام رحمه الله فقد نقل كلامه في " تفسير سورة الإخلاص" وفيه بيان مذهب السلف في هذه المسألة والمذهب الصحيح للمحكم والمتشابه، كما أنه بين خطأ المتكلمين في جعلهم نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وسوف يأتي تفصيل موقف الشيخ رشيد ـ إن شاء الله في موضعه ـ 2. ولا شك أن قواعد الاستدلال خطوة أساسية في منهج الاستدلال، وأرجو أن أكون قد نجحت في إبراز هذه القواعد عند الشيخ رشيد، وفي التدليل على أنه اعتمد فيها اعتماداً تاماً على مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما أرجو أن أكون قد نجحت في بيان موقفه من مصادر التلقي، وما أُخذ عليه فيها.   2 انظر: تفسير المنار (3/ 172ـ 196) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 المبحث الثالث موقف الشيخ رشيد من علم الكلام تمهيد : لقد تأثر علم الكلام بالتيار العقلي اليوناني في نهجه العقلي، وكان علم الكلام بذلك فلسفة يرتطم بكل ما يعترض الفلسفة من عقبات، وأضاع ـ بمقدار قربه من الفلسفة ـ ما كان ينبغي له من مكانة، وكان ـ ابتعاده عن النهج القرآني السليم الفطري ـ يثير الكثير من المشاكل التي تفرق المسلمين وتجعلهم فرقاً وأشياعاً متنافرين متخاصمين. لقد ابتعد علم الكلام ـ على مر الزمن ـ عن القرآن مقترباً من الفلسفة، حتى إنه ليوشك أن يصير فلسفة عقلية بحتة، ولسان المتكلمين هو لسان أرسطو، هو نمط خفيف، ولكنه من غير شك لسان من ألسنة أرسطو. فالمتكلمون ـ في الإسلام ـ إنما يعبرون عن نزعة بشرية عقلية تقحم نفسها في الوحي بصورة تحاول أن تكون مقنعة، ولكنها مهما حاولت أن تخفى على الناس تعلم وتظهر وتتضح. ولقد ثار على هذا الاتجاه أئمة المسلمين من السلف الصالح ووقفوا له، وأعلنوا رفضهم لهذا النهج. ولكن: ما هو موقف الشيخ رشيد من "علم الكلام" و "المتكلمين" و "طريقتهم" و "لسانهم"؟ وبالجملة ما هو موقفه من "مناهج المتكلمين"؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المطلب الأول: نشأة رشيد رضا على مذهب الأشعرية وتحوله عنه : لقد نشأ الشيخ رشيد ـ يوم نشأ ـ على ما ينشأ عليه لداته وأترابه من طلبة العلم، فدرس الكتب المتداولة يومه ذاك، فقرأ "أم البراهين" و "جوهرة التوحيد" وشروحهما 1 على شيوخه الأزهريين. وكان الطالب يومئذ يُعد ليكون متكلماً مجادلاً، وفقيهاً مقلداً. وكان الشيخ رشيد يحاول أن يفهم ما في هذه الكتب التي لُقنها في بداية طلبه للعلم في طرابلس الشام، ويحاول أن يُفهمها للعوام فيعجز عن ذلك 2. وكان ـ متأثراً بهذه النشأة ـ يرى: "أن كتب الأشاعرة هي وحدها منبع الدين وطريق اليقين" 3، وكان ينظر إلى آراء السلف في هذه الكتب فيحسب أنهم "قوم جمدوا على ظواهر النقول وما فهموها حق فهمها ولا عرفوا حقائق العلوم وطابقوا بين النقل وبينها" 4. وبقي الشيخ رشيد على هذا، حتى أنشأ المنار وشرع في شرح العقيدة في "أمالي دينية" اعتمد فيها على ما نشأ عليه من كتب المتكلمين، فأخذ يشرح ـ في الإيمان بالله ـ اصطلاحات المتكلمين: الوجوب والواجب، الاستحالة والمستحيل، الإمكان والممكن، الترجيح بلا مرجح، حدوث العالم، معتمداً في ذلك على "السنوسي" 5 والإيجي" 6 وكان يرى أن هذه الكتب هي أمثل كتب العقائد 7.   1 انظر: مجلة المنار (1/ 472ـ 473، 2/ 421، و 23/ 124) 2 انظر: مجلة المنار (33/ 124) 3 انظر: مجلة المنار (8/ 614) 4 المصدر السابق والصفحة. 5 هو: محمد بن يوسف السنوسي الحسيني، عالم تلمسان في عصره، له العقيدة الكبرى والصغرى وغيرهما. الزركلي: الأعلام (7/ 154) 6 هو: عبد الرحمن بن أحمد عضد الدين، عالم بالأصول والمعاني والعربية، له: المواقف في علم الكلام، والعقائد العضدية وعليها حاشية للجلال الدواني. الزركلي: الأعلام (3/ 295) 7 انظر: مجلة المنار (2/ 522، و 2/ 506 ـ 507) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ولكن ما لبث الشيخ رشيد أن تحول تدريجياً ـ عن هذا الاتجاه ـ وأقول تدريجياً ـ لأن الأفكار لا تتحول في يوم وليلة ـ ولا سيما أن الشيخ رشيد قد رافق رجلاً ـ أول عهده قد تأثر بالفلسفة القديمة والحديثة، وارتبط به ارتباطاً وثيقاً حتى صار " ترجمان أفكاره" هذا الرجل هو الشيخ محمد عبده. لذا كان التحول تدريجياً وزادت سرعته بعد وفاة أستاذه 1. ولكن متى كانت بداية هذا التحول؟ إن أول مرة ورد فيها اسم عالم سلفي في مجلة المنار كان في المجلد الثالث، فقد ذكر الشيخ رشيد اسم "العلامة ابن القيم" في أثناء رده على طائفة الجبربة23، وفي المجلد الثالث أيضاً وقف الشيخ رشيد على إحدى رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي "الواسطة بين الحق والخلق" فقرظها في مناره 4. ورغم أن الشام هي الموطن الأصلي لشيخ الإسلام إلا أن الشيخ رشيد لم يعرفه هناك، وربما كان السبب في ذلك أن كتب شيخ الإسلام قد تعرضت لحملات إبادة من خصوم دعوته 5. ومهما يكن من شيء، وبدءاً من هذا المجلد الثالث ارتبط الشيخ رشيد بمؤلفات السلف، وكان لانتشار مجلة المنار في العالم الإسلامي أثر كبير في ذلك، فلقد استطاع أن يحصل على مؤلفات شيخ الإسلام التي انتشرت في كل مكان بواسطة قرائه السلفيين في العالم الإسلامي 6.   1 توفي الشيخ محمد عبده يوم الثلاثاء ثامن جمادى الأولى 1323هـ. = 19 يوليو 1905م. انظر: مجلة المنار (8/ 378) 2 نسبة إلى الجبر: وهو في باب القدر مذهب الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله الاختيارية؛ كالريشة المعلقة في الهواء. انظر: البغدادي: الفرق بين الفرق. 3 انظر: مجلة المنار (3/ 439/) ثم ذكر اسم شيخ الإسلام وقرظ بعض كتبه (3/ 651) 4 وأعاد ذلك في 4/ 272 و 463 وانظر: 3/ 651) 5 انظر: ناصر الدين الألباني: مقدمة الكلم الطيب (ص: 3) 6 انظر: مجلة المنار (26/ 243) وبنفس الطريقة وصلت إليه كتب ابن القيم: انظر: مجلة المنار (6/ 500) وقبله وصله: لوامع الأنوار. وانظر: مجلة المنار (10/ 145) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وفي المجلد السابع من المجلة تحديداً حدث تغيير أساسي في منهج الشيخ رشيد، مما حدا به إلى أن يسمي هذا العام بـ" سن التمييز": "فقد دخل المنار في العام السابع من حياته، وهو سن التمييز في الحياة الشخصية، ولعل حياته تكون في هذا الطور خيراً منها فيما قبله إن شاء الله تعالى 1". وفي هذه السنة وقع كتاب "لوامع الأنوار" للسفاريني الحنبلي 2، في يد الشيخ رشيد بواسطة "بعض محبي العلم والدين من العرب" 3، فأرسل منه نسخة خطية للشيخ رشيد فطبع منها عدداً من النسخ وقفاً على طلبة العلم في بلاد مختلفة، وطبع منه الشيخ رشيد على نفقته عدداً آخر 4، ويحسن أن أنقل كلام الشيخ رشيد عن هذا الكتاب، إذا يبدو لي أن هذا الكتاب كان أول الطريق السلفي الذي سار فيه الشيخ رشيد، وتعرف منه ـ ومن خلال ما ينقله السفاريني عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ على منهج السلف في مسائل العقيدة، يقول: الشيخ رشيد تحت عنوان: "شرح عقيدة السفاريني":" للشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي رحمه الله تعالى عقيدة منظومة اسمها: "الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية" بلغني أن الشيخ حسناً الطويل 5، ـ عليه الرحمة ـ قال لما اطلع عليها ما معناه: إن هذه أول عقيدة إسلامية اطلعت عليها. ولناظمها شرح مطول عليها سماه: لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" جمع فيها المؤلف أقوال السلف والخلف ومذاهب الفرق في مسائل   1 مجلة المنار (7/ 1) وفي هذه التسمية دليل على أنه في الأعوام السابقة كان مختلطاً 2 هو محمد بن أحمد بن سالم النابلسي الحنبلي عالم بالحديث والأصول والأدب، صاحب تصانيف، ولد 1114، وتوفي 1189هـ. انظر: ترجمته: محمد خليل المرادي: سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر (4/31) ط. مكتبة المثنى بغداد. والزركلي: الأعلام: (6/ 14) 3 انظر: مجلة المنار (10/ 145) 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 هو حسن بن أحمد بن علي، فاضل مصري، مالكي أزهري، جاهر بنصرة مهدي السودان، كان شديداً على المبتدعة، له كتاب في التفسير, ت: 1317هـ = 1899م. انظر: الزركلي: الأعلام (2/ 183) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الاعتقاد، وبين رجحان مذهب السلف على غيره، مؤيداً ذلك بالدلائل النقلية وكذا العقلية فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جل تحقيقاته فيه من كلام الإمامين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم عليهما الرحمة والرضوان.. وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغنى عنه بشيء من كتب العقائد التي يتداولها طلاب العلم، وكلها من وضع المتكلمين الذين جروا علىطريقة فلاسفة اليونان.."1. لقد وصل كتاب لوامع الأنوار للشيخ رشيد مبكراً، إذ أن أول نقل عنه كان في أثناء المجلد السابع، ولكنه كان يحتاج إلى وقت حتى يقرأ الكتاب قبل الشروع في طبعه ونشره، فمن المرجح أنه وصل إليه قبل ذلك بكثير. ومهما يكن من شيء فبدءاً من المجلد السابع بدأ الشيخ رشيد ينقل عن السفاريني تصريحاً، فينقل نصوصاً كاملة من الدرة وشرح السفاريني عليها 2. وصار بعد ذلك اعتماد الشيخ رشيد في دروسه الدينية على هذا الكتاب وحده بدلاً من " الإيجي" " والتفتازاني" 3 وفي إحدى هذه المرات يعلق الشيخ قائلاً: " كنا عند ابتداء الاشتغال بعلم الكلام نرى في الكتب خلاف الحنابلة فنحسب أنهم قوم جمدوا على ظواهر النقول ... ثم اطلعنا على كتب القوم فإذا هي الكتب التي تجلي للمسلمين طريقة السلف المثلى، وإذا بقارئها يشعر ببشاشة الإيمان، ويحس بسريان برد الإيقان، وإذا الفرق بينها وبين كتب الأشاعرة كالفرق يبن من يمشي على الصراط السوي ومن يسبح في بحر لجيّ، تتدافعه أمواج الشكوك الفلسفية وتتجاذبه تيارات المباحث النظرية، وقد ظهر لي أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم.."4. ومن ذلك الحين ـ وكما ذكرت ـ صار اعتماد الشيخ على   1 وقد طبعه الشيخ رشيد بمطبعته باسم: " لوائح الأنوار" انظر: المجلة (10/ 145) 2 انظر: مجلة المنار (7/ 857و 859، 8/ 614، 8/ 649، 9/ 23 ـ 34، 9/ 81/ 110و 196ـ 204) 3 هو مسعود بن عمر من أئمة العربية والبيان، له "شرح العقائد النسفية" وغيرها. توفي سنة 793هـ. انظر: الزركلي: الأعلام (7/219) 4 مجلة المنار (8/ 620) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 كتاب لوامع الأنوار أساسياً فقد نقل عنه من مسائل العقيدة في الكرامات 1، والمراد بمذهب السلف وذم الكلام 2، وفي القدر 3، وفي الإيمان 4، وقد انتهى الشيخ رشيد من طبع هذا الكتاب أثناء المجلد العاشر من مناره 5. وعندما أعاد طبع الأجزاء الأولى من مجلة المنار بعد اثني عشر عاماً، علق عليه بعض التعليقات التي يظهر فيها تحوله عن مذهبه الأول 6. وفي المجلد السابع عشر انتقد السنوسي قائلاً: "ما كتبه السنوسي ـ رحمه الله ـ من العقائد ولا سيما العقيدة الصغرى، التي انتشرت في المشرقين والمغربين وحذا حذوه فيها معلمو المدارس الرسمية وغيرها، حتى فيما يضعونه من العقائد للمبتدئين، وقاعدتها في الإلهيات: أن الواجب على كل مكلف شرعاً انه يؤمن بأنه يجب لله تعالى عشرون صفة، ويستحيل عليه أضدادها، واصطلاحه في هذه الصفات مخالف لما كان يفهمه السلف وأهل اللغة من معنى كلمة:"صفة" ومن إطلاقهم: الإيمان بصفات الله تعالى، فهو يعد الأمور الاعتبارية والعدمية صفات، فالوجود والمخالفة للحوادث ـ أي عدم الاحتياج إلى المكان، والمخصص صفتان لله تعالى عنده ـ والقدرة وكونه تعالى قادراً صفتان متغايرتان ولم ينقل مثل هذا عن أحد من الصحابة ولا التابعين، دع عدم ذكره في القرآن أو في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف نقتصر عليه ونجعله هو العمدة في تلقين عقيدة الإسلام..؟ "7. فهذا النقل يؤيد ما ذهبت إليه ـ من التحول التدريجي ـ للشيخ رشيد إلى مذهب السلف ـ وأكرر   1 انظر: المصدر نفسه (7/ 858) 2 المصدر نفسه (8/ 614) 3 المصدر نفسه (9/ 23 ـ 34) (9/ 81 ـ 110) . 4 المصدر نفسه (9/ 196ـ 204) 5 المصدر نفسه (10/ 145) 6 انظر: مجلة المنار (12/ 685) وانظر: على سبيل المثال: حاشية في (2/ 20) وأيضاً (2/ 13) حاشية و (2/ 18 حاشية) وانظر: مقدمة الطبعة الثانية للمنار (1/ 2) 7 مجلة المنار (17/ 739) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 التدريجي ـ لأننا سوف نجد له كلاماً في خلال هذه السنوات مخالفاً لذلك ـ لأنه وكما قلت: لا تتغير الأفكار طفرة ولا فجأة وإنما على سنة الترقي والصعود التدريجي، وأرى أن الشيخ رشيد ـ عندما كان يحكي لنا قصة أبي الحسن الأشعري 1 في تحوله لمذهب السلف ـ إنما كان يرى فيها قصته هو نفسه، إذ يقول: ".. وكان أبو الحسن الأشعري من المعتزلة المتأولين ثم رجع عن أشهر قواعد الاعتزال واتبع فيها أهل السنة وظل على ما اعتاد من بعض تأويلات الاعتزال حتى صفا له مذهب أهل السنة من الشوائب، ورجع إلى مذهب السلف كما صرح به في آخر كتابه المسمى بـ الإبانة … " 2. وأستطيع أن أقول: إن كتاب الشيخ رشيد الذي يصور لنا مذهبه الذي صفا له أخيراً والذي يوازي الإبانة للأشعري، هو: كتاب "السنة والشيعة" 3.   1 هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر، إمام المتكلمين، ولد 260هـ وتوفي 324هـ ببغداد، كان أولاً على معتقد المعتزلة ثم تحول تدريجياً إلى عقيدة أهل السنة، ويمثل هذا الطور كتابه " الإبانة: انظر: السير (15/ 85ـ 89) وفوقية حسن: مقدمة الإبانة (ص: 28 وما بعدها) 2 انظر: المجلة (29/ 535) . 3 المصدر نفسه (29/ 671) وتابع قصة هذا المؤلف: المجلة (29/ 424 ـ 441) و (29/ 531 ـ 538 و 595، 30/ 47ـ 61) وقد طبع الشيخ رشيد هذه الرسائل في شكل كتاب مفرد. باسم:" السنة والشيعة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 المطلب الثاني: مخالفة رشيد رضا للمتكلمين : ومنذ ذلك الحين أصبح رشيد رضا عدواً للمتكلمين يخالفهم في كل طريق، ويحمل عليهم وعلى منهجهم وعلى كتبهم في كل مناسبة، ولا اختاروا سبيلاً إلا سلك غيره. فقد نقل عن أئمة السلف ذمهم لعلم الكلام والنهي عن الخوض فيه 4. كما أن الشيخ رشيد أضحى يرى:" أن علم الكلام ليس من علوم   4 انظر: مجلة المنار (3/ 813ـ 815) وتفسير المنار (8/ 53) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الدين الأصلية وإنما هو ضرورة الجأ إليها العلماء الرد على المبتدعة والفلاسفة فيما خالفوا فيه النصوص القطعية، فهو كحرس الحجيج الذي يحرسهم من قطاع الطريق ما وجد المعتدون على الحجيج، فإذالم يوجد من يعتدي عليهم يستغنى عن الحرس لأنه ليسن من أركان الحج ولا من واجباته ولا من سننه 1. إن علم الكلام إذاً ليس له من الدين نسب، ولا يتعلق منه بسبب، لذلك يعد الشيخ رشيد مذهب المتكلمين بدعة في الدين 2، ومن سوء أثر طريقة المتكلمين أن العامة تأثروا بها فـ"صار كل عاميّ يجادل في الله بغير علم ولا كتاب منير، ويخوض في القدر ويذهب مذهب الجبر، ويكون هذا أكثر جدلاً كلما كان أقرب من الشيوخ في العلم والطريقة، فلا هو مجتهد يفهم، ولا مقلد يسلم" 3. لقد سلك المتكلمون مناهج مختلفة في محاولتهم إثبات قضايا الدين فيحتجون مثلاً على وجود الله تعالى بالعقل وحده 4، على طريقة نظرية جدلية، ولذا فإن الشيخ رشيد يرفضها، ويقول: " المسلم لا يحتاج إلى الاستدلال على وجود الله تعالى بالطريقة الكلامية، وإن الدلائل التي تبنى على فرض خلاف المطلوب قد يكون إثمها أكبر من نفعها لأنها تثير الشبهات، وتوقع كثيراً من السامعين في الشك، وإنما الطريقة المثلى في ذلك طريقة القرآن الحكيم.. 5. وأما في اليوم الآخر فيذهب المتكلمون إلى إثباته بطريق السمع فقط 6، وهذا أيضاً يرفضه الشيخ رشيد، فيقول:"كان الذين ألفوا كتب   1 انظر: مجلة المنار (29/ 538) وهذا تشبيه غير مسلّم، فإن علم الكلام على طريقة اليونان أفسد العقيدة، ولم يحرسها 2 انظر: الوحي المحمدي (ص: 46ـ 47) 3 انظر: مجلة المنار (4/ 289 في الحاشية) 4 انظر: مثلاً الباقلاني: التمهيد (ص: 439) 5 مجلة المنار (11/ 942) 6 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص: 246) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثالثة سنة 1401هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الكلام على طريقة فلسفة اليونان النظرية يرون أن الدليل على البعث لا يكون إلا سمعياً، إذ لا يمكن عندهم أن يستدل عليه بالعقل بأدلة علمية، ولم يفهم هؤلاء قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 1 وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 2. وغيرها من الآيات" 3. وأما الطريقة الصحيحة عند الشيخ رشيد لتلقي العقائد وعرضها على الناس فهي طريقة القرآن لأن "مسائل العقائد في الإلهيات قد فصلت أبلغ تفصيل بأساليب القرآن العالية الجامعة بين الإقناع والتأثير، كبيان صفات الله في سياق بيان أفعاله وسننه في الخلق والتكوين، والتصيير والتدبير، وآياته في الأنفس والآفاق.. وتأثير العقائد في الأعمال وما يترتب عليها في الدارين من الجزاء ... 4 ". وهذه العقائد: " إنما يجب تعلمها على طريقة القرآن، لا على طريقة المتكلمين وفلاسفة اليونان..5". ولكن المتكلمون لم يسيروا على طريقة القرآن فقد" أضلت الفلسفة اليونانية علماء الكلام عن هذه الأساليب العليا فلم يهتدوا بها، ولا اقتدوا بشيء منها، بل طفقوا يلقنون النشء الإسلامي صفات الله مسرودة سرداً معدودة عداً، معرفة بحدود ناقصة، أو رسوم دارسة، مقرونة بأدلة نظرية، وتشكيكات جدلية، لا تثمر إيمان الإذعان، ولا خشية الديان، ولا حب الرحمن، بل تثير رواكد الشبهات، وتتعارض في إثباتها دلائل النظريات ... 6". والسبب في إعراض المتكلمين هذا عن طريقة القرآن: " افتتانهم   1 سورة الأعراف: الآية (29) 2 سورة الأنبياء: الآية (14/ 104) 3 مجلة المنار (14/ 155) 4 تفسير المنار (8/ 271) وانظر: أيضاً: المجلة (3/ 399) 5 تفسير المنار (7/ 287) 6 المصدر السابق (8/ 271 ـ 271) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 بالطريقة النظرية التي أخذوها عن كتب اليونان.. 1" ولقد فشلت تلك النظريات الفلسفية على مرّ العصور، والدليل على ذلك أن أحداً من الناس لم يهتد بها بينما: "اهتدى بحجج القرآن الألوف وألوف الألوف ... "2. ويقارن الشيخ رشيد بين أثر الفلسفة في النفس وبين أثر الدين، ويأخذ "الفضيلة" ميداناً لهذه المقارنة، فبينما يعمل المؤمن بالدين ابتغاء مرضاة الله تعالى وثوابه، و"صاحب تلك النظرية الفلسفية قلما يعمل بها، وإن عمل بها أحياناً فقلما يكون مخلصاً في عمله، وإذا تعارض هواه مع شهوته مع خير غيره ومنفعته، فإنه يؤثر نفسه ولو بالباطل، على غيره من أصحاب الحق، فإذا كان مما وصف الله تعالى به المؤمنين أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة 3، فهؤلاء الفلاسفة ومقلدتهم يؤثرون أنفسهم على غيرهم، ولو عن ظهر غنى، ثم إنهم يميلون في تأويل الخير والنفع مع الهوى.. 4. والسرقة والخيانة والفاحشة وجميع الرذائل حتى القتل، يمكن أن تعد من الفضائل عند الفلاسفة المتأخرين، يقول الشيخ رشيد واصفاً هذا المذهب الجديد:"فهذا المذهب الجديد في الفلسفة العملية هو شر مذهب أخرج للناس، فإن الرذائل فيه قد تسمى عقائل الفضائل، والمفاسد تعدّ فيه من أنفع المصالح، والحاكم في ذلك الهوى.."5. ويتخذ نفس الموقف من كتب الكلام لأنها "لم توضع لأجل تلقين المسلمين ما يجب عليهم اعتقاده، وإنما وضعت لرد شبهات الفلاسفة والمبتدعة..6". وبسب هذه الكتب التي راجت في المسلمين انتشرت   1 المصدر نفسه (1/ 481) 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 انظر: سورة المجادلة: الآية (9) 4 انظر: تفسير المنار (5/ 408) 5 المصدر السابق (5/ 409) 6 مجلة المنار (11/ 942) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 تأويلات المتكلمين "المخالفة للسلف فلا يسلم منها أحد اعتمد في طلبه لعلوم الدين على كتب العقائد الرائجة في مصر وأكثر الأمصار.."1. ويرفض الشيخ رشيد لغة المتكلمين ولسان الفلاسفة فإنهم يأتون إلى المعاني الواضحة البسيطة ويركبونها فتتعقد وتنغلق، كالموت وغيره فإن معناها ظاهر معروف "ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين" 2. وللمتكلمين لغة خاصة لا يشاركهم فيها أحد لا من المحدِّثين ولا من الفقهاء، ولا من اللغويين، فإنهم قد يفسرون الشيء بما يباينه تمام المباينة، ومن ذلك كلمة "الأفول" التي وردت في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} 3، قال الشيخ رشيد:"وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان، وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث والإمكان، وهو تفسير للشيء بما قد يباينه، فإن المحفوظ عند العرب أنها استعملت "الأفول" في غروب القمرين والنجوم.." 4. ويقول في موضع آخر: "فإن جعل السؤال بـ "ما" خاصاً بالسؤال عن الماهية والحقيقة من اصطلاح علماء المنطق لا من أساليب العربية.. وليس أسلوب القرآن جارياً على مذهب أرسطو في منطقه وإنما هو بلسان عربي مبين..5". وفيما يتعلق بالمنطق 6 يقول الشيخ رشيد:"إننا نجزم بأن ما ذكروه في تعريف المنطق لا يصح باطراد، وإن حكماء اليونان وغيرهم ممن كانوا يحاولون إثبات العلوم العقلية بأنواعها حتى الإلهيات بتطبيقها على قواعد   1 المصدر السابق (33/ 680) 2 تفسير المنار (4/ 270) 3 سورة الأنعام: الآية (76) 4 تفسير المنار (7/ 559) 5 المصدر السابق (2/ 308) 6 المنطق كما يعرفه أهله: "علم يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير" انظر: الجرجاني: التعريفات (ص: 208) ط. الحلبي وأولاده بمصر. وانظر: ابن سينا: الإشارات (1/ 117) ت. سلمان دنيا. ط. دار المعارف بمصر، الثالثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 المنطق لم يستطيعوا مراعاة أحكامه لا في التصورات 1 ولا في التصديقات 2 … " 3. والحق ما قال الشيخ رشيد: إن المنطق لم يعصم واضعيه عن الخطأ في التفكير، وكل الذين استخدموه أخطأوا ولم يعصم المنطق أحداً من الخطأ أبداً. لقد فشل المنطق كما فشلت الفلسفة وأصبح المنطق مجرد مراس ومران عقلي على أشكال عدة وضروب منتجة أو غير منتجة، ولا نتيجة له 4.   1 التصورات: هي إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات. أنظر: الجرجاني: التعريفات (ص: 52) ط. الحلبي بمصر، ود. جميل صليبا: المعجم الفلسفي (1/ 277) ط. دار الكتاب العربي اللبناني، الأولى 1971م. 2 التصديقات: التصديق تصور معه حكم، وهو: إسناد أمر لأمر، والتصور يكتسب بالحد مثل تصورنا لماهية العالم والتصديق هو إدراك الماهية مع الحكم عليها بالنفي أو الإثبات مثل تصديقك بأن العالم حادث. مؤلف من تصور العالم وتصور الحدوث ومن إدراك وقوع النسبة بينهما. انظر: جميل صليبا: المصدر السابق (1/277) . 3 مجلة المنار (23/ 321) . 4 انظر: د. عبد الحليم محمود: الإسلام والعقل (ص: 58) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المبحث الرابع: موقف الشيخ رشيد من ابن تيمية ومدرسته موقف الشيخ رشيد من ابن تيمية ومدرسته ... المبحث الرابع: موقف الشيخ رشيد من ابن تيمية ومدرسته: نستطيع أن نقول إن هذا العصر هو عصر "ابن تيمية" إذ كان لشخصيته ودعوته وعقيدته وإصلاحه عودة في هذا العصر ولكتاباته ظهور وانتفاضة، لم تكن لمصلح إسلامي قبله، ولا لمؤلف من المؤلفين القدامى 1. لقد كاد مذهب السلف أن يندرس، إذ لم يكن له وجود إلا في زوايا أهل الحديث من الحنابلة، والذين لم يكونوا ليجهروا به في الناس، لولا أن ظهر في أوائل القرن الثامن الهجري زعيم المجددين شيخ الإسلام ابن تيمية. لقد كان قوياً حتى واجه جميع الفرق والمذاهب القائمة في عصره بحرارة وشجاعة فأعلن مذهب السلف في جرأة وصراحة وكتب به فتوى لم تنشب أن سرت في العالم الإسلامي سير الريح 2. واختصم الناس فيه واختلفوا حوله فهو في نظر فريق شيخ الإسلام وقدوة الأنام، وفي نظر فريق آخر مشبه ومجسم ومنتقص للرسول صلى الله عليه وسلم 3. لقد شعّ على يدي ابن تيمية نور الوحيين ـ الكتاب والسنة ـ كفلق الصبح، يبدد ظلام التقليد والفلسفة، وينشر صحيح الاعتقاد ومستقيم   1 انظر: أبو الحسن الندوي: ابن تيمية (ص: 60) ط. دار القلم الكويت الرابعة 1407هـ 2 انظر: محمد خليل هراس: ابن تيمية السلفي (ص: 6 و7) ط. دار الكتب العلمية، بيروت الأولى 1404هـ 3 المصدر السابق نفس الصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الأخلاق. وأصبح ابن تيمية ميزاناً توزن عليه أفكار الرجال طوال القرون السابقة المتطاولة. لأنه أصبح ممثل السلف في العصور المتأخرة، والقنطرة الموصلة إلى مذهبهم، حتى يذكر المترجمون في تراجمهم أن فلاناً كان من المائلين إلى ابن تيمية أو المائلين عنه 1. ليس لدي أي دليل على أن الشيخ رشيد عرف شيئاً ذا بال عن شيخ الإسلام قبل وصوله إلى مصر، وأول مرة ورد فيها ذكر اسم شيخ الإسلام على لسان الشيخ رشيد كانت في المجلد الثالث من المنار في مناسبة تقريظه لرسالتين من رسائل شيخ الإسلام هما: "الواسطة بين الحق والخلق" و "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" 2. فكيف كان الشيخ رشيد يرى شيخ الإسلام؟ في المجلد الرابع من المنار يقول الشيخ رشيد: "ولقد كان الإمام أحمد ابن تيمية في عصره ناصر السنة وخاذل البدعة والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد المجتهدين، وكان جرد حسام قلمه لمحاربة البدع والدعوة إلى مذهب السلف لا سيما فيما يتعلق بالعقائد وأصول الدين فحمل عليه بعض علماء التقليد الذين يرون معاشهم وجاههم بإرضاء العامة، فخاضوا فيه كما خاضوا في الأئمة من قبله … " 3. ويقول في موضع آخر متحدثاً عن ابن القيم وشيخه: "فقد كان هو وشيخه ـ بل شيخ الإسلام وعلم الأعلام أحمد ابن تيمية ـ أعلم أهل الأرض بالكتاب والسنة. وعندي: أنه لا يستغني أحد يطلب علم الدين عن الاطلاع على كتبهما … " 4. ورغم أن الشيخ رشيد لم يطلع على كل ما   1 انظر: الشوكاني: طلب العلم (ص: 14) ط. مكتبة القرآن، القاهرة، ت: عثمان الخشت. 2 انظر: مجلة المنار (3/ 651) وقد سبق أن ذكرت اعتقادي أن الشيخ رشيد عرف شيخ الإسلام بواسطة السفاريني في لوامع الأنوار ورجحت أن كتاب السفاريني وقع في يد الشيخ رشيد مبكراً. هذا ظن ويحتمل أن تكون هذه المناسبة في المجلد الثالث هي البداية، إلا أن كتاب السفاريني كان مفصلاً وشاملاً وقد طبعت هاتان الرسالتان في مطبعة الآداب والمؤيد بمصر. انظر: مجلة المنار (3 / 651) 3 مجلة المنار (4/ 272) 4 المصدر نفسه (6/ 140 ـ 141) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 كتبه شيخ الإسلام وابن القيم إلا أنه من خلال ما قرأه واطلع عليه ـ يرى: "أنها من أفضل ما كتب علماء الإسلام هداية وتحقيقاً وانطباقاً على الكتاب والسنة، بل لا نظير لها فيما نعرفه من كتب المسلمين في مجموع مزاياها … " 1. ويبرر لنا الشيخ رشيد حكمه هذا ببيان حيثياته فيقول: " أما كتب شيخ الإسلام في الكلام فتمتاز على كتب جميع المتكلمين ببيان الفصل بين مذاهب الفلاسفة والمتكلمين على اختلاف فرقهم وتحرير دلائلهم وشبههم عليها، وبين مذهب السلف الصالح المأخوذ من نصوص الكتاب والسنة وفهم علماء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لها ... ووالله إنه لا يغني عنها ولا عن شيء منها الوقوف على أشهر كتب الأشاعرة وأمثالهم كشروح وحواشي الدوانية والتفتازانية والمواقف والمقاصد فإن أكثر هذه الكتب فلسفية يونانية، ولا يمكن الوصول إلى معرفة عقيدة سلف الأمة الصالح منها ... " 2. ومن مميزات كتب شيخ الإسلام كما يشهد به الشيخ رشيد قائلاً: "وأشهد الله بأنني لم أجد في كتب أحد من علماء هذه الملة من أحاط بما أحاط به ـ يعني ابن تيمية ـ من حفظ النصوص وأقوال الناس من المحدثين والمتكلمين والفلاسفة والمبتدعة … والوقوف على أدلتهم وتحقيقها وتحرير الحق الذي كان عليه سلف الأمة وإقامة الحجة عليه … " 3. ويقر الشيخ رشيد على نفسه ـ اعترافاً بالحق ـ فيقول: "فأنا أشهد على نفسي أنني لم يطمئن قلبي لمذهب السلف إلا بقراءة كتبهما ... " 4، وهذه الشهادة تؤيد ما ذكرته من أن ابن تيمية يعد بحق الطريق أو القنطرة الموصلة لمذهب السلف.   1 المصدر نفسه (23/ 339) 2 مجلة المنار (15/ 555) 3 المصدر نفسه (31/ 122) 4 المصدر نفسه (33/ 680) وكرر ذلك انظر: تفسير المنار (1/252 ـ253) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقد كان لشيخ الإسلام خصوم وأعداء في القديم والحديث هم دائماً ـ أعداء الاستدلال بالكتاب والسنة وأنصار البدعة 1. وقد وصل بهم التعصب إلى اتهام الشيخ بالكفر، وقد قام تلامذته رحمه الله ـ ومن كبار علماء عصره ـ بالرد على هذه الافتراءات ـ قديماً 2 ـ وفي الحديث أيضاً.. فقد قام الشيخ رشيد بالدفاع عن شيخ الإسلام في كل مناسبة، فعن مخالفة شيخ الإسلام لجمهور المتكلمين يقول الشيخ رشيد: "ولا يهولنك تخطئة هذا الرجل ـ يعني ابن تيمية ـ لجميع أولئك الأساطين من الفلاسفة والنظار غروراً بشبهة الشيطان أنه لا يعقل أن يكون هو أعلم منهم وأذكى حتى يكون أحق بالصواب وأولى، فالرجل ليس صاحب مذهب مخترع تعارضت أدلته مع أدلة هذه الفرق واشتبه علينا الأمر حتى نرجح بالأدلة العقلية التي انخدع بنظرياتها كل من شذ عنه قليلاً أو كثيراً، وأساس مذهبهم الإيمان بكل ما جاء في كتاب الله وصحّ عن رسوله على الوجه الذي كان عليه خير الأمة قبل افتتانها بالنظريات التي فرقتها شيعاً ... " 3. وبالنسبة للفروع الفقهية يقارن رشيد رضا بين الأئمة الأربعة المشهورين وبين ابن تيمية فيقول: "إنه اطلع على ما لم يطلعوا عليه كلهم من الأخبار والآثار لأنه اطلع على ما رووه وعلى غيره وحفظه وعرف ما قالوه هم وما قاله غيرهم من أقرانهم في أسانيدها ومعانيها، فهو في فتاويه يذكر خلاف الأئمة المجتهدين في المسألة وأدلة كل منهم ويمحص هذه الأدلة فيبين الراجح منها بالدليل، فمن تأمل فتاويه بنظر الإنصاف يرى أن ما رجحه هو الحق في الغالب ... " 4، ومع ذلك يرى الشيخ رشيد أنه "لا ينبغي لأحد   1 انظر لمزيد التفصيل: صلاح الدين مقبول: دعوة شيخ الإسلام وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة (ص: 186 ـ 271) ط. مجمع البحوث الإسلامية، نيودلهي، الهند، الأولى 1412هـ. 2 وأشار الشيخ رشيد إلى كتاب "الرد الوافر" ونصح بمطالعته. المجلة (27 / 424) 3 مجلة المنار (22/ 190) 4 المصدر نفسه (28 / 423 ـ 424) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أن يقول إن ابن تيمية أعلم من هؤلاء الأربعة هكذا على الإطلاق ... " 1. وأكبر دفاع عن شيخ الإسلام للشيخ رشيد كان بسبب تعدي بعض الرافضة على مذهب السلف وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، فقد أجاب الشيخ رشيد على كل كلمة نسبها الرافضي لشيخ الإسلام 2 وتلامذته لا سيما "الوهابية" أتباع محمد بن عبد الوهاب وهو ما يجب بسطه قليلاً. موقف الشيخ رشيد من دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: تعتبر دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب امتداداً لدعوة ابن تيمية في التمسك بالمنهج السلفي. ولا جرم إذن أن يكال لهذا مثل الذي كيل لسلفه. وأن يدافع عن ابن عبد الوهاب من يدافع عن ابن تيمية. لم يعرف الشيخ رشيد عن دعوة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" في الشام إلا ما يعرفه عامة الناس آنذاك وما تتناقله الألسن من الكذب والافتراء على دعوة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" 3، ولم يعرف الشيخ رشيد حقيقة هذه الدعوة إلا بعد قدومه مصر والاطلاع على تاريخ الجبرتي 4. ولقد وصلت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى مصر عن طريق أولاده وأحفاده الذين أتي بهم واليها محمد علي ومعهم علمهم وكتبهم، لقد قدم إلى مصر عدد كبير من أسرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ودرس بعضهم في الأزهر، وكان طلقاء يمشون بين الناس 5، ولهذا السبب ولأنهم درسوا في الأزهر ودرّسوا وصنفوا انتشرت   1 المصدر نفسه (28/ 424) 2 انظر: مجلة المنار (30 / 47) وما بعدها، فقد نشر الشيخ رشيد ترجمة ابن تيمية كاملة من "الدرر الكامنة" مع التعليق والتنبيه والرد. 3 انظر: رشيد رضا: صيانة الإنسان (المقدمة ص: 7 ـ 8) ط. الثالثة 1378هـ 4 انظر: رشيد رضا: المرجع السابق (ص: 8) 5 انظر: الأمير محمد علي: مصدر سابق (ص: 5 و6) وانظر: البسام: علماء نجد (1/ 177و 178 و185 و204) ط. دار العاصمة، الرياض، الثانية 1419هـ، وابن بشر: عنوان المجد (2/ 20 و84) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 هذه الدعوة بمصر وعرفت 1. لقد بقي عبد الرحمن بن حسن تلميذ الجبرتي مدة ثمان سنوات في مصر قبل عودته إلى وطنه، وبقي ابنه "عبد اللطيف" ثلاثين عاماً في الأزهر 2. ومن هذا يتضح أن دعوة الشيخ محمد وصلت لمصر مبكراً، وهناك عرفها الشيخ رشيد على حقيقتها. فماذا عرف عنها؟ يقول الشيخ رشيد: "لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها، بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ... ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي وإقامة شرائع الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة ... " 3. وعن أثر هذه الدعوة في نجد يقول الشيخ رشيد: "وقد كان من حسنات تأثير محمد بن عبد الوهاب المجدد للإسلام في نجد إبطال عبادة الجن وغير الجن منها، ولم يبق فيها إلا أهل تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله ... " 4. ومن ذلك الحين والشيخ رشيد هو نصير دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مصر 5، وينشر رسائله ويرد على أعدائه 6. ولقد وصلت إلى الشيخ رشيد مؤلفات الشيخ عبد اللطيف بن   1 انظر: صالح العبود: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية (ص: 682) وما بعدها. 2 انظر: البسام: المصدر السابق (ص: 185 و204) 3 صيانة الإنسان: المقدمة (ص: 6 ـ 7) 4 تفسير المنار (8/ 369) 5 انظر: مجلة المنار (29/ 433 و531 و595) وانظر أيضاً (21/ 241 و281) 6 نشر الشيخ رشيد رسالة كسف الشبهات للشيخ محمد. [المجلة (21/ 284) وانظر: (21/ 229) ] ونشر رسائل للشيخ عبد اللطيف (27/ 505 و585) وغير ذلك. وانظر (12/ 389) وألف "الوهابيون والحجاز" لهذا الغرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 عبد الرحمن بن حسن ونشر بعضها في مناره 1 ويقول عنه وعن كتبه: ".. الذي يظهر أن الشيخ عبد اللطيف كان أوسع علماً بفنون العربية وأصول الفقه ومصطلح الحديث من جده شيخ الإسلام، ولكن جده هو الذي هدى إلى العلم الواسع الدقيق بتوحيد الله تعالى الذي هو أساس الإسلام وقام بالدعوة وهدى الله به الألوف ومئات الألوف إلى دين الله الخالص، وكان أولاده وأحفاده ـ ومنهم عبد اللطيف هذا ـ من بعض حسناته ... " 2. وفي حياة الشيخ رشيد قامت الدولة السعودية الثالثة، فكان الشيخ رشيد ـ من قبل قيامها ومن بعده ـ أكبر نصير لها، ونستطيع أن نقول: إن مجلة المنار صارت لسان حال الدولة السعودية الثالثة، ومقالها أيضاً، دفاعاً عنها ودعاية لها وتأييداً لملكها في كل محفل ومناسبة، ونستطيع بسهولة أن ندرك ذلك بمطالعة الأجزاء الأخيرة من مجلة المنار 3، ولقد كان موقف الشيخ رشيد من دعوة الشيخ محمد والدولة السعودية محل دراسة وبحث للعلماء والباحثين 4.   1 انظر: (29/ 531) 2 مجلة المنار (28/ 424) وعبد اللطيف بن عبد الرحمن هو: العلامة القدوة الفهامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة 1225هـ ودرس في الأزهر، وتوفي في الرياض 1293هـ. انظر: البسام مصدر سابق (ص: 202) وما بعدها 3 انظر: مثلاً: (26/ 540، 27/162و 272 وما بعدها، 27/ 555، 28/ 1 و238و465 و 29/ 163 و 167و 185 و223 و432 و 696و 764 و 792، 30/ 111و226و 394و521و 633، 33/ 108و 305) 4 ومنها: محمد عبد الله السلمان: الشيخ رشيد رضا، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. والدكتور صالح العبود: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأثرها في العالم الإسلامي. (ص: 685) وما بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 المبحث الخامس: موارد رشيد رضا في العقيدة أولاً: مؤلفات ابن تيمية ... لقد كان من المعقول أن كاتباً يكتب خمسة وثلاثين مجلداً في كل مجلد ما يقرب من ألف صفحة، أن تكون موارده من الكثرة بمكان. وهكذا كان الشيخ رشيد، ولذلك فإني سأقتصر على موارده في العقيدة دون غيرها من العلوم، وإن كان الشيخ رحمه الله قد استعان بكتب التفسير المتداولة، وكذا كتب الحديث وشروحها، في تقرير مسائل العقيدة، إلا أنني سأقتصر أيضاً على ما كان موضوعه في العقيدة مباشرة، وسأبدأ بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية. أولاً: مؤلفات ابن تيمية: الذي ظهر لي أن الشيخ رشيد لم يعرف كتب شيخ الإسلام إلا في مصر، ولكن كيف أتت كتب شيخ الإسلام إلى مصر؟ لقد هبط شيخ الإسلام مصراً سنة 705هـ ووصل الإسكندرية في صفر سنة 709هـ وسافر إلى القاهرة ثم عاد إلى الإسكندرية ثم غادر مصر نهائياً في سنة 712هـ، أي أنه أمضى في مصر حوالي سبع سنين، وكان في هذه الفترة ترد إليه الأسئلة ويجيب عنها، ولا بدّ أن ذلك كان له أثره 1.   1 انظر: ابن حجر: الدرر الكامنة (1/ 145) ط. دار الجيل. وابن تيمية" درء التعارض (1/ 25) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وكان في الأزهر رواق للشوام وكثير منهم من الحنابلة، بل كان يوجد رواق بأكمله للحنابلة، كما أن مذهب "أحمد" كان يدرس هناك كما كان له أئمته المشهورون 1. والسبب الأكبر في رأيي ـ هو وصول أعداد كبيرة من أئمة الدعوة ـ كما سبق ـ إلى مصر، ولا بدّ أنهم حملوا في متاعهم الكتب التي اعتمد عليها أئمة الدعوة في نجد، ولاسيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته 2. لا سيما وقد خربت الدرعية حاضرتهم السلفية، فيكون أنفس ما يحمله هؤلاء معهم كتب دعوتهم. وفي المطبعة التي أنشأها محمد علي، طبع درء التعارض لشيخ الإسلام 3. وانتشرت المطابع بعد ذلك وكثر طبع هذه الكتب، ودرء التعارض هو أول كتاب أعرض له: 1ـ درء تعارض العقل والنقل: ألّف شيخ الإسلام هذا الكتاب بين عامي 713 و717 4. على الراجح وقد طبع الكتاب في مطبعة بولاق سنة 1322هـ وقد وصل رشيد رضا إلى الإسكندرية سنة 1315هـ، ولا بدّ أنه حصل على نسخة من درء التعارض الذي طبع على هامش " منهاج السنة" وإن كان المطبوع منه لا يتجاوز ثلث حجم الكتاب الحقيقي، إلا أن هذا القدر كان كافياً ليطلع الشيخ رشيد على مذهب السلف في التعارض بين العقل والنقل، ولقد نقل الشيخ رشيد عن ابن تيمية من هذا الكتاب في هذا الموضوع نصاً طويلاً 5، ونقل عنه مرّة 1 انظر: عبد الله عنان: تاريخ الجامع الأزهر (ص:211، 301ـ 302 و 304) ،وانظر أيضاً: وزارة الأوقاف المصرية الأزهر: تاريخه وتطوره (170ـ 171) 2 انظر: ابن بشر: عنوان المجد (1/ 215) وابن بسام: علماء نجد (1/177و184و202) وما بعدها. 3 انظر: محمد رشاد سالم: مقدمة درء التعارض (ص:3) 4 المصدر السابق (ص: 9) 5 انظر: مجلة المنار (22/ 191) وما بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أخرى من جـ 2/162 من طبعة بولاق 1. وأستطيع أن أقول: إن مذهب السلف الذي تبناه رشيد رضا كان مصدره كتب شيخ الإسلام، سواء نقل تصريحاً أو تلميحاً. 2ـ الفتوى الحموية: وهي أول ما أُنكر على ابن تيمية وقام عليه معاصروه بسببها، وقد حقق ابن تيمية فيها مذهب السلف في الصفات تحقيقاً لم يسبق إليه، وقد طبعت بمصر، سنة 1323هـ في المطبعة العامرة الشرفية، ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، الطبعة الأولى، وقد نقل عنها الشيخ رشيد تحقيق شيخ الإسلام لمذهب السلف وتقريره له 2، وفي رأيي أن من اطلع على الفتوى الحموية، ودرء التعارض فقد وقف على مذهب السلف وعرف فضله على من خالفه وتبين له أتم بيان. 3ـ التوسل: وفي هذا الكتاب قرر شيخ الإسلام التوحيد الذي أرسل الله به الرسل، وحسم مادة الشرك وقطع أصله وهو الغلو 3، وعالج فيه القضايا الآتية: التوسل وأنواعه، والشفاعة وأنواعها، والدعاء وأنواعه، مفرقاً في كل هذا بين ما هو شرعي محمود وبدعي مردود. أُرسل هذا الكتاب للشيخ رشيد لطبعه 4، وقد طبعه ثلاث مرات 5، أولها سنة 1327هـ =1909م. ونقل نماذجاً منه في المجلة، والتفسير 6، ولم يخطئ الشيخ رشيد في هذه المسألة أبداً 7. 4 ـ تفسير سورة الإخلاص: وفي هذه الرسالة تناول شيخ الإسلام موضوعات كثيرة من أهمها: " المحكم والمتشابه" وقد نقل الشيخ رشيد نصاً   1 انظر: المصدر السابق (29/ 616) وما بعدها 2 انظر: مجلة المنار (29/ 601) 3 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 244) ط. دار لينة، ت: د. ربيع المدخلي، الأولى 1409هـ 4 انظر: مجلة المنار (12/ 477و 624و23/ 681) 5 المصدر السابق (27/ 425) 6 المصدر السابق (23/ 681) 7 انظر مبحث التوسل (ص:459) من هذا البحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 طويلاً لابن تيمية في تفسير المنار في هذا الموضوع، ومن موضوعات تلك الرسالة بعض انتقادات ابن تيمية على الغزالي، ولا بدّ أن رشيد رضا قد استفاد منها أيضاً في هذا الجانب 1. 5 ـ التدمرية: استفاد منها الشيخ رشيد بواسطة السفاريني في "لوائح الأنوار" 2، ونقل عنه كلام شيخ الإسلام في قاعدة هامة من قواعد أهل السنة في عدم التفريق بين الصفات، وهي "القول في بعض الصفات كالقول في بعض" 3. 6 ـ الأصفهانية: ألف ابن تيمية هذا الشرح لأحد متون الأشعرية بناء على طلب بعضهم أثناء وجوده في مصر وذلك سنة 712هـ فوافقه مشترطاً التنبيه على ما فيها من المخالفات 4، وقد نقل السفاريني في " لوائح الأنوار" كثيراً عن هذا المؤلف 5، فقد عرفه الشيخ رشيد إذن، ثم إنه طبع ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام فقرظه وحث القراء على اقتنائه مع سائر كتب شيخ الإسلام 6. 7 ـ شرح حديث النزول: طبع هذا الكتاب في الهند 7، واطلع عليه رشيد رضا ونقل عنه، في سياق دفاعه عن ابن تيمية، وقد اتهم بتشبيه نزوله تعالى بنزوله هو، وبلغ النقل خمس صفحات 8.   1 تفسير المنار (3/ 172) وقد نقل عنه نقلاً طويلاً بلغ 22 صفحة، من ص: 175ـ 196. 2 انظر: تفسير المنار (3/ 202 ـ 205) وقارن مع: السفاريني (1/ 185ـ 187) ط. المنار سنة 1323هـ. 3 انظر: شرح هذه القاعدة: فالح بن مهدي: التحفة المهدية (1/ 65) وما بعدها ط. الجامعة الإسلامية، الثانية 1406هـ. 4 انظر: تقرير عن هذا الشرح: تامر محمد متولي: من بحوث السنة المنهجية ـ قسم العقيدة، سنة 1416هـ. 5 انظر: مثلاً: (ص: 112و 113و 124) وورد ذكر اسمه في نص نقله رشيد رضا: تفسير المنار (3/ 204) 6 انظر: مجلة المنار (15/ 555ـ 556) 7 انظر: مجلة المنار (34/ 278) 8 من (ص: 34/ 278ـ 283) وقارن مع: شرح حديث النزول (5/ 321 وما بعدها ـ ضمن مجموع الفتاوى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 8 ـ فتاوى ابن تيمية: طبع هذا المجموع سنة 1330هـ 1، وهي خمس مجلدات كبار، وأكثر ما فيها فتاوى لشيخ الإسلام، وفي الجزء الخامس، وضعت هذه الرسائل: شرح الأصفهانية، والسبعينية، والتسعينية، وكما أن في هذه المجلدات فتاوى تتعلق بالعقود والمعاملات، وقد حث الشيخ رشيد قرّاءه على الإطلاع عليها 2. 9 ـ إقتضاء الصراط المستقيم: أشار إليه الشيخ رشيد فقط، ولم أجد له نقلاً عنه، ولكن لا بدّ أن يكون قد استفاد منه في محاربة البدع والشركيات 3. 10 ـ شرح قاعدة لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب 4: 11 ـ إبطال وحدة الوجود: أرسلها الشيخ محمد بهجت الأثري للشيخ رشيد رضا مع مجموعة من الرسائل، وذلك بإرشاد من محمود شكري الآلوسي 5. ونشرها الشيخ رشيد تباعاً بدءاً من المجلد السادس والعشرين، وقد أصبح لا يخلو مجلد بل ولا جزء من "مجلة المنار" من رسائل لشيخ الإسلام. 12 ـ مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية الرفاعية 6: هذه الرسالة هي من أعظم ما تصدى له وقام به ابن تيمية من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ضمن المجموع المشار إليه قبل 7.   1 انظر: مجلة المنار (5/ 555) وقد طبع الشيخ فيما بعد مجموعة أخرى من فتاوى شيخ الإسلام، جاءته من العراق. انظر: مجلة المنار (26/ 243 و27/ 425و 31/ 122) . 2 انظر: مجلة المنار (5/ 555) 3 انظر: المصدر السابق (27/ 425) و (ص:517) من هذا البحث. 4 انظر: المصدر السابق (22/ 121و 186) 5 انظر: مجلة المنار (26/ 33) وهي في المجموع (2/ 349) وما بعدها، هي جزء من رسالة تسمى "الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الإسلام من بدع الجهلة الصوفية" انظر: المجموع (2/ 286) والآلوسي هو أبو المعالي، مؤرخ عالم بالأدب والدين من دعاة الإصلاح. انظر: الزركلي: الأعلام (7/172) 6 انظر: المجلة 26/ 105و185) وهي في مجموع الفتاوى (11/ 445) وما بعدها. 7 انظر: المجلة (26/ 199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 13 ـ لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة: كانت ضمن المجموع السابق ذكره، ونشرها رشيد رضا في المجلة في جزئين 1، 14 ـ قاعدة أهل السنة في رحمة أهل البدع: نشرها الشيخ رشيد وقال: إنها من أنفس ما كتب شيخ الإسلام ولخص منهجه في الرد على أهل البدع من خلالها في مسألتين، الأولى: بيان الحق بالأدلة. والثانية: عدم الجزم بتكفير شخص معين له شبهة تأويل 2. 15 ـ الصوفية والفقراء 3: اعتمد عليه رشيد رضا في بيان بدع الصوفية. 16 ـ السبعينية: طبعت ضمن مجموع فتاوى لشيخ الإسلام 4. وقد ردّ فيه على ابن سبعين. 17 ـ التسعينية: لقد حقق هذا الكتاب لدرجة " الدكتوراه" في جامعة الإمام 5، وقد اطلع عليه رشيد رضا ضمن "مجموع الفتاوى " المشار إليه قبل. 18 ـ منهاج السنة النبوية: وهو أعظم ردّ على الرافضة، وقد طبع مع " درء التعارض" في مطبعة بولاق، وإذا كان الشيخ رشيد قد اطلع على درء التعارض فقد اطلع أيضاً ضرورة على " منهاج السنة" وقد أشار إلى أنه اطلع على كتاب في الرد على الرافضة، لشيخ الإسلام 6. 19ـ المراكشية: هي جواب سؤال رفع لشيخ الإسلام ونشرها رشيد   1 انظر: المجلة (26/ 265و 523) وهي في المجموع (11/ 85) . 2 انظر: المجلة (31/ 281) وهي في المجموع 3/ 278ـ 292) . 3 انظر: المجلة (5/56) 4 انظر: مجلة المنار (15/ 555) ،وطبعت مفردة باسم " بغية المرتاد" ت: موسى الدويش. ط. مكتبة العلوم والحكم، الثالثة، 1415هـ 5 انظر: علي شبل: "الثبت لمخطوطات ابن تيمية" (ص: 55) ط. دار الوطن. 6 انظر: مجلة المنار (22/121) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 رضا دون أن يذكر هذا الاسم ولكنه عنون لها بقوله: "مسألة صفات الله تعالى وعلوه بين النفي والإثبات" 1. وقد اطلع الشيخ رشيد على غير ذلك من مؤلفات ابن تيمية ولكني اقتصرت هنا على ما كان موضوعه عقدي مباشرة.   1 انظر: مجلة المنار (26/ 654 و738) ، وهي في مجموع الفتاوى (5/153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ثانياً مؤلفات ابن القيم (ت: 751هـ) ومدرسة ابن تيمية: 2 0 ـ مدارج السالكين: وقد طبع أول مرة في مطبعة المنار سنة 1334هـ 2. وهو من خير ما كتب الإمام ابن القيم. ونقل منه الشيخ رشيد نصوصاً كاملة في مجلته 3. وأثنى على ابن القيم وسائر مؤلفاته 4. 21 ـ شفاء العليل: وقد انتفع به رشيد رضا في تقرير مسائل العقيدة في باب القدر ونقد المخالفين، ونقل في تفسيره نص كلامه 5. 22ـ حادي الأرواح: اعتمد عليه الشيخ رشيد في تقرير مسألة "فناء النار" ونقل كلامه كاملاً وبلغ ذلك من صفحة 70 إلى صفحة 98 أي 28 صفحة كاملة 6. وقال: "وفيه من دقائق المعرفة بالله تعالى وفهم كتابه والغوص على درر حكمه في أحكامه وأسراره في أقداره، والإفصاح عن سعة رحمته وخفي لطفه، وجليل إحسانه، ما لم يسبقه إليه فيما نعلم سابق … " 7. 23 ـ أعلام الموقعين: كان الشيخ رشيد قد اطلع على شيء منه   2 انظر: مجلة المنار (17/ 30) . 3 انظر: المصدر السابق (17/ 30 و 353 و 17/ 113 و193 و122و 294 و 17/ 455 و505) . 4 المصدر السابق (19/ 50) . 5 انظر: تفسير المنار (8/54 و 8/ 181) . 6 انظر: تفسير المنار (8/ 70ـ 98) . 7 المصدر السابق (8/98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بواسطة ثم جاءته نسخة من أحد قرائه في البحرين، ونشر من هذا الكتاب ما يتعلق بمباحث الاجتهاد والتقليد 1. 24 ـ مفتاح دار السعادة: اعتمد عليه في تقرير عقيدة القدر 2. 25، 26 ـ طريق الهجرتين، وإغاثة اللهفان: وقد قرظهما رشيد رضا، وقال: " وإن هذين الكتابين يصلحان لإفادة العوام وإن كان لا يستغني عنهما الخواص 3، وقد طبعا معاً في مطبعة الحلبي سنة 1321هـ. 27 ـ الروح: اعتمد عليه رشيد رضا في جوابه على الأسئلة المتعلقة بالأرواح، وأحال عليه 4. 28 ـ بدائع الفوائد: استفاد منه رشيد رضا في مبحث " أسماء الله تعالى" واعتمد عليه اعتماداً كلياً 5. 29 ـ الصارم المنكي: ألّفه محمد بن عبد الهادي (ت: 744هـ) ليرد على السبكي في رسالته "شفاء السقام" والتي أنكر فيها على ابن تيمية منعه من الزيارة البدعية 6، لقد عرّف الشيخ رشيد قرّاءه بقصة هذا الكتاب الذي طبع يومئذ ونصح قرّاءه بقراءته دون كتاب السبكي 7، واعتمد عليه في تقرير مسائل التوحيد كالواسطة والزيارة 8. 30 ـ العلو: للذهبي (ت: 748هـ) رحمه الله، وقد أورد فيه الأدلة   1 انظر: مجلة المنار (6/ 500و539و 594و 766و 820و 696و 852و 939و 7/ 121و 222و 253و 409و 449و 491) . 2 انظر: تفسير المنار (8/ 54) . 3 انظر: مجلة المنار (6/ 140) . 4 المصدر نفسه (32/ 93) . 5 تفسير المنار (1/ 41) . 6 انظر: ابن عبد الهادي: الصارم المنكي (ص: 6) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1405هـ. 7 انظر: مجلة المنار (4/ 543) 8 انظر: المصدر السابق (4/ 318و 353) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 على علو الله تعالى على خلقه من الكتاب والسنة وأقوال السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ ولقد طبع لأول مرة في مطبعة المنار سنة 1332هـ ونقل منه في مجلته فصولاً 1، واعتمد عليه في إثبات العلو والمعية 2. 31 ـ شرح الطحاوية 3: لابن أبي العز الحنفي (ت: 792هـ) عزا إليه الشيخ رشيد أقوال أهل السنة في مسألة فناء النار 4. والظاهر أن الشيخ رشيد كان يقصد العزو إلى الشارح وهو ابن أبي العز، فعزا إلى الطحاوي خطأً. 32 ـ الرد الوافر: لابن ناصر الدين الدمشقي (ت: 842هـ) ألفه في الدفاع عن ابن تيمية، وأحال عليه رشيد رضا 5. 33 ـ تجريد التوحيد: للمقريزي (ت: 854هـ) وقد كان المقريزي سبّاقاً في تقرير مسائل التوحيد وتقسيمه إلى ربوبية وألوهية، وبيان ما يناقض الألوهية من الأعمال الشركية كالذبح والمحبة، وقد اطلع عليه رشيد رضا 6. 34 ـ كشف الشبهات: لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت: 1206هـ) ، وهي من أهم رسائل دعوة التوحيد، وفيها تعريف التوحيد وبيانه، وبيان أصل الشرك وجرثومته 7. وقد نشره الشيخ رشيد رضا في مجلته لبيان حقيقة الدعوة والدفاع عن أهلها 8. 35 ـ لوامع الأنوار: للسفاريني: (ت: 1188 أو 89) لقد تعرف رشيد رضا من خلال لوامع الأنوار على العديد من كتب السلف من مدرسة   1 انظر: مجلة المنار (17/ 661) 2 المصدر السابق (29/ 286) 3 انظر: مجلة المنار (22/ 315) 4 انظر: المصدر السابق (22/ 315) 5 انظر: المصدر السابق (27/ 424) . 6 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 5) ، وانظر: مجلة المنار (27/ 425) 7 انظر: محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات (ضمن الجامع الفريد/ ص: 219) 8 مجلة المنار (21/ 284) وراجع (ص: 229) وما بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كان ينقل عنهم ـ مع العزو إليهم ـ نص كلامهم، ووصلت نسخة خطية للشيخ رشيد قبل سنة 1325هـ 1 ثم صار ينقل منها فصولاً في مجلته 2 حتى تم طبعه كاملاً 3، واستفاد منه في أبواب متعددة، وتعرف من خلاله على مذهب السلف. وفي رأيي أنه أول كتاب تعرف من خلاله على عقيدة السلف، وآراء ابن تيمية وتلامذته، فدرء التعارض طبع سنة 1322هـ إلا أنه من المرجح أن "لوامع الأنوار" والذي طبع باسم " لوائح الأنوار" قد وصل لرشيد رضا قبل هذا التاريخ. 36 ـ تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد 4. للصنعاني (ت:1182هـ) 37 ـ فتوى في الصفات: للشوكاني (1250هـ) ونشر له الشيخ رشيد فتوى في الصفات فيها بيان مذهب السلف 5. 38 ـ الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق: للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (ت: 1293) نشرها في المجلة ليعلم منها ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير المخالفين واحتياطهم فيها 6. 39 ـ الإذاعة: لصديق حسن خان (ت: 1307هـ) نقل عنه في مسألة قرب الساعة وأشراطها نقلاً طويلاً، ونقل عن البرزنجي في " الإشاعة" بواسطة الإذاعة 7.   1 إذ أنه نقل عنه في المجلة لأول مرّة (7/ 856) أي سنة 1325هـ وانظر: المجلة (10/ 145) فلا بدّ أنه وصله قبل هذا التاريخ. 2 انظر: مجلة المنار (8/ 614 و 649، 9/ 23 و81 و 196، 26/ 500) وانظر: تفسير المنار (3/ 202، 9/ 476) 3 انظر: مجلة المنار (10/ 146) 4 المصدر نفسه (23/345) 5 المصدر السابق (17/ 817) 6 المصدر السابق (27/ 505 و585) وهي في الدرر السنية (1/ 466) . 7 انظر: التفسير (9/ 476ـ 480) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 40 ـ جلاء العينين في محاكمة الأحمدين 1: أحمد ابن تيمية، وأحمد بن حجر الهيتمي المكي، لنعمان خير الدين الآلوسي (ت:1317هـ= 1899م.) . 41 ـ صيانة الإنسان: للسهسواني الهندي (ت: 1326هـ) : طبعه رشيد رضا سنة 1352هـ وقد ألفه صاحبه للرد على خصوم دعوة التوحيد، وكما يقول رشيد رضا: " بل هو رد على جميع القبوريين والمبتدعين حتى الذين جاءوا بعده" 2. 42 ـ تاريخ الجهمية والمعتزلة: لجمال الدين القاسمي (ت: 1332) نشر منه رشيد رضا فصولاً في مجلته 3. 43 ـ فصل المقال في توسل الجهال: لأبي بكر خوقير (ت: 1349) ، وصاحب هذا الكتاب من الموحدين الذين اضطهدوا في عهد الشريف حسين بسبب عقيدتهم، وقد انتصر له رشيد رضا وقرظ كتابه المشار إليه وطبعه بمطبعته 4 44 ـ غاية الأماني في الرد على النبهاني لأبي المعالي 5 الحسيني السلامي الشافعي (ت: 1343هـ) : رد فيه على يوسف النبهاني في كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق. انتصر أبو المعالي فيه لعقيدة السلف، ورد على شبهات المستغيثين بغير الله، وانتصر لعلماء الأمة كابن تيمية ومدرسته 6.   1 انظر: المصدر السابق (12/ 55) 2 انظر: مقدمة صيانة الإنسان (ص: 12) . 3 انظر: مجلة المنار (16/ 449 و 534 و 601 و 703 و 745 و839 و913 و 17/ 41) 4 انظر: مجلة المنار (9/ 824 و 31/ 240 و 320) وانظر: الزركلي: الأعلام (2: 70) 5 هو العلامة محمود شكري الآلوسي، وقد طبع الكتاب أول مرة، من دون التصريح بذكر اسم المؤلف، تخوفاً من سطوة أهل البدع، ولما زال سبب الخفاء أظهر المؤلف اسمه في طبعات لاحقة. 6 انظر: مجلة المنار (12/ 785) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثالثاً: مصادر أخرى: 45 ـ الإبانة: للأشعري (ت: 324هـ) طبع هذا الكتاب في الهند سنة 1321هـ وبالقاهرة سنة 1348هـ بدون تحقيق علمي 1، وقد اطلع على كتاب الإبانة وتصريح الأشعري بكونه على مذهب السلف في ذلك الكتاب 2. 46 ـ جامع بيان العلم وفضله: لابن عبد البر (ت: 463هـ) كان رشيد رضا يتمنى لو ظفر بهذا الكتاب إذ كان يسمع به ويطلع على بعض كتب الحديث التي تعزو إليه، ثم تحققت أمنيته ووجدت نسخة للكتاب وطبعت بمعرفة أحد الشوام الأزهريين 3، وقد نشر رشيد رضا فصولاً منه كما أنه اعتمد على رواياته في مسألة كتابة الحديث 4. 4 7 ـ إلجام العوام: للغزالي (ت: 505هـ) واعتمد عليه رشيد رضا في ذم علم الكلام، ونقل عنه نقلاً طويلاً في التفسير 5. 48 ـ فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة: له أيضاً 6. 49 ـ إحياء علوم الدين: له أيضاً. وهو أكبر الكتب تأثيراً في رشيد رضا، وانتفع به بعدما ترك الضار منه 7، ونقل عنه ذم السلف لعلم الكلام 8.   1 انظر: د. فوقية حسن: تقديم "الإبانة" (ص: 88) ط. دار الأنصار بمصر، الأولى 1397هـ. 2 انظر: مجلة المنار (29/ 535) 3 انظر: المجلة (3/ 813) (6/ 140) 4 المصدر السابق (10/755ـ 762) 5 انظر: مجلة المنار (29/ 538) وتفسير المنار (3/ 207 ـ 230) . 6 مجلة المنار (13/ 575) 7 انظر: المنار والأزهر (ص: 140، 142، 147) 8 انظر: مجلة المنار (3/ 813) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 50 ـ القسطاس المستقيم: له أيضاً: امتدح رشيد رضا هذا الكتاب للغزالي 1، ونقل منه فصلاً في محاورات المصلح والمقلد 2. 51 ـ الأربعين: له أيضاً: نقل عنه مذهب المعتزلة والأشعرية في خوارق العادات 3. 52 ـ الاقتصاد في الاعتقاد: له أيضاً: مدحه رشيد رضا لسهولة عبارته وانتقد مذهبه على طريقة الفلاسفة والمتكلمين 4. 53 ـ الشفا في حقوق المصطفى: للقاضي عياض (ت: 544هـ) ونقل عنه فصولاً كاملة، واستفاد منه في بيان أوجه إعجاز القرآن5. 54 ـ أساس التقديس: للرازي (ت: 606هـ) قرظه رشيد رضا 6، وهو كتاب صغير الحجم لكنه كبير الضرر، إذ بسط فيه الكلام على تأويل آيات الصفات، ولقد ردّ ابن تيمية على هذا الكتاب رداً مفحماً ومستفيضاً 7. 55 ـ حجج القرآن: لأحمد بن محمد بن المظفر (ت: بعد: 630هـ) : جمع فيه مؤلفه الآيات التي احتجت بها كل فرقة على مذهبها، وأحال عليه رشيد رضا 8.   1 انظر: المصدر السابق (4/ 314) 2 انظر: المصدر السابق (4/ 287) 3 انظر: المصدر نفسه (13/ 864) 4 انظر: مجلة المنار (7/ 678) 5 انظر: المصدر السابق (6/ 209، 247) 6 انظر: المصدر السابق: (14/ 626) 7 طبع بعضه: باسم نقض التأسيس، ط. الحكومة بمكة المكرمة 1391هـ بأمر الملك فيصل، الأولى، ويوجد مخطوطاً كاملاً بمكتبة الجامعة الإسلامية. 8 انظر: مجلة المنار (13/ 421) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 56 ـ المواقف: للإيجي (ت: 756هـ) : وهو من كتب الكلام الأشعرية، كان رشيد رضا يعتمد عليه في دروسه الدينية في المجلة قبل أن يظفر بكتب السلف، ولكنه عاد فلجأ إليه مع غيره من كتب المتكلمين للبحث في مسالة " الخلافة" وأحكامها 1. 57 ـ الاعتصام: للشاطبي (ت: 790هـ) طبعه رشيد رضا في مطبعته، ونشر منه فصولاً في تعريف البدع وأنواعها، واستمر ذلك على طول المجلد السابع عشر من مجلة المنار 2. 58 ـ المقاصد: للسعد التفتازاني (ت: 793) وهو من محققي الأشعرية المتأخرين، وله شرح عليها، وقد نقل عنه رشيد رضا وانتقده 3. 59 ـ أم البراهين (أو السنوسية الصغرى) : لمحمد بن يوسف السنوسي (ت: 895) وهي من أهم المتون التي يعتمد عليها الأشعرية، قرأها رشيد رضا في بداية طلبه للعلم ثم صار ينتقدها أيضاً 4. 60 ـ الكشف في مجاوزة عمر هذه الأمة الألف: للسيوطي (ت: 911) انتقد رشيد رضا عليه كلامه في عمر الدنيا 5، والكتاب موجود ضمن "الحاوي للفتاوي" 6.   1 انظر: مجلة المنار (5/ 18 و 47) وانظر: محمد رشيد رضا: الخلافة (ص: 22) 2 انظر المجلة (17/ 54 و273 و 433 و 513 و 593) والتفسير (7/ 192) . 3 انظر: المجلة (1/ 472، 2/ 421 و 506، 15/ 555، 17/ 739) وتفسير المنار (3/ 196) 4 انظر: مجلة المنار (33/ 124) وهي مطبوعة مع مجموع مهمات المتون (ص: 3) وما بعدها. ط. دار الفكر، الرابعة: 1369. 5 انظر: تفسير المنار (9/ 471) 6 انظر: السيوطي: الحاوي للفتاوي: (2/86 ـ 92) ط. دار الكتب العلمية، بيروت الثانية 1395هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 61 ـ الدوانية (حاشية لجلال الدين الدواني (ت: 918) على العقائد العضدية للإيجي) 1: وقد عمل "محمد عبده" حاشية عليها 2. 62 ـ الزواجر عن اقتراف الكبائر: لابن حجر الهيتمي (ت: 973هـ) : وقد طالعه مبكراً وعرف منه بدع البناء على القبور وغيرها 3. 63 ـ العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ: لصالح بن المهدي المقبلي (ت:1108هـ) طبعه الشيخ رشيد سنة 1328هـ ونشر منه فصولاً، والكتاب يبحث في مسائل القدر، واعتمد عليه الشيخ رشيد لا سيما في مسالة التحسين والتقبيح 4 والشيخ صالح المقبلي من علماء اليمن في القرن الحادي عشر يميل إلى الاجتهاد 5. 64 ـ تحفة المريد على جوهرة التوحيد: (لإبراهيم البيجوري، ت: 1236هـ) : وهي من الكتب الأشعرية التي درسها على حسين الجسر في طرابلس 6، ولكن موقفه منها تغير كما حدث مع سائر كتب الأشعرية. 65 ـ الرد على الدهريين، لجمال الدين الأفغاني (ت: 1897م.) : وهي من الآثار القليلة التي تركها الأفغاني شيخ محمد عبده وقد ألفها بالفارسية، وترجمها محمد عبده إلى العربية، ونقل عنها رشيد رضا في تفسيره 7.   1 انظر: مجلة المنار (15/ 555) 2 وطبعت مع حاشية الدواني بتحقيق سليمان دنيا، مطبعة الحلبي بمصر. 3 انظر: المنار والأزهر (ص: 178) 4 انظر: مجلة المنار (13/ 425، 505) . 5 انظر: الزركلي: الأعلام (3/197) 6 انظر: مجلة المنار (1/ 272 و 2/ 460 و 5/ 946) وتفسير المنار (3/ 196) 7 جـ 5/ 177ـ 178) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 66 ـ رسالة التوحيد: لمحمد عبده (ت: 1323هـ = 1905م.) : وطبعها رشيد رضا بتحقيقه، وكان كثير الثناء عليها، يدعي مخالفتها لأساليب كتب المتكلمين، ولم يظهر لي ذلك، بل هي على طريقة الأشعرية في التأليف، إلا ما كان من الأسلوب الأدبي الذي وضعها فيه صاحبها، أما المنهج فهو طريقة الأشعرية في تقرير مسائل الاعتقاد. 67 ـ الإبداع في مضار الابتداع 1: لعلي محفوظ (ت: 1361هـ) 68 ـ البروق النجدية: لعبد الله بن علي النجدي القصيمي، من طلاب العلم في الأزهر، وطبعه رشيد رضا في مطبعته، وهذا الكتاب رد على الشيخ يوسف الدجوي في طعنه على الوهابية في مجلة الأزهر 2. كما أن الشيخ رشيد نقل بالواسطة عن السنة لللالكائي، والعظمة لأبي الشيخ، والأسماء والصفات للبيهقي 3، والذي يظهر أن نقله عنها كان بواسطة " الدر المنثور" للسيوطي. كما أن الشيخ رشيد اعتمد على كتب التفسير المشهورة وقد طبع تفسير ابن كثير مع تفسير البغوي، وكان يكثر من مطالعة " مفاتح الغيب" للرازي، إلا أنه كان كثير الانتقاد له. كما أنه اعتمد على كتب الحديث وشروحها لا سيما شرح ابن حجر على البخاري.   1 مجلة المنار (31/398) 2 انظر: مجلة المنار (32/ 308) 3 المصدر نفسه (31/ 398) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الباب الأول: منهج رشيد رضا في الإيمان بالله تعالى الفصل الأول: تعريف رشيد رضا الإيمان ومباحثه المبحث الأول: تعريف الإيمان المطلب الأول: تعريف الإيمان في اللغة ... المطلب الأول: تعريف الإيمان في اللغة: يكون من الخطأ أن نلجأ إلى المعاجم اللغوية لنبحث فيها عن معنى حقيقة من حقائق الدين، مثل البحث عن معنى كلمة إيمان أو عبادة أو دعاء، إنه يجب أن نتنبه إلى أن المعاجم اللغوية وضعت لأهداف محددة، حتى لا نطلب منها فوق ما تستطيعه، هذه الأهداف هي: ضبط الألفاظ لا تحديد المعاني. وإذا تقدمت هذه المعاجم بعض الشيء وأرادت أن تساعد الباحث فتحدد وتعرف له بعض التحديد، فإنها لا تبالي بأن تعرف الشيء بنفسه أو بأنه غير ضده. فيقال: البلاغ ما يتبلغ به، والدواء ما يتداوى به، والدين هو الملّة، والحلال ضد الحرام، وإذا أردت أن تعرف موقع مكة أو صفتها، فإنك لن تجد هناك إلا قولهم: بلد معروف. وعند تفسير الدعاء، يقال: النداء، وإن لم يكن كل نداء دعاء، كما سوف يأتي في موضعه إن شاء الله، وعند البحث عن كلمة عبادة ستجد أنها ـ في المعجم ـ: الخضوع والتذلل، ولكن ليس كل خضوع وتذلل عبادة ـ كما سوف ترى ـ. وفيما يتعلق بكلمة: "الإيمان" فإن المعاجم اللغوية تقول: " إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 التصديق"1، ولكن هل التصديق مطابق للفظ الإيمان؟ وهل كل تصديق إيمان؟ أي ألا يوجد فرق بين التصديق والإيمان؟ الحق أن ثمة فروق بين "آمن " و" صدق" فالأول مثلاً يتعدى بالحرف، إما بالباء وإما باللام، كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} 2، وكما قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} 3. أما "صدق" فإنه يصح تعديته بنفسه فيقال: صدقه. وكذلك فإنه من حيث الاشتقاق اللغوي نجد أن الإيمان مشتق من الأمن4، الذي هو ضد الخوف، فآمن: أي صار داخلاً في الأمن. فهو متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة، كما قال: أخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 5 أي: لا تقرّ بخبرنا ولا تثق به، ولا تطمئن إليه، ولو كنا صادقين، فالتصديق وحده لا يدل على ذلك. 6. وأيضاً فإن الإيمان لا يقال إلا في الأمور الغيبية التي تعتمد على أمانة المخبر، أما المشاهد المحسوس فيقال فيه: صدوق. كما أن مقابل الإيمان: الكفر، ومقابل التصديق: الكذب. فالخلاصة إذن أن الإيمان تصديق وزيادة، وهو للإقرار أقرب منه إلى التصديق 7.   1 انظر: الأزهري: تهذيب اللغة (15/ 513، 514) ط. شركة ومطبعة البابي الحلبي، مصر، الثانية، 1389هـ، ت: عبد السلام هارون، والفيروزآبادي: القاموس المحيط (4/ 199) ط. المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت. وابن منظور: لسان العرب (54/21) مادة أمن، ط. دار صادر ودار بيروت. وابن فارس: معجم مقاييس اللغة (1/ 133) والرازي: مختار الصحاح (ص:11) ط. مكتبة لبنان. 2 سورة العنكبوت: الآية (26) 3 سورة البقرة: الآية (285) 4 انظر: الراغب: المفردات (ص: 90ـ 91) 5 سورة يوسف: الآية (17) 6 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (7/ 292) 7 ولقد بسط شيخ الإسلام هذا المعنى في عدة مواضع. انظر: مجموع الفتاوى (كتاب الإيمان الكبير: 7/ 122) وما بعدها، و (ص:290) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وهذا هو ما لاحظه وأكد عليه الشيخ رشيد، فإنه لم يذهب إلى أن الإيمان ـ لغة ـ هو التصديق فقط، بل قرر في تعريفه اللغوي، أنه تصديق وإذعان، أو تصديق مع ثقة وركون، وقد صرح بذلك في عدة مواضع، فقد قال في موضع: "الإيمان هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها واستسلامها، وآيته العمل … " 1 وقال في موضع آخر: "الإيمان هو التصديق الجازم مع إذعان النفس، فمن صدق بالشيء وأذعن له فقد دخل في أعماله وانقاد لأحكامه.." 2. وقال في موضع ثالث:"إن الإيمان يتعدى باللام إذا أراد بالتصديق الثقة والركون، أي فيكون تصديقاً خاصاً تضمن معنى زائداً.." 3. وكون الإيمان يتضمن التصديق وزيادة هي الإقرار والاطمئنان أو كما يقول رشيد رضا: الثقة والركون والإذعان، هو الصحيح، وهو مبطل لاستدلال المرجئة باللغة على مذهبهم في تعريف الإيمان الشرعي، بأنه " التصديق" لأنه كذلك في اللغة 4.   1 تفسير المنار (1/ 127) 2 المصدر نفسه (2/ 258) 3 المصدر نفسه (3/ 334) 4 انظر: الباقلاني: التمهيد (ص:389) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 المطلب الثاني: تعريف الإيمان في الشرع : لقد اتفق أهل السنة على أن الإيمان: قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان الجوارج. 5.   5 انظر: الآجري: الشريعة (ص: 119) ط. الأولى، باكستان، ت: حامد الفقي، واللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 911) . ط. دار طيبة، الثالثة، ت: أحمد سعد حمدان، وابن منده: الإيمان (1/ 341) ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، ت: علي ناصر فقيهي، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 332) ط. المكتب الإسلامي، التاسعة، ت: الألباني. والسفاريني: لوامع الأنوار (1/246) ط. المنار، الأولى، سنة 1323هـ بمصر. وانظر: أيضاً: أبو بكر بن أبي شيبة: الإيمان (ص: 50) ط. المكتب الإسلامي، الثانية،1403هـ، ت: الألباني، وأبو عبيد: الإيمان (ص: 19) ط. المكتب الإسلامي، الثانية، ت: الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قال الإمام مالك: "الإيمان قول وعمل" 1، وورد هذا القول عن الإمام الشافعي 2، والإمام أحمد 3، رحمهم الله، وهو قول الصحابة، منهم: ابن مسعود وحذيفة وعمر وعلي ومعاذ وابن عباس وأبو الدرداء 4، ومن التابعين: الحسن 5، وعمر بن عبد العزيز 6، وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم 7، ومجاهد 8، ومن الفقهاء: عبد العزيز بن أبي سلمة 9، والليث 10، والأوزاعي 11 12، والثوري 13، وابن عيينة 14، وفضيل بن   1 انظر: أبو عبيد: الإيمان (ص: 35) ط. المكتب الإسلامي، الثانية، 1403هـ، واللالكائي: شرح اعتقاد أهل السنة (4/ 913) ، والآجري: الشريعة (ص:118) وعبد الله بن أحمد: السنة (317) ط. دار رمادي والمؤتمن، الثانية، ت: محمد سعيد القحطاني. 2 انظر: البيهقي: مناقب الشافعي (1/ 385) ط. مكتبة دار التراث، مصر الأولى 1391هـ، ت: السيد صقر. 3 انظر: عبد الله بن أحمد: السنة (1/307) 4 انظر: اللالكائي: شرح الأصول (4/ 913) 5 هو البصري: انظر: اللالكائي: المصدر السابق، وابن أبي شيبة: الإيمان (ص: 38) 6 اللالكائي: شرح الأصول (4/ 913) وابن أبي شيبة: المصدر السابق (ص: 48) 7 اللالكائي: المصدر السابق، والصفحة نفسها. 8 المصدر السابق والصفحة. 9 هو الماجشون: انظر: اللالكائي: المصدر نفسه والصفحة. 10 اللالكائي المصدر نفسه، وانظر: عبد الله بن أحمد: السنة (ص: 318) 11 هو: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، عالم أهل الشام، أبو عمرو، ولد في حياة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ. انظر: الذهبي: السير (7/107ـ 134) 12 انظر: اللالكائي: المصدر نفسه، وأبو عبيد: الإيمان (ص:35) 13 أبو عبيد: المصدر نفسه. والثوري، هو سفيان بن سعيد بن مسروق، شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، أبو عبد الله، ولد سنة 97هـ وتوفي سنة 126هـ. السير (7/230) 14 اللالكائي: مصدر سابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عياض 1 وجماعة 2. فأهل السنة متفقون على هذا المعنى مع اختلاف عباراتهم فيه 3، واتبع الشيخ رشيد رضا أهل السنة في ذلك فإنه ربط بين الإيمان والعمل برباط وثيق، ولا يزال يبدي ويعيد في هذا المعنى "لعل التكرار في المقامات المختلفة يؤثر في صخرة التقليد الصماء فيفتتها أو ينسفها نسفاً، فيعود المسلمون إلى إيمان القرآن الذي كان عليه السلف وصفوة الخلف ... " 4. وأما إيمان القرآن فهو كما يقول: " ... والقرآن لا يكاد يذكر الإيمان إلا مقروناً بذكر العمل الصالح، وورد في السنة الصحيحة أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان 5، وهذه السنة مؤيدة بخمس وسبعين آية من القرآن" 6. ويردد رشيد رضا هذه العبارات بقوة ليحطم الجدار الذي ضربه الإرجاء بين الناس وبين الإيمان الشرعي، فصار الإيمان عندهم ـ كما يقول ـ: "قولاً باللسان ورسماً يلوح في الخيال، تكذبه الأعمال، وتطمسه السجايا الراسخة والخلال، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله تعالى ... " 7. وأما الإيمان الصحيح المقبول عند الله تعالى، فهو كما فهمه السلف من الكتاب والسنة "وقد فهم السلف الصالح من الكتاب والسنة: أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل وله شعب كثيرة" 8، ويحكي رشيد رضا   1 عبد الله: السنة (ص:315ـ 317) 2 انظر: عبد الله: المصدر السابق (ص: 315ـ 318) واللالكائي (4/ 913) وابن أبي شيبة: الإيمان (ص: 38) وما بعدها. 3 انظر: ابن تيمية: الإيمان (ص: 162) ط. المكتب الإسلامي، الثانية 1392هـ. 4 رشيد رضا: تفسير المنار (3/ 251) 5 روي هذا المعنى مرفوعاً ولا يصح لفظه، وإنما دلت السنة على معناه. انظر: اللالكائي: شرح الأصول (4/ 921 ـ 922) وانظر: الهيثمي مجمع الزوائد (1/35) 6 مجلة المنار (5/ 437) 7 تفسير المنار (1/ 379) 8 المصدر السابق (4/ 54) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 إجماع السلف على ذلك، فيقول: "ولإجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد" 1. وعلى هذا يحمل قول رشيد رضا "الإيمان الصحيح يقتضي العمل" 2، وقوله "العمل الصالح أثر لازم للإيمان ... "3، ولأنه يصرح بتعريف الإيمان شرعاً فيقول: "ويطلق الإيمان في عرف الشرع على مجموع العلم والاعتقاد والعمل بموجبه" 4، ويقول: "وهذا هو الإيمان الصحيح المرضي عند الله تعالى" 5. إذن فلا يلتبس قول رشيد رضا بقول مرجئة الفقهاء الذين يقولون: إن العمل لازم للإيمان وليس داخلاً في تعريفه 6. ويبقى أن نشير إلى أن رشيد رضا قد استقى مذهبه هذا من كتابات ابن تيمية والشاطبي، فيقول: "الإيمان الصحيح يقتضي العمل.. وقرره الأئمة المحققون كحجة الإسلام الغزالي 7 وشيخ الإسلام ابن تيمية 8 والمحقق الشاطبي 9 والأستاذ الإمام 10." 11. ومهما يكن من شيء فإن هذا الموقف الذي اتخذه الشيخ رشيد رضا من تعريف الإيمان موقف صحيح، دلت عليه آيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه السلف.   1 تفسير المنار (3/ 251) 2 المصدر السابق (2/ 405) 3 الوحي المحمدي (ص: 185) 4 تفسير المنار (9/ 590) 5 المصدر نفسه (1/ 335) 6 انظر: ابن تيمية: الإيمان (ص: 184) 7 انظر: إحياء علوم الدين (1/ 109 ـ 111) ، ط. دار القلم بيروت، الثالثة. ولم يظهر لي ما ظهر لرشيد رضا بل إن الغزالي يقول: إن الإيمان تصديق والعمل مكمل أو متمم. ولا يسلم بأن الغزالي هو حجة الإسلام، بل هو لقب خلعه عليه أنصار الصوفية. 8 وهذا القول مشهور في كتبه كلها، اظر مثلاً: الإيمان (ص: 149 و 152) وما بعدها. 9 انظر: الموافقات (1/ 66) ط. دار المعرفة، بيروت. وانظر: تفسير المنار (2/ 258) 10 انظر: تفسير المنار (3/ 250 ـ 251) 11 تفسير المنار (2/ 405) وانظر أيضاً (2/ 258و 3/ 251) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المطلب الثالث: أدلة أهل السنة على خصال الإيمان الثلاثة : يستدل أهل السنة على أن الإيمان يشمل القول والاعتقاد والعمل، بالكتاب والسنة، فأما دليلهم على أن الإيمان قول باللسان فقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} 1 الآية. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 2. وأما دليلهم على أنه اعتقاد بالقلب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} 3 الآية. وقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 4. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه" 5. وأما دليلهم على أنه عمل بالجوارح فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 6 وقوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 7. فأهل السنة يعتمدون في مذهبهم على الكتاب والسنة.   1 سورة البقرة: الآية (136) 2 رواه بهذا اللفظ أبو داود. ك: الجهاد. باب: على ما يُقاتل المشركون (3/ 44) ورواه بنحوه البخاري: الصحيح. ك: الزكاة، باب: وجوب الزكاة. ح: 1399 (3/ 308) 3 سورة المائدة: الآية (41) 4 سورة الحجرات: الآية (14) 5 رواه أبو داود: ك: الأدب، باب: في الغيبة (4/ 270) 6 سورة الحج: الآية (77) 7 سورة التوبة: الآية (112) ، وانظر: أبو عبيد: الإيمان (ص:11) وما بعدها، واللالكائي: شرح الأصول (4/ 911) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 المبحث الثاني: الصلة بين "الإيمان" و"الإسلام" : اختلف العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في هذه المسألة نظراً لاختلافهم في فهم بعض النصوص. وأقوالهم فيها ثلاثة: الأول: الترادف: فذهب فريق من أهل العلم ـ رحمهم الله ـ إلى أن الإيمان والإسلام بمعنى واحد وأنهما مترادفان، وممن قال بهذا القول: البخاري في صحيحه 1، ومحمد بن نصر المروزي 2، فقد بسط القول في هذه المسألة واختار هذا الرأي وعزاه إلى جمهور أهل السنة 3، وكذلك الحافظ ابن منده 4، رحمهم الله تعالى، واحتج هؤلاء بما يلي: قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ   1 انظر: الصحيح: ك: الإيمان، باب: سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان (1/ 140) 2 هو محمد بن نصر بن الحاج، الحافظ الإمام، كان من أعلم أهل زمانه باختلاف الصحابة والتابعين، وكان ذا عبادة. ت: 294هـ. انظر: ترجمته: السير (14/ 33ـ 40) والبداية والنهاية (11/102) ط. دار الفكر، بيروت، 1398هـ. 3 انظر: تعظيم قدر الصلاة (2/ 506ـ 531) وانظر أيضاً: (1/ 418) 4 هو محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده الإمام الحافظ، محدث الإسلام من أوسع العلماء رحلة وأكثرهم حديثاً، ت: 395هـ. انظر: السير (17/ 28ـ 43) والبداية والنهاية (11/ 336) ، وانظر: الإيمان له (1/ 331ـ 332) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1، وبقوله {.. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} 2 مع قوله: {.. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} 3، ففي هذين الدليلين سوّى الله تعالى بين اسم الإسلام واسم الإيمان فدل ذلك على أن من آمن فهو مسلم، وأن من استحق أحد الاسمين فقد استحق الآخر 4. وأجابوا عن قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 5، والذي يدل بظاهره على الفرق بينهما، بأن الإسلام المذكور ليس على الحقيقة، وإنما كان على الاستسلام أو الخوف من القتل، وكذا أجابوا على كل دليل ظاهره الفرق 6. القول الثاني: التباين: فقال فريق من أهل العلم أن الإسلام يباين الإيمان ويفترق عنه، وممن قال به: الزهري 7 وحماد بن زيد 8 وأحمد بن حنبل، ومن التابعين: الحسن ومحمد بن سيرين 9 ومن الصحابة عبد الله بن عباس 10، واستدل هؤلاء بآية الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 11 على أن الإيمان المنفي هو الإيمان الكامل الذي يمدح   1 سورة الذاريات: الآيتان (35 و36) 2 سورة البقرة: الآية (137) 3 سورة آل عمران: الآية (20) 4 انظر: ابن منده: الإيمان (1/332) 5 سورة الحجرات: الآية (14) 6 انظر: البخاري: الصحيح: ك: الإيمان، باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة.. (1/ 99) 7 هو محمد بن مسلم بن شهاب القرشي الفقيه الحافظ، الإمام العلم، متفق على جلالته وحفظه، ت: 124هـ. السير (5/326) (والتقريب: 896) 8 حماد بن زيد بن درهم، ثقة ثبت فقيه مات 179هـ (تقريب: 268) 9 هو محمد بن سيرين الأنصاري أبو بكر: تقة عابد كبير القدر، ت: 110هـ (تقريب: 853) 10 انظر: ابن منده: الإيمان (1/ 321) وابن رجب: جامع العلوم والحكم (ص: 26ـ 27) ط. الحلبي بمصر، الرابعة 1393هـ 11 سورة الحجرات الآية (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 به 1. وبحديث سعد بن أبي وقاص: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رجلاً ولم يعطِ رجلاً منهم شيئاً فقلت: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً، ولم تعط فلاناً ـ وهو مؤمن ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسلم.." 2. القول الثالث: وفي الحقيقة إن هذا القول يجمع بين القولين اللذين قبله وهو الذي تجتمع عليه النصوص، وملخصه: أن بين الإسلام والإيمان تلازماً مع افتراق اسميهما كالروح والبدن، ليس أحدهما الآخر وإن كان لا يوجد بدن حي إلا مع روح، فالإيمان كالروح والإسلام كالبدن، بمعنى أنهما متلازمان، لا أن أحدهما هو الآخر، فإسلام المنافقين كالبدن الميت جسد بلا روح 3، كإسلام الأعراب في آية الحجرات. وعلى هذا الرأي الأخير مشى رشيد رضا، فإنه قرر أولاً تباين مسمى "الإسلام" و " الإيمان" ففسر الإيمان بما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث" 4. وفسر الإسلام بما جاء في الحديث نفسه من الأعمال أو الأركان الخمسة 5. وقال رشيد رضا: ".. الصواب أن مفهومي الإسلام والإيمان في اللغة متباينان، فالإسلام الدخول في السلم وهو يطلق على ضد الحرب وعلى السلامة والخلوص وعلى الانقياد.. والإيمان التصديق ويكون بالقلب.. ويكون باللسان.." 6. ولكن وعلى رغم هذا التباين اللغوي فإن اسم الإيمان والإسلام يتواردان على معنى واحد. هذا ما يقرره الشيخ رشيد بعد أن يبين المعنى القرآني للإيمان والإسلام فيقول: "وقد أطلق كل من الإيمان والإسلام في   1 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:349) 2 رواه البخاري: الصحيح. ك: الإيمان: باب: إذا لم يكن الإيمان على الحقيقة.. ح: 27 (1/ 99) 3 انظر: ابن تيمية: الإيمان (ص: 350ـ 351) 4 البخاري: الصحيح: ك: الإيمان، باب: سؤال جبريل.. ح: 50 (1/140) 5 انظر: مجلة المنار (13/ 572 ـ 573) 6 تفسير المنار (3/ 359) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 القرآن على إيمان خاص جُعل هو المنجي عند الله تعالى، وإسلام خاص هو دينه المقبول عنده. أما الأول فهو التصديق اليقيني بوحدانية الله وكماله وبالوحي والرسل وباليوم الآخر بحيث يكون له السلطان على الإرادة والوجدان فيترتب عليه العمل الصالح. ولذلك قال بعد نفي دخول الإيمان في قلوب أولئك الأعراب: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1، وأما الثاني فهو الإخلاص له تعالى في التوحيد والعبادة والانقياد.." 2.وبعد هذا التمهيد يصل إلى الرأي الذي يجمع به بين نصوص الكتاب فيقول: "فالإيمان والإسلام على هذا يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل واحد منهما باعتبار، ولذلك عدا شيئاً واحداً في الآيات التي ذكرت 3 آنفاً وفي قوله تعالى بعد ما ذكر عن إيمان الأعراب وإسلامهم في (49/15) 4 ثم بيان حقيقة الإيمان الصادق: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5 فهذا هو الإيمان الصادق والإسلام الصحيح وهما المطلوبان لأجل السعادة.." 6. إذن فالإيمان والإسلام ـ عند رشيد رضا ـ وإن كانا متباينين في التعريف اللغوي، وكذلك المعنى الشرعي إلا أنهما يتواردان على معنى واحد هو الإيمان الصادق والإسلام الصحيح المقبول عند الله تعالى، لأنه ـ عند الله تعالى ـ لا يكون إيمان بلا إسلام ولا إسلام بلا إيمان ـ 7. ولذلك   1 سورة الحجرات، الآية (15) 2 تفسير المنار (3/ 360) 3 يريد قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ ... } وبقوله بعدها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} آل عمران (78 ـ79) ، وآيات الحجرات كذلك. انظر: تفسير المنار (3/ 356) 4 سورة الحجرات، الآية (14 و15) 5 سورة الحجرات، الآية (16) 6 تفسير المنار (3/ 360) 7 انظر: ابن تيمية: الإيمان (ص: 177 وص: 225) ، وخليل هراس: شرح الواسطية (ص: 236) ط. دار الهجرة، الثالثة 1415هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فإن رشيد رضا يرى أن معنى قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 1 أي: "أنقذنا لأحكام الدين الظاهرة وأخذنا بأعماله البدنية … " 2 أي أنه ليس على الحقيقة المقبولة عند الله تعالى والتي تتوارد مع اسم الإيمان باعتبارهما الإسلام الصحيح والإيمان الصادق. وعلى ذلك يكون رشيد رضا قد جمع بين الآيات التي تثبت إسلاماً بلا إيمان والآيات التي تعتبرهما حقيقة واحدة. ويرى رشيد رضا أنه كما يطلق اسم الإسلام في القرآن على ما ليس على الحقيقة فكذلك اسم الإيمان قد يطلق على مجرد الدعوى الظاهرة، فيقول: "وقد يطلق كل من الإيمان والإسلام على ما يكون منهما ظاهراً سواء كان ذلك عن يقين أو عن جهل ونفاق. فمن الأول: الشق الأول من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية 3 فالمراد بالذين آمنوا في أول الآية الذين صدقوا بهذا الدين في الظاهر. وقوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ} ألخ هو الإيمان الحقيقي الذي عليه مدار النجاة … ومن الثاني قوله: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 4 أي: دخلنا في السلم الذي هو مسالمة المؤمنين بعد أن كنا حرباً لهم، وليس معناه الإخلاص والانقياد مع الإذعان وإلا لما نفى عنهم إيمان القلب. وهذا هو التحقيق في المسألة ولله الحمد.." 5. والذي أراه أن الشيخ رشيد قد أصاب كبد الحقيقة وهذا من تحقيقاته الدقيقة ـ رحمه الله ـ التي وافق فيها مذهب السلف.   1 سورة الحجرات، الآية (14) 2 تفسير المنار (2/ 254) 3 سورة البقرة، الآية (62) 4 سورة الحجرات، الآية (14) 5 تفسير المنار (3/ 360) ولا بد أن رشيد رضا قد استفاد في هذا التحقيق من السفاريني الذي نقل كلام شيخ الإسلام. انظر: السفاريني: لوامع الأنوار (1/368) وما بعدها، ط. المنار. وقارن مع ابن تيمية: الإيمان (ص: 225) وما بعدها. وانظر أيضاً (ص: 152 و 177و 240) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه نطقت آيات الكتاب العزيز بزيادة الإيمان، قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 1 وقال: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} 2 وتدل هذه لآيات أيضاً على النقصان لأن ما زاد كان قبل الزيادة ناقصاً، وكل ما كان قابلاً للزيادة فهو قابل للنقصان. وهذا القول ـ زيادة الإيمان ونقصانه ـ هو قول أهل السنة والجماعة، ويروى عن الصحابة، فقد قال أبو هريرة: "الإيمان يزداد وينقص" 3، وقال عمر ابن حبيب 4: "الإيمان يزيد وينقص" 5، وممن قال به من الأئمة: مالك 6، والشافعي 7، وأحمد 8، وهو قول الثوري وابن عيينة 9 وابن   1 سورة الأنفال، الآية (2) 2 سورة آل عمران، الآية (183) 3 انظر: الآجري: الشريعة (ص: 111) ، وعبد الله بن أحمد: السنة (1/ 314) 4 أبو حفص القاضي القاصّ المكي نزيل اليمن، ثقة حافظ. التقريب (ص410ـ عوامة) . 5 انظر: ابن أبي شيبة: الإيمان (ص: 20) ، وعبد الله بن أحمد: السنة (1/ 315) وعمر بن حبيب: 6 انظر: الآجري: الشريعة (ص: 117) 7 انظر: البيهقي: مناقب الشافعي (1/ 385) 8 عبد الله بن أحمد: السنة (1/ 307) 9 هو سفيان بن عيينة: ابن أبي عمران، الإمام الكبير حافظ عصره أبو محمد الهلالي، الكوفي، ولد سنة 107هـ وتوفي سنة 198هـ وله 91سنة. السير (8/454) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 جريج ووكيع 1 2 والبخاري 3 وقد لقي أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار كلهم متفقون على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص 4. فأهل السنة متفقون على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. رأي الشيخ رشيد: ولقد قرر الشيخ رشيد مذهب أهل السنة في ذلك، فيبين في أكثر من موضع أن الإيمان يزيد وينقص واستدل على ذلك بآيات القرآن المصرحة بذلك، وبالأحاديث الصحيحة المشيرة إلى هذا المعنى. فعند قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 5 قال: "أي: إذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم زادتهم إيماناً أي: يقيناً في الإذعان وقوة في الاطمئنان، وسعة في العرفان، ونشاطاً في الأعمال، ويطلق الإيمان في عرف الشرع على مجموع العلم والاعتقاد والعمل بموجبه" 6. ويستدل الشيخ رشيد بالسنة على هذا فيقول: "وفيما رواه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحيهما شواهد صريحة في ذلك ومن أهمها أحاديث أقل الإيمان المنجى في الآخرة 7 وحديث "الإيمان بضعة   1 هو ابن الجراح بن مليح، كان من بحور العلم، وأئمة الحفظ، ولد سنة 129هـ وتوفي آخر سنة 196هـ. السير (9/140) 2 انظر: الآجري: الشريعة (ص:117) ، وأبو عبيد: الإيمان (ص: 24) ، وعبد الله بن أحمد: السنة (1/310 ـ 311) 3 انظر: الصحيح: ك: الإيمان، باب: زيادة الإيمان ونقصانه (1/ 127) مع الفتح. 4 انظر: اللالكائي: شرح الأصول (1/ 193) ، وصحيح البخاري: ك: الإيمان، باب: قول النبي "بني الإسلام على خمس"، وانظر أيضاً: فتح الباري (1/ 61) ط. الريان. 5 سورة الأنفال، الآية (2) 6 تفسير المنار (9/ 590) 7 يعني حديث "أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.." انظر: البخاري: الصحيح: ك: الإيمان، باب (15) : تفاضل أهل الإيمان، ح: 22 (1/ 91 مع الفتح) وأيضاً: ح: 44 (1/127) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" 1، ولهذا حمل الناس زيادة الإيمان على زيادة العمل اللازم له، وبعضهم على زيادة ما يتعلق به الإيمان الذي فسروه بالتصديق القطعي، والحق أن الإيمان القلبي نفسه يزيد وينقص أيضاً، فإن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مؤمناً بإحياء الله للموتى لما دعاه أن يريه كيف يحييهم {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 2 فمقام الطمأنينة في الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالاً … " 3. والذي ذهب إليه الشيخ رشيد من أن الإيمان القلبي نفسه يزيد وينقص هو الحق، وهو ما يشعر به كل فرد من نفسه. "فمن يقول إن الإيمان النفسي لا يزيد ولا ينقص فقد نظر إلى الاصطلاحات اللفظية لا إلى نفسه في إدراكها وشعورها وقوتها في الإذعان وضعفها" 4. ويبين الشيخ رشيد بعض أوجه هذه الزيادة، وهي العلم التفصيلي، فمن كان علمه تفصيلياً كان إيمانه أشد ممن عنده علم إجمالي. وضرب الشيخ لذلك مثالين: الأول: الإيمان بتوحيد الله تعالى فهو لا يكمل إلا بمعرفة أنواع الشرك الظاهر والباطن التي تنافيه أو تنافي كماله. الثاني: الإيمان بعلم الله تعالى المحيط بالمعلومات وحكمته التي قام بها نظام الأرض والسماوات، علماً إجمالياً، لا يوزن إيمانه بإيمان ذي العلم التفصيلي بسنن الله في الكائنات وعجائب صنعه فيها 5.   1 البخاري: الصحيح: ك: الإيمان، باب: أمور الإيمان، ح: 9 (1/ 67) ، ومسلم: ك: الإيمان، ح: 35 و 58 و59 (1/ 63) 2 سورة البقرة، الآية (26) 3 تفسير المنار (9/ 591) 4 نفس المصدر (4/ 240) ، وانظر: أبو عبيد: الإيمان (ص: 25) 5 تفسير المنار (9/ 591) وقارن مع ابن تيمية: الإيمان (ص: 221) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 قال الشيخ رشيد: "وجملة القول أن زيادة الإيمان ثابتة بنص هذه الآية وآيات أخرى كقوله تعالى في سورة آل عمران في وصف الذين استجابوا لله والرسول إذا دعاهم إلى القتال بعدما أصابهم القرح {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1 وفي معناه قوله تعالى في سورة الأحزاب {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} 2 وعطف التسليم هنا يؤيد كون المراد به إيمان القلب لا العمل … " 3 يعني أن الزيادة كانت فيما في القلب لا في العمل كما قال بعضهم. ويكون الشيخ رشيد بذلك قد وافق السلف في مسألة زيادة الإيمان ونقصه، وقد استدل بما استدلوا به من الكتاب والسنة 4.   1 سورة آل عمران، الآية (173) 2 سورة الأحزاب، الآية (22) 3 تفسير المنار (9/592) وانظر أيضاً (4/ 240) وما بعدها و (11/ 85 ـ 86) ومجلة المنار (9/ 196 ـ 204) 4 انظر: أبو عبيد: الإيمان (ص: 24) ، وابن أبي شيبة: الإيمان (ص: 50) ، وابن تيمية: الإيمان (ص: 215) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 المبحث الرابع: الكبائر أشارت آيات الكتاب العزيز إلى أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} 1 وقال: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} 2 قال الشيخ رشيد: "وكيف ينكر أحد انقسام الذنوب إلى كبائر وغير كبائر وقد صرح بذلك القرآن … وهو من ذاته بديهي … فإن المنهيات أنواع لها أفراد تتفاوت في أنفسها وفي الداعية النفسية التي تسوق إليها" 3. وقد ورد في السنة إشارة لبعض هذه الكبائر ـ في عدة أحاديث ـ وفي عددها. قال الشيخ رشيد: "أقول: أشهر هذه الأحاديث ما ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" 4. ومنها أيضاً من   1 سورة النساء، الآية (31) 2 سورة الكهف، الآية (49) 3 تفسير المنار (5/ 48) 4 البخاري: الصحيح: ك: الوصايا، باب: قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى..} ح: 2766 (5/ 462 مع الفتح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 حديث أبي بكرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ـ وكان متكئاً فجلس ـ وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" 1 … وكان صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة، فلم يرد شيء من ذلك في مقام الحصر والتحديد، ولكن الأحاديث صريحة في إثبات الكبائر ويقابلها الصغائر والظاهر منها أن كبرها في ذواتها وأنفسها لما فيها من المفسدة والضرر، والموبقات أكبر الكبائر.."2. وفي ذهاب الشيخ رشيد إلى أن الكبائر وصفت بذلك لشيء في ذاتها، مخالفة لشيخه "محمد عبده" الذي يذهب إلى أن الكبائر هي كذلك بحسب قصد فاعلها، أي لسبب خارجي غير ذاتي 3. ويظهر أيضاً من هذا النفي أن الشيخ رشيد يرى أن الكبائر لم تحصر في عدد معين، وكما قال أيضاً: "وقال بعضهم: إن الله تعالى أبهم الكبائر لتجتنب كل المعاصي، فإن عرضت له كل معصية لم يعلم أنها من الكبائر التي يعاقب عليها أو من الصغائر التي يكفرها الله عنه بترك الكبائر، فالاحتياط يقضي عليه بأن يجتنبها.."4.   1 البخاري: الصحيح: ك: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، ح: 2654 (5/ 462 مع الفتح) 2 تفسير المنار (5/ 47) 3 انظر: المصدر نفسه (5/ 50ـ 51) 4 المصدر نفسه (5/49) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المطلب الأول: تعريف الكبيرة وحكم مرتكبها : اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في تعريف الكبيرة على أقوال كثيرة تزيد على عشرين قولاً، وأكثرها متقاربة وبعضها ضعيف 5. وأقرب الأقوال   5 انظر هذه الأقوال عند النووي: شرح مسلم (2/85ـ87) ط. الريان، وابن القيم: مدارج السالكين (1/321ـ 327) ، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:417ـ 418) ط. المكتب الإسلامي، وابن حجر العسقلاني: فتح الباري (10/ 410ـ 411) وابن حجر الهيتمي: الزواجر (1/5ـ10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 إلى الصواب هو قول ابن عباس رضي الله عنهما أنها: "كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب" 1. وممن قال بهذا القول أيضاً: سعيد بن جبير 2، ومجاهد 3 والحسن4، والضحاك 5، 6. ورجح شيخ الإسلام هذا القول7. وأما الشيخ رشيد فإنه ذكر الأقوال في تعريف الكبيرة ومال إلى أحدها فقال: "..اختلفوا في تعريف الكبيرة فقيل هي كل معصية أوجبت الحد، وقيل ما نص الكتاب على تحريمه ووجب في جنسه حدّ، وقيل: كل محرم لعينه لا لعارض أو لا لسد الذريعة، وضعفوا هذه الأقوال، وأقوالاً أخرى كثيرة، وقال بعض العلماء: إن الكبائر كل ما توعد الله عليه، قيل: في القرآن، وقيل: وفي الحديث أيضاً، وقال بعضهم:.. إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به، وهو قول مقبول قريب من المعقول.." 8. وهذا القول وإن كان مقبولاً وجائزاً إلا أنه غير منضبط، والأولى منه هو ما روي عن السلف وقد ذكرته أول البحث.   1 الطبري: التفسير (8/ 246) 2 سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، أبو محمد الحافظ المقرئ المفسر من كبار التابعين قتله الحجاج سنة 95هـ (السير 4/ 321ـ 343 وتهذيب التهذيب: 4/ 11ـ 14) 3 مجاهد بن جبر ثقة إمام في التفسير والعلم صاحب ابن عباس (التقريب: 921) 4 الحسن هو البصري: ثقة فقيه فاضل مشهور. توفي 110هـ (تقريب: 236) 5 الضحاك هو ابن مزاحم الهلالي، صاحب التفسير، كان من أوعية العلم، ت: 102هـ (الذهبي: السير: 4/ 598، وابن كثير: البداية والنهاية: (9/ 223) 6 انظر: الطبري: التفسير (8/246) ط. دار المعارف، مصر، ت: محمود وأحمد شاكر. 7 انظر: مجموع الفتاوى (11/654ـ 656) 8 تفسير المنار (5/ 49) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المسألة الثانية: حكم مرتكب الكبيرة عند السلف: يعتقد أهل السنة والجماعة أن من ارتكب كبيرة ـ خلا الشرك ـ ولم يستحلها، فإنه لا يكفر، بل يسمى مؤمناً ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ـ وأن التوبة تجبها ـ وإن مات مصرّاً عليها فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدرها، ولا يخلد في النار. قال أحمد:"والكف عن أهل القبلة، ولا نكفر أحداً منهم بذنب ولا نخرجه من الإسلام" 1،وقال البخاري: "..المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك" 2. وقال الطبري: "إن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، ما لم تكن كبيرته شركاً بالله" 3. المسألة الثالثة: رأي الشيخ رشيد في حكم مرتكب الكبيرة: يرى الشيخ رشيد أن من قواعد أهل السنة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بكل ذنب خلافاً للخوارج 4والمعتزلة 5، وهو في رأيه هذا متبع لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد نقل عنه نصاً طويلاً في شرح هذه القاعدة السلفية، كما نقل عنه حكم المجتهد المخطئ في الأصول والفروع 6.   1 السنة (ص: 72) ت: إسماعيل الأنصاري، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء، بالسعودية. 2 الصحيح: ك: الإيمان (1/ 13) مع الفتح 3 التفسير (8/ 450) وانظر: ابن تيمية: العقيدة الواسطية (ص:233ـ 235) مع شرح محمد خليل هراس. 4 الخوارج: إحدى الفرق المبتدعة، أشغلت الدولة الإسلامية فترة من الزمان، تكفر بالكبيرة. انظر: البغدادي: الفرق بين الفرق (ص: 54) ومصطفى الغرابي: تاريخ الفرق الإسلامية (ص: 41) وغالب العواجي: فرق معاصرة (1/65) 5 أتباع واصل بن عطاء ويسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، والعدل عندهم إنكار القدر، والتوحيد: إنكار الصفات. انظر: البغدادي الفرق بين الفرق (ص: 93) ومصطفى الغرابي تاريخ الفرق الإسلامية (ص:41) ، وغالب العواجي: فرق معاصرة (2/821) 6 انظر: مجلة المنار (22/ 121) ، وانظر: شيخ الإسلام في: منهاج السنة (5/ 81) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فقد ذكر الشيخ رشيد هذه القاعدة " لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب" وقال: "هذه القاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة الذين يصدق عليهم هذا القول ـ لا من يسمون أنفسهم بهذا الاسم ليتميزوا من المعروفين بأسماء أخرى.." 1. ونقل عن شيخ الإسلام أن ذلك مبني على مسألتين: " إحداهما: أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقوله الخوارج، بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما تقوله المعتزلة. الثانية: أن المتأول الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر، ولا يفسق إذا اجتهد وأخطأ.. 2. وعند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3، قال: "..ومهما أذنب الموحدون فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، وظلمتها لا تعم قلوبهم، لأنهم بتوحيد الله ومعرفته وعز الإيمان ورفعته يغلب خيرهم على شرهم، ولا يطول الأمد في غفلتهم عن ربهم، بل هم كما قال الله تعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 4 يسرعون إلى التوبة، واتباع الحسنة السيئة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فإذا ذهب أثر السيئة من النفس كان ذلك هو الغفران، فكل سيئات الموحدين قابلة للمغفرة، ولذلك قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي: يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين وإنما مشيئته موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سنته.. وأما سنته تعالى فيما لا يغفره من الذنوب فتظهر من المقابلة وتلك هي الذنوب التي لا يتوب منها صاحبها ولا يتبعها بالحسنات … " 5. ولكن المذنب الذي لا يتوب من ذنبه ويموت عليه هو في مشيئة الله   1 مجلة المنار (22/ 121) ، وانظر: العقيدة الواسطية (ص: 233) 2 مجلة المنار نفس الصفحة. 3 سورة النساء، الآية (48، 116) 4 سورة الأعراف، الآية (201) 5 تفسير المنار (5/ 149 ـ 150) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 تعالى، كما ذكرت عن أهل السنة، وكما هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو ما يحكيه الشيخ رشيد عن أهل السنة الذين يقولون: "إنه لا يخلد في النار إلا من مات كافراً وأما من مات عاصياً فأمره إلى الله وهو بين أمرين: إما أن يعفو الله عنه ويغفر له، وإما أن يعذبه على قدر ذنبه ثم يدخله الجنة لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 2 … ". وهذا القول هو في مقابل قول المعتزلة ومن على رأيهم، "وهؤلاء يقولون: إن مرتكب المعصية القطعية الكبيرة يخلد في النار … " 3. واحتجت المعتزلة على مذهبها بآيات منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} 4. قال الشيخ رشيد عندها: "قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: واستدلت المعتزلة بالآية على إحباط الكبائر للأعمال الصالحة حتى كأنها لم تعمل، وأجيب عن الآية بأن المراد بها لا تبطلوا ثواب صدقاتكم، وبغير ذلك من التكلف الذي لا يُحتاج إليه، لأن الكلام في إحباط المن والأذى للفائدة المقصودة من الصدقة.." 5. ثم قال الشيخ رشيد: "والذي تزعمه المعتزلة هو ان ارتكاب أي كبيرة من الكبائر يبطل جميع الأعمال الصالحة ويوجب الخلود في النار، فاستدلالهم بالآية على هذا إنما يدل على أنهم لم يفهموا هدى الله تعالى في كتابه.." 6. وبيّن الشيخ رشيد اضطراب أصحاب المذاهب والمقالات في فهم قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فقال:"وقد اضطرب في فهم الآية على بلاغتها وظهورها أصحاب المقالات والمذاهب الذين جعلوا القرآن عضين فلم يأخذوا بجملته ويفسروا بعضه   1 سورة النساء، الآية (48، 116) 2 تفسير المنار (4/ 432) 3 نفس المصدر والصفحة. 4 سورة البقرة، الآية (264) 5 تفسير المنار (3/ 65) 6 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 المطلب الثاني: التكفير : التكفير بما دون الشرك من الذنوب هو مذهب الخوارج 3. وقد لاحظ الشيخ رشيد أن المتأخرين قد تجرأوا على التكفير بما لا يكفر، وحتى بعض المصنفين قد زادوا من هذه الجرأة لدى الناس على تكفير من يخالف مذهبهم 4، ويقرر الشيخ رشيد أن ـ بدعة التكفير قد أحدثها غلاة المبتدعة بتكفيرهم من يخالف بدعتهم وأن مما امتاز به أهل   3 انظر: الأشعري: المقالات (1/168) ط. المكتبة العصرية، بيروت، 1411هـ ت: محيي الدين عبد الحميد. 4 انظر: مجلة المنار (34/ 357) والتفسير (1/ 139 ـ 140) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 السنة عدم "تكفير أحد من اهل القبلة" وقد اشتهر أن العمدة عندهم في التكفير هو جحود شيء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة ممن نشأ بين المسلمين ولم يكن حديث عهد بالإسلام، أي يجحده عالماً به أو جاهلاً غير معذور بجهله، واشترطوا أيضاً أن يكون غير متأول، فإن من جحد ذلك الشيء بتأويل ظهر له لا يكون كافراً.." 1. ويفصل الشيخ رشيد هذه المسألة ويبين ما يُكفِّر وما لا يُكفِّر، فيقول: "فالمعنى العام الجامع لكل ما ينافي ملة الإسلام هو تكذيب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس أو تكذيب شيء مما علم المكذب أنه جاء من أمر الدين، وهو قسمان: الأول: المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، ككون القرآن كلام الله تعالى، وتوحيد الله وتنزيهه عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة كالدعاء والذبح والنذر له ألخ. وكون محمد هوخاتم النبيين.. فهذا لا يعذر أحد بجهله إلا من كان حديث العهد بالإسلام لم يمض عليه زمن كاف لتعلم هذه الضروريات منه، ومن كان في حكمه كرجل أسلم في مكان أو بلد ليس فيه من المسلمين من يعلمه ذلك كله وطال عليه الزمن، وهو لا يعلم أن عليه واجبات أخرى ولا أنه يجب عليه الهجرة مثلاً. والقسم الثاني: ما كان غير مجمع عليه أو مجمعاً عليه غير معلوم من الدين بالضرورة كبعض محرمات النكاح وأحكام المواريث مثلاً مما لا يعرفه إلا العلماء فهذا يعذر من جهله، فإن علم شيئاً منه أنه من دين الله قطعاً صار حكمه حكم القسم الأول بالنسبة إليه.."2. ومن هذا النص الطويل يظهر أن الشيخ رشيد يذهب إلى أن العذر بالجهل يكون لحديثي العهد بالإسلام، أما من يعيش بين المسلمين وولد لأبوين مسلمين فإنه لا يعذر لجهله بالتوحيد ووقوعه في الشرك إذ أن ذلك هو أصل دين الإسلام.   1 مجلة المنار (14/ 625) . 2 مجلة المنار (34/ 357) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ويرى الشيخ أيضاً العذر بالتأويل فهو كما يقول: لا يكفر "أحداً بخصوصه ما لم أر أو أسمع منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح بالتصريح الذي لا يحتمل التأويل.." 1. وكما يظهر أيضاً من قوله: "فإن من جحد ذلك الشيء بتأويل ظهر له لا يكون كافراً" وكما أنه ليس كل جهل عذراً فليس كل تأويل عذراً كذلك. والشيخ رشيد في موقفه هذا متأثر بعلماء الدعوة في نجد فإنه في ذهابه إلى الاحتياط في التكفير بما لا يكفر، مع تكفيره من أشرك بالله وهو في دار الإسلام، يتبع في الحقيقة علماء نجد الموحدين، وقد نشر رسائل لبعضهم وهو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إمام نجد في عصره، وقال: "ومنها يعلم ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير المخالفين واحتياطهم فيها" 2. ومن هذا الاحتياط والتثبت ننتقل إلى فتوى الشيخ رشيد في نازلة حادثة، وهي: التجنس بجنسية غير إسلامية، وقد أفتى فيها الشيخ بالكفر والردة. المسألة الأولى: التجنس: التجنس نازلة من النوازل أي من الحوادث التي لم تكن على عهد السلف، وقد وقع ما يشبه حكمها في الأندلس ثم في بلاد نجد ثم وقعت في العصر الحديث ودار حولها الجدل 3. وأما معنى التجنس لغة: فالجنس هو كل ضرب من الشيء، فالبُر مثلاً جنس من أجناس الحبوب، ويجمع على أجناس وجنوس. والجنس أعم من   1 المصدر نفسه (2/ 462) 2 انظر: مجلة المنار (27/ 505 و 585 وأيضاً 32/ 545) والرسالة المشار إليها: في الدرر السنية (1/ 466) وما بعدها. 3 محمد بن عبد الله السبيل: مجلة المجمع الفقهي (2/ 4/103) ، والشاذلي النيفر: المصدر نفسه (2/ 4/ 197) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 النوع، فالحيوان جنس والإنسان نوع منه 1. ويطلق الجنس في اصطلاح عصري على نوع بشري خاص يقابله نوع آخر لكل منهما مميزات خاصة عرقية أو اجتماعية تفرق بين صنف وصنف. وبناءً على ذلك: فالجنسية هي الصفة التي تلحق بالشخص من جهة انتسابه لشعب أو أمة.. مثل تونسي أو عربي. فالجنسية هي هوية قانونية لكل دولة 2، وتكتسب هذه الهوية إما بالأصالة كالنسب والولادة، أو بالاكتساب الناشئ عن طلب التجنس 3، والتجنس هو: طلب انتساب إنسان إلى جنسية دولة من الدول، وموافقتها على قبوله في عداد رعاياها، وينشأ عن ذلك التجنس خضوع المتجنس لقوانين الدولة التي تجنس بجنسيتها وقبوله لها طوعاً أو كرهاً والتزام الدفاع عنها في حال الحرب، بما أنه أصبح أحد مواطنيها، ويترتب على تجنسه خضوعه لنظام هذه الدولة في المواريث وسائر الأحكام 4. والتعريف القانوني للجنسية هو أنها "رابطة سياسية وقانونية تنشئها الدولة بقرار منها تجعل الفرد تابعاً لها أي: عضواً فيها" 5، والفرق ـ عند القانونيين ـ بين الجنسية ـ بمعناها الاصطلاحي ـ والجنس هو أن الجنسية تفيد انتساب الشخص إلى دولة معينة ـ وهو انتساب سياسي قانوني كما سبق ـ أما الجنس فيفيد انتساب الشخص إلى سلالة بشرية معينة 6. والجنسية علاقة تعاقدية بين الدولة والفرد، فعلى الدولة واجب حماية   1 محمد الشاذلي النيفر: المصدر السابق والصفحة. 2 محمد الشاذلي النيفر: المصدر السابق (2/ 4/ 171) 3 أ. د. صوفي أبو طالب: الوجيز في القانون الدولي الخاص (ص: 161) ط. دار النهضة العربية، بيروت 1972م. 4 انظر: محمد الشاذلي النيفر: المصدر السابق (2/ 4/169) وصوفي أبو طالب: الوجيز (ص: 67) 5 د. صوفي أبو طالب: المصدر السابق (ص: 67) 6 المصدر نفسه (ص: 70) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الأفراد الداخلية تحت جنسيتها، وعلى الأفراد ـ في مقابل ذلك واجب الطاعة واحترام القوانين، والمساهمة في التكاليف العامة التي تفرضها الدولة، كالخدمة العسكرية ودفع الضرائب، ويكون تعبير الأفراد عن إرادتهم في هذا العقد صريحاً فيما إذا طلب الفرد جنسية دولة ما، وقد يكون ضمنياً في حالة سكوته عندما تعرض عليه الجنسية بخيار الرد "لأن السكوت في معرض الحاجة بيان" وقد يكون التعبير مفترضاً كما في حالة عديمي الإرادة كالطفل 1. ولأن الجنسية بناءً على ما سبق تفرض على الفرد أن يلتزم أحكام دولة جنسيته فقد أفتى الشيخ رشيد وآخرون بأن الداخل تحت جنسية غير إسلامية كفرنسا وغيرها هو كافر كفر ردة، خارج عن الملة ولا يدفن في مقابر المسلمين 2. وزاد الشيخ رشيد على غيره من المتقدمين أنه بنى على ذلك أصلاً في مسألة استحلال الحرام، فإن الشيخ يرى أن من فَعَل الحرام فِعْل الحلال والمباح أي بغير حرج ولا مبالاة، وهو يعتقد أنه حرام شرعاً ولو لم يكن مجمعاً عليه، فإن كان المستحل متأولاً بنص أو قاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعاً لم يحكم بردته وإلا كان مرتداً 3. وهذا التأصيل في الحقيقة هو أكبر من أصل المسألة ـ مسألة التجنس ـ لذا فإنني سأناقش المسألتين كلاًّ على حدة. مستند الشيخ رشيد في كفر المتجنس: استند الشيخ رشيد في حكمه على المتجنس بالكفر إلى أن "قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام خروج من الإسلام فإنه ردّ له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته، ويكفي في هذا أن يكون عالماً بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام الإسلام ... "4.   1 المصدر نفسه (ص: 84 ـ 85) 2 مجلة المنار (25/ 28) وأيضاً (33/ 224 و 34/ 357) 3 المصدر نفسه (25/24) 4 المصدر نفسه (25/ 27) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وأيضاً:"..إن المسلم الذي يقبل الانتظام في سلك جنسية يتبدل أحكامها بأحكام القرآن فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان، فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا وقع من أهل بلد أو قبيلة وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا.." 1. واستدل الشيخ رشيد من القرآن بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 2. قال الشيخ رشيد: "الطاغوت مصدر الطغيان ومثاره، ويدخل فيه كل ما خالف ما أنزله الله، وما حكم به رسول صلى الله عليه وسلم فإنه جعل مقابلاً له هنا وفي آيات أخرى، ومنه بعض أحكام القانون الفرنسي كإباحة الزنا والربا، دع ما يستلزمه اتباع أي جنسية سياسية غير إسلامية من قتال المسلمين وسلب بلادهم منهم.." 3. والشيخ رشيد لا يفرق هنا بين حالة وحالة مع أنه فرق في الحكم بغير ما أنزل الله، وعذر هناك بالإكراه والاضطرار، ولم ير أن الشخص في مسألة الجنسية يكون مضطراً ولا يكون مختاراً 4 وهذا لا يسلم له. كما ذكرت ـ قبلاً ـ أن آخرين معاصرين للشيخ أفتوا بمثل ما أفتى به منهم الشيخ علي محفوظ 5، والشيخ يوسف الدجوي 6، واستندوا إلى مثل ما استند إليه الشيخ رشيد 7.   1 المصدر نفسه (25/ 29) 2 سورة النساء، الآية (60) 3 مجلة المنار (25/ 27) 4 المصدر نفسه (25/28) 5 من كبار علماء الأزهر: فقيه واعظ، له مؤلفات. الأعلام (4/323) ومعجم المؤلفين (7/175) 6 مدرس من علماء الأزهر: فقيه مالكي، مفتي مجلة الأزهر، له مؤلفات. الأعلام (8/216) ومعجم المؤلفين (13/272) 7 انظر: مجلة المجمع الفقهي (2/ 4/ 149و155) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وإذا كان "التجنس بجنسية دولة غير إسلامية" نازلة من النوازل، فإننا ـ مع ذلك ـ لا بدّ أن نجد لها حكماً في كتاب الله ـ وكما يقول الشافعي ـ رحمه الله ـ "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" 1. فيقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. حكم التجنس: في ضوء الآية السابقة لا نستطيع أن نعطي المتجنسين بجنسيات الكفر حكماً واحداً، لأن حال المكره أو المضطر غير حال الراضي أو المختار، فمن المسلمين من دخل في جنسيات الكفر مكرهاً غير راضٍ بها كحال المسلمين الذين دخلوا في حكم الاتحاد السوفياتي قسرياً، وكالذين يفرون من الموت في دار الخوف إلى دار الأمان فراراً بدينهم وأرواحهم، فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يختارون هذه الجنسية حباً لها ورضى بها، وتفضيلاً لقانونها على شريعة الإسلام 3. ولقد سلك الشيخ رشيد هذا المسلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، ففرق بين حال الاختيار وحال الاضطرار، وهما من باب واحد أي الحكم بغير ما أنزل الله والتحاكم، فليكن الأمر هنا كذلك، طرداً للباب   1 الشافعي: الرسالة (ص:20) ط. دار الكتب العلمية. بيروت/ ت: أحمد شاكر. 2 سورة النحل، الآيات (106ـ 110) 3 انظر: محمد بن عبد الله السبيل: مجلة المجمع الفقهي (2/4/ 164) ومحمد الشاذلي النيفر: المصدر نفسه (2/4/237) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وعملاً بأدلة الكتاب والسنة التي تقرن بين الحالين وتجيز للمضطر والمكره ما لا تجيز للراضي المختار 1. وفي كل حال هناك أمور لا تجوز بحال كقتال المسلمين في صفوف الجنسية الجديدة، فإن قتل المسلم لا مندوحة فيه بحال 2. وعلى هذا تحمل فتاوى المتقدمين 3. المسألة الثانية: الاستحلال: بعد بيان حكم "التجنس" قعّد الشيخ رشيد رضا قاعدة بناها على حكم التجنس، وهي قاعدة "الاستحلال العملي" لقد أشار رشيد رضا إلى قاعدة أهل السنة وما أجمعوا عليه من عدم التكفير بالمعاصي العملية إذا لم تجحد أو تستحل وإن كانت مجمعاً عليها من الدين بالضرورة 4. وأشار في ذلك إلى قول صاحب الجوهرة: فلا نكفر مسلماً بالوزر 5. كما أشار أيضاً إلى قوله: " ومن لمعلوم ضرورة جحد من ديننا يقتل كفراً ليس حد" 6 ثم قال: "فإن هذه القاعدة وقع فيها اللبس والاشتباه حتى بين المشتغلين بالعلم، وفي أحد فروعها وهو استحلال الحرام فإنه إذا كان من المجمع عليه من الدين بالضرورة كان ردة بلا خلاف، ولكن بعض المشتغلين بقشور العلم والمجادلين في ألفاظ الكتب من يظنون أن الجحد والاستحلال من أعمال القلب فجاحد الصلاة ومستحل شرب الخمر والزنا عندهم هو من يعتقد أن وجوب الصلاة وتحريم الخمر والزنا ليسا من دين الإسلام، فلا الصلاة فريضة   1 انظر: مجلة المنار (25/ 28) وأيضاً (7/ 577) والتفسير (6/ 405) 2 محمد الشاذلي النيفر: المصدر السابق (2/4/ 332ـ 333) 3 انظر: محمد بن عبد الله السبيل: المصدر السابق (2/4/135) والشاذلي النيفر: المصدر نفسه (2/ 4/ 197) . 4 انظر: مجلة المنار (25/ 23) 5 انظر: جوهرة التوحيد (مع شرح البيجوري) (ص: 228) 6 المصدر السابق (ص:242) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ولا الزنا حرام. وفي هذا الظن من التناقض والتهافت ما هو صريح، فإن فرض المسألة: أن الذي يستحل مخالفة ما يعلم أنه من الدين علماً ضرورياً غير قابل للتأويل سواء كان فعلاً أو تركاً يكون به مرتداً عن الإسلام، والعلم: الاعتقاد القطعي، فكيف يفسر الاستحلال بعدم الاعتقاد، وهو جمع بين النقيضين" 1. ثم قال معرفاً الجحد: " إن حقيقة الجحد هو إنكار الحق بالفعل، واشترط أن يكون المنكر معتقداً له بالقلب.. قال الراغب في مفردات القرآن 2 الجحود: نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه، يقال: جحد جحوداً وجحداً، قال عزوجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 3، وحسبنا الآية نصاً في الموضوع.." 4. ثم قال: " وكذلك الاستحلال أو الاستباحة أن يفعل الشيء فعل الحلال والمباح أي بغير حرج ولا مبالاة وهو يعتقد أنه حرام شرعاً ولو لم يكن مجمعاً عليه، فإن كان المستحل متأولاً لنص أو قاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعاًلم يحكم بردته، وإلا كان مرتداً، ويصدق في ادعائه الجهل بحرمته إلا إذا كان مجمعاً عليه معلوماً من الدين بالضرورة" 5. ثم وجه رشيد رضا حكمه هذا بقوله:"والوجه في ذلك أن الإسلام هو الإذعان بالفعل لما علم أنه من دين الله في جملته هو الإيمان، إذا الاعتقاد القلبي وحده لا يكون به المعتقد مسلماً ولا يكون الاعتقاد إيماناً حتى يكون نازعاً، ولهذا قالوا بترادف الإيمان والإسلام فيما يصدقان عليه وإن اختلفا في المفهوم.."6. هذا هو تصوير مذهب الشيخ رشيد رضا في هذه المسألة، وخلاصته: أنه يكفر من فعل المعاصي واستحلها عملاً بها وإن كان يعتقد أنها محرمة   1 مجلة المنار (25/23ـ 24) 2 المفردات (ص: 187) 3 سورة النحل: الآية (14) 4 مجلة المنار (25/24) 5 المصدر نفسه والصفحة. 6 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 في الشرع، واحتج بآية سورة النحل وبمذهب من جعل الإيمان والإسلام يتواردان على حقيقة واحدة، وإن اختلف مفهومهما، أما الآية: فمعناها أنهم جحدوا بالآيات في ظاهر الأمر ظلماً من أنفسهم وعلواً واستكباراً عن اتباع الحق، ولم يقروا بها والحال أنهم تيقنوا أنها من عند الله 1. أي أنهم رفضوا الدخول في الإيمان أصلاً لهذا السبب. وأما القياس الذي ذهب رشيد رضا من الاتفاق على كفر من جحد معلوماً من الدين بالضرورة، فهو كما قال: متفق عليه 2، ولكن قياسه ذلك غير صحيح فإنه قياس مع الفارق بين المستحل وغيره، فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تابعة لها، فمعنى "يستحله": لا بد أن يضمن معنى يعتقده أو نحو ذلك، والاعتقاد والاستحلال بهذا المعنى لا يعرف من الشخص بمجرد العمل، فإن العاملَين قد يكونا فعلا المعصية الواحدة ولكل واحد منهما حكم، باعتبار الاستحلال وعدمه. فمعتقد حل الزنا يكفر ولو لم يزنِ. والزاني لا يكفر بزناه وإن تكرر ما لم يستحله، والاستحلال لا يعرف بمجرد الفعل ولا بد في معرفته من أن يعرب عنه لسانه 3. ولا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً 4.   1 انظر: الزجاج: معاني القرآن (4/1114) ط. عالم الكتب، الأولى 1408هـ، وابن كثير: التفسير (3/345) ، وأبو السعود: إرشاد العقل السليم (6/ 275) ط. دار إحياء التراث، بيروت. والجمل: الفتوحات الإلهية (3/ 301) ط. دار إحياء التراث، بيروت، وصديق حسن خان: فتح البيان (7/ 71) 2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/ 405) 3 استفدت هذا من مناقشة مع فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد وابنه وتلميذه أستاذي الدكتور عبد الرزاق العباد. وانظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:317) 4 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:316 ـ 317) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 المسألة الثالثة: الحكم بغير ما أنزل الله: لم يتبع رشيد رضا في هذه المسألة أسلوب التعميم كما فعل في مسألة "التجنس" بل إنه هنا فصل تفصيلاً. وقبل أن أبين مذهب رشيد رضا في هذه المسألة، أود أن أشير إلى ملاحظة تتعلق بمسألتنا، وبغيرها من مسائل هذا الباب، وهي مسألة الأسماء كالكفر والظلم والفسق وتحديد معانيها ومدلولاتها. يرى رشيد رضا أن هذه الأسماء الثلاثة تتوارد على حقيقة واحدة في كتاب الله كما أنها ترد بمعاني مختلفة. بينما اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة وما ينافي دين الله الحق، دون لفظي الظلم والفسق. وإن كان القرآن يطلق لفظ الكفر على ما ليس بكفر في اصطلاحهم كما أنه يطلق لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم 1. كما أنه يشير إلى أن لفظ الفسق هو أعم هذه الألفاظ، فكل كافر وكل ظالم فاسق ولا عكس 2. وفيما يتعلق بمسألتنا يتحدث رشيد رضا عن الآيات التي هي الأصل فيها، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3. فيقول إن هذا الكلمات الثلاث "وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء. ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملاً على الهدى والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثراً لغيره عليه، فهو الكافر به، وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب   1 انظر: تفسير المنار (6/ 403) 2 نفس المصدر (6/ 405) ولقد فصل شيخ الإسلام هذا المعنى جداً. انظر: ابن تيمية: الإيمان (ص:55 وص: 58) وما بعدها. 3 سورة المائدة، الآيات (44 و45 و47) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 إلى الله ... وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة، فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه كما هو ظاهر. وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط، فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا بها فهم الفاسقون بالمعصية والخروج عن محيط تأديب الشريعة ... " 1. وبناء على ذلك يخلص الشيخ رشيد رضا إلى الحكم الذي يراه صحيحاً في هذه المسألة، وهو تفصيل الأحوال، فيقول: "فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله: فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له لاستقباحه إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعاً. ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذا الألفاظ ... 2 وهذا التفصيل في الحكم هو المذهب الموافق للسلف 3 فلا نستطيع أن نصدر حكماً واحداً على الجميع أو في جميع الأحوال.   1 تفسير المنار (6/ 404 ـ 405) 2 المصدر نفسه. 3 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (1/366 ـ 337) وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:446) ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الثالثة، 1408هـ ومحمد بن إبراهيم: تحكيم القوانين (ص:9 ـ 10) ط. الجامعة الإسلامية، ومحمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان (2/104) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الفصل الثاني: منهج رشيد رضا في إثبات الربوبية مدخل في تقسيم التوحيد عند رشيد رضا ... مدخل: في تقسيم التوحيد عند رشيد رضا: تقسيم التوحيد هو تقسيم نظري شرعي دليله الاستقراء، وسار عليه السلف والخلف 1، فبعضهم قسمها إلى قسمين، الأول: توحيد المعرفة والإثبات، والثاني: توحيد القصد والطلب 2. وأكثرهم قسمه إلى ثلاثة: الأول: توحيد الربوبية، والثاني: توحيد الأسماء والصفات، والثالث: توحيد الألوهية 3. وكل هذه الأقسام متلازمة في الشرع لا يكون المرء موحداً حتى يأتي بها جميعاً وتتحقق فيه. قال المقريزي 4: ".. فلا ولي ولا حكم ولا رب إلا الله الذي من عدل به غيره فقد أشرك في ألوهيته ولو وحد ربوبيته،   1 انظر: ابن منده (ت: 395) : التوحيد (1/ 61 ـ116) ط. الجامعة الإسلامية، الأولى 1413هـ. وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله أثراً فيه هذا التقسيم. انظر: التوحيد (3/ 304 ـ 306) ، والمقريزي (ت: 854) : تجريد التوحيد ط. الجامعة الإسلامية، الثالثة 1409هـ. (ص: 7 و 8 و9) ، ومحمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/68ـ69) ط. الخامسة 2 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (3/ 449) ط. دار الفكر، بيروت، الأخيرة 1408هـ ت: حامد الفقي 3 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 78) وما بعدها ط. المكتب الإسلامي. 4 هو: تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر، ولد بالقاهرة، وولي حسبتها عدة مرات، وكان على مذهب السلف، حسن المعتقد ـ رحمه الله ـ ت: 854. انظر: الزركلي: الأعلام (1/ 177) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الإلهية مفرق الطرق ... ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، ولو قال: لا رب إلا الله لما أجزأه عند المحققين ... " 1. وسار الشيخ رشيد في هذا على مذهب أهل السنة في تقسيم التوحيد إلى ربوبية، وألوهية، وصفات. واطرد ذلك في كلامه. ولا بد أن الشيخ رشيد ـ وقد وقف على مؤلفات شيخ الإسلام ـ وابن القيم والمقريزي قد وجد فيها هذا التقسيم فمشى عليه باعتباره مذهب السلف. ففي الخلاصة الإجمالية لسورة "هود" يلخص الشيخ رشيد هذه الخلاصة ستة أبواب: الأول: في توحيد الله تعالى؛ ويجعل تحته فصولاً، الأول: في توحيد الربويبية والألوهية، والثاني: في صفاته تعالى 2. ويعرف توحيد الألوهية قائلاً: " الإله هو المعبود الذي يتوجه إليه بالدعاء والتأله والخشوع الخاص ... " 3، ويقول إنه: "أول ما دعا إليه محمد رسو ل الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين وأول ما دعا إليه جميع من قبله من رسل الله عزوجل ... "4. وأما توحيد الربوبية فيقول عنه: "والرب هو الخالق المربي والمدبر لعباده، والمتصرف فيهم بذاته ومقتضى حكمته ونظام سننه ... وكان أكثر مشركي العرب ومن قبلهم من أقوام الأنبياء يؤمنون بأن الرب الخالق المدبر واحد، وإنما يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرب إليها توسلاً إلى الله وطلباً للشفاعة عنده، وكانت الأنبياء تقيم الحجة عليهم بأن توحيد الربوبية يقتضي توحيد الألوهية، إذ العبادة لا تصح ولا تنبغي إلا للرب وحده ... " 5. ومن الأصول والأسس التي بينتها آيات القرآن ـ كما يقول الشيخ   1 تجريد التوحيد (ص: 8) 2 انظر: تفسير المنار (12/ 198) وما بعدها وقد كرر الشيخ رشيد ذلك عدة مرات في عدة سور. انظر: تفسير المنار (9/ 559 و 10/ 118 و11 / 98و 11/ 494 وما بعدها) 3 تفسير المنار (12/ 199) 4 المصدر نفسه (12/ 198) 5 المصدر نفسه (12/ 199 ـ 200) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 رشيد ـ: "توحيد الألوهية بعبادة الله تعالى وحده، مع ملاحظة توحيد الربوبية.." 1. وأما تعريف الشيخ لهذين النوعين فسيأتي في موضعه إن شاء الله وإنما الغرض الآن بيان تقسيمه للتوحيد. وعند قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 قال الشيخ رشيد: "أقول: المراد بهذا تقرير وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية، وكلاهما متفق عليه بين الأنبياء ... "3. ويقول في موضع آخر مصرحاً بهذه القسمة: "ولما كان التوحيد الذي هو لباب الدين وروحه نوعين: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية بين كلاً منهما بالآيات والبراهين ... " 4. ودليل هذا التقسيم كما هو واضح من كلام الشيخ رشيد عند تفسيره للآيات وذكره لخلاصة السور هو استقراء آيات القرآن الكريم. وإذاً فهو تقسيم شرعي لأن مستنده الشرع، وليس مجرد اصطلاح 5. وقد أشار إليه ـ أعني هذا التقسيم ـ علماء السلف وقرره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والمقريزي 6. ومع ذلك فقد رفض هذا التقسيم قوم من أهل البدع وأنصارها وادعوا أنه تقسيم مبتدع ـ رغم وجوده في الكتاب العزيز ـ ومن هؤلاء: الخصم الأول للشيخ رشيد رضا: وهو الشيخ يوسف الدجوي مفتي مجلة الأزهر "نور الإسلام" فقد انتقد على الشيخ رشيد تقسيمه هذا وحمل عليه في مجلته 7.   1 المصدر نفسه (1/ 183) 2 سورة آل عمران، الآية (64) 3 تفسير المنار (3/ 325) 4 المصدر نفسه (8/ 272) 5 انظر: عبد الرزاق العباد: القول السديد (ص: 18) وما بعدها. 6 انظر: الفتاوى (1: 23) ، ومدارج السالكين (3/ 449) . وقد سبق النقل عن المقريزي وابن القيم. 7 انظر: الدجوي: مجلة نور الإسلام (الأزهر) : السنة الرابعة (ص: 255) وقد رد الشيخ عبد الرزاق العباد على إنكار تقسيم التوحيد ببحث نفيس. انظر: القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد ط. دار ابن عفان، الأولى 1417هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 المبحث الأول: تعريف الربوبية المطلب الأول: معنى كلمة "رب" في اللغة ... المطلب الأول: معنى كلمة "رب" في اللغة: ويحسن بنا ـ قبل الشروع في معنى الربوبية ـ أن نقف على معنى أصل هذه المادة، وهو كلمة "رب". قال ابن فارس: "الراء والباء يدل على أصول. فالأول: إصلاح الشيء والقيام عليه. فالرب: المالك، والخالق، والصاحب. والرب: المصلح للشيء. يقال: ربَّ فلان ضيعته؛ إذا قام على إصلاحها. وهذا سقاء مربُوبٌ بالرُّبِّ. والرُّبّ للعنب وغيره، لأنه يُرَبُّ به الشيء. وفرس مربوب. قال سلامة 1: ليس بأسقى ولا أَقْنَى ولا سَغِلٍ ... يُسْقى دواءَ قَفِيِّ السَّكنِ مَرْبُوبِ والربُّ: المصلح للشيء. والله جل ثناؤه الرَّبُّ، لأنه مصلح أحوال خلقه.   1 هو ابن جندل، والبيت في المفضليات (ص: 121) ط. دار المعارف، مصر، ت: أحمد شاكر وعبد السلام هارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والرِّبِّيُّ: العارف بالرب. ورببتُ الصَّبيَّ أَرُبُّه، وربَّبْتُه أربِّبُه. والرَّبيبة: الحاضنة. وربيب الرجل: ابن امرأته. والرَّابُّ: الذي يقوم على أمر الربيب … " 1. وفي اللسان: ".. الرب ينقسم على ثلاثة أقسام: يكون الرب المالك، ويكون الرب: السيد المطاع، قال الله تعالى: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} 2أي: سيده، ويكون الرب: المصلح: ربَّ الشيء إذا أصلحه ... وفي حديث ابن عباس مع ابن الزبير رضي الله عنهم: "لأن يربني بنو عمي أحبُّ إليّ من أن يربّني غيرهم" 3 أي: يكونون عليّ أمراء وسادة..، وربّ ولده والصبي يربُّه ربّا، وربّته تربيباً وتَرِبَّة، عن اللحياني: بمعنى ربّاه. وفي الحديث: "لك نعمة تربّها" 4 أي: تحفظها وتراعيها وتربيها، كما يربي الرجل ولده ... " 5. فالرب ـ إذن ـ مصدر مستعان للفاعل 6 فمعنى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} : رابُّ العالمين 7. فالمعاني اللغوية لكلمة "رب" هي: المصلح للشيء، القائم عليه، المنمي له حتى يبلغ كماله، وأيضاً: صاحبه وسيده. وهذه المعاني اللغوية باقية على أصلها في الشرع، لم تتحول عنه،   1 معجم مقاييس اللغة (2/ 381 ـ382) 2 سورة يوسف، الآية (41) 3 البخاري (8/ 177) ، تفسير سورة براءة، ح: 4666 (8/177) 4 مسلم: الصحيح (16/ 124) مع شرح النووي. 5 لسان العرب (1/ 440 ـ 401) ، وأيضاً الطبري: التفسير (1/ 141ـ 142) ت: شاكر، والبيهقي: الاعتقاد (ص: 30) ت: محمد موسى. والنقل بعد ذلك سيكون عن طبعة أحمد عصام الكاتب. 6 الراغب: المفردات (ص: 336) 7 المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 4 ـ 5) ، والنحاس: معاني القرآن (1/ 60) ط. جامعة أم القرى، ت: الصابوني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فإن الربّ تعالى: هو الخالق المالك القائم بأمر عباده وتربيتهم خلقاً وشرعاً. ولقد عرّف الشيخ محمد رشيد هذه الكلمة عدة مرات، فقال: "..والرب هو السيد المالك والمربي والمدبر والمتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء في كل زمن وكل حال وملكه حقيقي تام، وملك غيره عرفي ناقص موقوت ... " 1. وقال في موضع آخر: "ومعنى الرب: السيد المربي الذي يسوس مسوده ويربيه ويدبره" 2. وقال إن كلمة "رب" هي: "التي تفيد عنايته تعالى بعبيده وتربيته لعقولهم وأرواحهم بالمعارف ... " 3. واسم الرب "هو الدال على معنى الملك والتدبير والتربية والإحسان خاصة" 4 و"رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه، ويربيهم بفضله وإحسانه ... "5. ويفصل هذا التعريف، وينبه أيضاً فيقول: "ولفظ "رب" ليس معناه المالك السيد فقط، بل فيه معنى التربية والإنماء، وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عزوجل، فليس في الكون متصرف بالإيجاد ولا بالإشقاء والإسعاد سواه" 6. وهذه التعريفات التي ذكرها الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ هي تعريفات لغوية شرعية، إذ ـ وكما ذكرت قبل ذلك إن معاني هذه الكلمة العالية   1 تفسير المنار (7/ 568) وأيضاً (12: 199) 2 المصدر السابق (1/ 50) 3 المصدر السابق (3/ 53) 4 المصدر السابق (7/ 253) 5 المصدر السابق (6/ 343) 6 المصدر السابق (1/ 36) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الشريفة بقيت على أصلها اللغوي فهي صحيحة في حقه تعالى، على ما يليق بكماله وجلاله. تربية الله تعالى لخلقه نوعان: وهذه المعاني التي اشتملت عليها كلمة "رب" وهي تربية الله تعالى لخلقه وإصلاحه لأمرهم وإحسانه إليهم ليبلغوا كمالهم بمقتضى خلقه وملكه لهم، تظهر في أمرين: خلقي وشرعي. فالناحية الأولى خَلقية أي تربية بمقتضى الخلق والفطرة، وهي خلقه تعالى لهم في أحسن صورة وأقومها. وتربية شرعية دينية تعليمية. وفي هذا؛ يقول الشيخ رشيد: "وربوبية الله للناس تظهر بتربيته إياهم، وهذه التربية قسمان: تربية خلقية بما يكون به نموهم وكمال أبدانهم وقواهم النفسية والعقلية، وتربية شرعية تعليمية، وهي ما يوحيه إلى أفراد منهم 1 ليكمل به فطرتهم بالعلم والعمل إذا اهتدوا به.." 2 "فإنزاله الوحي وبعثه الرسل وتأييدهم وهداية الخلق بهم من مقتضى ربوبيته ... "3. إطلاق اسم الرب على غيره تعالى: وهذه المعاني العالية التي اشتملت عليها هذه الكلمة، وكما قال الشيخ رشيد، تكون حقيقية وتامة وكاملة في حقه تعالى، وإذا ما أضيفت إليه، وهي في حق غيره عرفية وعلى ما يليق به. ولذلك فإن إطلاق هذا الاسم على غيره تعالى غير جائز إلا أن يضاف. ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى: {اذْكُرْنِي   1 هم الأنبياء كما لا يخفى. 2 تفسير المنار (1/ 51) 3 المصدر نفسه (7/301) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} 1 فقوله تعالى: "عند ربك: يعني الملك، وقوله: فأنساه الشيطان ذكر ربه: يعني يوسف". وكذلك ما ورد في السنة من ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن ربي تبارك وتعالى قد قتل ربك" 2. وأما ورد من كلام العرب من اطلاق هذا الاسم، كقول الحارث بن حلزة 3: وهو الرب والشهيد على يو م الحيارين والبلاء بلاء 4 يريد المنذر بن ماء السماء، ولم يذكر مطلقاً في غير الشعر 5. وهو بيت جاهلي. وأما ما ورد في الكتاب والسنة فعلى ما كان متعارفاً عندهم وعلى ما كانوا يسمونهم به. ومنه قوله للسامري: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} 6 7. ويفصل الشيخ رشيد هذا الحكم قائلاً: "فأما العرب فكانت تطلق لفظ "رب" على الناس: يقولون: رب الدار، ورب هذه الأنعام ـ لا رب الأنعام مطلقاً ـ قال عبد المطلب في يوم الفيل (أما الإبل فأنا ربها وأما البيت فإن له رباً يحميه) 8 ويرى بعض العلماء أن هذا الاستعمال ممنوع في الإسلام،   1 انظر: الطبري: التفسير (16/ 109 ـ 111) (12/ 247) ط. الحلبي بمصر، الثالثة 1388هـ، الآلوسي: روح المعاني (ص: 33) ط. دار إحياء التراث. مصورة عن ط. إدارة الطباعة المنيرية. 2 انظر: أحمد بن حنبل: المسند (5/ 43) 3 هو: الحارث بن حِلِّزة بن مكروه اليشكري الوائلي، شاعر جاهلي من أهل بادية العراق، أحد أصحاب المعلقات. الزركلي: الأعلام (2/ 154) 4 البيت في معلقته. انظر: شرح القصائد السبع الطوال: الأنباري (ص: 271) ط. دار المعارف. 5 ابن منظور: لسان العرب (1/ 400) 6 سورة طه، الآية (97) 7 ابن منظور لسان العرب (1/ 40) . 8 ابن هشام: السيرة النبوية (1/ 61) ط. دار الفكر، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 واستدل بالنهي في الحديث عن قول المملوك لسيده ربي 1. والصواب: أنه يمنع ما ورد به النص كهذا الاستعمال وما من شأنه ألا يقال إلا في الباري تعالى كلفظ الرب بالتعريف مطلقاً، ولفظ رب الناس، ورب المخلوقات، رب العالمين، وما أشبه ذلك" 2. المقارنة بين اسم "الرب" واسم "الآب": ولم تسلم هذه المعاني العالية الشريفة من الاعتراض، فاعترض عليها أجهل الخلق بربهم وأسمائه وصفاته، وقالوا: إن المسلمين لم يعلمهم نبيهم من صفات الخالق إلا القهر والسلطان والغضب، وأن ربهم قد أوجب عليهم الفتح من أجل قهر الأمم لا من أجل تربيتها وترقيتها. بينما يدل اسم الآب على الرحمة والرأفة والعطف 3. ويجيب الشيخ رشيد على هذا الاعتراض " السخيف" قائلاً: "وهذا الذي شرحناه يفند زعم بعض المتعصبين الغلاة في ذم الإسلام بالهوى الباطل أن رب المسلمين رب غضوب منتقم قهار، ودينهم دين رعب وخوف، بخلاف دين النصرانية الذي يسمي الرب أبا للإعلام بأنه يعامل عباده كمعاملة الأب لأولاده ... وثبت في الحديث الصحيح أن الرب أرحم بعباده من الأم بولدها الرضيع 4 وأن جميع ما أودعه الله في قلوب خلقه من الرحمة جزء من مائة جزء من رحمته تبارك وتعالى.." 5. وكذلك فإن تكرار قوله تعالى {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في فاتحة الكتاب بعد قوله تعالى {.. رَبِّ الْعَالَمِينَ} لأن "البعض يفهم من معنى الرب الجبروت والقهر فأراد الله تعالى أن يذكرهم برحمته وإحسانه، ليجمعوا بين   1 مسلم: الصحيح: ك: الألفاظ من الأدب وغيرها، ح: 14 (2249) [4/ 1764] وانظر: النووي شرح مسلم (15/ 6ـ 7) 2 تفسير المنار (1/ 53 ـ 54) 3 انظر: تفسير المنار (1/ 12) 4 البخاري: الصحيح: ك: الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ... ح:5999 (10/ 440) 5 تفسير المنار (1/ 76) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 اعتقاد الجلال والجمال ... "1. وأما اسم الآب، فإنه لا يليق بالله تعالى لاشتماله على معان باطلة، كطلبه للولد بمقتضى شهوته لا محبته 2.   1 المصدر السابق (1/ 51) 2 المصدر نفسه (1/ 12) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 المطلب الثاني: المعنى الشرعي لتوحيد الربوبية : وأما التعريف الشرعي للربوبية، فقد عرّفه الشيخ رشيد بقوله: "هو انفراده تعالى بالخلق والتقدير والتدبير والتشريع الديني" 3. وهذا التعريف دلت عليه نصوص الكتاب العزيز، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 4 أي: "ألا إن لله الخلق فهو الخالق المالك لذوات المخلوقات، وله فيها الأمر وهو التشريع والتكوين والتصرف والتدبير.." 5. وأما التقدير، فيدل عليه قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 6 وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 7 أي: "بسنن ثابتة، وتقدير منظم لم يكن شيء منه جزافاً" 8. وأما التدبير، فيدل عليه قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} 9 أي: "..يدبر أمر ملكه، بما اقتضاه علمه من النظام وحكمته من الأحكام ... والتدبير في أصل اللغة التوفيق بين أوائل الأمور ومباديها، وأدبارها وعواقبها، بحيث   3 الوحي المحمدي (ص: 170) 4 سورة الأعراف، الآية (54) 5 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (8/ 454) ط. دار المعرفة، بيروت الثانية. 6 سورة الفرقان، الآية (2) 7 سورة القمر، الآية (49) 8 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (8/ 447) 9 سور: يونس، الآية (3) والرعد، الآية (2) والسجدة، الآية (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 تكون المبادي مؤدية إلى ما يريد من غاياتها ... " 1. وأما التشريع الديني، فدل عليه آيات في كتاب الله؛ منها: قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2 وقوله تعالى: {.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 3 قال الشيخ رشيد: "إن الآية قررت وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية.. وأما وحدانية الربوبية فهي قوله {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} فالرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى، والمراد هنا من له حق التشريع والتحليل كما ورد في حديث عدي بن حاتم 4.." 5. ومثله قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 6 "أي: اتخذ اليهود أحبارهم وربانيهم، والنصارى قسوسهم ورهبانهم أرباباً غير الله وبدون إذنه بإعطائهم حق التشريع الديني لهم وبغير ذلك مما هو حق الرب تعالى" 7. واشتراط "الديني" هام جداً، وكذا اشتراط أن يكون "بغير إذنه تعالى" حتى يكون شركاً، فإن من التشريع ما ليس شركاً لأنه ليس دينياً، وما ليس شركاً لأنه بإذنه تعالى ورضاه. ويفصل الشيخ رشيد هذا فيقول: "لأن التحريم 8 حق للرب الخالق للعباد وللأقوات جميعاً، فمن انتحله لنفسه فقد جعل نفسه شريكاً له تعالى، ومن أذعن لتحريم غير الله وأطاعه فيه فقد أشركه معه سبحانه وتعالى..   1 رشيد رضا: تفسير المنار (11/ 295) 2 سورة الشورى، الآية (21) 3 سورة آل عمران، الآية (64) 4 انظر: الترمذي: السنن: ك: تفسير القرآن، سورة براءة، ح: 3095 (5/278) 5 تفسير المنار (3/ 326 ـ 327) 6 سورة التوبة، الآية (31) 7 تفسير المنار (10/ 364) 8 يعني والتحليل أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وأما منع بعض الناس من بعض هذا الثمر لسبب غير التشريع الديني فلا شرك فيه، وقد يوافق بعض أدلة الشرع فيكون منعاً شرعياً أي تحريماً كمنع الطبيب بعض المرضى من أكل الخبز أو الثمر لأنه يضره.. والتحريم ليس تشريعاً من الطبيب بل الله تعالى هو الذي حرم كل ضار وإنما الطبيب معرف للمريض بأنه ضار.. وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطير في بعض الأحوال للمصلحة العامة.. ولكن مثل هذين ليس تحريماً ذاتياً لما ذكر يدوم بدوامه بل مؤقت بدوام سببه ولا هو مبني على أن للسلطان أن يحرم شيئاً بمحض إرادته وإنما هو مكلف شرعاً بصيانة المصالح ودرء المفاسد، فإذا أخطأ في اجتهاده بشيء من ذلك وجب على الأمة الإنكار عليه وعليه الرجوع إلى الحق" 1. فإذن ـ ما يقرره السلطان من سياسة ليس شركاً ـ لأنه بإذن الله تعالى والسلطان "ظل الله في الأرض" 2 وأما إنكار الأمة عليه، فله نظام دقيق في الشريعة، وتوزيع على الأمة فيجب على العلماء ما لا يجب على العامة من ذلك3. العلاقة بين الربوبية والإلهية: وبين الربوبية والإلهية علاقة وثيقة، هي علاقة المقدمة بالنتيجة، والربوبية تستلزم الإلهية، والإلهية تتضمن الربوبية، لذلك فإننا كثيراً ما نستدل بالآيات التي نصبها الله تعالى على وحدانيته على غير ما وضعت له وهو وجوده تعالى وربوبيته وإلا فإن هذه الأخيرة لم تكن محلاً للاستدلال في القرآن الكريم كما سوف ترى. يقول الشيخ رشيد: "لأن الربوبية والألوهية متلازمان، فالآيات الدالة   1 تفسير المنار (8/ 135) 2 انظر: ابن أبي عاصم: السنة (2/ 492) وحسنه الألباني. ط. المكتب الإسلامي، الأولى 1401هـ. 3 انظر: في تفصيل هذه المسألة: ابن تيمية: الحسبة (65و 66 80و 81 ـ ضمن مجموع الفتاوى جـ 28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 على أن الرب واحد، دالة أيضاً على أنه الإله وحده.." 1 "وتوحيد الربوبية دال على وجوب توحيد العبادة للرب وحده" 2 ويقرر الشيخ رشيد أن توحيد الربوبية هو البرهان الأعلى لتوحيد الألوهية 3 ويبين ذلك قائلاً: "..فإذا كان تعالى هو الخالق المقدر وهو السيد المالك المدبر، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وفضل بعض المخلوقات على بعض ولكنها بالنسبة إليه على حد سوى، فكيف اسفه نفسي وأكفر ربي بجعل المخلوق المربوب مثلي رباً لي.." 4. ويحاول الشيخ رشيد إبراز هذه العلاقة في كل مناسبة تسمح وعند كل فرصة تسنح. ففي فاتحة الكتاب، وعند تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5 يقول: "إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه الإله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني: فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية والمعنوية. ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم، واسم الرب الأكرم، إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللّف. والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة. ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 6.   1 تفسير المنار (7/ 301) 2 تفسير المنار (9/ 204) وانظر: الوحي المحمدي (ص: 170) 3 المصدر السابق (8/ 245) 4 المصدر السابق، الموضع نفسه. 5 سورة الفاتحة: الآية (5) 6 سورة هود: الآية (123) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فهذه الاستعانة هي ثمرة التوحيد واختصاص الله بالعبادة.. إذا تدبرت هذا فهمت منه نكتة من نكت تقديم العبادة على الاستعانة، وهي أن الثانية ثمرة للأولى، ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله.. فالعبادة تكون سبباً للمعونة من وجه، والمعونة تكون سبباً للعبادة من وجه آخر.. فكل منهما سبب ومسبب وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة" 1. العلاقة بين الربوبية وسائر الصفات: وننتقل من هذه العلاقة بين الربوبية والإلهية والتلازم والتضمن إلى العلاقة بين الربوبية وسائر الصفات الإلهية. فإنه وإن كانت الربوبية صفة من صفات الله تعالى إلا أنها ـ كما يقول: رشيد رضا ـ هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات جميعاً 2. وتحتمل صفة الربوبية أن تكون صفة ذات، على معنى أنه السيد والمالك، أو صفة فعل على أنه تعالى المبلغ كل ما أبدعه حد كماله 3. وترتبط الصفات الإلهية بعلاقات التضمن والالتزام، فبينما تدل كل صفة على نفسها وعلى الذات بالمطابقة، فإنها تدل على الصفات الأخرى باللزوم. فالسميع يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة، وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده، بالتضمن ويدل على اسم "الحي" وصفة الحياة بالالتزام. 4.   1 تفسير المنار (1/ 60ـ 61) وقارن مع: ابن القيم: إغاثة اللهفان (1/ 27) ت: حامد الفقي، ومحمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/64ـ 65) 2 تفسير المنار (1/51) 3 انظر: البيهقي: الاعتقاد (ص: 67) ت: أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق، بيروت، الأولى 1401هـ 4 ابن القيم: مدارج السالكين (1/ 30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وإذا كان ذلك، فإن الأصول التي ترجع إليها سائر معاني الأسماء والصفات اربعة: صفتان للذات، وصفتان للفعل. قال رشيد رضا:" وبتعبير أظهر أو أصح: اثنان منهما لا يتعلقان بتدبير الخلق واثنان منهما يتعلقان به " 1. فأما الذاتيان فهما "الحي القيوم" وأما الفعليان فهما الرب والرحمن الرحيم 2. وتدل صفتا الربوبية والرحمة على "أن الله تعالى هو المالك المدبر لأمور العالم كلها 3. والمالك صفة ذات. ويشرح الشيخ رشيد دلالة صفتي الربوبية والرحمة على صفات الأفعال فيقول: "وأما دلالة صفتي الربوبية والرحمة على جميع معاني صفات الأفعال الإلهية فظاهر، فإن رب العباد هو الذي يسدي إليهم كل ما يتعلق بخلقهم ورزقهم وتدبير شؤونهم من فعل دلت عليه أسماؤه الحسنى، كالخالق البارئ المصور القهار الوهاب الرزاق، الفتاح القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم الرقيب المقيت الباعث الشهيد المحصي المبديء المعيد المحيي المميت المقدم المؤخر المغني المانع الضار النافع وأمثالها.." 4. وهكذا فإذا كانت صفات الجلال والجمال أخص باسم "الله" فإن صفات الفعل والقدرة والتفرد بالضرر والنفع والعطاء والمنع وتفرد المشيئة وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة: أخص باسم الرب تبارك وتعالى 5. الإجماع على توحيد الربوبية: ورغم هذا الارتباط الوثيق بين الربوبية والألوهية وبين الربوبية وسائر   1 تفسير المنار (1/ 72) 2 المصدر نفسه (ص: 73) 3 المصدر السابق (1/ 74) وانظر: ابن القيم: مدارج السالكين (1/34) 4 تفسير المنار (1/75) 5 ابن القيم مدارج السالكين (1/33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الصفات، حتى إن الربوبية هي البرهان الأعلى للألوهية، والدليل الأول عليها، إلا أن الإجماع وقع عل هذه"المقدمة" دون النتيجة، والدليل دون المدلول. فاجتمع الخلق جميعاً على الإقرار بربوبية الله تعالى، وافترقوا في ألوهيته، والعجب الذي لا ينقضي هو من هذه التفرقة بين المقدمة ونتيجتها، والإقرار بالدليل دون المدلول. يقول تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..} 1. ويقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2. ويقول تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3، وأيضاً: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 4. ويوجد لدينا قانون عقلي مستقر متى فهم على وجهه الصحيح، وصل بنا إلى عقيدة التوحيد، وعليه فإن الشرك والوثنية تكون وليدة ضرب من الغفلة أو الكسل العقلي وهذا القانون العقلي هو قانون السببية، وهو يعني ببساطة: أنه لا يوجد شيء من لا شيء 5. ويقرر الشيخ رشيد رحمه الله تعالى هذه الحقائق في مواضع كثيرة، أقتصر على بعضها. يقول: "أكثر الناس قد أرشدتهم الفطرة ـ أو هداهم النظرـ إلى أنه لا بد لهذا الكون المحكم الصنع البديع الإتقان من فاعل   1 سورة العنكبوت: الآية (61) 2 سورة العنكبوت: الآية (29) 3 سورة الزخرف، الآية (87) 4 سورة يونس، الآية (31) 5 انظر: عبد الله دراز: الدين (ص: 83ـ 85) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 مدبر له، ثم أخطأوا في تعيينه لما عنّ لهم من الشبه في ذلك، فبعضهم زعم أنه الشمس أو كوكب آخر، وتخيل بعضهم أن صانع العالم هو جوهر النار.. وبعضهم أسند الألوهية إلى بعض الحيوانات، ومنهم من ارتقى به هذا الوهم فأضافها إلى بعض البشر، إلى غير ذلك من النحل التي لا تحصى.."1. وعن العرب يقول: "ولم يكن أحد من العرب الذين سموا أصنامهم وغيرها من معبوداتهم آلهة يعتقد أن اللات أو العزى أو هبلاً خلق شيئاً من العالم أو يدبر أمراً من أموره، وإنما تدبير أمور العالم يدخل في معنى لفظ الرب. والشواهد على هذا في القرآن كثيرة ناطقة بأنهم كانوا يعتقدون ويقولون: إن خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما هو الله تعالى، وأن آلهتهم ليس لها من الأمر والخلق والتدبير شيء" 2. ويقول مستشهداً بالقرآن على ذلك: "وتشهد لهذا آيات القرآن الكثيرة. اقرأ إن شئت قوله تعالى في مشركي العرب {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 3، وقوله تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 4 وفي هذا المعنى آيات كثيرة.. فالشرك في العبادة هو الذي كان فاشياً في الأمم بألوان مختلفة وأسماء متعددة وصور متنوعة فجاء القرآن ينعى عليهم هذا ويحاجهم فيه ويمحو شبههم في آيات تعد بالمئات، وكان هذا أهم أصول الدين وأركانه.. وإن كانت الكتب التي بين أيدينا قلما تبحث في هذا النوع من التوحيد، وما أزاله من الشرك" 5. ويتعجب من الرازي ـ وهو من هو   1 مجلة المنار (2/ 404) 2 تفسير المنار (9/ 112) 3 سورة الزخرف، الآية (9) 4 سورة يونس، الآية (31) 5 مجلة المنار (2/ 630) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 في علم الكلام 1 ـ أذ يخطئ في فهم هذا المعنى، "معنى الإله"، فيقول تعليقاً على كلام نقله له: "أقول: من العجب أن يقع إمام النظار في علم العقائد على طريقة الفلسفة والكلام في مثل هذا الخطأ في أسئلته وأجوبته، والتناقض في كلامه ومنشأ هذا الخطأ: الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن الكريم في اللغة العربية واستعمالها بلوازم معناها العرفية كلفظ "الإله" فإن معناه في اللغة المعبود مطلقاً لا الخالق ولا المدبر لأمر العالم كله ولا بعضه.." 2. وهذا تحقيق دقيق من الشيخ رشيد رحمه الله وهو موافق فيه لأهل السنة، ومؤيد فيما ذهب إليه من هذا الإجماع على الربوبية بالبحوث والاكتشافات العلمية التي تؤكد أنه قد وجدت أمم بلا حضارة وبلا أدب وبلا ثقافة ولكنها لم تكتشف أمة بلا معبود 3. أثر هذه الصفة على العبد: لكل اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته أثر من العبودية يترتب عليها، فكل اسم من أسمائه الحسنى وصفة من صفاته العليا مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين 4، فما هو حظ العبد من صفة الربوبية يقول الشيخ رشيد: "وأما حظ العبد من وصف الله بالربوبية فهو أن يحمده تعالى عليه ويشكره له باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله، فليحسن بتربية نفسه.. وألا يبغي كما بغى فرعون فيدعي أنه رب الناس وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون   1 هو محمد بن عمر بن الحسين الرازي، فيلسوف متكلم نظار على مذهب الأشعرية. انظر: وفيات الأعيان (4/248) وطبقات الشافعية (8/81 ـ 96) ط. دار إحياء الكتب العربية، مصر. ت: محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو. والأعلام (6/313) 2 تفسير المنار (9/ 112) 3 انظر: عبد الله دراز: الدين (ص: 113) 4 انظر: ابن القيم: مفتاح دار السعادة (2/ 105) ، ط. مكتبة الأوس بالمدينة النبوية، والفوائد (ص: 80) ط. دار الكتاب، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى، وبقولهم هذا حلال وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم، فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته. قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1 وفسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أرباباً بمثل هذا" 2.   1 سورة الشورى، الآية (21) 2 تفسير المنار (1/ 52 ـ 53) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المبحث الثاني: منهج رشيد رضا في أدلة معرفة الله تعالى تمهيد ... تمهيد: مسألة "إثبات وجود الله تعالى" لم تكن موضع استدلال في القرآن الكريم، بل كانت هي نفسها دليلاً ـ في هذا الكتاب العزيز ـ استدل به على ألوهية الله تعالى واستحقاقه وحده للعبادة. فمسألة وجود الله تعالى مسألة بدهية، ونجد هذه البداهة متقررة حتى عند ذوي العقول المنحرفة من المشركين، يقول الله تبارك وتعالى عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1 ويقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2، وأما الآيات التي يستدل بها على هذه المسألة وأنها نزلت لإثبات وجود الله تعالى، فليست من ذلك في قليل أو كثير، وإنما نزلت تقريراً لتوحيد الله تعالى وألوهيته وصفاته العليا. كذلك لم تظهر هذه المسألة في القرون المفضلة التي كانت امتداداً للعصر النبوي الذي كان هو بالأحرى عصر الإيمان بصفات الله وتوحيده، ولم تطرح فيه هذه المسألة على هذا النحو أبداً. ثم كانت الفلسفة اليونانية وانتقالها إلى عالمنا الإسلامي، ونشأت مباحث محدثة في العلم لم تكن من قبل، ومنها مسألة النقاش والاستدلال   1 سورة الزخرف، الآية (87) 2 سورة لقمان، الآية (25) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 على وجود الله تعالى، وكان المتكلمون المسلمون هم الطرف الإسلامي في هذا النقاش. "وأما في هذا العصر فقد كثرت فيه الملاحدة والمعطلة، وتجددت للكفار على اختلاف فرقهم شبهات جديدة يتوكؤون على مسائل من العلوم العصرية لم تكن معروفة عند الأقدمين، وحدثت للناس آراء ومذاهب في الحياة فيها الحسن والقبيح، والنافع والضار، بل منها ما يفضي إلى فساد العالم وتقويض دعائم العمران، ومثار ذلك كله ذيوع التعاليم المادية وفوضى الآداب وتدهور الأخلاق وتغلب الرذائل على الفضائل.." 1. لقد وقف الإنسان في هذا العصر على شيء من الأسباب التي قام عليها نظام الخلق، فكان ذلك فتنة له، وانشغل بهذه الأسباب عن الفكر في خالقها، حتى ملكت عليه نفسه، فأنسته إياها، ودفعت به إلى إنكار خالقه وخالقها تبارك وتعالى. ولذا فإن علماء المسلمين ـ في هذا العصر أيضاً ـ كانوا مضطرين للخوض في هذه المسألة والجواب على أسئلة المؤمنين الذين شوشت عليهم أفكار وأقوال الملحدين المعطلين. ولم يلتفت العلماء إلى الرأي القائل بطرح هذه المسألة من مباحث العقيدة لأنها بدهية 2، وخاضوا فيها ولسان حالهم وقالهم، يقول: "لولا كثرة الضعفاء مع كثرة الدخلاء فينا الذين نطقوا بألسنتنا، واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا، لما تكلفنا كشف الظاهر وإظهار البارز" 3. وكان من هؤلاء العلماء الذين تلقوا أسئلة المؤمنين والملحدين، وأجاب عن هذه ورد هذه، وبحث في هذه المسألة: الشيخ محمد رشيد رحمه الله، فنريد أن نعرف منهجه في ذلك. وقبل هذا نود أن نعرف المنهج الذي سلكه المتكلمون والفلاسفة قديماً في نفس الموضوع.   1 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (9/ 309) 2 انظر: عبد الحليم محمود: الإسلام والعقل (ص: 48) 3 محمد جمال الدين القاسمي: دلائل التوحيد (ص: 75) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1405هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 ثم نرى إن كان الشيخ رشيد قد انتهج منهج أحد الفريقين أو سلك طريقاً آخر. أولاً: منهج المتكلمين: ذهب المتكلمون إلى أن مسألة المعرفة نظرية، وبنوا على ذلك نظرية جدلية، ذات مقدمات طويلة، معتاصة، ثم اختلفوا في هذه المقدمات، ولم يتفقوا على شيء منها، فقد ذهبوا إلى أن العالم حادث، ودليل حدوثه حدوث ما فيه من الجواهر والأعراض. قال الرازي 1: "قد عرفت أن العالم إما جوهر أو أعراض، وقد يستدل بكل واحد منها على وجود الصانع، إما بإمكانه أو حدوثه، فهذه وجوه أربعة.." 2. وهذا هو المقصود بالنظر عند المتكلمين، وظاهر أنه نظر عقلي جدلي، وهذا النظر هو اصطلاح لهم، وإلا فإن النظر الذي دعا إليه القرآن، ليس محله القضايا المنطقية الجدلية، وإنما محله الكون والإنسان. وبعد ما ذكر الرازي القانون السابق طفق يستدل على كل جزئية من جزئياته، وما تفرع منها كذلك، ورغم أن منها ما هو بدهي لا يحتاج إلى إثبات كحدوث العالم بعد أن لم يكن. ثانياً: منهج الفلاسفة: وافق الفلاسفة المتكلمين في "نظرية المعرفة" وإن كانوا خالفوهم في الطريق. فقد سلك الفلاسفة طريقاً آخر هو طريق الإمكان والوجوب، فقد قسموا العالم إلى ممكن وواجب بدلاً من قديم وحادث، قال ابن سينا: "ما   1 تقدمت ترجمته (ص: 341) 2 المحصل (ص:337) ط. دار التراث، وانظر أيضاً الأشعري: رسالة إلى أهل الثغر (ص: 81 ـ 83) ، ط. الجامعة الإسلامية، والباقلاني: التمهيد (ص: 43) ، والبغدادي: أصول الدين (ص: 68) ، والإيجي: المواقف (ص: 266) ، والبيجوري: شرح جوهرة التوحيد (ص: 48) ومصطفى صبري: موقف العقل (2/ 165) وما بعدها، وانظر أيضاً: ابن تيمية: النبوات (ص: 72 و77) ط. دار العلم، بيروت. ودرء التعارض (7/ 311) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن، فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته. فوجود كل ممكن هو من غيره" 1. ثم قال: "إما أن يتسلسل ذلك إلى غير نهاية فيكون كل واحد من آحاد السلسلة ممكن في ذاته، والجملة متعلقة بها، فتكون غير واجبة أيضاً وتجب بغيرها" 2. ففي الفقرة الأولى أشار إلىأن الممكن لا يوجد إلا لعلة تغايره. وتقريره أن الممكن إما أن تحتاج ذاته في أن تكون موجودة إلى غيرها أو لا تحتاج، والثاني باطل لاستحالة الترجيح بلا مرجح. إذن الأول حق. وفي الفقرة الثانية يريد إثبات واجب الوجود لذاته. وتقرير الكلام بعد ثبوت احتياج الممكن إلى الغير ـ أن ذلك الغير إما واجب وإما ممكن. والكلام في ذلك الممكن كالكلام في الممكن الأول، فأما أن ينتهي إلى واجب أو يدور 3 أو يتسلسل 4 إلى غير نهاية فتبين أن سلسلة الممكنات ـ على فرض وجودها ـ محتاجة إلى شيء خارج عنها 5. وهذه الطريقة كما هو ظاهر هي عقلية نظرية جدلية، ومبنية على مقدمات منطقية أعقد وأطول من مقدمات المتكلمين في مسألة "حدوث العالم" وهي مع ذلك أشد فساداً منها وأسوأ لازماً 6.   1 الإشارات والتنبيهات (3/ 20 ـ 21) . 2 المصدر نفسه. 3 الدور: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، فإذا قيل إن ممكناً هو (أ) متوقف وجوده على ممكن آخر هو (ب) ثم قيل إن (ب) الذي يتوقف وجود (أ) عليه متوقف في وجوده على (أ) آل الأمر إلى أن (أ) متوقف في وجوده على نفسه. ومعنى توقف وجوده على نفسه أن وجوده من ذاته ووجود الممكن من ذاته مستحيل كما هو الفرض. انظر: سليمان دنيا: مقدمة الإشارات (1/ 31) والجرجاني: التعريفات (ص: 94) 4 التسلسل: هو ترتيب أمور غير متناهية وأقسامه أربعة. انظر: سليمان دنيا: مقدمة الإشارات (1/ 33) وما بعدها، والجرجاني: التعريفات (ص: 49) 5 انظر: الطوسي: شرح الإشارات حاشية الإشارات والتنبيهات، وانظر: سليمان دنيا: مقدمة الإشارات (1/ 28) وما بعدها. 6 وانظر لتفصيل نقد هذه الطريقة: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 8) وما بعدها، والنبوات (ص: 73 ـ84) ، ومنهاج السنة (1/ 96) ط. جامعة الإمام، الأولى، 1406هـ، ت: رشاد سالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وهدفنا فيما يلي إن شاء الله الوقوف على تقرير الشيخ رشيد لأدلة المعرفة: الفطرية والنظرية، ومنهجه في تقريرها والاستدلال بها في معرفة الله تبارك وتعالى. وإذا كان المتكلمون يذهبون إلى أن معرفة الله تعالى نظرية، وينكرون المعرفة الفطرية الضرورية 1، فإن أهل السنة من السلف فمن بعدهم يذهبون إلى أن معرفة الله تعالى فطرية، وهم مع ذلك لا ينكرون النظر وأهميته في معرفة الله تعالى، ولكنهم يقولون بالنظر الشرعي الذي أمر به الله تعالى، لا النظر الجدلي الذي اخترعه المتكلمون وأطلقوا عليه هذا الاسم من باب المغالطة. فلدينا ـ إذن ـ مذهبان في المعرفة: مذهب المعرفة الفطرية، ومذهب المعرفة النظرية. ويعرض الشيخ رشيد هذين المنهجين ويجمع بينهما، قائلاً: "إن المسألة فطرية في الحقيقة، وإن إقامة الأنبياء والحكماء الحجج عليها هي لإصلاح فطرة من عرضت لهم الشبه فيها، كما تعرض في غيرها من الأمور الفطرية والضرورية،.. لذلك قال الله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} 2 فأشار أولاً إلى أن الإيمان به أمر ثابت في الفطرة لا موضع للشك فيه، ثم ذكر بعض صنعه الدال على قدرته وانفراده بالتأثير والتدبير وهو كونه فاطر السماوات والأرض، أي: شق وفصل بعضها من بعض.." 3. على أن النظر الذي يؤيده الشيخ رشيد رضا، مخالف لنظر المتكلمين وموافق للنظر القرآني، كما سوف يتبين إن شاء الله.   1 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص:48 و 52 ـ 54) ط. مكتبة وهبة، الأولى 1384هـ ت: عبد الكريم عثمان. 2 سورة إبراهيم، الآية (10) 3 مجلة المنار (7/ 139) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 المطلب الأول: الفطرة عند الشيخ رشيد رضا : الفطرة وإن كانت شيئاً ضرورياً نجده في نفوسنا، يدفعنا لا سيما وقت الشدة واليأس من الأسباب، إلى التوجه إلى القوة العليا التي وإن كنا لا نراها بأعيننا إلا أننا جازمون بوجودها وقدرتها على مساعدتنا. {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} 1. حتى أولئك الذين ضلوا طريق الحق وانحرف بهم السبيل، وزاغت قلوبهم وخفت عقولهم، كانت تدفعهم فطرهم إلى التوجه إلى الإله الحق عندما يمسهم الضر ويعوزهم المنقذ، وقد يئسوا من الأسباب.. {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 2، وذلك وكما يقول الشيخ رشيد: "لأن الفزع إليه سبحانه عند شدة الضيق واليأس من الأسباب مركوز في فطرة البشر" 3. ومع ذلك كله، فإننا بحاجة للوقوف على معناها لغة وشرعاً لنتصورها تمام التصور، فيتيسر لنا الحكم عليها. معنى الفطرة لغة: قال الراغب: "أصل الفَطْر الشق طولاً، يقال: فَطَرَ فلان كذا فطْراً، وأفْطَرَ هو فُطُوراً، وانفَطَرَ انفِطاراً، قال تعالى {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} 4 أي: اختلال ووهي فيه،.. وفطَرْت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، ومنه الفِطْرة، وفَطْر الله الخلقَ، وهو إيجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال، فقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ   1 سورة الإسراء، الآية (67) 2 سورة الأنعام، الآية (63 و64) 3 تفسير المنار (7/ 409) 4 سورة الملك، الآية (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 عَلَيْهَا} 1 إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي: أبدع وركز في الناس حق معرفته تعالى.. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2 وقال: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} 3 {وَالَّذِي فَطَرَنَا} 4 أي: أبدعنا وأوجدنا.. وقيل للكمأة فُطْرٌ، من حيث أنها تُفطِرُ الأرضَ فتخرج منها" 5. وقال الرازي 6: "الفِطْرَة هي الخِلْقة" 7. وقال الجرجاني: "والفِطْرَة الجِبِلَّة المتهيئة لقبول الدين" 8. وقال الضحاك "وكل شيء في القرآن الكريم: فاطر السماوات والأرض فهو خالق السموات والأرض" 9. معنى الفطرة شرعاً: وأشار الشيخ رشيد إلى أنها وردت كذلك في السنة المطهرة "كما في حديث الصحيحين وغيرهما الناطق بأن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه 10 وفي بعض رواياته: يولد على فطرة الإسلام 11،وفي بعضها: على الملة 12، ومنها حديث عياض بن حمار   1 سورة الروم، الآية (30) 2 سورة فاطر، الآية (1) 3 سورة الأنبياء، الآية (56) 4 سورة طه، الآية (72) 5 مفردات القرآن الكريم، للراغب (ص: 640) ط. دار القلم، بيروت. 6 هو محمد بن أبي بكر الرازي، ت: 660هـ انظر: الزركلي الأعلام (6/55) 7 مختار الصحاح (ص: 212) ط. مكتبة لبنان، بيروت. 8 التعريفات (ص: 147) ط. الحلبي، مصر. 9 ابن كثير: التفسير (3/ 524) ط. دار الحديث، مصر. 10 البخاري: الصحيح: ك: الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات.. ح: 1358 ـ1359 ـ مع الفتح ـ، ومسلم: الصحيح: ح: 2658 (ج: 4/ 2047) ت: عبد الباقي. 11 لم أجده مرفوعاً، وانظر: البخاري: المصدر السابق: ك: الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات (3/ 260) مع الفتح، ومسلم: الصحيح، ك: القدر ح: (22) وما بعده 12 مسلم: الصحيح: ك: القدر، ح: 23 (2658) ج:4 /2048 ط. عبد الباقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 المجاشعي المرفوع عند محمد بن إسحاق الذي ذكر فيه آدم فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالاً لا حرام فيه، فجعلوا ما أعطاهم الله حراماً وحلالاً" 1 وفي معناه آثار" 2. فاختلف السلف ـ رحمهم الله ـ في التعبير عن معنى الفطرة في ذلك، وهذا الاختلاف في الحقيقة يرجع إلى تنوع التعبير، فهو اختلاف تنوع لا تضاد، ولا تعارض بين ما ذهب إليه كل واحد منهم. فعن أحمد: أنه الدين أو الإسلام، وهو المعروف عند عامة السلف 3. وقيل: هي الخلقة على معرفة الله تعالى والإيمان به 4. وقيل: هي ما خلقهم عليه من السعادة والشقاء 5. وقيل: هي الميثاق الذي أخذ عليهم في عالم الذر 6. قال شيخ الإسلام، نافياً التعارض بين هذه الأقوال: "..وأما قول من يقول: ولدوا على فطرة الإسلام، أو على الإقرار بالصانع، وإن لم يكن ذلك وحده إيماناً، أو على المعرفة الأولى يوم أخذ عليهم الميثاق، فهذه الثلاثة لا منافاة بينها، بل يحصل بها المقصود.." 7. وعن القول الرابع، وكان يقول به أحمد ثم تركه، وهو ظاهر مذهب مالك، يقول شيخ الإسلام مفسراً له: "أئمة السنة مقصودهم من ذلك أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر ... وليس إذا   1 مسلم: الصحيح: ك: الجنة، ح: 63و64 (4/ 2197) وليس في طرقه ابن إسحاق. 2 تفسير المنار (7/ 608) 3 ابن عبد البر: التمهيد (18/ 72) ، والبخاري: الصحيح: ك: التفسير، باب: لا نبديل لخلق الله (8/372) مع الفتح. 4 ابن عبد البر: التمهيد (18/ 68) 5 المصدر نفسه (18/ 78) 6 المصدر السابق (18/ 90) 7 درء التعارض (8/ 454) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 كان الله قد كتبه كافراً يقتضي أنه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير" 1. تعريف الشيخ رشيد للفطرة: ولقد عرّف الشيخ رشيد الفطرة لغة وشرعاً، في عدة أماكن من المجلة والتفسير وغيرهما من مؤلفاته. فمن التعريف اللغوي لها؛ قوله عند تفسير قوله تعالى: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} 2: "..المراد بخلق الله دينه لأنه دين الفطرة وهي الخلقة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 3 4. وأيضاً فسرها بالصبغة، فعند قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} 5 قال: "أي: صبغتنا بما ذكر من ملة إبراهيم، صبغة الله وفطرته فطرنا عليها، وهي ما صبغ به أنبياءه ورسله والمؤمنين من عباده على سنة الفطرة" 6. وعند قوله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} 7 قال: "إلا على الذي خلقني على الفطرة السليمة من هذه البدع الوثنية التي ابتدعها قوم نوح" 8. وقال: "فطر السماوات والأرض: أي ابتدأ خلقها" 9.   1 المصدر السابق (8/ 389) 2 سورة النساء، الآية (119) 3 سورة الروم، الآية (30) 4 تفسير المنار (5/ 428) وقارن مع البخاري: الصحيح، ك: التفسير، باب: لا تبديل لخلق الله (8/ 372) مع الفتح. 5 سورة البقرة، الآية (138) 6 تفسير المنار (1/ 486) 7 سورة هود، الآية: (52) 8 تفسير المنار (12/ 115) 9 المصدر السابق (7/ 563) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وفسرها أيضاً بالجبلة: فقال: "وفطرة الله التي فطر الناس عليها هي الجبلة الإنسانية.." 1. ومن ذلك يتبين لنا أن هذه الكلمات: فطرة الله وصبغة الله، وخلقة الله، والجبلة، كلها بمعنى واحد، وهي معنى الفطرة اللغوي. وأما تعريفه الشرعي لها، فيذهب الشيخ رشيد إلى تفسير الفطرة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وفي الأحاديث الواردة فيها، كحديث "كل مولود يولد على الفطرة … " الحديث 2، بأنها الفطرة على المعرفة بالله تعالى وتوحيده، فقال بعد أن ذكر الآية والحديث بألفاظ مختلفة: "..إن الله تعالى فطر آدم عل معرفته وتوحيده وشكره وعبادته.." 3. ويقرر في موضع آخر أن التوحيد هو "مقتضى الفطرة" 4 " ويمكن استنباطه بالفطرة" 5 وكما أن الله تعالى خلق آدم على هذه المعرفة، فقد خلق بنيه كذلك، فيقول الشيخ ـ رحمه الله ـ: "خَلْقُ بني آدم مستعدين لمعرفة الله تعالى وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم، وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم، وما مُنِحُوه من العقل والفكر.." 6. ونلاحظ من هذا النص ربط الشيخ رشيد بين الفطرة والميثاق الأول، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مزيد بيان لهذا الربط. ونفهم من نصوص أخرى للشيخ رشيد، أنه يفسر الفطرة بمعنى الدين والإسلام، ولكنه دين وإسلام فطري مطلق، ويفرق بينه وبين الدين التعليمي الذي مصدره الوحي.   1 الوحي المحمدي (ص: 238) 2 سبق تخريجه. 3 تفسير المنار (7/ 608) 4 المصدر السابق (9/ 560) 5 المصدر نفسه (8/273) 6 المصدر السابق (9/ 574) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 أما تفسيره للفطرة بأنها الدين، وأن تغييرها هو تغيير الدين فأخذته من قوله: "وتغيير خلق الله وسوء التصرف فيه عام يشمل التغيير الحسي كالخصاء، ويشمل التغيير المعنوي، وقد روي عن ابن عباس وغيره أن المراد بخلق الله دينه، لأنه دين الفطرة، وهي الخلقة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 1". وأيضاً يفهم ذلك من قوله تعليقاً على قول شيخه "محمد عبده":"تغيير الفطرة الإنسانية بتحويل النفس عما فطرت عليهمن الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها على الأباطيل والرذائل والمنكرات، فالله سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وهؤلاء يفسدون ما خلق الله ويطمسون عقول الناس" " أقول: إن هذا القول هو بمعنى القول بأن المراد تغيير الدين لأن من قالوا: إنه تغيير الدين استدلوا بآية: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} كما ذكرنا آنفاً.." 2. فالفطرة هي الدين عند الشيخ رشيد، وتحويلها وتغييرها هو تغيير للدين. وأما تعريف الشيخ محمد عبده للفطرة وتغييرها فسنرجع له بعد قليل. وأما تفسير الشيخ رشيد للفطرة بأنها الإسلام فيؤخذ من قوله عند تفسيره قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3، قال: "أي بمقتضى الفطرة" 4. وعند قوله تعالى: " {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 5، فقد فسر الشيخ محمد عبده إسلام الكره بأنه إسلام الفطرة   1 تفسير المنار (5/428) 2 المصدر السابق (5/429) 3 سورة آل عمران: الآية (80) 4 المصدر السابق (3/ 394) 5 سورة آل عمران: الآية (83) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فأريد هنا أن أنبه على أمرين: أحدهما: مسألة فطرية الاستدلال، فإن الشيخ محمد عبده، شارح العقائد العضدية، إن كان يريد بالاستدلال نظم الأدلة المنطقية على طريقة المتكلمين، فيقال له: إن هذا ليس فطرياً، بل لا يحسنه إلا من يحسن الجدل، وما هو إلا بالتعلم. وإن كان يريد به:"نفس طلب العلم بالدليل والنظر فيما يدل على الشيء، فهذا مركوز في فطرة جميع الناس، فإنه ما منهم أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال، بل ومن نوع الجدال، بحسب ما هداه الله إليه من ذلك" 1. والذي يرجح عندي أنه إنما يقصد النظر والاستدلال بالمعنى الثاني، أي الفطري، قوله: "إن لم يكن ظاهر البداهة" فإن المتكلمين إنما يستدلون على ما هو ظاهر بالبداهة كحدوث الإنسان والعالم. وأما الأمر الثاني: فهو أن الاستدلال على النحو الذي فصل قبل، هو دين الفطرة، ولا ريب، إلا أنه ليس هو الفطرة كلها، وكما نقلنا عن السلف والخلف قبل قليل، أن الفطرة التي أشارت إليها آية سورة الروم، وحديث الصحيحين وغيرهما هي الدين أو الإسلام أو المعرفة بالله تعالى والإيمان به. وكما أن للفطرة سنناً أخرى جبل عليها الإنسان، وما إليها بفطرته وطبعه، فالإنسان " مدني بالطبع، ومتدين بالطبع، وبالفطرة كما يقول الإسلام" 2. تفسير آخر للفطرة عند الشيخ رشيد: وإن كنا قد رأينا الشيخ رشيد قد وافق السلف في تفسير الفطرة الشرعي، إلا أنه كان له رأي قديم، وقد عاد إليه وذكره، وقال إنه لا يخالف ما ذهب إليه في الجديد، إلا أنني رأيت من واجبي أن أقف قليلاً   1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (7439) 2 رشيد رضا: الوحي المحمدي (ص:21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 عند هذا الرأي لأنه يحتاج إلى تفصيل وتوضيح. قال الشيخ رشيد رحمه الله: "وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق والباطل، ورواية مسلم هكذا: "كل مولود تلده أمه على الفطرة فأبواه بعد يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم" وهو الذي جرينا عليه في كتابنا الحكمة الشرعية ولا تنافي.."1. والذي أريد أن أقوله: إن ظاهر كلام الشيخ يد ل على أن الناس خلقوا مستعدين للأمرين دون ميل إلى أحدهما، فإذا كان الخير وهو معرفة الله تعالى وما يتبعها، والشر هو إنكار ذلك وما يتبعه من الكفر كان الناس مخلوقين خالين من هذين، كالصفحة البيضاء التي تقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، وحينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار والتهويد والتنصير والتمجيس والإسلام، وهذا يقتضي أنها ـ أي الفطرة ـ لا تذم ولا تمدح، وهذا القول غير صحيح، فالآية تشعر بمدح هذه الفطرة، والأمر بلزومها، فلا بد أن يكون في هذه الفطرة الممدوحة ميل إلى الحق والمعرفة بالله ومحبته وعبادته، لولا المعارض المانع من ذلك، وإلا لما استحقت المدح والأمر بلزومها. "وأما إذا كان المراد بهذا القول أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر، ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة، فهذا القول قد يقال: إنه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله، فإن صاحبه يقول: في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والإيمان.."2. ويتضح من هذا النقل أن الفطرة لا بد أن تكون ميلاً إلى الحق والمعرفة حتى تكون ممدوحة، مأموراً بلزومها، وإلا لو كانت مستوية الأجزاء لامتنع مدحها لاستواء نسبتها حينئذ إلى ما استعدت إليه دون ميل منها إلى أحد أفراده. ومهما يكن من شيء فإن التعريف الصحيح هو ما   1 مجلة المنار (8/ 21) وانظر: أيضاً التفسير (9/ 574) وانظر: مسلم: الصحيح، ك: القدر، ح: 25 (2658) (4/2048) 2 ابن تيمية: درء التعارض (8/ 445) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ذهب إليه الشيخ رشيد بوضوح، لا سيما في آخر مؤلفاته ـ الوحي المحمدي ـ بأنها الدين. مفسدات الفطرة: إذا كان التوحيد هو من مقتضى الفطرة، كما أن من مقتضاها الميل إلى النظر والاستدلال، وطلب الحق بالدليل، فإن الشيخ رشيد يعتبر الشرك والتقليد من أكبر المفسدات لهذه الفطرة، فيقول: "ومن أصول الدين وأسسه الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهي إليها الأسباب وتقف دون اكننناه حقيقتها العقول، أي لمصدر هذه السلطة والتصرف في الكائنات كلها ـ وهو الله عزوجل ـ وكأن أكبر وأشد مفسدات الفطرة حصر تلك السلطة العليا في بعض المخلوقات التي يستكبرها الإنسان ويعيا في فهم حقيقتها بادئ الرأي،.. وهذا هو أصل الشرك.. ويتلو هذا الفساد والإفساد: التقليد الذي يمده ويؤيده ويحول بينه وبين العقول التي كمل الله بها فطرة البشر وبين عملها الذي خلقت لأجله وهو النظر والاستدلال لأجل التوصل إلى معرفة الحق والخير.." 1. والحق أن المشركين الذين فسدت فطرتهم إنما استندوا إلى التقليد في قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2. ويرى الشيخ رشيد أن هذا الفساد الذي يعرض للفطرة فيغيرها ويبدلها، من الممكن أن يعالج، وتعود الفطرة لسلامتها واستقامتها، وذلك باتباع دين الإسلام الذي هو دين الفطرة. 3. الفرق بين الدين الفطري والدين التشريعي: وإذا قيل الدين الفطري، وأن الإنسان يولد على الفطرة، فليس معناه أن الإنسان يولد عالماً بالشريعة، فإن هذا مما ينافيالفهم الصحيح   1 تفسير المنار (5/ 429) 2 سورة الأحزاب: الآية (23) 3 الوحي المحمدي (ص:241) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} 1. فيفرق الشيخ رشيد بين الدين الفطري والدين التعليمي الذي مصدره الوحي. "فالدين الفطري هو خلق الله وآثار قدرته، وليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل عليهم السلام فإن هذه الأحكام من كلام الله الذي أوحاه إليهم ليبلغوه وليبينوه للناس، لا مما خلقه في أنفس الناس وفطرهم عليه.."2. ويسميه أيضاً الدين المطلق ويشرحه قائلاً: "والدين المطلق الذي هو الشعور الوجداني بسلطان غيبي فوق الكون، والسنن والأسباب التي قام بها نظام كل شيء في العالم، فربُّ هذا السلطان هو فاطر السموات والأرض وما فيهما، والمصدر الذاتي للنفع والضر المحركين لشعور التعبد الفطري، وطلب العرفان الغيبي المودعين في الغريزة.."3. ونقف هنا عند قول الشيخ:"المصدر الذاتي للنفع الضر المحركين لشعور التعبد الفطري" ففيه إشارة هامة إلى أن اعتقاد النفع والضر هو المحرك للعبادة، ويجب أن نكون على ذكر منه لأننا سنرجع إليه عند الكلام عل الشرك في العبادة لا سيما الدعاء، وسنرجع أيضاً بعد قليل إلى التعبد الفطري والعبادة الفطرية، ونرى شرح الشيخ رشيد لها، وقبل ذلك نقف على العلاقة بين الدين الفطري والدين التعليمي. (أو الشرعي) العلاقة بين الدين الفطري والدين الشرعي: ويقابل هذا الدين الفطري الدين التعليمي أو التشريعي، ويعرفه الشيخ رشيد بأنه "وضع إلهي يوحيه الله إلى رسله لئلا يضل عباده بضعف اجتهادهم واختلافهم في العمل بمقتضى غريزة الدين.."4.   1 سورة النحل: الآية (78) 2 تفسير المنار (5/ 429) 3 الوحي المحمدي (ص:23) 4 المصدر نفسه (ص: 240ـ 241) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وعن العلاقة بينهما يقول الشيخ رشيد إن الدين التعليمي: "شرع لتكميل استعداد البشر للرقي في العلم والحكمة ومعرفة الله عزوجل المعدة إياهم لسعادة الآخرة، فليس فيه شيء يصادمها، فهذا الدين التعليمي حاجة من حاجّ الفطرة البشرية لا يتم كمالها بدونه، فهو لنوع الإنسان كالعقل لأفراده.."1. ويقول: " إن الدين الفطري هو الأصل الذي بني عليه الدين التشريعي 2. فالإسلام ـ مثلاً ـ ومثله كل دين ورسول أرسله الله تعالى قد "شرع لمساعدة العقل على حفظ مواهب الله تعالى في الفطرة ومنع الهوى من إفسادها وصدها عن الوصول إلى كمالها، ولذلك سمي دين الفطرة.."3. ثم يشرح لنا هذا المعنى ـ كون الإسلام دين الفطرة ـ قائلاً: "..هو أنه موافق لسنن الله تعالى في الخلقة الإنسانية لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية حقوقها ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها.."4. وإن كان هذا هو شأن الإسلام، ومثله كل دين صحيح أنزله الله، فإن الأديان المحرفة المطورة "المجددة" تبدو ـ بعد التحريف ـ وكأنها شرعت لتقاوم الفطرة الإنسانية، وتسير في اتجاه معاكس لخلقة الله تعالى، لذلك فإنها قد وجدت ردّ فعل يناسب هذا الاتجاه، وهو انصراف أصحابها عنها لا سيما ذوي العقول العصرية منهم. لقد بدل الإسلام الاعتقاد السائد بأن الأديان شرعت "لمقاومة مقتضى الخلقة وأن أصوله فوق قضايا العقول وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها نعيم الدنيا، وأنه لا حق لصاحب الدين في طلب الدليل.. أما القرآن فقد أتى على مثل هذه القواعد التقليدية فنسفها نسفاً وبين للناس أن الدين مع الفطرة في قرن، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة،   1 المصدر نفسه. 2 المصدر نفسه. 3 تفسير المنار (8/ 253) 4 مجلة المنار (8/ 18ـ 21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وضعفه هو ضعف الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة.." 1. وكذلك فإن معنى ولادة كل مولود عل الفطرة " أنه يولد مستعداً للارتقاء بالإسلام الذي يسير به على سنن فطرته التي خلقه الله عليها.. وإن كان له أبوان … على غير ملة الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة.."2، ويعنى أنهما يفسدان فطرته الاستعدادية بتلقينه ديناً محرفاً منسوخاً بدلاً من إكمالها" 3. العبادة الفطرية: وإذا كان الدين التعليمي التشريعي يشتمل على عبادات تشريعية الوضع، فهل يشمل الدين الفطري على عبادة فطرية كذلك؟ وما هي العبادة الفطرية؟ ويجيب الشيخ رشيد عن هذين السؤالين بالإثبات، فيرى أن الدين الفطري الذي هو الشعور الوجداني بسلطان غيبي فوق الكون.. يشتمل على عبادة فطرية هي: "التوجه الوجداني إلى هذا الرب الغيبي في كل ما يعجز الإنسان عنه من نفع يحتاج إليه، ويعجز عنه بكسبه ودفع ضر يمسه، أو يخافه، ويرى أنه يعجز عن دفعه بحوله وقوته، وفي كل ما تشعر فطرته باستعداده لمعرفته، والوصول إليه مما لا نهاية له.. وإنما روح العبادة الفطرية ومخها هو دعاء ذي السلطان العلوي، والقدرة الغيبية التي هي فوق ما يعرفه الإنسان ويعقله في عالم الأسباب، ولا سيما الدعاء عند العجز وفي الشدائد، قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" 4 هكذا بصيغة الحصر، أي هو الركن المعنوي الأعظم منها.."5.   1 المصدر نفسه، نفس الموضع. 2 المصدر السابق: نفسه. وقارن مع: ابن تيمية: درء التعارض (8/ 461) 3 الوحي المحمدي (ص:241) 4 الترمذي: السنن: ك: التفسير، ح: 2969 وقال: هذا حديث حسن صحيح (5/ 211) وابن ماجه، ك: الدعاء، باب1، ح: رقم: 3828، (2/ 1258) وقال الألباني: صحيح. 5 الوحي المحمدي (ص:239ـ 240) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ولذلك ـ وكما يقول الشيخ رشيد ـ: "فقد ذكر الدعاء في القرآن أكثر من سبعين مرة، بل زهاء سبعين بعد سبعين مرة، لأنه روح العبادة ومخها، بل هو العبادة التي هي دين الفطرة كله، وما عداه من العبادات فوضعي تشريعي من تعليم الوحي، فهو يغذيها وينقيها من شوائب الآراء وينفي عنها تقاليد الأهواء.." 1. فوظيفة العبادة التشريعية هي ما ذكر الشيخ رشيد، من تقوية الشعور الفطري، وتنقية العبادة الفطرية مما قد يشوبها من الآراء والتوجهات الفاسدة المفسدة لها، بسبب الجهل أو التقليد الأعمى. ونلاحظ في تعريف الشيخ رشيد للدين المطلق أو الفطري، أنه يفسر لنا سبب هذا التوجه الفطري بالدعاء إلى فاطر السماوات والأرض، بأنه الاعتقاد بأنه المصدر الذاتي للنفع والضر المحركين لشعور التعبد الفطري، وهو الدعاء 2. وهي ملاحظة هامة، سنرجع إليها إن شاء الله تعالى عند الكلام على مباحث الألوهية. ويؤيد ما ذهب إليه الشيخ رشيد من تقرير هذه العبادة الفطرية، ما ذكره الله تعالى في كتابه عن الناس عامة وعن المشركين أيضاً، من أنهم يلجأون إليه عند يأسهم من الأسباب، وقربهم من الهلاك 3. الفطرة والميثاق: ويربط الشيخ رشيد بين الفطرة والعهد الإلهي، أو الميثاق الأول، الذي أخذه الله تعالى على بني آدم، بربوبيته تعالى لهم، وإقرارهم بذلك. فعند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ..} 4 قال:   1 الوحي المحمدي (ص: 171) 2 راجع (ص:445) من هذا البحث. 3 انظر مثلاً: سورة الإسراء، الآية (67) 4 سورة البقرة، الآية (27) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 "..هذا هو القسم الأول من العهد الإلهي، وهو العام الشامل، والأساس للقسم الثاني المكمل الذي هو الدين، فالعهد فِطري خَلقي، وديني شرعي، فالمشركون نقضوا الأول؛ وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقه نقضوا الأول والثاني جميعاً.. والله تعالى وثق العهد الفطري بجعل العقول بعد الرشد قابلة لإدراك السنن الإلهية في الخلق، ووثق العهد الديني بما أيد به الأنبياء من الآيات البينات.. وقد وثق العهد الأول بالعهد الثاني أيضاً.." 1. وقد فسر الشيخ رشيد هذا العهد الفطري على البشر بقوله: "فعهد الله هو ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس بالنظر والاعتبار والتجربة والاختبار أو العقل والحواس ... ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالاً صحيحاً.." 2. فعهد الله هو العقل والحواس السليمة التي وهبها الله تعالى للناس ليفهموا بها سننه في الخلق والكون فيهتدوا بسببها، إلى الإيمان، وليس قولاً ورداً وقبولاً. ويتضح لنا ذلك الرأي أكثر، عند تفسير آية سورة الأعراف الآتية، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 3، قال الشيخ رشيد: "هذه الآيات سياق جديد في شؤون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرهم وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره.." 4. ويشرح الشيخ رشيد هذا الميثاق الفطري فيقول: "والمعنى: واذكر أيها   1 تفسير المنار (1/ 242) 2 المصدر نفسه (1/ 242) 3 سورة الأعراف، الآيات (172، 173) 4 تفسير المنار (9/ 386) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الرسول.. ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطناً بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وأن فوق العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات سلطاناً أعلى على جميع الكائنات، هو الأول والآخر، وهو المستحق للعبادة وحده.." 1. ويبدو واضحاً أن الشيخ يرى أن هذا الميثاق كان إرادة كونية وخِلقة طبيعية، خلق عليها الناس، وفطروا على إقرارها، كقانون السببية، الذي هو أساس الاعتقاد البشري الفطري بوجود الخالق. وليس هذا الميثاق والحوار والسؤال والجواب وحياً قولياً، ولا كان الجواب بلسان المقال، بل بلسان الحال، ويصرح الشيخ بذلك قائلاً: "أي: أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداد عقله قائلاً قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتلقين، ألست بربكم؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا" 2. وبهذا يميل الشيخ رشيد إلى أحد القولين في تفسير هذا الميثاق، وهو الرأي القائل، بأن استخراج الذرية، هو خلقه تعالى لها جيلاً بعد جيل، على ترتيبهم في الوجود، على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، ودلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل 3.   1 المصدر نفسه (9/ 387) 2 المصدر نفسه (9/ 387) 3 انظر: أبو السعود: إرشاد العقل السليم (3/ 290) ، وصديق حسن خان: فتح البيان (3/ 452) ، وناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن (3/ 56) ، ومحمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان (2/300) ، النسفي: مدارك التأويل (2/ 85) ط. دار إحياء الكتب العربية، مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأما الرأي الثاني، وهو المؤيد بالأحاديث المرفوعة والموقوفة فهو: "أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق.." 1. وهذا الرأي الذي مال إليه الشيخ رشيد قائلاً: "هذا ما يتبادر فهمه من الآيات لذاتها.." 2 قد قال به من قبله بعض السلف، ومن القائلين به: شيخ الإسلام ابن تيمية 3 وابن القيم 4. والعلة من هذا الإشهاد عند الشيخ رشيد ـ ومعه أصحاب هذا الرأي ـ "..أي: فعلنا هذا منعاً لاعتذاركم أو احتجاجكم يوم القيامة بأن تقولوا إذا أنتم أشركتم: إنا كنا غافلين عن هذا التوحيد للربوبية وما يستلزمه من توحيد الإلهية بعبادة الرب وحده … والمراد أن الله تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم كما أنه لم يقبل منهم الاعتذار بالجهل، بعدما أقام عليهم من حج الفطرة والعقل" 5. ولقد ذكر الشيخ رشيد الرأي الثاني، وأشار إلى أن الأحاديث التي تؤيده موقوفة، وأنها "كانت موضوع بحث ومناقشة بين علماء المعقول والمنقول.." 6. ومن واجبي الآن أن أبين للقراء، أن الرأي الثاني هو الصواب، وهو   1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (8/ 482) ، وحاشية محمد رشاد سالم (8/ 482) و483) ، وانظر: أحمد شاكر: المسند (4/ 151) بالحاشية. وانظر: الطبري: جامع البيان (13/ 222) ت: محمود وأحمد شاكر، وصديق حسن خان: المصدر السابق، وأبو السعود: المصدر السابق، والجمل: الفتوحات الإلهية (2/ 207) ،والنسفي: المصدر السابق، ومحمد الأمين الشنقيطي: المصدر السابق. 2 تفسير المنار (9/ 388) 3 درء التعارض (8/ 482 ـ 485) 4 الروح (ص: 250 ـ 265) 5 تفسير المنار (9/ 387 ـ 388) 6 المصدر السابق، وانظر: مصادر حاشية رقم (2) في الصفحة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الذي يدل عليه ظاهر القرآن، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، المرفوعة والموقوفة، ومنها وأصرحها حديث ابن عباس 1 وقد صح مرفوعاً، فوجب المصير إليه وطرح ما سواه. ومما يؤيد المرفوع الآثار الموقوفة 2 وعدم بيان الميثاق في بعض الأحاديث ليس مستلزماً لعدمه، وعليه فإن قوله تعالى {أَنْ تَقُولُوا} مسقط لعذر الغفلة والنسيان، لأنه متعلق بفعل مضمر يقتضيه الكلام، والمعنى: فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيان كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا عن ذلك الميثاق غافلين لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه 3، وأما سبب نسيانه، فلأن "تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها بمرور الزمان عليها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات.." 4. وقد روي عن بعض السلف، أنه كان يذكر ذلك العهد والميثاق 5. استدلال الشيخ رشيد بالفطرة: واستدل الشيخ رشيد ـ بعد تعريفه للفطرة، وتفسيره لها، بالفطرة، على وجود الله تعالى ومعرفته، واعتبرها دليلاً أصيلاً يحال عليها في هذه المسألة، وأجاب عن الاعتراضات الواردة على هذا الدليل. فاستدل أولاً لها من الكتاب العزيز؛ فقال: "..ويدل عليه ما جاء في القرآن من محاجة الأنبياء لأقوامهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ   1 انظر: تعليق أحمد شاكر على الطبري (13/ 222) حاشية، وتعليقه على المسند (1/ 151) حاشية 2 انظر هذه الآثار عند الطبري: جامع البيان (13/ 222 ـ 250) وتعليق الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ عليها. 3 أبو السعود: المصدر السابق (3/ 291) 4 انظر: الجمل: الفتوحات الإلهية (2/ 209) . 5 الجمل: المصدر نفسه، وصديق حسن خان: فتح البيان (3/ 457) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ..} 1 فجواب الأمم لأنبيائهم عن قولهم {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} بقولهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} يدل على أنهم لميكونوا شاكين في وجود الله تعالى وإنما شكهم في النبوات.." 2. ويستدل الشيخ أيضاً بالاستقراء التاريخي، "فإنه لم توجد أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب إلا وهو يعتقد بإله للكون وموجد للعالم" 3. وبناءً على ذلك "فقد ذهب بعض العلماء والحكماء إلى أن معرفة الله تعالى فطرية في البشر لا حاجة بهم إلى الاستدلال عليها، لولا ما أحدثته اصطلاحات العلوم والفنون من البحث في الضروريات والبدهيات" 4. فإذا قيل: إذا كان الدين ومعرفة الله تعالى ضرورية فطرية، فكيف وجد من الناس من أنكر وجود الخالق، فلو كان هذا الاعتقاد فطرياً ضرورياً في البشر لما وجد من ينكره، ويجيب الشيخ قائلاً: "والجواب الصحيح: أن هؤلاء الشّذاذ قد أصابهم مرض في عقولهم خرج بهم عن مزاج الفطرة المعتدل بالنسبة لهذه العقيدة، والعقول تمرض كما تمرض الأجسام" 5. ".. ويحال شذوذهم على مرض عرض لهذا الشعور الفطري كما يعرض للإحساس بالحلاوة مرض يمنع من إدراكها" 6. وإذا كان الإيمان بالله تعالى فطرياً، فالدين حاجة من حاجات البشر الضرورية، وأما الإلحاد والتعطيل فهو "نقص في الفطرة والخلقة، أليس يولد   1 سورة إبراهيم، الآيات (9ـ 10) 2 مجلة المنار (2/ 523) 3 المصدر نفسه. 4 مجلة المنار (7/138) 5 المصدر نفسه (2/523) 6 المصدر نفسه (7/138) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 المطلب الثاني: النظر في الملكوت : لقد دعا الله تبارك وتعالى عباده إلى النظر وإعمال الفكر والعقل، لكي يتوصلوا إلى الحقائق العليا في هذه الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فالنظر والتأمل والفكر من وسائل المعرفة وطرائقها، "ألا وإن أعلى العلوم العقلية والمعارف الروحية في هذه الدنيا هو معرفة الله سبحانه وتعالى والعلم بمظاهر أسمائه وصفاته في خلقه والوقوف على سننه وأسراره فيها، وكشف الحجب عما أودع الله فيها من الجمال والجلال ... " 1. ولقد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز، وهو آياته المنزلة، شيئاً كثيراً من آياته المخلوقة في الكون والإنسان، وبين ما فيها من سنن وآيات ترشد إلى معرفة الله تعالى بصفاته العليا، من قدرة وحكمة وعلم وإرادة.. " وما زال أصحاب الهمم العالية من العلماء والحكماء يستدلون بما ظهر لهم من تلك السنن والآيات على كمال مبدعها ومبدئها ومصرفها، وتتطلع عيون عقولهم إلى كيفية صدور الوجود الممكن الحادث (وهو مجموع هذه العلوم العلوية والسفلية) عن الوجود الأزلي الواجب.." 2. ولقد نعى الله تعالى على الذين لا يستخدمون حواسهم من سمع وبصر، في التأمل والتدبر، وفهم آيات الله الكونية والشرعية. قال تعالى عن هؤلاء الغافلين: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3. " أي لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله في خلقه، وفيما يسمعون من آيات الله المنزلة على رسله.. فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وأخراهم. {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} أي: عن آيات الله في الأنفس والآفاق التي تهدي إلى معرفة العبد نفسه وربه" 4.   1 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (9/ 150) 2 المصدر نفسه. 3 سورة الأعراف: الآية (179) 4 تفسير المنار (9/ 426) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ولكن ما حقيقة النظر الذي يدعو إليه ربنا تبارك وتعالى، وما الفرق بينه وبين النظر الذي أوجبه المتكلمون، وقالوا: إنه الطريق الوحيد لمعرفة الله تعالى؟ تعريف الشيخ رشيد للنظر والفكر: أما الفكر فيقول عنه:"وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته، وحكمته ورحمته" 1، قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} 2. وأيضاً فإن استعمال القرآن لكلمتي الفكر والتفكير يدل "على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات" 3. أما عن النظر فيقول: ".. واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} 4. إلخ. وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} 5إلخ. ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات.."6. فالفكر يكون في العقليات المحضة أو التي مبدأها الحس، أما النظر فمبدأه هو النظر الحسي في الملكوت والآيات فهذا هو النظر وهذا هو محله، وليس القضايا الجدلية، والأقيسة المنطقية الجافة، والفروض الذهنية المجردة، والذين يذهبون إلى هذا النظر معتقدين أنه يؤدي إلى معرفة الله واهمون، يقول الشيخ رشيد واصفاً هؤلاء بأنهم "الواهمون أن معرفة الله   1 المصدر نفسه (9/ 460) 2 آل عمران، الآية (191) 3 المصدر نفسه. 4 سورة الغاشية: الآيات (17ـ 20) 5 سورة: ق الآية (6) 6 تفسير المنار (9/ 460ـ 461) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 تقتبس من الجدليات النظرية، والأقيسة المنطقية دون الدلائل الوجودية الحقيقية، ولو كان زعمهم حقيقة لا وهماً لكان الله سبحانه قد استدل في كتابه بالأدلة النظرية الفكرية، وذكر الدور والتسلسل وغير ذلك من الاصطلاحات الكلامية، ولم يستدل بالسماء والأرض والليل والنهار والفلك والمطر وتأثيره في الحياة، وغير ذلك من المخلوقات التي ارشدا القرآن إلى النظر فيها.."1. وهذا هو النظر الشرعي، فإنه إذا قيل: هل النظر واجب، قلنا النظر الواجب هو النظر الشرعي، أي الذي أمر به الشرع وليس النظر الاصطلاحي الذي اصطلح عليه المتكلمون 2. فالنظر القرآني نظر عقلي يخاطب العقول السليمة المنتجة، وهو نظر شرعي لأن الشرع أرشد إليه وأمر به 3. ومحل هذا النظر الشرعي هو الكون وما فيه من مخلوقات متنوعة برية ومائية وسماوية وأرضية، ليلية ونهارية، مما لا ينقضي العجب من تنوعها وتعددها، ولكل خلق منها نظام وقوانين وأعراف: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 4. فهذا هو محل النظر والاعتبار وليس القضايا المنطقية الجافة. "نعم إن هذا الكون هو كتاب الإبداع الإلهي المفصح عن وجود الله وكماله وجلاله وجماله، وإلى هذا الكتاب الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 5 وبقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ   1 المصدر نفسه (2/ 64) 2 انظر: ابن تيمية: النبوات (ص:70) 3 المصدر نفسه (من ص: 70ـ 73) 4 سورة الأنعام: الآية (38) 5 سورة الكهف: الآية (109) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 1.فكلمات الله في التكوين باعتبار آثارها ومصداقها هي آحاد المخلوقات والمبدعات الإلهية، فإنها تنطق بلسان أفصح من لسان المقال.. ألا إن لله كتابين: كتاباً مخلوقاً وهو الكون، وكتاباً منزلاً وهو القرآن، وإنما يرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك.." 2. لذلك ـ وكما يقول رشيد رضا ـ " إن أجدر الناس بقوة الإيمان بالله تعالى علماء الطبيعة الواقفون على ما لا يعرفه غيرهم من علماء الدين بنظام الكون وآيات الله تعالى فيه. وهم العلماء المشار إليهم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 3 فلا ريب أن المراد هنا العلماء بآياته تعالى وحكمه في نظام هذه الكائنات المذكورة في الآيات" 4. وكانت القسمة التي ذكرها رشيد رضا من أن لله كتابين أحدهما كتاب الكون المخلوق والآخر الكتاب المنزل غير المخلوق، تقتضي أن يدخل في هذه الآية أيضاً علماء الدين الذين يرشدون علماء الكون إلى آيات الله تعالى كما قال رشيد رضا: "إنما يرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك" 5. وينتقل بنا القرآن الكريم من هذا الإجمال والأمر العام بالنظر والفكر، إلى تفصيلات وجزئيات في الخلق، مما نلمسه ونشاهده في حياتنا اليومية، من آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسنا، مما قد نغفل عنه لتكراره أمام عيوننا، فيدفعنا إلى النظر فيه ويلفت انتباهنا إلى ما أودع فيه من الآيات التي تُورث الناظر فيها اليقين التام والمعرفة الحق بالخالق ووحدانيته وربوبيته   1 سورة لقمان: الآية (27) 2 تفسير المنار (2/ 64) وقارن مع ابن الوزير: البرهان الساطع (ص: 70 وما بعدها) 3 سورة فاطر، الآية (27 و28) 4 مجلة المنار (13/ 914) وانظر أيضاً: مجلة المنار (2/ 404) وهذا الحصر غير مسلم، يدخل معهم العلماء بآيات الله المنزلة، وقد كان الصحابة أكمل الناس إيماناً ولم يكونوا من علماء الكون. 5 تفسير المنار (2/ 64) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ورحمته وحكمته وسائر صفاته، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1 ويفسر لنا رشيد رضا هذه الآية قائلاً: "هذه آية قرآنية تشرح لنا بعض الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله تعالى ورحمته الواسعة إثباتاً لما ورد في الآية قبلها من هذين الوصفين له تعالى 2 على طريقة القرآن في قرن المسائل الاعتقادية بدلائلها وبراهينها.. وهذه الآيات أجناس: (الأول والثاني) منها: خلق السماوات والأرض، ففيه آيات بينات كثيرة الأنواع يدهش المتأملين بعض ظواهرها، فكيف حال من اطلع على ما اكتشف العلماء من عجائبها.." 3. ثم يفصل القول في السماء وحدها فيقول: "تتألف هذه الأجرام السماوية من طوائف يبعد بعضها عم بعض بما يقدر بالملايين وألوف الملايين من سني سرعة النور، ولكل طائفة منها نظام كامل محكم، ولا يبطل نظام بعضها نظام الآخر، لأن للمجموع نظاماً عاماً واحداً يدل على أنه صادر عن إله واحد لا شريك له في خلقه وتقديره وحكمته وتدبيره.." 4. ثم يتحول إلى الأرض وآياتها فيقول: "هذه هي السماوات نشير إلى آياتها عن بعد {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} 5 ومادتها وشكلها وعوالمها المختلفة من جماد ونبات وحيوان، فلكل منها نظام عجيب وسنن إلهية مطردة في تكوينها.." 6.   1 سورة البقرة، الآية (164) 2 يعني قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} سورة البقرة، الآية (163) 3 تفسير المنار (2/ 57 ـ 58) 4 المصدر السابق والصفحة. 5 سورة الذاريات، الآية (20) 6 تفسير المنار (2/ 57 ـ 58) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ثم ينتقل إلى بقية الآيات، المذكورة في الآية، قائلاً: " (والجنس الثالث) قوله {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وهو أن يجيء أحدهما فيذهب الآخر، ويطول هذا فيقصر ذاك.. وتفصيل ذلك مشروح في محله من العلم الخاص بهذه المسائل. وفي المشاهد من اختلاف الليل والنهار والفصول من آيات بينات على وحدة مبدع هذا النظام المفرد ورحمته بعباده يسهل على كل أحد أن يفهمها وإن لم يعرف أسباب ذلك الاختلاف وتقديره 1. وفي اختلاف الليل والنهار من المنافع العامة ما ذكره الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} 2 وفي معناها آيات أخرى. وإلى المنافع الدينية أشار قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} 3. (الجنس الرابع) قوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} .. وأما كون الفلك آية فلا يظهر بادي الرأي كما يظهر كونها رحمة من قوله {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} أي: في أسفارهم وتجاراتهم.. فكل ذلك يجري على سنن إلهية مطردة منتظمة تدل على أنها صادرة عن قوة واحدة هي مصدر الإبداع والنظام وهي قوة الإله الواحد الحكيم، الرحمن الرحيم. (الجنس الخامس) قوله {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} .. ونزول المطر من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى نقل، ولا نظر عقل، وقد شرح كيفية تكوينه ونزوله العلماء الذين تكلموا في الكائنات، ووصفوا بالتدقيق الآيات المشاهدات، ولم يخرج شرحهم الطويل عن الكلمة الوجيزة في بعض الآيات التي ذكر فيها المطر وهي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} .. وقد وصف الله   1 المصدر السابق والصفحة. 2 سورة الإسراء، الآية (12) 3 سورة الفرقان، الآية (62) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 تعالى هذا الجنس من آياته بأعظم آثاره فقال: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي أوجد بسببه الحياة في الأرض الميتة.. فبالماء حدثت حياة الأرض بالنبات.. الظاهر والمراد أولاً بالذات الإحياء الأول المشار إليه بقوله تعالى في آية أخرى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1. وأما الإحياء المستمر المشاهد في كل بقاع الأرض دائماً فهو المشار إليه بمثل قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 2..فحياة الأحياء في الأرض إنما هي بالماء سواء في ذلك الإحياء الأول عند تكوين العوالم الحية وإيجاد أصل الأنواع، والإحياء المتجدد في أشخاص هذه الأنواع … هذا هو الماء في كونه مطراً وفي كونه سبباً للحياة وهو آية في كيفية وجوده وتكونه، فإنه يجري في ذلك على سنة إلهية حكيمة تدل على الوحدة والرحمة، ثم إنه آية في تأثيره في العوالم الحية أيضاً، فإن هذا النبات يسقى بماء واحد هو مصدر حياته، ثم هو مختلف في ألوانه وطعومه وروائحه، فتجد في الأرض الواحدة نبتة الحنظل مع نبتة البطيخ، متشابهتين في الصورة متفاوتتين في الطعم، وتجد النخلة وتمرها ما تذوق حلاوة ولذة، وتجد في جانبها شجرة الليمون الحامض والنارنج وثمرها ما تعرف حموضة وملوحة، وتجد بالقرب منها شجرة الورد لها من الرائحة ما ليس للنخلة.. فتلك السنن التي يتكون بها المطر وينزل جارية بنظام واحد دقيق، وكذلك طرق تغذي النبات بالماء هي جارية بنظام واحد، فوحدة النظام وعدم الخلل فيه تدل على أن مصدره واحد، فهو من هذه الجهة يدل على الوحدانية الكاملة، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع والمرافق يدل على الرحمة الإلهية الشاملة، وقل مثل هذا فيما بث الله تعالى في الأرض من كل دابة، فإنها آيات على الوحدة، ودلائل وجودية على عموم الرحمة.. هذه الأجناس كلها إن فيها {آيَاتٌ   1 سورة الأنبياء، الآية (30) 2 سورة الحج، الآية (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإنهم هم الذين ينظرون في أسبابها ويدركون حكمها وأسرارها، ويميزون بين منافعها ومضارها، ويستدلون بما فيها من الاتقان والإحكام، والسنن التي قام بها النظام، على قدرة مبدعها وحكته وفضله ورحمته، وعلى استحقاق العبادة دون غيره من بريته.. وإنما يشرك بالله أقل الناس عقلاً، وأكثرهم جهلاً.." 1. وقد أطلت النقل هنا عن الشيخ رشيد رضا لشيئين: الأول: لتعرف الفرق بين النظر الذي أرشد إليه القرآن وبين نظر المتكلمين. والثاني: الوقوف على قدرة الشيخ رشيد في إيضاح ذلك، وبلاغته وحسن بيانه. ولم يترك الشيخ رشيد الفرصة ههنا، فينعى على المسلمين، لا سيما علماء الدين منهم، تقصيرهم في دراسة العلوم المتصلة بهذه الآيات 2. وكل ما ذكر في هذه الآية وتفصيل شرحها، وهو يتضمن نوعين من الدلالات، دلالة الاختراع أو الخلق، ودلالة العناية.3. ولا تنحصر طرق القرآن في هاتين الدلالتين كما زعم بعضهم 4. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} 5.قال الشيخ رشيد: "الملكوت الملك الأعظم.. والمراد بملكوت السماوات والأرض مجموع العالم، لأن الاستدلال به على قدرة الله وصفاته ووحدانيته أظهر، فإن العالم في جملته لا يمكن أن يكون قديماً أزلياً، ولا نزاع بين علماء الكون في إمكانه ولا في حدوث كل شيء منه وإنما يختلفون في مصدره … وهو لا يمكن أن يكون من عدم محض، لأن العدم المحض لا حقيقة له في الخارج بل هو أمر فرض فلا يعقل أن يصدر عنه وجود ـ ولا يمكن أن يكون بعضه قد أوجد البعض الآخر، وهذا   1 تفسير المنار (2/ 59 ـ 63) 2 المصدر نفسه (2/ 64) . 3 ابن رشد: مناهج الأدلة (ص: 150) الأنجلو مصرية، ت: د. محمد قاسم. 4 انظر: رد هذا القول عند ابن تيمية: درء التعارض (9/ 330) 5 سورة الأعراف، من الآية (185) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 بديهي، ولذلك لم يقل به أحد، فلا بد إذاً من أن يكون صادراً عن وجود آخر غيره وهو اله واجب الوجود" 1. وإذا كانت البعرة تدل على البعير، والأثر على المسير، أفلا يدل هذا الملكوت العظيم على أن "مصدره واحد وتدبيره راجع إلى علم عليم واحد وحكمة حكيم واحد، سبحانه وتعالى، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} 2 3. وتكرر الأمر بالنظر أيضاً، مع توجيهه إلى آيات الكون، في سورة أخرى، هي سورة يونس، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... } 4 والمعنى، كما يشرحه رشيد رضا: "..انظروا بعيون أبصاركم وبصائركم ماذا في السماوات والأرض من آيات الله البينات والنظام الدقيق العجيب في شمسها وقمرها وكواكبها ونجومها وبروجها ومنازلها وليلها ونهارها وسحابها ومطرها وهوائها ومائها وبحارها وأنهارها وأشجارها وثمارها.. ففي كل من هذه الأشياء التي تبصرون آيات كثيرة تدل على خالقها وقدرته ومشيئته وحكمته، ووحدة نظامه في جملتها وكل نوع منها هو الآية الكبرى على وحدانيته في ربوبيته وألوهيته.." 5. هذه آيات الله فيما حولنا، من أجزاء الكون وظواهره، وأما أنفسنا التي بين جنوبنا، فلها شأن آخر، فيقول السيد رشيد بعد كلامه السابق مباشرة: ".. ثم انظرو ماذا في أنفسكم منها، كما قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 6 7 وقد تعرض آفات للناظر في هذه الآيات، الآفاقية والنفسية، فتحول بينه وبين النتيجة المطلوبة من هذا   1 تفسير المنار (9/ 457) 2 سورة الطور، الآيتان (35 و36) 3 تفسير المنار (9/457) 4 سورة يونس، الآية (101) 5 تفسير المنار (11/ 486) 6 سورة الذاريات، الآية (20) 7 تفسير المنار (11/ 486) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 النظر، منها: أن الناظر قد تشغله الصنعة الجميلة الدقيقة، فيذهب في مسالكها وطرقها حتى تأخذ به إلى مكان بعيد، فينسى صانعها سبحانه، ويذهل عن صفاته ووحدانيته. لذلك فإن الله تعالى قرن في سورة آل عمران بين النظر والفكر والذكر، حتى تكمل الفائدة. وهو ما أشار إليه الشيخ رشيد 1. ومنها أيضاً: الاشتغال بالانتفاع بها في هذه الحياة الدنيا من غير ملاحظة كونها آيات دالة على أن لها رباً خالقاً مدبراً عليماً حكيماً.. 2. فهذه آفات قد تعرض للناظر، الذي تجاوز الغفلة، ولكن يقعد به الشيطان في بعض الطريق ليصده عن السبيل؟ هذا وقد قام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ ببيان حكمة الله تعالى في الخلق، في الأنفس والآفاق، وعجائب المخلوقات، وأسرارها، بياناً دقيقاً مستوعباً، فتناول أعضاء الإنسان عضواً عضواً، وأطوار خلقه، ثم عجائب خلق السماوات وما فيها من مخلوقات، وسائر آيات الله في الكون 3، وما لم نعلمه من ذلك أكثر {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} 4.   1 المصدر نفسه ((4/ 299) 2 المصدر السابق نفسه (9/ 428) 3 انظر: ابن القيم: مفتاح دار السعادة (1/243) وما بعدها 4 سورة الإسراء، من الآية (85) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 المطلب الثالث: الرسل وآياتهم : ومن أدلة معرفة الله تعالى، دليل "تصديق الأنبياء" أو دليل "المعجزة". وهذا الدليل مما يفارق به أهل السنة المتكلمين في أدلة معرفة الله تعالى، فبينما يعتمده أهل السنة 5، يرفضه المتكلمون الفلاسفة، لأنه دليل   5 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (7/ 302) و (9/ 41ـ 45) ، وابن القيم: مختصر الصواعق: (ص: 160) ، ط. دار الكتب العلمية، وابن الوزير: إيثار الحق (ص: 53 ـ 55) ، والبرهان القاطع (ص: 36 ـ37) ط. المطبعة السلفية، مصر 1349هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 سمعي 1 ولأن الله تعالى قبل معرفته يجوز أن يظهر المعجزة على يد الكاذب 2. والحق أنه دليل صحيح، دل عليه الكتاب العزيز في مواضع، وعليه آمن أكثر البشر. يقول ابن الوزير 3: "..فالنبوات وآياتها البينة ومعجزاتها الظاهرة وخوارقها الدامغة؛ أمر كبير وبرهان منير ما طرق العالم له معارض البتة، خصوصاً مع قدمه وتواتره،.." 4. ويُستدل لصحة هذا الدليل من الكتاب العزيز، بقصة موسى مع فرعون، فقد كان فرعون منكراً للرب تعالى، إما حقيقة، أو ادعاءً، وطلب آية من موسى، فأخرج له موسى آيته دليلاً على ربوبية الله تعالى وتصديقاً لرسالته جميعاً 5. وأيضاً يستدل لصحة هذا الطريق، بقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 6. "فهؤلاء لم يتلبثوا بالإيمان الذي يدعوهم إليه الأنبياء.. بل بادروا وسارعوا إليه.. ويحتمل أن يكونوا سمعوا دعوة الرسول وآمنوا به ثم نظروا وتفكروا.." 7.   1 انظر: ابن رشد: مناهج الأدلة (ص: 134) 2 انظر: ابن الوزير: البرهان القاطع (ص: 38) 3 هو: محمد بن إبراهيم بن الوزير اليماني، من المجتهدين من أعيان اليمن. الزركلي (5/ 301) وانظر: البدر الطالع (2/ 81 ـ93) 4 إيثار الحق (ص: 53) 5 ابن تيمية: درء التعارض (9/ 41) وابن الوزير: البرهان (ص: 37) 6 سورة آل عمران: الآية (193) 7 تفسير المنار (4/ 302) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وفي هذه الآية هذا الدليل بعد الإشارة، إلى النظر والفكر في ملكوت السموات والأرض، وأن خلقهما لا يكون باطلاً ولا عبثاً، فهذا ذكر للدليل السمعي بعد الدليل العقلي 1. وتقرير هذا الدليل: أن تصديق الرسل بالمعجزات وغيرها من قرائن الأحوال وثبوت رسالتهم يتضمن إثبات المرسل لهم، وأنه أحدث هذه الآيات تصديقاُ لهم، وذلك أن هذه الآيات تدل على خالقها كدلالة سائر الآيات الكونية، فانقلاب العصا حية، والإتيان بكتاب خارج عن قدرة الجن والإنس على رجل أمي، أعظم من دلالة المشاهد المعتاد، كخلق الإنسان من نطفة 2. ونقول: بالمعجزة وغيرها، لئلا يلزمنا ما اعترض به المتكلمون على هذا الدليل، فإن النبوة إنما تثبت بها وبغيرها 3. ولقد اعتمد الشيخ رشيد رحمه الله هذا الدليل السمعي، وذهب إليه وقرره في عدة مواضع. فبشكل عام يقرر الشيخ رشيد: " أن الله تعالى لم يؤيد رسله بما أيدهم به من معجزات إلا لتكون حجة لهم على أقوامهم يهتدي بها المستعدون للهداية، وتحق بها الكلمة على المعاندين" 4. ثم ينتقل إلى تفصيل أكثر، وأصرح، فعند قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} 5 يقرر أن الآيات هنا "بمعنى الدلائل والبينات من براهين عقلية نظرية كانت أو علمية أو كونية كآياته تعالى في الأنفس   1 انظر: أبو السعود: إرشاد العقل السليم (2/ 131ـ 132) 2 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (7/ 307) و (9/ 41ـ45) وابن الوزير: إيثار الحق على الخلق (ص: 53ـ 55) وابن القيم: مختصر الصواعق (ص:160) 3 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (9/ 40) ، وابن الوزير: البرهان الساطع (ص:51) وما بعدها. 4 الوحي المحمدي (ص: 211و 81) 5 سورة الأعراف، الآية (146) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 والآفاق، ومنها معجزات الأنبياء عليهم السلام، وأظهرها وأقواها القرآن العظيم، من حيث هو دال على صدق النبي الأمي في دعوى الرسالة.." 1. ويولي الشيخ رشيد نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أكبر قدر من العناية في هذه الناحية، وكما أنه يعتبر القرآن، الآية الكبرى الباقية على عين الدهر إذ يقول: "وجملة القول: أن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد ثبتت بنفسها، أي بالبرهان العلمي والعقلي الذي لا ريب فيه، وأن هذا البرهان قائم ماثل للعقول والحواس في كل زمان ومكان وأنه لا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بثبوت نبوته وهذا القرآن الذي جاء به.." 2. والقرآن الكريم هو أعظم الآيات وأبقاها، وهو في حقيقة الأمر يشتمل على آيات كثيرة. "فالقرآن في جملته آية علمية وفي تفصيله آيات كثيرة عقلية وكونية، وهي دائمة لا تزول كما زالت الآيات الكونية كعصا موسى مثلاً، عامة لا تختص ببعض من كان في عصر الرسول.. وهي أدل على الرسالة من الآيات الكونية.. فظهور أعلى علوم الهداية على لسان أميّ كان هو وقومه أبعد الناس عن كل علم، بعبارة أعجزت بلاغتها قومه كما أعجزت غيرهم.. أدل على كون ذلك موحى به من الله عزوجل من عصا موسى.." 3. والحق أن القرآن الكريم هو آية علمية، عقلية، كونية، خارق للعادة المألوفة من البشر، فإن هذا الكتاب المشتمل على هذه العلوم والمعارف والحقائق قد جاء به رجل أميّ لم يجلس إلى معلم، ولا اطلع على شيء من الكتب، هو ولا قومه من قبل هذا، بل كان لا يقرأ ولا يكتب، فالعقل   1 تفسير المنار (9/ 199) 2 الوحي المحمدي (ص: 83) 3 تفسير المنار (7/388) وقارن مع ابن القيم: مختصر الصواعق (ص: 161) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 يجزم بأن هذا القرآن إنما كان بوحي من الله، لأنه خارق للعادة، يقول الشيخ رشيد بعد أن بسط هذه المقدمات: "راجع هذا كله وتأمله جملة واحدة، تجد عقلك مضطراً إلى الجزم بأن هذا في جملته وتفصيله فوق استعداد بشر أميّ أو متعلم، وأنه لا يعقل إلا أن يكونوحياً من الله تعالى اختصه به.." 1. "فمن كان يؤمن بأن للعالم رباً عليماً حكيماً رحيماً مريداً فاعلاَ مختاراً فلا مندوحة له ولا مناص عن الإيمان بأن هذا القرآن وحي من لدنه عزوجل.. ومن كان لا يؤمن بوجود هذا الرب الحكيم فهذا القرآن حجة ناهضة على وجوده الحق، بكونه ليس من المعهود في الخلق، وبما اشتمل عليه من الآيات البينات في الأنفس والآفاق.." 2. فإن قيل:" دلائل النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا القرآن إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر والحجة لا تقوم بنقل الآحاد ... لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها.." 3. فالجواب من وجوه: الأول: أن القرآن الكريم وهو الآية الكبرى، الثابتة بنفسها المثبتة لغيرها، هو متواتر مشاهد فيدفع به هذا الاعتراض. ثانياً: "أن خبر الواحد من عامة الناس إذا انضمت إليه قرائن قوية أفاد العلم وقام مقام التواتر، فهذا في خبر آحاد الناس فكيف بخبر أفضل الأولين والآخرين.." 4. ثالثاً: أن كثرة الرسل قد تواترت لأهل العلم بتواريخ العالم مع تفرق   1 الوحي المحمدي (ص: 343) وقارن مع ابن الوزير: ترجيح أساليب القرآن (ص: 81) ط. دار الكتب العلمية، الأولى 1404هـ 2 الوحي المحمدي (ص: 138 ـ 139) 3 انظر: درء التعارض (7/ 315) 4 انظر: ابن الوزير: البرهان (ص: 36 ـ 37) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أوطانهم وأزمانهم، واتفاقهم على أمر واحد، يصدق فيه الآخر الأول والأول الآخر، يدل على صدق ما ادعوه وتواتره 1. وهذا الدليل السمعي قد خالف فيه الشيخ رشيد المتكلمين والفلاسفة الذين لا يعتبرون إلا الدليل العقلي النظري 2، ويقولون بوجوبه، ونحن لا ننكر النظر الشرعي ولكن ننكر أنه الدليل الوحيد أو الواجب على معرفة الله تعالى.   1 انظر: ابن الوزير: إيثار الحق (ص:73) 2 انظر: ابن رشد: مناهج الأدلة (ص: 130) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 المطلب الرابع: الاحتياط الواجب : وهذا دليل آخر لا يوافق عليه المتكلمون 3، على أنه عقلي شرعي. وتقريره: " أن الإيمان بالله تعالى مأمون العاقبة ولا ضرر فيه، والكفر به تعالى مخوف أشد الخوف وضرره عظيم، فالمصير إلى الإيمان به واجب احتياطاً". وهذه المسألة العقلية، نجد لها إشارات في القرآن الكريم: يقول الله تعالى: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} 4. والتحري: طلب الأحرى، أي: الأولى 5. وقال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 6.   3 انظر: مصطفى صبري: موقف العقل (2/ 5) 4 سورة الحديد، الآية (14) 5 النسفي: مدارك التأويل (4: 300) 6 سورة النساء، الآية (39) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ففيه "تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطاً، فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى" 1. واستدل بهذه الآية على جواز إيمان المقلد، لأنها تشعر بأن الإيمان في غاية السهولة، ولو كان الاستدلال واجباً لكان في غاية الصعوبة 2. وقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} 3. والمعنى: "أي: كيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق ولا يبصر ولا يسمع ولا يقدر شيئاً.. والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله وهو الضار النافع الخالق الرازق. أورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصاً ولا تحولاً.." 4. وتلك حجتنا: أي: وتلك الحجة الدامغة التي تضمنها البيان السالف المثبتة للحق المزيفة للباطل هي الحجة التي أرشدنا إليه إبراهيم وأعطيناه إياها ليلزم قومه ويقنعهم بها" 5. ومن ذلك قول مؤمن آل فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} 6.فقد أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط 7.   1 أبو السعود: إرشاد العقل السليم (2/ 177) ، الآلوسي: روح المعاني (15/ 31) 2 الرازي: مفاتح الغيب (10/ 100) ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثالثة 3 سورة الأنعام، الآيات (81ـ 83) 4 صديق حسن خان: فتح البيان (3/ 191) 5 المراغي: التفسير (7/ 179) 6 سورة غافر، الآية (28) 7 أبو السعود: إرشاد العقل السليم (7/ 274) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وفي معناه: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} "وهو بين في هذا المعنى لأن السلامة تتحقق في الإيمان والخطر مأمون فيه، والمهالك مخوفة في مخالفته" 1. ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} 2. ومثله قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3. والمعنى: "كما أنكم قضيتم بأنه ليس من عند الله وليس ذلك معلوماً بالضرورة فكذلك كونه من عند الله فتعالوا فتأملوا في الدلائل.. فاستدعاهم الله إلى النظر بطريق تجويز أن يكون من عند الله فإنه إذا جاز ذلك وكانوا قد كفروا به دون تأمل كانوا قد قضوا على أنفسهم بالضلال الشديد.." 4. وأما دلالة العقل: فالعقل يتفق مع السمع على حسن السعي في دفع المضار المخوفة المجوزة التجويز المستوي الطرفين، ووجوب السعي في دفع المضار المطلوبة ووجوب السعي في الاحتياط في ذلك 5. ومن القياس: أيضاً قياساً على إيمان المقلد دون أن ينظر في الأدلة وكذلك من يقول: إن معرفة الله ضرورية دون استدلال ولهم أدلة في ذلك 6. وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للعامة وقبول الشهادة منهم، وما اشتهر في أحاديث   1 ابن الوزير: إيثار الحق (ص: 19) 2 سورة فصلت، الآية (52) 3 سورة الأحقاف، الآية (10) 4 ابن عاشور: التحرير والتنوير (20/ 16) ط. دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس. 5 انظر: ابن الوزير: إيثار الحق (ص: 18) 6 انظرها عند ابن الوزير: المصدر نفسه (ص: 19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الشفاعة من تقرير إيمان المشفوع لهم بمثاقيل الذر وأدنى أدنى أدنى من ذلك 1. ولقد اعتمد الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ هذا الدليل وأقره، فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} 2. "..ولو نظروا في توقع قرب أجلهم لاحتاطوا لأنفسهم ورأوا أن من العقل والروية أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلم لهم لأن خبريته لهم في الدنيا ظاهرة لم يكونوا ينكرونها، وأما خيريته في الآخرة فهي أعظم إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء وهو صدق وحق وإن صح إنكارهم له وما هو بصحيح فلا ضرر عليهم من الاحتياط له، كما قال الشاعر: قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأجساد قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما فالمجنون إذاً من يترك ما فيه سعادة الدنيا باعترافه وسعادة الآخرة ولو على احتمال ضرر تخلفه، لا من يدعو إلى السعادتين أو إلى شيئين يجزمون بأن أحدهما نافع قطعاً والآخر إما نافع وإما غير ضار. هذا ما دعاهم إليه صاحبهم بكتاب ربهم مؤيداً بالبراهين العقلية العلمية، لعلهم يعقلون ويعلمون.. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 3. ومثل هذه الآية التي فسرها الشيخ رشيد على هذا الوجه: قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4.   1 المصدر نفسه. 2 سورة الأعراف، الآية (185) 3 تفسير المنار (9/ 457 ـ 458) 4 سورة البقرة، الآية (28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فهذا تخويف بالموت الضروري والمعاد إليه النظري 1 فالعاقل إذا تأمل هذا رجح كفة الإيمان ولولم يكن لديه إلا هذا البرهان، كيف وقد قامت قبل ذلك براهين لا تدفع وحجج لا تمنع. وفي نهاية كتاب الوحي المحمدي، وقد أورد فيه الشيخ رشيد كل ما استطاع من حجة، على ثبوت نبوة نبينا، صلى الله عليه وسلم، ودعا العالم أجمع إلى الإيمان به، ختمه بهذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} 2 3. وهذا ذهاب منه إلى أن هذا الدليل هو الأخير بعد كل ما أورد من الأدلة وتقرير له. فهذا الدليل قد قامت عليه شواهد من العقل والشرع واعتبره الكتاب العزيز، وذهب إليه وقرره بعض أهل العلم وإن رفضه المتكلمون، فإننا نقبله ونعتبره دليلاً صحيحاً معتبراً في معرفة الله تعالى والإيمان به. وقد تبين من خلال عرض آراء الشيخ رشيد في المعرفة أنه قد خالف المتكلمين في إيجابهم المعرفة النظرية الجدلية، وأنه أقر النظر الشرعي البسيط المستطاع للكافة وهو النظر القرآني. وأنه خالفهم في عدم وجوب النظر العقلي المجرد، وخالفهم في إقراره للمعرفة الفطرية التي لا يقرها المتكلمون 4، وفي تعدد طرق المعرفة، مخالفة للمتكلمين الذين يوجبون طريقاً واحداً لمعرفة الله تعالى،   1 ابن الوزير: إيثار الحق (ص: 19) 2 سورة فصلت، الآيات (52 ـ 54) 3 الوحي المحمدي (ص: 356) 4 راجع عن موقف السلف والمتكلمين من هذه المسألة: "فطرية المعرفة وموقف المتكلمين منها" د. أحمد سعد حمدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وقد ذكرت انتقاد الشيخ رشيد لطريقتهم وفي هذا الفصل دليل آخر على التطور الفكري للشيخ رشيد ـ فإنه في الأعداد الأولى من المجلة ـ وبالتحديد في العدد الثاني كان قد شرع في شرح العقيدة في دروس مسلسلة وبدأ يشرح أدلة المعرفة بناءً على نظرية المتكلمين، معتمداً على مراجعه كالمواقف للإيجي، والمقاصد للسعد التفتازاني وشرحه لها 1.   1 انظر: مجلة المنار (2/ 506 ـ 507) و (2/ 522) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 المطلب الخامس: موقف رشيد رضا من مسألة "حدوث العالم" : ذكرت قبل ذلك أن مسألة "حدوث العالم" دليل عقلي شرعي، فيستدل بها على قدرة الله تعالى وحكمته ووحدانيته، وهي ترتبط بطريقة النظر في المخلوقات، فإن كانت طريقة النظر في الملكوت تدل على معرفة صفات الله تعالى بواسطة النظر في خلقه ودقته وإتقانه ونظامه، فإن حدوث العالم يدل على ذلك بواسطة النظر إلى إيجاده من بعد عدمه، وإبرازه للوجود بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً. ونحن نتفق مع المتكلمين على "حدوث العالم"، ولكن لا نسلم لهم هذه المقدمات التي رتبوها، والنتائج التي التزموها بناء على تلك المقدمات. فالعلم بحدوث العالم مشاهد محسوس بدهي، لا يحتاج إلى استدلال بحدوث الأعراض، ولا أنها لا تبقى زمانين، إلى آخر ما ذكر المتكلمون من مقدمات. " فإن من الصعوبة بمكان تقرير المقدمات التي يتركب منها هذا الدليل، من إثبات الجواهر الفردة التي تتركب منها الأجسام أولاً، ثم إثبات الأعراض التي هي صفات الأجسام ثانياً، ثم إثبات حدوث تلك الأعراض بإبطال ظهورها بعد الكون وإبطال انتقالها من محل إلى محل ثالث، ثم إثبات امتناع حوادث لا أول لها، وإنّ ما لا يخلو عن الحوادث جنساً أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 عيناً فهو حادث، إلى غير ذلك مما في مقدمات هذا الدليل من طول وخفاء وتفصيل يتعذر معه ثبوت المدعى.." 1. أما قانون السببية وهو أن " المحدث لا بد له من محدِث، أو لا شيء يكون من لا شيء" فهو أمر بدهي وعلم فطري ضروري. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "..إن العلم بالمحدَث لا بد له من محدِث علم فطري ضروري، ولهذا قال الله تعالى في القرآن: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 2 … "3. ويقول أيضاً: "..إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدِث، وهذا يكفي فيه حدوث الإنسان نفسه، أو حدوث ما يشاهد من المحدثات، كالنبات والحيوان وغير ذلك، ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدَث لا بد له من محدِث.." 4. لكن المتكلمون أفسدوا هذا الدليل بما وضعوا له من مقدمات، اختلفوا حول أكثرها، وأكثرها لا يسلم لهم، ومن العجب الذي لا ينقضي أن هذه الطريقة التي شرعها المتكلمون لإثبات وجود اله تعالى قد أفضت بهم بعد التزامهم لوازمها، إلى وصف الله تعالى بصفات العدم، الغير موجود، فأفضى بهم إلى التعطيل والإلحاد، على تفاوت منهم في ذلك 5. وصار هذا هو الأصل الذي يبنون عليه مذهبهم في إنكار وجحد صفات الله تعالى 6. والمقصود الآن الوقوف على رأي الشيخ رشيد في هذه المسألة، ليتم   1 محمد خليل الهراس: ابن تيمية السلفي (ص: 68) 2 سورة الطور، الآية (35) 3 الجواب الصحيح (2/ 101) 4 درء التعارض (3/ 98) 5 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (16/ 444، 454) 6 انظر في تفصيل ذلك: د. عطا صوفي: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات (1/317) وما بعدها. ط. مكتبة الغرباء، الأولى 1418هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 لنا تصور كامل لمنهجه في إثبات ربوبية الله تعالى. فنقف على موقفه من أصل هذا الدليل ثم من طريقة المتكلمين واستدلالهم بقصة الخليل عليه السلام ورأيه في إيجاب هذا الطريق دون غيره. معنى حدوث العالم: وقبل أن نخوض في هذه المسألة نتبين معنى "حدوث العالم" فإن هذا المصطلح قد اعتورته أفهام مختلفة. فالذي يظهر ويهدي إليه الفهم بادئ الرأي من هذه الكلمة أن كل ما سوى الله مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي ليس معه شيء قديم تقدمه بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن. ولكن يذهب المتكلمون مذهباً آخر في فهم هذا المصطلح "حدوث العالم" فمعناه عندهم أن الله تعالى لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بمشيئة، ثم حدثت الحوادث من غير سبب يقتضي ذلك وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها، ويبنون على ذلك نفي أفعال الله تعالى وصفاته الاختيارية. ويذهب الفلاسفة إلى فهم آخر، فيرون ـ إذا قالوا إن العالم محدث ـ أنه معلول لعلة قديمة أزلية، أوجبته، فلم يزل معها، وهذا هو ما يسمونه الحدوث الذاتي1 حكما سوف نفصل فيما يأتي بإذن الله. فهذا الاصطلاح قد أتت عليه هذه التفسيرات وذهب فيه المتكلمون مذهباً، وسلك الفلاسفة طريقاً آخر في تفسيره. وأما ما دل عليه القرآن وجاء به نبينا ـ بل والنبيون جميعاً ـ فهو المعنى الأول 2. أـ موقف الشيخ رشيد من قول المتكلمين: نرى الشيخ رشيد بادئ الرأي لا يوافق المتكلمين على طريقتهم في   1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 125 ـ 126) 2 المصدر نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 عرض هذا الدليل ويرجح عليها طريقة القرآن الكريم. فيقول: "المسلم لا يحتاج إلى الاستدلال على وجود الله تعالى بالطريقة الكلامية، وإن الدلائل التي تبنى على خلاف المطلوب قد يكون إثمها أكبر من نفعها، وإنما الطريقة المثلى لذلك طريقة القرآن الكريم وهي عرض محاسن الخليقة وأسرارها على العقل وتذكيره بحكمة مبدعها البالغة وقدرته العظيمة وعلمه والواسع وتفرده بالخلق والتكوين والرحمة والإحسان.." 1. ويقول عن استدلالهم بالمقدمات المنطقية، والاصطلاحات الكلامية، كالدور والتسلسل: "لماذا تقول للمسلم الخالي الذهن من الشبهات والشكوك: لو لم يكن للعالم إله للزم الدور والتسلسل، وكل منهما باطل فما أدى إليه وهو عدم وجود إله: باطل، فثبت نقيضه وهو أن للعالم إله، ثم نحاول أن نفهمه معنى الدور والتسلسل والبرهان على بطلانهما.. وقد رأينا كثيراً من المتصدرين لتدريس علم الكلام يذكرون ما كتب من الاستدلال على بطلان الدور والتسلسل وهم لا يفهمون ما يقولون" 2. وأما عن وجوب اعتقاد واتباع هذه الطريقة، وما يتبعها من قضايا، كالحدوث بالذات أو بالزمان 3، فهل يجب ذلك أولا يجب، فيجيب الشيخ رشيد بقوله: "الصواب في الرأي الثاني. وما كان دين الفطرة مقرر الحنيفية السمحة الذي ظهر في الأميين، ودعا إليه المتوحشين والممدنين، أن يكلف كل فرد في تصحيح الإيمان بنظريات فلاسفة اليونان، والتمييز بين تلك الخلافات في الحدوث بالزمان أو الحدوث بالذات، ثم خلافات الفلاسفة مع أهل الكلام في أصل وجود الزمان.." 4.   1 مجلة المنار (11/942) 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 الحدوث الزماني: هو السبق بالعدم سبقاً زمانياً، والحدوث الذاتي: هو كون الشيء مفتقراًفي وجوده إلى الغير. انظر: د. جميل صليبا: المعجم الفلسفي (1/433ـ 434) 4 مجلة المنار (5/ 581 ـ 582) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 والدليل على بطلان هذا الرأي ـ أي القائل بالوجوب ـ أن القرآن الكريم، وهو الكتاب الذي أنزله الله لهداية عباده، وإرشادهم للطريق التي هي أقوم، لم يذكر هذه المسائل والخلافات الفلسفية. فـ "المقصد الأول من مقاصد القرآن المبين تقرير عقائد الدين، ثم هو لم ينطق بكلمة من مادة الحدوث للأعيان لا بحسب الذات ولا بحسب الزمان.." 1. رد الشيخ رشيد على المتكلمين في استدلالهم بقصة الخليل: وقد ذهب المتكلمون يبحثون عن مستند لهم في الكتاب العزيز يؤيد طريقتهم في هذا الدليل أعني دليل الأعراض وحدوث الأجسام، فاستدلوا بقصة الخليل إبراهيم مع قومه عندما ناظرهم لإثبات بطلان ألوهية الأصنام التي كانوا يعبدونها. وتمسكوا بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} 2 فقالوا الأفول هو الحركة والانتقال من مكان إلى مكان، وزعموا أن هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث والإمكان 3. وأرادوا بذلك تصحيح طريقة الأكوان وحدوث الأجسام. والحق أن هذا الاستدلال باطل فإن مقام الخليل مع قومه لم يكن مقام نظر بل مقام مناظرة لإبطال ألوهية ما يعبدون من دون الله وإثباتها لله تعالى. وقد رد الشيخ رشيد رحمه الله استدلالهم هذا باللغة والعقل، وبيان المعنى الصحيح للآية فقال: "وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث أو الإمكان. وهو تفسير للشيء بما قد يباينه فإن المحفوظ عن العرب أنها استعملت   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 سورة الأنعام، الآية (86) 3 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/100ـ 101 و103) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الأفول في غروب القمرين والنجوم وفي استقرار الحمل وكذا اللقاح في الرحم، فعلم أن مرادها من الأول عين مرادها من الثاني وهو الغيوب والخفاء. وقد يتحول الشيء وينتقل من مكان إلى مكان آخر وهو ظاهر غير محتجب، وفسره بعضهم بالتغير ليجعلوه علة الحدوث المنافي للربوبية أيضاً وهو غلط كسابقه لأن الشمس والقمر والنجوم لا تتغير بأفولها1. ويستعين الشيخ رشيد بعلم الفلك الحديث أيضاً في رد هذا القول وبيان بطلان هذا الاستدلال فيقول: "ومذهب المتأخرين من علماء الفلك ـ وهو الصحيح ـ أن أفولها إنما يكون بسبب حركة الأرض لا بحركتها هي، وأن حركتها على محاورها وحركة السيارات من المغرب إلى المشرق ليست من سبب أفولها المشاهد في شيء.." 2. ثم بين المعنى الصحيح للآية، والذي يبطل أيضاً تفسيرهم لها، فيقول: " {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي: فلما غرب هذا الكوكب واحتجب، قال لا أحب من يغيب ويحتجب، ويحول بينه وبين محبه الأفق أو غيره من الحجب.. والعاقل السليم الفطرة والذوق لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه، ويوحشه فقد جماله وكماله، حتى في الحب الذي هو دون حب العبادة،.. وأما حب العبادة الذي هو أعلى الحب وأكمله لأنه من مقتضى الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فلا يجوز أن يكون إلا للرب الحاضر القريب السميع البصير القريب، الذي لا يغيب ولا يأفل ولا ينسى ولا يذهل" 3. وقال: "وفي الكلام تعريض لطيف بجهل قومه في عبادة الكواكب بأنهم يعبدون ما يحتجب عنهم، ولا يدري شيئاً من أمر عبادتهم، وهو يقرب من قوله لأبيه بعد ذلك {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ   1 تفسير المنار (7/ 559) وقارن مع ابن تيمية: المصدر السابق (1/111) 2 المصدر نفسه والصفحة، ولا يعني ذلك أن الرشيد رضا ينكر حركة الشمس. 3 تفسير المنار (7/ 558) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 شَيْئاً} 1 ولا يظهر هذا التعريض على قول النظار في تفسير الأفول فإن قوم إبراهيم لم يكونوا على شيء من هذه النظريات الكلامية بل كانوا يعبدون الأفلاك قائلين بربوبيتها وبقدمها مع حركتها.." 2. ثم يلخص الشيخ رشيد كل ذلك بقوله: "ما ذكره الرازي وغيره من مفسري المتكلمين في هذه المحاجة تكلف لا تدل عليه العبارة ولا يقتضيه العقل ولا تتوقف عليه الحجة.." 3. الحل الصحيح لمسألة حدوث العالم: هذا هو موقفنا من طريقة المتكلمين في مسألة حدوث العالم، ورفض مسألة الأكوان وحدوث الأجسام ولوازمها، إلا أننا نقرر أن أصل هذا الدليل صحيح، وكما ذكرت قبل، ولقد كان استدلال القرآن بحدوث الإنسان هو المصحح له، ولكن استدلال القرآن كان استدلالاً بسيطاً غير مركب، وسهلاً غير معقد، من درجة واحدة وبلا مقدمات. قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 4 فالفرق كبير بين الاستدلال بحدوث الإنسان والاستدلال على حدوثه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له،.. والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بيّنٌ والذي في القرآن الأول لا الثاني.." 5.   1 سورة مريم، الآية (42) 2 تفسير المنار (7/ 559) 3 المصدر نفسه (7/ 570) 4 سورة الإنسان، الآيتان، (1 ـ2) 5 درء التعارض (7/ 219) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ويضع الشيخ رشيد هذه المسألة في وضعها الصحيح فيقول: "إن هذه الكائنات في جملتها حادثة لم يكن شيء منها كما نعرفه الآن وفيها من الإبداع والنظام ما يستحيل أن يكون حصل بالمصادفة أو يكون مصدره العدم المحض، بل يجب عقلاً أن يكون هذا الإبداع والنظام العجيب في العوالم العلوية والأرضية مصدر وجودي.." 1. "فللناظر أن يقول: إن اطراد مسألة السنن الإلهية في العوالم العلوية والسفلية، ووحدة النظام مع الإتقان في جميع هذه الأكوان، يدلان على أن لها خالقاً عليماً قادراً حكيماً حياً قيوماً، لا راد لإرادته ولا معقب لحكمه وحكمته، وبهذا يكون مؤمناً بالبرهان متبعاً لطريقة القرآن وإن لم يخطر بباله حدوث الذات وحدوث الزمان" 2. وهذا هو الصواب فالقائل بهذه الطريقة مؤمن بالعقل وبالشرع، لأنها على هذا الوضع تكون طريقة عقلية شرعية، "فإن الفاضل إذا تأمل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية.." 3. والذي حدا بالشيخ رشيد إلى اعتبار هذه الطريقة على هذا النحو هو أنه وجدها "..أقرب الدلائل تنبيهاً وإقناعاً لعقول المشتغلين بالعلوم العصرية كما ثبت بالتجربة والمناظرات معهم هو أن جميع ما نعرفه من الموجودات حادث عندهم حتى أنهم ليقدرون للأرض والشمس والكواكب أعماراً لقطعهم بحدوثها، ثم إنهم قاطعون بأن الموجود لا يصدر عن نفسه ولا عن معدوم كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 4. فتعين أن يكون لهذه الموجودات كلها مصدر وجودي.." 5.   1 مجلة المنار (13/ 913) 2 المصدر نفسه (5/ 582) 3 ابن تيمية: الأصفهانية (ص: 33) 4 سورة الطور، الآية (35) 5 مجلة المنار (7/ 139 ـ 140) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 موقف الفلاسفة من حدوث العالم: وأما الفلاسفة فالمشهور عنهم القول بقدم العالم، والحق أنهم مختلفون في ذلك فليسوا جميعاً على قول واحد. فالقدماء منهم قائلون بحدوث صورة العالم، ولهم في المادة كلام فيه اضطراب 1. وأول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو، وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة العالم، وإن كان لهم في مادته أقوال. فجمهور الفلاسفة مع عامة المشركين من الهند والعرب وغيرهم والكتابيين، متفقون على أن السماوات والأرض وما بينهما محدث مخلوق بعد أن لم يكن. فهو مذهب جماهير الفلاسفة، لكن حكي عن بعضهم أن تلك المادة ـ أي التي خلق منها العالم ـ قديمة أزلية. وهذا رأي باطل أيضاً 2. ويحكى القول بحدوث العالم عن أفلاطون، وأما ابن سينا فقد تبع أرسطو في ذلك 3. والحق أن الفلاسفة اتفقوا في أمرين واختلفوا في الثالث: فالأمر الأول الذي اتفقوا عليه هو: 1ـ حدوث العالم بأسره بمعنى حدوثه الذاتي واستناده إلى العلة الفاعلة. فهذا مجمع عليه عندهم. 2ـ والأمر الثاني: هو اتفاقهم على عدم الحدوث الزماني، بمعنى أن يكون لوجوده ـ أي العالم ـ بدء زماني مسبوق بزمن سابق وعدم مستمر، فهذا مما لا خلاف بينهم في عدم جوازه.   1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (8/ 286) 2 المصدر نفسه (1/122 ـ 123) 3 انظر: محمد رمضان عبد الله: الباقلاني وآراؤه الكلامية (ص: 357) ط. الأولى، مطبعة الأمة، بغداد 1986م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وأما الخلاف ففي أمر ثالث هو الحدوث الدهري أي قبل خلق الأفلاك، والاستناد إلى المبدع الصانع المخرج لنظام العالم بجملته من العدم الصريح إلى الوجود في الدهر. فأفلاطون قائل بهذا النوع من الحدوث بخلاف أرسطو وأتباعه1. "والذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب: أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله.. كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والشمس والقمر هما من السماوات والأرض وحركتهما بعد خلقهما، والزمان مقدر بحركتهما ـ وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما ـ إنما حدث بعد خلقهما.. فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى غير حركة الشمس والقمر" 2. وهذا العرض السابق هو ما يقرره الشيخ رشيد إذ يعرض رأي الفلاسفة قديماً وحديثاً ثم يعقب ذلك بالرأي الصحيح ـ في نظره ـ إذ يقول: "أما مسألة حدوث العالم في نظر الفلاسفة فالمتفق عليه عند فلاسفة هذا العصر أن كل ما نراه ونحس به من هذه العوالم الأرضية والسماوية فهو حادث بمعنى أنه لم يكن كما هو الآن ثم كان. ولكن عضلة العقد عند المتقدمين والمتأخرين هي مسألة منشأ التكوين، وهم متفقون على أن الوجود المطلق قديم وأن العدم المطلق لا حقيقة له ولا يتصوره العقل، وأنه لا يحدث شيء من لا شيء.. ونحن نقول إنها الطريقة التي جرى عليها القرآن وقررها الإسلام، فليس في كتاب الله آية تدل على أن الوجود الحقيقي صدر عن العدم الخيالي، بل قال {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 3 والخلق لغة: الترتيب وهو لا يكون في العدم. بل قال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} 4 وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً   1 المصدر نفسه (ص: 355ـ 356) 2 ابن تيمية: درء التعارض (1/ 122 ـ 123) 3 سورة الفرقان، الآية (2) 4 سورة الأنبياء، الآية (30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1.." 2. فإذا كان هذا هو الذي جاء به القرآن وقد جاء أيضاً بحدوث العالم فقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً..} 3، فما هو وجه الجمع بين الرأيين؟ يجيب الشيخ رشيد على تساؤلنا هذا قائلاً: "وحل المسألة بطريقة إسلامية؛ أن هذا الوجود الذي كله ممكن 4 حادث 5، وأنه صدر عن وجوب واجب قديم، لا تعرف حقيقته ولا كيفية صدوره عنه، وإنما قام البرهان بأنه صدر بإرادة وقدرة وعلم وحكمة.." 6. فيرى الشيخ رشيد أن هذا الوجود الحادث صدر عن إرادة قديمة وعلم قديم وحكمة قديمة ولا يكون ذلك إلا صدروه عن إرادة الله تعالى وحكمته وقدرته وعلمه وهذا في رأيه هو حل المسألة الفلسفية. وهو بهذا يحاول أن يوفق بين ما جاء به القرآن مع ما ذهب إليه الفلاسفة ما عدا أرسطو وأتباعه من الكفار ولا يكون هناك مناقضة بين ما ذهب إليه الحكماء وما جاء به القرآن من حقائق الخلق والتكوين.   1 سورة فصلت، الآية (11) 2 مجلة المنار (5/ 582) 3 سورة الإنسان، الآية الأولى. 4 التقسيم إلى ممكن وواجب هو اصطلاح الفلاسفة. 5 التقسيم إلى حادث وقديم هو اصطلاح المتكلمين. 6 مجلة المنار (5/ 582) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 المبحث الثالث: بدء الخلق : اتفقت الكتب السماوية على أن الله تعالى خلق آدم من تراب وخلق منه زوجه وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} 2. وعلى هذا كتب أهل الكتاب 3، وهذه النصوص تفيد أن الله تعالى خلق الإنسان نوعاً مستقلاً، لا بطريق النشوء والارتقاء والتطور والاشتقاق من نوع آخر، وهي نظرية "الخلق الدفعي"، أو " تعاقب الخلق" في مقابل النظرية المادية التي تقول: بـ" الخلق المتمهل" أو "المتطور"، وهذه النظرية الأخيرة ظهرت في القرن التاسع عشر، وإن كانت في الحقيقة قد دلت أفكارها قبل ذلك، إلا أنها أخذت دفعة قوية إلى الأمام، فظهرت وانتشرت على أنها حقيقة علمية على يد "داروين" الذي قام عليه رجال الدين في أوربه، وحكموا بكفره وزندقته، لأنه خالف الكتب المقدسة، لأنه لا يمكن   1 سورة آل عمران: الآية (59) 2 سورة النساء: الآية (1) 3 انظر: سفر التكوين: 1/ 1ـ30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 التوفيق بين نظرية النشوء والارتقاء وبين ما جاء في الكتب المنزلة عن بدء خلق الإنسان، إلا أن رجلاً واحداً ألف كتاباً ليقول: "إن مذهب دارون ـ عند ثبوته ـ لا يتعارض مع أحكام القرآن ولا مع الإيمان بوجود الله الخالق" 1، هذا الرجل هو حسين الجسر الشيخ الأول لرشيد رضا 2. في "الرسالة الحميدية" 3، وقال: إن الله تعالى هو الخالق بقدرته وعلمه "سواء أكان هو الذي نوّع تنوعات المادة وطوّرها، أو أنه أوجد المادة الصالحة لتلك التنوعات والتطورات بموجب النواميس التي وضعها فيها، وبحركة أجزائها.. فكلا الأمرين يدل دلالة قاطعة على كمال قدرته.. " 4. إن الجسر كان يري أن مذهب النشوء والارتقاء وما جاء فيه عن أصل نوع الإنسان والحياة، لا ينطوي على أمور بعيدة عن الحقيقة، أو متعارضة مع أحكام الدين تعارضاً قطعياً 5. وبناء على قانون التأويل الشهير، ومسألة تعارض العقل والنقل، يرى الجسر أن الذي ورد في الشريعة من النصوص المتواترة القطعية بشأن خلق الأكوان وتنوع الأنواع، إنما هي نصوص لم يبين فيها تفاصيل الخلق، ولم يرد في النصوص ما يدل على نفي أو إثبات الخلق الدُّفعي، أو التطوري، فيجب التوقف مطلقاً 6، لأن النصوص في ذلك ليست نصاً في هذا أو ذاك، فهذه النصوص يحتمل أن تفسر على مذهب الخلق أو مذهب النشوء 7، وحاول الجسر بيان تطبيق هذه النظرية على الآيات التي تشير إلى هذا المعنى 8.   1 انظر: نديم الجسر: قصة الإيمان (ص: 194) 2 انظر: المصدر نفسه والصفحة، وألف الجسر كتابه سنة 1888هـ 3 انظر: حسين الجسر: الرسالة الحميدية (ص:220) ط. إدارة الطباعة المنيرية، 1352هـ. 4 نديم الجسر: قصة الإيمان (ص: 208) 5 المصدر نفسه 6 المصدر نفسه (ص: 204) 7 المصدر نفسه (ص: 213، 215) 8 المصدر نفسه (ص213) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وبمثل هذا الرأي قال محمد عبده الشيخ الأخير لرشيد رضا "إن الأستاذ الإمام لم ينف كون آدم أبا البشر كلهم ولا قال: إن القرآن ينبغي أن يؤول ليوافق دارون أو غيره، ولا قال: إنه قد ثبت رأي الذين ينفون كون آدم أباً لجميع البشر ثبوتاً قطعياً.. وإنما قصارى رأيه أنه إذا ثبت ما يقولون لم يكن ذلك مخالفاً للقرآن فيكون شبهة على الإسلام.. وإنما فهم الآية وأمثالها فهماً لا يرد عليه اعتراض ولا مجال له للطعن في القرآن في هذه المسألة.." 1. يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ... } 2. فإذا كان هذا رأي هذين الشيخين لرشيد رضا فهل تابع هو أيضاً شيخيه في ذلك؟ لقد اتهم رشيد رضا بمحاولة تطبيق القرآن على مذهب دارون وإنكار أبوة آدم ـ عليه السلام ـ للبشر وتأويل الآيات التي تشير إلى هذا المعنى لأجل إثبات رأيه 3. عند قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 4، نقل رشيد رضا تفسير محمد عبده لها، وهو قوله:"ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين من يقول: إن كل نداء مثل هذا يراد به أهل مكة أو قريش، فإذا صح هذا هنا جاز أن يفهم منه بنو قريش، أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة: يعرب أو قحطان، وإذا قلنا: إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام، أي لجميع الأمم فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده، فالذين يعتقدون أن جميع البشر من سلالة آدم يفهمون أن المراد بالنفس الواحدة آدم، والذين يعتقدون أن لكل صنف من أصناف البشر   1 مجلة المنار (13/ 22ـ 32) وقد قال: ذلك جواباً لمعترض على تفسير محمد عبده في سورة النساء: الآية الأولى منها. 2 سورة النساء، الآية (1) 3انظر: مجلة المنار (33/58ـ 64) 4 سورة النساء، الآية (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أباً يحملون النفس على ما يعتقدون ... " 1 ثم قال: "وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} لا ينافي هذا ولا يعد نصاً قاطعاً في كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم.." 2. ثم قال رشيد رضا موضحاً لكلام أستاذه:"إذا كان جماهير المسلمين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة المسلمة عندهم وهي أن آدم أبو البشر، وقد اختلفوا في مثل هذا التعبير من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ... } 3.." 4، وعند تفسيره لهذه الآية قال: "أي خلقكم من جنس واحد أو حقيقة واحدة، صورها بشراً سوياً {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 5، سكوناً زوجياً، أي جعل لها زوجاً من جنسها فكانا زوجين ذكر وأنثى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} 6، كما أنه خلق من كل جنس وكل نوع من الأحياء زوجين اثنين، قال عزوجل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 7. وإننا نشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمى بها الجسم تنطوي على نويّتين: ذكر وأنثى، يقترنان فيولد بينهما خلية أخرى، وهلم جراً ... ولكننا لا ندري كيف ازدوجت النفس الأولى بعد وحدتها، فكانت ذكراً وأنثى، قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} 8 ... " 9.   1 تفسير المنار (4/323) 2 المصدر نفسه (4/424) 3 سورة الأعراف: الآية (189) 4 تفسير المنار (4/325) 5 سورة الأعراف، الآية (189) 6 سورة الحجرات، الآية (13) 7 سورة الذاريات، الآية (49) 8 سورة الكهف، الآية (51) 9 تفسير المنار (9/ 517) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وفسر رشيد رضا رأي أستاذه فقال:"للأستاذ الإمام في هذا المقام رأيان: أحدهما: أن ظاهر هذه الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم، أي سواء كان هو الأب لجميع البشر أم لا. لما ذكره من معارضة المباحث العلمية والتاريخية له..وثانيها أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أن جميع البشر من ذرية آدم.." 1. وبناء على ذلك فإن المتبادر من " لفظ النفس بصرف النظر عن الروايات والتقاليد المسلمات أنها هي الماهية أو الحقيقة ... أي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة، ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بدئت بآدم كما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين أو بدئت بغيره وانقرضوا ... أو بدئت بعدة أصول كما عليه بعض الباحثين، ولا بين أن تكون تلك الأصول مما ارتقى عن بعض الحيوانات أو خلق مستقلاً.." 2. وأما قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "فمعناه على الوجه الذي قررناه يظهر بطريق الاستخدام بحمل النفس على الجنس وإعادة الضمير عليه بمعنى أحد الزوجين أو يجعل العطف على محذوف يناسب ذلك كما قال الجمهور أو وحد تلك الحقيقة أولاً ثم خلق لها زوجها من جنسها ... " 3. وعلى رأي شيخيه مشى رشيد رضا: "إنه ليس بين نظرية الخلق التدريجي ونصوص الإسلام تعارض حقيقي كما يوجد بينها وبين نصوص التوراة ... " 4. ويصرح رشيد رضا بأن هذا كان رأيه الذي استفاده من شيخه الأول حسين الجسر: "وأؤكد ... أن مذهب داروين لا ينقض ـ إن صح وصار يقيناً ـ قاعدة من قواعد الإسلام، وأعرف من الأطباء وغيرهم من يقول بقول داروين وهم مؤمنون إيماناً صحيحاً" 5.   1 المصدر نفسه (4/326) 2 المصدر نفسه (4/327) 3 تفسير المنار (4/ 330) 4 مجلة المنار (30/ 596) 5 مجلة المنار (33/ 64 و12/ 635 بالحاشية) ، وانظر: مجلة المنار (30/ 113 ـ 114) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وعلى كل حال لم يكن رشيد رضا مسلماً نظرية داروين فقد كان يجيب عن شبهاتها ويفند آراء أصحابها والمتمسكين بها. ولكنه أيضاً يجيب عنها على فرض صحتها 1، وهو في هذا الموقف لا ينكر أبوة آدم، بل يقف الموقف نفسه الذي وقفه شيخه الأول والأخير، وهو التوقف في نظرية داروين. وكان رشيد رضا يفسر الآيات التي تشير إلى هذا المعنى ـ بعد وفاة شيخه وانفراده بالتفسير ـ على أن آدم هو أبو البشر وأنه خلق من طين 2. فيكون هذا هو رأيه مع توقفه في نظرية داروين وعدم معارضتها ـ لو صحت ـ للقرآن. والحقيقة أن نظرية داروين كانت أساساً للإلحاد في الدين ـ فإن كان داروين لا ينكر بنظريته هذه قضية الخلق الإلهي، إلا أن نظريته كانت أساساً لمن جاء بعده من الفلاسفة فجعلوا هذه النظرية حجة لهم في إلحادهم، وقولهم بالتولد الذاتي، وهذا هو أساس الإلحاد، وليس مجرد قول داروين بالتطور، وليس هو القول بخلق الحياة من الجماد فإن الله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} 3 ولكنه القول بالتولد الذاتي 4. ومهما يكن من شيء: فإن تطبيق نظرية النشوء والارتقاء على الإنسان والقول باشتقاقه من حيوان آخر كالقرد، لا يأتلف قطعاً مع خلقهم من نفس واحدة أياً كانت النفس الواحدة، إذا ليس معنى تطبيق تلك النظرية على البشر أن يشتق إنسان واحد من قرد واحد ثم ينتشر فيرجعوا إلى أصل واحد، بل أساس النظرية يأبى رجوع أصل الأنواع إلى الواحد الشخصي، والآية تأبى تلك النظرية بمجرد تعبير {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} عن الأصل الذي خلق منه البشر كائناً ما كان المراد من تلك النفس الواحدة فقول القائل: "إن   1 انظر: مجلة المنار (8/ 920 و9/ 141 و30/ 597 ـ 600) 2 انظر: تفسير المنار (7/ 296 و8/ 328) وكان يسارع بنشر كل ما يبطل هذه النظرية. انظر: مجلة المنار (31/ 130) 3 سورة الأنعام، الآية (95) 4 انظر: نديم الجسر: قصه الإيمان (ص: 217) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 النفس الواحدة في الآية لا تنص على آدم" لا يجديه لأنه إن لم تنص عليه فلا شك في نصها على "نفس واحدة" فإن كانت هي عبارة عن آدم فهو خلاف المفروض عند القائل، وإن كانت عبارة عن "قرد واحد" فهو خلاف نظرية النشوء والارتقاء 1. هذا مع ما في الآيات الأخر من التصريح بخلق آدم من تراب وخلقه من غير أب وأم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 3. وأما ما يتعلق بالنظرية نفسها فإن هذه الفترة التي تبحث فيها "بدء الخلق" قد اعتبرها العلم شقة حراماً حظرها على نفسه وأعلن في صراحة كاملة خروجها عن حدود علمه وعمله، فاقتحامها الآن باسم العلم تعامل بصك مزيف، وتستر بثوب مستعار، وكل حكم يصدر تحت هذا الاسم يكون صادراً عن قاضٍ معزول، فاقداً للركن الأول من سلطته الشرعية، ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون بأن الآثار الخاصة بديانات العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب 4، {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} 5.   1 انظر: مصطفى صبري: موقف البشر (ص: 8 ـ 9) وانظر له: موقف العقل والعلم (2/ 279 ـ 283) 2 سورة آل عمران، الآية (59) 3 سورة ص، الآية (71ـ 72) 4 انظر: دراز: الدين (ص:113) وانظر: داروين: أصل الأنواع (2/129، 2/ 128) ط. دار العصور، القاهرة. 1928م. 5 سورة الكهف: الآية (51) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الفصل الثالث: منهج رشيد رضا في إثبات الأسماء والصفات تمهيد ... تمهيد: ومن الإيمان بالله تعالى الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. إذ لا تخلو سورة من سور القرآن الكريم ولا صفحة من صفحاته بل ولا تكاد تخلو آية من آياته من ذكر اسم له تعالى أو صفة من صفاته، وفيه آيات بأسرها ليس فيها إلا ذكر أسماء الله وصفاته، تسردها سرداً وتفصلها تفصيلاً. وجاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة في صفات الله موافقة لكتاب الله، نقلها السلف على سبيل الإثبات والمعرفة والإيمان والتسليم. وآمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وكتابه وما فيه من آيات الأخبار والأحكام والأسماء والصفات. وقد نقل لنا الرواة خلافهم في التفسير وفي الأحكام، كما نقلوا لنا أسئلتهم لنبيهم عما أشكل عليهم من آيات الكتاب 1، ولكن لم ينقل عنهم خلاف في باب الأسماء والصفات، ولا استشكال ما ورد فيه من الآيات2. وما زالت الكلمة زمن الصحابة والتابعين مجتمعة على ذلك حتى ظهرت بدعة نفي الأسماء والصفات، وكان بدء ظهورها آخر عصر التابعين   1 انظر مثلاً: البخاري: الصحيح: ك: الإيمان، باب: ظلم دون ظلم، ح: 32 [1/ 109] وك: التفسير، تفسير سورة البقرة، ب: "وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه.."، ح: 4545 [8/53 ـ 54] 2 انظر: ابن القيم/ الصواعق المنزلة 01/ 102) ، والمقريزي: الخطط (2/ 356) ط. مؤسسة الحلبي، مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأول من تكلم بهذا الجعد بن درهم 1. وقد تأثر "الجعد بن درهم" في هذا بأهل بلدِه "حران" 2 وكانوا من الصابئة 3 الذين لا يصفون الرب إلا بالصفات السلبية أو الإضافية أو ما تركب منهما 4. والجعد هو شيخ الجهم بن صفوان 5 الذي نسبت إليه "الجهمية" 6،وقد زاد الطين بلة تعريب الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية 7. وفي المائة الثالثة   1 هو مؤدب مروان الحمار، أول من ابتدع الكلام في الصفات، مات سنة نيف وعشرين ومائة، عداده في التابعين، مبتدع ضال ذبحه خالد القسري رحمه الله بسبب مقالته في الصفات. انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 425) ، وابن تيمية: الفتوى الحموية (13ـ14) ط. السلفية، بمصر، وهي ضمن مجموع الفتاوى (5/ 121) ، والذهبي: السير (5/ 433) ، وابن كثير: البداية والنهاية (10/ 350) 2 هي مدينة على طريق الموصل والشام، موطن الصابئة. انظر: ياقوت: معجم البلدان (2/ 235) . 3 قيل لهم صابئة لأنهم زاغوا ومالوا عن نهج الأنبياء، من صبا الرجل إذا مال وزاغ، وهم كانوا على دين نوح ثم مالوا عنه، ويرى بعض العلماء أن الله تعالى أرسل إليهم إبراهيم عليه السلام. وانظر في تفسير هذا الاسم وعقائد هذه الديانة: الشهرستاني: الملل والنحل (2/ 289) وما بعدها. ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية 1413هـ. 4 الصفات السلبية هي التي تدل على أمر مسلوب أي منفي، فصفة العلم مثلاً تدل عندهم على انتفاء الجهل لا ثبوت العلم، والإضافية تعني: أنها تدل على صفة مضافة للغير، فصفة الخلق مثلاً تعني وجود مخلوق له، لا ثبوت صفة الخلق لله. والتي تتركب منهما هي: ما كانت سلبية باعتبار وإضافية باعتبار آخر، مثل: الأول فمعناه السلبي الحدوث والإضافي وجود الأشياء بعده. انظر: ابن عثيمين: فتح رب البرية (ص:63) 5 هو الراسبي الترمذي، رأس البدعة نسب إليه نفي الصفات والقول بالجبر، وفناء النار وغير ذلك، قتل سنة 128هـ. انظر: الأشعري: المقالات (1/338) ، والشهرستاني: الملل والنحل (1/ 73) ، والذهبي: السير (6/26) والطبري: التاريخ (7/220) ط. دار المعارف، مصر، الثانية. 6 نسبة إلى الجهم، إحدى الفرق الضالة. انظر: الأشعري: المقالات (1/338) ، والشهرستاني: الملل والنحل (1/73) ، والبغدادي: الفرق بين الفرق (ص:211) ، ط. محمد علي صبيح / مصر، ت: محيي الدين عبد الحميد. 7 انظر: ابن تيمية: الحموية (ص:22) ضمن مجموع الفتاوى (ج: 5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 انتشرت هذه المقالة بسبب "بشر بن غياث المريسي" 1 وطبقته وتوفي المريسي سنة 218هـ. إلا أن تأويلاته وشبهاته لم تمت بموته، بل بقيت حية في كتب المتكلمين من بعده. وقد صنف الأئمة رحمهم الله في الرد على المريسي وطبقته وأشهر مصنف في ذلك ولا زال موجوداً إلى الآن هو ما صنفه: عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة 288هـ 2، ولقد حكم كثير من السلف بكفر المريسي 3. لقد بقيت أكثر شبهات وتأويلات المريسي وتناولها المتكلمون في مؤلفاتهم، ويتضح ذلك بالمقارنة بين ما ذكره الدارمي منها مع ما هو موجود في كتب القوم اليوم 4، وما دام الأمر كذلك فلا بد أن تتواصل جهود العلماء في رد هذه الشبهات، وهو ما حدث فعلاً فقد قام العلماء من السلف فمن بعدهم بالتأليف للرد على أصحاب هذه التأويلات 5. إلى أن   1 هو بشر بن غياث بن أبي كريمة مولى زيد بن الخطاب، أخذ الفقه عن أبي يوسف، وروى عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، مات سنة 218هـ. انظر: الذهبي: السير (10/199) وانظر اللالكائي: شرح الأصول (3/ 425) 2 هو عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد: الإمام العلامة الحافظ الناقد صاحب المسند والتصانيف، ولد قبل المائتين بقليل، صنف "الرد على المريسي"، وطبعه: محمد حامد الفقي تلميذ رشيد رضا، وصنف أيضاً "الرد على الجهمية"، كان لهجاً بالسنة بصيراً بالمناظرة، مات سنة 280هـ. انظر: الذهبي: السير (13/ 319ـ 327) 3 انظر: أسماء من حكم عليه بذلك عند اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 426) 4 انظر: مثلاً: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 19و 25و 59) وقارن مع الرازي: أساس التقديس (ص: 2و 102و 108و 109و 125) ط. كردستان العلمية بمصر. 1328هـ. وقارن أيضاً مع عبد الجبار شرح الأصول الخمسة (ص:226و 227و 232) ط. مكتبة وهبة بمصر، وانظر: عبد الجبار: "فصل الإعتزال" (ص: 346) ط. الدار التونسية وقارن مع: الدارمي: الرد على المريسي (ص:13) ، وقد رد على أساس الرازي ابن تيمية في مؤلف حافل طبع بعضه باسم: نقض تأسيس الجهمية. ط. مطبعة الحكومة بمكة بأمر من الملك فيصل ـ رحمه الله ـ 5 انظر: بعض هذه المؤلفات عند: ابن تيمية: الحموية (ص: 24) ضمن مجموع الفتاوى جـ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 جاء عصر ابن تيمية، وكان صوت السنة قد خفت وعلت أصوات المتكلمين، فجاء ابن تيمية ونصر مذهب السلف وأعلنه بقوة وأتى من ذلك بشيء عجيب. وانتشرت أقواله ابن تيمية وفتاواه في كل مكان وظهر مذهب السلف بعد ما كاد أن يندثر، ولقد اطلع الشيخ رشيد رضا على كتب ابن تيمية وعرف منها مذهب السلف بعدما كان نشأ على كتب المتكلمين المشتملة على آراء المريسي، واقتنع رشيد رضا بمذهب السلف وتقريرات ابن تيمية وكان حريصاً على مطالعة كتب ابن تيمية ومدرسته، ويقول عن نفسه: "إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف إلا بممارسة هذه الكتب" 1. وفيما يلي أصور المذهب الذي استقر عليه رشيد رضا مبيناً مدى تأثره بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي كان هو السبب في تعرف رشيد رضا واقتناعه بهذا المذهب، وقد قسمت هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث: الأول: في الأسماء الحسنى، والثاني: في الصفات الإلهية، والثالث: في مفردات الصفات التي تكلم عنها رشيد رضا وتحت كل مبحث مطالب.   1 تفسير المنار (1/ 253) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 المبحث الأول: إثبات الأسماء الحسنى تمهيد ... تمهيد: لقد ورد إثبات الأسماء الحسنى لله تعالى في القرآن الكريم مجملاً ومفصلاً. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1. وقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2 وورد ذكر هذه الأسماء تفصيلاً، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. ويختم الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز كثيراً من الآيات بأسمائه الحسنى كقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} 4 وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} 5، وقوله {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 6، وفي السنة   1 سورة الأعراف: الآية (180) 2 سورة طه: الآية (8) 3 سورة الحشر الآية (22ـ 24) 4 سورة البقرة الآية (263) 5 سورة النساء الآية (24) 6 سورة المائدة: الآية (34) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 مثل ما في القرآن من نسبة الاسم لله تعالى وذكر الأسماء له عز وجل، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم باسمك أموت وأحيا" 1. وقوله: "باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء.." 2 وقوله: "إن الله هو السلام" 3 ومع ذلك فقد اختلفت مواقف الناس في أسماء الله تعالى من مثبت ونافي وملحد فيها وفي معانيها، كما وقع خلاف في عددها وتعيينها وفي الاسم الأعظم، وفي معنى إحصائها، وفيما يلي نتعرف على موقف رشيد رضا من هذه المسائل.   1 البخاري: الصحيح: ك: الدعوات: باب: ما يقول إذا قام، ح: 6312 (11/117) 2 الترمذي السنن: أبواب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى، ح: 3388 (5/465) وقال: حسن صحيح غريب. 3 البخاري: الصحيح، ك: الأذان: باب التشهد في الآخرة، ح: 831 (الفتح 2/ 363) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 المطلب الأول: موقف الناس من الأسماء الإلهية : كان الواجب أن لا يقع خلاف حول ثبوت الأسماء الحسنى لله تعالى، وقد تواتر على ثبوتها الكتاب والسنة، ولا معارض لذلك من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ولا صارف لها يصرفها عن ظاهرها، ولكن الأمر جرى على غير سنته، فلقد نفت "الجهمية" 4 الأسماء وما دلت عليه من معان وأحكام. وأثبت "المعتزلة" 5 الأسماء دون معانيها، فقالوا: عليم بلا علم، سميع بلا سمع.. ألخ 6. ونفاة الأسماء لا ينكرون إطلاق الأسماء على الله تعالى، إلا أنهم   4 سبق تعريفها، انظر (ص:308) 5 أتباع واصل بن عطاء، نسب إليهم القول بإنكار القدر، ونفي الصفات والقول بخلق القرآن. انظر: الملل والنحل (1/ 38) ، والفرق بين الفرق (ص: 20 ـ 21) 6 انظر: ابن ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 169) ، ط. دار الكتاب العربي اللبناني، بيروت، وانظر أيضاً: الرازي: شرح الأسماء الحسنى (ص: 29) ، والرد على المريسي للدارمي (ص: 7) ، وعبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 200) وما بعدها، ط. الكليات الأزهرية، القاهرة، 1396هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 يقولون إن إطلاقها عليه تعالى مجازي لا حقيقي 1. وفي مقابل هؤلاء النفاة وقف فريق المثبتين لأسماء الله الحسنى، وما دلت عليه من الصفات العليا، وهم أهل السنة والجماعة من السلف الصالح ومن تبعهم. ومذهبهم في ذلك: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون فيها التوقيف 2. يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "..وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظاً ولا معنى بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم برياً من التشبيه، وتنزيههم خلياً من التعطيل.." 3. وكان الشيخ محمد رشيد رضا من فريق المثبتين، أهل السنة والجماعة، فأثبت الأسماء لله تعالى وأثبت ما دلت عليه من معان وأحكام، وبيّن أنواع الإلحاد فيها. فيقول عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 4 "..والمعنى: ولله دون غيره جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات" 5.   1 الأشعري: المقالات (1/ 261) ، ابن تيمية: درء التعارض (5/ 186) ، وابن القيم: ببدائع الفوائد (1/ 164) ، وأحمد بن عطية الغامدي: البيهقي (ص: 122) ط. مكتبة العلوم والحكم، الثالثة 1412هـ. 2 انظر مثلاً: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 7) ، والبيهقي: الأسماء والصفات (1/ 25) ، ط. دار الكتاب العربي، الأولى 1405هـ وابن منده: التوحيد ومعرفة أسماء الله (2/ 14) ، والخطابي: شأن الدعاء (ص:111) ، ط. دار المأمون للتراث، دمشق، الأولى 1404هـ. وابن القيم: بدائع = = الفوائد (1/ 170) 3 بدائع الفوائد (1/ 170) 4 سورة الأعراف، الآية (180) 5 تفسير المنار (9/ 431) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ويقول في موضع آخر: "وأسماء الله كثيرة وكلها حسنى بدلالة كل منها على منتهى كمال معناه وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم" 1. فمع إثباته للأسماء يرى الشيخ رشيد أن معنى الحسن فيها يرجع إلى أمرين: أحدهما: دلالتها على المعاني والصفات الكاملة. الثاني: علوها وفضلها ومفارقتها في الحقيقة لما يطلق منها على المخلوق. فوافق الشيخ رشيد في ذلك أهل السنة وخالف فريقين: الأول: من قال إن أسماء الله جامدة لا تدل على معنى، بل هي أعلام محضة كحروف المعجم في دلالتها على مسمياتها دون ملاحظة معنى زائد 2. الثاني: من نفى الأسماء فراراً من التشبيه، ونفى لذلك أن يسمى الله بهذه الأسماء، ونفى حتى أن يقال إنه شيء، حتى لا يشبهه بالأشياء 3. فبين الشيخ رشيد أن ما أطلق على المخلوقين من هذه الأسماء لا يقتضي تشبيهاً ولا تمثيلاً، لأن أسماء الله تعالى وصفاته تعلو وتشرف على صفات المخلوقين، وتدل على أكمل المعاني وأصدقها بخلاف صفات المخلوقين. فيقول في ذلك: "فحاصل ما تقدم أن جميع ما أطلق على الله تعالى من الأسماء والصفات هو مما أطلق قبل ذلك على الخلق إذ لو وضع لصفات الله تعالى ألفاظاً خاصة وخوطب بها الناس لما فهموا منها شيئاً..   1 المصدر نفسه (9/ 432) 2 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 8) ، وابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 170) 3 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 23) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 27) ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1398هـ ت: خليل هراس، والأشعري: المقالات (1/ 259) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وقد جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بما دل عليه العقل من تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين وكونه لا يماثل شيئاً ولا يماثله شيء، فعلم أن جميع ما أطلقوه عليه من الألفاظ الدالة على الصفات.. لا ينافي أصل التنزيه.." 1. وننتقل من هذا الإثبات الإجمالي إلى تفصيل مذهب الشيخ رشيد في أسماء الله تعالى.   1 تفسير المنار (3/ 201) ، وأيضاً: المجلة (15/ 906 ـ 907) ، وانظر: التوحيد لابن خزيمة (ص: 27) ، وابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 164) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 المطلب الثاني: مسألة الاسم والمسمى أولاً: تعريف الاسم: الاسم مشتق من السمو ـ على الراجح ـ وكما هو مذهب البصريين، والأصل فيه: سَمَو كـ جَمَل، والجمع: أسماء كقنو وأقناء 2. والاسم في اصطلاح النحاة هو: "اللفظ الذي وضع دلالة على المعنى" 3. وبمثل هذا التعريف عرّف الشيخ رشيد الاسم فقال: "الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات من الذوات كحجر، وخشب، وزيد، أو معنى من المعاني كالعلم والفرح.." 4.   2 انظر: الزجاج: معاني القرآن (1/ 40) ، والأنباري: الإنصاف في مسائل الخلاف (1/ 6ـ16) ط. دار إحياء التراث العربي، (مصورة عن المكتبة التجارية بمصر) 3 السهيلي: "نتائج الفكر في النحو": (ص: 38) ط. دار الرياض للنشر والتوزيع، ت: محمد إبراهيم البنا. 4 تفسير المنار (1/ 40) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ثم ينتقل الشيخ رشيد إلى الكلام على الأسماء الحسنى فيعرفها ويبين أقسامها من حيث دلالتها ومن حيث اشتقاقها، فيقول: "الأسماء جمع اسم؛ وهو اللفظ الدال على الذات فقط أو على الذات مع صفة من صفاتها، سواء كان مشتقاً كالرحمن الرحيم، الخالق الرازق، أو مصدراً كالرب والسلام والعدل.." 1. ثم يقسم أنواع دلالات الأسماء الحسنى قائلاً: "وهذه الأسماء المشتقة كل منها يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التي اشتق منها معاً بالمطابقة، وعلى الذات وحدها أو الصفة وحدها بالتضمن، ولكل منها لوازم يدل عليها بالالتزام.." 2. وهذا الموقف صحيح موافق لما ذهب إليه أهل العلم 3. ثانياً: الاسم والمسمى (العلاقة بين الاسم والمسمى) كان السلف ـ رحمهم الله ـ يكرهون الخوض في هذه المسألة ـ وفي كل مسألة لم يرد ذكرها في الكتاب والسنة ـ لأنها من الأمور المحدثة 4.ولكن ـ ولأن البحث فيها لم يتوقف ـ اضطر علماء السنة إلى الخوض فيها وبيان وجه الحق من الأقوال ورد الباطل منها 5. وقد تعددت الأقوال في هذه المسألة 6 ويمكنني أن ألخصها في ثلاثة أقوال، هي الأقوال الرئيسة في هذه المسألة: أحدها: أن الاسم هو المسمى: وأن أسماء الله تعالى هي هو. وهو   1 المصدر نفسه (9/ 431) 2 المصدر نفسه (1/ 46) 3 انظر: ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 162) وقد اطلع عليه رشيد رضا. انظر (ص: 180) من هذا البحث. 4 انظر: الطبري: صريح السنة (ص: 17) ت: بدر المعتوق، ط. دار الخلفاء الأولى 1405هـ. 5 انظر مثلاً: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (2/ 228) 6 انظر: الأشعري: المقالات (1/ 252) ، وابن تيمية: مجموع الفتاوى (6/ 186) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 قول أهل الحديث وكثير من المنتسبين إلى السنة. مثل اللالكائي 1 والبغوي 2، ومن غيرهم: أبو عبيدة معمر بن المثنى 3. الثاني: أن الاسم غير المسمى وأسماء الله تعالى غيره. وهو قول الجهمية والمعتزلة وكثير من الزيدية، وكثير من الخوارج. الثالث: أن الاسم للمسمى: أو الإمساك والتفصيل، وهو القول الحق، وممن قال به: الطبري 4، وأحمد بن حنبل 5، وابن تيمية 6، وابن القيم 7. وأكثر المنتسبين إلى السنة 8. وهذا القول هو الموافق للكتاب والسنة ولفظهما، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 9 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء.." 10 هو الموافق أيضاً لمنهج أهل السنة والجماعة في موقفهم من الألفاظ والعبارات المجملة، وعدم إطلاقها، والاستفصال عن معناها والتقيد بالألفاظ والتعبيرات الواردة في الكتاب والسنة 11. ويتلخص هذا المذهب في نقطتين:   1 انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/ 228) ، وهو: أبو القاسم هبة الله، ابن الحسن، الحافظ، الإمام، ت 418هـ. السير (17/ 419) 2 معالم التنزيل (1/ 38) ، وهو: الحسن بن مسعود الفراء، الإمام العالم، محيي السنة، ت: 516هـ. السير (19/ 439) 3 مجاز القرآن (1/ 16) وهو: من صفرية الخوارج. المقالات (1/ 198) والسير (9/ 445) 4 صريح السنة (ص: 26 ـ27) وهو أبو جعفر محمد بن جرير العالم المجتهد ت: 310هـ. السير (14/ 267) 5 طبقات الحنابلة (2/ 270) 6 مجموع الفتاوى (6/ 206) 7 بدائع الفوائد (1/ 16 ـ17) 8 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (6/ 201) 9 سورة الأعراف، الآية (180) 10 البخاري: ك: المناقب، باب: ما جاء في أسماء رسول الله (، ح: 3532 (6/641) 11 انظر: ابن تيمية: التدمرية (ص:22) ، وابن عثيمين: تقريب التدمرية (ص: 52) ، وفالح بن مهدي: النحفة المهدية (1/ 136) وما بعدها، وابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 17) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أولاً: التقيد بتعبير الكتاب والسنة وعدم إطلاق ما لم يرد فيهما أو أحدهما. ثانياً: الاستفصال عن معنى "الغير" إذ هو مجمل يجب التفصيل فيه 1. فإذا كان المقصود أن الاسم الذي هو اللفظ الدال على المعنى، غير هذا المعنى وهو الشيء الموجود في العيان، بحسب اللفظ والوضع اللغوي، فصحيح 2. وإن كان المراد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه اسماً أو سماه خلقه بأسماء من عندهم، فهذا هو الباطل وهو قول الجهمية، وهو مرادهم بأن الاسم غير المسمى، وهو قول فاسد لأن أسماء الله من كلامه وكلامه غير مخلوق فأسماؤه هي منه وهي غير مخلوقة، سمى بها نفسه 3. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "..منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين صحيح وباطل فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها، ولا ريب أن الله تبارك تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها فلم يزل بأسمائه وصفاته وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمى اسمه.. وبلاء القوم من لفظة الغير فإنها يراد بها معنيان: أحدهما: المغاير لتلك الذات المسماة بالله، وكل ما غاير الله مغايرة محضة   1 انظر: ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 17) ، ومختصر الصواعق (2/ 420) 2 ابن القيم: المصدر السابق (1/ 16) ، وشفاء العليل (ص: 390 ـ 391) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1407هـ، وابن حجر: فتح الباري (11/ 225) ، والسهيلي: نتائج الفكر (ص: 39) . 3 ابن القيم: المصدر السابق (1/ 17) ، وانظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 7 ـ 8) ،وابن القيم: شفاء العليل (ص: 457) ، وانظر أيضاً: د. محمد بن خليفة التميمي: معتقد أهل السنة في أسماء الله الحسنى (ص: 390ـ 391) ط. دار إيلاف، الأولى 1417هـ، وعبد الله بن صالح الغصن: أسماء الله الحسنى (ص: 33 ـ 34) ط. دار الوطن، الأولى 1417هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 بهذا الاعتبار فلا يكون إلا مخلوقاً، ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا خرجت عنها فإذا قيل: علم الله وكلام الله غيره بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحاً ولكن الإطلاق باطل.."1. وبهذا التفصيل يزول الإشكال ويتبين الصواب، فأسماء الله من كلامه وكلامه غير مخلوق، ولا يقال هو غيره ولا هو هو. ويؤيد مذهب السلف علماء النحو، إذ يقول إمامهم وهو سيبويه 2 في كتابه الشهير: "هذا باب اللفظ للمعاني" 3 وهو معنى قول السلف: الاسم للمسمى. وأما الشيخ رشيد رضا فيوافق مذهب السلف في هذه المسألة فيقرر أنه بحسب الوضع اللغوي فإن الاسم غير المسمى فيقول: "فالاسم غير المسمى في اللغة وقد أخطأ من نسب إلى سيبويه غير هذا" 4. وقد نقلت قبل قليل عن سيبويه ما يوضح مذهبه في ذلك. ويفرق الشيخ رشيد بين المعاني المشتبهة ويبين ما فيها من الإجمال فيقول: "الاسم هو اللفظ الذي ينطق به لسانك ويكتبه قلمك، كقولك: شمس أو زيد أو مكة، والمسمى هو الكوكب المعروف أو الشخص المعين أو البلد المحدد.. ولفظ "اسم" اسم لهذا النوع من اللفظ الذي يدل على الجواهر والأعراض دون الأحداث التي تسمى في النحو أفعالاً.." 5. ويُخَطِّئُ الشيخ رشيد ـ تبعاً لابن القيم ـ من قال إن الاسم عين المسمى، فهذا "لم يقله نحوي ولا عربي قط" 6. ويبين الشيخ رشيد وجه الشبهة عند من قال: إن الاسم هو المسمى   1 بدائع الفوائد (1/ 17 ـ 18) وانظر أيضاً: شفاء العليل (ص: 457) 2 هو: إمام النحو، حجة العرب، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر. السير (8/ 351) 3 الكتاب (1/ 24) ط. الهيئة العامة للكتاب، ت: عبد السلام هارون. 4 تفسير المنار (1// 42) وقارن مع ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 16) 5 المصدر نفسه (1/ 40) 6 المصدر نفسه (1/ 40ـ 41) وقارن مع ابن القيم: بدائع الفوائد (ص:17) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ويجيب عنها فيقول: "ومنشأ الغلط عند بعضهم أن الله تعالى أمرنا بذكره وتسبيحه في آيات وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى.. رأى بعضهم أن يجمع بين هذه الآيات بجعل الاسم عين المسمى.. وإنما يذكر اللسان اسم الله تعالى. كما يذكر من الأشياء أسماءها دون ذوات مسمياتها، فإذا قال نار لا يقع جسم النار على لسانه فيحرقه، وإذا قال الظمآن ماء لا يحصل مسمى هذا اللفظ فينقع غلته.." 1 وإذا كان الشيخ رشيد يرى أن الاسم غير المسمى بحسب الوضع اللغوي، فهل يذهب مذهب الجهمية الذين اتكأوا على هذه الحقيقة اللغوية وألبسوها ثوب الباطل؟ والجواب: أن لا. وهو الواضح من النصوص التي نقلتها عنه في إثبات الأسماء الحسنى لله تعالى مثل قوله: "ولله دون غيره جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات" 2. وقوله: "وأسماء الله كثيرة وكلها حسن بدلالة كل منها على منتهى كمال معناه.. كالرحيم والحليم والحفيظ والعليم.." 3. فهذا الموقف من الشيخ رشيد صحيح موافق لما عليه أهل السنة. وقد اعتمد فيه على ابن القيم ـ رحمه الله ـ.   1 المصدر نفسه (1/ 44) وقارن مع ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 18 ـ 19) 2 تفسير المنار (9/ 431) 3 المصدر نفسه (9/ 432) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 المطلب الثالث: مصادر معرفة أسماء الله تعالى : مذهب أهل السنة أن أسماء الله تعالى توقيفية، وكذا صفاته تبارك وتعالى، وإن كان يجوز من باب الإخبار عنه تعالى أن يقال قديم وشيء وموجود ونحوه، إذ أن باب الإخبار عنه ليس توقيفياً 4 قال الإمام   4 انظر: ابن منده: التوحيد (2/ 14) ، والخطابي: شأن الدعاء (ص: 111) ،والبيهقي: الأسماء والصفات (1/ 25) ، وابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 162) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الخطابي 1 رحمه الله: "ومن علم هذا الباب أعني الأسماء والصفات ومما يدخل في أحكامه ويتعلق به من شرائط أنه لا يتجاوز فيها التوقيف ولا يستعمل فيها القياس.." 2. وقد خالف في هذا المعتزلة البصريون فقالوا بإثبات الأسماء بالقياس وما دل عليه العقل ولو لم يرد به النص وخالفهم البغداديون 3. أما الشيخ رشيد فيرى رأي أهل السنة من أن أسماء الله تعالى توقيفية. فيقول: "وقد اتفق أهل الحق على أن أسماءه وصفاته توقيفية، ونصوا على إثبات كل ما ورد في الكتاب والأحاديث الصحيحة.. وعلى منع كل ما دل على منعه ... وجوز المعتزلة ما صح معناه ودل الدليل على اتصافه به.."4. وأما الأسماء التي يطلقها المتكلمون على الله تعالى مثل: واجب الوجود، أو الواجب والصانع والقديم 5 فيرى الشيخ رشيد أنها لا تثبت أسماءً لله تعالى، وإنما هي من اصطلاح المتكلمين، فيقول:" ويقتصر فيها كلها على التوقيف وليس منه الواجب والصانع والموجود، ولكن يجوز الإخبار بهذه الصفات عنه تعالى فيقال: إن الله موجود، وواجب وهو صانع كل شيء، والمتقن لكل ما خلقه، ولا يقال في الدعاء والنداء يا واجب أو يا صانع اغفر لي، مثلاً. وبهذا القدر يصحح كلام المتكلمين.." 6. وكما أطلق المتكلمون أسماء لم ترد في الكتاب والسنة، وإن صحح ذلك من جهة الأخبار، فلقد أطلق الصوفية على الله تعالى أسماء لا تصح بوجه من الوجوه.   1 هو: الإمام العلامة الحافظ اللغوي، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم، صاحب التصانيف، ت: 388هـ السير (17/ 23ـ 28) 2 شأن الدعاء (ص: 111) 3 المقالات (2/ 206ـ 207) والرازي: شرح الأسماء (ص:36) والبغدادي: الفرق بين الفرق (ص337) 4 تفسير المنار (9/ 443ـ 444) 5 انظر: الباقلاني: التمهيد (ص: 43) وما بعدها، والبغدادي: أصول الدين (ص:68) 6 تفسير المنار (9/ 443ـ 444) وقارن مع ابن القيم بدائع الفوائد (1/ 161) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فادعى بعضهم أن الضمير "هو" من أسمائه تعالى، فيدعونه ويذكرونه به، وادعى بعضهم كذلك: أن "آه" من أسمائه تعالى، بل ذهب بعضهم إلى أن "هو" هو الاسم الأعظم 1. ويرد الشيخ رشيد على هؤلاء أيضاً فيقول:"والضمير "هو" ليس من أسماء الله تعالى ولا يدل بنفسه على ذات الله تعالى ولا على صفة من صفاته، وإنما يدل على ذلك كما يدل على غيره إذا وقع في الكلام ضميراً راجعاً إليه.."2. وأما " أه" التي يرددونها على أنها ذكر لله تعالى، فإنها وكما ينقل الشيخ رشيد:"بفتح الهمزة وسكون الهاء ليس من الكلمات العربية في شيء، بل هو لفظ مهمل لا معنى له مطلقاً، وإن كان بالمد فهو إنما يدل في اللغة العربية على معنى التوجع، وليس من أسماء الذوات فضلاً عن أن يكون من أسماء الله الحسنى.."3. وأما الدعاء بالأسماء المقيسة والمخترعة على غير قياس، مثل: يا سخي، قياساً على يا جواد، فلا يجوز 4. قال الشيخ رشيد:"ومثله يا هو فإنه لم يقله أحد من السلف الصالح ولا جائز في لغة الدين، وأولى منه بالإنكار"أه" فإنه ليس من هذه اللغة ... "5. ويجوز الإخبار عنه تعالى ببعض الأسماء المقيسة كما سبق لأن باب الإخبار عنه تعالى أوسع من باب الصفات وباب الصفات أوسع من باب الأسماء 6. أي أننا نخبر عنه تعالى   1 مجلة المنار (22/ 51ـ 53) وانظر: عبد الرحمن الوكيل: "هذه هي الصوفية" (ص: 144ـ 145) ط. دار الكتب العلمية. بيروت، الرابعة 1984م. 2 المصدر نفسه (22/ 151) 3 مجلة المنار (22/ 49) 4 انظر: الخطابي: شأن الدعاء (ص: 111) 5 مجلة المنار (22/ 154) 6 انظر: ابن تيمية درء التعارض (4/ 140) ، وابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 161) ، ورشيد رضا: تفسير المنار (9/443) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 بأخبار ولكن لا نشتق له منها صفات: كالشيء والموجود والقائم بنفسه فإنه يخبر به ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا 1. وأيضاً فباب الصفات أوسع من باب الأسماء، فليس كل ما صح صفة صح اسماً: كالمتكلم والمريد والمستوي والنازل والضاحك مع أنها صفات وُصِف بها الرب تعالى 2. وهذا ما يقرره الشيخ رشيد إذ يقول: "ولا يجوز أن يشتق له تعالى أسماء من كل ما أخبر به عن نفسه ولو بصيغة اسم الفاعل، فلم يقل أحد بإطلاق اسم الزارع عليه تعالى من قوله {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 3، ولا الماكر من قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 4، ولا المخادع أو الخادع من قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} 5.." 6. ومن هذا يتبين لنا أن الشيخ رشيد يقول بالتوقيف كأهل السنة وهو الصحيح.   1 ابن القيم: بدائع الفوائد (1/161) 2 ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 19) 3 سورة الواقعة، الآية (64) 4 سورة المائدة، الآية (54) 5 سورة النساء، الآية (142) 6 تفسير المنار (9/ 443) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 المطلب الرابع: عدد أسماء الله تعالى : فإذا كان توقيف الشرع هو مصدر العلم بأسماء الله تعالى، وكان العلم بها أصل للعلم بكل معلوم 7، فما هو الوارد منها في الكتاب والسنة من حيث العدد ومن حيث تعيينها، وما ثواب وفائدة حفظها وإحصائها؟   7 ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 163) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فقد جاء في الصحيح 1 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "لله تسعة وتسعون اسماً ـ مائة إلا واحد ـ لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر". وفي رواية في غير الصحيح 2 ورد ذكر هذه الأسماء التسعة والتسعين، على خلاف شديد في سردها مع الزيادة والنقص 3. ففي هذا الحديث مسائل: الأولى: عدد أسماء الله تعالى، فقد انقسم الناس فيها إلى فريقين، الأول: ومعه الحق، على أن أسماء الله تعالى لا تنحصر في عدد معين. وهو قول جمهور العلماء 4. وحكى النووي الاتفاق عليه 5، وذهب الفريق الثاني: إلى أن أسماء الله تعالى معروفة العدد، ولكنهم اختلفوا في هذا العدد. فيذهب ابن حزم إلى أنه تسعة وتسعون، تمسكاً بظاهر الحديث السابق، وقد أجيب بأن الحصر المذكور باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، ولا يلزم من ذلك ألا يكون هناك اسم زائد 6. وحديث "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" 7 يشهد للفريق الأول.   1 البخاري: ك: الدعوات، باب: لله مائة اسم غير واحد ... ح: 6410 (11/218) 2 انظر: الترمذي، ك: الدعوات، باب: 83، ح: 3507 (5/ 530) ، وابن ماجه: ك: الدعاء، باب أسماء الله عز وجل، ح: 3861. 3 انظر: ابن حجر: فتح الباري (11/ 219) 4 انظر: البيهقي: الأسماء والصفات (1/ 27 ـ 28) ، والخطابي: شأن الدعاء (ص: 24 ـ25) ، وابن= = تيمية: درء التعارض (3/ 332 ـ 333) والفتاوى له (22/ 482) ، وابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 166) ، وابن حجر: الفتح (11/ 221) 5 شرح مسلم (17/ 5) ط. دار الريان. 6 انظر: الفتح (11/ 221) والمراجع في الحاشية رقم (9) (ص:322) 7 أحمد: المسند (1/ 391) ، والحاكم في المستدرك: ك: الدعاء (1/ 509) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والذي ذهب إليه الشيخ رشيد في هاتين المسألتين، عدد أسماء الله وتعيينها، هو الراجح وهو قول الجمهور كما سبق ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 المطلب الخامس: معنى إحصاء أسماء الله تعالى : المسألة الثالثة في هذا الحديث هي معنى إحصاء أسماء الله تعالى الموعود عليها بالجنة. وقد اختلفت آراء وأقوال العلماء في معنى هذا الإحصاء. ذكر الخطابي منها أربعة أقوال: أحدها: حفظها، ويدل له رواية: "لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة" 1، ورواية: "من حفظها دخل الجنة" 2. الثاني: الطاقة: ومعنى أن يطيقها أن يقوم بحقها ويعمل بمقتضاها فيعتبر بمعانيها ويلزم نفسه بها كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} 3. الثالث: أنه فهم معانيها ومعرفتها. الرابع: أن يقرأ القرآن فيستوفي هذه الأسماء في أضعاف التلاوة، والمراد حفظ القرآن فمن حفظه دخل الجنة 4. والذي يترجح أن الإحصاء يشمل أموراً ثلاثة: أحدها: إحصاء ألفاظها وعددها. الثاني: فهم معانيها ومدلولها. الثالث: دعاء الله تعالى بها 5.   1 هي رواية البخاري القريبة. 2 مسلم: الصحيح، ك: الذكر والدعاء، ح: 4 [2677] (4/ 2062) ط: عبد الباقي. 3 سورة المزمل، الآية (20) 4 انظر: شأن الدعاء (ص: 26 ـ 29) بتصرف. 5 انظر: ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 164) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وينقل الشيخ رشيد هذه الآراء في معنى الإحصاء فيقول: "أي من أحصاها حفظاً لمعانيها وعلماً بها وإيماناً، أو من استخرجها من كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يزداد بها إيماناً ومعرفة بربه عزوجل، ويدعوه بها، أو من أطاق العمل بما تهدي إليه من الكمال والبر، أو من أخطرها بباله وتفكر في معانيها عند ذكرها بتلاوة القرآن والأذكار المأثورة خاشعاً معتبراً متدبراً راغباً راهباً ... ولك أن تقول به كله ... " 1. ويخص الشيخ رشيد مسألة دعاء الله بها بمزيد من العناية، ويميل إلى القول بها مستدلاً بالكتاب والسنة، فيورد أدلة الكتاب والسنة التي تشير إلى هذا المعنى. فيقول: "وقد ورد في بعض روايات الحديث الضعيفة "وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة" رواه الديلمي 2 من حديث عليّ كرم الله وجهه. وفي أخرى "من دعا بها استجاب الله له" رواه ابن ماجه عن أبي هريرة 3، وليس فيها ذكر الإحصاء وعندنا فوق ذلك كله قول الله عزوجل في سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ... فهو تعالى يهدينا إلى أن ندعوه ونتضرع إليه بهذه الأسماء الحسنى لاشتمالها على أحسن المعاني الدالة على منتهى الكمال والفضل ... " 4. ويقول: "ولم يقل أحد ممن يعتد بعلمه وفهمه أن المراد عدها بالأرقام أو إحصاؤها على السبح" 5.   1 مجلة المنار (17/ 738) 2 الحديث لم أجده في مسند الفردوس بهذا اللفظ. انظر: فردوس الأخبار (1/231) ط. الريان، ولكن ذكره السيوطي في الجامع الكبير، إلى أبي نعيم وابن عساكر عن علي بن أبي طالب. وهو في ضعيف الجامع الصغير برقم: (1944) وقال الألباني: ضعيف، وانظر: الجامع الكبير (19/1/ ص2370) ط. مجمع البحوث بالأزهر، الأولى 1395هـ. وقوله: كرم الله وجهه ليس من منهج السلف بل يترضون عنهم كلهم كسائر الصحابة رضي الله عنهم. 3 هذا اللفظ ليس عند ابن ماجه، ولكن عزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى ابن مردويه عن أبي هريرة، وهو في ضعيف الجامع الصغير برقم (1953) وقال الألباني: ضعيف وانظر: الجامع الكبير (19/1/2370) 4 مجلة المنار (17/739) 5 مجلة المنار (17/ 738) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فيميل الشيخ رشيد إلى معنى الدعاء بها ويرد القول بعدها عداً مجرداً عن الفهم والتدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 المطلب السادس: اسم الله الأعظم : أسماء الله تعالى كلها عظيمة، لكن منها واحد هو أعظمها، من دعا به استجيب له. كما قال صلى الله عليه وسلم: "..لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطي وإذا دعي به أجاب" 1. ورغم ذلك فقد أنكر بعضهم أن يكون في أسماء الله تعالى اسم أعظم من اسم، واختلفت مآخذهم في ذلك، فالأشعرية يرجعون مذهبهم هذا إلى أصلهم في كلام الله تعالى وأنه معنى واحد في النفس لا يتبعض ولا يتفاضل. والحق أن كلام الله يتفاضل، قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 2. وذهب جمهور أهل السنة إلى إثبات الاسم الأعظم تمسكاً بالحديث المشار إليه، وإلى أن كلام الله تعالى يتفاضل من جهة موضوعه وإن تشابه من جهة مصدره 3. والذين أثبتوه اختلفوا في تعيينه اختلافاً كثيراً وتعددت أقوالهم وأوصلها بعضهم إلى أربعة عشر قولاً 4، وبعضهم إلى عشرين قولاً 5، وبعضهم إلى أربعين قولاً 6.   1 الترمذي، ك: الدعوات، باب: 64، ح: 3475 (5/ 516) وقال: حسن غريب، والحاكم: المستدرك (1/ 683) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وانظر: الطبراني: الدعاء (2/ 831 ـ 835) ت: محمد سعيد البخاري. 2 سورة البقرة، الآية (106) ، وانظر ابن تيمية: درء التعارض (7/ 12، 271) 3 ابن تيمية: المصدر نفسه (7/ 273) 4 ابن حجر: فتح الباري (11/ 227) 5 السيوطي: الدر المنظم مع الحاوي للفتاوي (1/ 394 ـ 397) 6 الشوكاني: تحفة الذاكرين (ص: 71) ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الأولى 1408هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وأقوى هذه الأقوال قولان: الأول: أنه الحي القيوم 1. الثاني: أنه الله 2. وأما الشيخ رشيد فله رأي يجمع بين هذين الرأيين فإنه يرى أن اسم الله الأعظم هو "الله الحي القيوم" يقول الشيخ رشيد: "وبجمع هذين الاسمين 3 الكريمين هذه المعاني وغيرها من معاني الكمال الأعلى كان القول بأنهما مع اسم الجلالة ما يعبر عنه بالاسم الأعظم هو القول الراجح المختار عندنا" 4. ويقول: "وهذا الذي قلناه في بيان معنى الحي القيوم يجلي لمن وعاه ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم"5. ويستدل الشيخ رشيد على ذلك من السنة فيقول: "وقد أخرج أحمد 6 وأبو داود 7 والترمذي 8 وابن ماجه 9 عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ   1 روي هذا القول عن ابن عباس. انظر الرازي: شرح الأسماء الحسنى (ص: 30 ـ 31) ، وابن القيم: مختصر الصواعق (1/ 100) ، وزاد المعاد له (4/ 205) ط. مؤسسة الرسالة، ت: شعيب الأرناؤوط، ومدارج السالكين (1/ 448) وذكر أنه رأي شيخ الإسلام، وابن حجر: فتح الباري (11/ 227) 2 يروى عن جابر بن زيد والشعبي. انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 11) ، وهو رأي الخطابي: شأن الدعاء (ص: 25) 3 يعني "الحي القيوم". 4 تفسير المنار (1/ 74) 5 المصدر نفسه (3/ 28) 6 المسند (6/ 461) 7 السنن: كتاب الصلاة، باب: الدعاء، ح: 1496 (2/167) 8 الجامع الصحيح: ك: الدعوات، ح: 3478، وقال: حسن صحيح (5/517) 9 السنن: ك: الأدب، باب: اسم الله الأعظم، ح: 3855. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1 وفاتحة آل عمران {ألم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 2 ... " 3. ويعلل الشيخ رشيد اختياره هذا ـ بعد استدلاله بالسنة ـ إلى ما فيهما من المعاني العالية، فيقول عن لفظ الجلالة: "إن اسم الجلالة "الله" هو اسم الذات الجامع لمعاني الصفات العليا" 4. وقد أطال في شرح الاسمين "الحي القيوم" وما فيهما من المعاني وبيّن إنه يرجع إليهما ـ مع الرب الرحمن الرحيم ـ جميع معاني الأسماء والصفات ولو بطريق اللزوم. ثم قال: "ولجمع هذين الاسمين الكريمين هذه المعاني وغيرها كان القول بأنهما مع اسم الجلالة ـ ما يعبر عن بالاسم الأعظم ـ ... " 5.   1 سورة البقرة، الآية (255) 2 سورة آل عمران، الآية (1, 2) 3 تفسير المنار (3/ 28) 4 المصدر نفسه (1/ 72) 5 المصدر نفسه (1/ 74) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 المطلب السابع: الإلحاد في أسماء الله تعالى : قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6، ومعنى فادعوه بها: أي سموه بها وأجروها عليه واستعملوها فيه دعاء ونداءً 7. والإلحاد في أسمائه تعالى هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق   6 سورة الأعراف، الآية (180) 7 انظر: أبو السعود: إرشاد العقل السليم (3/ 296) ، والسيوطي: تفسير الجلالين مع حاشية الجمل (2/ 213) ، وصديق حسن خان: فتح البيان (3/ 465) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الثابت لها 1. وأصل الإلحاد: الميل والعدول عن الشيء 2، واللحد حفرة مائلة عن الوسط 3، وألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل 4. وعرّف رشيد رضا الإلحاد لغة بمثل ذلك فقال: "وأما الإلحاد فمعناه العام: الميل والازورار 5 عن الوسط حساً أو معنى ... ومنه: لحد القبر للميت: وهو ما يحفر في جانب القبر من جهة القبلة مائلاً عن وسطه ويسوى ببناءٍ ونحوه ويوضع فيه الميت.. ومن كلامهم: ألحد السهم الهدف أي مال في أحد جانبيه ولم يصب وسطه" 6. ويعرّف الشيخ رشيد رضا الإلحاد في أسماء الله تعالى تعريفاً شرعياً فيقول: "الإلحاد في أسمائه تعالى التكذيب بها، وإنكار معانيها وتحريفها بالتأويل ونحوه، وتسميته تعالى بما لم يسمِ به نفسه وبما لا يليق بكماله وجلاله، وإشراك غيره به فيها ـ وهذان قسمان: إشراك في التسمية: وهو يقصر على الأسماء الدالة على معاني الألوهية والربوبية وخصائصها. وإشراك في المعاني وهي قسمان: معانٍ خاصة بالإلهية والربوبية، ومعانٍ غير خاصة في نفسها وإنما الخاص به تعالى كمالها.." 7. ويفصل الشيخ رشيد هذا المعنى مع التمثيل ليزداد وضوحاً، فقد بيّن سبعة أنواع من الإلحاد في أسمائه تعالى هي كما يلي 8: الأول: التغيير فيها لوضعها لغيره تعالى مما عبد من دون الله كما قالوا   1 ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 169) 2 ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث (4/ 236) 3 الراغب: المفردات (مادة لحد، ص: 737) 4 الرازي: مختار الصحاح، لحد (ص: 247) 5 ازورّ عن الشيء ازوراراً أي: عدل عنه وانحرف. انظر: الرازي: مصدر سابق (ص: 117) 6 تفسير المنار (9/ 441) 7 تفسير المنار (9/ 442) 8 المصدر نفسه (9/ 442 ـ 448) وقد نقلت ذلك بتصرف واختصار، وقارن مع ابن القيم: بدائع الفوائد (1/ 169 ـ 170) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 في "اللات" فإنهم أنثوا به اسم الجلالة "الله" و"العزى" أنثوا به "العزيز" و "مناة" أنثوه من اسمه "المنان". الثاني: تسميته بما لم يسمِ به نفسه في كتابه أو ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا بد من مستند منهما 1. الثالث: ترك تسميته بما سمى به نفسه أو وصفه بما وصفها به، أو ترك إسناد ما أسنده لنفسه من الأفعال ـ بناءً على أن ذلك لا يليق به تعالى ـ كأن هؤلاء الملحدين أعلم منه تعالى ومن رسوله كامتناع بعض المبتدعة من ذكر بعض الآيات والأحاديث في صفات الله تعالى التي زعموا وجوب عدم ذكرها في عقائدهم إلا مقرونة بالتأويل. الرابع: تحريف أسمائه وصفاته تعالى عما وضعت له بضروب من التأويل تقتضي التشبيه أو التعطيل. الخامس: إشراك غيره بما هو خاص به من أسمائه باللفظ كاسم الجلالة "الله" و "الرحمن" و"رب العالمين"، وما في معناه من الإضافات كرب السموات والأرض ورب الكعبة. وهذا النوع إشراك في اللفظ ويستلزم الإشراك في المعنى. السادس: إشراك غيره تعالى في معاني أسمائه دون ألفاظها، وذلك بأن يكون لهذا المعنى الخاص بالله تعالى لفظ يدل عليه، فيحيدون ويلحدون عن هذا اللفظ إلى آخر مع إثبات معناه لغيره تعالى، ومثّل له رشيد رضا بلفظ "الوسيلة" فهو يطلق على بعض الصالحين الذين يقصدون لقضاء الحاجات من دون الله تعالى أو معه سبحانه، فالوسيلة هنا بمعنى الإله، إذ معناه المعبود، والدعاء مخ العبادة، أو بمعنى الرب المدبر للأمر، فهذا "الوسيلة" يدعى من دون الله فيأخذ معنى اسم من أسمائه تعالى، ويطلق عليه اسم آخر زيادة في الإلحاد والتمويه. وقد أشار الشيخ محمد بن   1 انظر ابن عبد البر: جامع بيان العلم (2/ 96) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 عبد الوهاب إلى هذا المعنى في بعض رسائله، ولكنه مثل بكلمة "السيد" 1. فهذا إلحاد في معاني الأسماء دون ألفاظها. السابع: إشراك غيره في كمال أسمائه أو تفضيله على اسمه تعالى، كمن يزعم أن لغيره تعالى رحمة كرحمته أو أشد، أو سمعاً كسمعه، وإجابة كإجابته للداعين أو أشد، كالذين يدعون غير الله تعالى من الموتى، ويعتقدون أنهم اقرب وأسرع في إجابتهم من الله تعالى، فيجمعون بين شركين: شرك دعاء غير الله تعالى، والكفر به بتفضيل غيره عليه سبحانه في سرعة الإجابة 2. هذه هي الأوجه التي بينها رشيد رضا في أنواع الإلحاد في أسماء الله تعالى وهو في ذلك متأثر بابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب 3، كما أن في تفصيله ذلك تحقيقات لم يسبق إليها على هذا النحو من البيان رحمه الله تعالى.   1 انظر: محمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (1/ 70) ط. الخامسة، سنة 1413هـ=1992م. وانظر أيضاً: محمد بن عبد الوهاب: تفسير كلمة التوحيد (ضمن الجامع الفريد/ ص:254) 2 وأورد الشيخ مثلاً وهو حكاية وقعت له مع امرأة عامية مصرية كانت تدعو وتستغيث بأحد المقبورين فتقول: يا متبولي يا متبولي، فقال لها: لماذا تدعين المتبولي، ولا تدعين الله، فقالت بالعامية: المصرية: "المتبولي ما يستناش" أي لا يمهل ولا يتأخر في إجابة من دعا. انظر: تفسير المنار (9/448) 3 وقد أشرت في الحواشي إلى مقارنة كلام رشيد رضا بكلام ابن القيم الذي اطلع رشيد رضا على كتابه " بدائع الفوائد" كما أنه اطلع على كتاب كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب. انظر: (ص: 182) من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 المبحث الثاني: قواعد الصفات المطلب الأول: منهج السلف في الصفات وتقرير الشيخ رشيد له جملة ... المطلب الأول: منهج السلف في الصفات وتقرير الشيخ رشيد له جملة: إن الأخبار في الصفات جاءت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لكتاب الله عزوجل، نقلها الخلف عن السلف على سبيل المعرفة والإيمان والإثبات والتسليم مع اجتناب التأويل 1 والجحود 2 3. والذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة، هو: الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها والتصديق بذلك وترك تحديد الكيفية في شيء منه 4.   1 التأويل لغة: الترجيح، واصطلاحاً: صرف اللفظ عن معناه إلى معنى يحتمله. التعريفات (ص:43) 2 الجحود: الإنكار مع العلم. والمراد به هنا إنكار الأخبار الواردة في الصفات. انظر: مختار الصحاح: جحد (ص: 40) ، والمفردات: جحد: (ص: 187) 3 ابن منده: التوحيد (3/ 7) ت: د. علي ناصر الفقيهي. 4 ابن عبد البر: التمهيد (7/ 148) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 يقول ابن خزيمة 1 [ت:311] : "فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر، مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه نقر بذلك بألسنتنا وتصدق ذلك قلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين.."2. ويقول الآجري 3: رحمه الله [ت: 360] :"اعلموا ـ وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل ـ أن أهل الحق يصفون الله عزوجل بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به ... " 4. ومن هذه النقول يتبين لنا أن مذهب السلف يقوم على ثلاثة أسس: الأول: الإيمان بالصفات الواردة؛ وأعني به؛ إثباتها على حقيقتها لا على المجاز 5. يقول الإمام الأوزاعي ـ رحمه الله ـ[ت: 156] : "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات" 6. ففي هذا تصريح من هذا الإمام يدل على إجماع التابعين على الإيمان بالصفات.   1 شيخ الإسلام إمام الأئمة صاحب التصانيف سمع من إسحاق بن راهويه وحدث عنه خلق كثير، وحدث عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين [السير:14/365ـ 366] 2 التوحيد وإثبات صفات الرب (ص: 10 ـ 11) ت: د. محمد خليل هراس. 3 هو الإمام المحدث القدوة شيخ الحرم الشريف محمد بن الحسين. [السير:16/133ـ 134] 4 الشريعة (ص:277) ، وانظر: ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 111) 5 انظر: ابن عبد البر: التمهيد (7/ 145) ، وقوام السنة: الحجة (1/ 287) ط. دار الراية، الأولى 1411هـ. ت: محمد ربيع ومحمد أبو رحيم. 6 رواه البيهقي: الأسماء والصفات (2/ 150) ت: د. عماد الدين حيدر، وصحح ابن تيمية إسناده: الحموية (ص: 23) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وقد سئل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ[ت: 179] عن الاستواء، فقال: "الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ... " 1. فهذا تصريح أيضاً بوجوب الإيمان بالصفات، فما يقال في الاستواء يقال في غيره من الصفات. الثاني: التنزيه: وأعني به تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه في أسمائه وصفاته. فقد قرأ رجل عند أحمد قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 2، ثم أومأ بيده، فقال له أحمد: قطعها الله قطعها الله ثم حرد 3وقام 4. وروي نحو ذلك عن مالك ـ رحمه الله ـ 5. قال نعيم بن حماد 6 [ت: 228] : من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه 7. الأساس الثالث: التفويض: وأعني به تفويض الكيفية لا تفويض المعنى. قال سفيان: "كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل" 8.   1 اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 441) ، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 150) ، والذهبي: السير (8/ 100) 2 سورة الزمر، الآية (67) 3 حرد: أي غضب. مختار الصحاح: حرد (ص: 55) 4 اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 479) 5 انظر: ابن عبد البر: التمهيد (7/ 145) 6 هو: ابن معاوية: الإمام العلامة الحافظ أبو عبد الله المروزي، صاحب التصانيف، أول من كتب المسند. السير (10/ 595 ـ 612) 7 اللالكائي: مصدر سابق (3/ 587) 8 الدارقطني: الصفات (ص: 70) ت: علي ناصر فقيهي، واللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 478) ، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 62، 151) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وقال الأوزاعي: "كان الزهري ومكحول 1 يقولان: أمرّوا الأحاديث كما جاءت" 2 يعني أحاديث الصفات. وروي نحوه: عن وكيع 3 ومالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهم 4. ولا ريب أن السلف يريدون بذلك تفويض الكيفية، إذ أن المعنى في هذا لا يفوض لأنه مفهوم بالضرورة من لغة العرب 5. فكانوا يفهمون معنى استوى على العرش، واستوى إلى السماء وغيره ويفرقون بين هذه المعاني 6. وأيضاً لو كان مذهب السلف نفي معنى الصفة لما قالوا: بلا كيف، فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضاً قولهم: "أمروها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني 7. ومن قواعد السلف في الإيمان والتنزيه وتفويض الكيفية، قاعدتان كبيرتان: أولاهما: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات وإنما أثبتناها لأن التوقيف ورد بها 8.   1 أبو عبد الله من أقران الزهري، عالم أهل الشام، ت: 113هـ. السير (5/155) . 2 اللالكائي (3/ 431) ، والبيهقي (2/ 198) ، وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 96) 3 أخرج قوله: عبد الله بن أحمد في السنة (1/267) 4 انظر: البيهقي: الأسماء والصفات (2/ 198) ، وابن عبد البر: جامع بيان العلم (2/ 96) ، والآجري: الشريعة (ص: 314) 5 انظر: ابن منده: التوحيد (3/ 7) . 6 انظر: اللالكائي: مصدر سابق (3/ 442 ـ 443) 7 انظر: ابن تيمية: الحموية (ص: 25) ، وسيبويه: الكتاب (1/ 24) ، وأحمد عبد الرحمن: مذهب التفويض (ص: 388) 8 انظر: قوام السنة: الحجة (1/ 175) ، والخطيب البغدادي: رسالة في الكلام على الصفات (ص:20) ت: عمرو عبد المنعم، نشر مكتبة العلم بجدة، وهذا الموضع منها تجده في السير (18/ 283 ـ 284) ، وانظر: شرح هذه القاعدة عند ابن تيمية: التدمرية (ص: 15 ـ 16) وفالح آل مهدي: التحفة المهدية (1/ 88) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الثانية: قولهم: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، ويلزم بها من أثبت شيئاً من الصفات ونفى شيئاً آخر أو من أثبت الأسماء ونفى الصفات 1. ويتضح لنا من هذا أن مذهب أهل السنة مذهب وسط بين النفاة المعطلة وبين المشبهة الممثلة 2. وقد سلك هذا السبيل المستقيم جمع كبير من العلماء الراسخين 3. وممن سلك هذا المسلك الشيخ محمد رشيد ـ رحمه الله ـ: وأرى أنه من المناسب أن أذكِّر ـ وباختصار ـ بالحقيقة التي بسطتها   1 انظر: ابن تيمية: التدمرية (ص: 11ـ 12) وصالح آل مهدي: التحفة (1/ 66) ، وابن عثيمين: تقريب التدمرية (ص: 37) ، وانظر أيضاً: ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 25) 2 انظر: ابن تيمية: الحموية الكبرى (ص: 17) . 3 منهم: أبو الحسن الأشعري [ت: 330] في "الإبانة" ط. الجامعة الإسلامية (ص: 52 ـ 54) ، وط. دار الأنصار (ص: 70) وما بعدها، ت: فوقية حسين محمود. ومحمد بن إسحاق بن منده [ت:395] في "التوحيد" المجلد الثالث، والرد على الجهمية، ت: على ناصر فقيهي، ط. الأولى 1401هـ. والدارمي [ت: 280] في "الرد على الجهمية" و "الرد على المريسي". وعبد الله بن أحمد [ت: 290] في "السنة" المجلد الأول. ابن خزيمة [ت: 311] في "التوحيد"، ت: د. محمد خليل هراس. ابن بطة [ت: 387] في "الإبانة" المجلد الثالث "الرد على الجهمية". الآجري [ت: 360] في "الشريعة" (ص: 251) وما بعدها. والبيهقي [ت:458] في " الأسماء والصفات. واللالكائي [ت: 418] في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة". وابن عبد البر [ت: 463] في التمهيد (7/ 145) . وقوام السنة [ت:535] في الحجة (1/ 174) ، ت: محمد ربيع بن هادي. وابن تيمية [ت: 728] الفتوى الحموية، والرسالة التدمرية، وبيان تلبيس الجهمية. وابن القيم [ت:751] في= = مختصر الصواعق. وابن الوزير [ت:840] في إيثار الحق على الخلق. ومرعي بن يوسف الكرمي في أقاويل الثقات، ط. مؤسسة الرسالة، الأولى 1406هـ (1/128) وما بعدها. والسفاريني [ت:1188] في لوامع الأنوار. والمقريزي [ت: 845] في الخطط (2/ 356) وما بعدها. ومحمد صديق حسن خان [ت: 1307] في قطف الثمر (ص: 31 ـ 32) ، ت: د. عاصم القريوتي. ط. أولى 1404هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 في المقدمة 1، وهي أن الشيخ محمد رشيد نشأ ـ حين نشأ ـ على ما ينشأ عليه لداته من طلبة العلم، على كتب الأشعرية وشروحها 2، وكان يظن ـ كغيره ـ أن هذه الكتب "هي وحدها منبع الدين وطريق اليقين" 3 و "أن مذهب السلف ضعيف"4 وأنه "أسلم ومذهب الخلف أعلم" 5 ثم بعد اطلاعه على الكتب التي تبين مذهب السلف حق البيان " لاسيما كتب ابن تيمية علم عِلْم اليقين أن مذهب السلف هو الحق الذي ليس وراءه غاية ولا مطلب وأن كل ما خالفه فهو ظنون وأوهام لا تغني من الحق شيئاً 6. وإذا بهذه الكتب "هي الكتب التي تجلي للمسلمين طريقة السلف المثلى وتورد الناس موردهم الأصلي، وإذا بقارئها يشعر ببشاشة الإيمان، ويحس بسريان برد الإيقان، وإذا الفرق بينها وبين كتب الأشاعرة كالفرق بين من يمشي على الصراط السوي وبين من يسبح في بحر لجي، تتدافعه أمواج الشكوك الفلسفية وتتجاذبه تيارات المباحث النظرية" 7. وتبين للشيخ رشيد أن "مذهب السلف الصالح أسلم وأعلم وأحكم" 8 على خلاف ما يقوله متكلمو الأشعرية من أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم 9. ونبدأ بكلام الشيخ رشيد الذي يبين به أهمية العلم بصفات الله تعالى وفائدته فيقول: "أما العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله فهو معراج الكمال الإنساني ... " 10. ويقول عن فائدة العلم بهذه الصفات: "حسبكم من   (ص:156) 2 انظر: تفسير المنار (3/ 196) 3 مجلة المنار (8/ 614) 4 تفسير المنار (3/ 197) 5 المصدر السابق (3/ 196) 6 المصدر نفسه (3/ 197) 7 مجلة المنار (8/ 614) 8 المصدر نفسه والصفحة. 9 انظر: البيجوري: تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص: 108) ط. المعاهد الأزهرية. 10 تفسير المنار (7/ 500) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فائدتها أن تفيض على الأرواح من خشية الله وقوة الإيمان بعظمته وسلطانه ما يطهرها من الرجس ويجذبها إلى عالم القدس، ويبغض إليها الرذائل ويحبب إليها الفضائل تقرباً إلى الله تعالى وطلباً لما عنده" 1. وبعد بيانه لأهمية العلم بالله تعالى وصفاته وفائدة ذلك يعرّف الشيخ رشيد ما هو مذهب السلف بشكل عام، وما يستحق أن يطلق عليه هذا الاسم، فليس كل رأي ينقل عن واحد من أهل العلم يكون مذهباً لأهل السنة، فيقول رشيد رضا في هذا: "وإنما مذهب أهل السنة والجماعة ما كان عليه السواد الأعظم من الصحابة وعلماء التابعين وأئمة الحديث والفقه ممن تبعهم في الاعتصام بنصوص الكتاب والسنة من غير تحريف 2 ولا تكلف بإرجاع ظواهرها إلى ما ابتدع من البدع والآراء التي أحدثها أهل الأهواء" 3. ويمثل رشيد رضا للسلف بفقهاء الأمصار كالشافعي ومالك وأحمد وسفيان والأوزاعي وداود بن علي 4. ثم يذكر الشيخ رشيد مذهب السلف وقاعدتهم العامة في الإيمان بصفات الله تعالى ـ والتي ذكرت ونقلت عنهم آنفاً ـ أنها تقوم على الإثبات والتنزيه، وتفويض الكيفية، فيقول: "فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات الخلق، الثابت عقلاً ونقلاً بقوله عزوجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5، فنقول: إن لله علماً حقيقياً هو وصفٌ له، ولكنه لا يشبه علمنا، وإن له سمعاً حقيقياً هو وصف له لا يشبه   1 مجلة المنار (2/ 606) 2 التحريف لغة: التغيير، وفي الاصطلاح: تغيير النص لفظاً أو معنى، وتحريف أسماء الله وصفاته هو: تغيير ألفاظها وتغيير معانيها إلى معان باطلة لا يدل عليها الكتاب والسنة. انظر: فالح آل مهدي: التحفة المهدية (1/ 26) . 3 تفسير المنار (7/ 552) 4 المصدر نفسه، وداود: هو ابن علي الظاهري، الإمام البحر الحافظ العلامة، المعروف بالأصبهاني، رئيس أهل الظاهر. السير (13/ 97) 5 سورة الشورى، الآية (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 سمعنا، وإن له رحمة حقيقية هي صفة له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس، وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى، فنجمع بذلك بين العقل والنقل.." 1. ويكرر الشيخ رشيد هذا المعنى مؤكداً عليه وعلى أن طريقة السلف في الإيمان بالصفات مع التنزيه هي التي تجمع بين العقل والنقل فيقول: "وإنما الطريقة المثلى في الجمع بين العقل والنقل في الصفات أن يقال: إنه قد ثبت بهما أن الله تعالى ليس كمثله شيء وثبت عقلاً أن خالق العالم لا بد أن يكون متصفاً بصفات الكمال، وثبت نقلاً عن الوحي الذي جاء به الرسل وصفه تعالى بالعلم والقدرة والرحمة والمحبة، والعلو فوق الخلق والاستواء على العرش وتدبير أمر العالم كله، فنحن نتخذ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 قاعدة ومرآة لفهم جميع ما وصف الله به تعالى نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أنه ليس كمثله شيء وأنه سميع بسمع ليس كمثل أسماع المخلوقين، ويبصر ببصر ليس كبصرهم، وعليم بعلم ليس كعلمهم، ورحيم برحمة ليست كرحمتهم، ويحب بمحبة ليست كمحبتهم، ومستوٍ على عرشه استواء ليس كاستواء ملوكهم على عروشهم، وتدبير أمورهم تدبيراً ليس كتدبير ملوكهم ورؤسائهم لما يدبرونه إلخ ... " 3. ومن ذلك يتبين لنا أن الشيخ رشيد يرى أن مذهب السلف ـ الذي يجمع بين الإثبات والتنزيه ـ قد دل عليه النقل والعقل كما أثبته ابن تيمية في درء التعارض وغيره. ولقد اتّهِم ابن تيمية ومدرسته بابتداع هذا المذهب ـ أعني مذهب إثبات الصفات ـ وأنهم لم يسبقوا إليه، وقد رد رشيد رضا على أحد الرافضة الذين رددوا هذه الدعوى بقوله: "وهذا كذب وافتراء وتضليل لعوام أهل السنة، وتمهيد إلى جذبهم إلى الرفض الذي من أصوله   1 تفسير المنار (1/ 77) 2 سورة الشورى، الآية (11) 3 مجلة المنار (28/ 270) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 تعطيل صفات الله تعالى بالتأويل وجعله عزوجل كالعدم ـ تعالى الله عما يقول المبتدعون علواً كبيراً. فما من صفة من تلك الصفات إلا وهي منصوصة في القرآن أو في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولعل كل قارئ للقرآن أو سامع له من المسلمين قد قرأ أو سمع وقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 1 وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2..وسمع قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 وما في معناها، وقوله تعالى في الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 4 وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 5 وقوله عزوجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 6 إلخ، وليعلم القارئ أن ما عزاه هذا الرافضي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه الأعلام ثم إلى الوهابية مما ليس في القرآن فهو في الأحاديث الصحيحة ... " 7. فهذا التدليل من الشيخ رشيد على صفات الله تعالى يبين أن هذه الصفات ثابتة إما في الكتاب والسنة أو في أحدهما. ويقرر الشيخ رشيد أن السلف يجمعون بين الإثبات والتنزيه ـ الثابت شرعاً وعقلاً ـ فيقول: "والقاعدة في ذلك أن تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه قد ثبت بدليل العقل والنصوص القطعية من النقل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأن السلف يجمعون بين الأمرين: تنزيه الرب ووصفه بما وصف به نفسه من الرحمة والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك، وعدم التحكم في التفرقة بين هذه الصفات وصفات العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام ... " 8.   1 سورة الفتح، الآية (10) 2 سورة "ص"، الآية (75) 3 سورة طه، الآية (5) 4 سورة النحل، الآية (50) 5 سورة الفجر، الآية (22) 6 سورة البقرة، الآية (186) 7 مجلة المنار (29/ 595) 8 المصدر نفسه (29/ 536) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ونستطيع ومن خلال هذا النص أن نتتبع تقرير رشيد رضا للقاعدة الثانية التي اعتمد عليها أهل السنة في إثبات الصفات، وهي أن "القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر" 1. ولقد صرح رشيد رضا بنقل هذه القاعدة عن السفاريني في لوائح الأنوار، وسيأتي. كما أنه نقل القاعدة الأخرى، صنو هذه، وهي أن القول في الصفات كالقول في الذات، من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "شرح حديث النزول" 2. وهاتان القاعدتان هامتان في تقرير مذهب السلف في الصفات. ولا يقتضي إثبات الصفات لله تعالى تشبيهاً له بالمخلوق، إذ أن الاشتراك في الأسماء لا يقتضي الاشتراك في الحقائق، وهذا ما يقرره الشيخ رشيد إذ يقول: " ... وأن هذا وغيره مما وصف به نفسه في كتابه لا ينافي كمال تنزيهه تعالى عما لا يليق به من نقائص عباده، ولا تقتضي مماثلته لهم فيما وهبهم من كمال، فإن الاشتراك في الأسماء لا يقتضي الاشتراك في المسميات، وأسماء الأجناس المقولة بالتشكيك في الممكنات تختلف من وجوه كثيرة، منها النقص والكمال، فكيف بها إذا كانت مشتركة بين الخالق والمخلوقات، فذاته تعالى أكمل من ذواتهم، ووجوده تعالى أعلى من وجودهم، وصفاته تعالى أسمى من صفاتهم، وهو ورسوله أعلم منهم بصفاته وأفعاله ... " 3. ويقودنا هذا إلى البحث عن شبهة المعطلة التي عطلوا صفات الله تعالى بسببها، والحق أن هذه الشبهة عامة في كل أهل البدع، وهي واحدة، عند الذين أنكروا الأسماء والصفات جميعاً، وعند من أثبت الأسماء دون الصفات، وعند من أثبت بعض الصفات دون بعض، ألا وهي: نفي   1 انظر: ابن تيمية: التدمرية (ضمن مجموع الفتاوى) : (3/ 17) 2 انظر: مجلة المنار (34/ 281) 3 الوحي المحمدي (ص: 46 ـ 47) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 التشبيه 1. يقول الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ: "وأما شبهة المبتدعة المتأولين فهي تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه التي يعبرون عنها في تأويل بعض الصفات بالتجسيم والتحيز وغيرها من لوازم الأجسام، فبهذه الشبهة عطلوا أكثر صفات الله تعالى حتى صارت عندهم في حكم العدم. والسلف الصالح أعلم منهم بمعاني النصوص وبما يجب الإيمان به وأشد منهم تنزيهاً للرب تبارك وتعالى ... " 2. وبناءً على هذه الشبهة أنكر المتكلمون حقيقة الصفات الإلهية فصرفوها إلى معان مجازية، أو أولوها فأرجعوها إلى القدرة أو الإرادة فيقولون: الرحمة هي الإحسان بالفعل، أو إرادة الإحسان. كما يحكي عنهم رشيد رضا 3. والحق أنهم ـ لجهلهم بطريقة القرآن ـ قد وقعوا فيما أرادوا أن يفروا منه فإنه يلزمهم فيما تأولوه مثل ما يلزمهم فيما أخرجوه عن ظاهره. يقول الشيخ رشيد مبيناً ذلك: "ذلك أن المبتدعة يقيسون الخالق على المخلوق، فيزعمون أن المعاني الحقيقية لتلك الصفات الإلهية تستلزم التشبيه الممنوع عقلاً ونقلاً، فوجب إخراج الألفاظ الدالة عليها عن مدلولها وحملها على معاني مجازية ليتفق العقل مع النقل، وفاتهم أن تلك المعاني المجازية هي مستعملة في المخلوقات كالمعاني الحقيقية، فالذين أولوا رحمة الله تعالى بإحسانه إلى خلقه فاتهم أن الإحسان المستعمل في اللغة تعبيراً عن صفات المخلوقين وأعمالهم محال على الله تعالى أيضاً ... كما يلزم ذلك متكلمي الأشعرية الذين وافقوا المعتزلة والجهمية والرافضة في تأويل ما عدا الصفات الثمانية التي يسمونها صفات المعاني ... " 4.   1 انظر: البيجوري: تحفة المريد (ص: 108) وابن خزيمة: كتاب التوحيد (ص: 27 ـ 28) ت: محمد خليل هراس. 2 مجلة المنار (29/ 534) 3 تفسير المنار (3/ 198) ، وانظر: الباقلاني: التمهيد (ص: 299) 4 مجلة المنار (29/ 536) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ويرى الشيخ رشيد أن الذي يهدم هذه الشبهة المبتدعة هو القول بمذهب السلف الجامع بين الإثبات والتنزيه، ويسلم من التعطيل والتشبيه ويبرأ من تكذيب الكتاب العزيز والسنة الصحيحة. فيقول: "ومذهب سلف الأمة يهدم هذه البدعة وشبهتها من أساسها ... وخلاصته: أننا نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفاته وأفعاله بمعانيها الصحيحة المتبادرة من اللغة مع القول بالتنزيه ككون محبة الله لأنبيائه وأوليائه ورحمته لعباده ليستا كمحبة المخلوقين ورحمتهم فيما بينهم، كما أن علمه تعالى ليس كعلمهم ... " 1. وبهذا الحل الصحيح والسلفي، يزول الإشكال الذي وقع فيه المتكلمون وجعلهم يفرقون بين المتماثلات، فيؤمنون ببعض الصفات ويكفرون ببعض مع أنها جميعاً من باب واحد وطريق ثبوتها واحد. يقول الشيخ رشيد: "ومن عجيب صنع بعضهم أنهم ذكروا السمع والبصر والكلام وعدوها من الصفات التي عليها مدار الإيمان بالألوهية على أنهم سموها صفات سمعية، ولم يذكروا الحكمة والرحمة والمحبة مع أن السمع ورد بها والدلائل العقلية عليها أظهر ... وإنني أنقل في هذا المقام جملة من كلام أهل الأثر وتابعي السلف في معنى ما تقدم من عدم التفرقة بين صفات الله تعالى ... " ثم نقل الشيخ رشيد ـ عن التدمرية ـ قاعدة السلف الهامة والتي يرتكز عليها إثبات السلف للصفات وهي أن "القول في بعض الصفات كالقول في البعض" 2. وبهذه القاعدة يجاب عدة من الطوائف المنحرفة من الذين يفرقون بين المتماثلات ويجمعون بين المتناقضات كالجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية 3. وبعد ذلك العرض لشبهة المتكلمين ونقدها ودحضها، حتى لم يبق لهم   1 المصدر نفسه (29/ 536) 2 تفسير المنار (3/202) وما بعدها، وقارن مع السفاريني: لوائح الأنوار (1/ 185) ط. المنار. 3 انظر: ابن تيمية: الرسالة التدمرية (ص: 11) وما بعدها، وفالح بن مهدي: التحفة المهدية (1/ 65) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 حجة في نفي الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، يلخص الشيخ رشيد هذه المسألة بقوله: "وحاصل ما تقدم أن جميع ما أطلق عل الله تعالى من الأسماء والصفات هو مما أطلق قبل ذلك على الخلق إذ لو وضع لصفات الله تعالى ألفاظ خاصة وخوطب بها الناس لما فهموا منها شيئاً، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 1، وقد جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بما دل عليه العقل من تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين وكونه لا يماثل شيئاً ولا يماثله شيء، فعلم أن جميع ما أطلقوه عليه من الألفاظ الدالة على الصفات كالقدرة والرحمة على الأفعال والحركات كالخلق والرزق والاستواء على العرش وعلى الإضافة ككونه فوق عباده لا ينافي أصل التنزيه، بل يجب الإيمان بها وبما تدل عليه مع التنزيه ... " 2. وأما الأساس الثالث من أسس المنهج السلفي الذي بني عليه مذهبهم في الصفات، وهو تفويض الكيفية فيقول عنه الشيخ رشيد ـ في سياق بيان الواجب على المسلم في باب الصفات ـ: "فعليك أن تؤمن بما صحّ عنهما أي عن الله ورسوله من إثبات ونفي، من غير زيادة ولا نقص، بلا تعطيل ولا تمثيل، ولا تأويل وليس عليك ولا لك أن تحكم رأيك وعقلك في كنه ذاته ولا صفاته، ولا في كيفية مناجاته وتكليمه لرسله، ولا في كنه ما هو قائم به وما يصدر عنه. على هذا كان أصحاب الرسول وعلماء التابعين وأئمة الحديث والفقه قبل ظهور بدعة المتكلمين" 3. وعند كلامه على صفة الاستواء يقول: "ومن جملة الصفات التي أمرها   1 سورة إبراهيم، الآية (4) 2 تفسير المنار (3/ 201) وقول رشيد رضا: "أطلق قبل ذلك على الخلق" لا يعني ـ كما قد يتوهم ـ أن صفات الخلق أقدم من صفات الخالق، إذ أنها أطلقت قبل ذلك، والصواب أن قبل هنا تفيد قبلية مقيدة غير مطلقة، كقولك: حضرت قبل مجيء القطار، أي كان حضورك سابقاً على مجيء القطار، متقدماً بالنسبة لهذا المجيء المعين، فسبق الحضور هنا ليس سبقاً مطلقاً عاماً، وكذلك هنا فالقبلية هنا مقيدة بقوله قبل ذلك، أي قبل إطلاقها ‘لى الله تعالى في الشرع، إذ أنها لم تعرف إلا بالشرع. وانظر: عباس حسن: النحو الوافي (3/144) ط. دار المعارف، مصر. السادسة 3 الوحي المحمدي (ص: 46 ـ 47) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به القرآن والسنة من دون تكلف ولا تأويل: صفة الاستواء.." 1. ويقول أيضاً:" ... على هيئة لا يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواه" 2. ثم يعلق على هذا في الحاشية قائلاً: "إنما يذكر لفظ الهيئة والكيفية في هذا المقام كما يذكر لفظ الصفة بناء على أن ما يستعمل في الكلام عن الباري تعالى من الألفاظ إنما يشار به إلى المعنى الشريف الذي يعرفه الخلق أنفسهم مع نفي التشبيه والتمثيل من كل وجه بناء على ما ثبت من التنزيه عقلاً ونقلاً، ومن العلماء من يعبر عن مذهب السلف بنفي الكيفية لا بإثباته مع نفي العلم به، وهو ما عبروا عنه بالبلكفة، المنحوتة من قولهم بلا كيف"3. ويصرح أيضاً بلفظ التفويض فيقول:"استواء يليق بالرب ويفوض إليه علم كنهه.."4. أي تفويض الكنه والكيفية. ويقول: "فالسلف يتبعون في آيات الصفات التفويض"5. ولا ريب أنه يريد تفويض الكيفية، كما هو مذهب السلف، فالشيخ رشيد رحمه الله قد نهج في هذا الباب نهج السلف، وأقام مذهبه على نفس الأسس التي أقاموا عليها مذهبهم في الصفات من الإيمان بها وإثبات معانيها، مع تنزيه الخالق تعالى عن مشابهة المخلوقين، وتفويض كيفية صفاته إليه تعالى. موقف رشيد رضا من طائفتي المعطلة المشبهة ورده عليهم وبيانه وسطية أهل السنة: اختلف الناس في باب الصفات فكانوا ثلاث طوائف: الأولى: أهل التعطيل: وهم الذين نفوا أسماء الله وصفاته، وبعضهم   1 مجلة المنار (17/ 827) 2 المصدر نفسه (17/827) 3 المصدر نفسه بالحاشية. 4 المصدر نفسه: هامش. 5 مجلة المنار (28/ 269) وأيضاً: تفسير المنار (2/ 263و6/ 453 ـ 454) فقد ذكر فيها لفظ التفويض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أثبت الأسماء دون الصفات، وبعضهم أثبت الأسماء وبعض الصفات. الثانية: أهل التمثيل: ومالوا إلى ضروب من التشبيه والتمثيل فشبهوا الخالق بالمخلوق. ثالثاً: أهل سواء السبيل: وهم أهل السنة والجماعة 1، وقد وقفت على مذهبهم قريباً، وعرفت تقرير الشيخ رشيد لهذا المذهب. ومن المناسب الآن أن نعرف موقف الشيخ رشيد من هذه الفرق المخالفة لهذا المنهج. يبين الشيخ رشيد أن المشبهة والمعطلة الجهمية قد ألحدت في أسماء الله تعالى بضروب من التأويل تقتضي التشبيه أو التعطيل 2، فيقول: " ... فالمشبهة ذهبت إلى جعل الرب القدوس الذي ليس كمثله شيء كرجل من خلقه زاعمة أنه وصف نفسه بصفات يدل مجموعها على ذلك كالسمع والبصر والكلام والوجه واليد والرجل والضحك والرضا والغضب. والجهمية ذهبت إلى تأويل جميع صفات الله حتى جعلته كالعدم ... " 3. ويقول عن الأشعرية: "وقد غلا بعض الأشعرية في القرون الوسطى في التأويل غلو الجهمية والمعتزلة أو أشد.." 4. ويذكر بعض مظاهر هذا الغلو فيقول: "كامتناع بعض المبتدعة من ذكر بعض الآيات والأحاديث في صفات الله تعالى التي زعموا وجوب تأويلها في عقائدهم ودروسهم وعدم ذكرها في مجالسهم إلا مقرونة بالتأويل، وادعاء أن معناها غير مراد ... وإن ادعاء أن بعض كلام الله وحديث رسوله مما يجب كتمانه واستبدال نظريات بعض المتأخرين أمثالهم به لمطعن كبير في الدين وفي سلف الأمة الصالحين ... " 5. ويرد رشيد رضا على أحد مظاهر هذا الغلو في التأويل الذي بلغ مبلغه حتى ادعي أن الإيمان بظاهر القرآن ككونه تعالى في السماء   1 انظر: ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 245) ، وانظر أيضاً: د. محمد با كريم با عبد الله: وسطية أهل السنة (ص: 307) 2 تفسير المنار (9/ 446) 3 المصدر نفسه والصفحة. 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 كما يدل عليه قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1:كفر، فيقول: "الإيمان بظاهر القرآن واجب بالإجماع فإن أوهم تشبيهاً جزمنا بأن التشبيه غير مراد بدليل العقل والنقل وفوضنا الأمر في كيفية ذلك وتأويله: أي ما يؤول إليه إلى الله عزوجل ... وهو ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث والفقه المجتهدين ... فعلم منه أن ما كفَّرهم به هو صحيح الإيمان، وأن ما يدعو الناس إليه هو عين الكفر والابتداع ... "2. وأود أن أشير إلى قوله: " ... وتأويله أي ما يؤول إليه فإنه يبين معنى صحيحاً من معاني التأويل 3 وهو خلاف تأويل المتكلمين الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى آخر مرجوح أو غير مراد 4، وإذا ضممنا لهذا اعتبار الشيخ أن التأويل هو نوع من الإلحاد في أسماء الله وصفاته وقعت فيه بسبب التأويل الجهمية والمشبهة والأشعرية نستطيع أن نتبين بوضوح الموقف النهائي للشيخ رشيد من التأويل المذموم.   1 سورة الملك، الآية (16) 2 مجلة المنار (33/ 380 ـ 381) 3 انظر: ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 77ـ 81) . 4 المصدر نفسه (ص: 79) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 المطلب الثاني: موقف الشيخ رشيد من قواعد المتكلمين : إن للمتكلمين ـ كما لأهل السنة ـ قواعد وأصول بنوا عليها مذهبهم في الصفات. ومن المناسب بعد أن تعرفنا موقف الشيخ من قواعد السنة، أن نعرف موقفه من قواعد المتكلمين. ونأخذ من هذه القواعد مسألتين: الأولى: قانون التأويل، والثانية: المحكم والمتشابه. أولاً: قانون التأويل: نستطيع أن نقول: إن تأويل النصوص الدينية، لتتفق وبعض الأفكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الفلسفية، ظاهرة تاريخية في التفكير الديني 1. إلا أن المتكلمين المسلمين لم يقنعوا بتأويلاتهم الباطلة فأرادوا أن ينسجوا من خيوطها البالية ثوباً منطقياً، موشى بزخرف القول، يواروا به سوءتهم العقلية، ومن أحجارها المتنافرة بيتاً "مجازياً" يستظلون به من شمس الحقيقة المشرقة، ولكن الخيوط البالية صنعت لهم ثوب سوء لا يستر شيئاً، وإذا البيت الذي أرادوه كبيت العنكبوت، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت. وضع المتكلمون قانوناً 2 للتأويل: وهو: قاعدة عامة يؤولون على أساسها نصوص الكتاب والسنة التي لا تقبلها عقولهم 3. وبُني هذا القانون على فرض محال هو: تعارض العلوم الضرورية، ثم وجوب تقديم العقلي منها على السمعي ونص هذا القانون: "إن الظواهر النقلية إذا عارضت الدلائل العقلية لم يمكن تصديقهما ولا تكذيبهما، لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما، ولا تصديق النقل وتكذيب العقل لأن العقل أصل النقل، فتكذيبه ـ أي العقل ـ لتصديقه ـ أي النقل ـ يوجب تكذيبهما، فتعين تصديق العقل وتفويض علم النقل إلى الله أو الاشتغال بتأويل الظواهر"4. وهذا القانون قد جعله المتكلمون قانوناً كلياً فيما يستدل به من كتب الله تعالى وكلام أنبيائه ـ عليهم السلام ـ وما لا يستدل به، وردوا به نصوص الصفات التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله 5. وأصبح العقل هو الأصل فيما يثبت من صفات الله تعالى وما لا يثبت. وقد بني هذا القانون ـ كما يظهر من نصه السابق ـ على افتراضات ومقدمات جدلية: ثلاثة: وهي:   1 انظر: د. محمد يوسف موسى: بين الدين والفلسفة (ص: 111) ، وابن القيم: الصواعق (1/ 197) . 2 القانون: أمر كلي منطبق على جميع جزئياته التي يتعرف أحكامها منه. التعريفات (ص: 149) 3 ابن تيمية: درء التعارض (1/ 5) وسيأتي تعريف التأويل قريباً. 4 الرازي: أساس التقديس (ص: 172) ، والمحصل (ص: 31) 5 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ثبوت التعارض بين العقل والنقل. وانحصار التقسيم في الأقسام الأربعة التي ذكرت فيه. وبطلان الأقسام الثلاثة ليتعين ثبوت الرابع: وهو تقديم العقل 1. وقد قام علماء السنة بدحض هذه المقدمات وكشف زيغها فتهدم البيت من قواعده على رؤوس المتكلمين، وأكتفي هنا بذكر أمرين أساسيين في الرد على هذا القانون من مئات الأوجه التي ذكرها أهل السنة: وهما: أولاً: منع الأساس لهذا القانون، وهو تعارض العقل والنقل: فإن العلوم الضرورية لا تتعارض، فلا يمكن إثبات أن نقلاً صحيحاً عارض عقلاً سليماً 2. ثانياً: أن القسمة لا تنحصر فيما ذكروه ـ على تقدير المحال ـ فيقال: يمكن تقديم الدليل العقلي تارة والسمعي أخرى فأيهما كان قطعياً كان مقدماً. ثم إنه يجب تقديم الشرع، لأن العقل شهد له وصدقه، فلو قدم حكم العقل لكان ذلك قدحاً في شهادته، وإذا بطلت شهادته بطل قوله، ففي تقديمه طعن فيه وفي الشرع 3. وكان الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ على منهج السلف في موقفه من قانون التأويل، وكان بوجه خاص متأثراً بشيخ الإسلام في هذا الموقف من هذا القانون الباطل، فيقول عن شيخ الإسلام بمناسبة الكلام عن نصره لمذهب السلف ومخالفته لجمهور المتكلمين. "فالرجل ليس صاحب مذهب مخترع تعارضت أدلته مع أدلة هذه الفرق واشتبه عليه الأمر حتى نرجح قوله على كل منها أو نرجح غيره عليه،   1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 78) ، وابن القيم: الصواعق المنزلة (2/ 521) . 2 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 79) ، وشرح الأصفهانية (ص: 80) ، وابن القيم: الصواعق المنزلة (2/ 521) ، وابن الوزير: إيثار الحق (ص: 123) 3 انظر: ابن القيم: الصواعق المنزلة (2/ 522، 528) ، وابن الوزير: إيثار الحق (ص: 123) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 بل هو ناصر مذهب جمهور السلف الصالح بالأدلة العقلية التي انخدع بنظرياتها كل من خدعته قليلاً أو كثيراً ... ونحمد الله أن سخر لها من هدم كل ما خالف السلف من تلك النظريات بأدلة من جنسها هي أقوى منها، وأثبت بالبرهان أن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول.." 1. ويقول عنه أيضاً: "وقد استوفى الرد على أولئك المخالفين للسلف من المنتسبين إلى مذاهب السنة والمبتدعة من الفلاسفة في كتابه "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول" وإنني أنقل عنه هنا ما ختم به الوجه السابع من الوجوه التي تكلم فيها على تقديمهم العقل على النقل عند التعارض وهو: تفنيد ابن تيمية لقول المتكلمين بتقديم النظريات العقلية على النصوص السمعية" 2. ثم نقل نقلاً طويلاً عن شيخ الإسلام في رد هذا التقديم 3 ثم يعلق قائلاً: "كل مؤمن سليم الفطرة صحيح العقل إذا قرأ هذا جزم بأنه الحق وأنه يجب على المسلمين ألا يغتروا بشهرة أحد من المتكلمين ولا الصوفية ولا الفقهاء الذين خالفوا السلف ... " 4. ويبين الشيخ رشيد وجهاً من أوجه الرد على أصحاب هذا القانون الفاسد وهو أن إحالتهم الناس على العقل دون الشرع إحالة على شيء لا ينضبط، وكان ينبغي أن يحالوا على الشرع لأنه معلوم ومقطوع بصدقه، وهو أمر منضبط. يقول الشيخ رشيد: "ثم إن عقول الناس تختلف اختلافاً كثيراً فيما يوافق أصحابها وما لا يوافقهم، وذلك يقتضي أن يكون لكل فرد ممن يحكمون عقولهم في الدين دين خاص به، وللمجموع أديان كثيرة بقدر عددهم ـ إن صح أن يسمي اتباعهم لها ديناً وهو لا يصح ـ فتحكيم العقل   1 مجلة المنار (22/ 19) 2 المصدر نفسه (22/ 191) 3 وهو في درء التعارض، ت: رشاد سالم (1/ 168) وذكره شيخ الإسلام في ختام الوجه التاسع لا السابع كما ذكر الشيخ رشيد. 4 مجلة المنار (22/ 192) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 في كل مسألة من مسائل الدين مخالف لحكم العقل الصحيح، وإنما المعقول أن يطلب العاقل الدليل على أصل الدين فمتى ثبت عنده وجب عليه أن يتبع كل ما علم أنه منه ... " 1. ويبين الشيخ رشيد خطراً من مخاطر التأويل، وهو تعلق أصحاب كل مذهب مبتدع به ليستدل على بدعته بتأويله النصوص وما جاز التأويل لقوم إلا وقد جاز للجميع، فليس تأويل فريق منهم بأولى من تأويل الآخر، يقول الشيخ: "وليعلموا أنه لا يوجد كلام قط لا يمكن حمله على غير المراد منه حملاً يقبله الكثير من الناس المشتغلين بالعلم، وليطالعوا كتاب "حجج القرآن" 2 ويتأملوا كيف استدل جميع أصحاب المذاهب المبتدعة في الإسلام بآياته التي هي في منتهى البلاغة في البيان على تلك المذاهب المتناقضة {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} 3 ... "4 وموقف أهل السنة من قانون التأويل الذي يجعل العقل هو الأصل، ليس عداءً للعقل، بل هو الموقف الذي يقره العقل ويقضي به. فأهل السنة لا ينكرون النظر العقلي، فإن القرآن قد هدى الناس إلى الدلائل العقلية واستدل بالمعقول. وكما يقول الشيخ رشيد، مبيناً موقف أهل السنة من العقل: " وإنما أنكر بعض العقلاء وأهل البصيرة على أمثاله 5 من المتكلمين جعل العقائد الدينية، والصفات الإلهية، وأخبار عالم الغيب محلاً لنظريات فلسفية، وموقوفاً إثباتها على اصطلاحات جدلية ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يستفد أصحابها منها غير تفريق الدين، واختلاف المسلمين، والبعد عن حق اليقين، ويرى هؤلاء أن كون القرآن من عند الله قد ثبت   1 مجلة المنار (34/ 758 ـ 759) 2 قد سبق التعريف بهذا الكتاب. انظر (ص: 99) من هذا البحث. 3 سورة البقرة، الآية (26) 4 مجلة المنار (13/ 421) وانظر أيضاً: تفسير المنار (3/ 175) وقارن مع ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 193) وما بعدها. 5 يعني: الرازي، فقد اتهم أهل السنة بإنكار النظر العقلي وسماهم حشوية، انظر: مفاتح الغيب (14/19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ثبوتاً عقلياً من وجوه كثيرة فوجب اتباعه حتى يتلقى العقائد والأحكام منه مع اجتناب التأويل للصفات الإلهية والأمور الغيبية بالنظريات الكلامية كما كان عليه السلف الصالح.." 1. وقانون التأويل، بعد أن يفترض افتراضاً مستحيلاً هو تعارض العلوم الضرورية، أعني العقل والنقل، فيقدم العقل، ملقياً النص الشرعي وراءه ظهرياً، ثم يعبث به، إما بالتأويل أو بالتفويض وهم ـ أي المتكلمين ـ لا يعرفون معنى التأويل ولا التفويض. وفي هذا يقول الشيخ رشيد: "وقد غلط كثير من علماء الكلام والمفسرين في بيان مذهب السلف ومعاني التفويض والتأويل ... كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو الأصل فيرد إليه الدليل السمعي ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقاً، والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ أن كلاً من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي، فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا حتى نرجح أحدهما علىالآخر، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب ترجيح القطعي مطلقاً، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جداً ... " 2. وقد بين الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ هذا الغلط في معنى التأويل الذي اعتبره المتكلمون فقال: " إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي، وإن تفسير كلمات القرآن بالمواضعات الاصطلاحية قد كان منشأ غلط يصعب حصره. ذكر التأويل في سبع سور من القرآن ... "3. ثم أورد الشيخ المواضع التي ذكر فيها التأويل وفسرها جميعاً ثم خلص إلى أن معنى التأويل في دلالة القرآن مخالف لما حمله   1 تفسير المنار (8/ 309 ـ 310) 2 تفسير المنار (1/ 253) 3 المصدر نفسه (3/ 172) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 عليه المتكلمون، فقال: "فتبين من هذه الآيات أن لفظ التأويل لم يرد في القرآن إلا بمعنى الأمر العملي الذي يقع في المآل تصديقاً لخبر أو رؤيا أو لعمل غامض يقصد به شيء في المستقبل فيجب أن تفسر آية آل عمران 1 بذلك، ولا يجوز أن يحمل التأويل فيها على المعنى الذي اصطلح عليه قدماء المفسرين، وهو جعله بمعنى التفسير كما يقول ابن جرير: القول في تأويل هذه الآية كذا، ولا على ما اصطلح متأخروهم من جعل التأويل عبارة عن نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، ومثله قول أهل الأصول: التأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل ... " 2. والمعنى الذي ذهب إليه المتكلمون وغيرهم وحملوا عليه لفظ التأويل ليس فقط مخالفاً لدلالة اللفظ في القرآن، بل مخالف لدلالته اللغوية مطلقاً، وهي قريبة جداً من دلالة اللفظ في القرآن. فالتأويل في اللغة تفسير ما يؤول إليه الشيء 3، وهو من الأوْل: أي الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يرجع إليه 4. قال الأعشى: على أنها تأوّلُ حب   ها ... تأوّلَ رِبْعيّ السِّقابِ فأُصْحَبَا فقوله تأول حبها: تفسيره ومرجعه، أي أنه كان صغيراً في قلبه فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديماً 5.   1 يريد قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} الآية (7) 2 تفسير المنار (3/ 174) وانظر الأصفهاني: شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 415) ، والجرجاني: التعريفات (ص: 43) 3 الرازي: مختار الصحاح: "أول" (ص: 13) . 4 الراغب: المفردات (ص: 99) . 5 انظر: أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن (1/ 86 ـ 87) ط. مؤسسة الرسالة. ت: سزكين، وانظر: ديوان الأعشى الكبير (ص: 113) بشرح: د. محمد محمد حسبن، والطبري: التفسير (3/ 113) ت: محمود وأحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وبعد؛ فهذا الموقف من الشيخ رشيد تجاه التأويل عموماً، وقانونه الذي وضعه المتكلمون خصوصاً، هو الحق الموافق لمنهج أهل السنة والجماعة، ويكون إذاً ما ذهب إليه صاحب "أصول المبتدعة" 1، من حشر اسم الشيخ رشيد ضمن أسماء أنصار هذا القانون بعد اسم شيخه، هو بسبب الاستقراء الناقص، فإن هذا الذي ذكرته عن الشيخ هو الموقف الذي استقر عليه، وقد كان أول أمره يردد العبارات المشتهرة على الألسنة آنذاك، ومنها عبارات هذا القانون الفاسد 2. ولكن ها أنت ترى هذا الموقف المؤيد لمذهب السلف، والذي ينقل فيه الشيخ عن شيخ الإسلام نقولاً طويلة تصل إلى عشرات الصفحات لتقريره، وهو الموقف الأخير والصحيح أيضاً. انتقاد على الشيخ رشيد: فإن قيل: إنه قد وجد في كلام الشيخ بعض تأويل 3، فكيف يتفق هذا مع ما ذكرته عنه من موقفه العام من رفض للتأويل؟ قلت: الجواب ما يقوله الشيخ رشيد نفسه. يقول الشيخ: "إن ما أدين الله تعالى به في صفات الله تعالى وأخبار عالم الغيب وغيرهما من كل ما كان عليه السلف من أمر الدين هو اتباع جمهورهم في إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله، ونفي ما نفياه من غير تعطيل ولا تأويل، وإنني إن ذكرت لبعض الآيات في ذلك تأويلاً فإنما أذكره لما أعلم بالاختبار من أن من الناس من لا يقتنع بحقية النص بدونه،   1 هو أخي الدكتور عبد القادر عطا صوفي ـ متخرج في قسم العقيدة ـ الجامعة الإسلامية ومؤلفه هذا من أحسن ما كتب. وانظر الموضع المنتقد في (1/ 167) ط. الأولى 1418هـ. وأرجو أن يتم التصحيح في الطبعات التالية إن شاء الله ويحذف اسم الشيخ رشيد منها. 2 انظر: مجلة المنار (1/ 293ـ 294 و2/ 457 ـ 458 و2/ 603 و5/ 809 و 6/ 252 و 7/ 390) وكل هذه المواضع لم يتجاوز " عام التمييز" وهو العام السابع للمنار. 3 أحمد بن عبد الرحمن القاضي: مذهب أهل التفويض (ص: 276) ط. دار العاصمة الرياض، الأولى 1416هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 مع العلم بأن علماء السنة قد صرحوا في القديم والحديث بأن من خالف ظواهر النصوص متأولاً لا يكفر، وإنقاذ كثير من الناس من الكفر بضرب من التأويل الذي ينافيه أمر عظيم ... " 1. ويقول أيضاً: ".. ولأن يكون أحدهم متديناً مؤولاً خير من أن يكون زنديقاً معطلاً" 2. ويقول في موضع آخر: " ... وإن ما نذكره أو ننشره لنا أو لغيرنا من تفسير أو تأويل مخالف لمذهب السلف فغرضنا منه إما دفع شبهة عن الدين، وإما تقريب مسألة من مسائله لعقول بعض المرتابين ... " 3. وأيضاً يقول ناصحاً لقرائه: " وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أن من الخير لك أن تطمئن قلباً بمذهب السلف ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وأئمة السلف قد تأولوا بعض الظواهر كما فعل الإمام أحمد وغيره في آيات المعية وآخرون في غيرها" 4. ففي هذه النقول ما يدل على عذره للمتأولين وتجويزه للأسباب التي ذكرها، وربما دفعه إلى هذا الحالة التي كان يمر بها عصره، كما بينته في التمهيد من ظهور أفكار إلحادية بسبب التقدم العلمي. غير أن الشيخ في ذلك يفرق بين التأويل الذي تسيغه اللغة وبين تأويل الباطنية الجهمية الأول، فيقول: "تأويل غلاة المبتدعة؛ كالباطنية وقدماء الجهمية المعطلين المخرج للكلام عن مدلولات اللغة ... وهذا لا يجوز بحال من الأحوال ولا هو بالذي يعد عذراً للمتأول ... " 5.   1 مجلة المنار (31/ 69) 2 المصدر نفسه (18/ 603) 3 المصدر نفسه (21/ 490) 4 تفسير المنار (1/ 253) 5 مجلة المنار (31/ 69) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فليس كل تأويل يعذر صاحبه، وأما ما ذكره الشيخ عن أحمد وغيره في كلامهم عن المعية فسيأتي في موضعه. ومهما يكن من شيء فإن التأويل لا يجوز بحال، وأعني به التأويل المذموم الذي لا يدل عليه النص الشرعي، ولو كان بحجة إنقاذ شخص من عثرة قد تؤدي به إلى الكفر، فإنني لا أرى التأويل بعيداً عن الكفر 1. ثانياً: المحكم والمتشابه: ومن الأصول التي بنى عليها المتكلمون مذهبهم في الصفات ـ وهو مما له ارتباط وثيق بمسألة التأويل ـ إدخالهم أسماء الله وصفاته أو بعضها في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى تمسكاً بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 2. فجعل المتكلمون أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، فكأن الله تعالى أنزل كلاماً لا يفهم أحد معناه 3. وإنما أنزل تعالى القرآن، ليفهم ويتدبر، بلسان عربي مبين، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 4 وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ   1 وللاستزادة في هذا الموضوع انظر: البحث القيم الذي كتبه الدكتور محمد لوح للدكتوراه: "جناية= = التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية". وقد طبعته دار ابن عفان، الخبر، ط. أولى 1418هـ. وانظر أيضاً: ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 84) 2 سورة آل عمران، الآية (7) ، وانظر ابن القيم: الصواعق المنزلة (2/ 520) . 3 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص: 112) ، والشهرستاني: الملل والنحل (1/ 93) ، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 108) ، ومن كتب أهل السنة: ابن تيمية: الإكليل (ص:33) ط. المطبعة السلفية ومكتبتها، مصر 1394هـ. وابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 104 و 249) 4 سورة الزمر، الآية (27 ـ 28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1 فأخبر تعالى أنه أنزله ليعقلوه 2. وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ـ الصفات وغيرها ـ وفسروها بما يوافق دلالتها 3. فليس في القرآن شيء لا يعلم معناه. ولما سئل مالك رحمه الله عن الاستواء، لم يقل: الاستواء متشابه أو مجهول، بل قال: الاستواء منه غير مجهول. يعني أنه معلوم المعنى، وقال: الكيف غير معقول. يعني الكيفية 4. والذي استأثر الله بعلمه في الآية ليس علم المعنى ولكن علم التأويل وفرق بين المعنى والتأويل. وقد فرق الله في القرآن بين هذين المعنيين، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} 5، فقد أخبر الله في هذه الآية أنه فصّل الكتاب، أي بينه وميزه بحيث لا يشتبه. ثم قال: هل ينتظرون إلا تأويله: وإنما ذلك مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها فمع علم معناه وتفصيله لم يعلم تأويله، فعلم أن فرقاً بين علم المعنى وعلم التأويل 6. ومثل هذا أيضاً قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 7 ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله، ومفهومه أنه يمكن أن   1 سورة يوسف، الآية (1ـ 2) 2 ابن تيمية: الإكليل (ص: 47) 3 المصدر نفسه (ص: 48) ، والصواعق (1/ 100 ـ 101) 4 انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 441) ، وانظر: ابن تيمية: الإكليل (ص: 50) 5 سورة الأعراف، الآية (52ـ 53) 6 ابن تيمية: الإكليل (ص: 12) 7 سورة يونس، الآية (39) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتهم تأويله، فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام، وإتيان تأويله نفس وقوع المخبر به، فالخبر له صورة علمية في الذهن، وله حقيقة ثابتة في الخارج، فمعرفة معناه هو معرفة الصورة العلمية في الذهن، وتأويله هو الحقيقة الخارجية 1، فإن كان أمراً فتأويله هو نفس الفعل المأمور به، وإن كان خبراً فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع 2. وأما الشيخ رشيد رضا فإنه قد عرّف المحكم والمتشابه فقال: "المحكمات من أحكم الشيء بمعنى وثقه وأتقنه، والمعنى العام لهذه المادة: المنع، فإن كل محكم يمنع بإحكامه تطرق الخلل إلى نفسه أو غيره ... والمتشابه: يطلق في اللغة على ما له أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضاً، وعلى ما يشتبه من الأمر أي: يلتبس ... وقد وصف القرآن بالإحكام على الإطلاق في أول سورة هود بقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} 3، وهو من إحكام النظم وإتقانه أو من الحكمة التي اشتملت آياته عليها. ووصف كله بالمتشابه في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} 4 أي: يشبه بعضه بعضاً في هدايته وبلاغته وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف ... " 5. ثم ذكر أقوال المفسرين في المحكم والمتشابه، ثم أقوال شيخه، ولم يقنع بشيء إلا بما كتبه شيخ الإسلام في تفسيره لسورة الإخلاص، فقال عنه: " ... فإذا هو منتهى التحقيق والعرفان، والبيان الذي ليس وراءه بيان ... " 6.ثم لخصه فقال: "أثبت فيه أن ليس في القرآن كلام لا يفهم   1 ابن تيمية: الإكليل (ص: 18) 2 المصدر نفسه (ص: 11) 3 سورة هود، الآية (1) 4 سورة الزمر، الآية (23) 5 تفسير المنار (3/ 163) 6 المصدر نفسه (3/ 172) ، وانظر: ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص (ضمن مجموع الفتاوى (17/372) وما بعدها) ، ونقل عنها رشيد رضا (22) صفحة من (ص: 175ـ 196) . انظر: تفسير المنار (3/ 175 ـ 196) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 معناه، وأن المتشابه إضافي إذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ، وأن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى هو ما تؤول إليه تلك الآيات في الواقع، ككيفية صفات الله تعالى وكيفية عالم الغيب من الجنة والنار وما فيهما، فلا يعلم أحد غيره تعالى كيفية قدرته وتعلقها بالإيجاد والإعدام وكيفية استوائه على العرش مع أن العرش مخلوق له وقائم بقدرته، ولا كيفية عذاب أهل النار، ولا نعيم أهل الجنة ... وإننا نبين ذلك بالإطناب مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم، ناقلين بعض ما كتبه فنقول: إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي ... " 1. ثم ذكر معاني التأويل كما نقلت عنه قبل قليل، وخلص إلى أن "لفظ التأويل لم يرد في القرآن إلا بمعنى الأمر العملي ... " إلى آخره 2، ثم قال بناءً على ذلك أنه "يجب أن تفسر آية آل عمران بذلك ولا يجوز أن يحمل التأويل فيها على المعنى الذي اصطلح عليه ... " 3. لقد اعتمد رشيد رضا على شيخ الإسلام تماماً في تحقيقه هذه المسألة وقد نقل عنه نقلاً طويلاً فيها هو كما قال: "هو منتهى التحقيق والعرفان والبيان الذي ليس وراءه بيان" ولكن لم يكن هذا موقف رشيد رضا من المتشابه قبل اطلاعه على كتب ابن تيمية، بل كان له موقف قديم رجع عنه بعد ذلك 4.   1 تفسير المنار (3/ 172) 2 المصدر نفسه (3/ 172ـ 175) 3 المصدر نفسه. 4 انظر: هذا الموقف القديم في مجلة المنار (1/ 772 ـ 773 و2/ 605 ـ 607 و 6/ 252) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 المبحث الثالث: الصفات التي تكلم عليها رشيد رضا تمهيد ... تمهيد: نستطيع أن نقسم الناس ـ حيال نصوص الصفات ـ إلى خمسة أقسام: الأول: أهل التمثيل الذين يفهمون من الصفات ما تدل عليه اللغة، ويجرونها على ظاهرها، ويجعلون هذا الظاهر من جنس صفات المخلوقين. الثاني: أهل النفي والتعطيل والتحريف: وهم من يحملها على المجاز ويتأولونها، ويعينون المراد منها، ممن ينفون نصوص الصفات عن ظاهرها نفياً كلياً أو جزئياً. الثالث: أهل الوقف ويرون السكوت عن الصفات مطلقاً ويتوقفون فيها. الرابع: أهل التفويض الذين يسكتون عنها بعد نفي إرادة الظاهر. الخامس: أهل الإثبات والتنزيه، وهم يثبتون الصفات بلا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل 1.   1 هذا التقسيم مستفاد من كلام أهل العلم، وهم مع اختلاف عباراتهم يتفقون حول هذا المعنى. انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 8) وما بعدها، وابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 245) وما بعدها، والمقريزي: الخطط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وإذا أردنا أن نحدد المواقف بصورة أدق فإننا نستطيع النظر من جهة أخرى، إلى مواقف الناس من الصفات، من حيث رأي الفرق المشهورة، وهم: الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية ومن وافقهم. أولاً: مذهب الفلاسفة: يرى الفلاسفة أن الله تعالى واجب الوجود بذاته ـ كما رأينا في الفصل الثاني ـ بناءً على طريقتهم في التقسيم إلى ممكن وواجب ـ ويرون أنه واحد من كل وجه. قال ابن سينا: "إن واجب الوجود واحد بحسب تَعيُّن ذاته، وإن واجب الوجود لا يقال على كثرة أصلاً" 1. وقال: "واجب الوجود لا يشارك شيئاً من الأشياء في ماهية ذلك الشيء، ... وأما الوجود فليس بماهية لشيء" 2. وقوله: "وأما الوجود فاحتراز لئلا يقال هو مشارك للإنسان في صفة الوجود. وبناءً على ذلك قال ابن سينا: "الأول لا ند له ولا ضد ولا جنس له ولا فصل له ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان العقلي" 3. وأيضاً: "الأول معقول الذات قائمها، فهو قيوم بريء من العلائق والعُهَد والمواد، وغيرها مما يجعل الذات بحال زائدة. وقد علم أن ما هذا حكمه فهو عاقل لذاته، معقول لذاته ... " 4 ولأنه"لا واجب وجود غيره" 5 نفوا عنه الصفات وقالوا إنه عالم بذاته، ليس زائداً على ذاته 6. وله إرادة لا تزيد على ذاته 7. وحتى نستطيع أن نفهم ذلك جاءت الآيات على وجه التمثيل   1 الإشارات (3/ 44) 2 المصدر نفسه (3/ 49 ـ 50) 3 المصدر نفسه (3/ 53) 4 المصدر نفسه (3/ 53) 5 المصدر نفسه (3/ 36) 6 انظر: الغزالي: مقاصد الفلاسفة (ص: 225) ط. دار المعارف، الثانية، ت: سليمان دنيا. 7 انظر: الغزالي: المصدر نفسه (ص: 235) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 والتخييل وتشبيه الغائب بالشاهد، ليفهم الجمهور ذلك 1. وصفات الله عندهم سلبية محضة أو إضافية محضة أو مؤلفة منهما، لأن السلوب والإضافات لا توجب كثرة في الذات 2. ثانياً المعتزلة: ورغم أن واصل بن عطاء 3 قد جرى في نفيه للصفات على أمر بسيط هو استحالة وجود إلهين قديمين أزليين 4، إلا أن من جاء بعده قد تأثروا بالفلاسفة وركبوا هذه الفكرة واعتمدوا على نفس شبهة الفلاسفة ووصلوا إلى نفس النتيجة، فقالوا: إن الله عالم بذاته قادر بذاته لا بعلم ولا قدرة هي صفات قديمة ومعانٍ قائمة به 5. فالمعتزلة ينكرون كالفلاسفة صفات أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى، وإن كانوا يثبتون أحكام هذه الصفات لذاته تعالى 6، قال عبد الجبار وهو يحكي ما أجمع عليه أصحابه: "أجمعوا على أن الله تعالى واحد ... فمرادهم أنه واحد في صفاته التي يبين بها عن سائر الموجودات ... وقالوا: قادر بذاته ... وقالوا: عليم بذاته.. ليبين من القادر بقدرة" 7. والفرق بين صفة القدرة والعلم لله تعالى وللمخلوق أن الله تعالى "قادر بذاته عالم بذاته ... بخلاف الإنسان فإنه عالم بعلم وقادر   1 انظر: الغزالي: المصدر نفسه (ص: 250) ، وابن تيمية: درء التعارض (1/8 ـ 9) 2 انظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 182) ت: ألفريد جيوم. 3 هو: واصل بن عطاء البصري الغزال، مؤسس مذهب الاعتزال، كان يجالس الحسن البصري ثم اعتزله بسبب قوله في المنزلة بين المنزلتين، وجلس إليه عمرو بن عبيد وعدد، فقيل لهم معتزلة. انظر: أبو القاسم البلخي: مقالات الإسلاميين (ص: 90) [ضمن مجموعة في فضل الاعتزال] ، وعبد الجبار: فضل الاعتزال (ص:234) [ضمن المجموع السابق] ، وابن حجر: لسان الميزان (6/ 214) ط. مؤسسة الأعلمي، بيروت، الثانية،1390هـ. 4 الشهرستاني: الملل والنحل (1/ 40) ، 5 وانظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 195 ـ 196) ، وفضل الاعتزال (ص: 347) . 6 انظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 199) 7 فضل الاعتزال (ص: 146) ط. الدار التونسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 بقدرة" 1. قال عبد الجبار: "والأصل في ذلك أنه تعالى لو كان يستحق هذه الصفات لمعان قديمة، وقد ثبت أن القديم إنما يخالف مخالفه لكونه قديماً، ثبت أن الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق تقع بها المماثلة عند الاتفاق، وذلك يوجب أن تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى، حتى إذا كان القديم تعالى عالماً لذاته وقادراً لذاته وجب في هذا المعاني مثله، ولوَجب أن يكون الله تعالى مثلاً لهذه المعاني ... لأن الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات ... " 2. وهذه الحجة داحضة، فالعلم صفة قديمة بقدم موصوفها، فهناك قديم وصفته، ولا يلزم من كون الصفة قديمة بقدم موصوفها أن يكون هناك تعدد، وإلا للزم أن تكون صفة الإله إلهاً وصفة الإنسان إنساناً وهو ظاهر البطلان 3. وأما الصفات الخبرية فإن المعتزلة تنفيها وتتأولها لأنها تقتضي التجسيم بزعمهم 4. ثالثاً: الأشعرية: كان الأشعرية المتقدمون أكثر إثباتاً للصفات من المتأخرين، فبينما نرى الأشعري يثبت صفات الاستواء والعلو والوجه واليدين والعينين مع العلم والسمع والبصر والكلام 5، اقتصر المتأخرون منهم على صفات سبع هي صفات المعاني، وهي: العلم والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام، واختلفوا في البقاء وأثبتوها أزلية قديمة، زائدة على الذات، ومعانٍ قائمة بذاته، فهو سميع بسمع بصير ببصر مريد بإرادة ألخ 6. ونفوا الصفات   1 شرح الأصول الخمسة (ص: 162 و163) 2 المصدر نفسه (ص: 195 ـ 196) 3 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (4/ 190 و227 و5/ 50) 4 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 217) 5 انظر: الإبانة (ص: 20 ـ 22) ت: فوقية حسن، وانظر أيضاً: الباقلاني: التمهيد (ص: 295 و298 ـ299) . 6 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص: 90) ، والشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 181) ، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 76) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الخبرية لأنها تقتضي الجهة أو الجسمية، وتأولوها كالمعتزلة 1. وأما أهل السنة فقد ساروا في ذلك مذهباً وسطاً بين التشبيه والتعطيل، فأخذوا بنصوص الإثبات ونصوص التنزيه، فكان مذهبهم عدلاً في ذلك. فهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله. صلى الله عليه وسلم وقد سبق تفصيل ذلك. والمقصود الآن معرفة المنهج الذي سار عليه الشيخ رشيد رضا في هذا الباب، وأي السبل قد سلك.   1 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص: 73 ـ 74 وص: 109) وما بعدها، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 107) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 المطلب الأول: تقسيم الصفات : الصفات الإلهية التي وردت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة، ولكني سأقتصر هنا على تلك التي تناولها الشيخ رشيد رحمه الله في كتاباته. وقبل ذلك ـ وهو المناسب أيضاً ـ أبين تقسيم السلف لصفات الله تعالى وتقسيم الشيخ رشيد لها: فأما السلف فيقسمون صفات الله تعالى إلى صفات ذاتية وصفات فعلية، ومن حيث طريقة ثبوتها إلى عقلية وسمعية. فأما الصفات الذاتية: فهي الصفات المتعلقة بذاته المقدسة التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها، وهي لا تنفك عنه سبحانه، بل هي لازمة لذاته أزلاً وأبداً، ولا تتعلق بها مشيئته وقدرته. وهي ـ من حيث ثبوتها ـ قسمان: عقلية: وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي والدليل العقلي والفطرة، كصفة الحياة والعلم والقدرة والإرادة، والعزة والملك والعظمة والكبرياء والمجد والجلال والسمع والبصر ... ألخ.   1 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص: 73 ـ 74 وص: 109) وما بعدها، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 107) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وخبرية: وهي التي لا سبيل للعقل على انفراده إلى إثباتها وإنما ثبتت بطريق السمع والخبر عن الله: كصفة الوجه واليدين والعين ... أما الصفات الفعلية: فهي المتعلقة بمشيئته وقدرته، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، وهي قسمان أيضاً: سمعية عقلية: كالخلق، والرزق، والإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، وأنواع التدبير المختلفة. وخبرية: كالاستواء على العرش، والمجيء والإتيان، والنزول إلى السماء الدنيا، والرضا والمحبة والغضب 1 ... ومن الصفات ما هو ذاتي فعلي باعتبارين، كصفة الكلام، فإنه باعتبار أصل الصفة صفة ذاتية، لأنه تعالى لم يزل ولا يزال متصفاً بصفة الكلام، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية. لأن الكلام متعلق بمشيئته عزوجل. فيتكلم بما شاء متى شاء 2. وقد قسم الشيخ رشيد رحمه الله الصفات من حيث طريق ثبوتها إلى ما يعرف بالنظر والاستدلال، وما لا يعرف إلا بالوحي، فقال: "إن صفات الربوبية منها ما يعرف بالنظر والاستدلال كعلمه تعالى وقدرته ومشيئته وحكمته ووحدته. ومنها ما لا يعرف به بل يتوقف على الوحي كخبر المعصوم عنه، ومنها ما جعله المتكلمون من المتشابهات كالرضا والغضب والوجه واليد، وسيأتي بيانه في محله ... " 3. ويقسمها أيضاً إلى ذاتية وفعلية: فيقول: "إذا علمنا هذا تجلت لنا حكمة وصفه تعالى في أول فاتحة الكتاب العزيز بالربوبية والرحمة الدالتين   1 انظر هذا التقسيم: عند: البيهقي: الأسماء والصفات (1/ 188) ، ومحمد خليل هراس: شرح الواسطية (ص: 89 ـ 99) ، ومحمد أمان الجامي: الصفات الإلهية (ص: 206 ـ 209) 2 محمد أمان الجامي: الصفات الإلهية (ص: 206) بتصرف. 3 تفسير المنار (1/ 135) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 على جميع صفات الأفعال، دون الحياة والقيومية الدالتين على صفات الذات ... " 1. وعن الفرق بينهما يقول: "فما له مبدأ خاص في النفس واستقرار فيها جدير بأن يسمى صفة ذاتية، وما ليس كذلك حقيق بأن يسمى صفة فعل" 2. وأما تقسيم المتكلمين فلا يرضاه الشيخ رشيد لأنه: "اصطلاح ما أنزل الله به من سلطان" 3، ويقول: "إنما نختار طريقة السلف الصالحين فهي باتفاق الخلف أسلم وأحكم، ونقول أيضاً إنها أعلم خلافاً لكثيرين يتوهمون أن هذه الاصطلاحات في علم العقائد تعطي الباحث بصيرة ... " 4.   1 المصدر نفسه (1/ 75) 2 مجلة المنار (3/ 441) 3 المصدر نفسه (3/ 398) 4 المصدر نفسه (3/ 399) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 المطلب الثاني: صفات الذات العقلية : عرّف الشيخ رشيد صفات الذات بأنها "ما له مبدأ خاص في النفس واستقرار فيها.." 5، ومثّل للعقلية منها بصفات العلم والقدرة والمشيئة والحكمة والوحدة 6. وسأتناول من هذا القسم من الصفات الذاتية العقلية ما تكلم عنه الشيخ رشيد وهي الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام. أولاً: الحياة: ولا يعزب عن ذكرك أن الجهمية لا يصفون الله تعالى بأنه حي، لأن ذلك ـ زعموا ـ تشبيه له بالأحياء 7.   5 مجلة المنار (3/ 441) 6 المصدر نفسه (1/ 135) 7 انظر: البغدادي: الفرق بين الفرق (ص: 211ـ 212) ، والأشعري: المقالات (1/ 338) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وأن المعتزلة يجعلونها صفة غير زائدة عن الذات فهو حي بحياة، وحياته ذاته، أو عالم لذاته، قادر لذاته ... 1. وأما الشيخ رشيد رحمه الله فأثبت لله تعالى صفة الحياة صفة ذاتية، وجعلها من أصول الصفات التي يرجع إليها غيرها، ولو بطريق اللزوم، فيقول: "فالحي ذو الحياة، وهي بأعم معانيها: الصفة الوجودية التي هي الأصل في معقولنا لجميع صفات الكمال في الوجود من صفات ذات أو صفات أفعال كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ... وكمال الحياة يستلزم الاتصاف بهذه الصفات وبغيرها من صفات الكمال ... " 2. ويستدل الشيخ رشيد رحمه الله على صفة الحياة لله تعالى بالكتاب العزيز، فيقول عن قوله تعالى: {ألم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 3 أنها: "تثبت له مع الوحدانية الحياة التي تشعر بكمال الوجود وكمال الإيجاد بإفاضة الحياة على الأحياء ... " 4. ويستدل عليها الشيخ رشيد أيضاً من العقل، من وجهين: "أحدهما: أنه تعالى عليم مريد، قدير: وهذه الصفات لا تعقل إلا للحي، وفيه انه من قياس الغائب على الشاهد كما يقولون، أو من قياس الواجب على الممكن. وثانيهما أن الحياة كمال وجودي، وكل كمال لا يستلزم نقصاً يستحيل على الواجب فهو واجب له ... " 5 ويقول عن صفة الحياة: "فهي كمال وجودي ويمكن أن يتصف به الواجب 6 وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب أن يثبت له ... ولو لم يتصف بهذه الصفة لكان في   1 انظر: القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 182) 2 تفسير المنار (1/ 73) 3 سورة آل عمران، الآية (1ـ2) 4 تفسير المنار (3/ 28 ـ 29) 5 تفسير المنار (3/ 24) 6 الواجب ليس من أسماء الله تعالى، وإنما يطلق عليه تعالى من باب الخبر، فلا يسمى الواجب ولا يدعى به فيقال: "يا واجب". وانظر (ص:320) من هذا المبحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الممكنات ما هو أكمل منه وجوداً ـ وقد تقدم أنه أعلى الوجودات وأكملها فيه ـ والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه، فكيف لو كان فاقداً للحياة يعطيها؟ فالحياة له كما أنه مصدرها" 1. ويفرق الشيخ رشيد بين حياة الخالق تعالى وحياة المخلوق، فلا يفهم من القياس السابق، وهو قياس الأولى الذي اعتمد عليه في الدليل العقلي، أن حياة الخالق تشبه حياة المخلوق، فيقول: "حياة الخالق تعالى أعلى وأكمل من حياة جميع خلقه من الجن والإنس والملائكة، وهي لا تشبهها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2 وإنما نفهم من إطلاقها اللغوي مع التنزيه أنها الصفة الذاتية الأزلية الأبدية التي يلزمها اتصافه بما وصف به نفسه من صفات الكمال بدونها، فهي لا يتوقف تعلقها على غيرها من الصفات ويتوقف تعقل الصفات عليها ... " 3. العلم: أثبت أهل السنة "العلم" لله تعالى. صفة من صفات ذاته تعالى 4. وقد أنكرها الجهمية 5 وأثبت المعتزلة الاسم ونفوا الصفة كمذهبهم في سائر الصفات الإلهية، لأن إثباتها يوجب ـ زعموا ـ تعدد القدماء عندهم، فقالوا: إن الله عالم قادر حي بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة 6، وقد تأثر المعتزلة في ذلك بالفلاسفة.   1 تفسير المنار (3/ 25 ـ 26) 2 سورة الشورى؛ الآية (11) 3 المصدر نفسه (1/ 73) 4 انظر: الدارمي: الرد على الجهمية (ص: 58) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 9) ، والبيهقي: الأسماء = = والصفات (1/ 195) ، وابن منده: التوحيد (2/ 64) 5 ابن خزيمة: التوحيد (ص: 9) ، وانظر: البغدادي: الفرق بين الفرق (ص: 211) ، والشهرستاني: الملل والنحل (1/ 73) 6 انظر: القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص:162ـ 163) ، وانظر: الأشعري: المقالات (1/ 244ـ 247) والشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 90 ـ 91، 100) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وأثبت الشيخ رشيد صفة العلم لله تعالى كأهل السنة مستنداً في إثباته إلى كتاب الله تعالى. يقول: "أما الذي قام عليه البرهان من علم الله تعالى فهو أنه بكل شيء عليم، وأن هذا العلم ثابت له أزلاً وأبداً، فهو المحيط بجميع المعلومات قبل وجودها وبعده، وعلمه بها قبل وجودها يسمى علم الغيب، وبعد وجودها يسمى علم الشهادة، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة ... " 1. وعن الأدلة التي يستند إليها في ذلك يقول: "أما البرهان على علمه تعالى فحسبك ما أرشد إليه الكتاب العزيز بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 2 بلى، فإن العقل لا يتصور أن صانع آلة الساعة ومبدعها غير عالم بها، وبكل ما يتوقف عليه اختراعها وعملها من الفنون الأخرى ... " 3. ويقول أيضاً مستشهداً على ثبوت صفة العلم لله تعالى: " ... ورد وصفه تعالى بعالم الغيب والشهادة في الأنعام 4، والتوبة 5، والرعد 6، والمؤمنون 7، وألم السجدة 8، والحشر 9، والتغابن 10، ووصف بعالم فقط في سور أخرى 11 ... " 12. وعن إطلاق الاسم عليه يقول: "وأما لفظ عليم فهو الذي كثر إطلاقه عليه   1 مجلة المنار (3/ 441) 2 سورة الملك، الآية (14) 3 مجلة المنار (3/ 441) 4 الآية (73) 5 الآية (94) 6 الآية (9) 7 الآية (92) 8 الآية (6) 9 الآية (22) 10 الآية (18) 11 مثلاً: سورة الجن: الآية (26) 12 مجلة المنار (12/780) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 تعالى بصيغتي التعريف والتنكير، لأن وزن فعيل يدل على الصفات الثابتة.. قال تعالى: {وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} 1 وقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2. ويقول: "ولم يرد إطلاق لفظ العالم على الله تعالى في القرآن إلا مضافاً إلى المعلوم، كقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} 3، وورد: علام الغيوب 4.. " 5. وبهذا يكون الشيخ رشيد قد وافق السلف في إثبات هذه الصفة لله تعالى مع إطلاق الاسم عليه عزوجل. صفة القدرة: والأقوال فيها كالأقوال في سابقتيها، فأثبتها أهل السنة 6، وأنكرها المعتزلة والفلاسفة، إلا أن الجهم أثبتها لأنها عنده لا تقتضي التشبيه بالمخلوق لأنه يقول: إنه لا قدرة له 7. وأثبت الشيخ رشيد القدرة صفة لله تعالى فقد عرف القدرة بأنها: "الصفة التي يكون بها الفعل والتأثير والتحويل والتغيير" 8. وأما أدلتها فيستدل الشيخ رشيد على إثبات هذه الصفة بالكتاب وبالعقل. فأما الكتاب فإنه استدل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 9   1 سورة يس: الآية (81) 2 سورة البقرة الآية (29) 3 سورة الرعد، الآية (9) 4 انظر:: سورة المائدة: الآية (109) ، والآية (116) 5 مجلة المنار (3/441) 6 انظر: البيهقي: الأسماء والصفات (1/ 208) ، والخطابي: شأن الدعاء (ص: 85 ـ 86) ، وابن تيمية: درء التعارض (3/ 21 و123) 7 الشهرستاني: الملل والنحل (1/ 73) 8 مجلة المنار (3/ 465) 9 سورة البقرة، الآية (19) ، وانظر: تفسير المنار (1/ 179، 421، 2/ 22) ، ومجلة المنار (3/465) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 واستدل أيضاً بالعقل فقال: " ودليلها: ما بيناه أولاً من أن جميع الممكنات صادرة عن الواجب تعالى ثم ما بينّاه أخيراً من أن صدورها عنه إنما هو بتخصيصه المطابق لعلمه، وهل يعقل أن الفاعل بإرادة عن علم لا يكون قادراً؟ كلا ... " 1. ويقول عن القدرة مبيناً لبعض أحكامها: "إن قدرة الله تعالى إنما تجري بما خصصته إرادته واقتضته مشيئته" 2. صفة الإرادة: وأثبت الإرادة صفة لله فيقول: "ما تقدم من البحث في العلم من حيث كونه صفة يأتي في الإرادة وفي غيرها من الصفات الذاتية ... " 3. وتنقسم الإرادة إلى كونية وشرعية، وسيأتي عند الكلام عن القدر أن رشيد رضا فرق بين الكونيات والشرعيات. ويعرف رشيد رضا الإرادة قائلا: "الإرادة صفة يخصص بها الفاعل في فعله بعض الوجوه الممكنة المتقابلة على بعض ... " 4. ويبين الشيخ رشيد موقف الفرق من هذه الصفة، من المؤولين لها والمشبهين لها بإرادة الإنسان، فيقول: "وقد اشتبه على كثير من الناس فهم الإرادة، فمن الناس من يظن أنها بمعنى المحبة، والرضا، ولذلك قالوا إن ضدها الكراهية. والصواب أن ضدها "عدم الإرادة" ... ومنهم: من لا يفرق بين إرادة الله وإرادة الإنسان ... " 5. ويورد الشيخ رشيد دليلاً عقلياً فيقول: "الدليل على إثبات الإرادة للباري تعالى فهو لازم لدليل إثبات العلم ... أن الإرادة هي التي رجحت   1 مجلة المنار (3/ 465) 2 تفسير المنار (7/ 476) 3 مجلة المنار (3/ 464) 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 بحسب العلم ما كان على ما لم يكن من الوجوه الممكنة ... " 1. كما أن الشيخ رشيد يثبت الإرادة عند تفسيره لآيات القرآن، فيقول عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 2: "أي: إن اختصاص الناس بهذه المزايا هو أثر إرادته وتخصيصها فلا مرد له ... " 3. وعند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} 4 يقول: "أي: يمنع ما أراد منعه ... وإرادته تكون على حسب علمه المحيط وحكمته البالغة ... " 5. وإثبات هذه الصفة هو مذهب أهل السنة 6. السمع والبصر: تقرر بالأدلة من الكتاب والسنة أن الله سميع بصير، فمن الكتاب قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 7 وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 8 وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 9، وأما السنة النبوية فأحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم على المنبر: " {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} 10 ووضع إبهامه على أذنه وسبابته على عينه" 11. وقصده صلى الله عليه وسلم تحقيق اتصاف الله   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 سورةالبقرة، الآية (253) 3 تفسير المنار (3/ 8) 4 سورةالمائدة، الآية (2) 5 تفسير المنار (6/ 124) 6 انظر: البيهقي: الأسماء والصفات (1/ 230) ، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 46) ط. مكتبة الرشد الرياض، الأولى، 1415هـ. 7 سورة طه، الآية (46) 8 سورة آل عمران، الآية (75) 9 سورة الشورى، الآية (11) 10 سورة النساء، الآية (58) 11 أبو داود: السنن، ك: السنة، باب في الجهمية، ح: 4728 (5/ 96) ت: الدعاس، وقال الحافظ: سنده قوي على شرط مسلم. الفتح (13/ 385) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 بهاتين الصفتين. ودل العقل أيضاً على ذلك 1، وبناءً على ورود هذه الصفة في الكتاب والسنة أثبتها السلف على طريقتهم في إثبات ما ورد فيهما 2. ونفت المعتزلة هاتين الصفتين، وأرجع بعضهم معناها إلى الحياة وبعضهم إلى العلم 3. وأما الأشعرية فإنهم يجعلون السمع متعلقاً بجميع الموجودات لا المسموعات فقط، وكذلك البصر عندهم يتعلق بجمبع الموجودات لا المبصرات فقط 4. وفي هذا إخراج لهاتين الصفتين عن حقيقتهما إلى حقيقة العلم، وبعضهم يثبتهما متعلقتين بالمسموعات والمبصرات 5. وتبعاً لمذهب السلف يثبت الشيخ رشيد هاتين الصفتين لله تعالى، مستنداً في ذلك إلى الكتاب والسنة، مع تنزيهه تعالى عن مشابهة سمع المخلوقين وبصرهم. وينتقد الشيخ رشيد المتكلمين في تحكمهم وتكلفهم في الكلام على هاتين الصفتين، ويرده مبيناً أن الاعتقاد الصحيح هو ما ورد في القرآن في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 6.   1 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 46 ـ 47) ، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص:103 ـ 119) 2 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 44) ، والأشعري: الإبانة (ص: 22) ت: فوقية حسين، والدارمي: الرد على الجهمية (ص: 2) ، والرد على المريسي (ص: 41) ، والبيهقي: الأسماء والصفات (1/ 293) ، وابن منده: التوحيد (3/ 43) 3 البغدادي: أصول الدين (ص: 96) ، والشهرستاني: المل والنحل (1/ 49) ، ونهاية الإقدام (ص:341) ، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 103) ، وانظر أيضاً: الدارمي: الرد على المريسي (ص:41 ـ 43) ، والأشعري: المقالات (1/ 255) 4 انظر: السنوسي: أم البراهين (ص: 4) [ضمن مهمات المتون] ، ط. الحلبي، مصر. والبيجوري: تحفة المريد (ص: 88) 5 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص: 97) 6 سورة الشورى، الآية (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 فيقول الشيخ رشيد أولاً مبيناً ما يجب اعتقاده في مسألة السمع والبصر: "الواجب اعتقاده هو الوقوف عند ما جاء في الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، وهو: أن الله تبارك وتعالى سميع لأقوال العباد بصير بأعمالهم، وأحوالهم من غير بحث عن كنه هذا السمع وهذا البصر وكيف يحصلان ... ومن غير مقارنة بينهما وبين العلم ولا البحث في النسبة بينهما ... " 1. ثم يقول: "لكن الذين ساروا في تقرير العقائد على طريقة قياس الغائب على الشاهد والقديم على الحادث ... أوجبوا على الناس أن يعتقدوا بهذه الفلسفة الدينية والتحكم النظري، وإن كان لم يشهد له كتاب ولا سنة ولا لغة، ولم يقل بها أحد من سلف الأمة ... " 2. ويقول جواباً لمن زعم أن السمع يتعلق بجميع الموجودات: "وذهب بعض من كتب في علم الكلام إلى سمع الباري تبارك وتعالى يتعلق بجميع الموجودات، لا يختص بالكلام أو بالأصوات، وهو رأي تنكره اللغة ولا يعرفه الشرع وليس للرأي أو العقل أن يتحكم في صفات الله تبارك وتعالى بنظرياته وأقيسته ... " 3. وبوضوح يثبت الشيخ رشيد هاتين الصفتين لله تعالى، مع التنزيه اللائق به سبحانه. فيقول عند قوله عزوجل: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} 4: "أي: كان السمع والعلم ولا يزالان من صفاته الثابتة فلا يفوته تعالى قول من أقوال من يجهر بالسوء، ولا يعزب عن علمه السبب الباعث له عليه ... " 5. ويتضح لنا من هذا النقل عن الشيخ رشيد تفرقته بين السمع والعلم مخالفاً بذلك من أرجع السمع للعلم.   1 مجلة المنار (3/ 647) 2 المصدر نفسه (3/ 645) 3 تفسير المنار (4/ 262) ، وقارن مع مجلة المنار (3/ 645) 4 سورة النساء، الآية (58) 5 تفسير المنار (6/ 6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ويقول في موضع آخر مثبتاً لهاتين الصفتين ومفرقاً بينهما وبين العلم: " ... إن لله علماً حقيقياً هو وصف له ولكنه لا يشبه علمنا، وإن له سمعاً حقيقياً هو وصف له لا يشبه سمعنا ... وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى ... " 1. ويقول أيضاً في موضع آخر: " ... إنه سميع بسمع ليس كمثل أسماع المخلوقين، وبصير ببصر ليس كبصرهم، وعليم بعلم ليس كعلمهم ... " 2. ويحسن أن نختم هنا بكلام الشيخ رشيد عن أثر الإيمان بهاتين الصفتين إذ يقول إنه: " ... ينبه النفوس إلى الحياء من الله تعالى أن يراها حيث نهاها، فيكون عندها أهون الناظرين، وأن يسمع منها ما لا يرضاه فإنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ... وهذا هو التأثير الذي كان يودعه في قلوبهم، وهذا الذي يليق بحكمة الله تعالى وجلاله، ويجعل دينه مصلحاً للنفوس، ومثقفاً للعقول، بتذكيرها بمراقبته، وحملها على خشيته، ولم يكن بناء دينه على نظريات أرسطو وأفلاطون" 3.   1 المصدر نفسه (1/ 77) 2 مجلة المنار (28/ 270) 3 المصدر نفسه (3/ 747) وانظر: تفسير المنار (4/ 262) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 المطلب الثالث: صفات الفعل العقلية : والقسم الثاني من الصفات هو صفات الفعل العقلية، وهي التي دل عليها العقل، وعلى اتصاف الرب بها مع ورود السمع بها. وقد سبق أن ذكرت تعريف الشيخ رشيد لصفة الفعل، بأنه ما ليس له مبدأ خاص في النفس واستقرار فيها على العكس من صفة الذات 4. وفي موضع آخر مثل الشيخ رشيد لصفات الفعل في سياق بيانه لدلالة صفة الربوبية على صفات الأفعال فقال:"وأما دلالة صفتي الربوبية والرحمة   4 انظر: (ص:363) من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 على جميع معاني صفات الأفعال الإلهية فظاهر، فإن رب العباد هو الذي يسدي إليهم كل ما يتعلق بخلقهم ورزقهم وتدبير شؤونهم من فعل دلت عليه أسماؤه الحسنى كالخالق البارئ المصور القهار الوهاب الرزاق الفتاح القابض الباسط، الخافض الرافع المعز المذل، الحكم العدل اللطيف الخبير ... " 1. فالشيخ رشيد يستدل عليها بربوبية الله تعالى فإنها تدل دلالة عقلية على هذه الصفات. ولم يتكلم رحمه الله عن صفات الفعل العقلية بأكثر من هذا، إلا صفة "الكلام" والتي ذكرت قبل أنها صفة ذات باعتبار وصفه فعل باعتبار آخر 2 لذا فإنني أجعل الكلام عليها هنا مرة واحدة، وأجعلها مثالاً لصفات الفعل العقلية التي تكلم عليها الشيخ رشيد رحمه الله. صفة الكلام: يثبت السلف الكلام صفة لله تعالى مستندين إلى العقل والنقل. فيقولون: إن الله تعالى متكلم بكلام حقيقي، قائم بنفسه، يسمعه المخاطب بصوت وحرف، ولا يبحثون في كيفية تكلمه تعالى به 3. وأما الأدلة: فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 4   1 تفسير المنار (1/ 75) 2 انظر: (ص:363) من هذا البحث. 3 ابن تيمية: شرح الأصفهانية (73 و87) ، وانظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 225) ، ابن خزيمة: التوحيد (ص: 136) ، والدارمي: الرد على المريسي (ص: 106) ، والرد على الجهمية (ص: 71 ـ72) ، وابن منده: التوحيد (3/ 51) ، والبيهقي: الأسماء والصفات (1/ 297) ، وانظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 174) ط. التركي والأرناؤوط، والأشعري: الإبانة (ص: 87) ت: فوقية، والسجزي: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 145) وما بعدها، تحقيق أستاذي الدكتور: محمد با كريم با عبد الله، ط: الجامعة الإسلامية، الأولى 1413هـ. 4 سورة النساء، الآية (164) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1، وفي هذه الآية دليل واضح على أن الله تعالى يتكلم بكلام يسمع. ومن السنة: أحاديث؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ... " 2، وقوله: "بصوت يسمعه " صريح في إثبات الصوت في كلامه تعالى وأنه يُسمع، وفيه بيان البون البعيد بين صفات الخالق وصفات المخلوق إذ أن صوته تعالى يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب بخلاف أصوات المخلوقين، وأما إثبات الحرف ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: آلم حرف، ولكن: ألف: حرف، ولام: حرف، وميم: حرف" 3. أما الخلف فإنهم وإن تباينت آراؤهم في الظاهر إلا أنهم في الحقيقة متفقون على إنكار كلام الله تعالى الحقيقي، وأنه لا يتكلم بكلام يسمع، بل بكلام يخلقه في غيره، وينسب إليه على سبيل المجاز، وهو عرض مخلوق 4. وحقيقة قول هؤلاء أن الله تعالى لم يتكلم إذ لم يقم به كلام، ولا   1 سورة التوبة، الآية (6) 2 رواه البخاري معلقاً، ك: التوحيد، باب: قوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ ... } الآية، (13/461) ورواه: أحمد: المسند (3/ 4495) ، والحاكم: المستدرك (2/ 437 و 4/ 574) مرفوعاً موصولاً. 3 رواه الترمذي: ك: فضائل القرآن، باب: فيمن قرأ حرفاً من القرآن..، ح: 2910 (5/175) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وانظر: السجزي: مصدر سابق (ص: 154 ـ 155) 4 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 120) ، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 87) ومن كتب القوم: المغني في أبواب العدل والتوحيد (7/ 84) ، وشرح الأصول الخمسة (ص: 528) كلاهما للقاضي عبد الجبار. ومن كتب الأشعرية: البغدادي: أصول الدين (ص: 106 ـ 108) ، والشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 106 و310) ، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 86) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 يكلم كذلك، وهذه كانت بداية مقالتهم كما حكي عن الجعد بن درهم 1، فكل من قال القرآن مخلوق فحقيقة قوله أن الله لم يتكلم ولا يكلم ولا يأمر ولا ينهى، ولما رأوا ذلك مخالفاً للقرآن، وإجماع المسلمين قالوا إنه يتكلم مجازاً يخلق شيئاً يعبر عنه لا أنه في نفسه يتكلم، فلما شنع عليهم المسلمون قالوا: يتكلم حقيقة ولكن المتكلم هو من أحدث الكلام وفعله ولو في غيره، لا من قام به الكلام، وهو الذي استقر عليه قول المعتزلة. وهذه مغالطة كلامية، فإن المتكلم هو من قام به الكلام، وإليه ينسب لا إلى غيره ويشتق له اسم المتكلم ولا يسمى غيره بما قام به من الكلام متكلماً 2. ويلزم من قول المعتزلة: أن الله لم يكلم موسى وإنما كلمته الشجرة فقالت: يا موسى إني أنا الله رب العالمين 3. وأما الأشعرية فإنهم يتفقون مع المعتزلة في خلق القرآن، ويقولون: إن كلام الله واحد، لا تعدد فيه وله أقسام اعتبارية هي: الأمر من حيث تعلقه بفعل الصلاة مثلاً، ونهي من حيث تعلقه بطلب ترك الزنا، وخبر من حيث تعلقه بالأخبار، فالأقسام اعتبارية في متعلقه لا فيه. وأنه تعالى لم يزل متكلماً ولا يسكت، ليس بحرف ولا صوت 4، ويلزم من ذلك أن معنى: أقيموا الصلاة هو معنى لا تقربوا الزنا، وأنه تعالى لم يزل متكلماً بلا سكوت يقول: يا موسى، يا موسى ... 5.   1 سبقت ترجمته، وانظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 108، 118) ، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 87) 2 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 120) ، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 89) . 3 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 120 ـ 121) ، وابن تيمية: درء التعارض (2/ 253) 4 انظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 291 ـ 292) ، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 85) ، وانظر: السجزي: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 137 ـ 138) 5 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 187 وأيضاً 189 ـ 190) ط. التركي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 والذي أوقع الأشعرية في هذا أن المعتزلة ألزمتهم بأن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً يدخله التعاقب والتأليف، وهذا لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد أن يكون ذا أجزاء وأبعاض، وما كان كذلك لا يجوز أن يكون صفات ذات الله، فالتزموا ذلك وقالوا ـ خرقاً للإجماع ـ أن ذلك ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمي كلاماً على المجاز لكونه حكاية عنه أو عبارة عنه، وأما الكلام الحقيقي فمعنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ولا يسمع! 1. وأما الشيخ رشيد فإن له منهجاً في "الكلام" موافقاً لأهل السنة، فإنه يثبت الكلام صفة لله تعالى من صفاته لا تشبه صفة كلام المخلوقين، وإن كان بحرف وصوت، وهو كلام يسمع، وينسب إلى الله تعالى حقيقة لا مجازاً كما ينسب كل كلام إلى قائله. ويرد الشيخ رشيد نظريات المتكلمين الفلسفية في هذا البحث. فيرى أن " كلام الله تعالى صفة من صفاته تتعلق بجميع ما في علمه ... " 2 وأنه تعالى: "متصف في الأزل بالكلام أي: بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء كما أنه متصف في الأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء" 3. ويرى الشيخ رشيد أن هذا هو معنى "الكلام النفسي" أي أن له صفة ذاتية بها يعلم من يشاء من عباده بما شاء من علمه متى شاء وهذا الإعلام هو التكليم والوحي ... " 4.   1 انظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 288 ـ 299) والسجزي (ص: 167) . 2 تفسير المنار (3/ 4) 3 المصدر نفسه والصقحة. 4 المصدر نفسه والصفحة، وقد اعترض سلفي على تعبير الشيخ فأجابه الشيخ رشيد بأن مراده بيان متعلق الكلام وغاية التكليم الذي يفهمه الرسول من الخطاب، وليس معناه أن الكلام والتكليم هو العلم، قال: "وهذا بدهي في نفسه" المجلة (34/ 222 ـ224) واحترز الشيخ رشيد عموماً بقوله: "فإن وقع في كلامنا ما يوهم خلاف هذه العقيدة السلفية فهو من عثرات القلم الضعيف في البيان ... تفسير المنار (3/4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ويقول مثبتاً مذهب أهل السنة في كون الكلام يكون صفة فعل باعتبار تجدد أفراده: " ... إنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء متى شاء وأن خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور ... " 1. ويرى الشيخ رشيد أن كلام الله تعالى يسمع، وقد سمعه موسى من وراء الشجرة، قائلاً: "وفيه التصريح بأن موسى عليه السلام سمع نداء الله تعالى له من وراء الشجرة، وإثبات الكلام والتكليم والنداء لله تعالى ... " 2. ويثبت الشيخ رشيد الصوت في كلامه تعالى فيقول بعد نقله بعض نصوص عن السلف في إثبات الصوت: "فهذه النقول من أحفظ الحفاظ صريحة في أن إثبات هذا الصوت لكلام الله المنزه عن مشابهة أصوات الخلق هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه ... وأي فرق بين إثبات الكلام وإثبات الصوت وكل منهما ثابت للبشر، وكذلك السمع والبصر ... " 3. ويذكر شبهة المنكرين له ويجيب عنها فيقول: "وأما الصوت فمن منع قال: أن الصوت هو الهواء المتقطع المسموع من الحنجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك، فلا يلزم المحذور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه ... " 4. ويثبت الشيخ رشيد السكوت لله تعالى، لأنه يتكلم حسب مشيئته تعالى، ويسكت من غير نسيان 5. خلافاً لمن يقول: إنه لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً منزهاً عن السكوت 6.   1 مجلة المنار (34/ 222) 2 المصدر نفسه (ص: 223) 3 مجلة المنار (29/ 596) 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 تفسير المنار (2/ 179) 6 انظر: البيجوري: تحفة المريد (ص: 85) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وأما القرآن فيرى الشيخ رشيد أنه كلام الله المسموع، فيقول: " ... والقرآن كلام الله تعالى نسب إليه في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1 وفي أحاديث متعددة وأجمع على ذلك المسلمون ... " 2. ويرد على الأشعرية في قولهم إن القرآن المكتوب في المصاحف ليس هو كلام الله على الحقيقة، فيقول: " ... لو كان ما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من كلام الله تعالى هو معاني القرآن دون عبارته لكان القرآن كلامه صلى الله عليه وسلم لا كلام الله تعالى، لأن الكلام هو العبارة التي تتجلى فيها المعاني من علم المتكلم ... " 3. ويقول: " ... وينسب كل كلام إلى من صدر منه وكان مجلى كلامه النفسي فالجملة من كلام زيد من الناس يتناقلها الناس بألسنتهم وأقلامهم وبآلات التلغراف والتلفون وكل منهم يقول إنها كلام زيد ... " 4. ويتخذ الشيخ رشيد موقفاً صحيحاً من مسألة خلق القرآن فيقول: "إن هذا القرآن المكتوب في المصاحف المحفوظ في الصدور المتلو بالألسنة هو كلام الله تعالى المنزل على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله تعالى ليس فيه صنع ولا عمل. والقول بأنه مخلوق على الإطلاق أو باعتبار قراءته أو كتابته من البدع المذمومة التي لم يأذن بها الله ولا قال بها رسول ولا أصحاب رسوله ولا التابعون لهم في هدايتهم ولا هي مما تحتاج إليه الأمة في حفظ دينها ولا مصلحة دنياها، ومن البدع أيضاً أن يقال أن حروفه مخلوقة، وأن قراءتي له مخلوقة وربما كان ذريعة إلى ما هو شر منه ... " 5. وهذا هو الموافق لما عليه السلف إذ كانوا يشددون في هذه الألفاظ البدعية 6.   1 سورة التوبة، الآية (6) 2 مجلة المنار (21/ 473) 3 المصدر نفسه والصفحة. 4 المصدر نفسه والصقحة. 5 المصدر نفسه (12/ 182) 6 انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (2/ 346ـ 359) ، وعبد الله بن أحمد: السنة (1/ 102) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وأخيراً يبين الشيخ رشيد موقفه من الفرق المختلفة في كلام الله تعالى، فيقول: "ولا يغترن أحد بتلك النظريات التي بنى عليها الجهمية والمعتزلة وبعض الأشاعرة والكلابية وغيرهم أقوالهم في الكلام النفسي واللفظي وجعل بعضه حقيقياً وبعضه مجازاً، ووصف بعضه بالقديم وبعضه بالحادث أو تسميته مخلوقاً ـ فكل ذلك مبني على الهرب من وصف الخالق بصفات المخلوقين لئلا يكونوا مشبهين له بخلقه. ومذهب السلف بني على وصفه تعالى بكل ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وإسناد ما أسنده إليه كلامه وكلام رسوله مع الجزم بالتنزيه وكونه ليس كمثله شيء كما نزه نفسه. وقامت البراهين العقلية على تنزيهه ولا تنافي بين الأمرين ولا تناقض ... " 1. وهذا الموقف الذي اتخذه الشيخ رشيد في مسألة القرآن موقف سديد، موافق لما كان عليه السلف وصالحو الخلف، وهذا هو ما استقر عليه الشيخ رشيد 2. وقبل أن أختم هذا المبحث أريد أن أقف قليلاً لأبين موقف الشيخ رشيد في مسألة هامة في "علم الكلام". ذلك أن قول الشيخ رشيد رحمه الله عن الله: "أنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء ومتى شاء، وأن خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور ... " 3 يشير إلى مسألة هامة؛ وهي مسألة "حلول الحوادث بذاته تعالى". مسألة "حلول الحوادث بذاته تعالى ": هذه المسألة من المسائل الهامة التي شغلت وقتاً كثيراً في النقاش بين السلف والمتكلمين. وقد بنى المتكلمون فيها مذهبهم على مسألة "حدوث   1 مجلة المنار (21/ 473) 2 وقارن مع: مجلة المنار (1/ 851 ـ 854) وأيضاً (3/ 810) لتعرف الموقف القديم. 3 مجلة المنار (34/ 222) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 العالم" والتي اتخذوها أصلاً فيإثبات "وجود الله تعالى" 1 وبناءً على ذلك نفوا صفات الفعل الاختيارية لله تعالى. لأنهم يقولون إنها سمة الحدوث ولا يجوز أن تحل الحوادث بذاته تعالى، لأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث 2. وسلكوا في هذه الصفات مسلكين: الأول: أنها صفات أزلية قديمة مع الله تعالى لا تتعلق بمشيئة الله وإرادته، فلا يتجدد له فيها حال كما يشاء. الثاني: جعل مقتضى الصفة مفعولاً منفصلاً عن الله لا يقوم بذاته، فالخلق ـ مثلاً ـ عندهم هو المخلوق فالله تعالى لم تحل بذاته حوادث لم تكن، وكذا الاستواء فإنهم يقولون فعل فعلاً في العرش سماه استواء من غير أن يستوي بذاته. فالفعل هو المفعول 3. ولما كانت آيات القرآن الكريم تثبت في صراحة ووضوح تجدد صفات الفعل لله تعالى وحدوث أفرادها شيئاً بعد شيء كقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} 4 وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 5 والمعدوم لا يرى موجوداً قبل وجوده فإذا وجد رآه موجوداً وسمع كلامه، وهذا يدل على حصول أمر وجودي لم يكن من قبل 6 لذا فإن المتكلمين ـ مع قولهم بنفي تجدد هذه الصفات، وتسليماً منهم بما دل عليه القرآن، فروا وهربوا إلى تسمية هذا الحدوث والتجدد بأسماء أخرى، كالتعلق والإضافات والأحوال 7.   1 انظر: (ص:388) من هذا البحث. 2 انظر: الباقلاني: التمهيد (ص: 41 ـ 42) ، والبغدادي: أصول الدين (ص: 59ـ 60، 106) 3 انظر: البيهقي: الاعتقاد (ص:32) وانظر: الباقلاني: التمهيد (ص:244ـ 245) ،وانظر أيضاً ابن تيمية: شرح حديث النزول (ضمن مجموع الفتاوى:5/411ـ 412) 4 سورة التوبة، الآية (105) 5 سورة يونس: الآية (14) 6 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (2/ 240 ـ 241) 7 انظر: البيجوري: تحفة المريد (ص:76) وما بعدها، و (ص:81) وما بعدها، و (ص: 92) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والحق أن صفات الله تعالى منها ما هو قديم لازم للذات أزلاً وأبداً كالحياة، ومنها ما هو قديم الجنس ولكن تحدث آحاده، كالإرادة والعلم والكلام، فالإرادة مثلاً قديمة الجنس ولكن هناك إرادات جزئية تحدث، ولولا ذلك لم يحدث شيء لأن الإرادة القديمة نسبتها إلى جميع الوجوه الممكنة واحدة، وإلا لوجب وجود المراد معها في الأزل. وكذلك العلم، منه ما هو قديم وهو انكشاف جميع الأشياء له تعالى في الأزل، لا يشذ عن علمه منها شيء، ولكن منه ما يحدث بحدوث المعلومات وتجددها، كما قال تعالى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} 1،وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 2. ومثل ذلك يقال في السمع والبصر والكلام، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 3. 4. فالشيخ رشيد عندما يذهب إلى أن "خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور.." 5. وقوله عن الله تعالى أنه "متصف في الأزل بالكلام، أي بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء، كما أنه متصف بالأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء ... " 6، يذهب إلى ما ذهب إليه السلف في أفعال الله تعالى الاختيارية، ولا بد أنه بذلك متأثر بابن تيمية الذي فصل هذه المسألة تفصيلاً في كتبه التي اطلع عليها رشيد رضا 7.   1 سورة آل عمران: الآية (140) 2 سورة آل عمران: الآية (142) 3 سورة الأعراف: الآية (143) 4 ولقد فصل ابن تيمية هذه المعاني كثيراً، انظر مثلاً: درء التعارض (2/ 3ـ 156 و4/3) وما بعدها 5 مجلة المنار (34/ 222) ،ويلاحظ أن هذا الجزء هوقبل الأخير فلم يكتب رشيد رضا في الجزء الخامس والثلاثين إلا قليلاً. 6 تفسير المنار (3/ 4) 7 انظر: مبحث: موارد رشيد رضا (ص: 174) من هذا البحث، ومنها درء التعارض، وشرح حديث النزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ويستعمل رشيد رضا أيضاً لفظ "الحدوث" عند حديثه عن صفات الفعل، فيقول في سياق حديثه عنها وعن الفرق بينها وبين صفات الذات:"..هناك فرق بين الصفة كرحيم وقريب ومجيب وسميع وبصير، وبين الفعل الحادث كاستوى على العرش ونزل إلى السماء الدنيا" 1. وهذا يدل على فهمه لمذهب السلف فيها، كيف لا وقد وقف على "شرح حديث النزول لابن تيمية؟ 2.   1 مجلة المنار (29/615) 2 انظر: (ص:177) من هذا البحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 المطلب الرابع: صفات الذات الخبرية : يقصد بالصفات الخبرية أو السمعية؛ ما كان الدليل عليها مجرد خبر الرسول دون استناد إلى نظر عقلي 3. ومنها صفات ذاتية كالوجه واليد والعين والقدم، ومنها صفات فعلية كالاستواء والنزول والمجيء والمحبة والرضا والسخط والغضب. وغير ذلك مما جاء به الكتاب الكريم واستفاضت به السنة النبوية. ولقد اتحد موقف المتكلمين من هذه الصفات، إذ نفوها جميعاً، معتزلة وأشعرية، باعتبار أنها من سمات الأجسام، فتقتضي التشبيه والتجسيم، كما أن الفعلية منها تقتضي حلول الحوادث بذاته تعالى ـ كما مر قبل قليل 4. وقد أشرت قبلاً إلى أن متقدمي الأشعرية كأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني كانا يثبتان من هذه الصفات الكثير. وأول من اشتهر عنه نفيها من الأشعرية هو إمام الحرمين الجويني 5 وتبعه على ذلك   3 انظر: محمد خليل هراس: ابن تيمية السلفي (ص: 135) ، ومحمد أمان الجامي: الصفات الإلهية (ص: 207) ط. الجامعة الإسلامية، الأولى، سنة 1408هـ. 4 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 2) مطبعة كردستان بمصر، وعبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 217 و 230) ، وانظر: (ص:362) من هذا البحث. 5 هو: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، ت: 478هـ. [السير: 18/468ـ 477] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 جميع متأخري الأشعرية 1. وأما السلف رحمهم الله فلم يختلف منهجهم في إثبات الصفات، فقد مشوا على صراط مستقيم، هو إثبات ما أثبته الله لنفسه دون تحريف أو تعطيل أو تمثيل، وتنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، كما مر تفصيله. والمقصود الآن معرفة المنهج الذي سار عليه الشيخ رشيد رضا في هذا الباب. أولاً: الوجه: صفة الوجه من صفات ذات الله تعالى 2 ثبتت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 3 وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} 4. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الله تعالى 5 وفي الحديث: " ... لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره" 6. وبناءً على ذلك أثبت أهل السنة هذه الصفة 7. وتأولها المتكلمون 8.   1 انظر: محمد خليل هراس: ابن تيمية السلفي (ص: 139) ، ومحمد أمان الجامي: الصفات الإلهية (157ـ 171) 2 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 10) ت: خليل هراس. 3 سورة الرحمن، الآية (27) 4 سورة القصص، الآية (88) 5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب: قوله الله (:: {كل شيء هالك إلا وجهه} ، ح: 7406 (13/400) وانظر: ابن القيم: "مختصر الصواعق للموصلي" (ص: 337) 6 رواه مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 293 (179) [1/161] ط. عبد الباقي. 7 انظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 228) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 10) ، وابن منده: التوحيد (3/ 36) ، والدارمي: الرد على المريسي (ص: 157) ، وأثبتها الأشعري: الإبانة (ص: 22) ت: فوقية حسن، والباقلاني: التمهيد (ص: 295) ، وانظر: الأشعري: مقالات الإسلاميين (1/ 290) 8 انظر:: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 227) ، والرازي: أساس التقديس (ص: 117 ـ 119) ، والبغدادي: أصول الدين (ص: 109) ، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 110) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وورد ذكر الوجه في آيات من الكتاب العزيز ولم يختلف السلف في شيء منها، إلا في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 فقد ورد عن بعض السلف تفسيرها بقبلة الله 2. ولكن هذا لا يعني إلا أنه قد وقع بينهم نزاع في معنى هذه الآية ولا يعني ذلك إنكارهم للصفة لأنها ثابتة في آيات أخر وأحاديث صحيحة 3. والذي ظهر لي أن رشيد رضا قد أثبت صفة الوجه لله تعالى. وسوف أتناول نصوصه في ذلك متدرجاً من الواضح للأوضح من خلال تفسيره للآيات. فعند قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 4 فسر رشيد رضا الآية بما يدل على أنه لا يعدها من آيات الصفات، ولكنه بين لنا في تفسيره لها مذهب السلف والخلف في الصفات، وإن كان رأى أنه لا يظهر لها معنى على المذهبين. قال: "إذا فهمت هذا علمت أنه لا حاجة هنا إلى إيراد طريقتي السلف والخلف في المتشابهات وآيات الصفات، كأن نقول: إن الوجه صفة لله تعالى، أوأنها كناية عن الذات، حتى يكون المعنى على الأول: وما تنفقون إلا ابتغاء صفة الله تعالى التي سماها وجهاً، وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات المحدثين ـ وعلى الثاني: وما تنفقون إلا ابتغاء ذات الله تعالى. هذا ما لا يظهر معه للآية معنى، وكل ما ذكرناه في تفسيرها أظهر منه وأجلى، وقد رأيت أن الأستاذ الإمام اكتفى كالمفسرين بجعله معنى مرضاة الله، وهو صحيح" 5. وكما هو واضح أن تفسير رشيد رضا لهذه الآية في حياة "الأستاذ الإمام"، وقد رأيت حكاية رشيد رضا لتفسيره الآية. ولم يكن من السهل الإعلان بمخالفة الأستاذ الإمام. إلا أنني أشير إلى بيان رشيد رضا لمذهبي السلف والخلف وفهمه لهما وقوله: "صفة الله تعالى التي سماها وجهاً وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات   1 سورة البقرة، الآية (115) 2 انظر: ابن كثير: التفسير (1/ 150) ، وابن القيم: "مختصر الصواعق" (ص: 339) 3 انظر: ابن القيم: مختصر الصواعق (ص: 391 ـ 392) 4 سورة البقرة، الآية (272) 5 تفسير المنار (3/ 85) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 المحدثين" وذكره لتأويل المتكلمين لها بالذات. مما يدل على فهم رشيد رضا للمذهبين، ولا أشك في أنه يرجح مذهب السلف وإن لم يصرح به، نظراً لما اختاره الأستاذ الإمام. ومهما يكن من شيء فلو لم يكن لله وجه على الحقيقة لما جاء استعمال هذا اللفظ في معنى الذات؛ فإن اللفظ الموضوع لمعنى لا يمكن أن يستعمل في معنى آخر إلا إذا كان المعنى الأصلي ثابتاً للموصوف، حتى يمكن للذهن أن ينتقل من الملزوم إلى لازمه 1. ويؤيد رأيي في ترجيح رشيد رضا لمذهب السلف، موقفه الذي يعلنه دائماً من اختياره لمذهب السلف وحياته عليه وموته عليه، لولا ما يجعله يشير إلى غيره أحياناً لعوارض ومناسبات أخرى 2. النص الثاني الذي يلي هذا في الوضوح ـ حسب ما يظهر لي ـ تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3 فقد قال: " ... وقد ورد في الأحاديث الكثيرة من الطرق العديدة أن هذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، وهو أعلى مراتب الكمال الروحاني الذي لا يصل إليه المتقون المحسنون العارفون إلا في الآخرة ... " 4. ولا يخفى أن هذا التفسير كان في أثناء سورة يونس، أي بعد وفاة "الأستاذ الإمام" بزمن بعيد 5. وفسر رشيد رضا حديث "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" 6 فقال: "..ومعنى الجملة: أنه تعالى لو كشف عن وجهه حجاب النور المخلوق ... لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره منهم ... " 7.   1 انظر: محمد خليل هراس: شرح الواسطية (ص: 114) . 2 انظر: (ص: 354) من هذا البحث. 3 سورة يونس، الآية (26) 4 تفسير المنار (11/ 350) 5 وانظر: (ص:58) من هذا البحث. 6 سبق تخريجه قريباً 7 تفسير المنار (9/ 141) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 والنص الثالث؛ فعند قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} 1 قال: " ... أي يدعون ربهم بالغداة والعشي مريدين بهذا الدعاء وجهه سبحانه وتعالى ... كما قال تعالى حكاية عن المطعمين الطعام على حبه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} 2، وكما قال في حق الأتقى الذي ينفق ماله ليتزكى به عند الله تعالى ويكون مقبولاً مرضياً لديه: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 3 ولعل أصل ابتغاء الوجه بالعمل هو أن يعمل ليواجه به من عمل لأجله فيعتني بإتقانه ... وأعلى الثواب رضوان الله تعالى، وكمال العرفان والعلم به المعبر عنه في الأحاديث الشريفة برؤية وجهه الكريم، بلا كيف ولا تشبيه ولا تمثيل ... " 4. وأما قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 5 فيرى رشيد رضا تبعاً لشيخه، أنها ليست من آيات الصفات 6. وهو رأي قد قال به بعض السلف ـ رحمهم الله ـ وقد ذكرت قبل قليل أن ذلك يعني أنهم مختلفون في دلالة هذه الآية على الصفة، ولا يعني نفي الصفة، فإنهم يثبتونها بآيات وأدلة أخرى. والخلاصة أن رشيد رضا يثبت "وجه الله تعالى"" صفة لهمن غير تشبيه ولا تمثيل، ولا كيف، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، وأن إثباته للصفة بعد وفاة شيخه كان أشد وأوضح. والله أعلى وأعلم. ثانياً: العين الإلهية: قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} 7 وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 8،   1 سورة الأنعام، الآية (52) 2 سورة الإنسان، الآية (9) 3 سورة الليل، الآية (20) 4 تفسير المنار (7/ 437) 5 سورة البقرة، الآية (115) 6 تفسير المنار (1/ 434) 7 سورة هود، الآية (37) 8 سورة القمر، الآية (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 1. وبناء على هذه الآيات يجب إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من العين لا سيما وقد جاءت السنة موافقة للكتاب في ذلك. فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله {سَمِيعاً بَصِيراً} 2 ثم وضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه 3 تحقيقاً للصفة. وفي أحاديث صفة الدجال "إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور" 4 وفي أحد رواياته "إن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه" 5 وكان هذا كافياً عند أهل السنة لإثبات هذه الصفة 6. وتأولها الجهمية 7. وفي تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} ذهب الشيخ رشيد إلى إثبات هذه الصفة وما تلزمها من لوازم كالحفظ والعناية، فقال: " أي واصنع الفلك الذي سننجيك ومن آمن معك فيه حال كونك ملحوظاً ومراقباً بأعيننا من كل ناحية، وما يلزمه من حفظنا في كل آن وحالة ... " 8.   1 سورة الطور، الآية (48) 2 سورة النساء، الآية (58) 3 رواه أبو داود: ك: السنة، باب في الجهمية، ح: ك 4728 (5/ 97 ـ الدعاس) ، وعثمان الدارمي: الرد على المريسي (ص: 152) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 42 ـ43) ت: هراس. 4 ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، انظر: البخاري: الصحيح: ك: الفتن، ح: 7127 و7131 (13/ 96 ـ97) مع الفتح، ومسلم: الصحيح: ك الفتن، ح: 100 و101 (2933) [4/ 2247 ـ 2248] 5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب قول الله {ولتصنع على عيني} ح: 7407. [13/401] 6 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 42 ـ 43 و48 و152) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 42) ، والبخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب قول الله {ولتصنع على عيني} (13/ 401) مع الفتح، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 42) 7 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 2) ، وعبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 227) 8 تفسير المنار (12/ 73) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ويشير رشيد رضا إلى نكتة جمع العين في الآية على أن المراد به شدة العناية بالمراقبة والحفظ. قال: " جمع الأعين هنا لإفادة شدة العناية بالمراقبة والحفظ ... فإن العرب تعبر برؤية العين الواحدة عن العناية وبالأعين عن المبالغة فيها ... " 1. ثم قال: "وهذا التفسير هو الظاهر بل المتبادر من هذا التعبير، وليس تأويلاً صرف به عن الظاهر لإيهامه التشبيه، فإنما مرادهم بالتأويل حمل اللفظ على المعنى المرجوح من معنييه أو معانيه لمانع من حمله على المعنى الراجح، وهو لا ينحصر في الحقيقة اللغوية ... " 2. والحق أن الله تعالى له عينان لا أعين كثيرة 3، وقد شنع الجهمية على أهل السنة بمثل ذلك في اليد الإلهية، وربما أراد رشيد رضا الاحتراز عن ذلك، فذهب في مسألة الجمع هذا المذهب، مع إثباته للعين ولوازمها من الحفظ والعناية. هذا خلاف ما ذهب إليه المغراوي من أن رشيد رضا لم يثبت هذه الصفة 4. ومما يؤكد ما ذهبت إليه من إثبات رشيد رضا لهذه الصفة قوله بعد أن نقل كلاماً للسعد في تأويل بعض الصفات منها العين والوجه واليد، قال: "ومثل هذه الصفات التي هي في الحادث أعضاء وحركات أعضاء، الصفات التي هي في الحادث انفعالات نفسية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب والكراهة فالسلف يمرونها على ظاهرها مع تنزيه الله تعالى عن انفعالات المخلوقين ... والخلف يؤولون ما ورد من النصوص في ذلك ... والحق أن جميع ما أطلق على الله تعالى فهو منقول مما أطلق على البشر، ولما كان العقل والنقل متفقين على تنزيه الله تعالى عن مشابهة البشر تعين أن نجمع بين النصوص فنقول: إن لله تعالى قدرة حقيقية ولكنها ليست   1 المصدر نفسه. 2 المصدر نفسه. 3 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 48) ، والأشعري: الإبانة (ص: 22) ، وابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 135 ـ 137) 4 انظر: المغراوي: المفسرون (ص: 271) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 كقدرة البشر، وأن له رحمة ليست كرحمة البشر، وهكذا نقول في جميع ما أطلق عليه تعالى جمعاً بين النصوص، ولا ندعي أن إطلاق بعضها حقيقي والبعض الآخر مجازي ... " 1. وتعليق رشيد رضا هذا على كلام السعد التفتازاني المتضمن كلامه على الاستواء والوجه واليد والتي أثبتها جميعاً رشيد رضا، وفي ضمنها أيضاً الحديث عن العين الإلهية وأدلتها، وسياق الكلام عليها سياقاً واحداً لهو دليل على إثباته هذه الصفة كما أثبت ما معها من الصفات وما أضافه في التعليق عليها كالرحمة. ثالثاً: النفس الإلهية: ذكر الله تعالى في غير ما آية في كتابه أن له نفساً، وكذلك جاء في السنة النبوية. قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2 وقال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 3 وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 4 وقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} 5. وفي الحديث: "يقول الله: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" 6. وفي الحديث أيضاً: " ... سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضا نفسه وزنة عرشه" 7.   1 تفسير المنار (3/ 197 ـ 199) ولم يهتد المغراوي إلى هذا الموضع أيضاً فقال ما قال. 2 سورة الأنعام، الآية (54) 3 سورة طه، الآية (41) 4 سورة آل عمران، الآية (30) 5 سورة المائدة، الآية (116) 6 البخاري: الصحيح، ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} ، ح: 7405 (13/395) 7 مسلم: الصحيح، ك: الذكر، ح: 79 (2726) (4/ 2090) ط. عبد الباقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ويقول أهل السنة: إن نفس الله تعالى لا تشبه نفس المخلوقين، كما ينزهونه عن ألا تكون له نفس كالعدم 1. وكفرت الجهمية بهذه الآي والسنن، وزعم بعضهم أن الله تعالى أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه وزعم أن نفسه غيره كما أن خلقه غيره فهل يجوز على هذا التأويل أن يقال: كتب ربكم على نفسه الرحمة أي كتب ربكم على غيره الرحمة؟! وهل يجوز: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، أي: ولا أعلم ما في غيرك؟! وهل يجوز أن يقول: واصطنعتك لنفسي: أي لغيري؟! ... 2 وقال بعضهم: نفسه ذاته 3. وأثبت الشيخ رشيد النفس الإلهية مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة نفسه لأنفس المخلوقين. وأنكر تأويلات المتأولين. فقال عند قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 4: " ... قيل إن إضافة كلمة نفس إلى الله تعالى من باب المشاكلة، على أنها وردت بغير مقابل يسوغ ذلك كقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 5 {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 6 وقيل: إنها بمعنى الذات ... وتنزيه الله عن مشابهة نفسه لأنفس خلقه معروف بالنقل والعقل، فاستشكال إطلاق الوحي للأسماء مع هذا ضرب من الجهل ... " 7. وعند قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 8 قال: " ... وذكر النفس   1 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 5 ـ 6) ، وانظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 270) 2 انظر: ابن خزيمة: المصدر السابق (ص: 8) ، وابن حجر: الفتح (13/ 396) 3 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 93) ، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 11) ، والراغب: المفردات (ص: 818) 4 سورة المائدة، الآية (116) 5 سورة الأنعام، الآية (54) 6 سورة آل عمران، الآية (28، 30) 7 تفسير المنار (7/ 266) 8 سورة آل عمران، الآية (28، 30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ليعلم أن الوعيد صادر منه، وهو القادر على إنفاذه ... " 1. ومن هذين النقلين يتضح لنا رأي الشيخ رشيد في النفس، فقد جرى فيه على منهج السلف الذي أعلن مراراً وتكراراً أنه عليه يحيا وعليه يموت 2. رابعاً: يد الله تعالى: ورد لفظ "اليد" في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع؛ وروداً متنوعاً متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية من الطي 3 والقبض 4 والبسط 5 والخلق باليدين 6 والإمساك 7 والحثيات 8 والكتابة بها 9، وغرس جنة عدن بها 10 واختيار آدم لليمين منها 11 وكلتا يديه تعالى يمين مباركة 12. وإن اطراد لفظها في موارد الاستعمال وتنوع ذلك وتصريف الاستعمال يمنع المجاز 13. وبناءً على ذلك أثبت أهل السنة صفة اليد لله تعالى، على ما يليق به   1 تفسير المنار (3/ 282) 2 انظر: المصدر نفسه (1/ 252 ـ 253) 3 سورة الزمر، الآية (67) 4 سورة البقرة، الآية (245) وسورة الزمر، الآية (67) 5 سورة البقرة، الآية (245) وسورة المائدة، الآية (64) 6 سورة ص، الآية (75) 7 مسلم: الصحيح، ك: صفات المنافقين، ح: 19 (2786) [4/ 2147] ط. عبد الباقي. 8 الترمذي: صفة القيامة، باب: 12، ح: 2437، وابن ماجه: السنن، ك: الزهد، باب: صفة أنه محمد (، ح: 4286، وصححه الألباني. 9 البخاري: ك: القدر، باب: تحاج آدم وموسى، ح: 6614 (11/ 513) . 10 الحاكم: المستدرك (2/ 392) ، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 47) 11 الترمذي: ك: التفسير، باب: 95، ح: (3368) (5/ 453) وقال: حسن غريب، وابن أبي عاصم: السنة (1/ 91) ، والحاكم: المستدرك (1/ 64) وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. 12 ابن القيم: الصواعق "المختصر" (ص: 334) 13 المصدر نفسه (ص: 323) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 تعالى 1، وأولها المتكلمون بالقدرة أو القوة أو النعمة 2. ولقد سار رشيد رضا في هذه الصفة على منهج أهل السنة، فقد أثبتها مستدلاً بالكتاب والسنة. فيرد الشيخ رشيد على المنكر لهذه الصفة بقوله: "ولعل كل قارئ للقرآن أو سامع له من المسلمين، قد قرأ أو سمع قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 3 وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 4 ... " 5. ويحدد رشيد رضا الألفاظ الواردة في إثبات هذه الصفة، ويرد ما لم يرد منها في الكتاب والسنة، فيقول: "وإنما ثبت فيهما لفظ اليدين ولفظ اليمين في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 6 وثبت في حديث مسلم 7 والنسائي 8: "وكلتا يديه يمين" والحديث في إثبات الشمال لا يصح ... " 9. وعند قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 10 قال: "أي بل هو صاحب الجود الكامل، والعطاء الشامل، عبر عن ذلك ببسط اليدين لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه" 11 ثم   1 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 25) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 67) ، والآجري: الشريعة (ص: 320) ، وابن منده: التوحيد (3/ 118) ، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 43) ، وقد أثبتها الأشعري: الإبانة (ص: 22) ، والباقلاني: التمهيد (ص: 295) 2 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 228) ، والرازي: أساس التقديس (ص: 125) = =والبغدادي: أصول الدين (ص: 110) ، وانظر: الأشعري: المقالات (1/ 290) 3 سورة الفتح، الآية (10) 4 سورة ص، الآية (75) 5 مجلة المنار (29/ 595) 6 سورة الزمر، الآية (67) 7 الصحيح: ك: الإمارة، ح: 18 (1827) [3/1458] . 8 السنن: ك: آداب القضاة، باب: فضل الإمام العادل (8/ 221) ط. دار الكتب العلمية، بيروت. 9 مجلة المنار (29/ 595) ، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 408) ط. الريان، مصر. 10 سورة المائدة، الآية (64) 11 تفسير المنار (6/ 455) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 قال: "نعم إن التثنية ليست بمعنى الجمع، واليد واليدين لم يقصد بلفظهما النعمة ولا القوة ولا الملك. وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية 1، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم ... " 2 وفي مسألة "الكناية" يرى رشيد رضا: أن الكناية لا تنافي الحقيقة كما ينافيها المجاز 3. ورغم أن رشيد رضا يوافق ابن جرير الطبري 4 على إثبات هذه الصفة لله تعالى وأنها يد إلهية ليست بجارحة 5 ويقول:: "ونحن معه في إثبات الصفات، ننعى على المؤولين النفاة ... " 6 إلا أنه لم يوافق ابن جرير في استدلاله على هذه الصفة بالتثنية الواردة في الآية 7، ويذهب إلى أن التعبير من باب الكناية ولكنه يقول: "ليس في هذا القول المروي عن ابن عباس 8، تأويل ولا نفي لما أثبته البارئ لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى ... " 9. والذي يظهر من هذا أن رشيد رضا يثبت الصفة بلا ريب ولكنه يخالف في الاستدلال بالتثنية الواردة في الآية عليها. كما أنه استدل على هذه الصفة بآيات أخرى. ولا يعني ذلك إنكاره للصفة. على أن الاستدلال بالتثنية على عدم إرادة المجاز في الآية هو استدلال صحيح، استدل به غير واحد من أهل السنة وليس ابن جرير منفرداً في ذلك 10.   1 سيأتي تعريف الكناية والفرق بينها وبين المجاز. انظر (ص:409) من هذا البحث. 2 تفسير المنار (6/ 456) 3 انظر: مجلة المنار (17/ 827) و (ص:409) من هذا البحث. 4 هو: محمد بن جرير بن يزيد، الإمام العالم المجتهد، عالم العصر، صاحب التصانيف البديعة، كان من أفراد الدهر علماً ولقي النبلاء والفضلاء. قل أن ترى العيون مثله، ت: 310هـ. انظر: الذهبي: السير (14/ 267 ـ 282) 5 تفسير المنار (6/ 456) 6 المصدر نفسه (6 /455) 7 المصدر نفسه. 8 انظر: ابن كثير: التفسير (2/ 71 ـ 72) . 9 تفسير المنار (6/ 456) 10 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 86) ، والأشعري: الإبانة (ص: 126 ـ 127) ، والبيهقي: الاعتقاد (ص: 88) ت: أحمد عصام، وابن تيمية: "الرسالة المدنية" [ضمن مجموع الفتاوى (6/ 365 ـ 366) ] ، وابن القيم: الصواعق "المختصر" (2/ 324) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وليس صحيحاً ما ذكره المغراوي من أن رشيد رضا ذهب في هذه الآية مذهب المؤولة، وأنه اختلط عليه الإثبات والتفويض 1. خامساً: الصورة الإلهية: الصُورة ـ بالضم ـ الشكل، جمعها: صُور وهي الشكل، والهيئة والحقيقة 2. وكل موجود من الموجودات له صورة في الخارج، كما أن له صورة ذهنية 3. والصورة الإلهية وردت في أحاديث كثيرة لا يمكن دفعها ـ وإن لم ترد في الكتاب ـ إلا أنها وردت في السنة واشتهرت. منها حديث: "خلق الله آدم على صورته" 4، وفي رواية: "على صورة الرحمن" 5، وصححه الأئمة 6. وحديث: "رأيت ربي في أحسن صورة" 7. وقد أثبت أهل السنة ما دلت عليه هذه الأحاديث دون التصرف فيها بالتأويل فالصورة كالصفات الأخرى، ثبتت لله تعالى بالوحي فوجب الإيمان بها، مع التنزيه وعدم التشبيه 8.   1 انظر: المغراوي: المفسرون بين التأويل والإثبات (1/ 266) . 2 انظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (3/ 320) ، والزبيدي: تاج العروس (3/ 342) 3 ابن تيمية: نقض التأسيس (3/ 245 و275) [مخطوط] 4 البخاري: الصحيح، ك: الاستئذان، باب: بدء السلام، ح: 6227 (11/ 5) 5 ابن أبي عاصم: السنة (1/ 229) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 38) ت: هراس. 6 انظر: ابن تيمية: نقض التأسيس (3/ 222) [مخطوط] وابن حجر: فتح الباري (5/217) 7 الترمذي: السنن: ك: التفسير، تفسير سورة "ص"، ح:3288، (5/ 369) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ونقل عن البخاري تصحيحه. 8 انظر: ابن تيمية نقض التأسيس [ج: 3 مخطوط (ص: 206 ـ 255) ] ، وانظر: ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث (ص: 221) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وأولها الجهمية بالصفة، كما أنهم تلاعبوا في إرجاع الضمائر في الروايات المتقدمة 1. وأما الشيخ رشيد فقد أشار إلى حديث البخاري: "خلق الله آدم على صورته" وقال: "قيل إن الضمير في صورته لآدم أي: صورته المعهودة لم يتغير من طور إلى طور آخر وقيل إنه قاله لمن ضرب عبده فالضمير للعبد، ولكن ورد في رواية أخرى "على صورة الرحمن"" 2. فالشيخ رشيد قد أورد بعض التأويلات المذكورة، ثم أورد رواية أخرى تردها ولكنه لم يعلق عليها بشيء. كما أنه أورد روايات أخرى فيها ذكر الصورة ونقل كلام الشراح عليها ثم قال: "ذكر النووي في شرحه لحديث أبي هريرة من صحيح مسلم مذهب السلف في أمثال هذه الألفاظ والصفات وهو الإيمان بها وحملها على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته وتنزيهه كما تقدم ... " 3. وأما مذهب السلف فهو ما ذكرته قبل قليل من الإيمان بالصورة ومعناها اللغوي ـ مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه ـ وإمرار الأحاديث على ظاهرها، وتفويض الكيفية لا المعنى، وأرجو أن يكون هذا هو مراد الشيخ رشيد. وهذا هو مذهب السلف في كل الصفات وكما قرره الشيخ رشيد غير مرة، ومن الممكن أن نتأول على ذلك قوله في معنى الصورة: "وقد اختلفوا في معنى الصورة وأولوها أيضاً، والأظهر أنها عبارة عما يقع به التجلي من حجاب ومنه رداء الكبرياء الذي سبق الكلام فيه ... " 4.   1 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 83) وما بعدها، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (11/ 5) 2 تفسير المنار (7/ 474) بالحاشية. 3 المصدر نفسه (9/ 146) 4 المصدر نفسه والصفحة، إلا إن كان الشيخ رشيد يريد بالتجلي أنه يتجلى في صورة كما ورد في بعض الروايات، يتجلى وتبدى. انظر: مسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 316 (191) [1/ 177 ـ 178] ، والترمذي: السنن: ك: صفة الجنة، باب: ما جاء في أسواق الجنة، ح: 2549، وقال: هذا حديث غريب (4/ 686) ، وابن ماجه: السنن: ك: الزهد، باب: صفة الجنة، ح: 4336، وضعفه الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وإن كان قوله "عبارة عن ... " هو التأويل الذي رفضه السلف وأقرهم على ذلك الشيخ رشيد. سادساً: الرؤية: زعمت الجهمية والمعتزلة أن الله تعالى لا يُدرك ولن يُدرك بشيء من الحواس الخمس 1. ولذلك فقد نفوا رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة 2. وأما أهل السنة فإنهم يقولون بجواز الرؤية في الدنيا عقلاً ولكنها لم تقع لأحد قط، لا نبي ولا غير نبي، ولم يختلفوا في ذلك، إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم، وجوازها في الآخرة عقلاً، ووقوعها قطعاً 3. واستدلوا بالكتاب والسنة: فمن الكتاب: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4 وقوله تعالى: {كَلاَّّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 5. ومن السنة: أحاديث بلغت مبلغ المتواتر 6. منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته" 7، وهذا دليل واضح وضوح الشمس والقمر. وعلى ذلك مضى السلف. قال الإمام الدارمي: "فهذه الأحاديث كلها وأكثر   1 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 13 ـ 14) ، وعبد الجبار: فضل الاعتزال (ص: 346) ، وشرح الأصول (ص: 348) ، وابن تيمية: منهاج السنة (2/ 315 و363) ، والأشعري: المقالات (1/ 238) ، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 207) 2 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 232) وما بعدها و (ص: 348) . 3 انظر: الدارمي: الرد على الجهمية (ص: 54) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 185 وص: 197) وما بعدها. وابن أبي عاصم: السنة (ص: 193) ، وابن تيمية: منهاج السنة (2/ 329) وما بعدها، وابن القيم: حادي الأرواح (ص: 223) ط. مطبعة المدني، بمصر. 4 سورة القيامة، الآية (22ـ 23) 5 سورة المطففين، الآية (15) 6 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 59) ، والآجري: الشريعة (ص: 57) ، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 215) ط. التركي. 7 رواه البخاري: الصحيح، ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} ، ح: 7434، (13/ 429) مع الفتح، وانظر: الدارمي: الرد على الجهمية (ص: 46) ، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 178) وما بعدها، وابن أبي عاصم: السنة (ص: 193) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 منها قد رويت في الرؤية، على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والنظر من مشايخنا، ولم يزل المسلمون قديماً وحديثاً يروونها ويؤمنون بها، لا يستنكرونها ولا ينكرونها ... " 1. وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعيني رأسه على ثلاثة أقوال، ثالثها التوقف 2. والحق أنه لم يرد في شيء من الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم رآه يقظة بعينه 3. وقد ورد النفي في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه" 4 واختاره أحمد 5 والدارمي 6 الذي علل ذلك بضعف قدرة الإنسان على ذلك في الدنيا وأن الله تعالى ينشئهم نشأة أخرى في الآخرة تقوى على ذلك 7. وقد اتخذ الشيخ رشيد موقفاً سديداً في هذه المسألة، فقد أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة. وذكر الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى في الدنيا وذهب إلى القول بالنفي. فأما رؤية الله تعالى في الدنيا، فيقول بنفيها عموماً، للنبي صلى الله عليه وسلم، ولغيره بطريق الأولى، فيقول: "اختلف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج بين إثبات ونفي ووقف، واختلف المثبتون في الرؤية هل هي بعين البصر أم بعين القلب والبصيرة؟ ... والتحقيق أنه قد وردت أحاديث مرفوعة صحيحة في النفي دون الإثبات، كحديث: "نور أنى أراه" 8 وكحديث: "واعلموا أنكم   1 الرد على الجهمية (ص: 54) 2 انظر: القاضي عياض: الشفاء (1/ 152 ـ 156) ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الأولى 1416هـ. 3 انظر: عياض: الشفاء (1/ 152) ، وابن تيمية: درء التعارض (2/ 106) ، ومنهاج السنة (2/ 316 و636 ـ 637) 4 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 291 (1/ 161) 5 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 637) 6 الرد على الجهمية (ص: 55) 7 المصدر نفسه (ص: 55 ـ56) ، وانظر: ابن تيمية: المنهاج (2/ 331 ـ 333) 8 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 لن تروا ربكم حتى تموتوا" 1 .... " 2 ويرجح رشيد رضا رأي أم المؤمنين عائشة في النفي 3 لأنه " أصح سنداً وأقوى دليلاً" 4 وأما رأي ابن عباس 5 رضي الله عنهما فهو بالاستنباط من الأدلة ولم يكن عنده حديث مرفوع 6. وهذا الذي ذهب إليه في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعين رأسه يقظة في الدنيا هو الراجح عند جمهور أهل السنة كما سبق. وهو مذهب أم المؤمنين عائشة وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ 7. وأما الرؤية في الآخرة، فبعد أن ذكر الشيخ رشيد تعارض أدلة المثبتين والنافين لها من القرآن يقول: "وإذا كانت الآيات التي استدل بها كل فريق ليست نصاً قاطعاً في مذهبه ففي الأحاديث المتفق عليها ما هو نص قاطع لا يحتمل التأويل في الرؤية وتشبيهها برؤية البدر والشمس في الجلاء والظهور وكونها لا مضارة فيها ولا تضام ولا ازدحام ... " 8. غير أن الشيخ رشيد لا يترك الاستدلال بأدلة القرآن بل يستدل بها ويبين وجه دلالتها، فلقد ذكر استدلال أهل الإثبات بقوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 9، وقال: ".. فنفي الإدراك يستلزم إثبات رؤية لا إدراك فيها، فكأنه قال: لا تدركه الأبصار التي تراه وهو يدرك الأبصار التي يراها ويحيط بها. ونظيره قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ   1 رواه مسلم: الصحيح: ك: الفتن وأشراط الساعة، ح: 95 (2930) [4/ 2245] ، وانظر: ابن ماجه: السنن، ك: الفتن، باب: فتنة الدجال، ح: 4077. 2 تفسير المنار (9/ 147) 3 انظر: مسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 287 (177) وما بعده (1/ 159) 4 تفسير المنار (9/ 147) 5 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 285 (176) (1/ 158) ، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (1/79) 6 تفسير المنار (9/ 148) 7 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 283 (175) وح:287 (177) [1/ 158 ـ 159] 8 تفسير المنار (9/152) 9 سورة الأنعام: الآية (104) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 1 أي هو يحيط بهم علماً لأنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} 2، وهم لا يحيطون به علماً لأن إحاطة المحاط به بالمحيط محال، وهو يستلزم إثبات أصل العلم به لا نفيه كآية نفي الإدراك بالأبصار، وكل منهما جار على قاعدة معروفة في اللغة؛ وهي أن نفي المقيد يقصد به إلى القيد، وإن نفى وصف خاص لمعنى عام يستلزم إثبات ذلك العام، كقولك: فلان لا يشبع ـ فإنه إثبات للأكل ونفي للشبع.." 3. وأما ما يستدل به النفاة من كلام السيدة عائشة رضي الله عنها، فيجيب عنه الشيخ بما يأتي: "وأحسن ما يجاب به عن استنباط عائشة وأقواه عن المثبتين، أن يقال: إنها تريد نفي الرؤية في الدنيا، كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شؤون البشر في الآخرة على شؤونهم في الدنيا، لأن لذلك العالم سنناً ونواميس تخالف هذا العالم.." 4. ويلخص الشيخ رشيد رأيه في هذه المسألة فيقول: "خلاصة الخلاصة أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل النعيم الروحاني الذي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة والرضوان، وأنها أحق ما يصدق عليه قوله تعالى في كتابه المجيد: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 5،.. وأن هذا وذلك مما يدل على مذهب السلف الذي عبر بعضهم عنه بأوجز عبارة اتفق عليها جميعهم، وهي: "رؤية بلا كيف" ... 6". وما ذهب إليه الشيخ رشيد في هذه المسألة أيضاً هو اعتقاد أهل السنة ـ رحمهم الله ـ 7.   1 سورة طه: الآية (110) 2 سورة البروج: الآية (20) 3 تفسير المنار (9/136) 4 المصدر نفسه (9/ 154) 5 سورة السجدة: الآية (17) 6 تفسير المنار (9/ 177) وانظر: المجلة (19/282) والوحي المحمدي (ص:183) 7 كما أثبتها: الأشعري: الإبانة (ص: 35) والباقلاني: التميهد (ص:301) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الفصل الرابع: منهج رشيد رضا في إثبات الألوهية ونفي الشرك والبدع تمهيد ... تمهيد إثبات الألوهية لله تعالى، أو: توحيد الألوهية، أو: توحيد العبادة، أو: توحيد القصد والطلب والإرادة، هي كلها أسماء لمسمى واحد. وهذا الفصل قسيم الفصلين السابقين من أقسام الإيمان بالله تعالى إذ الإيمان به تعالى يتضمن الإيمان بربوبيته وصفاته وألوهيته، ومعنى الإلهية: كون العباد يتخذونه سبحانه محبوبا مألوها ويفردونه بالحب والخوف والرجاء والإخبات والتوبة والنذر والطاعة والتوكل والطلب1. وبعبارة أخرى نقول: إن توحيد الألوهية -يعني- وهو ما تدل عليه مسمياته السابقة-: إفراد الله تعالى بأفعال عباده وأقوالهم التي تعبدهم بها من عبادات قلبية: كالخوف والحب والرجاء، أو بدنية: كالصلاة والطواف، أو مالية: كالزكاة وسائر الصدقات أو ما يجمع ذلك أو بعضه كالحج. فهذه العبادات لا تصرف إلا لله تعالى وحده، فإن صرفت لغيره كانت شركا لا يغفر. والأدلة على وجوب إفراد الله تعالى بأنواع العبادات كثيرة، منها: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} 2. وقوله عز وجل: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا   1 المقريزي: تجريد التوحيد (ص:5) . 2 سورة الانعام، الآية (162-163) ، وقال الشيخ رشيد: "هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل.." تفسير المنار (8/241) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1. وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 3. وقوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 4. وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تقرر أن الله هو المستحق للعبادة بجميع أنواعها الاعتقادية والقولية والفعلية وليس لأحد سواه، كائنا من كان، أي شيء من أنواع العبادة. ولقد قرر الشيخ رشيد – رحمه الله تعالى – هذا المعنى أتم تقرير، وبينه أوضح البيان، فلقد فسر الإله بالمعبود، وبين معنى العبادة وحقيقتها وذكر بعض أنواعها وكيف تسرب الشرك إليها، وذكر الشرك ومعناه ومظاهره، والبدعة وأنوعها وغير ذلك من المسائل المتعلقة بهذا الفصل. وفيما يلي نعرض لآرائه في مسائل هذا الفصل لتقف على منهجه التفصيلي فيه، والله تعالى ولي التوفيق.   1 سورة غافر، الآية (65) . 2 سورة البينة، الآية (5) . 3 سورة الإسراء، الآية (23) . 4 سورة النساء، الآية (36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 المبحث الأول: إثبات الألوهية المطلب الأول: تعريف الإله ... المطلب الأول: تعريف الإله لقد وقع خطأ كبير – وكان له أثر بعيد – في معنى الإله، وأقول – وبكل لأسى – إن هذا الخطأ لم يقع فيه عامة الناس فقط، بل وقع فيه النظار في علم العقائد على طريقة الفلسفة والكلام والجدل، ومنشأ هذا الخطأ هو الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن الكريم واستعمالها بلوازم معناها، وسبب آخر: هو امتلاء الرؤوس بالأفكار والنظريات والاصطلاحات الفلسفية الحادثة1. لقد وقع الخلط بين معنى "الرب" و"الإله". هذا ما بينه الشيخ رشيد رحمه الله وبين معنى "الإله" الذي تدل عليه ألفاظ القرآن ولغة العرب، فقال مبينا منشأ هذا الخطأ: " ... ومنشأ هذا الخطأ هو الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن في اللغة العربية، واستعمالها بلوازم معناها العرفية كلفظ "الإله" فإن معناه في اللغة: المعبود مطلقا لا الخالق ولا المدبر لأمر العالم كله ولا بعضه، ولم يكن   1 محمد رشيد رضا: تفسر المنار (9/112-113) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 أحد من العرب الذين سموا أصنامهم وغيرها من معبوداتهم آلهة يعتقدون أن اللات أو العزى أو هبلاً خلق شيئا من العالم أو يدبر أمرا من أموره، وإنما تدبير أمور العالم يدخل في معنى لفظ الرب، ... ولذلك يحتج القرآن عليهم في مواضع بأن غير الخالق المدبر لا يصح أن يكون إلهاً يعبد مطلقا وهو معنى قول بعض المحققين إنه يحتج بما يعترفون به من توحيد الربوبية، على ما ينكرونه من توحيد الألوهية ... فإن الإله في هذه اللغة هو المعبود بالذات أو بالواسطة وإن كان مصنوعاً ... "1. فيقرر الشيخ رشيد أن الإله هو المعبود مطلقا، أي بحق أم بغير حق، وكل معبود هو إله- وليس معناه الخالق. ~أو القادر على الاختراع. ويكرر الشيخ رشيد هذا المعنى كثيرا. فعند قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 2. قال: "الرب هو السيد والمالك والمدبر المربي، والإله هو المعبود، أي: الذي يتوجه إليه الإنسان عند الشعور بالحاجة إلى ما يعجز عنه بكسبه ومساعدة الأسباب له، فيدعوه لكشف الضر أو جلب النفع، ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه وبالنذر له والذبح باسمه أو لأجله، سواء كان الرجاء فيه خاصا به أو مشتركا بينه وبين معبود آخر هو فوقه أو دونه ... "3. وفي هذا النص أيضا يقرر الشيخ رشيد معنى الإله مفرقا بينه وبين معنى الرب، إذ أنه المعبود المتقرب إليه والملتجأ إليه، وحده أو مع غيره. فهذا هو معنى الإله مطلقا.   1 تفسير المنار (9/112-113) وقارن مع: ابن تيمية: درء التعارض (1/174) ، وابن القيم: مدارج السالكين (3/19) ، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:8) ، ومحمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات (ص:219) ضمن الجامع الفريد. 2 سورة الأعراف، الآية (54) . 3 تفسير المنار (8/444-445) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 ويقول في موضع آخر: "ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أرباباً آلهة، فالإله هو المعبود، فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلهاً ... فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي ... "1. وإذا كان ذلك صحيحا فكيف يدخل الشرك في عبادة الله تعالى؟ هذا ما يبينه الشيخ محمد رشيد بقوله: "والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران: أحدهما: أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق .... ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة. ثانيهما: اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الرب الإله الحق، تشفع عنده وتقرب إليه ... "2. فبين الشيخ هنا أن دخول الشرك في العبادة من هاتين الجهتين، التعظيم، والواسطة. وأن الأولى هي عبادة بعض المخلوقات نفسها كوثنية: من يعبد الكواكب أو النار لذاتها، وهي وثنية متأخرة سافلة، والثانية: وثنية من يعبدها أو يعبد الأنبياء أو الملائكة لتقربه إلى الله زلفى، وهي وثنية أرقى من تلك، ومثالها وثنية العرب زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد في معنى "الإله" من أنه "المعبود" هو الصحيح بإجماع أهل العلم. فمن عبد شيئاً فقد اتخذه إلهاًُ من دون الله3. فتوحيد الألوهية: هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، كالدعاء والرجاء والخوف والخشية ... إلخ4.   1 المصدر نفسه (7/568) . 2 تفسير المنار (7/568) . 3 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:5) ، ومحمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/103-104) . 4 محمد بن عبد الوهاب: المصدر السابق (2/67-68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 فيقوم هذا التوحيد على صرف جميع العبادات لله تعالى والإخلاص له فيها، فتوحيد الله معناه: اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له والتوجه إليه وحده بالعبادة1. يقول الشيخ رشيد: "فالإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جداً، وهي غير آلهة في الحقيقة ولكن في الدعوة الباطلة التي يثيرها الوهم"2. فمعنى قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 3 – كما يقول الشيخ رشيد -: " ... وإلهكم الحق الحقيق بالعبادة إله واحد لا إله مستحق لها إلا هو، فلا تشركوا به أحداً"4. والشرك في الألوهية أو في العبادة -معناه- وكما يقول الشيخ رشيد: "عبادة غير الله تعالى بالدعاء ونحوه ... "5. وفي معنى قوله تعالى: { ... إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 6: قال: "كائنين من دون الله ... أو: حال كونهم متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة ... سواء اعتقد المشرك أن هذا المتخذ ينفع ويضر بالاستقلال – وهو نادر – أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه ... "7. ويقرر الشيخ رشيد أن هذا المعنى لتوحيد الألوهية هو المراد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 8، فيقول: "فالتوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية هو غاية ما يرتقي إليه عرفان البشر،   1 محمد خليل هراس: دعوة التوحيد (ص:11) . 2 تفسير المنار (3/23) . 3 سورة البقرة، الآية (163) . 4 تفسير المنار (2/55) . 5 مجلة المنار (11/943) . 6 سورة المائدة، الآية (116) . 7 تفسير المنار (7/261) . 8 سورة الذاريات، الآية (56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وهو المراد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} على القول بأن اللام للغاية، وهو لا يقتضي حصوله لكل فرد منهم ... "1. ويبين الشيخ رشيد أهمية هذا التوحيد، وأثره في النفس فيقول: "إن عقيدة التوحيد القرآني هي أعلى المعارف التي ترقي الإنسان إلى أعلى ما خلق مستعدا من الكمال الروحي والعقلي والمدني، وقد صرح كثير من العلماء الإفرنج بأن سهولة فهم هذه العقيدة وموافقتها للعقل والفطرة هما السبب الأكبر لقبول الأمم لها ... قد كان توحيد المسلمين الأولين لله ومعرفتهم به وحبهم له وتوكلهم عليه هو الذي أزكى أنفسهم وأعلى هممهم وكمّلهم بعزة النفس وشدة البأس وإقامة الحق والعدل، ومكنهم من فتح البلاد وسياسة الأمم ... "2. ولكن –ومع الأسى أيضا – إن وضوح هذه العقيدة وسهولتها قد طمسته فلسفة المتكلمين حتى في معاهد التعليم الكبرى، يقول الشيخ رشيد: "أليس من البلاء أن يكون فساد التعليم الإسلامي قد أفضى بالمسلمين إلى إخفاء عقيدة التوحيد بالإعراض في بيانها عن آيات القرآن النيرة الواضحة إلى اصطلاحات علماء الكلام المعقدة؟ ... "3. ويضرب الشيخ رشيد مثالاً على ذلك بتفسير التوحيد بأنه نفي الكموم الخمس: الكم المتصل، والكم المنفصل في صفاته تعالى، والكم المنفصل في أفعاله ... ثم يقول: "إن هذه الكموم الخمسة فلسفة كلامية ما أنزل الله بها في كتابه من سلطان ... "4.   1 تفسير المنار (9/108) وقارن مع ابن تيمية: مجموع الفتاوى (6/40-41) وانظر: عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:19-20) ط. دار الكر، 1409هـ، ت: حامد الفقي. 2 الوحي المحمدي (ص:174) . 3 مجلة المنار (33/124) . 4 المصدر نفسه والصفحة. والكم هو المقدار، وهو ما قبل القياس. وقال: إنه عرض يقبل لذاته القسمة والمساواة واللامساواة والزيادة النقصان، وهو: إما متصل، وإما منفصل. فالمتصل هو: الذي يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحدد به كالنقطة للخط، والمنفصل هو: الذي لا يوجد لأجزائه بالقوة ولا بالفعل حد مشترك، كالعدد، فإنك إذا انتقلت من عدد إلى آخر يليه لم تجد بينهما حداً مشتركاً، بخلاف النقطة في الخط فإنها مشتركة بين قسميه. انظر: جميل صليبا: المعجم الفلسفي (ص:240/241) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ويدل على أهمية هذا التوحيد أن مسائله أكثر المسائل تكراراً في القرآن الكريم، وأن ما يذكره الله تعالى فيه من دلائل ربوبيته إنما هو للاستدلال على ألوهيته. يقول الشيخ رشيد: "لذلك كان أكثر المسائل تكراراً في القرآن مسألة توحيد الله عز وجل في ألوهيته بعبادته وحده، واعتقاد أن كل ما سواه من الموجودات سواء في كونهم ملكاً وعبيداً به، لا يملكون من دونه نفعاً ولا ضراً لأحد ولا لأنفسهم إلا فيما سخره الله من الأسباب المشتركة بين الخلق ... "1. ويقرر الشيخ رشيد أن توحيد الألوهية هو الأساس الأعظم للدين فيقول: "ثم ذكر الأساس الأعظم للدين وهو: توحيد الألوهية، بتخصيص الخالق سبحانه بالعبودية، وقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2 وقرن ذلك بالتذكير بآياته الكثيرة الدالة عليه في السماوات والأرض وما بينهما ثم ذكر ما يقابل هذا التوحيد مقابلة التضاد، وهو الشرك باتخاذ الأنداد والاعتماد فيه على تقليد الآباء والأجداد ... "3. ومما يدل على مكانة هذا التوحيد كذلك – أنه أول شيء دعا إليه الرسل جميعاً، فكانت دعوتهم دائماً تبدأ بقولهم: { ... اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4 يقول الشيخ رشيد: "وبدء الدعوة بالأمر بعبادة الله تعالى وحده هو سنة جميع المرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ   1 الوحي المحمدي (ص: 170) . 2 سورة البقرة، الآية (163) . 3 تفسير المنار (1/108) . 4 انظر: سورة هود، الآية (50 و61 و84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 فكان كل رسول يبدأ دعوته بقوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وذلك أن جميع تلك الأمم كانت تؤمن بأن الله خالق الخلق وهو ربهم ومدبر أمورهم، وإنما كان كفرهم الأعظم بعبادة غير الله تعالى بالدعاء الذي هو ركن العبادة الأعظم في وجدان جميع البشر، وبغير الدعاء والاستعانة من العبادات العرفية كالتقرب إلى المعبود بالنذور وذبح القرابين أو الطواف أو التمسح به ... لما كانوا كذلك احتج على دعوتهم إلى توحيد الله تعالى بالتعبير بلفظ "رب" مضافا إليهم فقالوا: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ... يعني: إذا كان ربكم هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم ... فيجب أن تعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحداً ... "2. ويقول أيضا: "وأما تكرار توحيد الربوبية –وهو انفراده تعالى بالخلق والتقدير والتدبير، فليس لإقناع المشركين بربوبيته تعالى فقط – بل أكثره لإقامة الحجة على بطلان شرك العبادة ... "3. وما ذهب إليه الشيخ هو الحق، فتوحيد الربوبية هو الذي اتفقت عليه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الألوهية مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين ولهذا كانت كلمة الإسلام "لا إله إلا الله" فتوحيد الإلهية هو المطلوب من العباد، وأما المشركون فكانوا مقرين بربوبية الله تعالى، لذلك احتج عليهم بها دائما كما في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} 4. وعموماً: فهو تعالى يحتج على منكري الإلهية بإثباتهم الربوبية5.   1 سورة النحل، الآية (36) . 2 تفسير المنار (1/184) . 3 الوحي المحمدي (ص: 170) . 4 سورة النمل، الآية (59-60) . 5 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 8 و9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 المطلب الثاني: العبادة أولاً: تعريف العبادة: إذا كان معنى توحيد الألوهية هو: عبادة الله وحده وهو ما قرره الشيخ رشيد موافقا لمنهج السلف1 فما هي العبادة؟ لقد تنوعت أقوال السلف في التعبير والتعريف بالعبادة، ولكن أشمل تعريف لها هو تعريف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إذ يقول: "العبادة اسم جامع لما يحبه اله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه إخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة"2.ويعرف الشيخ رشيد العبادة تعريفاً لغوياً فيقول: "العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود ... "3. فإذا كان معنى العبادة لغة: الخضوع والتذلل4، فإنها في الشرع يضاف إليها عنصر آخر هو "التعظيم الناشئ عن الشعور بأن للمعظم سلطة   1 تفسير المنار (8/442) . 2 العبودية (ص:38) ط. المكتب الإسلامي، الخامسة، 1399هـ، وانظر: المقريزي تجريد التوحيد (ص:22) ، وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:14) . 3 تفسير المنار (1/56) . 4 انظر: الراغب: المفردات (ص/542) ، والرازي: مختار الصحاح (ص: 172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 غيبية وأسراراً معنوية وراء الأسباب الظاهرة ... "1. والدليل على ذلك: "أنهم لا يطلقون لفظ العبادة على الخضوع والتذلل للملوك والأمراء مهما بولغ فيهما ولا يسمون تذلل العاشق المستهتر لمن يعشقه عبادة وإن غلا فيه أشد الغلو ... "2. وهذه ملاحظة دقيقة من الشيخ رشيد، فإن العبادة شيء زائد عن مجرد الخضوع والتذلل، وأما المعنى الشرعي للعبادة، فيعرفها الشيخ رشيد أكثر من مرة وفي غير مناسبة، فيقول: "إن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب وما هو فوق الأسباب ... "3. ويقول في موضع آخر: " ... وكل تعظيم واحترام ودعاء ونداء يصدر عن هذا الاعتقاد فهو عبادة حقيقية أي: ليس له هذا السلطان الذي اعتقده له العابد لا بالذات ولا بالتوسط ... "4. ويفصل الشيخ هذا المعنى أكثر فبقول: " ... ذلك أن عبادة الشيء عبارة عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده أم دفع الضرر عنه، والخوف ممن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه، سواء كانت هذه السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود، مستقل بالنفع والضرر أو كانت غير ذاتية له، بأن يعتقد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له سلطة ذاتية ... "5. وقد ذكرت قبلاً - نقلاً عن الشيخ رشيد - تقسيم الشرك في العبادة من جهتين: التعظيم والواسطة وأن الأول هو ما سماه الوثنية السافلة، ومثلت لها بقوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الكواكب لذاتها، وأن الثاني: هو الوثنية   1 مجلة المنار (6272) . 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 تفسير المنار (7/568) . 4 تفسير المنار (3/23) . 5 مجلة المنار (16/677) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الراقية التي كان عليها العرب زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم1. فهذا تأييد لما هناك. وعن صور هذه العبادة المجملة ومفرداتها، يقول الشيخ - رحمه الله تعالى - مبينا بعض هذه الصور: "وصور العبادة تختلف عند الأمم اختلافا عظيما، وأعلاها عند المسلمين: الأركان الخمسة والدعاء. وقالوا: كل عمل غير محظور تحسن فيه النية لله تعالى فهو عبادة. كأن المعنى الذي يجعل جميع الأعمال عبادة هو التوجه إلى الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته ... والمؤولون يخصون هذه الصور بالله تعالى وإذا ابتدعوا صورة فيها معنى العبادة يسمونها باسم آخر يستحلونها بل يستحبونها، ولكنهم لا يخرجون بالتسمية والتأويل عن حيز من يتخذ من دون الله أنداداً ... "2. ونأخذ من هذا النص أن عند الشيخ رشيد مفهومين للعبادة، أحدهما أوسع من الآخر. فالأول: هو الأركان الخمسة: الشهادة والصلاة والصيام والحج والزكاة والدعاء، وهي عبادات مطلوبة شرعاً، والآخر وهو الأوسع: أنها تشمل كل حركة أو فعل أو قول يقوم به الإنسان ابتغاء وجه الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. ومن هذا النص أيضا يظهر رأي الشيخ في أن صور العبادة التي شرعت لله، إذا صرفت لغيره كانت شركا ولو تغير اسمها4. ثانياً: شرط صحة العبادة: ولا تقبل العبادة إلا بشرطين مجتمعين، إذا فقد أحدهما أو كلاهما، لم تقبل العبادة، هما: الإخلاص والمتابعة5.   1 انظر: (ص 469) من هذا البحث. 2 تفسير المنار (1! /189) . 3 سورة الأنعام، الآية (162) . 4 وانظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 21-23) ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/411) . 5 انظر: ابن القيم: إعلام الموقعين (1/83) ، ط. دار الكتب الحديثة، مصر. ت: عبد الرحمن الوكيل. ابن رجب: جامع العلوم (ص:11) ، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ولقد قرر الشيخ رشيد رحمه الله هذين الشرطين، فقال عن الشرط الأول وهو الإخلاص: " ... العبادة الصحيحة لله تعالى لا تتحقق إلا إذا خلصت له وحده فلم تشبها شائبة ما من التوجه إلى غيره كما قال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 1 وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2 والآيات في هذا المعنى كثيرة ... ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة، ولذلك قال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} 3 الآية ... ويدل عليها أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه - وفي رواية - فأنا منه بريء، هو للذي عمل له ... " 4. وهذا الذي ذهب إليه الشيخ مستدلاً بالكتاب والسنة هو الحق، فكل عمل من الأعمال وطاعة من الطاعات إذا لم تصدر عن إخلاص نية وحسن طوية لا اعتداد بها ولا التفات إليها. الشرط الثاني لصحة العبادة: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الشرط يقول الشيخ رشيد: "اعلم أيها الأخ المستفهم أن أصول دين الله تعالى وفروعه مبنية على أساسين: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله تعالى. وثانيهما: ألا يعبد إلا بما شرع ... فعبادات الدين لا تثبت إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أن يزيد فيها برأيه شيئاً فإن الله تعالى قد أكمل دينه على لسان رسوله بنص الآية المشهورة5 ... "6.   1 سورة الزمر، الآية (14) . 2 سورة البينة، الآية (5) . 3 سورة الزمر، الآيتين (2 و3) . 4 مسلم: الصحيح، ك: الزهد، ح: 46 (2985) (4/2289) . 5 يعني قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} سورة المائدة، الآية (3) . 6 مجلة المنار (23/476) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وعند قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1 قال الشيخ: "قوله هنا {وَاتَّبِعُوهُ} أعم من قوله في الآية التي قبلها {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} 2 فتلك في اتباع القرآن خاصة وهذه تشمل اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما شرعه من الأحكام من تلقاء نفسه، على القول بأن الله تعالى أعطاه ذلك وأذن له به، واتباعه في اجتهاده واستنباطه من القرآن إذا كان تشريعاً ... "3. وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد هنا أيضا هو الصواب، فيجب أن تكون العبادة موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4 وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 5.   1 سورة الأعراف، الآية (158) . 2 سورة الأعراف، الآية (158) . 3 تفسير المنار (9/303) . 4 سورة الحشر، الآية (7) . 5 سورة آل عمران، الآية (31-32) ، وانظر: ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم (ص:56-57) ، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 المطلب الثالث: بعض أنواع العبادة التي ذكرها رشيد رضا لقد سبق أن ذكرت تعريف الشيخ رشيد للعبادة، حقيقتها، وصورها، وذكرت أن له مفهومين للعبادة، أحدهما أوسع من الآخر. وهنا أود أن أقف عند بعض العبادات التي تكلم عنها الشيخ رشيد –رحمه الله- وأبين منهجه فيها، فمنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 أولاً: الدعاء: يقرر الشيخ رشيد أن الدعاء صورة من صور العبادة1، بل هو أعظم مظاهر العبادة2، وهو العبادة الفطرية الوحيدة، وما سواه فعبادات تشريعية وضعية3. لقد عرف الشيخ رشيد الدعاء لغة فقال: "وأصل الدعاء: النداء والطلب مطلقا أو مع ملاحظة استعلاء المنادى المطلوب منه ... "4. ولكن ليس كل نداء وطلب عبادة، إلا "إذا لوحظ معه تعظيم المدعو واعتقاد أن له سلطة غيبية وراء الأسباب الظاهرة أو طلب منه ما لا ينال بالكسب، سواء كان اعتقاد السلطة له لذاته أو لأنه واسطة بين الداعي وبين الله تعالى يقربه إليه زلفى. ولا يخرجه عن معنى العبادة تسميته باسم آخر كالتوسل والاستشفاع ... فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء ... " كما يقول الشيخ رشيد –رحمه الله-5. ويستدل الشيخ رشيد على كون الدعاء عبادة بالكتاب والسنة، فيقول: "وقد ذكر الدعاء في القرآن أكثر من سبعين مرة، بل زهاء سبعين مرة بعد سبعين مرة ... "6. وهذه الآيات الكثيرة جاءت على صور مختلفة يبينها الشيخ بقوله: "بعض آيات الدعاء أمر بدعائه تعالى وحده7، وبعضها نهي عن دعاء غيره مطلقاً8، ومنها حجج على بطلان الشرك أو على إثبات التوحيد9، ومنها أمثال تصور   1 مجلة المنار (12/632) . 2 المصدر نفسه (12/395) . 3 الوحي المحمدي (ص:171 وص: 239-240) . 4 مجلة المنار (2/632) . 5 المصر نفسه. 6 الوحي المحمدي (ص:171) . 7 انظر: مثلاً: سورة الأعراف، الآية (55 و80 و131) . 8 انظر: سورة يونس، الآية (197) . 9 انظر: مثلاً: سورة الأعراف، الآية (197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 كلا منها بالصور اللائقة المؤثرة1، ومنها إخبار بأن دعاء غيره لا ينفع ولا يستجاب2، وأن كل ما يدعى من دونه تعالى فهو عبد له3، وأن أفضلهم وخيارهم كالملائكة والأنبياء يدعونه هو ويبتغون الوسيلة إليه4 ... "5. كما أن الشيخ يستدل بالسنة كذلك فيورد بعض الأحاديث التي تدل على أن الدعاء عبادة. فيقول: و"الدعاء هو العبادة" كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم6 .... والمعنى أنه الركن الأعظم في العبادة على نحو "الحج عرفة" 7 وفي معنى هذا التفسير حديث أنس عند الترمذي مرفوعاً "الدعاء مخ العبادة" 8 وإسناده ضعيف يقويه تفسير للصحيح، وقد يفسرونه بالعبادة في جملتها دون أفرادها ... "9. أنواع الدعاء: يقسم الشيخ رشيد الدعاء إلى قسمين: اضطراري واختياري. فالاضطراري هو ما يكون من الإنسان حال الضرورة وشدة الفزع واشتداد   1 انظر: سورة الحج، الآية (73) . 2 انظر: سورة فاطر، الآية (13/14) . 3 انظر: سورة الأعراف، الآية (194) . 4 انظر: سورة الإسراء، الآية (56-57) . 5 الوحي المحمدي (ص: 171) . 6 رواه أبو داود: الصلاة، باب: الدعاء، ح: 1479 (2/161) والترمذي: التفسير، باب: ومن سورة المؤمن، ح:/ 3247 (5/374) وقال: حسن صحيح، والحاكم في المستدرك (1/491) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. 7 رواه الترمذي، ك: التفسير، باب: سورة البقرة، ح: 2975 (5/214) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: ك: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح: 3015 (2/1003) ، ورواه أبو داود: ك: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، ح: 1914 (2/485) . 8 الترمذي: الدعوات، باب:؛ فضل الدعاء، ح: 3371 (5/456) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. قلت: وابن لهيعة صحيح الحديث. انظر: أحمد شاكر: شرح الترمذي (1/16) حاشية. 9 تفسير المنار (/458) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 البأس والإشراف على البأس، ويعتبر الشيخ رشيد أن هذا النوع هو مقياس ومعيار الإيمان والاعتقاد بالإله. فيقول: "وهذا الفرع من الدعاء هو ميزان الإيمان ومعيار التوحيد الخالص، ... وإنما كان الدعاء في حالة الاضطرار معياراً للإيمان لأن من يعتقد بقوة غيبية وراء الأسباب لغير الله تعالى فهو يلجأ إليها في تلك الحالة بطبعه وينطق لسانه بدعاء صاحبها وندائه، ولا توجد إمارة على الشرك أظهر من هذه الإمارة ... "1. ومن هذا يتبين أن شرك المتأخرين أغلظ من شرك الأولين، لأن الأولين كانوا إذا مسهم الضر والخوف دعوا الله تعالى مخلصين له الدين، وإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى شركهم. فهم لا يشركون في حالة البأس، وإنما يشركون حال الرخاء. أما المتأخرون فإنهم يدعون الأموات حال البأس وحال الرخاء جميعاً2. وأما القسم الثاني من الدعاء فهو الاختياري، فيقول عنه الشيخ رشيد: " ... فإنه من الأعمال التي تزيد في الإيمان وتمده وتدعمه كسائر العبادات المطلوبة في الدين ... "3. وهذا النوع من الدعاء هو الذي يسميه السلف دعاء العبادة4. الشرك في الدعاء: ويقرر الشيخ رشيد أن دعاء غير الله تعالى شرك، وأن المدعو بهذا الدعاء قد اتخذ إلهاً من دون الله. فيقول: "وشر أنواع الاعتداء في الدعاء التوجه فيه إلى غير الله ولو   1 مجلة المنار (6/408) . انظر: محمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/24-26) ، وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:175) 3 مجلة المنار (6/408-409) . 4 عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ليشفع عنده، لأن الحنيف من يدعو الله تعالى وحده، فلا يدعو معه غيره، كما قال: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 أي لا ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ... ومن دعا غير الله فيما يعجز هو وأمثاله عنه من طريق الأسباب كالشفاء من المرض بغير التداوي وتسخير قلوب الأعداء والإنقاذ من النار ودخول الجنة وما أشبه ذلك من المنافع ودفع المضار، فقد اتخذه إلهاً لأن الإله هو المعبود، والدعاء هو العبادة ... "2. ويقول: "وكل من يدعى مثل هذا الدعاء فقد اتخذ معبوداً وإلهاً ... "3. ومن هذا الشرك ما نراه كثيرا من دعاء الأموات والمقبورين، زطلب الحاجات منهم، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ولا ريب أن ذلك شرك صريح، يقول الشيخ رشيد مبينا هذه البلوى: " ... وهل يكابر أحد في دعاء الألوف والملايين من عامتنا للموتى من الصالحين، إلا إذا كان لا يخجل من إنكار المحسوسات، ألا إنهم لا ينكرونه ولكنهم يؤولونه لهم بأنهم لا يقصدون به العبادة وإنما يقصدون التوسل!! ألفلظ يلوكونها ولا يفهمونها. الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الدعاء هو العبادة" 4 أي هو الفرد الأعظم من أفرادها والركن ال: مل من أركانها، كقوله: "الحج عرفة" 5 فتجويز دعاء غير الله كتجويز الصلاة لغير الله بدعوى عدم قصد العبادة وتسميتها توسلاً أو ما يشاء أهل التأويل من الأسماء ... "6 ولا ريب أن هذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد رأي سديد لا يخالفه فيه أحد من أهل السنة7.   1 سورة الجن، الآية (18) . 2 تفسير المنار (8/485) . 3 المصدر نفسه (8/442) . 4 سبق تخريجه. 5 سبق تخريجه. 6 مجلة المنار (12/395) . 7 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص:95 وص286) ط. الدار العلمية، الهند، والتوسل، له (ص:264) ، والعبودية، له (ص: 4) ط. مكتبة المعارف بالرياض، 1402هـ، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:22) ، وعبد الرحمن حسن: فتح المجيد (ص: 176) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 ثانياً: التوكل: التوكل عمل كمن أعمال القلب، ليس بقول لسان ولا عمل جوارح. وورد في تعريفه أقوال متعددة1. والحق: أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها. وأول درجاته: معرفة الرب بصفاته. فمن كان بالله وصفاته أعلم كان توكله أصح وأقوى2. والتوكل من خصائص الإلهية، فمن توكل على غير الله فقد شبه هذا المتوكل عليه بالله تبارك وتعالى3. وقد فرض الله عز وجل هذه العبادة على عباده فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 وقال: {عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 5 وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ .... } 6. وقد تناول الشيخ رشيد هذه العبارة في تفسيره وبين علاقة التوكل بالأسباب، وبين أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. فعند قوله تعالى: {عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 7 وقال: "وعلى الله فليتوكل المؤمنون، ولا يتوكلوا على غيره، لأن النصر بيده وهو الموفق لأسبابه ... "8 وقال مبينا أن التوكل عمل قلبي: " ... فالتوكل محله القلب"9.   1 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (2/114-117) . 2 المصدر نفسه (2/117) . 3 المقريزي: تجريد التوحيد (ص:27) ، وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:361) . 4 سورة المائدة، الآية (23) . 5 سورة آل عمران، الآية (122) . 6 الفرقان: من الآية58. 7 سورة آل عمران، الآية (122) . 8 تفسير المنار (4/207) . 9 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وعند قوله تعالى: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} 1 قال: "أي إليه وحده وكلنا أمرنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا ... وذلك أن من أصول المعرفة بالله عز وجل التي يعرفها جميع رسله أن من توكل على الله كفاه {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2 ... "3. والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، كما يظهر - بادئ الرأي - بل إن التوكل من أقوى الأسباب لحصول المتوكل فيه، كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به4. فيربط الشيخ رشيد بين التوكل والأخذ بالأسباب، ولا يرى تعارضا بين الأمرين لأنه كما يقول: "فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح ... "5. ويقول الشيخ رشيد: " ... وإن من شروط التوكل الصحيح في الأمر القيام بكل ما أوجبه الله تعالى فيه من الأحكام الشرعية ومراعاة ما اقتضته حكمته فيه من الأسباب والسنن الكونية والاجتماعية. فمن يترك العمل بالأسباب فهو جاهل مغرور، لا متوكل منصور ولا مأجور ... "6. والأخذ بالأسباب هو هدي القرآن وسنة الأنبياء. وهذا ما يبينه الشيخ رشيد مستدلاً بآيات منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} 7. وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} 8. وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 9. وقوله: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ   1 سورة الأعراف، الآية (89) . 2 سورة الطلاق، الآية (3) . 3 تفسير المنار (9/7-8) . 4 ابن القيم: مدارج السالكين (2/118) . 5 تفسير المنار (4/207) . 6 المصدر نفسه (9/80) . 7 سورة النساء، الآية (71) . 8 سورة الأنفال، الآية (60) . 9 سورة البقرة، الآية (197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 1. قال الشيخ رشيد: "فأمرهم بالحذر مع التنبيه على أنه متوكل على الله والتذكير بوجوب التوكل عليه، فجمع بين الواجبين، وبين أنه لا ينافي بينهما ... "2. ويستدل الشيخ رشيد أيضا بالسنة على وجوب التوكل، وعلى عدم منافاته للأسباب. فيقول: "وأما الأحاديث الشريفة فأصح ما ورد في التوكل منها حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب ... وقد روي بعدة ألفاظ منها "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" 3 ... وأنت ترى أنه قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرهما ... ويلي هذا الحديث حديث "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً وتروح بطاناً" 4 ... وقد استدل به على أن التوكل يكون مع السعي لأنه ذكر أن الطير تذهب صباحا في طلب الرزق وهي خماص البطون لفراغها وترجع ممتلئة البطون، ولم يقل أنها تمكث في أعشاشها وأوكارها فيهبط عليها الرزق من غير أن تسعى إليه ... وفي الباب حديث الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته، وفي رواية أنه قال: أأعقلها وأتوكل؟ أم أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل" 5 ... "6.   1 سورة يوسف، الآية (67) . 2 تفسير المنار (4/208) . 3 البخاري: الصحيح، ك: الطب: باب: من اكتوى ... ، ح: 5705 (10/165) مع الفتح. 4 ابن ماجه: ك: الزهد، باب: التوكل واليقين، ح:4146 (2/1394) عبد الباقي، وصححه الألباني. 5 الترمذي: ك: صفة القيامة، باب: 60، ح: 2518 (4/668) وقال: "هذا حديث غريب" وفي الباب عن عمرو بن أمية، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (10/291) ، وقال: رواه الطبراني بإسنادين وفي أحدهما عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. 6 تفسير المنار (4/209) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وثمرة التوكل على الله تعالى هي الرضا وهي أعظم فوائده، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي بعده فقد قام بالعبودية1. ثالثاً: الحب: حب الله تعالى هو حقيقة "لا إله إلا الله"2، ومن محاسن دين الإسلام - أن حب الله تعالى فيه عبادة، يتقرب بها إليه عز وجل قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3. فأثبتت هذه الآية حب المؤمنين لربهم، وأن من أحب شيئاً من دون الله كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً في المحبة يحبهم كحبه تعالى4. ولقد بسط الشيخ رشيد القول في المحبة عند تفسير هذه الآية. فبين أن للمحبة أسباب منها: اعتقاد المحب في المحبوب صفات عالية تجذبه إليه، فيحب المؤمنون ربهم لما فيه من صفات الكمال والجلال والجمال كالقوة والقدرة والرحمة الشاملة. يقول: الشيخ رشيد: " ... فذلك مما يجعل حبه تعالى أعلى من كل ما يحب للرجاء فيه وانتظار الاستفادة منه ولغير ذلك"5. ويبين أن هذا الحب لا ينبغي إلا لله تعالى، فلا يلجأ إلا إليه فيقول: "ولكن متخذي الأنداد قد أشركوا أندادهم معه في هذا الحب، فحبهم إياهم من نوع حبهم إياه جل ثناؤه.."6.   1 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (2/122) . 2 انظر: ابن تيمية: العبودية (ص:4، 6) وما بعده وابن القيم: مدارج السالكين (3/18) والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:25، 26) . 3 سورة البقرة، الآية (165) . 4 ابن القيم: مدارج السالكين (3/20) . 5 تفسير المنار (3/68) وقارن: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:8) وانظر: ابن تيمية: العبودية (ص:6) وما بعدها. 6 تفير المنار (2/69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ويبين الشيخ الفرق بين حب المؤمنين لله تعالى وحب المشركين لأندادهم، فحب المؤمنين ثابت كامل لأنه متعلقة هو الكمال المطلق، وأما حب المشركين فموزع مزعزع لا ثبات ولا استقرار. ،أيضا فإن المؤمن الموحد محبوبا واحدا فقلبه مجتمع عليه، وشمله مؤتلف على هذا المحبوب المتصف بصفات الكمال والجلال، وأما المشرك – فيقول الشيخ رشيد عنه: "وللمشرك أنداد متعددون وأرباب متفرقون إذا حزبه أمر أو نزل به ضر لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر، أو استشفع بزيد أو عمرو، ولا يدري أيهم يسمع ويسمع ويشفع فيشفع، فهو دائما مبلل البال، لا يستقر من القلق على حال ... "1. ويشهد لهذا الكلام قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. أي مثل المشرك حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء لمعبوديه عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه ويعاورونه في تحييره وتوزع قلبه بينهم، أما الموحد فهو الخالص لمعبوده فقلبه مجتمع عليه"3. ومن أسباب المحبة التي يشير إليها الشيخ رشيد: الإحسان السابق، وأكبر نعمة وأعظم إحسان منّ الله به على الإنسان هي نعمة الدين، والوحي الهادي لأقوم طريق، يقول الشيخ رشيد: "فيجب أن يحب صاحب هذا الإحسان سبحانه وتعالى حبا لا يشرك به معه أحد ... "4. والمؤمنون يخصون الله تعالى بهذا الحب أيضا، بينما يشرك به المشركون أندادهم فيه، كما أشركوا به في الحب الذي سببه الإحسان   1 المصدر نفسه (2/69) . 2 سورة الزمر، الآية (29) . 3 انظر: أبو مسعود: إرشاد العقل السليم (7/253) . 4 تفسير المنار (2/70) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 اللاحق1. وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد هو المذهب الحق وعليه أهللعبادة محبة الله، بل إفراده تعالى بالمحبة، فلا يحب معه سواه وإنما يحب ما يحبه لأجله وفيه.."2. رابعا: الذبح: الذبح لله تعالى عبادة، وهو من خصائص الإلهية، فمن ذبح لغير الله تعالى فقد شبهه به وأشرك معه غيره في عبادته3. ولقد دلت على ذلك نصوص كثيرة منها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4، فهذه الآية تعبد الله تعالى عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته ولذلك قال: {لا شَرِيكَ لَهُ} 5. يقول الشيخ رشيد عند تفسيره لهذه الآية: "والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقرباً إليه وتعظيماً له وطلبا لمثوبته ومرضاته، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك ويقصد به تعظيمه فهو معبود له ... "6. ويقول مبينا كيفية تسرب الشرك في هذه العبادة، إلى أهل الكتاب والمسلمين: "وقد كانت الذبائح عند الوثنيين من العبادات يقربونها لآلهتهم ويهلون بها، ثم سرى ذلك إلى بعض أهل الكتاب فخرجوا   1 المصدر نفسه (2م70) وقارن: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:61-62) وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:339) وعبد الرحمن بن ناصر السعدي: القول السديد (ص:95) . 2 المقريزي: تجريد التوحيد (ص:61) ولنظر: أيضا: ابن تيمية: العبودية (ص:6 و35) . 3 المقريزي: تجريد التوحيد،) ص: (ص:28) . 4 سورة الأنعام، الآيتان (162 و163) . 5 عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:148) ( 6 تفسير المنار (7/243) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 بقرابينهم مما شرعت له من كفارة يتقرب بها إلى الله وحده فصاروا يهلون بها للأنبياء والصالحين وينذرونها لأولئك القديسين، وذلك كله من عبادة الشرك فمن فعلها من المسلمون1 فله حكم من فعلها من أولئك المشركين"2. وعند قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 3، قال: "وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد لأنه من أعمال الوثنية، فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة، وذلك من الإشراك ... "4. وقد يتوهم البعض أن النهي عن الذبح لتعظيم معاهد الجاهلية لا يقتضي التحريم للذبح تعظيما لأولياء المسلمين. وجواب هذه الشبهة من وجوه: أحدها: أن ما كان يذبح في الجاهلية أنواع: منها ما يذبح عند الأصنام، ومنها ما يذبح عند النصب، وهي حجارة مجتمعة ليس لها صورة، ومنها ما يذبح بعيداً عنها. يقول الشيخ رشيد في ذلك: "فعلم من هذه النصوص أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهل به لغير الله من حيث أنه يذبح بقصد العبادة لغير الله.. خص ما ذبح على النصب بالذكر لإزالة وهم من توهم أنه قد يحل بقصد تعظيم بيت الحرام إذا لم يذكر اسم الله عليه، وحسبك أنه من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها ... "5. وبين الشيخ رشيد وجها آخر يرد به على هذه الشبهة فيقول: "الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز الذبح لغير الله كالأنبياء والكعبة ... ثانياً: أن حكمة ذلك تطهير القلوب من التوجه إلى غير الله تعالى ... "6. يعني   1 كذا والصواب: المسلمين. 2 تفسير المنار (8/243) . 3 سورة البقرة، الآية (173) . 4 تفسير المنار (2/98) . 5 المصدر نفسه (6/146) . 6 مجلة المنار (8/193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وذلك موجود في الذبح للأولياء وغيرهم، وهو ينافي هذه الحكمة وهذا الإجماع. ويستدل الشيخ رشيد رحمه الله تعالى بالأحاديث النبوية على ذلك فمنها حديث "لعن الله من ذبح لغير الله" 1، وحديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال: "كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوفِ بنذرك فإن لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" 2. وفي هذا الحديث زيادة هي بيان عدم مشروعية الذبح في مكان كان يذبح فيه لغير الله تعالى سداً لذريعة الشرك3. ويعد الشيخ رشيد الذبح باسم الرسول أو الولي داخلا في هذا الشرك فيقول: " ... وقع كثير من المسلمين فيما كان عليه أولئك الضالون من مشركي العرب وغيرهم حتى الذبح لبعض الصالحين، وتسييب السوائب لهم كعجل البدوي المشهور أمره في أرياف مصر ... "4. ويقول أيضا: "وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عنه الذبح –لا سيما النذور- باسم الله، الله أكبر ياسيد، يدعون السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه ... ومثل ذلك السيد ذكر الرسول أو المسيح إذا لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها، فهي تذبح وتؤكل باسمه لا يشاركه في ذلك سواه، ولا يتقرب بها إلى من عداه ... "5.   1 انظر: مجلة المنار (8/191) والحديث رواه مسلم: الصحيح: ك: الأضاحي، ح: 43 (1978) (3/1567) . 2 مجلة المنار (8/191) والحديث رواه أبو داود: ك: الأيمان والنذور، باب: ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، ح: 3313 (3/607) وصححه الحافظ في التلخيص الحبير (4/180) ط. شركة الطباعة، القاهرة، ت: عبد الله اليماني، 1384هـ. 3 انظر: عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:161) . 4 تفسير المنار (8/18) . 5 المصدر نفسه (3/98) وأيضا (6/137) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وقد قرن الله تعالى ذكر الصلاة والأمر بها والإخلاص فيها بذكر النسك وهو الذبح واقتصر على ذلك في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ... } 1 وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2، وجمع بينهما واقتصر عليه والسبب في ذلك –كما يقول الشيخ رشيد-: "هو كونها أعظم مظاهر العبادة التي فشا فيها الشرك فأما الصلاة فروحها الدعاء والتعظيم توجه القلب إلى المعبود، والخوف منه والرجاء فيه؟، وكل ذلك مما يقع فيه الشرك ممن يغلون في تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم أو صورهم وتماثيلهم وأما الحج والذبائح فالشرك فيهما أظهر ... إن كون الصلاة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضروريات الدين ... "3. وأما أحسن ما قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى فلا ريب أن الصلاة والذبح لا يكونان في الدين الحق –إلا لله وحده- فلا جرم أن يكون إخلاصهما توحيدا والشرك فيهما هو الشرك. خامسا: التوسل. معنى الوسيلة: تدل الواو السين واللام على الرغبة والطلب4 والحاجة5 قال عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلة، أي: حاجة6. وقال لبيد: بلى كل ذي دين إلى الله واسل7، أي: راغب.   1 سورة الأنعام، الآية (162) . 2 سورة الكوثر، الآية (2) . 3 تفسير المنار (8/242-243) . 4 ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (6/110) ت: عبد السلام هارون. 5 انظر: أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن (1/165) ت: سزكين. 6 نسب هذا البيت لعنترة: انظر: ديوانه: ضمن أشعار الستة الجاهليين (ص:396) ، وأبو عبيدة (1/165) . 7 البيت للبيد: ديوان لبيد (ص:28) ط. 1881 واللسان: وسل (48/724) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وتوسل إليه بوسيلة: إذا تقرب إليه بعمل. وتوسّل إليه بكذا: تقرب إليه بحرمة آصرةٍ تعطفه عليه 1، والجمع: وسائل. قال: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل 2 والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به 3. فعيلة من الوسل 4. وقد ورد هذا اللفظ: "الوسيلة" في القرآن الكريم في آيتين منه: الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5 ومعنى الآية: اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه 6. الثانية: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ... } 7. والمعنى: يبتغي أيهم هو أقرب الوسيلة إلى الله، أي: يتقرب إليه بالعمل الصالح 8. فالوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها هي ما يتقرب به إليه من العبادات، واجبات أو مستحبات 9.   1 ابن منظور: اللسان (48/ 724) 2 لم يعرف قائله. انظر: محمود شاكر: حاشية الطبري (10/ 290) 3 ابن الأثير: النهاية (5/ 185) ، والراغب: وسل (ص: 871) 4 انظر: الطبري: التفسير (10/ 290) 5 سورة المائدة، الآية (35) 6 الطبري (10/ 290) ت: محمود شاكر، والنحاس: معاني القرآن (2/ 303) ، والزجاج: معاني القرآن (2/ 171) 7 سورة الإسراء، الآية (75) 8 انظر: الزجاج: معاني القرآن (3/ 246) ، وابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79) 9 ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79) ت: د. ربيع بن هادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يستخدمون هذا اللفظ بهذا المعنى، كما في قول حذيفة يصف ابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ: أنه أرقب إلى الله عزوجل وسيلة 1. وفي رواية زلفى 2، وهما بمعنى واحد. فالوسيلة إذن هي ما يتقرب به إلى الله تعالى من أنواع العبادات المشروعة، الواجبات والمستحبات، وهذا هو ما دل عليه الكتاب وهو المعروف من لغة العرب ولغة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن لقد وقع غلط وتعبير في هذا الاستعمال واصطلح فيه على معنى جديد لم يكن معروفاً عند العرب لا قبل الإسلام ولا بعده. فلقد اختصر هذا المعنى الذي دل عليه الكتاب واصطلح على أن يكون بمعنى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والقسم به علىالله تعالى، وبغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيهم الصلاح، من الأحياء وحتى من الموتى 3. وهذا المعنى الجديد لم يكن معروفاً عند الصحابة رضي الله عنهم وإنما كانوا يفهمون من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم التوسل بدعائه وشفاعته 4. فقد وقع في هذا اللفظ "التوسل" و "الوسيلة" إجمال واشتباه، نتيجة لهذا الاصطلاح الجديد، ووقع اشتراك في معناه بين ما كانت تفعله الصحابة وتفهمه، وبين ما لم يكونوا يفهمونه منه، ولا يفعلونه من هذا الاصطلاح الحادث 5. وبناءً على ذلك قسم التوسل إلى مشروع، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة من الأعمال التي يتوسل بها إلى الله تعالى، وممنوع وهو ما يأذن به الله ولا رسوله مما ابتدع ولم يرد فيه نص. فالتوسل يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ومعنى ثالث لم ترد   1 أحمد: المسند (5/ 395) 2 المصدر نفسه (5/ 389) 3 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 80، 152، 158، 197) 4 المصدر نفسه (ص: 80، 297) وانظر أيضاً (ص: 118) 5 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79 و152 و297) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 به السنة: الأول: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وبطاعته. وهو أصل الدين. والثاني: دعاؤه وشفاعته كما في قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا 1 أي بدعائه وشفاعته 2. وأما القسم الثالث: وهو الممنوع، وهو الإقسام على الله تعالى بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم وذواتهم، فلا يدل عليه دليل من الكتاب ولا من السنة. فالقسم على الله تعالى بالمخلوق غير جائز 3. والسؤال من غير قسم ترده أدلة الكتاب والسنة 4. تعريف الشيخ رشيد للوسيلة لغة وشرعاً: ولقد عُني الشيخ محمد رشيد رحمه الله تعالى بمسألة التوسل ـ كل العناية ـ وبين وفصّل معانيها المشروعة والممنوعة، وأجاب على شبهات المتوسلين التي تمسكوا بها واستدلوا بمعناها على توسلهم المصطلح عليه. فعرف الشيخ رشيد الوسيلة في اللغة مستنداً لأقوال أهلها ومحتجاً بشواهد من شعر العرب، وكلام السلف. فعند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5 قال الشيخ رشيد: "والوسيلة إليه هي ما يتوسل به إليه، أي ما يرجى أن يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه واستحقاق المثوبة في دار كرامته. ولا يعرف ذلك على الوجه الصحيح إلا بتعريفه تعالى، وقد تفضل علينا بهذا التعريف بوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ... " 6.. ونقل المعنى اللغوي   1 البخاري: ك: الاستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء ... ، ح: 1010. 2 ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 81) 3 المصدر نفسه (ص: 84، 212) وما بعدها. 4 المصدر نفسه (ص: 212) 5 سورة المائدة، الآية (35) 6 تفسير المنار (6/ 369) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 عن المفردات ولسان العرب، بنحو ما نقلت في أول المبحث، وذكر المعاني التي أوردوها ومنها القربة والمنزلة عند الملك والحاجة وأورد ما استدلوا به من الشعر. ثم قال: "وإنما يؤخذ عن أهل اللغة أصل المعنى ويرجح به بعض التفسير بالمأثور على بعض" 1. وذكر الشيخ معنى آخر للوسيلة، الوارد في حديث الأذان من قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن سأل الوسيلة حلت عليه الشفاعة" 2 وقال: "وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للوسيلة يؤيده قول نقلة اللغة. أن من معانيها المنزلة عند الملك. فيظهر أن هذه الوسيلة الخاصة هي أعلى منازل الجنة ... " 3. ثم بين الفرق بين معنى الوسيلة في القرآن ومعناها في السنة فقال: "فالوسيلة في الحديث اسم لمنزلة في الجنة معينة وفي القرآن اسم لكل ما يتوصل به إلى مرضاة الله من لعم وعمل" 4. وربط الشيخ رشيد المعاني التي أوردها علماء اللغة بالمعاني الشرعية التي رويت عن السلف. وبين أنه لا تعارض بين الروايات المروية عن السلف في هذا. فقال معلقاً على قول الشاعر: إن الرجال لهم إليه وسيلة ـ السابق ـ: " واستدل بالبيت على تفسير الوسيلة بالقربة وإرادة القربة من البيت أظهر من إرادة الحاجة. على أنه لا ينافيه، كما لا ينافيه تفسيرها بالمحبة، فإن طلب الحاجة من الله ومحبة الله مما يتقرب به إليه. وتفسير الوسيلة بما فسرناها به أعم وهو المطابق للغة ... " 5. الانحراف في معنى الوسيلة والتوسل: وبعد ما بين الشيخ رشيد المعنى الصحيح للوسيلة لغة وشرعاً أشار   1 المصدر نفسه (6/ 370) ، وانظر: المفردات: للراغب (ص: 870) ، ولسان العرب لابن منظور (48/ 724) 2 انظر: البخاري: ك: الأذان، باب: الدعاء عند النداء، ح: 614 (2/ 112) مع الفتح. 3 المصدر نفسه (6/ 370) 4 تفسير المنار (6/ 370) 5 المصدر نفسه (6/ 369) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 إلى أنه قد وقع في تفسير هذا المعنى بدءاً من القرون الوسطى ـ وإن لم يحدد لنا متى حدث ذلك بالتحديد ـ إلا أنه قال: " ... وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين المتقين، أي: تسميتهم وسائل إلى الله تعالى، والإقسام على الله بهم، وطلب الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو في حال البعد عنها. وشاع وكثر حتى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم مع الله تعالى أو يدعونهم من دون الله تعالى والدعاء هو العبادة ... " 1. ويعتبر الشيخ رشيد هذا المعنى إلحاد في أسماء الله تعالى من جهة المعنى، إذ أن الوسيلة هنا ـ في هذا الاصطلاح ـ بمعنى الإله؛ إذ معناه المعبود، أو بمعنى الرب المدبر للأمر، ويقول: فهذا إلحاد في معاني أسماء الله تعالى لا في ألفاظها ... " 2. ويبين الشيخ أيضاً انحراف العامة في معنى التوسل فيقول: " ... المعروف عند عامة أهل عصرنا من معنى التوسل أن يعتمد المرء في قضاء حاجاته من جلب نفع أو دفع ضر أو نجاة في الآخرة من عذاب الله أو فوز بنعيم على أشخاص الأنبياء والصالحين، وسؤالهم ذلك أو سؤال الله تعالى بأشخاصهم أن يعطيه إياه دون العمل بما جاء به الرسل عن الله من علم اعتقادي وعمل صالح ... وهذا التوسل مخالف لأصول الإسلام وهداية القرآن، وجارٍ على قواعد الوثنية ... " 3. ثانياً: في بيان الشيخ رشيد للتوسل المشروع: ويبين الشيخ رشيد التوسل المشروع بقوله: "وإنما التوسل الصحيح هو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من العلم والعمل الصالح، والتوسل بالصالحين من سلف الأمة باتباع طريقتهم في الورع والتقوى، وتحري العمل   1 المصدر نفسه (6/ 371) 2 المصدر نفسه (9/ 448) 3 مجلة المنار (27/ 421) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 بالكتاب والسنة ... " 1. ويقول في موضع آخر: "وجملة القول أن التوسل هو التقرب، وإنما يتقرب إلى الله بما شرعه على ألسنة رسله لا بأشخاصهم، وباتباع الصالحين في ذلك لا بذواتهم، وأن غير ذل غير مشروع ومنه ما هو شرك بالله كدعاء غيره بما لا يدعى به غيره ... ومنه ما هو ذريعة للشرك، ومنه ما هو معصية ... " 2. ويعتمد الشيخ رشيد على شيخ الإسلام ابن تيمية في بيانه المعاني المرادة بلفظ التوسل، وما هو صحيح منها وما هو باطل، فينقل عن قاعدة جليلة ـ والذي طبعه الشيخ مرتين 3 ـ نقلاً طويلاً أقتصر منه على قوله: "فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معانٍ: أحدها: التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياتهن ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ولا في حياته ولا بعد مماته؛ لا عند قبره ولا عند غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة ... " 4. وننتقل من قول شيخ الإسلام في أدلة وشبهات المجوزين للتوسل الممنوع، إلى عرض الشيخ رشيد لهذه الشبهات وجوابه عليها.   1 المصدر نفسه (6/ 907) 2 المصدر نفسه (27/ 421) 3 انظر: تفسير المنار (6/ 371) وأيضاً: مجلة المنار (12/ 624) 4 تفسير المنار (6/ 372) وقارن مع ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 81) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ثالثاً: حجج المتوسلين: اعتمد أهل التوسل الممنوع على شبهات وروايات إما صحيحة لا تدل على ما ذهبوا إليه، أو تدل عليه ولكنها ضعيفة لا تقوم بها حجة. ومن هذه الأحاديث: حديث عثمان بن حنيف؛ "أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت فهو خير لك" فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ن ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفعه فيّ وشفعني فيه. قال: ففعل الرجل، فبرأ" 1. فاستدلوا به على التوسل بالذوات 2. وقد أجاب الشيخ رشيد عن هذا الاستدلال بعد أن ذكر مخرجيه، فقال: " ... والتحقيق أن هذا توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بشخصه ولا يتأتى مثله لأحد بعد وفاته، فغير مشروع أن يطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته دعاء لم يصح عند أحد من الصحابة ذلك، بل صح في حديث توسلهم بالعباس في الاستسقاء ما يدل على امتناع التوسل بمثل ذلك بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، إذ قال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا 3 ... ولو كان التوسل بشخصه صلى الله عليه وسلم أو بدعائه بعد موته مشروعاً معروفاً عندهم لما عدلوا عن الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بدعاء العباس رضي الله عنه ... " 4.   1 أحمد: المسند (4/ 138) ، والحاكم: المستدرك (1/ 313) ، والترمذي: ك: الدعوات، باب: 119، ح: 3578، وقال: حسن صحيح غريب. 2 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 129و 262) ،وقاعدة جليلة (ص: 115 و258) 3 سبق تخريجه (ص:) من هذا البحث. 4 مجلة المنار (30/ 110) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وهذا الجواب جواب صحيح، فالمراد من حديث الأعمى هو المراد في حديث الاستسقاء بالعباس، وهو التوسل بالدعاء، وهو من التوسل الجائز المشروع. قال شيخ الإسلام: " ... إنه إنما توجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء وقال في آخره: اللهم فشفعه فيّ، فعلم أنه يشفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته ... "1. ولو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائزاً بعد موته لما عدل الصحابة عن التوسل به إلى التوسل بمن دونه كالعباس وغيره. فعلم أنهم إنما كانوا يتوسلون بدعاء النبي وشفاعته، ولذلك فإنه يجوز التوسل بدعاء من دون النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم. حديث خطيئة آدم: ومن الحجج التي يرددها أهل التوسل الممنوع، الحديث الموضوع الذي يروى أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة وجرى ما جرى استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله ... الحديث 2. والحق أن هذا الحديث موضوع ولم يخرج في كتب السنة التي تعتمد الصحيح أو ما يقاربه، وإنما روي وحكم عليه المحدثون بالوضع. وهذا ما قاله الشيخ رشيد فيه: " ... منها الحديث الموضوع الذي يتخذه هذا الشيخ 3 وأمثاله من القبوريين حجة على ما يسمونه التوسل بذوات الأنبياء والصالحين وسؤال الله تعالى بحقهم عليه وبأشخاصهم وهو ما رواه الحاكم في مستدركه عن عمر ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً أنه "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي،   1 الرد على البكري (ص: 263) 2 المصدر نفسه (ص 4) وما بعدها، وانظر: مجلة المنار (32/ 312) 3 يريد أحد المشايخ المجيزين للتوسل وقد أشار إليه السائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 قال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك" 1. وقد أطال الشيخ رشيد في الرد على من احتج بهذا الحديث وزعم صحته، بناءً على تصحيح الحاكم له، وإن تعقبه الذهبي وحكم بوضعه. فقال: "قال الدجوي 2 إن الذهبي في التلخيص لم يزد على قوله: "بل هو موضوع وعبد الرحمن بن زيد واه" وأقول: بل زاد على ذلك أن قال بعده: رواه عبد الله من مسلم الفهري ولا أدري من ذا؟ .... " 3. وقال أيضاً: " ... ذكر الدجوي أهون ما قال أهل الجرح والتعديل في جرح عبد الرحمن بن زيد واحتج به على أن حديثه غير موضوع، وأنه قد يكون صحيحاً إذ قال: معلوم أن الذي يغلب عليه الوهم قد يصح حديثه إلخ، وأقول في تفنيد قوله هذا: إن عبد الرحمن ليست علة ضعفه غلبة الوهم عليه كما زعم، بل أهون ما قالوا فيه أنه واه وضعيف جداً وأنه لا يعقل ما يروي، وكان الشافعي يهزأ بخرافاته عن أبيه ويجعلها مضرب المثل في الكذب ... " 4. وأيضاً من أوجه الطعن التي ذكرها الشيخ رشيد في سند هذا الحديث قوله: "إن القاضي عياض 5قد ذكر حديث آدم هذا في الفصل الأول من   1 الحاكم: المستدرك () ، وانظر: مجلة المنار (32/ 310 ـ311) 2 هو الشيخ يوسف الدجوي، محرر باب الفتوى في مجلة الأزهر "نور الإسلام". 3 مجلة المنار (32/ 312) 4 المصدر نفسه (32/ 313) 5 هو: عياض بن موسى اليحصبي، الإمام العلامة شيخ الإسلام، توفي: 544هـ. انظر: السير (20/ 212) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الجزء الأول من الشفاء 1 حكاية عن أبي محمد المكي 2 وأبي الليث السمرقندي 3 وهما من الذين يكثرون من حكاية الموضوعات لم يروه عن أحد من أهل الحديث ولا عزاه إلى كتبهم." 4. والطعن في سند هذا الحديث ـ بحق ـ هو أحد السبل في الجواب عما ادعاه المتوسلون، وفي الجواب عنه أيضاً أوجه أخرى منها: أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه هي التي تيب عليه بها كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ... } 5 الآية. وقد قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ... } الآية 6.فأخبر الله تعالى أنه أمرهم بالهبوط بعد هذه الكلمات التي تيب بها عليه، فمن ذكر أو ادعى أن هذه الكلمات غير التي ذكرها الله في القرآن لم يكن معه حجة في خلاف ظاهر القرآن 7. ووجه آخر وهو: أن قولهما {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 8 يتضمن الإقرار والاستغفار ومن ندم واستغفر وتاب غفر له وإن كان دون آدم عليه السلام. فحصل بها المقصود ولم   1 انظر: الشفا: الجزء الأول (ص: 138) وهو في الباب الثالث. ط. مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى، 1995م. 2 3 الإمام الفقيه المحدث الزاهد: نصر بن محمد بن إبراهيم، توفي 375هـ. السير (16/ 322) 4 مجلة المنار (32/ 313) 5 سورة البقرة، الآية (37) 6 سورة الأعراف، الآية (23) 7 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 10) 8 سورة الأعراف، الآية (23) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 يحتج لغيرها 1. حديث آخر وجواب الشيخ رشيد عليه: ومما احتج به أهل التوسل الممنوع ـ ولا حجة لهم فيه ـ الحديث الذي رواه أحمد 2 وابن ماجه 3 وفيه: "من قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا ... " الحديث. وهذا الحديث ضعيف الإسناد 4 كما أن لفظه ليس فيه حجة على ما ادعوه، فإنه سؤال بحق السائلين، وحقهم على الله تعالى أن يجيب من سأله ودعاه كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 5 فهذا حقهم أوجبه الله تعالى على نفسه. وأما حق المشي إلى الصلاة فهو حق العابدين على الله تعالى أن يثيبهم، فهذا سؤال وتوسل بالعمل الصالح وهو جائز لا ريب، فهو من التوسل المشروع لا الممنوع 6. ولقد أجاب الشيخ رشيد عن هذا الحديث نحو ما ذكرته فقال بعد ذكره للفظ الحديث: " ... وهو من طريق عطية العوفي 7 وقد ضعفه أ؛ مد والجمهور ... على أن معنى الدعاء المذكور لو صح لا يدل على توسل بالأشخاص، فإن حق السائلين على الله تعالى أن يستجيب دعاءهم كما وعد بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 8 فكأنه يقول: أسألك بوعدك   1 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 10ـ 11) 2 المسند (3/ 21) 3 ابن ماجه: السنن، ك: المساجد، باب: المشي إلى الصلاة، ح: 778 (1/ 256) عبد الباقي، وضعفه الألباني: الضعيفة (ص: 24) 4 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 215) ت: د. ربيع المدخلي. 5 سورة البقرة، الآية (186) 6 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 215، 277) وما بعدها. 7 انظر ترجمته في تقريب التهذيب (2/ 24) ، والميزان (3/ 79 ـ 80) 8 سورة غافر، الآية (60) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الحق أن تستجيب دعائي، وحق الصالحين عليه 1 أن يثيبهم على صلاحهم كما وعد في آيات كثيرة ومنه توسله بممشاه إلى الصلاة بالصفة التي ذكرها فهو توسل بعمل صالح من أعماله لا بشخص عامل آخر" 2. وهذا الحديث هو كحديث الثلاثة الذين توسلوا إلى الله تعالى بصالح عملهم بعدما أطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار 3 فكل توسل بعمل صالح عَمِلَه، وهو جائز لا ريب. التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم: ويحتج المتوسلون بحديث موضع آخر هو "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" 4 ومع أن جاهه صلى الله عليه وسلم أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، إلا أن هذا الحديث كذب وليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث. قال شيخ الإسلام ـ بعد إثباته وجاهة النبي وقدره ـ صلى الله عليه وسلم: " ... ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ... " 5. قال الشيخ رشيد: "هذا الحديث موضوع لا أصل له، ولا يمكن أن تجده في شيء من دواوين السنة لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد، ويذكر بلفظ "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة وغيره: هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث ... "   1 ليس هذا في روايتي أحمد ولا ابن ماجه، وإنما هو لفظ السؤال الموجه إلى الشيخ رشيد فلعله أجاب عنه احتمالاً ورداً لكل وجه. 2 مجلة المنار (27/ 423) 3 انظر: البخاري، ك: الإجارة، باب: من استأجر أجيراً فترك أجره، ح: 2272. 4 لا يوجد هذا الحديث في شيء من كتب السنة. انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 11 وص: 45) 5 قاعدة جليلة (ص: 254) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ونقل الشيخ رشيد النص الذي نقلته آنفاً عن شيخ الإسلام 1. ومثل السؤال بجاه النبي صلى الله عليه وسلم السؤال بحقه، فلا حق لأحد على الله تعالى إلا ما كتبه على نفسه، وهذا ما يقرره الشيخ رشيد: فعند قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} 2 قال الشيخ رشيد: " ... وكانت اليهود تستفتح على مشركي العرب بالنبي المنتظر يقولون: إنه سيظهر فينصر كتابه التوحيد الذي نحن عليه ويخذل الوثنية التي تنتحلونها ... وشذ بعضهم ... فقال: إنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة والإنجيل ـ فكانوا ينصرون وفيه روايات ضعيفة عن ابن عباس 3 لم يعرج ابن كثير على شيء منها ولعله لأنها على ضعف روايتها ومخالفتها للروايات المعقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لأحد على الله فيدعى به ... " 4. ومن الجهود التي بذلها الشيخ رشيد ـ رحمه الله تعالى ـ في محاربة التوسل الممنوع، نشر الكتب السلفية التي تتناول هذه المسألة معتمدة على الكتاب والسنة، ولقد سبق أن ذكرت أن الشيخ رشيد طبع كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام مرتين، وطبع أيضاً سنة 1324هـ الموافق 1906م كتاب "فصل المقال في توسل الجهال" الذي ألفه الشيخ الموحد أبو بكر خوقير الكتبي أحد علماء مكة المكرمة 5. وكذلك طبع الشيخ رشيد كتاباً لأحد الطلبة النجديين بالأزهر يرد فيه   1 مجلة المنار (27/ 421) 2 سورة البقرة، الآية (89) 3 انظر: الدر المنثور () 4 تفسير المنار (1/ 380 ـ 381) 5 انظر: مجلة المنار (9/ 824) ، وللشيخ أبي بكر خوقير جهاد معروف في سبيل دعوة التوحيد، أوذي بسببها وأودع السجن بسبب مؤلفاته التي تنشر دعوة التوحيد وتؤيدها. انظر: مجلة المنار (31/ 240 و320) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 على أحد كبار علماء الأزهر المجيزين للتوسل، واسم الكتاب "البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية" لمؤلفه الشيخ عبد الله بن علي النجدي القصيمي. وطبع سنة 1350هـ. ويتكون من مقدمة وأربعة أبواب، وفي المقدمة تعريف كلمة الوسيلة، وتقسيم التوسل إلى ممنوع ومشروع، وهو أحد عشر نوعاً. والباب الأول في الرد على ما استدل به المتوسلون التوسل الممنوع من أدلة القرآن. والثاني: في إبطال ما ادعي من أدلة السنة، والثالث: في الأدلة العقلية، والرابع: في أقوال العلماء 1. وبهذا يكون الشيخ رشيد قد أحسن في بيان توحيد الألوهية عموماً ووضّح العبادة وحقيقتها ووجوب إخلاصها لله تعالى وحده، ومن أهم مظاهرها الدعاء والتوسل. وقد سلك كل سبيل لنشر هذه الدعوة معتمداً على كتب السلف لا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته.   1 انظر: مجلة المنار (32/ 308) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 المبحث الثاني: نفي الشرك ومظاهره تميهد ... تمهيد: الشرك بالله تعالى جامع المساوئ وكلية الرذائل، فهو معصية لا تجدي معها طاعة، ومنقصة لا يجزي عنها كمال، وضعة لا يقوم منها عز وسفه لا ترشد به النفس، ولولا الجهل ما نجم له قرن، ولولا الوهم ما قام له عود. والباحث في أسباب رقي الأمم وانحطاطها، لن يجد كالتوحيد أطهر للقلوب وأرشد للعقول وأقوم للأخلاق، وأحفظ للحياة وأضمن للسيادة، وأقوى على حمل منار المدنية الطاهرة وتحقيقاً للمدنية الفاضلة. ولن يجد كالشرك أدل على ظلمة النفوس والقلوب وسفه الأحلام وفساد الأخلاق، ولا شيء كهذه النقائص أذهب للبأس، وأضر بالاتحاد وأضعف للقوة وأذل للشعوب. ولن أحيلك في المثال على الماضي البعيد أو القريب ولكن أحيلك على الواقع المشاهد، حيث أصاب الأمة ما أصابها، بسبب الشرك وانتشاره، فتداعت عليها الأمم، وأطبقت عليها الظُلَم، ولم يسلم منها إلا الأرض التي خلت من الشرك فعزت، وقامت بالتوحيد فبزت 1.   1 عز فبز: أي غلب فسلب. مختار الصحاح (ص: 21) ، وأشير بذلك إلى جزيرة العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 ولذلك فقد بين الله تعالى لنا في كتابه أن أول ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلون هو توحيد الله، وأول ما ينكرونه على قومهم الشرك ومظاهره. وبيان العلماء لمسائل الشرك آداء للأمانة، ورجاء لصلاح حال المسلمين، وفائدة ذلك للموحدين مخافة أن يدركهم، فهو من النصيحة المفيدة الحميدة، وليس الإرشاد إلى الخير بأولى من التنبيه على الباطل الضار، وبضدها تتبين الأشياء، والضد يظهر حسنة الضد. ولقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الشرك به في كثير من الآيات كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1 أي: شيئاً من الأشياء أو شيئاً من الإشراك 2. وقوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3. فبيان العلماء للشرك ومظاهره، من الميثاق الذي أخذه الله عليهم، كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ... } 4. وكان من هؤلاء العلماء الذين بينوا الشرك وخطورته وعرفوا حقيقته وحذروا من مظاهره الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى.   1 سورة النساء، الآية (36) 2 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (5/ 82) 3 سورة الكهف، الآية (110) 4 سورة آل عمران، الآية (187) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 والشرك: كالشريك، والجمع: أشراك وشركاء" 1. ويطلق أيضاً على النصيب، قال الأزهري: "الشرك بمعنى الشريك، وهو بمعنى النصيب، وجمعه: أشراك، كشبر وأشبار" 2. وقال الراغب: "الشركة والمشاركة خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعداً، عيناً كان ذلك الشيء أو معنى ... " 3. وكما لا تقتضي الشركة لغة تساوي الشركاء في الحصص، لا يقتضي الشرك شرعاً مساواة الشريك في جميع صفاته أو في صفة منها، بل يكون الشرك بإثبات الشريك لله تعالى ولو كان دونه في القدرة والعلم مثلاً 4. وشرعاً هو: صرف شيء من خصائص الألوهية والربوبية لغير الله تعالى 5. حقيقة الشرك: ويبين الشيخ رشيد حقيقة الشرك بأنه: "الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب والسنن المعروفة في الخلق بأن يرجى صاحبها ويخشى منه ما يعجز المخلوقات عن مثله، وهذه السلطة لا تكون لغيره تعالى فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه ... " 6. ويفرق الشيخ رشيد بين الشرك والتعطيل، أي الإلحاد، فالشرك بالله يكون مع الإيمان به تعالى: أما التعطيل فهو إنكار وجود الإله أصلاً، والنهي عن الشرك يستلزم النهي عن التعطيل بطريق الأولى 7.   1 ابن منظور: لسان العرب (10/ 448) مادة: شرك. 2 تهذيب اللغة (10/ 17) مادة: شرك. 3 المفردات (ص: 451) مادة: شرك. 4 الميلي: الشرك ومظاهره (ص: 64) 5 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 27) 6 تفسير المنار (5/ 82) 7 المصدر نفسه والصقحة، وقارن مع المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 24 ـ 25) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 ويبين الشيخ رشيد حقيقة الشرك في موضع آخر فيقول: "حقيقة الشرك في الألوهية وهو الشعور بسلطة وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى، وكل قول أو عمل ينشأ عن ذلك الشعور. والشرك في الربوبية: وهو الأخذ بشيء من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي ... " 1. ومن هذا النص نأخذ ـ مع بيان حقيقة الشرك مطلقاً ـ تقسيم الشيخ رشيد للشرك إلى قسمين: شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية. وهو ما أبينه بتوسع في الفقرة التالية.   1 تفسير المنار (5/ 148) وانظر أيضاً (5/ 277) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 المطلب الأول: تعريف الشرك : يطلق الشرك في اللغة على المخالطة والمصاحبة، قال في اللسان: "الشِرْكة والشَرِكة سواء مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، والشريك: المشارك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 المطلب الثاني: أقسام الشرك : لقد بين الشيخ رشيد رحمه الله مرات بعد مرات أن الشرك ينقسم إلى قسمين أساسين: شرك في الربوبية وشرك في الألوهية، وأن كلا القسمين وقع فيه الناس. وقد تكرر هذا كثيراً من الشيخ رشيد كما ذكرت، وأقتصر هنا على ما يدل على ذلك دون استقصاء: يقول الشيخ رشيد: "والشرك به نوعان: أحدهما يتعلق بالألوهية والعبادة وهو أن يعتقد المرء أن في الخلق من يشاركه تعالى أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصده عن بعض بشفاعته عنده لأجل قربه منه. كما يكون من بطانة الملوك المستبدين، وحواشيهم وحجابهم أعوانهم، فهو يتوجه إلى هذا المؤثر عند الله بزعمه عندما يتوجه إليه تعالى في الدعاء فيدعوه معه، وقد يدعوه من دونه عند شدة الحاجة، لكشف ضر أو جلب نفع أعيته أسبابه، وهذا مخ العبادة ... " 2. ثم يبين النوع الثاني من أقسام الشرك فيقول: " ... وثانيهما: يتعلق بالربوبية وهو: إسناد الخلق والتدبير إلى غيره   2 تفسير المنار (2/ 55) وقارن مع المقريزي (ص: 14) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 معه، أو أن تأخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم من غيره أي غير كتابه ووحيه الذي بلّغه عنه رسله بحجة أن من يؤخذ عنهم الدين من غير بيان الوحي أعلم بمراد الله فيترك الأخذ من الكتاب لرأيهم وقولهم. وهو المراد بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 ... " 2. ويبين الشيخ رشيد أن الشرك في الربوبية كان قليلاً ـ وإن كان موجوداً ـ إلا أن الشرك في الألوهية كان هو الكثير الفاشي وعليه سواد الجاهلية 3. وذلك على عكس ما يتوهم بعضهم من أن الشرك الذي نعاه الله تعالى في القرآن كثيراً هو إنكار وجود الله تعالى. أو اعتقاد أن في الكون آلهة يخلقون كما يخلق الله ويرزقون كما يرزق الله تعالى، يقول الشيخ: " ... إن هذين القسمين من الناس كانوا أقل الكفار والمشركين في كل زمان ومكان ... " 4. وأم شرك العرب فبينه الشيخ رشيد بقوله عنهم: "كانوا يعتقدون ـ كما يعتقد أكثر البشر ـ أن مبدع الكون وخاقه واحد، ولكنه لما كان مطلقاً، جعلوا وجهتهم في عبادته بعض مظاهر قدرته الباهرة من خلقه من جماد وحيوان وإنسان، وزعموا أن تلك المظاهر هي الواسطة بين الله وبين عباده في نفعهم وضرهم ويُعلِّل علماؤهم ذلك بأن عامة الناس من الخطاة والمذنبين، لا يليق بخستهم أن يخاطبوا الجناب الإلهي الرفيع بحاجتهم، فلا جرم كانوا في حاجة إلى واسطة بينهم وبينه ... هذا وإن كان في ظاهره تعظيماً لله تعالى فقد عده القرآن شركاً وذكر شبهة ذويه في معرض التشنيع والإنكار حيث قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ   1 سورة التوبة، الآية (31) 2 تفسير المنار (2/ 55) 3 المصدر نفسه (8/ 272) 4 مجلة المنار (2/ 213) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1 ... " 2. ويقول الشيخ رشيد: " ... فالشرك في العبادة هو الذي كان فاشياً في الأمم بألوان مختلفة وأسماء متعددة، وصور متنوعة ... " 3. ولا يرى الشيخ رشيد فرقاً بين صور الشرك المختلفة، ما دام أن حقيقة الشرك موجودة، فالصور المختلفة تكون أوجهاً لعملة واحدة، أو بمثابة الأعراض العديدة للمرض الواحد، فيقول: " ... أما من يتوهم أن عند الله فرقاً بين المشركين باختلاف من أشركوهم معه في الدعاء أو غيره من خصائص الألوهية والربوبية فهو.. جاهل أحمق إذ العبرة بحقيقة الشرك لا بأصناف الشركاء، فلا فرق بين من أشرك به ملكاً أو نبياً ومن أشرك به كوكباً أو حجراً أو شيطاناً ... " 4. ويزيد هذا المعنى وضوحاً فيقول: " ... والأنداد عند جمهور المفسرين أعم من الأصنام والأوثان، فيشمل الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس خضوعاً دينياً، ويدل عليه الآيات الآتية: {إِذْ تَبَرَّأَ. ..إلخ} 5 فالمراد إذاً من الند من يُطلب منه ما لايطلب إلا من الله عزوجل، أو يؤخذ عنه ما لا يؤخذ إلا من الله تعالى ... " 6.. فهذا يشمل الشرك في الألوهية والشرك في الربوبية، ثم يخص الشيخ رشيد شرك الألوهية ببعض بيان فيقول: "وهذا الذي يُلجأ إليه من إنسان مكرم، كالأنبياء والصالحين، أو ملك من الملائكة المقربين، أو ما دون ذلك من مظاهر الخليقة، أو صنم أو تمثال ـ جعل تذكاراً لشيء من هذه ـ يسمى   1 سورة الزمر، الآية (2، 3) 2 المصدر نفسه والصفحة، وأيضاً (2/ 630) ، وأيضاً التفسير (2/ 65) ، والمجلة (10/ 285ـ 286) 3 مجلة المنار (2/ 630) 4 مجلة المنار (16/ 430) 5 سورة البقرة، الآية (166، 167) 6 تفسير المنار (2/ 68) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 نداً لله وشريكاً له وولياً من دونه ... " 1. وهذه الأنداد تنقسم إلى قسمين ـ بحسب اعتقاد الناس فيهم ـ قسم يتصرف وحده، وقسم إنما هو واسطة وشفيع 2. ويقسم الشيخ رشيد الشرك في الألوهية إلى قسمين: أكبر: وهو: "التوجه إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والرسل والصالحين، وإلى ما وضع للتذكير بهم من الأصنام والقبور وغيرها ... " 3. وإلى شرك أصغر: وهو: "الرياء وحب اطلاع الناس على عبادتكم والثناء عليكم بها والتنويه بذكركم فيها ... " 4. ويقودنا هذا البيان من الشيخ إلى معرفة سبب الشرك ومنشئه.   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 تفسير المنار (2/ 68) 3 المصدر نفسه (8/ 375) 4 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 المطلب الثالث: منشأ الشرك : نستطيع أن نقول أن الغلو هو سبب كل شرك وبدعة وقع فيهما أهل الأديان جميعاً. فهو الذي أهلك الأمم قبلنا، ومن جهته دخل الشرك في دين التوحيد 5. قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... } 6   5 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 77) ، واقتضاء الصراط المستقيم (1/ 289) ت: ناصر العقل، والرد على البكري (ص: 104 ـ 105) ، والجواب الباهر (ص: 12) ، وابن القيم: إغاثة اللهفان (1/ 166، 131) ، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص: 23) ، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 56) ، سليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 314، 345) 6 سورة المائدة، الآية (77) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 1. وهذا النهي عام عن جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال 2. قال الشيخ رشيد عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 3: "الغلو الإفراط وتجاوز الحد في الأمر، فإذا كان في الدين فهو تجاوز حد الوحي المنزل إلى ما تهوى الأنفس، كجعل الأنبياء والصالحين أرباباً ينفعون ويضرون بسلطة غيبية لهم فوق سنن الله في الأسباب والمسببات الكسبية، واتخاذهم لأجل ذلك آلهة يعبدون فيدعون من دون الله أو مع الله تعالى، سواء أطلق عليهم لقب الرب والإله كما فعلت النصارى أم لا ... " 4. ويقول الشيخ أيضاً مبيناً نتيجة الغلو في الدين: "ومن أهل الأديان من انتهى به الغلو في الدين إلى الخروج منه، ولذلك قال الله تعالى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 5 ومن هؤلاء الغالين من عظم رؤساء الدين من الأنبياء والصلحاء تعظيم إطراء فزعم أنهم عند الله كالحجاب والوزراء عند السلاطين، يتوسلون إليه بإيذاء من يغاضبهم أو يناصبهم أو يقصر في تعظيمهم وينفع من يتقرب منهم ويتخذهم شفعاء أو نصراء ... " 6. وأول شرك وقع في الأرض كان بسبب الصالحين، كما قال تعالى ـ حكاية عن قوم نوح ـ {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا   1 ابن ماجه: السنن، ك: المناسك، باب: قدر حصى الرمي، ح: 3029، وصححه ابن تيمية على شرط مسلم: الاقتضاء (1/ 289) 2 ابن تيمية: اقتضاء الصراط (1/ 289) 3 سورة المائدة، الآية (77) 4 تفسير المنار (6/ 488 ـ 489) 5 سورة المائدة، الآية (77) وسورة النساء، الآية (171) 6 مجلة المنار (3/ 663) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ... } 1فإن هؤلاء ـ يغوث ويعوق ونسراً ـ كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم، كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم 2. ثم إن هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح صارت في العرب بعد ذلك، فكانت ود في كلب بدومة الجندل، وسواع كانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع 3. قال الشيخ رشيد ـ بعد نقله لبعض هذه الروايات ـ: "ومعنى قول إبليس وحيه ووسوسته، وكانت العبادة لهم توسلاً بهم واستشفاعاً وتقرباً إلى الله وذبائح تذبح لهم منذورة أو غير منذورة وطوافاً بتماثيلهم ونحو ذلك مما يفعل الآن كثير من أهل الكتاب ومن اتبع سننهم من المسلمين شبراً بشبر وذراعاً بذراع ... فإن المسلمين لا يتخذون للأنبياء والصالحين صوراً ولا تماثيل يعظمونها ويطوفون بها ويذبحون عندها وإنما استبدلوا القبور المشيدة وما يضعونه عليها بالتمثيل ... " 4. وقال: "ومنه تعلم أن أصل بلية الشرك الغلو في تعظيم الصالحين وتعظيم ما يذكر بهم أو ينسب إليهم، وقد ينسى المذكر بهم فيعتقد أنه ينفع ويضر بنفسه ... " 5. ومن هذا يتضح أن الشيخ رشيد يرى أنه لا فرق بين من عبد الصور   1 سورة نوح، الآيات (21، 22، 23، 24) 2 انظر: الطبري: التفسير (29/ 98 ـ 99) ط. الباجي الحلبي بمصر. 3 انظر: البخاري: الصحيح، ك: التفسير، باب: تفسير سورة نوح، ح: 4920 (8/ 535) مع الفتح. 4 تفسير المنار (8/ 146) 5 مجلة المنار (16/ 431) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 والتماثيل، وبين من عبد القبور، لوجود معنى العبادة، وإن لم تسمّ بهذا الاسم، أو أنكر تسميتها بهذا الاسم، يقول الشيخ: " ... وأما مشركو العرب في زمن البعثة فلم يكونوا يجهلون أن هذا كله يسمى عبادة، لأن اللغة لغتهم ولم يكن لهم عرف ديني مخصص لعموم العبادة اللغوي، ولا باعث على التأويل أو التحريف، فكانوا يصرحون بأنهم يعبدون أصنامهم ويسمونها آلهة لأن الإله هو المعبود وإن لك يكن رباً خالقاً، ويقولون كما أخبر الله عنهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1 ويسمونهم أولياء أيضاً {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 الآية، وقد فعل أهل الكتاب ومن اتبع سنتهم من المسلمين مثل ذلك، ولكن سموه توسلاً وأنكروا تسميته عبادة، والتسمية لا تغير الحقائق، وكذلك تعبير المعبودات من البشر والملائكة وما يذكر بها من صورة وتمثال أو قبر أو تابوت ... فكل تعظيم ديني لهذه الأشياء أو الأشخاص بما ذكر أو غيره مما لم يرد به شرع؛ عبادة لها وإشراك مع الله عزوجل ... " 3. فلا فرق بين معبود ومعبود، والأسماء لا تغير الحقائق، والعبرة بحقيقة العمل، لا باسمه، وقد ورد في السنة ما يشير إلى أن ناساً سوف يرتكبون الحرام ويغيرون اسمه 4.   1 سورة يونس، الآية (18) 2 سورة الزمر، الآية (3) 3 تفسير المنار (8/ 147) 4 انظر: البخاري: الصحيح، ك: الأشربة، باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، معلقاً، وأبو داود: السنن، ك: الأشربة، باب في الداذي، ح: 3688، وح: 3689، وابن ماجه: السنن، ك: الفتن، باب: العقوبات، ح: 4020. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 المطلب الرابع: مفاسد الشرك ومساوئه : إذا كان التوحيد هو أول الواجبات وأهمها، فإن الشرك هو أكبر المحرمات وأشدها. لذا فإن الشرك ذنب لا يغفر أبداً، إلا بالتوبة منه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 خلاف جميع الذنوب التي يقترفها العبد 1. يقول الله تعالى ـ مبيناً وصاياه لعباده ـ مبتدئاً بأشدها حرمة وهو الشرك: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ... } 2. قال الشيخ رشيد: "بدأ تعالى هذه الوصايا بأكبر المحرمات وأفظعها وأشدها فساداً للعقل والفطرة وهو الشرك بالله تعالى سواء كان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثرين في إرادته ... وما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام أو قبور ... وتقدير الكلام: أول ما أتلوه عليكم في بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات ـ أو ـ أول ما وصاكم به تعالى من ذلك هو: أن لا تشركوا بالله شيئاً من الأشياء وإن كانت عظيمة في الخلق كالشمس والقمر والكواكب أو عظيمة في القدر كالملائكة والأنبياء والصالحين ... " 3. ومفاسد الشرك ومخاطره كثيرة، بل إن الشرك كله مفاسد ومخاوف، وأول هذه المفاسد وأخطرها هو تسببه في حبوط عمل المشرك؛ فإنه مفسدة بالغة بحيث لا ينفع معها عمل صالح. يقول الشيخ رشيد: " ... أما الدليل على الحبوط فآيات صريحة في القرآن، منها قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 4 {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5 {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 6 {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 7 ... " 8.   1 انظر: عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص: 78) ، وانظر أيضاً: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 24) وما بعدها. 2 سورة الأنعام، الآية (151) 3 تفسير المنار (8/ 184) 4 سورة الزمر، الآية (65) 5 سورة الأنعام، الآية (88) 6 سورة المائدة، الآية (5) 7 سورة الكهف، الآية (105) 8 مجلة المنار (31/ 50) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 ويستدل الشيخ رشيد أيضاً بالمعقول على إفساد الشرك لصاحبه وعمله، فيقول: "وأما من جهة المعقول: فهو أن الشرك بالله والكفر بأصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يفسد الأنفس البشرية ويدنسها دنساً لا تؤثر معه الأعمال البدنية في إزالته وتزكية الأنفس منه بل تكون كقليل الماء أو نقط من العطر تلقى في مجتمع القذر ... " 1. فلا يكون غريباً إذاً أن الله تعالى لا يغفر هذا الذنب لأنه مفسدة للنفس البشرية ـ أي مفسدة ـ بحيث لا يرجى من صاحبه صلاح البتة، وسيأتي في هذا المعنى مزيد بيان. ومن مساوئ الشرك كذلك ومفاسده أنه سبب للخوف ومضيعة للأمن ـ في الدنيا والآخرة ـ أما في الآخرة فالأمن يكون للموحدين دون المشركين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2، والظلم في هذه الآية ـ وكما يقرر الشيخ رشيد ـ هو: "الشرك في العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه، ولو لأجل التقريب إليه والشفاعة عنده، ويحب كحبه ويعظم من جنس تعظيمه ... " 3. وهذا الخوف يكون في الآخرة كما يقول الشيخ رشيد: "والذي نراه أن الأمن في هذا الكلام يقابل الخوف فيه، وهو الأمن من عذاب الرب المعبود لمن لا يرضى إيمانه وعبادته ... " 4. ومعنى الآية في رأي الشيخ رشيد: "الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك به سبحانه؛ أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب، وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء ... " 5.   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 سورة الأنعام، الآية (82) 3 تفسير المنار (7/ 580) 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 المصدر نفسه (7/ 581) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 ولا يقتصر خوف المشرك على العقاب الأخروي، بل إن خوفه ـ من قبل ذلك ـ ممتد في حياته الدنيا، وهو أثر سيء ـ كذلك ـ بالغ السوء، فإنه يلقي في قلوب المشركين: "الرعب ... وهو شدة الخوف التي تملأ القلب بسبب إشراكهم بالله أصناماً ومعبودات لم ينزل بها سلطاناً ... " 1. وإنك لن تبذل جهداً كبيراً حتى ترى أثر ذلك الخوف في من يشرك بالله تعالى ـ فإنك ـ وكما يقول الشيخ رشيد: "ترى أصحاب النزعات الوثنية في خوف دائم مما لا يخيف، لأنهم يعتقدون بثبوت السلطة الغيبية القاهرة لكل ما يظهر لهم من عمل لا يهتدون إلى سببه، ولا يعرفون تأويله، للدجالين والمشعوذين، ويرتعدون من حوادث الطبيعة الغريبة، إذا لاح لهم مذنب تخيلوا أنه منذر يهددهم بالهلاك، وإذا أصابتهم مصيبة بما كسبت أيديهم من الفساد توهموا أنها من تصرف بعض العباد، وتراهم في جزع وهلع من حدوث الحوادث، ونزول الكوارث، لا يصبرون في البأساء والضراء ولا يتقون في الرخاء والسراء ... " 2. فلهذه الأسباب كلها، ولهذه المفاسد التي تجتمع في المشرك ـ وما هو وفقها ـ فإن الشرك ذنب لا يغفر كما قلت سابقاً، كما أكد الله تعالى ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 يقول الشيخ رشيد: " أكد الله للناس أنه لا يغفر لأحد شركه به البتة وأنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه ... " 4. وأرى أنه لا يعسر عليك الآن أن تدرك السبب في ذلك، وهو الفرق بين أثر الشرك وأثر الذنب دونه ـ وهو ـ وكما يقول الشيخ رشيد: "ذلك   1 المصدر نفسه (4/ 177) 2 المصدر نفسه (1/ 426) 3 سورة النساء، الآية (48) 4 تفسير المنار (5/ 420) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 بأن الشرك في نفسه هو منتهى فساد الأرواح وسفاهة الأنفس وضلال العقول، فكل حق أو خير يقارنه لا يقوى على إضعاف شروره ومفاسده ... والمذنب قد يكون في إيمانه وسريرته خالصاً لله عبداً له وحده، فالعبد المملوك قد يعصي وقد يأبق فلا العصيان والإباق يخرجانه عن كونه عبداً لسيد واحد، ولسيده أن يعاقبه أو يعفو عنه، ولا يغفر له أن يجعل نفسه عبداً لغيره لا قناً 1 ولا مبعضاً 2 {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3 ... " 4. وهذه المفاسد والمساوئ وأكثر منها في الشرك، ومع ذلك، فإنه بعدما طمست آثاره، ومحيت آياته، بدعوة الأنبياء الصادقين، ودعاة التوحيد الصابرين، قد عاد وأطل برأسه من جديد، وها نحن نرى ـ وكما يقول الشيخ رشيد ـ: " ... الملايين منهم يدعون المسيح ويوجهون كل عبادتهم إليه وحده تارة، ويذكرون اسم الله مع اسمه تارة أخرى، وتجد الملايين من دونهم يدعون وينادون من دون المسيح من الأولياء، ويعمدون إلى قبورهم أو إلى الصور والتماثيل التي اتخذها قدماء المفتونين بهم تذكاراً لهم ... ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثلما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلاً وشفاعة ... " 5. ومن هذا المعنى، نتحول إلى المسألة التالية وهي: مظاهر الشرك، التي تناولها الشيخ محمد رشيد في كتاباته   1 القن: العبد الذي لا يجوز بيعه ولا اشتراؤه. الجرجاني: التعريفات (ص: 157) 2 المبعض: 3 سورة الزمر، الآية (29) 4 تفسير المنار (5/ 420 ـ 421) 5 المصدر نفسه (5/ 421 ـ 422) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 المطلب الخامس: مظاهر الشرك : وقد تناول الشيخ رشيد رحمه الله في كتاباته مظاهر الشرك في القديم والحديث ـ وقارن بينها، ودعا إلى نبذها، والعودة إلى التوحيد الخاص لأنه أساس الإصلاح 1، وحارب الشيخ الوثنية الحديثة بكل مظاهرها. ونأخذ من هذه المظاهر التي تكلم عليها الشيخ ما يلي: أولاً القبور: تقدم قبل قليل أن أصل الشرك وسببه هو الغلو في الصالحين، وقد رأينا الدليل على ذلك حتى من كتاب الله تعالى، وكيف أنه ـ كذلك ـ نهى عن الغلو. ومن هذا الغلو: الاعتكاف على قبور المشهورين بالنبوة أو الصحبة أو الولاية، وشد الرحل إلى زيارتها لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك، فتارة يسألونه وتارة يسألون الله عنده، وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره 2. ولما كان هذا بدء الشرك سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، وعن تشييد القبور والمبالغة في تعظيمها واتخاذ السرج عليها. ولكن ـ وبكل أسى ـ فقد وقع في الإسلام من ذلك ما وقع وعمت به البلوى، فاتخذت القبور مساجد وقصد أصحابها، واعتقد أنهم ينفعون ويضرون، ويحج إليها. ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينته أو قريته فإنهم بركته يرزقون وينصرون، وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه 3.   1 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 55) 2 المصدر نفسه. 3 ومع ذلك فإن بلاد المسلمين ـ والتي لا تكاد تخلو من هذه البوى ـ قد وقعت جميعاً طعمة سائغة في أيدي أعدائها ـ ولم تسلم من ذلك إلا الأرض التي خلت من هذه القبور. انظر: ابن تيمية: الرد على الأخنائي (ص: 81) والرد على البكري (ص: 376 ـ 377) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وهؤلاء الذين يحجون إلى القبور يقصدون ما يقصده المشركون الذين يقصدون بعبادة المخلوق ما يقصده العابدون لله. فمنهم من يقصد قضاء حاجته وإجابة سؤاله. وهو يقول: هؤلاء أقرب إلى الله مني فأنا أتوسل بهم وهم يتوسطون لي في قضاء حاجتي، وقد ينذر لهم ليرضيهم كما يتقرب المسلمون بما يتقربون به إلى الله من الصدقات والضحايا 1. وقد نهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد، وتواتر هذا المعنى عنه صلى الله عليه وسلم ومن الأحاديث التي وردت في النهي عن ذلك؛ قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2. وقوله: " ... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" 3. وقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 4. وغيرها من الأحاديث التي لا تحتمل ولا التشكيك، ومع ذلك فقد وقع في الأمة ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الشيخ رشيد عن القبور مقارناً بينها وبين أصنام وأوثان الجاهلية: " ... وقد يظن من أشرك بعض الأولياء مع الله تعالى هذا النوع من الإشراك أن هذا التوبيخ لا يوجه إليهم، وأن هذه الحجة لا تقوم عليهم، لأن أولئك كانوا يدعون جماداً وشجراً لا يعقل، وهم يدعون أولياء وصلحاء، لأمواتهم حكم الشهداء في الحياة، وهم يقصدون قبورهم ويعظمونها، لأن لأرواحهم   1 انظر: ابن تيمية: الرد على الأخنائي (ص: 90 ـ 91) 2 البخاري: الصحيح، ك: الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ح: 1330 (3/ 238) 3 مسلم: الصحيح، ك: المساجد، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، ح: 528، (1/ 375) 4 أحمد: المسند، ح:7352 (2/ 246) ط. وقال القاضي أحمد شاكر: إسناده صحيح. المسند (13/ 86) ط. دار المعارف بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 اتصالاً بها، وإنما جاءت هذه التفرقة من جهلهم بأن أكثر هذه الأصنام لم تنصب إلا للتذكير بأناس من الأولياء الصالحين كما رواه البخاري عن ابن عباس في أصنام قوم نوح التي انتقلت إلى العرب، وقد كانت اللات صخرة لرجل يلت عليها السويق ويطعمه الناس 1. فالأصنام والتماثيل والقبور التي تعظم تعظيماً دينياً لم يأذن به الله كلها سواء في كونها وضعت للتذكير بأناس عرفوا بالصلاح وكانوا هم المقصودين بالدعاء لما تخيلوا فيه من التأثير في إرادة الله، أو التصرف العيني في ملك الله، وهو أفحش الشرك بالله، على أنه لا فرق في المسألة بين إشراك الصنم والوثن، وإشراك الولي أو النبي أو الملك ... " 2. ويقول في هذا المعنى أيضاً ـ مؤكداً عليه ـ ومستدلاً بالكتاب العزيز على أن المشركين كانوا يرمزون بأصنامهم إلى أناس صالحين من الموتى. فيقول: "إن بعض المشركين ـ بل الغالب في أفرادهم ـ يزعم أن جميع الآيات التي جاء فيها تقبيح الشرك وتوبيخ المشركين خاصة بالأصنام بمعنى الجماد، مع أننا لو تتبعنا هذه الآيات التي جاءت بشأن الشرك والمشركين لوجدناها مصرحة بأن المشركين فريقان، فريق يدعو الأصنام المجعولة تماثيل لعباد الله المقربين، وفريق يدعو المقربين غير ناظر إلى التماثيل، فما جاء في تسفيه الفريق الأول قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} 3 {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 4، وما جاء في التشنيع على الفريق الثاني، قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا   1 انظر: البخاري: الصحيح، ك: التفسير، باب: أفرأيتم اللات والعزى، ح: 4859 (8/ 478) 2 تفسير المنار (9/ 526 ـ 527) 3 سورة الصافات، الآية (95) 4 سورة الأنبياء، الآية (52) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ... } 2 ... وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 3 فهل يعقل أن الأصنام بمعنى الجماد تتصف بهذه الصفات ... فمن عنده أدنى مسكة من عقل يدرك أن جميع هذه الصفات لا تنطبق على الأصنام بمعنى الجماد بل لا تنطبق إلا على المقربين من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين الأولياء" 4. ويقرر الشيخ رشيد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تشييد القبور وتشريفها وعن الكتابة عليها وعن إيقاد السرج عليها وعن اتخاذ المساجد عليها وأنه صلى الله عليه وسلم ـ لعن من فعل ذلك ـ وأن الصحابة والتابعين مضوا على هذه السنة فلم يبنوا قبر النبي ولم يصلوا إليه، ولا بنوا قبراً لأحد من المهاجرين والأنصار 5. وكل ذلك سداً لذريعة الشرك، فيقول: " ... ولما كان أكثر الوثنيين قد فتنوا برجال من صالحيهم حتى اعتقدوا أنهم بعد موتهم ينفعون ويضرون، وكانت هذه الفتنة سرت إلى أهل الكتاب فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله وصاروا يبنون عليهم الكنائس أو ينسبونها إليهم ويتوسلون بهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن الله يقضي حاجاتهم بجاههم، أو أنه أعطاهم قوة قضائها بأنفسهم. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على القبور وعن عمارة القبور نفسها وعن وضع السرج عليها، بل ونهى عن زيارتها في أول الإسلام، ... ففعل المسلمون في هذه الأزمنة كل ما نهى عنه ولعن فاعله ... " 6.   1 سورة الأحقاف، الآيتان (5 و6) 2 سورة الإسراء، الآيتان (56، 57) 3 سورة النحل، الآيتان (20، 21) 4 مجلة المنار (16/ 428) 5 المصدر نفسه (10/ 319) 6 مجلة المنار (9/ 135 ـ 136) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وأورد الشيخ رشيد بعض الأحاديث التي ذكرتها في صدر هذا المبحث، ثم قال: " ... ومن عجيب أمر المسلمين في التلاعب في دينهم أنك في كثير من بلادهم (كهذا القطر) 1 لا تكاد تجد مسجداً إلا وفيه قبر لأحد الصالحين ... وأنت ترى ـ لا سيما في هذا الشهر ـ شهر العبادة ـ الشموع والسرج الغازية تزهر على القبور التي شيدت عليها المساجد والقباب وترى النساء والرجال ـ حتى بعض العلماء منهم ـ يطوفون بها ويصلون إليها ... " 2. ويعد الشيخ رشيد هذه البدع الستة من الشرك بالله ـ أو بعضها كذلك ـ وهي: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، اتخاذها أوثاناً، الطواف بها، استلامها والصلاة إليها 3. ولقد انتشرت هذه البلوى في بلاد المسلمين واستقرت حتى صارت سنة والمنكر لها مبتدع منكر للسنة تجب مقاومته. ويقول الشيخ رشيد في هذا: "أم تر إلى ما استحدثه بعض المبتدعة في الإسلام وقلدهم فيه بعض الملوك من المنسوبين إلى السنة: من تشييد القبور، وتزيينها بالعمائم والستور، وبناء القباب فرقها، واتخاذها مساجد يصلى إليها أو لديها، وإيقاد السرج والشموع عليها، أنه قد جعل لها مكاناً وبنية كبيرة في قلوب عامة المسلمين، حتى صارت عندهم من شعائر الدين بحيث يعدون من روى لهم الأحاديث الصحيحة في لعن الله رسوله لمن يفعل ذلك ـ مبتدعاً فيه أو مارقاً منه ـ، ويبتزونه في بعض البلاد بلقب "وهابي" إذ كانت طائفة من الحنابلة في بلاد العرب سميت الوهابية قد عملوا إلى إزالة هذه المنكرات بأيديهم، لما لم يؤثر في إزالتها إنكار علماء السنة المصلحين لها بألسنتهم وأقلامهم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 4 ... " 5.   1 يعني: مصراً. 2 مجلة المنار (3/ 711ـ 714) 3 المصدر نفسه والصفحة 4 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان، ح: 78 (1/ 69) 5 تفسير المنار (9/ 109) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 ويدفعنا هذا إلى التساؤل عن حكم هذه القبور وإزالتها وما ينفق عليها وعلى تشييدها من الأموال. يقول الشيخ رشيد أولاً عن حكم المساجد المبنية على القبور: " ... ذكر بعض الفقهاء أنه يجب هدم ما بني من المساجد والقباب على قبور كثير من الأئمة آل البيت وأئمة الفقه وغيرهم من الصالحين، وارتكبوا فيها المحظورات الكثيرة التي يعد بعضها من الشرك الصريح وبعضها من البدع والمعاصي ... ويحتجون بهدم النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد ضرار ... " 1. ويرى الشيخ رشيد أن الإنفاق على مظاهر تعظيم القبور وتشييدها لا يجوز فيقول جواباً لسؤال ورد إليه: ".. وكذلك لا يجوز الإنفاق منه فيما جرت به العادة من إيقاد الشرج والشموع على قبر الولي والمسجد الذي يبنى عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك، ولعن فاعله، وقد عدّ العلماء اللعنة علامة على أن الذنب من الكبائر ... " 2. ثم أورد بعض الأحاديث الدالة على ذلك. ثم قال: " ... أما الأموال التي يلقيها الجاهلون في تلك الصناديق توهماً أنهم يستميلون بها أصحاب القبور لتقضى حاجاتهم بواسطتهم فهي لا تخرج عن ملكهم، وكان يجب على من حضرهم أن ينهاهم عن وضعها ويبين لهم حكم الله في ذلك ولكن من يحضرونها هم الذين يأكلونها بالباطل ويشركون فيها من يشركون ... " 3. ومما يدل على عدم وجوب العناية بالقبور وتعيينها، وتشييدها أن ذلك لم يكن من شغل السلف الصالح، فلم يكن لهم عناية به، ولو كان ذلك واجباً أو خيراً لكانوا أسبق الناس إليه. وفي هذا الصدد يلاحظ الشيخ رشيد ملاحظة هامة فيقول: "يزيد الوقوف بفكرة القارئ عند اختلاف المؤرخين في مكان قبر أبي عبيدة، كاختلافهم في تعيين كثير من قبور جلة الصحابة الكرام.. فكيف غابت قبورهم عن نظر المؤرخين ودرست أجداثهم التي   1 المصدر نفسه (1/ 433) 2 مجلة المنار (8/ 218) 3 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 تضم أكابر الصحابة والتابعين، حتى اختلف في تعيين أمكنتها أرباب السير وعفا من أكثرها الأثر ... والجواب عن هذا: إن الصحابة والتابعين لم يكونوا في عصرهم بأقل تقديراً لقدر الرجال ... إلا أنهم كانوا يأنفون من تشييد قبور الأموات وتعظيم الرفات لتحققهم النهي الصريح عن ذلك من صاحب الشريعة الغراء الحنيفية السمحة التي جاءت لاستئصال شأفة الوثنية ومحو آثار التعظيم للرفات أو العكوف على قبور الأموات ... " 1. وخلاصة هذا البحث، كما يلخص الشيخ رشيد؛ قائلاً: " ... لم يرد في الكتاب والسنة التي يحتج بها شيء في زيارة قبور الصالحين خاصة، بل كان النهي عن زيارة القبور في أول الإسلام مقصوداً به إبعاد المسلمين عن مظنة تعظيم قبور الصالحين، ولما أذن النبي بعد ذلك بالزيارة للرجال وعلل ذلك بأنها تذكر بالموت أو بالآخرة، ظل ينهى عن تشريف القبور وبناء المساجد عليها وعن الصلاة بالقرب منها وعن إيقاد السرج عليها وكان يلعن فاعل ذلك ... فعلم من هذه الأحاديث أن زيارة قبور الصالحين هي مظنة الفتنة وتعظيم ما لم يأذن الله بتعظيمه لا سيما إذا كانت هذه القبور محاطة بالبدع كبناء المساجد عليها وإيقاد الشموع عندها والصلاة بالقرب منها والتمسح بأحجارها ونحاسها والتماس الخير ودفع الشر منها بالاستقلال أو الواسطة، فهذه البدع والمنكرات تجعل زيارة قبور الصالحين دون زيارة سائر القبور التي تقل عندها المنكرات ... " 2. والحق أن مسألة زيارة قبور الصالحين والسفر إليها هي مسألة مستقلة برأسها، وإن كانت مرتبطة بمسألة القبور عموماً، ونشأ عنها خلاف وجدل كبير بين أهل السنة القائلين بالزيارة الشرعية، والمبتدعة القائلين بالزيارة البدعية الشركية، وهذا هو موضوع المبحث التالي، المشتهر باسم الزيارة، أو "شد الرحال".   1 المصدر نفسه (6/ 809) 2 مجلة المنار (7/ 59 ـ 60) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 ثانياً: شد الرحال: وأعني بشد الرحال السفر، وهو لازمه، والرحال جمع رحل وهو ـ للبعير ـ كالسرج للفرس، ويستوي ـ إذاً ـ في هذا المعنى: الرحال والخيل والبغال والحمير والسيارات والطائرات والمشي على الأقدام 1. ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال ـ أي السفر ـ إلى غير المساجد الثلاثة ـ وهي: المسجد الحرام بمكة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والسجد الأقصى 2. فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله تعالى فيها بالصلاة والقراءة، والذكر والدعاء والاعتكاف، واختص المسجد الحرام بالطواف فلا يطاف بغيره. وما سوى هذه المساجد لا يقصد السفر إليها، وإن صلى فيها من غير سفر إليها كان ذلك من فضائل الأعمال 3. فإن سافر من بلد إلى بلد كأن يسافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس، أو يسافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد، لم هذا مشروعاً باتفاق الأئمة الأربعة وغييرهم، ومننذر ذلك لم يلزمه الوفاء 4. وإذا كان السفر إلى غير الثلاثة ـ محرماً ـ بمقتضى نهي النبي صلى الله عليه وسلم فالسفر إلى غير المساجد من الأضرحة والقبور أولى بذلك الحكم 5.   وقد كان العرب ـ في الجاهلية ـ يحجون إلى اللات ـ وهو على ما 1 انظر: النهاية في غريب الحديث (2/209 ـ 210) والرازي: مختار الصحاح (ص:100) مادة رحل. وابن حجر: فتح الباري (3/77) 2 انظر: البخاري: الصحيح، ك: فضل الصلاة: باب: فضل الصلاة في مسجد مكةوالمدينة، ح: 1189 (3/76 مع الفتح) ومسلم: الصحيح: ك: الحج: باب سفر المرأة..ح:415 (2/976) ت: عبد الباقي. 3 ابن تيمية: الجواب الباهر (ص:16) ط. السلفية بمصر. 4 المصدر نفسه (ص:17) وابن حجر فتح الباري (3/79) 5 انظر: ابن تيمية: الجواب الباهر (ص:33) والرد على الأخنائي (ص:19) ط. الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 قيل ـ رجل صالح كان يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره، وكانت العرب تسمي هذا حجاً 1. فدل ذلك على أن السفر إلى المشاهد المعظمة كقبور الصالحين، والأضرحة التي أقيمت عليها من جنس الحج. والحج المشروع في الإسلام هو الحج إلى المسجد الحرام، والسفر إلى بقعة للعبادة فيها هو إلى المسجدين وما سوى ذلك من الأسفار إلى مكان معظم هو من جنس الحج إليه وهو منهي عنه 2. وأول من وضع الأحاديث التي تحض على زيارة المشاهد التي على القبور هم أهل البدع من الروافض ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها بالله تعالى ويكذب عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم 3. وأما زيارة القبور من غير سفر إليها وشد رحال لذلك، فله حكم آخر تجده مفصلاً في موضعه 4. وقد وقع خلاف كبير وفتنة بسبب هذه المسألة بين فريقين، الأول: يتمسك بظاهر الأحاديث التي تنهى عن شد الرحال لغيير المساجد الثلاثة، وعلى رأسهم ابن تيمية رحمه الله، والثاني: الفريق الذي يجيز شد الرحال لقبور الأنبياء والصالحين ـ ويستدلون بأدلة من السنة ـ يقول عنها المحققون: إنها ضعيفة وموضوعة، وما صح منها لا يدل على ما يريدون وعلى رأس هؤلاء: التقي السبكي 5.   1 انظر: ابن تيمية: الجواب الباهر: (ص:19 و 29ـ 3331) وانظر: (ص:) من هذا البحث 2 انظر: ابن تيمية: المصدر نفسه (29و 31) والرد على الأخنائي (ص88) ط. الهند. 3 انظر: ابن تيمية: الرد على الخنائي (ص:47) 4 الجواب الباهر (ص:23و 43ـ 44، 47) والرد على الأخنائي (ص:20) 5 هو: علي بن عبد الكافي بن علي، تقي الدين، ولد بمصر سنة 683هـ ولي القضاء سنة 739، توفي سنة 756هـ. الدرر الكامنة (3/ 63ـ 71) ط. دار الجيل. وانظر: ابن حجر: فتح الباري (3/79ـ 80) وأيضاً الدرر الكامنة (1/149) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وأصل ذلك فتيا افتى بها شيخ الإسلام ابن تيمية في القاهرة حول هذه المسألة ابان فيها السنة، فقام بالرد عليه بعض قضاتها آنذاك. ثم أجاب عليه شيخ الإسلام بكتابه: "الرد على الإخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية" 1، ثم ألف السبكي كتاباً في ذلك وسماه: "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" 2، أود فيه أدلته على مذهبه، وهي أدلة واهية فقد اعتمد فيه على تصحيح الأحاديث الضعيفة وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وتحريف الكلم عن مواضعه 3.وأجاب عليه العلامة ابن عبد الهادي 4. وقد وقف الشيخ رشيد رحمه الله على هذا الخلاف بين ابن تيمية والسبكي ـ وبين أصله ـ ورجح رأي شيخ الإسلام، وحذر من كتاب السبكي، وحرض على قراءة كتاب ابن عبد الهادي 5. قال الشيخ رشيد عن الخلاف بين ابن تيمية والسبكي:".ز وأصل الخلاف بينهما في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور. فابن تيمية أخذ بظاهر الحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" 6، ... وذهب السبكي إلى خلاف ذلك محتجاً بأِياء كثيرة بينها في رسالة مخصوصة.." 7. وبين الشيخ رشيد أن بين ابن تيمية والسبكي وضع اتفاق، هو زيارة القبور: " فليس في أصل استحبابها خلاف بين ابن تيمية والسبكي، ولكن الأول ينكر كل بدعة فيها، وكل ملا تشهد له السنة الصحيحة، والسسبكي يبيح بعض ذلك، ولولا ترويج مثله من العلماء المقربين من السلاطين   1 انظر: الرد على الأخنائي (ص:8) وقد طبع مرتين، فب الهند ومصر. 2 انظر: ابن عبد الهادي: الصارم المنكي (6) ط. دار الكتب العلمية 3 انظر: ابن عبد الهادي: المصدر نفسه، والصفحة. 4 هو: محمد بن أحمد بن عبد الهادي الفقيه المقرئ المحدث الحافظ النحوي، ولد سنة 705هـ وتوفي سنة 744هـ، لو عاش لكان آية. الدرر الكامنة (3/331ـ 335) 5 مجلة المنار (4/541ـ 543) 6 سبق تخريجه. انظر: (ص:) من هذا البحث 7 مجلة المنار (4/542) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 والحكام للمحدثات التي تفشو بين العوام لما ثبتت بدعة بين المسلمين 1. ويحذر الشيخ رشيد من كتاب السبكي المشار إليه لاشتماله على الأحاديث الموضوعة والواهية والمنكرة، فيقول:" ... وإن ترك زيارةالقبور بالمرة أهون من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله لا يعذب على ترك الزيارة إذا لم يقل أحد بوجوبها، ولكن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر.." 2. ويرى الشيخ رشيد أنه ـ لذلك ـ وحتى يأمن المرء من خطر قراءة كتاب السبكي لاحتمال وقوعه في عدة أخطار منها خطر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وخطر الجرأة على المعاصي والبدع في الدين ـ فعليه ـ لو أراد الوقوف علة جميع حجج السبكي ومن معه أن يطالع كتاب "الصارم المنكي"، " ... الذي ألفه العلامة الحافظ المحقق أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي وطبع في هذه الأيام.." 3. وإني أختم رأي الشيخ بجواب له على سؤال ورد إليه عن حديث شد الرحال، فأجاب عنه في مجلة المنار، فقال:"..الحديث رواه الجماعة كلهم 4 من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر، ومعناه: أن السفر إلى هذه المساجد الثلاثة مشروع وأنه غير مشروع إلى غيرها، أما سبب ما أثبته من كونه مشروعاً إليها فلما ورد في أحاديث أخرى من فضلها، ومضاعفة ثواب الصلاة فيها 5، وكذا غيرها من العبادات، وأما   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 المصدر نفسه والصفحة 3 المصدر نفسه (4/543) 4 تقدم تخريجه من الصحيحين (ص:) وأذكر هنا باقي كتب الجماعة، رواه الترمذي: ك: الصلاة باب: في أي المساجد أفضل (243) ح:326 (2/148) وقال الترمذي: حسن صحيح. والنسائي: ك: المساجد: باب: ما تشد إليه الرحال منالمساجد (2/37) ط. دار الكتب العلمية. وابن ماحه، ك: إقامة الصلاة، باب: ماجء في الصلاة في بيت المقدس، ح: 1409 (1/452) ت: عبد الباقي. 5 انظر: البخاري: الصحيح، ك: فضل الصلاة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ح: 1188 (3/ 76) مع الفتح، ومسلم: الصحيح، ك: الحج، ح:505 (1394) وما بعده (2/ 1012) عبد الباقي، والنسائي: ك: المساجد، باب: فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه، وصححه الألباني (2/ 34) ط. المكتبة العلمية، بيروت، مع حاشية السندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 كونه غير مشروع إلى غيرها فلأن العبادات لا تشرع إلا بنص وقد جاء النص هنا بالمنع، وأما سببه وحكمته فلأن غير الثلاثة من المساجد متساوية في افضل الديني، فالسفر إلى بعضها عبث والذين يسافرون إلى أضرحة الصالحين، سواء كانت في المساجد أم لا، لإقامة الاحتفالات هنالك لهم وبأسمائهم يعتقدون أن أضرحتهم والصلاة لديها أو في المساجد التي بنيت عليها له مزية فضل وثواب، وهذا كذب وافتراء على الله وشرع مالم يأذن به الله، والحق خلافه.. وأما استباحة رخص السفر من تتميم وقصر، فمن اشترط في السفر المبيح لها أن لا يكون لسفر معصية كالشافعية لا يبيحها للمسافرين إلى الموالد المعهودة والزيارات غير المشروعة، والمختار عندنا أن ذلك ليس بشرط. نعم إن من سافر إلى مسجد آخر لسبب فني أو تاريخي أو علمي لا يدخل عمله في عموم النهي لأنه من المباحات لا من القربات والعبادات، فالعبادة هي التي يشرط فيها ما ذكر، وكذا من يسافر إلى المساجد التي اتخذت مدارس كالأزهر وجامع الزيتونة لأجل طلب العلم، فإن طلب العلم في كل المساجد مشروع ... " 1. وما قاله الشيخ رشيد صحيح وموافق للسنة. قال شيخ الإسلام: " ... تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة، والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب ... "2. ثالثاً: الواسطة: الواسطة لها معنيان: صحيح، وفاسد. فالصحيح من معنى الواسطة أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ومن سوى الأنبياء من مشايخ العلم والدين، واسطة في تبليغ الوحي والرسالة، فالواسطة على هذا المعنى هي التي تبلغ   1 مجلة المنار (29/ 105 ـ 106) 2 الجواب الباهر (ص: 17 ـ 18) وأيضاً: الرد على الإخنائي (ص: 238) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 أمر الله تعالى ووحيه إلى خلقه. وأجمع على هذا أهل الملل من المسلمين وغيرهم، فيثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أمره وخبره. والعلماء واسطة بين الرسول وأمته، يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم. والمعنى الفاسد: أنهم ـ الأنبياء والعلماء ـ وسائط بين الله وخلقه في جلب المنافع ودفع المضار، كرزق العباد ونصرهم وهداهم ـ الهداية التي لا يملكها إلا الله ـ فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، فمن جعل الملائكة والأنبياء ـ ومثلهم العلماء والصالحون ـ وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار فهو كافر بإجماع المسلمين 1. وهؤلاء ـ الذين اتخذوا هؤلاء الوسطاء ـ قد شبهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أنداداً 2. فالرسل وسطاء بلاغ لا وسطاء شفاعة. وهذا المعنى هو الذي ذهب إليه الشيخ محمد رشيد ـ رحمه الله ـ إذ قرره في غير موضع من كتاباته، فقال: "مذهب السلف والخلف في الإسلام أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الواسطة بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ دينه، كقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 3، وقوله عزوجل: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} 4. وغير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة بصيغة النفي والإثبات لكلمة التوحيد وأنه لا واسطة بين الله تعالى وعباده في غير تبليغ دينه، من نحو قضاء حاجة سلبية كالشفاعة للمرضى أو وقوعية كسعة الرزق أو هداية ... ،   1 انظر: ابن تيمية: الواسطة بين الحق والخلق (ص: 16، 20، 24، 25) ت: محمد جميل زينو. 2 المصدر نفسه (ص: 25) 3 سورة الكهف، من الآية (56) 4 سورة الشورى، الآية (48) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 والبراهين العقلية القاطعة بأن الله تعالى غني عن المساعدة والوزير والمعين" 1. فبطلان الواسطة ـ بمعناها الفاسد ـ ثابت بالنقل والعقل كما يقول الشيخ. وقال أيضاً: "ولم يدع فرد من الأفراد أو صنف من الأصناف الامتياز في الدين لذاته أو الواسطة بين الله وبين سائر الناس في عرض أعمالهم عليه والتوسل إليه في قبولها.." 2. وقال في موضع آخر مبيناً المعنى الصحيح للواسطة ومستدلاً عليه: "الواسطة الصحيحة بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء، وواسطتهم إنما هي في التعليم والإرشاد لا في الخلق والإيجاد، وقد بين الله ذلك في آيات كثيرة جاءت بصيغة الحصر لتكون نصاً قاطعاً لأعناق الأباطيل، منها قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 3 وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} 4، وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} 5 ... "6. ومعنى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 7، كما يقول الشيخ: "أي لا أحد أحسن ديناً ممن جعل قلبه سلماً خالصاً لله وحده لا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، ولا يجعل بينه وبينه حجاباً من الوسطاء والحجاب، بل يكون موحداً صرفاً ... " 8. والشيخ رشيد في موقفه هذا متأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية ـ وكما أشرت إلى ذلك وإلى مثله في مواضع متعددة ـ: "ولقد كان الإمام ابن   1 مجلة المنار (4/ 462) 2 المصدر نفسه (1/ 407) 3 سورة الكهف، من الآية (56) 4 سورة الفرقان، الآية (56) 5 سورة الشورى، الآية (48) 6 مجلة المنار (2/ 214) 7 سورة النساء، الآية (125) 8 تفسير المنار (5/ 438) وانظر أيضاً المجلة (2/ 633) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 تيمية في عصره ناصر السنة وخاذل البدعة والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد المجتهدين ... وقد انتدب بعض الفضلاء في هذه الأيام لإحياء مؤلفات هذا الإمام، فبدأ بطبع رسالة الواسطة التي تحمي حقيقة التوحيد وتدعو الناس لأن يوجهوا وجوههم في طلب حاجاتهم للذي فطر الأرض والسماوات ... " 1. وقرظ الشيخ رشيد رسالة "الواسطة بين الحق والخلق" مع رسالة "رفع الملام" كلاهما لشيخ الإسلام وعلم الأعلام كما يصفه الشيخ رشيد في مجلته، وقال:" ... وينبغي لكل مسلم بل ولكل محب للعمل أن يطلع عليهما ... " 2. رابعاً: الشفاعة: لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك تعلقاً بأذيال الشفاعة، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3 وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 قطع الله أطماع المشركين فيها، وأبطل حجتهم وتعلقهم بها، فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 5، وبين سبحانه وتعالى أن الشفاعة عنده ليست كشفاعة المخلوقين عند المخلوق، بل إن الشفاعة عنده تعالى لا تكون إلا بإذنه ولمن يرضى الله تعالى شفاعته عنده، وليس ذلك باقتراح البشر وانتخابهم لهؤلاء الشفعاء والمزعومين من الأصنام والأموات الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فقال عزوجل: {مَنْ ذَا   1 مجلة المنار (4/ 272) وانظر أيضاً (4/ 463) 2 المصدر نفسه (3/ 651) 3 سورة يونس، الآية (19) 4 سورة الزمر، الآية (4) 5 سورة الزمر، الآية (45) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1 وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2، وإذا كان الملائكة المقربون إلا بعد إذن الله ورضاه، فكيف تشفع الأصنام لمن عبدها، فهذه الآية ترد على من عبد الملائكة والأنبياء والصالحين لشفاعة أو غيرها. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ... } 3. وفي هذه الآية قطع اله تعالى كل أسباب الشرك التي قد يتعلق بها المشركون، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده العابد، أو شريكاً، أو معيناً له وظهيراً، أو شفيعاً عنده تقبل شفاعته، فنفى الله تعالى هذه المراتب الأربع نفياً مرتباً متنقلاً من الأعلى إلى الأدنى فنفى الملك والشركة، والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه ولمن رضي له ذلك 4. وقد تكلم الشيخ رشيد عن هذه الشفاعة ـ باعتبارها من مظاهر الشرك التي وقع فيها المشركون قديماً وحديثاً ـ من عدة نواحٍ. فلقد بين الشيخ رشيد أن الشفاعة هي أصل شبهة المشركين والحجة التي تعلقوا بها في شركهم. فقال بعد أن أورد قوله تعالى: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5 وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 6 "فهذه الشبهة   1 سورة البقرة، الآية (255) 2 سورة النجم، الآية (27) 3 سورة سبأ، الآية (22ـ 23) 4 انظر: سليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 285) 5 سورة يونس، الآية (19) 6 سورة الزمر، الآية (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 هي التي فتن بها أكثر البشر، ولم يسلم منها أهل شريعة سماوية خالطوا المشركين وعاشروهم، فقد دخلوا في الشرك من حيث لا يشعرون لأنهم لم يتخذوا معبودات المشركين شفعاء ووسطاء، بل اتخذوا أنبياءهم ورؤساءهم وظنوا أن هذا تعظيم لهم لا ينافي التوحيد ... وقد اغتروا بظواهر الألفاظ، وجعلوا تسمية الشيء بغير اسمه إخراجاً له عن حقيقته، فهم قد عبدوا غير الله، ولكنهم لم يسموا عملهم عبادة، بل أطلقوا عليه لفظاً آخر كالاستشفاع والتوسل، واتخذوا غير الله إلهاً ورباً، ومنهم من لم يسمه بذلك، بل سموه شفيعاً ووسيلة ... " 1. وبين الشيخ رشيد بطلان هذه الشفاعة الوثنية التي كان يثبتها المشركون لأصنامهم، وتبعهم فيها غيرهم، ولكن أثبتوها لأنبيائهم وصلحائهم، فقال: " ... وأما مسألة الشفاعة التي كان مشركو العرب يثبتونها لمعبوداتهم في الدنيا، وأهل الكتاب يثبتونها لأنبيائهم وقديسيهم في الدنيا والآخرة، فقد نفاها القرآن وأبطلها، وأثبت أن الشفاعة لله جميعاً، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2 ... ومنه: أن الشفاعة الثابتة في الأحاديث غير الشفاعة الوثنية والنصرانية المنفية في القرآن، وقد قرر هذه المسألة في بضع وعشرين آية من السور المكية والمدنية.." 3.ويؤكد الشيخ رشيد على هذا المعنى فيقول: " ... الشفاعة الممنوعة هي ما حكاه القرآن العزيز عن المشركين وهي التي بمعنى الشفاعة عند الحكام لقضاء المصالح عند العجز من طرقها وأسبابها، والشفاعة الجائزة خاصة بالآخرة: وهي عبارة عن دعاء الشافع المشفع يأذن به الله ويستجيبه إظهاراً لكرامة عبده الشفيع ... فالشافع لم يغير شيئاً من   1 تفسير المنار (2/ 353) 2 سورة الأنبياء، الآية () 3 الوحي المحمدي (ص: 201 ـ 202) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 علمه تعالى ولم يؤثر في إرادته ولم يحمله على شيء لم يكن ليفعله لولاه ... " 1. ثم يبين الشيخ رشيد ـ بعد هذا التقرير ـ أن الشفاعة الواقعة من العامة وغيرهم ـ هي من جنس الشفاعة المنفية، فيقول: " ... ومن هذا التقرير يفهم أن ما عليه أكثر العامة من الاستشفاع بالأولياء وأصحاب القبور المعلومين والمجهولين لأجل دفع المكاره وجلب المنافع هو من النوع الأول الذي منعه الدين، ويخل بالاعتقاد الصحيح بالله تعالى ... " 2. ويقول: "وأما الشفاعة الثابتة في الأحاديث فهي غير هذه، ولا تنافي التوحيد وكون الشفاعة لله جميعاً، وسيأتي بيانه ... " 3. ثم يبين الشيخ رشيد ـ كما وعد ـ هذه الشفاعة الجائزة الثابتة بالشرع فيقول: "وأما العفو وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهي عبارة عن دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله تعالى له فالحكمة في الأول ـ يعني العفو ـ أن لا ييأس المسرف على نفسه ... والحكمة في الثاني ـ يعني الشفاعة ـ إظهار كرامة للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمن ارتضى ... " 4. فهذه حقيقة الشفاعة الثانية، فالشفعاء لا يؤثرون في إرادته تعالى فيحملونه على العفو عن المشفوع لهم، وإنما هي إظهار كرامة وجاه لهم عنده لا إحداث تأثير للحادث في صفات الله 5. وكذلك فإن الشفاعة الثابتة لا تنفع إلا الموحدين، كما يقول الشيخ رشيد: " ... وإن الشفاعة لا تنال أحداً يشرك بالله تعالى شيئاً" 6.   1 مجلة المنار (7/ 498 ـ 499) 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 تفسير المنار (1/ 121) 4 مجلة المنار (2/ 36 ـ 37) 5 تفسير المنار (8/ 13) 6 المصدر نفسه (7/ 273) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 فتبين لنا من هذه النصوص كلها أن الشيخ رشيد ينفي الشفاعة الشركية، مع إثباته للشفاعة الحاصلة في الآخرة ـ بإذن الله تعالى ـ وهو الصحيح 1. خامساً: الاستغاثة والاستعانة: الاستغاثة والاستعانة بمعنى واحد 2، فيقال: استغاثه واستغاث به، كما يقال إنه استعانه واستعان به 3. واستعمال هذين اللفظين في الكتاب والسنة بمعنى الطلب من المستغاث به. وقول القائل:: استغثت فلاناً واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة 4. والاستغاثة بالخالق لا خلاف فيها، فقد قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 5 وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 6. قال الشيخ رشيد: " ... وأمرنا أن لا نستعين بغيره أيضاً ... لأن الاستعانة بهذا المعنى فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به وذلك من مخ العبادة ... " 7. والاستغاثة بالله تعالى هي من مظاهر توحيد العبد، أما الاستغاثة التي هي من مظاهر الشرك، فهي الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه، حياً أو ميتاً.   1 انظر: ابن تيمية: الواسطة (ص: 28) وما بعدها، وقاعدة جليلة (ص: 17 ـ 18، 100 ـ 101 و266) ، والرد على البكري (ص: 59) ، وابن القيم: إغاثة اللهفان (1/ 61 ـ 62) ، وسليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 273 ـ 297) ، والسهسواني: صيانة الإنسان (ص: 346 ـ 359) 2 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 261) ، وابن الأثير: النهاية (3/ 392) ، والسهسواني: صيانة الإنسان (ص: 153) 3 ابن تيمية: المصدر نفسه والصفحة. 4 المصدر نفسه (ص: 82) 5 سورة الأنفال، من الآية (9) 6 سورة الفاتحة، الآية (5) 7 تفسير المنار (1/ 58 ـ 59) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 فالاستعانة بالمخلوق على وجهين: أحدهما: أن يستغاث بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر أو يدفع عنه صائلاً أو لصاً أو نحو ذلك، وهذا لا خرف في جوازه. والاستغاثة بالأنبياء في المحشر من هذا النوع. الثاني: أن يستغاث بمخلوق ميت أو حي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وهذا هو الذي يقول فيه أهل التحقيق إنه غير جائز 1. وللأسف فإن النوع الثاني هو الذي ذاع وانتشر، حتى بات ظاهرة تسترعي انتباه الكثيرين، ويذكر الشيخ رشيد ذيوع ظاهرة الاستغاثة وأمثلة لها، منها أن رجلاً كان يراه دائماً، لا يزال لسانه رطباً ـ ليس من ذكر الله تعالى ـ بل من ذكر السيدة، يقول: "يا سيدة ... يا سيدة ... يا سيدة" 2. لذلك فإن الشيخ رشيد قام بكل ما يستطيع لمواجهة هذه الظاهرة الشركية المنتشرة. فقد بين الشيخ رشيد معنى الاستعانة وحكمها وأقسامها وحكم كل قسم منها، وبين بطلان الاستعانة الشركية. ففي الاستعانة يقول: " والاستعانة طلب المعونة، وهي: إزالة العجز والمساعدة على إتمام عمل ... " 3. وبين الشيخ رشيد قسمي الاستعانة بالمخلوق فقال: "الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق قسمان: (أحدهما) : ما يكون بين الناس من طلب التعاون والمساعدة في الأمور الكسبية كاستغاثة من أشرف   1 السهسواني (ص: 223) وأيضاً: سليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 234) 2 انظر: مجلة المنار (7/ 319) ويريد "بالسيدة": السيدة زينب بنت الإمام علي، وفاطمة بنت محمد رضي الله تعالى عنها، ولها مسجد باسمها في القاهرة. انظر: الذهبي: السير (2/ 122) 3 تفسير المنار (1/ 58) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 على الغرق أو تردى في بئر أو حفرة بمن ينقذه مثلاً .... و (ثانيهما) : ما يكون فيما وراء الأسباب التي هي من كسب الناس مما يخالف سنن الله في خلقه كالاستغاثة بالموتى والاستعانة بهم وبالأحياء فيما ليس من مقدورهم وكسبهم كإنزال المطر وشفاء المرضى ـ بغير تداوٍ ـ فهذاا لقسم خاص بالله تعالى لا يطلب من غيره وهو المراد بقوله تعالى في سورة الفاتحة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومعناه: نستعينك وحدك ولا نستعين غيرك، كما أن معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} : نعبدك ولا نعبد غيرك ـ فاستعانة غير الله بهذا المعنى كفر وشرك كعبادة غيره ... والاستغاثة في هذا الباب مثل الاستعانة بل أخص منها لأنها عبارة عن الضراعة في الدعاء عند شدة الضيق ... " 1. ويستدل الشيخ رشيد على بطلان الاستعانة الشركية بالموتى بالعقل والنقل، فيقول: " ... ولا شك أن الاستعانة بالأموات على قضاء الحوائج ليس من الأسباب التي سنها الله تعالى لذلك. ولم يقل أحد من أئمة الدين ولا من العقلاء بسببيته. أما نبذ العقل له فظاهر. وأما رفض الشرع له فيدل عليه الكتب والسنة، وسيرة السلف الصالح، وأكتفي الآن من الكتاب العزيز بقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فهو نص صريح في أنه لا يستعان إلا بالله تعالى، ومن السنة بخبر: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 2. وأما سيرة السلف الصالح فلم ينقل عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقبلون عتبة الحجرة، ويقولون: يا رسول الله أهلك فلاناً عدوي وانتقم من فلان ظالمي، وأهلك الدود من زرعي، واشف داء قريبي وقرِّب وصال حبيبي، كما نراه ونسمعه من جهة العوام عند قبر السيد البدوي وقبر الإمام الحسين ـ رضي الله تعالى عنهما ـ ... " 3.   1 مجلة المنار (25/ 662) 2 رواه الترمذي: ك: صفةالقيامة، باب: 59، ح: 2516 (4/ 667) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 3 مجلة المنار (1/ 77) والحسين هو ابن علي ـ رضي الله عنهما ـ وقد جرىالسلف على الترضي على أصحاب النبي (دون من عبدهم، فلا ينبغي التسوية بين صاحب النبي (وابنه، وبين غيره، والسيد البدوي، لم أجد له ترجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وهذا الاستدلال من الشيخ رشيد استدلال صحيح، يقول شيخ الإسلام: "والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبياً أو ولياً ليس مشروعاً ولا هو من صالح الأعمال، إذ لو كان مشروعاً حسناً من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك" 1. واستدل المجوزون للتوسل بأدلة، ظنوا أن فيها سنداً لما ذهبوا إليه، منها أحاديث باطلة، كحديث: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" 2، قال الشيخ رشيد جواباً على هذا الحديث: " ... الحديث لا أصل له ولم يروه المحدثون ... وإذا فرضنا أن الحديث صح وكان معناه ما ذكرتم 3 ... فإننا نرجح عليه ما يعارضه مما هو أقوى منه، كحديث الطبراني مرفوعاً: "إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" 4 وحديث ابن عباس مرفوعاً: "وإذا استعنت فاستعن بالله" 5 بل عندنا القطعي، كقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 6 ... " 7. ويتأول الشيخ رشيد رضا هذا الحديث على فرض صحته، على أن المراد منه زيارة القبور الزيارة الشرعية التي أباحها الشرع للاعتبار، فهو كحديث أنس عند البيهقي: "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه قسوة القلب، فقال: اطلع في القبور واعتبر في النشور" 8، فلو صح هذان   1 الرد على البكري (ص: 29) 2 هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم، وليس في شيء من كتب السنة، انظر: ابن تيمية: التوسل (ص:297) ،وحاشية د. ربيع المدخلي: نفس الصقحة. 3 يعني من الاستعانة بأصحاب القبور. 4 قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث. مجمع الزوائد (10/ 159) ، وصحح حديث ابن لهيعة عدد من العلماء. انظر: أحمد شاكر: شرح الترمذي (1/ 16) ، وانظر أيضاً كلاماً لابن تيمية حول الحديث وابن لهيعة؛ الرد على البكري (ص: 152) وما بعدها. 5 سبق تخريجه. 6 سورة الفاتحة، الآية (5) 7 مجلة المنار (7/ 936) 8 الحديث أورده السيوطي في جامع الجوامع، عن أنس (19/ 1060) وهو في الجامع الصغير برقم (1116) ورمز له بالضعف وقال الألباني: موضوع. الضعيفة (2799) ، وأورده الذهبي في الميزان في ترجمة محمد بن يونس الكريمي وعدّه من مناكيره. انظر: الميزان () الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 الحديثان ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ لكانا بمعنى واحد 1. ومما يحتج به هؤلاء المجوزين للاستعانة الشركية بالأموات، قياس الحي على الميت، فكما تطلب المعونة من الحي فإنها تطلب من الميت. ويجيب الشيخ رشيد على هذا القياس بقوله: " ... ومن أعظم مزاعم صاحب المقدمة وأفسد قياساته المساواة بين طلب المعونة من الأحياء وطلبها من الأموات، فإذا كان لا يفرق بين الحي والميت وقد فرق بينهما الشرع والعقل، أفلا يجب عليه التفريق بين ما يطلب من الأحياء من التعاون وبين ما يطلب من الأموات ... ويطلبون من الأموات ما لا تناله يد الكاسب كجلب المصالح أو درء المفاسد من غير أسبابها التي قرنها الله تعالى بها ... " 2. والحق ان كل ما يحتج به أصحاب البدع سواء في التوسل أو الاستغاثة أو الشفاعة أو الزيارة إما أحاديث صحيحة لا تدل على ما ذهبوا إليه أو أحاديث تدل عليه ولكنها باطلة لا يحتج بها، أو على قياس فاسد كقياس الخالق على المخلوق، أو قياس الحي على الميت 3. سادساً: السحر: عرف الشيخ رشيد السحر لغةً واصطلاحاً وبين أنواعه وحكمه، فأما تعريفة لغة فقد اعتمد فيه على الراغب في المفردات فقال: "السحر: ـ وأشار إلى أن فيه ثلاث لغات بأوزان: فِلس، وسبب وقُفل ـ طرف الحلقوم والرئة، وقيل: انتفخ سحره ... والسحارة ـ بالضم ـ ما ينزع من السحر عند   1 مجلة المنار (7/ 936 ـ 937) 2 مجلة المنار (4/ 318) ، وانظر أيضاً (4/ 353 ـ 37) 3 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 9، وص: 11، 19) ، وابن عبد الهادي: الصارم المنكي (ص: 35) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 الذبح فيرمى به.. وقيل: منه اشتق: السحر، وهو إصابة السحر ... " 1. وعرفه أيضاً في الاصطلاح فقال: "والمعنى الجامع للسحر أنه أعمال غريبة من التلبيس والحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم بأسبابها، فمتى عرف سبب شيء منها بطل إطلاق اسم السحر عليه.." 2. وأشار الشيخ رشيد إلى أن السحر صناعة تتلقى بالتعليم والتمرين فيمكن لكل أحد أن يكون ساحراً إذا أتيح له من يعلمه السحر 3. ويبين الشيخ رشيد أن السحر ثلاثة أنواع: " أحدها: ما يعمل بالأسباب الطبيعية من خوص المادة المعروفة للعامل، المجهولة عند من يسحرهم بها، ومنها الزئبق الذي قيل: إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيهم 4 ... النوع الثاني: الشعوذة، التي مدار البراعة فيها على خفة اليدين في إخفاء بعض الأشياء وإظهار، وآراءه بعضها بغير صورتها ... النوع الثالث: ما مداره على تأثير الأنفس ذوات الإرادة القوية في الأنفس الضعيفة فإن الأمزجة العصبية القابلة للأوهام..ز وهذا النوع هو الذي قيل: إن أصحبه يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ومنهم من يكتبون الأوفاق 5 والطلسمات 6 للحب والبغض وغير ذلك.." 7.   1 تفسير المنار (9/ 47) وانظر: الراغب: المفردات (ص: 400) ط. دار القلم. 2 تفسير المنار (9/ 45) 3 المصدر نفسه والصفحة. 4 انظر: ابن كثير: التفسير (1/139) 5 الأوفاق: جمع وفق: والوفاق: الموافقة والتوافق، الاتفاق، ووافقه أي صادفه، واستوفق الله: أي طلب منه التوفيق. مختار الصحاح (ص: 304) مادة: وفق. وهي أشياء من السحر تكتب للحب والبغض وغير ذلك. رشيد رضا: تفسير المنار (9/ 46) وهي ترجع إلى مناسبات الأعداد وجعلها على شكل مخصوص مربع ولها كتب معروفة من شرح كيفية وضع وترتيب هذه الأعداد. انظر: القرافي: الفروق (4/ 143 ـ 144) 6 الطلسم: جمع طلسمات، وهي نوع من السحر كذلك يكتب للحب والبغض وغير ذلك، وحقيقتها نفس أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب. انظر: القرافي: الفروق (4/ 142) 7 تفسير المنار (9/ 45 ـ 46) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وخطأ الشيخ رشيد من قال من المتكلمين "إن السحر من خوارق العادات الذي هو الجنس الجامع لمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وفاتهم أن السحر صناعة تتقلى بالتعليم كما ثبت بنص القرآن وبالاختبار الذي لم يبق فيه خلاف بين أحد من علماء الكون في هذا العصر" 1. وقد أشار الشيخ رشيد إلى حكم وعقوبة الساحر، ن ومنها: "القتل كفراً في بعض أنواعه المتضمنة للشرك والمستلزمة للريب في معجزات الرسل ... " 2، كما أشار الشيخ رشيد ـ متعجباً منه ـ إلى أنه ما يزال في هذا العصر "من يتوسل إلى الاستعانة بالجن على بعض الأعمال السحرية بما هو كفر قطعاً كربط بعض القرآن على السوأتين كما علمت من بعض المختبرين لهؤلاء الدجالين الذي يعيشون بكتابة العزائم 3، والحجب 4، للحب والبغض والحبل، وغير ذلك. والمفاسد في ذلك كبيرة جداً ... " 5. والذي يظهر أن الشيخ رشيد لا يرى للسحر حقيقة مطلقاً ـ وإن كان يبدو من النوع الثالث الذي ذكره ـ أنه له نوع تأثير ـ ومهما يكن من شيء فإن السحر منه ما له تأثير حقيقي ومنه ما ليس له ذلك 6.   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 المصدر نفسه (9/ 59 ـ 60) 3 العزائم: هي كلمات يزعمون أن الملائكة تعظمها، ومتى أُقْسِم عليها بها أطاعت وأجابت، فالمعزم يقسم بتلك الأسماء على ذلك الملك، فيحضر له القبيل من الجان فيحكم فيه لما يريد، وهذه الأسماء فيما يزعمون أعجمية يقع فيها الخلط، وعدم الضبط. انظر: القرافي: الفروق (4/ 147) 4 الحجب: جمع حجاب، والحَجْب، والحجاب: المنع من الوصول، ياقل: حجبه حجباً وحجاباً، وهو شيء يكتب للأولاد وغيرهم يمنعهم مما يخافون تعلق في أعناقهم، أو توضع تحت وسائدهم، فهي بمعنى التميمة. انظر: الراغب: المفردات (ص: 219) ، والميلي: الشرك ومظاهره (ص: 173) ، وعلي محفوظ: الإبداع (ص: 424 ـ 425) 5 تفسير المنار (9/ 60) 6 انظر: سليمان بن عبد الله: تيسر العزيز الحميد (ص: 383) ، وانظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (7/ 1283) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 سابعاً: الرقى: الرقى: جمع رقية كمدى ومدية 1. وتسمى العزائم 2، فإذا كانت بالقرآن أو بأسماء الله تعالى فهي جائزة. ولاختلاف أحوال الرقية اختلفت فيها الأحاديث، فالاختلاف جاء باعتبار أحوالها وهي كما يلي: الأول: أن تكون الرقية بألفاظ شركية، كأن يستعاذ فيها بملك أو جن، أو ينسب إليه النفع والضر فذلك كفر وشرك. الثاني: أن تكون بألفاظ منقولة غير معقولة المعنى، فهي ذريعة إلىالشرك فهي حرام. الثالث: أن تكون بأسماء غير الله من ملك أو نبي، وكل معظم شرعاً، فهي غير مشروعة حكمها كحكم الحلف بغير الله. الرابع: أن تكون بأسماء الله أو بكلامه أو ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي المشروعة 3. وإلى هذا ذهب الشيخ رشيد فقد عرف الرقى فقال: "الرُقى بالضم، جمع رقية "كغرف وغرفة"، وهي ما يقرأ على الملدوغ أو المريض ليبرأ أو يخف ألمه ... وهي جائزة لذلك إذا كان المقروء حقاً كالقرآن وذكر الله، ومحرمة إذا كان فيه شيء منكر أو مجهول ... " 4. وقال في موضع آخر: " ... وحديث الرقية يدل على جوازها وجواز أخذ الأجرة عليها إذا لم يكن فيها شيء من الباطل كما ورد في حديث راقٍ آخر بالفاتحة 5 ... " 6.   1 انظر: الراغب: المفردات (ص: 363) : رقى، والرازي: مختار الصحاح (ص: 107) : رقى، والقرافي: الفروق (4/ 147) 2 سليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 165) 3 انظر: المصدر نفسه والصفحة، والميلي: الشرك ومظاهره (ص: 168) 4 تفسير المنار (9/ 422) 5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: فضائل القرآن، باب فضل فاتحة الكتاب، ح: 5007 (8/ 671) مع الفتح. 6 مجلة المنار (24/ 426) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 غير أني لاحظت أن الشيخ رشيد يرىأن تأثير الرقية ليس حقيقياً، بل هو تأثير وهمي بحسب اعتقاد المرء فيها، أو تأثير نفسي ذات إرادة قوية روحانية في نفس أخرى، بحسب سنة الله في البشر، وهي لذلك ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ تنافي التوكل، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله شفاني، وليس برقيتكم" 1. والذي يظهر من النصوص خلاف ذلك فإنها تدل على أن للرقية تأثيراً حقيقياً كتأثير الأدوية المختلفة، فهي سبب شرعي للشفاء. قال ابن القيم: "واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع في الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً، وإن كان مؤذياً، والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء، فالتعوذات والأذكار، إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب، وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها، بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرقى والعُوَذ تستعمل لحفظ الصحة ولإزالة المرض ... " 2. ثامناً التمائم: التمائم ويقال لها: عُوذة، بالضم، ومَعاذة بالفتح، وتعويذة، والمراد بها هنا: ما يعلق على الإنسان لدفع الآفات عنه 3. وللتمائم ثلاث حالات: أحدها: أن تعلق ويعتقد نفعها كتعليق المرضى والمحمومين في عهدنا لتراب الأضرحة والمزارات وما أشبهه، فهذا شرك. الثاني: مشابهة الجاهلية بتعليق ما لا يتبرك به من نحو حلقة أو عقرب   1 انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (5/ 109) ، وقال: رواه الطبراني عن شيخيه بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وكلاهما قد ضعف ووثق، وبقية رجاله ثقات. 2 زاد المعاد (4/ 182) ت: الأرناؤوط. 3 انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث (1/ 197) ، وسليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 160) ، والميلي: الشرك (ص: 173) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 أو ودعة مع السلامة من اعتقاد المشركين، فهذا يمنع سداً للذريعة وإن لم يكن شركاً. الثالث: التبرك بما يتبرك به شرعاً من أسماء الله وكتابه. وهذا النوع قد وقع في جوازه بين علماء الصحابة والتابعين، فأجازه ومنعه آخرون واستعظموه 1. وتركك ذلك أوسع حماية لجناب التوحيد وحفاظاً على عقيدة عامة المسلمين. قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2. وقد تكلم الشيخ رشيد عن الحجب والرقى والتمائم، وعدها من أمال الجاهلية التي أبطلها الإسلام، وورد في حظرها أحاديث، ذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من علق تميمة فقد أشرك" 3، وقوله: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 4. وقوله: "ثلاث من السحر: الرقى والتولة والتمائم" 5. 6. وأما عن التمائم المحتوية على أسماء الله تعالى وآيات كتابه، فقد قال عنها الشيخ رشيد: "ولا شك أن الرقى والتمائم في هذا الزمان من نزعات الوثنية، فإنها ليست مبنية على اعتقاد أن القرآن يرفع الضرر ويجلب النفع لذاته معجزة، وإنما العمدة عندهم على بركة الراقي، وكاتب التمائم وتأثيره، ولذلك لا يطلبون ذلك من كل عارف بالقرآن. فانظر كيف قلبوا الدين فتركوا   1 انظر: سليمان بن عبد الله: التيسير (ص:167) والميلي: الشرك (ص:176) وانظر: أحاديث الرقية عند الهيثمي: مجمع الزوائد (5/109ـ 114) 2 سورة براءة الآية (51) 3 رواه أحمد: المسند (4/156) والحاكم: المستدرك (4/219) وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، مجمع الزوائد (5/ 103) 4 رواه ابو داود، ك: الطب، باب: في تعليق التمائم، ح:3883، وابن ماجة، ك: الطب، باب: في تعليق التمائم، ح:3530. 5 رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/203 ح:7823) ط. وزارة الأوقاف العرقية، الثانيةن سنة 1405هـ. وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه: علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (5/109) 6 انظر: مجلة المنار (24/ 427) وأيضاً (7/393 و 32/277) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 الاهتداء بالقرآن وهو قد أنزل {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} بل زعموا أن الاهتداء به محرم على الناس اليوم لأنه وظيفة المجتهدين الذين انقرضوا. ثم زعموا أنهم يعظمونه بترك الأسباب والسنن الإلهية التي أرشدهم إليها، والاعتماد على الانتفاع برسم حروفه وحملها" 1. فالظاهر من هذا أن الشيخ رشيد يميل إلى منع التمائم جميعاً من القرآن وغيره، وهو رأي سبق إليه عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما سبق. وله وجهه الوجيه. ومن مظاهر الشرك التي أنكرها الشيخ رشيد رحمه الله الشرك في الألفاظ كالحلف بغير الله تعالى فيقول: "لا يجوز الحلف بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته" 2، فلا يجوز الحلف بالآباء ولا وبالأنبياء ولا الكعبة 3. كما أنكر الشيخ رشيد التماثيل المصنوعة للزعماء 4، وكذلك الصور لأنه ـ كما يقول ـ: "الذين رسموا الصالحين والأنبياء إنما أرادوا التبرك بصورهم وتعظيمها إكراماً لهم، وهذا التعظيم في كل اللغات عبادة" 5. ويرى الشيخ رشيد أن الصور ليست بأشد من القبور، وإن كان الشرع قد منع الجميع، إلا أن بناء القبور وتشييدها إيقاد السرج عليها أشد وأكبر خطراً 6. ولا يرى الشيخ رشيد فرقاً بين التصوير باليد والتصوير الشمسي في الحكم، ولا في اتخاذ هذه الصور ولا في صنعتها، لأنه يرى "أن العلة ما ورد في ذلك من الأحاديث هو أمر ديني محض يتعلق بصيانة العقيدة من لوازم الشرك وشعائره" 7.   1 مجلة المنار (7/ 393) 2 تفسير المنار (7/ 40) وما بعدها. 3 المصدر نفسه والصفحة. 4 مجلة المنار (11/ 956 ـ 957) ، وتفسير المنار (9/ 106) 5 مجلة المنار (6/ 37) 6 المصدر نفسه (2/ 220) 7 المصدر نفسه (15/ 903 ـ 905) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وبعد: فهذا موقف الشيخ رشيد من الشرك ومظاهره بعد بيان موقفه من التوحيد، ويبقى أن نعرف موقفه من البدع، فهي مع الشرك من نواقض التوحيد والاتباع، اللذين هما تحقيق شهادة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 المبحث الثالث: رفض البدع ومظاهرها * ... قد قرر الشيخ رشيد غير مرة أن أصول الدين وفروعه مبنية على أساسين: "أحدهما: أن لا يعبد إلا الله تعالى، ثانيهما: ألا لا يعبد إلا بما شرع1، فالعبادات –كما يقول الشيخ رشيد- لا تثبت إلا بنص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يزيد فيها برأيه شيئاً فإن الله تعالى قد أكمل دينه على لسان رسوله ... "2. وقد تكلم الشيخ رشيد كثيراً عن البدع فعرفها بين أقسامها، وأصل نشأتها، وكيفية القضاء عليها، وحمل على العلماء الذين يقصرون في مقاومتها. ولقد كان من اهتمام الشيخ رشيد بمقاومة البدع أن أنشأ لها باباً في مجلته، يشتمل هذا الباب على قسم "الأحاديث الموضوعة والواهية والمنكرة" وقسم "الموالد والمواسم"3. ولقد كان لهذا الباب أثر كبير في بيان البدع والتنفير عنها بطريقة علمية، كما كان له أكبر الأثر في نشر علوم السنة، وتمييز صحيحها من   1 انظر: مجلة المنار (23/476) . 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 المصدر نفسه (3/474) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 من سقيمها، وهي ما لم يسبق عليه المنار أي من المجلات الدينية، فكانت هي الرائدة وصاحبها المحدث. وفيما يلي من هذا المبحث سنقف على منهج الشيخ رشيد في محاربة البدع والخرافات من خلال تتبع كلامه حولها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 المطلب الأول: تعريف البدعة لغة وشرعا ً تعريف البدعة لغة: البدعة نقيض السنة، لفظ مشتق من بدع الشيء يبدعه بدعاً: إذ أوجده على غير مثال سابق، وابتدعه وأبدعه بمعنى واحد، واسم الفاعل من أبدع المبدع، ومن ابتدع المبتدع، ومن أسماء الله تعالى البديع، فهو سبحانه بديع السموات والأرض، لأنه أبدعها وأحدثها على غير مثال سابق، كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1، والبديع: أيضا: الذي ليس قبله شيء والبدع ما كان أولا ولم يسبقه شيء، كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} 2، أي: ما كنت أول رسول أرسل إلى أهل الأرض، بل أرسل قبلي رسل كثيرون3. ويقول لمن أتى بأمر لم يسبقه أحد: أتى ببدعة، ومنه قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} 4 5.   1 سورة البقرة، الآية (117) . 2 سورة الأحقاف، الآية (9) . 3 انظر: الزجاج: معاني القرآن (4/439) . 4 سورة الحديد، الآية (27) . 5 انظر: الجوهري: الصحاح (3/1183) ، والأزهري: تهذيب اللغة (2/240) ، وابن منظور: لسان العرب (8/7) ، والراغب: المفردات (ص: 110/111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وقال الشاعر: فخرت فانتمت قلت أنظريني ... ليس جهل أتيته ببديع1 فالبدعة: اسم هيئة من الابتداع2، وهي كل ما أحدث واخترع على غير مثال سابق. وهي –بهذا المعنى- تقال في المدح والذم، لأن المراد أنه أتى بشيء مخترع على غير مثال سابق، سواء كان خيرا أو شرا، وإن كان استعمال لفظة البدعة قد غلب على الحدث المكروه في الدين3. فتدور هذه المادة على معنى الإحداث والاختراع. تعريف البدعة شرعاً: وفي معنى البدعة الشرعي يوجد اتجاهان، الأول: يعرفها تعريفاً واسعاً فيجعلها تشمل كل ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل منها الحسن والمذموم4. والثاني: يجعل البدعة الشرعية هي الحدث المذموم في الدين مما ليس له أصل في الشرع، ولا تكون إلا مذمومة5. من الفريق الثاني كان الشيخ رشيد رضا، وقد تبع في ذلك الشاطبي في الاعتصام والذي كان معجبا به أيما إعجاب6.   1 انظر: أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن (2/212) . 2 انظر: علي محفوظ: الإبداع (ص:85) وانظر: سيبويه الكتاب (4/44-45) . 3 ابن الأثير: النهاية (1/107) . 4 ويعتبر العز بن عبد السلام (ت: 660هـ) على رأس القائلين بالتقسيم. انظر: قواعد الأحكام له (2/172) وما بعدها، ط. المكتبة البخارية الكبرى بمصر، وينسب ذلك –أي القول بالتقسيم- إلى الشافعي رحمه الله. انظر: أبو شامة الباعث (ص: 28) ط. مكتبة المؤيد، الطائف، الأولى، 1412هـ، والغزالي أيضا ممن قال به. انظر: الإحياء (3:2) ، وابن الأثير: النهاية (1/97) . 5 وعلى رأس هؤلاء الإمام مالك. انظر: الفروق: للقوافي (4/229) ط. دار إحياء الكتب العربية، والإمام أحمد، انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (1/156 برقم: 317) ، وابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. (2/583) ، والشاطبي: الاعتصام (1/188) ط. المكتبة البخارية الكبرى بمصر، وابن الوزير: إيثار الحق (ص:107/109) . 6 انظر: الشاطبي: الاعتصام (1/191) وما بعدها، فقد رفض هذا التقسيم بشدة ورده على أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 وأحسن ما عرفت به البدعة شرعا ما قاله ابن رجب الحنبلي رحمه الله حيث عرّف البدعة وبين المراد منها فقال: "المراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وإن كان بدعة لغة"1. فبناءا على تعريف ابن رجب لا تكون البدعة إلا مذمومة، ولا يكون منها شيء حسناً أو مستحباً، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة" 2. قال شيخ الإسلام: "هذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع.."3. وقد ذهب الشيخ رشيد رحمه الله إلى هذا المعنى في تفسير البدعة، فلقد عرّف البدعة فقال: "البدعة في اللغة الفعلة المبتدعة المستحدثة، فإن كانت في الدين فهي شرع لم يأذن به الله، وافتراء على اللهو وهي ما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين في عهده من العبادات ... وأما غير الدينية المحضة فهذه منها حسن وهو النافع الذي لا مفسدة فيه، ومنها سيئ وهو الضار وما يترتب عليه فساد مثلاً، وكل منهما درجات فتعتريها الأحكام الخمسة ... ، وأما البدعة الدينية المحضة فهي لا تكون إلا قبيحة ضلالة، ودليل الكلية4 ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول على المنبر: "أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وإن أفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"5 ... " 6.   1 جامع العلوم والحكم (ص:252) . 2 سيأتي تخريجه. 3 اقتضاء الصراط المستقيم (2/583) . 4 القضية الكلية في المنطق هي: القضية التي تستغرق موضوعها، لأن الحكم فيها واقع على جميع أفراد الموضوع في حالة الإيجاب، ومسلوب عن جميع الموضوع في حالة السلب. انظر: جميل صليبا: المعجم الفلسفي (2/239) . 5 رواه مسلم: الصحيح، ك: الجمعة، ح: 43 (687) . 6 مجلة المنار (32/273) وانظر أيضا (18/305) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 وقال في موضع آخر: " ... إن لكلمة البدعة إطلاقين: إطلاقا لغويا بمعنى الشيء الجد الذي لم يسبق له مثل، وبهذا المعنى يصح قولهم: إنها تعتريها الأحكام الخمسة، ومنه قول عمر رضي الله عنه في جميع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح: "نعمة البدعة" وإطلاقا شرعيا دينيا بمعنى ما لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجيء به من أمر الدين كالعقائد والعبادات والتحريم الديني ... "1. ويجيب الشيخ رشيد على حديث "من سن في الإسلام سنة حسنة" الحديث2، بأنه من الإطلاق الأول، كأمور الزراعة والمعاش والحرب .... إلخ، قال: "وقوله في الإسلام معناه في عهد الإسلام المقابل لعهد الجاهلية"3. ويجيب عن قول ابن مسعود رضي الله عنه "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" 4 بأنه غير مرفوع، فلا حجة فيه، ولأنه في معنى الإجماع، وهو لا يكون إلا عن دليل، وليس معناه الابتداع في الدين لكل أحد أو لكل جماعة5. فتبين لنا من هذا أن الشيخ رشيد رحمه الله يميل إلى الاتجاه الثاني   1 المصدر نفسه (27/660) ، وانظر أيضا (2/103-104، 14/256) . 2 مسلم: الصحيح، ك: العلم، ح: 15 (1017) (4/2059) . 3 مجلة المنار (32/273) وانظر أيضا (28/660 و2/103-104) ، والحديث المشار إليه ورد على سبب هو تصدق رجل من المسلمين ثم متابعة المسلمين له في ذلك. والظاهر أن ذلك ليس من البدع الشرعية بمعنى أنها طريقة مخترعة في الدين، وإنما هذه سنة لغوية، وهي سنة حسنة لها أصل في الدين فإن هذا الرجل ليس أول من تصدق على الإطلاق، ولكن أوليته إضافية، فهذه سنة حسنة لها أصل في الدين فليست في معنى البدعة المذمومة. وانظر: علي محفوظ: الإبداع (ص:120121) . 4 اثر موقوف على ابن مسعود: رواه أحمد: المسند (5/211) ح:3200، ت: أحمد شاكر، وهو في مجمع الزوائد: (1/177-178) ، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله موثقون. وصنيع الهيثمي يدل على أنه في الإجماع. فقد أورده تحت باب "الإجماع". 5 مجلة المنار (27/660) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 في معنى البدعة الشرعية، وهو أنها كلها ضلالة، وأما الذي يرد التقسيم فهو البدعة اللغوية، فهي التي تقسم إلى حسنة وسيئة أو إلى الأحكام الخمسة أي: الوجوب والندب والتحريم والكراهة والجواز والإباحة. وهي إنما تكون -كما يقول الشيخ رشيد-: "في المستحدثات الدنيوية، فالحين منها هو النافع كبناء القناطر والمدارس والمستشفيات وتدوين العلوم والصناعات والحرف، والقبيح يكون حراما أو مكروها، وما ليس من هذا ولا ذاك فهو المباح كمستحدثات الزينة غير المحرمة والطيبات من الرزق، وهذه إنما تسمى بدعة في اللغة لا في الشرع ... "1. وهذا الاتجاه في تعريف البدعة وتحديدها هو الصحيح الموافق للأدلة وعليه أكثر أهل العلم كما ذكرت قبل قليل. ويقرر الشيخ رشيد أن البدع من هذا النوع، كثيرة "فإنهم أحدثوا في الدين أشياء ما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ... "2. ومن هنا ننتقل إلى بعض البدع التي تناولها الشيخ رشيد في كتاباته وقد قسمتها إلى أقسام، منها بدع الشهور والأيام، وبدع العبادات، وبدع المساجد، وبدع الموالد، وبدع العامة وغيرها.   1 مجلة المنار (23/476) . 2 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 المطلب الثاني: مظاهر البدع التي تعرض لها الشيخ رشيد رضا لقد تعرض رشيد رضا لكثير من البدع التي راجت بين المسلمين، سوف أقتصر على نماذج منها مخافة الإطالة. أولاً: بدع الصوفية: تعتبر فرقة الصوفية هي أم البدع، لقد استقر أمرها إلى أن صارت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 كدين جديد له قواعده المختلفة عن دين الإسلام، كما أن له مصادر تلقي خاصة به غير مصادر التلقي العامة عند المسلمين. ولقد تحدث الشيخ رشيد رضا عن هذه الفرقة وهو يعرفها تمام المعرفة، إذ كان –رحمه الله- أحد السالكين للطريقة النقشبندية1. ولكنه تحول عن ذلك فيما تحول عنه بعد اطلاعه على كتب السلف لا سيما كتب ابن تيمية ومدرسته. والذي يترجح في سبب تسمية الصوفية بهذا الاسم أنهم نسبوا إلى لبس الصوف2. وقد تحدث الشيخ رشيد عن نشأة الصوفية وتطورها إلى أن صارت رأس الفرق المبتدعة وأبعدها أثرا في الإسلام، فيرى الشيخ رشيد أن أول ظهور الصوفية كان في صورة حسنة تقصد إلى "التخلق بالأخلاق الفاضلة وما تستتبعه من أعمال البر والتقوى"3. ثم إنها استقلت –بعد ذلك- وتميزت حتى صارت فرقا مستقلة، ثم مازجت كتبهم تعاليم غريبة وحدثت لهم اصطلاحات خاصة"4. ثم إن هذه الفرق –صارت- كما يقول الشيخ رشيد –وكما يعرفها الناس: "مصدر تلك المنكرات ومعهد تلك الموبقات"5. يقول الشيخ رشيد: " ... إن مقاصد الصوفية الحسنة قد انقلبت ولم يبق من رسومهم الظاهرة إلا أصوات وحركات يسمونها ذكرا يتبرأ منها كل صوفي وإلا تعظيم قبور المشايخ تعظيما دينيا مع الاعتقاد بأن لهم سلطة   1 انظر: المنار والأزهر (ص:148) ، والنقشبندية، هي إحدى الطرق الصوفية نسبة إلى الشيخ محمد بهاء الدين شاه نشقنبند. انظر: عبد الرحمن دمشقية: "النقشبندية (ص:29) ط: دار طيبة، الرياض، الثالثة 1409هـ/1988م. 2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/6-7) . 3 مجلة المنار (1/119) . 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 غيبية تعلوا الأسباب التي ارتبطت بها المسببات بحكمة الله تعالى، بل يدبرون الكون ويتصرفون فيه كما يشاءونه ... وزادوا على هذا شيئاً آخر هو أظهر منه قبحا وأهدم للدين - وهو زعمهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء لآخر، فإذا اقترف أحدهم ذنبا ف، كر عليه منكر قالوا في المجرم إنه من أهل الحقيقة فلا اعتراض عليه، وفي المنكر أنه من أهل الشريعة فلا التفات إليه ... "1. وباختصار فقد "انحرف المنتسبون لطريقة التصوف عن هدي سلفهم"2. وقد كان للصوفية أسوأ الأثر على عقائد المسلمين. وفي ذلك يقول الشيخ رشيد: " ... فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمون ببركة التصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرع - اتخذوا الشيوخ أندادا، وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق، بعد أن كانت للعبرة وتذكر القدوة ... ونتيجة ذلك كله أن المسلمين رغبوا عما شرع الله إلى ما توهموا أنه يرضي غيره ممن اتخذوهم أنداداً، وصاروا كالإباحيين في الغالب، فلا عجب إذا عم فيهم الجهل واستحوذ عليهم الضعف، وحرموا ما وعد الله به المؤمنين من النصر ... "3. ومن أشهر بدع الصوفية ما يلي: أ – الألقاب الصوفية: يخلع الصوفية على رؤسائهم ألقابا دينية تماثل الألقاب العسكرية في الدول الحديثة، وكما خلع الفلاسفة صفات الإله على ما أسموه "العقل الأول" وكما خلع النصارى صفات الإله على ما سموه "الكلمة" فإن الصوفية جعلوا صفات الإلهية والربوبية على ما أسموه بالقطب والوتد4.   1 تفسير المنار (2/72-74) والصوفية يتمسكون بأذكارهم المبتدعة ولا يتبرؤون منها. انظر: الوكيل: هذه هي الصوفية. (ص:141) . 2 مجلة المنار (1/823) . 3 تفسير المنار (2/76) . 4 انظر: عبد الرحمن الوكيل: "هذه هي الصوفية" (ص:124) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 والقطب عند الصوفية هو أكمل إنسان متمكن في مقام الفردية، أو الواحد الذي هو موضع نظر الله في الأرض في كل زمان، عليه تدور أحوال الخلق، وقد يسمى الغوث باعتبار التجاء الملهوف إليه1. وهذا القطب هو خليفة الله في الأرض، خلافة مطلقة جملة وتفصيلا، خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه ويقوم على شؤون الكون جميعاً2. ولهذا القطب أعوان، هم الأوتاد الأربعة، وقيل ثلاثة، كلما مات قطب الوقت أقيم أحدهم مكانه، ثم الأبدال وهم أدنى منزلة من الأوتاد وفي عددهم خلاف3. ويخلع الصوفية على أصحاب هذه المراتب صفات الربوبية كالتصرف في الكون والإسعاد والإشقاء، والمنع والعطاء. ويرد الشيخ رشيد على هذه الوظائف الروحية عند الصوفية، باعتبار أنها لم ترد في الكتاب ولا في السنة فيقول: " ... وأما القطب وسائر الموظفين الروحانيين في دائرة تصرفه الذين يسمونهم رجال الغيب كالإمامين والأوتاد والأبدال، فلم يرد شيء صحيح في السنة إلا ما رووه في الأبدال وهي روايات ضعيفة مضطربة في بعضها يعدون ثلاثين وبعضها أربعين إلخ ... "4. ونقل الشيخ رشيد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الألقاب في رسالة "الصوفية والفقراء" ومما نقله قوله: "وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة – فهذه الأسماء ليست   1 انظر: الجرجاني: التعريفات (ص:155، 325) ، وعبد الرحمن الوكيل: المصدر نفسه. 2 انظر: علي حرازم: جواهر المعاني (ص:81) وما بعدها. 3 انظر: المصدر نفسه (ص:93) ، والمنوفي: جمهرة الأولياء (1/121 و406) ، والجرجاني: التعريفات (ص:33 وص:235) . 4 مجلة المنار (5/ 56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي ... "1 ثم قال الشيخ رشيد ملخصا لكلام شيخ الإسلام: "ثم ذكر –أي ابن تيمية- أن لفظ الغوث لا يستحقه إلا الله تعالى، وأن القول بالقطب من جنس دعوى الرافضة بالإمام المعصوم ... ثم تكلم في لفظ الأبدال وجميع ما قيل في معناه وما يصح منه وما لا يصح ... "2. ثم يقول الشيخ رشيد عن لفظ الأبدال الوارد فيبعض الروايات: " ... ولفظ الأبدال أشهر في هذه الألفاظ ولم يكن الناس يفهمون في القرن الثاني والثالث من هذا اللفظ ما ادعاه الصوفية بعد، بل قال الإمام أحمد إن الأبدال هم أهل الحديث، وأما ما في هذه الروايات من أن الله تعالى ينصر أهل الشام ويرزقهم بالأبدال فهو من علل متونها ودلائل وضعها، فالله تعالى قد جعل للنصر أسباباً تعرف من كتابه ومن سننه في خلقه ... وإننا نرى أهل الشام الآن في غاية البؤس وضيق الرزق والجيوش الفرنسية تدمر بلادهم ... "3. ولا يقتصر عجز هؤلاء المتصرفين في الكون على الشام، بل إن كل بلاد التي يزعمون فيها هؤلاء المتصرفين في الكون تراها في أتعس حال ولأشد بلاء. يقول الشيخ رشيد: " وقد آن أن نعقل ونفهم ديننا من القرآن ... ، آن لنا أن ندوس هؤلاء المضلين وكل من ينصرهم ويتأول لهم من سدنة القبور المعبودة لاعتقاد العامة أن الرزق وسعادة الدنيا تطلب من المدفونين فيها ... "4.   1 المصدر نفسه (27/752-754) ، وقارن مع ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/433) . 2 المصدر نفسه والصفحة، وقارن مع ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/437) . 3 المصدر نفسه والصفحة، وانظر: أحاديث الأبدال: الهيثمي: مجمع الزوائد (10/62-63) . 4 المصدر نفسه والصفحة. وقارن مع جميل غازي: الصوفية: مجلة التوحيد، سنة 23، عدد 3، (ص:21) وما بعدها، الوكيل: هذه هي الصوفية (ص:124) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 ب – التصرف في الكون: وما يدعيه الصوفية لهؤلاء الموظفين، أنهم يجتمعون في ديوان "يجتمع فيه الأحياء والميتون فما أقروا عليه فهو الذي يقع في الكون ... "1. ويزعمون: "أن منهم من يتصرف في الكون ويقدر على قلب نواميسه وتبديل سننه وتحويلها، فيسعد ويشقى ويفقر ويغني مكن غير سبب غير مجرد تصرفه ... "2. وبين الشيخ رشيد خطورة هذا الاعتقاد على العامة وتوحيدهم لأنهم "متى سلموا بها جزموا بأن مثل هذا الولي يفعل ما يشاء فيصرفون قلوبهم إليه ويطلبون حوائجهم منه، فيكونون قد اتخذوه إلهاً ... "3. ويقول عن هذا الاعتقاد: "هذا الاعتقاد هو الذي شقي به قبل الإسلام من لا يحصى من الأقوام، هذا الاعتقاد هو الذي يقيد إرادة الإنسان بإرادة غيره من أبناء جنسه ... وهذا الاعتقاد هو المرض الذي يفسد العقل ويجعله يرجوا م لا يرجى ويخاف مما لا يخاف، هذا الاعتقاد هو شعبة من الشرك ... "4. ويقول: "إن الإيجاد والتصرف في الأشياء بمقتضى الإرادة المعبر عنها بكلمة "كن" هو خاص بخالق العالم ومدبره ... "5. إن الذي يدعيه الصوفية في أوليائهم هم من خصائص الربوبية فالذي يسعد ويشقي ويمنع ويعطي هو الله تعالى، ويترتب على هذا الشرك في الربوبية، شرك في الألوهية بتوجه هؤلاء الدهماء المغفلين، الذين يصدقون باعتقاد تصرف الأولياء في الكون إلى هؤلاء بأنواع العبادة المختلفة والتي لا تنبغي إلا لله تعالى.   1 مجلة المنار (7/434) . 2 المصدر نفسه (2/147-148) . 3 المصدر نفسه (7/297) . 4 مجلة المنار (2/212-213) والصواب أن هذا الاعتقاد هو الشرك بعينه. 5 المصدر نفسه (7/281) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 ولقد بلغت جرأة هؤلاء على اله تعالى واستعبادهم لعبيده، أن زعموا أنهم يستطيعون بيع قصور الجن لمن يشاءوا وقد نشر الشيخ رشيد أحد عقود بيع قصر في الجنة بين أحد الأولياء وأحد الحمقى والمغفلين1. ج – الذكر الصوفي: إن الذكر الذي يحبه الله ورسوله ويؤجر عليه فاعله هو ما ورد في الكتاب والسنة، ونقله الأئمة الذين يعول عليهم في ذلك. وهو الذكر المأمور به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 2 وهو الموافق لقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 3 وقول النبي صلى الله عليه وسلم "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله"4. ولكن الصوفية ابتدعوا شيئاً أسموه ذكراً، ومن باب التلبيس والتضليل، ففي أعياد الوثنية التي يسمونها: موالد، وفي معابد الأضرحة التي يسمونها مساجد، يعقدون حلقات للرقص، المصحوب بآلات الموسيقى (المعازف) ، تتمايل معها أجسامهم يمنة ويسرة، ويسمون ذلك الرقص ذكرا5. وهذه الطريقة في الذكر هي سنة اليهود في ذكرهم لله كما هو مدون في كتابهم المقدس6.   1 مجلة المنار (2/149-150) وقارن مع الوكيل: هذه هي الصوفية (ص:131) وما بعدها. 2 سورة الأحزاب، الآية (41-42) . 3 سورة البقرة، الآية (255) . 4 رواه الترمذي: كتاب: الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة، ح:3585، وقال: هذا حديث غريب (5/572) ط. شاكر وزملائه. ورواه مالك: الموطأ، ك: القرآن، باب: ما جاء في الدعاء، ح:32، ط. دار الحديث، مصر، الثانية، سنة 1413هـ. 5 انظر: علي محفوظ: الإبداع (ص:312) ، والوكيل: هذه هي الصوفية (ص:143) . 6 انظر: العهد القديم: المزامير: المزمور (ص:149) (ص:936، ط. دار الكتاب المقدسي) ، وانظر: ابن الجوزي: نقد العلماء أو تلبيس إبليس (ص:22) ت: محمود مهدي الإستانبولي 1396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 وقد رد الشيخ رشيد رحمه الله – الذكر الصوفي واستدل على ذلك بأدلة الشرع، واستشهد على بطلانه بمن استطاع من العلماء المعاصرين له المؤيدين للسنة. فقال: " ... وقد أكمل الله لنا الدين فليس لنا أن نزيد فغي عباداته ولا أن ننقص منها، لا كما ولا كيفا، فالاجتماع لذكر الله تعالى ومزجه بالعزف بآلات الطرب كالدفوف والمزمار والشبابة ونحوها بدعة في الدين وزيادة عبادة1 لم يأذن بها الله، فلا تباح بحسن القصد كما لا يباح لنا أن نخترع كيفية لصلاة التطوع بأن نسجد في كل ركعة ثلاث مرات لأجل زيادة الخشوع مثلاً. ولقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم – بالدين على أكمل وجوهم فحسبنا ما صح نقله عنهم ... "2. وورد إلى الشيخ رشيد من بعض البلاد العربية ليعرضه على علماء الأزهر - والسؤال كان حول الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر، فعرضه الشيخ على بعضهم فأجاب بما يلي: " ... إن الرقص والتواجد أحدثهما أصحاب السامري ... والرقص دين الكفار وعباد العجل، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور إلى المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على طلبهم ... ومن أدلة التحريم قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} 3 فسره مجاهد بالغناء والمزامير4، ومنها قواه تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} 5 أي: مغنون6 ... ومن هذا كله تعلم أن المذاهب كلها على تحريم ما يصنع هؤلاء وأن فعلهم هذا ممقوت عند الله وعند العلماء والعقلاء وأن   1 على أنه لا يجوز أن يطلق على مثل هذه الأفعال أنها عبادة. 2 مجلة المنار (4/704) . 3 سورة الإسراء، الآية (64) . 4 انظر: ابن كثير: التفسير (3/94) . 5 سورة النجم، الآيات (59، 60، 61) . 6 انظر: البن كثير: التفسير (4/261) ، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (7/116) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 مجلسهم مجلس الشيطان لا مجلس الرحمن، ولا يجوز إفشاء السلام عليهم ... فيترك السلام خوفاً أن يظنوا أنهم محقون مكرمون مرضي عنهم ... "1. ومن بدع الذكر الصوفي ذكر الله تعالى بأسمائه مفردة، فيقولون: الله الله، حي حي حي، وربما ذكروا بالضمير: هو هو هو، ونادوه: يا هو2. واحتجوا بان الذكر لم يرد مقيدا بل مطلقا فيجوز ذكره تعالى بكل طريق، وببعض الآثار كقوله صلى الله عليه وسلم: " ... حتى لا يقال في الأرض: الله الله3، وبإجماع الصوفية لا سيما كبراؤهم4. وقد رد الشيخ رشيد على كل تلك الشبهات، فمنع الدعوى الأولى بأن الذكر جاء مقيدا ومطلقا فيحمل هذا على ذاك، وبعدم حجية كلام الصوفية في إثبات العبادة، وأما الأحاديث فقال: "وأما حديث أنس فقد ورد بروايات وفي أحدها بلفظ "على أحد أن يقول لا إله إلا الله" 5 وفي زيادة: "ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر" 6، والظاهر أن المراد من الرواية الأولى ما هو بمعنى الثانية، أي لا أحد يذكر الله وحده في إسناده الأمور إليه، والروايات وردت برفع لفظ الجلالة لا بسكونه واللفظ في العربية لا بكون مرفوعا ولا منصوبا ولا مجرورا إلا في الكلام المركب ... "7. ومن البدع التي أنكرها الشيخ رشيد في الذكر الصوفي، بدعة الذكر   1 مجلة المنار (12/273) وما بعدها، والمفتون بذلك هم جماعة من المدرسين على المذاهب الأربعة بالأزهر، انظر أسمائهم وتوقيعاتهم في المصدر المحال عليه. 2 انظر الوكيل: مصدر سابق (ص: 144-145) . 3 مسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح234 (148) (1/131) . 4 انظر: مجلة المنار (14/99-103) . 5 هذا لفظ الحاكم: المستدرك (4/494) ، قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. 6 رواه بهذا اللفظ: الحاكم: المستدرك (4/494) وقال: صحيح على شرط مسلم، والخطيب في تاريخ بغداد (3/82) . 7 مجلة المنار (9/290، و14/99-103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 مع نطق العدد دون تكرار اللفظ: كأن يقال: سبحان الله ألف مرة، والحمد لله ثلاثا، أو نحوه، لأن ذلك يقضي – إذا سلم- أنه يجوز أن نغير الأذان بأن يقول المؤذن: "الله أكبر أربع مرات، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين" ... وهكذا بذكر لفظ العدد، وما هو إلا قياس شيطاني يراد به إفساد الدين، فهو قول باطل لا يلتفت إليه ... "1. د) - الكشف الصوفي: من أصول الدين الإسلامي أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ... } 2 وأن الخلق مهما كانت منزلة أحدهم لا يصل إلى معرفة الغيب إلا من شاء الله يطلعه على ما شاء من ذلك. قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 3. ولكن الصوفية خالفوا آيات الكتاب وادعوا علم الغيب وسموا ذلك كشفا. وهو لفظ عام يدخل تحته أمور: منها رؤية النبي يقظة، وكذلك الأولياء بعد موتهم، والرؤى في المنام، والإلهام والفراسة والهواتف، وخرق الحجب الحسية، وإطلاع على المغيبات بعين البصر أو البصيرة4. وجعل الصوفية الكشف من كمصادر تلقي الدين عندهم5. ولقد رد الشيخ هذا الأصل الصوفي، وهذه الدعوى الواهية، فقال: "لم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الكشف من الدلائل الشرعية أو من مآخذ الأحكام الدينية، ولا يقبل أحد من المتكلمين ولا من المحدثين، ولا من الفقهاء الاحتجاج بحديث لم تصح روايته بالطرق المعروفة في علم   1 المصدر نفسه (7/463-164) وقارون مع الوكيل: هذه هي الصوفية (ص: 141) وما بعدها. 2 سورة النمل، الآية (65) . 3 سورة الجن، الآية (26) . 4 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/313) . 5 انظر: صادق سليم: المصادر العامة للتلقي عند الصوفية (ص: 183) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 الحديث ممن يدعي أنه صح من طريق الكشف، فهذا الكشف الذي يتحدث به الصوفية، شيء لا يثبت به حكم شرعي ولا دليل حكم شرعي كالحديث، ولو جعلنا الكشف حجة شرعية لما كانت دلالة الشرع محصورة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه وتلقوه عنه أصحابه الذين هم خيرة هذه الأمة وهم لم يقولوا بهذا الكشف ولم يحتجوا به ... "1. وعن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وتلقي الأحكام عنه، وهو بعض ما يدعيه الصوفية –يقول الشيخ رضا "وأما ما نقله ... من استشارة الأئمة المجتهدين للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة في كل ما أثبتوه، ومن القول بعصمتهم فهما من الباطل الذي لا يقبله إلا الخرافي الجاهل ثم إن الذين ادعوا أنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة ويسألونه عن الأحاديث المروية عنه وعن الأحكام والحقائق يختلفون في كل ذلك اختلافا يدور بين النفي والإثبات والحلال والحرام والكفر والإيمان فكيف يمكن أن تصح دعواهم؟ ... "2. وهذه حجة صحيحة، فإن الاختلاف والتناقض دليل البطلان، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 3. وأما دعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم –بعد موته- فهي دعوى بلا دليل، وهي لم تقع لأحد من الصحابة على حبهم له. يقول الشيخ رشيد: "وأما مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة أي رؤية روحه الشريفة القدسية متشكلة بصورته الكاملة الجسدية، فقد اختلف العلماء فيها4، فنفاها قوم وأثبتها آخرون ممن يدعونها أو يصدقون من ادعاها من الصوفية، ومن الثقات من قال بإمكان   1 مجلة المنار (10/349) . 2 مجلة المنار (26/736-737) . 3 النساء، الآية (82) 4 لم يقل أحد من العلماء الثقات المعتبرين بجواز رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ولا قال أحد منهم بوقوعها، وإنما هو قول الخرافيين والدجالين من الصوفية ونحوهم. انظر: ابن حجر: فتح الباري (12/م400-402) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 حصولها في حال بين النوم واليقظة ... "1. ويعتمد مدعو رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، على حديث: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" 2. الحق أن هذا الحديث تفسيره الرواية الأخرى وفيها: "فكأنما رآني في اليقظة" 3 وكلاهما في الصحيح. وأما أخذ الرواية الأولى على ما يذهب إليه الصوفية فهو مشكل جداً، "ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، وبعكر عليه أن جمعاً جماً رأوه في المنام قم لم يذكر واحد منهم رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يختلف"4، وفي توجيه الرواية أوجه أخرى، كلها تدل على غير ما يريده الصوفية5. فالصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى في اليقظة ويرى في المنام كما دلت الأحاديث ولكن ليس ذلك دليلا شرعيا يترتب عليه أحكام شرعية كما يدعي الصوفية، وأما ما ادعاه بعضهم من رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة، فهو إن كان ممن لا يتعمد الكذب فهي من الرؤية الخيالية لا من الرؤية الحقيقية، وكما يقول الشيخ رشيد:" إنها لا تتضمن أخذ شيء عنه ينافي القرآن أو غيره من أصول الشريعة أو فروعها القطعية"6. إن الشيخ رشيد رحمه الله إذ يقرر أن "الكشف ضرب من علم الغيب   1 مجلة المنار (26/736) ، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام لا بد أن تكون على الصفة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في حياتهو فليس كل من رأى شخصاً يكون قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون رآه على صفة صحيحة كما في كتب وروايات المحدثين. 2 انظر: السيوطي: تنوير الحالك (2/50) ، وابن حجر الهيثمي: الفتاوى الحديثية (ص:212) ، والحديث عند البخاري: الصحيح، ك: التعبير، باب: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ح: 6993 (12/399) مع الفتح. 3 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الرؤيا، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني"، ح: 2261 (4/1775) ، وانظر: ابن حجر: فتح الباري: () 12/400 وما بعدها. 4 ابن حجر: الفتح: نفس الصفحة، و (12/402) . 5 المصدر نفسه والصفحة. 6 مجلة المنار (26/737) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 في الظاهر"1، وأن البحث في مسألة رؤية النبي يقظة هو بحث "علمي لا ديني إذ الدين لم يكلفنا باعتقاد أن الناس يرون الأرواح المجردة ولكن نقل ذلك عن كثير من الناس ..... واختلف فيه هل هو حقيقي أو خيالي، أو في حالة بين اليقظة والنوم، وأن له طريقا صناعية –أي التخيل- وأن هذا أمر مبهم، هو في ذلك كله يواجه ما ادعاه الصوفية من الكشف برؤية النبي يقظة وغيره "ويجب القطع ببطلان كل ما ينقل في هذه الحالة عن روح النبي صلى الله عليه وسلم وغيره .... "2. هـ) - الزهد الصوفي: لقد جاء القرآن بكل ما فيه صلاح النفس الإنسانية لتبلغ كمالها وسعادتها باتباعه، و"إن في إخلاص التوحيد وصدق الإيمان وطيب الإحسان فيما أنعم الله به لواحة وريفة الظل ... "3. وليس فوق هداية القرآن وإصلاحه للنفس هداية وإصلاح {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} 4. ولكن الصوفية لم تكفهم آيات الكتاب المنزلة للهداية وإصلاح حال البشرية، فابتدعوا طريقا آخر لإصلاحها، فوضعوا قوانين رياضية لتهذيب النفس، بل لتعذيب النفس، حتى تصل – بزعمهم- إلى كمالها. وسموا ذلك: "زهدا". وزهد الصوفي هو: "بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل: هو ترك راحة الدنيا طلبا لراحة الآخرة. وقيل: هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك"5. وأما الزهد السني، فهو ترك ما لا ينفع في الآخرة، وقصر الأمل، وليس الزهد بأكل أنواع من الطعام دون أنواع، ولا لبس شيء مخصوص   1 المصدر نفسه (7/500) . 2 المصدر نفسه (26/737) . 3 عبد الرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية (ص:136) . 4 سورة الجاثية، الآية (6) . 5 الجرجاني: التعريفات (ص:102) ومع ذلك فقد وجد لكثير من "زهاد" الصوفية مدخرات وأموال كثيرة بعد وفاتهم وانكشاف ثرواتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 من الثياب1. أما الزهد الصوفي فليس من شريعة الإسلام، بل فيه القضاء على الفرد وعلى الجماعة. وأصله مأخوذ من ديانات الوثنية الذين بنوا دينهم على تعذيب النفس لتهذيبها2. ولقد عارض الشيخ رشيد هذه الفلسفة الصوفية ووصفها بالغلو، واعتبر أن سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هي المثل الأعلى، وأن الصوفية وشيوخهم "لم يبلغوا مد أحدهم ولا نصيفه"3، ووصف هذه الفلسفة الصوفية بأنها "فلسفة خيالية من خيالات وحدة الوجود البرهمية الهندية، قد شغل بها أفراد عن فطرة الله وشرعه معا ... وما إرادة وجه الله تعالى إلا الإخلاص له في كل عمل مشروع من مصالح الدين والدنيا وتحري هداية دينه فيه، لا ما تخيلوه من أن إرادة وجهه تعالى هو الوصول إلى ذاته بعد التجرد من كل نعمة في الدنيا والآخرة جميعا .... "4. وأشار الشيخ رشيد إلى الزهد الصوفي، وإلى الأصل الذي أخذه الصوفية منه، فقال: "وأما ترك الطيبات البتة كما تترك المحرمات تمسكا وتعبدا لله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها، فهو محل شبه فتن بها كثير من العباد والمتصوفة، فكان من بدعهم التركية، التي تضاهي بدعهم العملية، وقد اتبعوا فيها سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، كعبادة بني إسرائيل ورهبان النصارى، وهؤلاء أخذوها من بعض الوثنيين كالبراهمة الذين يحرمون جميع اللحوم ويزعمون أن النفس لا تزكو ولا تكمل إلا بحرمان الجسد من الذات، وقهر الإرادة بمشاق الرياضات ... "5. ويرى الشيخ رشيد أن هدي القرآن كاف في تزكية النفس الإنسانية وتربية الإرادة فيقول:" وحسبنا منه ما شرعه الله لنا من الصيام وهو مما   1 ابن القيم: مدارج السالكين (2/10) . 2 انظر: الوكيل: المرجع السابق (ص:138) وما بعدها. 3 تفسير المنار (2/239) وأيضا (7/26) . 4 المصدر نفسه (2/239) . 5 المصدر نفسه (7/19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 يدخل في عموم التقوى في هذا المقام ... فالصيام رياضة بدنية نفسية وجمع بين حرمان النفس من لذاتها لقصد التربية وبين تمتعها بها توسلاً إلى شكر النعمة والقيام بالخدمة ... "1. ويبين الشيخ رشيد وسطية هذا الدين في هذا الجانب فيقول: " ... إن هدى القرآن في الطيبات أي المستلذات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال والتزام الحلال ... "2. ومن حيث الدليل، فإنه لا يوجد دليل يحتج به هؤلاء المتصوفة على وجوب الجوع من السعة، إصلاحا للنفس وتهذيبا لها، ولذلك فإنهم عندما يأتي وقت الاستدلال يعدلون عن الاستدلال بالكتاب والسنة إلى ذكر وقائع وأحوال لا يحتج بمثلها في دين الله. يقول الشيخ رشيد: "أعوز هؤلاء النص على دعوى كون الغلو في التقشف من الدين، فتعلقوا ببعض وقائع الأحوال من سيرة فقراء السلف الصالح ... "3. ثم ضرب مثلاً لذلك بما فعل أبو حامد في إحيائه، فإنه لم يجد آية يبدأ بها موضوع "فضيلة الجوع وذم الشبع" فبدأ بحديث أكثرها لا يعرف المحدثون لها أصلا قط، وبعضها ضعيف أو موضوع ... "4. إن التوسط هو ميزة الدين الكبرى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} 5، ومن لم يصلح القرآن والسنة نفسه، فلا صلاح لها، ولا أصلحها الله، ولسنا –إذًا- بحاجة إلى اختراع دين مبتدع لتحقيق ما جاء القرآن لتحقيقه {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} 6.   1 المصدر نفسه (7/30) . 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 المصدر نفسه (7/31) . 4 المصدر نفسه والصفحة، وانظر: الغزالي: إحياء علوم الدين (3/79) دار القلم، بيروت. الثالثة. 5 سورة البقرة، الآية (143) . 6 سورة البقرة، الآية (2) : وانظر: عبد الرحمن الوكيل: المصدر السابق (ص:138) وقارن أيضا مع: محمد علي عبد الرحيم فقد بين الزهد الصوفي مع بيانه بطلان الثاني لنفس المعاني: الأخلاق المحمدية (ص:72-74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 ثانياً: الموالد ومفاسدها: الموالد هي الاجتماعات التي تقام لتكريم الماضين من الأنبياء والأولياء، والأصل فيها أن يتحرى الوقت الذي ولد فيه من يقصد بعمل المولد، وقد يتوسع فيها حتى تتكرر في العام الواحد ... 1 ولا ريب لأن الاجتماع على هذا النحو يسمى عيداً، فالعيد اسم جنس لما يعتاد من المكان أو الزمان2. وهذه الأعياد – الموالد - هي من الأعياد الزمانية والمكانية المبتدعة، لأنها أيام لم تعظمها الشريعة، ولا فضل لها فيها أصلاً، لا مكانا ولا زمانا3. ومن هذه الأعياد - الموالد - المبتدعة، هو ما اتخذ مشابهة للنصارى من الاحتفال بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف الناس في مولده صلى الله عليه وسلم فإن هذا لم يفعله أحد من السلف ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وكانوا أحق به منا4. وقد واجه الشيخ رشيد هذه الظاهرة البدعية بكل سبيل وطالب بإزالتها، وإزالة ما فيها من منكرات وبين مساوئها وما يحدث فيها من مخالفات للشريعة. فعن انتشار هذه البدعة وتتابع الناس عليها وما يصحبها من منكرات قال: "ولقد تشوهت سيرة مدعي التصوف في هذا الزمان وصارت رسومهم أشبه بالمعاصي والأهواء من رسوم الذين أفسدوا التصوف من قبلهم،،وأظهرها في هذه البلاد الاحتفالات التي يسمونها "الموالد" ومن العجيب أن تبع الفقراء في استحسانها الأغنياء فصاروا يبذلون فيها الأموال العظيمة زاعمين أنهم يتقربون بها إلى الله تعالى، ولو طلب منهم بعض هذا المال لنشر علم أو إزالة منكر أو إعانة منكوب اضنوا به وبخلوا ... "5.   1 علي محفوظ: (ص:250-251) . 2 انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم (2/442 و531) . 3 المصدر السابق (2/615) . 4 المصدر نفسه (2/613 و654) . 5 تفسير المنار (2/74-75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 وأما المنكرات التي تصحب هذه الاحتفالات "الدينية" فيقول عنها الشيخ رشيد: "فالموالد أسواق الفسوق، فهي خيام للعواهر وحانات للخمور، ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات المتهتكات العاريات، ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل، يقصد بها إضحاك الناس ... "1. ولم يقتصر الاشتراك في هذه المفاسد على عامة الناس وسقطتهم وأهل الجهل منهم –بل- وبكل أسى لقد تجاوز الأمر ذلك إلى من ينتسبون إلى العلم –كما يقول الشيخ رشيد-: "ويرى بعض كبار مشايخ الأزهر يتخطون هذا كله لحضور موائد الأغنياء في السرادقات، والقباب العظيمة التي يضربونها وينصبون فيها الموائد المرفوعة ... ويهنئ بعضهم بعضا بهذا العمل الشريف في عزفهم ... "2. هذه الحالة التي وصلت إليها هذه الاجتماعات بلغت مدى بعيدا في الفساد، فسماها الشيخ رشيد "مفاسد لا موالد"3. ويتحدث عن خطورة مشاركة العلماء للجهلاء في هذه الموالد أو المفاسد فيقول: " ... وأضر البدع وأشدها إغواء وضررا مل يحضره صنف من علماء الدين لأن يكون هذا غشا للناس يجعلهم يعتقدون بأن البدعة شريعة دينية ... فيحتج الجهلاء بهم على إماتة السنة وإحياء البدعة ... "4. ويقرر الشيخ رشيد أن عمل المولد للنبي صلى الله عليه وسلم بدعة كغيره، " ... إن عمل الموالد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة الصالح من أهل القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ومن زعم بأنه يأتي في هذا الدين بخير مما جاء به   1 المصدر نفسه والصفحة، وأيضا: انظر: تصوير الشيخ لمنكرات الموالد. مجلة المنار (1/93-98) واقتراح لإزالتها، المصدر نفسه (1/100-101، 112-119) . 2 تفسير المنار (2/75) ووانظر: مجلة المنار (8/221) . 3 مجلة المنار (4/594) . 4 المصدر نفسه (3/664) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرى عليه ناقلو سنته فقد زعم أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤد رسالة ربه ... وأما القيام عند ذكر وضع أمه له صلى الله عليه وسلم وإنشاد بعض الشعر أو الأغاني في ذلك فهو من جملة هذه البدع ... "1. ولقد كان الشيخ رشيد يهيب بالعلماء والمصلحين بأن ينكروا هذه البدع وما يحدث فيها من مفاسد، ولكنه كان مما يلقى عنتا وشدة في دعوته تلك، وكان يأمل دائما أن تزال هذه المنكرات، ولو بالتدريج، إلا أنه يعلن أسفه لاستمرار هذه البدعة وعدم إنكار العلماء في عصره لها فيقول: "قد احتفل في الأسبوع المنصرم بهذا المولد الاحتفال المعتاد، فكان أكثر بدعاً ومنكرات مما سبقه على غير ما كنا نتوقع من مبادرة علماء الدين إلى السعي في محو هذه الفضائح بالتدريج عاما بعد عام ... "2. ولقد زادت مفاسد هذه الموالد بعد الشيخ رشيد وإلى اليوم، ولا يزال يختلف إليها العدد الكبير ويزدحمون فيها كما يزدحمون في الحج، ويلبسون الثياب التي يلبسونها إلا في الأعياد الدينية، وترتكب في هذه الاحتفالات - الدينية - كل الموبقات، رغم أنه احتفال بمولد نبي أو صالح، ولكنه من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين3. ثالثاً: بدع الأيام والشهور: ذكرت أن الأعياد المبتدعة، تكون مكانية وزمانية، ويشمل هذا كل ما لم يعظمه الشرع ولم يأمر بتعظيمه من الأماكن والأيام، فمن البدع الاحتفال بيوم لم يحتفل به الشرع4، ومن ذلك الاحتفال بشهر رجب، وتخصيصه   1 مجلة المنار (29/665-666) باختصار، وانظر أيضا (2/288) وما بعدها، و (3/664) . 2 مجلة المنار (3/427) . 3 انظر وصفا قريبا للموالد يشبه ما يحدث اليوم: عند الجبرتي: التاريخ، ط. دار الجيل، بيروت، الثانية، 1978م (1/304) ، وانظر أيضا: علي محفوظ: الإبداع (ص:250-252) ونفس هذه الآراء عند أنصار السنة، انظر: محمد علي عبد الرحيم: مصدر سابق: (ص:110 و165) . 4 انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم (2/613) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 بصلاة وصيام كتعظيم أول خميس منه، وصلاة الرغائب فيه1. فأما الصلاة في رجب فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل، وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه2. وفي مناسبة شهر رجب من كل عام كان الشيخ رشيد رحمه الله ينبه قراءه على البدع في هذا الشهر، ففي عدد السبت (6 رجب سنة 1317هـ) ، عقد الشيخ رشيد فصلاً بعنوان "بدع رجب" ومما قال فيه: "لا تحضر في هذا الشهر جمعة في مسجد إلا وتسمع فيها الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر حتى منبر الأزهر ... وقد اتفق علماء الحديث على أن ما روي في صيام رجب موضوع أو واه لا أصل له، ونذكر بعض الأحاديث الموضوعة في رجب وصومه للتحذير منه.."3. ثم ذكر بعض الأحاديث وأورد كلام أهل العلم عليها، ثم قال: "وأقبح من هذه الأكاذيب أكذوبة صلاة الرغائب ... "4، ويضيف أهل مصر لهذه البدع منكرات أخرى فإنهم "يذهبون رجالا ونساء وأطفالا إلى المقابر فيبيتون في القصور المبنية عليها، يأكلون ويشربون ويهلون ويلعبون ... "5. وفي رجب 1318هـ فعل الشيخ نفس الشيء6. وفي نفس السنة نبه الشيخ رشيد على بدع شعبان فقال: "سيصدر هذا   1 المصدر نفسه والصفحة. وصلاة الرغائب: صلاة مخصوصة تؤدى في أول جمعة من رجب، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة، لذلك لم يذكرها المتقدمون. انظر: ابن رجب: لطائف المعارف (ص:228) . 2 ابن تيمية: المصدر نفسه والصفحة. وابن رجب: لطائف المعارف (ص:228) . 3 مجلة المنار (2/559-560) . 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 المصدر نفسه والصفحة. 6 المصدر نفسه (3/617) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 الجزء من المنار في إثر الاحتفالات بليلة النصف من شعبان وهو من مواسم البدعة التي ينسبونها إلى الشرع وليست منه ... "1. وفي العدد السادس من المجلة يقول عن ليلة النصف من شعبان: إن اتخاذ هذه الليلة موسما من مواسم الدين من البدع الحادثة في القرون المتوسطة ... "2، وذكر من هذه البدع دعاء مخصوصا يقرأ في هذه الليلة. وقال في العدد الرابع عشر: " ... وجملة القول أن الشعائر التي تقام في ليلة النصف من شعبان ليس لها أصل صحيح في الكتاب ولا في السنة ... وإن هذه العبادات والمتصوفة، وأنكرها المحدثون والفقهاء لعدم ثبوت أصلها، ولأن الله تعالى قد أكمل الدين فمن زاد فيه كمن نقص منه، كلاهما مبتدع ... "3. وأما شهر رمضان هو وإن كان زمانا قد عظمه الشرع وخصه بمزيد فضل، إلا أنه كذلك قد ناله نصيب وحظ مما ناله سابقيه من البدع. فلم تسلم عبادة من عبادات هذا الشهر من بدعة فيها4. كما أنه أورد بعض الأحاديث الموضوعة في هذا الشهر5. ومن البدع التي أنكرها الشيخ في هذا الشهر ترك بعض الصلوات، كالمغرب والعشاء "والصلاة أفضل من الصوم بالإجماع"6، وكذلك أنكر على من يتفلت من عبادة الصوم إلى اللهو واللعب، بل وربما ذهب بعضهم إلى أماكن الحرام كالحانات والمراقص7، ومن الأشياء التي أنكرها في رمضان انتشار الوعاظ الجهلاء حتى في المساجد الكبرى8.   1 مجلة المنار (3/665) . 2 المصدر نفسه (6/724) . 3 المصدر نفسه (14/254-256) . 4 المصدر نفسه (3/711) . 5 المصدر نفسه والصفحة. 6 مجلة المنار (3/753) . 7 المصدر نفسه والصفحة. 8 المصدر نفسه والصفحة. وأيضا (3/711 و3/789) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 ومن البدع كذلك، ما يدخل في سماع القرآن، وهو من خصائص هذا الشهر، إلا أنه دخل فيه من البدع رفع الصوت فيه فيشوش على المصلين، وقراءته بألحان أهل الفسق كالمغنين والعازفين، دون الاعتبار بمعانيه والاهتداء بهديه"1. رابعاً: بدع المساجد: ومن البدع التي أنكرها الشيخ رشيد بدع المساجد، ومنها ما يحدث في أقدم مساجد مصر، وهو جامع عمرو بن العاص، أو الجامع العتيق، ومنها: تعظيم الصلاة فيه إلى آخر جمعة من رمضان، ومنها: عزف الموسيقى في ذلك اليوم وإحضار الأشجار الصغيرة والرياحين في المحراب والمنبر، ومنها: ضرب العامة لأحد أعمدة هذا المسجد بناء على أسطورة كاذبة، ومنها: التبرك بمنبر فيه، ومنها: " ... أنهم جعلوا فيه قبرا كسائر مساجد مصر يزدحم الرجال والنساء للتبرك به" وغيرها من البدع2. ومن البدع التي تحدث في المساجد وأنكرها الشيخ جلوس النساء تحت المنبر للاستشفاء3، ومنها: ما يحدث من المنكرات في المسجد المنسوب للحسين بن علي - رضي الله عنهما -4، وإلى السيدة زينب بنت الحسين - رضي الله عنهما-5. ومن البدع التي أنكرها الشيخ رشيد - وكانت في مهدها لم تزل- إلا أنها نمت الآن بفعل عوامل كثيرة - فلم تنكر، بل ينكر على من ينكرها، بدعة التبرج في نساء مصر6.   1 مجلة المنار (3/754) . 2 المصدر نفسه (3/793-794) وأسطورة العمود هي: زعمهم أن كل أعمدة المسجد جاءت من الحجاز تسعى بنفسها يسوقها عمرو بن العاص رضي الله عنه إلا هذا العمود فإنه قد عصى. انظر: مجلة المنار (3:794) . 3 المصدر نفسه (7/501-502) . 4 المصدر نفسه (2/72، و23/221) . 5 المصدر نفسه والصفحة. 6 مجلة المنار (8/517) ، وأيضا: (8/819) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 ومنها كذلك – وقد استقرت كسابقتها - بدعة التشبه بالأوروبيين1. ومنها كذلك، وهي آخر ما أورده هنا - بدعة الزار2.   1 المصدر نفسه (1/550) . 2 المصدر نفسه (1/561-566 و6/288 و293) ولم أجد تعريفا للزار، وهو: احتفال تصحبه بعض الآلات الموسيقية ويكون صاخبا وغالبا حضوره من النساء وغرضه التقرب إلى الجن وعمل ما يرضيهم لإخراجهم. انظر: الوكيل: دعوة الحق (ص:107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 الفصل الخامس: منهج رشيد رضا في إثبات القدر تمهيد ... تمهيد: الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يصح الإيمان إلا به، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1 وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 2 وقال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عندما سأله جبريل عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره، وشره" 3. والإيمان بالقدر على درجتين: الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال. ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأول ما خلق الله القلم، قال له: "اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة" 4، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أ×خطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 5 فهذه الدرجة تشتمل على مرتبتين: العلم والكتابة. وأما الدرجة الثانية: فالإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه   1 سورة القمر، الآية (49) 2 سورة الأحزاب، الآية (38) 3 رواه مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح:8. 4 رواه أبو داود: السنن: ك: السنة، باب: في القدر، ح: 4700، والترمذي: السنن: في القدر، ح: 2316، وأحمد المسند (5/ 317) 5 سورة الحج، الآية (70) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 سبحانه على كل شيء قدير، وما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره ولا رب سواه، لا فرق في ذلك بين أفعال العباد وغيرها، قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1 وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم. فهذه الدرجة تشتمل على مرتبتين: الإرادة والمشيئة، والخلق والتكوين 3. وأفعال العباد داخلة ـ كما هو ظاهر ـ في المرتبة الرابعة، فالله تعالى خالق أفعال العباد، والعباد فاعلون حقيقة. وعلى هذا الاعتقاد كان إجماع السلف 4. والدرجة الأولى في الإيمان بالقدر ـ العلم والكتابة ـ قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً ـ وهم الذين حكم السلف بكفرهم ـ 5 ومنكروه اليوم قليل 6. والدرجة الثانية: الإرادة والخلق، هي التي يكذب بها عامة القدرية، مجوس هذه الأمة، فيقولون إن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، والله تعالى لا يخلقها، ولا يريد منهم إلا الطاعة، فتغلب إرادتهم إرادته 7. ويحسن الآن أن نعرض لأقوال الفرق في القدر:   1 سورة التكوير، الآية (28 ـ29) 2 سورة الصافات، الآية (96) 3 انظر لتقرير هذا المعنى: ابن تيمية: العقيدة الواسطية [ضمن مجموع الفتاوى: 3/ 148 ـ 149] ، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى (8/ 63 ـ 64) 4 انظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 55) وما بعدها، وعبد الله بن أحمد: السنة (2/ 385) وما بعدها، واللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 589) ، وابن منده: الإيمان (1/ 136) وما بعدها، وابن بظة: الإبانة: القدر (1/ 235) وما بعدها، وابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 66 و78 و3/ 112) وما بعدها، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 111) وما بعدها ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1407هـ. 5 انظر: ابن تيمية: الواسطية [ضمن مجموع الفتاوى] (3/ 149) ، والإيمان: (ص: 364) ظ. المكتب الإسلامي، وعبد الله بن أحمد: السنة (2/ 385) 6 ابن تيمية الواسطية [ضمن مجموع الفتاوى] (3/ 149) 7 انظر: ابن تيمية: المصدر السابق (3/ 150) ، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 80) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 وأبدأ أولاً بتحرير محل النزاع: فقد ذهب الذين كانوا ينكرون الدرجة الأولى في الإيمان بالقدر وهي: العلم والكتابة. وهم الذين كانوا يقولون: إن الأمر أنف، أي: مستأنف، ويقصدون بذلك: أن الله تعالى أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار؛ أي أنه مستأنف العلم بالسعيد والشقي، ويبتدئ ذلك من غير أن يكون قد تقدم بذلك علم ولا كتاب 1. وكما قلت؛ فقد ذهب هؤلاء وصار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم والكتابة، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق 2. ولذلك أصبح التعبير عن هذه المسألة بـ "خلق أفعال العباد" ومعناه: الخلاف في كون الله تعالى هو المريد لها، الطاعات والمعاصي، والخالق لها، أم أن المؤثر فيها هو فقط إرادة العباد وخلقهم؟ ولدينا في الإجابة على هذا التساؤل ثلاث اتجاهات، الأول: المعتزلة القدرية، والثاني: الجبرية، والثالث: مذاهب التوسط. وسبب خلاف المختلفين، هو أن لدينا مسألتان متعارضتان في الظاهر، الأولى: ما دلت عليه أدلة الشرع وأيدته البداهة، من أن الإنسان يقدم على ما يفعله مختاراً غير مكره، ولذلك فإنه سيحاسب عليه. قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} 3 وقال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 4. والمسألة الثانية: هي ما دل عليه الدليل من أن إرادة الله تعالى ومشيئته وخلقه وراء عمل الإنسان. قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5 وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 6، وقد جمعت هاتين المسألتين في آية واحدة هي: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ   1 ابن تيمية: الإيمان (ص: 364) 2 المصدر نفسه (ص: 369) 3 سورة التوبة، الآية (105) 4 سورة النجم، الآية (31) 5 سورة التكوير، الآية (29) 6 سورة الأنعام، الآية 112) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 تَعْمَلُونَ} 1 فذهب كل فريق إلى ترجيح إحدى المسألتين على الأخرى، والأخذ ببعض الأدلة في سبيل تأييد دعواه وترك البعض الآخر، وأعرض الآن وباختصار إلى أقوال هذه الفرق، تمهيداً لمعرفة منهج رشيد رضا في هذا الباب. أولاً: المعتزلة: ذهبت المعتزلة إلى أن إرادة الإنسان هي المتصرفة وحدها في أفعاله، وأنه هو الخالق لها، لذا فهو المسؤول عنها والمحاسب عليها، وأنها خارجة عن إرادة الله تعالى وخلقه، ولا تدخل تحت قدرته، فالله سبحانه لا يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً، ويريد ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يريد 2. فزعموا أن في المخلوقات ما لا تتعلق به قدرة الله تعالى وإرادته ومشيئته وخلقه. واستدلوا بأدلة من العقل على مذهبهم هذا 3. ولم ينكر المعتزلة العلم الأزلي، ولكنهم قالوا: إنه غير ملزم بل هو صفة كشف ـ فقط ـ عن العلوم. وكذلك: لم تنكر المعتزلة أن القدرة التي يخلق بها العبد فعله هي من الله تعالى، وقالوا: هي قدرة واستطاعة قبل الفعل، صالحة للضدين 4. وأدلة الكتاب والسنة متواترة على بطلان هذا المذهب. قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 5، وهذا عام لا يخرج منه شيء من العالم أعيانه وأوصافه وأفعاله وحركاته وسكناته 6، قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 7،   1 سورة النحل، الآية (93) 2 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 332) ، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 91) ، وزهدي حسن: المعتزلة (ص: 92) 3 انظر: عبد الجبار: المصدر نفسه (ص: 334 ـ 335 وص: 355 ـ 382) 4 عبد الجبار: المصدر نفسه (ص: 398) ، وزهدي حسن: مصدر سابق (ص: 95) ، ومصطفى صبري: موقف البشر (ص: 35 ـ 36 وص: 41) ، وانظر: عبد الله بن أحمد: السنة (2/ 386) 5 سورة، الآية (4) 6 انظر: ابن القيم: شفاء العليل (ص: 99) 7 سورة البقرة، الآية (284) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 وأفعال العباد أشياء ممكنة والله قادر على كل ممكن 1، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 2 وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 3 إلى آيات كثيرة تدل على هذا المعنى. ثانياً: الجبرية: وبينما وقفت الجبرية على هذا الطرف، ورجحت هذا الجانب، وقفت الجبرية على الطرف الآخر ورجحت الجانب الثاني. فقالوا: إن إرادة الله تعالى هي المتصرفة وحدها وهو الخالق لأفعال العباد، وهم لا إرادة لهم ولا اختيار بل هم مجبورون على أعمالهم، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيهم على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليهم الأفعال مجازاً، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتجرك الشجر، وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً جبر 4. ولا شك أن الجبرية أحق بالذم من المعتزلة وهم داخلون معهم في اسم "القدرية" وإن كان مذهب الجبر أشد فساداً وأسوأ لازماً، إذ أنه مبطل للشرائع، مسقط للأمر والنهي 5. ثالثاً: مذاهب التوسط: ولقد آثرت هذه التسمية، لأن هذه المذاهب حاولت التوسط بين قول المعتزلة الذين ينسبون الفعل إلى إرادة الإنسان وخلقه، وبين الجبرية الذين ينفون إرادة الإنسان: ولدينا هنا مذهبان: الأول: مذهب الأشعرية، والثاني: مذهب الماتريدية.   1 ابن القيم: المصدر السابق والصفحة. 2 سورة الأنعام، الآية (112) 3 سورة البقرة، الآية (253) 4 انظر: مذهب الجبري: الأشعري: المقالات (1/ 338) ، والشهرستاني: الملل والنحل (1/ 72) ، والبغدادي: الفرق بين الفرق (ص: 211) ت: عبد الحميد، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 91) 5 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 103 ـ 105) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 أ) ـ مذهب الأشعرية: والحق أن مذهب الأشعرية في القدر ليس واحداً، وقد تطور المذهب من الأشعري ومروراً بالباقلاني إلى الجويني، والذي استقر عليه مذهبهم ـ بعد إثبات علم الله تعالى وكتابته، وقدرته وإرادته وخلقه 1، أن العباد لهم قدرة وإرادة في الفعل، لكنها غير مؤثرة فيه، بل الله تبارك وتعالى هو الخالق لها وقدرته هي المؤثرة وحدها 2. وإذا كانت قدرة الإنسان ليس لها تأثير بحال، فهي قدرة غير مؤثرة، فحقيقة مذهب الأشعرية هو الجبر إذ أن القدرة غير المؤثرة كلا قدرة، ويسمي الأشعرية مذهبهم هذا بمذهب الجبر التوسط، أي الجبر بواسطة الاختيار 3. ب) ـ مذهب الماتريدية: وكما حاول الأشعرية التوسط بين المعتزلة والجبرية، إلا أن القدر لم يساعدهم فحالوا إلى الجبر، فقد حاول كذلك الماتريدية التوسط، إلا أنهم مالوا إلى المعتزلة. فبالرغم من إقرار الماتريدية بعلم الله تعالى وإرادته وخلقه لأفعال العباد 4، إلا أنهم قالوا بوجود إرادة جزئية للعبد يوجه بها فعله المترجح بالإرادة الكلية، نحو جانب معين. وهذا هو نقطة الفرق بينهم وبين الأشعرية، فالإرادة عند الماتريدية تنقسم إلى إرادة كلية هي مخلوقة لله تعالى، وهي اسم لصفة الإرادة التي من شأنها ترجيح أحد المقدورين على الآخر، وإلى إرادة جزئية غير مخلوقة لله، وهي ـ كما فسروها ـ تعلق تلك الصفة ـ الإرادة الكلية ـ بجانب معين، فالجزئية تأتيها من تعينها بتعين متعلقها 5،   1 انظر: الباقلاني: التمهيد (ص: 317) ، والبغدادي: أصول الدين (ص: 134) ، والشهرستاني: الملل ولانحل (ص: 84 ـ 85) 2 انظر: الباقلاني: المصدر السابق (ص: 347) ، والبغدادي: المصدر السابق (ص: 133 ـ 134) ، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 122 ـ 123) 3 انظر: مصطفى صبري: موقف البشر (ص: 50 و 56) ، وحاشية الدواني على العقائد العضدية (1/ 262) وما بعدها، ت: سليمان دنيا. 4 انظر: اللامي: التمهيد لقواعد التوحيد (ص: 97) 5 انظر: مصطفى جبري: موقف البشر (ص: 56 ـ 57) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 وهذه الإرادة الجزئية هي من قبيل الحال المتوسط بين الموجود والمعدوم 1. وقد أقر متأخرو الماتريدية بأن مذهبهم هو مذهب المعتزلة الذي ما زال يعيش تحت اسم "الماتريدية" 2. وقبل أن أنهي هذا التمهيد أحب أن أشير مرة أخرى لمذهب أهل السنة وهو: أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، م ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والعبد مأمور بطاعة الله منهي عن معصيته، وكل ذلك بقدر الله تعالى، ولا حجة لأحد على الله تعالى 3. وأهل السنة يأخذون كل دليل صحيح من الفريقين ـ القدرية والجبرية ـ فالحق الذي مع الجبرية هو كل دليل صحيح يدل على قدرة الرب ومشيئته، وكل دليل صحيح مع المعتزلة فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم قائم بهم واقع بقدرتهم. وإحداث الله تعالى لأفعال العباد بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بالعبد، وإحداث العبد لها بمعنى أنه حدث منه هذا الفعل القائم به بالقدر والمشيئة التي خلقها اله فيه، فجهة الإضافة مختلفة 4. وبهذا يزول الإشكال: فإنه يقال: الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له، إذا كان قد جعلها صفة لغيره كما أنه سبحانه لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان 5. ويبقى الآن أن أبين منهج رشيد رضا في هذا الباب. لقد تحدث رشيد رضا عن القدر كثيراً، ولكنه كان حديثاً متناثراً، فحاولت أن أجمعه وأرتبه، ليجتمع لي قدراً كافياً منه، أستطيع من خلاله تصور موقفه من القدر.   1 المصدر نفسه (ص: 57) 2 صرح بهذا: زاهد الكوثري، وهو ماتريدي. انظر: مصطفى جبري: موقف العقل (3/ 392) 3 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 63 ـ 64) بتصرف. 4 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (3/ 240ـ 241) 5 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 123) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 المبحث الأول: موقف رشيد رضا من الفرق في القدر ... اتخذ رشيد رضا موقفاً رافضاً لموقف الفرق المختلفة في القدر، بدءاً من القدرية الأولى التي أنكرت العلم إلى المعتزلة التي أثبتته وأنكرت حجيته كما أنكرت الإرادة. ومروراً بالجبرية إلى الأشعرية الذين تمذهبوا بمذهب الجبر مع تبرئهم من اسمه. كما رفض طريقة المتكلمين النظرية في هذه المسألة ـ كما رفضها في غيرها من المسائل ـ. يشير رشيد رضا أولاً إلى أن عقيدة القدر لها شأن عجيب، لأن عامة الناس أعلم بها من المتكلمين لأنها "بديهية عوملت معاملة النظريات، والبديهي كلما زاد البحث فيه بَعُد عن الإدراك ... " 1. والسبب في ذلك "أن علماء الكلام سلكوا الطريقة النظرية العقلية في الرد على المخالفين من الملاحدة والمبتدعة، ورد الأشاعرة على المعتزلة والقدرية والجبرية. والمسائل النظرية مثار الشبهات والإشكالات وبذلك دخلت مسألة القضاء والقدر في قالب فلسفي نظري وكثر فيه القيل والقال، والقرآن فوق ذلك كله، ... وإنما هي مباحث فلسفية تتعلق بقدرة الله وإرادته وبخلق الإنسان وغرائزه ... ولا يوجد مذهب من المذاهب التي قال بها فلاسفة المسلمين من أهل الكلام والتصوف إلا وقد قال بمثلها غيرهم ويقول بها بعض علماء أوربة اليوم ... " 2.   1 مجلة المنار (3/ 491) 2 المصدر نفسه (12/ 197) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 ولذلك فإن هذه المسألة ليست خاصة بالمسلمين وحدهم بل وجدت هذه المسألة في الأديان القديمة والفلسفات السابقة على الأديان، فالسؤال عن القدر وارد على جميع أهل الملل والفلسفة لأنه مسألة قديمة منذ خلق الإنسان، لذلك فإن رشيد رضا يرد على من يعد القدر شبهة على دين الإسلام، فإنه ليس كذلك، ولو كان كذلك لكان شبهة على كل ذين وكل فلسفة 1. ولا ريب أن الحل الإسلامي لمسألة القدر وبيان القرآن له لا يدع للملحد قولاً. وبين رشيد رضا نشأة الكلام في القدر عند المسلمين، وأشار إلى بدعة القدرية الأولى التي نفت علم الله تعالى، وزعمت أن الأمر أنف أي: "أن الله تعالى يستأنف ويبتدئ ما يريد إيجاده، كل شيء في وقته" 2. كما كان من مذهبهم "أن الإنسان إذا فعل شيئاً فإنما يفعله أنفاً أيضاً من غير أن يكون لله تعالى علم سابق بذلك ... فالإنسان مستقل بذلك تمام الاستقلال" 3. وأشار رشيد رضا إلى أن هذه البدعة قد حدثت في عصر الصحابة وأن أول من تلقاها هو "معبد الجهني" 4 وأنه أخذ هذه المقالة عن رجل مجوسي اسمه "سيسويه" 5 وذكر رشيد رضا أن السلف كفر هذه الفرقة 6. ثم إن المتأخرين من القدرية ـ وهم المعتزلة ـ أقروا بالعلم ـ كما يقول ـ: "إن المتأخرين منهم اعترفوا بأن لله تعالى علماً أزلياً بالأشياء ولكنهم أنكروا أن يكون له إرادة تتعلق بأفعال العباد مع أن معنى الإرادة هو وقوع الفعل من العالم على حسب علمه" 7 ويعني بذلك أنهم متناقضون في إثباتهم العلم وإنكارهم للإرادة.   1 انظر: مجلة المنار (12/ 197 ـ 198) 2 المصدر نفسه (12/ 196) 3 المصدر نفسه. 4 هو: معبد بن عبد الله الجهني ـ نزيل البصرة، وأول من تكلم بالقدر زمن الصحابة، في عداد التابعين، وكان من علماء الوقت على بدعته. الذهبي: السير (14/ 185) 5 مجلة المنار (12/ 196) وقارن مع: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 591) 6 مجلة المنار (12/ 196) ، وقارن مع: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (4/ 707 ـ715) 7 مجلة المنار (12/ 196) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 ثم يتحدث عن الجبرية – بعد ما أشار إلى مذهب القدرية – فيقول: "غلا أولئك فوقفوا في طرف وعبدوا الله على حرف فجاء بعدهم آخرون وقفوا على الطرف المقابل لطرفهم, وهم الجبرية, فقالوا: إن الإنسان ليس له عمل ولا قدرة, وإنما هو كالريشة المعلقة في الهواء تحركها رياح الأقدار, من غير أن يكون لها إرادة ولا اختيار ... "1. وأما الحجة التي احتجت بها القدرية, فهي العلم الثابت في الكتاب, ولكن رشيد رضا يجيب على هذه الشبهة بقوله: "إن تعلق العلم أو الإرادة بأن فلانا يفعل كذا, لا ينافي بأنه يفعله باختياره, إلا إذا تعلق العلم بأنه يفعله مضطرا كحركة المرتعش ... وبهذا صح التكليف, ولم يكن التشريع عبثاً, وتبين من هذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم ولم يسم باسمهم, قد غفلوا عن معنى الاختيار ... "2. ولأن مذهب الجبر أسوأ أثر من مذهب القدرية, فإن رشيد رضا يخصه بمزيد من عنايته, فيقول مبينا لأثره السيئ في الأمة: " ... كان بين المسلمين طائفة تسمى الجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار ... ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع الفلسفة الفاسدة ... "3 , ويقول: "أولئك هم الجبرية الذين نزعوا من الأمة روح النشاط والعمل ورموها في هاوية الخمول والكسل, حتى داستهم بقية الأمم وكادت تبلعها بلاليع العدم ... "4. ومن الأبيات التي ينشدها الجبرية لأنها تصور مذهبهم قول بعضهم: ما حيلة العبد والأقدار جارية ... عليه في كل حين أيها الرائي ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك إياك أن تبتل الماء ويرد رشيد رضا على هذا البيت قائلا: "هذا القائل يخاطب الرائي وهو لا يرى, فإنه اكتفى بما في خياله عما تحت نظره إذ يرى العبد يحتال   1 المصدر نفسه. 2 المصدر نفسه (3/510) . 3 مجلة المنار (3/269) . 4 المصدر نفسه (3/494) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 وهو لا يسأل ما حيلته, والأقدار هي التي جعلته يحتال ويعمل كما هو مشاهد. ومنه أن بعض الناس ألقوا أنفسهم في اليم ومنهم من لم يلقها, ولو كانت الأقدار حكمت على كل إنسان يلقى في اليم مكتوفا لكانوا كلهم سواء وما هم بسواء ... "1. والذين تمذهبوا بمذهب الجبر وتبرأوا من اسمه هم الأشعرية, وقد اتخذ رشيد رضا موقفا معارضا لما ذهبوا إليه, وحمل على مذهبهم وبين فساده, فبعد أن يورد مذهب السلف الصالح نقلا عن مصادرهم, يقول مخاطبا قراءه: "أوردنا هذا الكلام هنا للذين لا يعرفون من كتب العقائد إلا كتب متأخري الأشعرية القائلة بأن لا تأثير للأسباب في مسبباتها ولا لقدرة الإنسان في عمله, وأن الله يخلق السبب عند المسبب, وأن العبد كاسب لعمله في الظاهر مجبور عليه في الحقيقة ... "2. ويرد مذهب الجبرية أيضا في قولهم أن الأفعال هي خلق لله تعالى وأنها تنسب للإنسان لأنه محلها فقط, فيقول: "إن أفعاله تسند إليه ويوصف بها لأنها تقوم به وتصدر عنه, لا لأنه محلها ... "3. ويرشد رشيد رضا قراءه بأن لا يلتفتوا لهذا الجدال والفلسفة التي تقع بين المعتزلة والأشعرية4 ويعد هذا الجدال من سوء الأدب مع الله تعالى. ويرى أن هذه الطريقة وتلك الفلسفات هي التي أفسدت عقيدة العامة من المسلمين المتأخرين, الذين اختلط عليهم الأمر, فترى في كلامهم ما يدل تارة على القدر وتارة على الجبر لاضطراب عقائدهم بسبب هذه الفلسفات, وأنهم أصبحوا في المسائل المتعلقة بإقامة الدين جبرية, وفي المسائل المتعلقة بالدنيا قدرية5.   1 المصدر نفسه (8/23-24) . 2 مجلة المنار (9/110) . 3 تفسير المنار (8/286) . 4 المصدر نفسه (3/230 و8/50) . 5 مجلة المنار (12/197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 وأما المذهب الحق في رأي رشيد رضا ـ في مسألة القدر ـ وفي كل مسألة فهو مذهب السلف الصالح 1. لقد حاول رشيد رضا أن يقرر مذهب السلف في القدر، وقد نجح في أغلب الأحيان، وتعثر قليلاً، ولكنه في كل حال، كان معتمداً على الكتب التي تبين مذهب السلف في هذه المسألة مرجحاً لها لا لغيرها من كتب المتكلمين، داعياً إلى الاكتفاء بها والرجوع إليها، دون كتب هؤلاء المتكلمين 2.   1 انظر: مجلة المنار (12/ 195 ـ 196) وتفسير المنار (8/ 50) 2 انظر: مجلة المنار (9/ 81 ـ 110) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 المبحث الأول: تعريف القدر: لغة وشرعا ً المطلب الأول: تعريف القدر لغة ... المطلب الأول: تعريف القدر لغة: تتكون هذه الكلمة من ثلاثة أحرف أصلية صحيحة تدل على "مبلغ الشيء وكنهه ونهايته" 1، ويتفرع عن هذه المعاني الأصلية معان نوعية مناسبة للمعاني الأصلية: فالقدْر: مبلغ كل شيء. يقال: قدْره كذا: أي مبلغه وكذلك القَدَر. وقدرت الشيء أقْدِرُه وأَقْدُرُه من التقدير، وقدّرته أقدِّرُه، والقدْر: قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها الله. وهو القَدَر أيضاً 2. وأما شرعاً، فهو: كما بينت أول الفصل أنه يعني: الإيمان بعلم الله تعالى السابق، وكتابته وإرادته ومشيئته وخلقه لأفعال عباده مع إثبات قدرتهم المؤثرة في هذه الأفعال 3.   1 ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (5/ 62) 2 المصدر نفسه (ص: 63) ، وانظر أيضاً: الأزهري: تهذيب اللغة (9/ 18 ـ 19) ، وابن منظور: لسان العرب (5/ 79) 3 انظر: ابن القيم: شفاء العليل (ص: 55) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 لقد عرف رشيد رضا القدر وكذلك القضاء متتبعاً ورودها هذين اللفظين في القرآن الكريم. ولكنه قبل ذلك أشار إلى ملاحظة هامة هي: أن السلف رحمه الله كانوا يعرفون هذه المسألة بمسألة "القدر" ثم إنها اشتهرت بعد ذلك باسم "القضاء والقدر" 1. وإنني على أهمية هذه الملاحظة لم أستطع إلى أول من أدخل هذه الإضافة في التسمية. ثم بين رشيد رضا معنى القدر ـ والقضاء ـ في القرآن فقال: "القَدْرُ بفتح الدال وسكونها، والمقدار والتقدير، ألفاظ وردت في القرآن بمعنى: جعل الشيء بمقياس مخصوص أو وزن محدود أو وجه معين يجري على سنة معلومة، فهي داخلة في معنى النظام والترتيب ... " 2. ثم طفق يستدل على ذلك بآيات الكتاب العزيز، ومنها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} 3، قال: "أي بمقدار معين له نظام" 4. وقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} 5 قال: "أي: بمقدار ما يسعه كل وادٍ من الماء" 6، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} 7، والمعنى ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ: "أي: أن لكل شيء من مخلوقاته سنناً ونواميس ومقادير منتظمة كسنته في حمل الإناث وعقمها، وزيادة علوق الأرحام ونقصها.."8. ويفعل رشيد رضا نفس الشيء فيما يتعلق بالـ "قضاء" فيتتبع معانيه في الكتاب قائلاً: "ورد القضاء بمعنى الفصل في الحكم في الشيء قولاً أو   1 انظر: رشيد رضا: مجلة المنار (12/ 193) 2 مجلة المنار (12/ 194) 3 سورة المؤمنون، الآية (18) 4 مجلة المنار (12/ 194) 5 سورة الرعد، الآية (17) 6 مجلة المنار (12/ 194) 7 سورة الرعد، الآية (8) 8 مجلة المنار (12/ 194) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 فعلاً، وبمعنى الإعلام به، وبمعنى إتمام الشيء وإنهائه" 1، ثم يستدل بآيات الكتاب على هذا، ومنها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 2 قال: " أي حكم بذلك قولاً في كتابه المنزل على رسوله" 3. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 4 قال: "أي يحكم ويفصل بالفعل" 5. وقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} 6 أي: "الإعلام بذلك والإخبار بوقوعه" 7. وذكر الشيخ رشيد أن هذا اللفظ ورد بمعنى المشيئة 8، واستشهد بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 9 ثم أشار إلى أن هذا المعنى ورد بلفظ الإرادة 10، وتلا قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 11. وأما العلاقة بين "القضاء والقدر" فيذهب رشيد رضا إلى أنهما يدلان على معنيين مختلفين، فيرى أن القضاء هو: " ... تعلق علم الله وإرادته ـ قولان ـ في الأزل لأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه المكنة، والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل" 12.   1 مجلة المنار (12/ 193) ، وقارن مع الراغب: المفردات (ص: 674) قضى. 2 سورة الإسراء، الآية (23) 3 مجلة المنار (12/ 193) 4 سورة النحل، الآية (78) 5 مجلة المنار (12/ 193) 6 سورة الحجر، الآية (66) 7 مجلة المنار (12/ 193) 8 المصدر نفسه. 9 سورة البقرة، الآية (117) 10 مجلة المنار (12/ 194) 11 سورة يس، الآية (82) 12 مجلة المنار (3/ 513) ، وانظر: تفسير المنار (4/ 195) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 وللعلماء في العلاقة هذه أقوال أخرى، منها عكس ما ذكره رشيد رضا، ومنها الترادف 1.   1 انظر: الراغب: المفردات (ص: 675) "قضى"، وانظر: السفاريني: لوامع الأنوار (1/ 345) ط. على نفقة آل ثاني. والجرجاني: التعريفات (ص: 151 و 155) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 المطلب الثاني: الإيمان بالقدر شرعا ً: ويبين الشيخ رشيد معنى الإيمان بالقدر ـ بعد أن يستبعد كعادته طريق المتكلمين ونظرياتهم لأن "دين الفطرة لا يكلف الناس عناء هذه الفلسفة" 2 ـ فيقول: " هو أن الله تعالى خلق كل شيء بحكمة ونظام وقدر سابق على الفعل تجري عليه السنن العامة" 3. ويقول في موضع آخر: "إن الله خلق كل شيء بقدر ونظام، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه إذا قضى أمراً وأراده يقع بلا تخلف ولا بطءٍ، وأن له سنناً ونواميس ينبغي لهم أن يعرفوها وأن لأعمالهم جزاءً هو أثر طبيعي لها، يكون بعضه في الدنيا وتمامه في الآخرة ... " 4. وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وتؤمن بالقدر خيره وشره" 5 قال: "إن كلاً من الخير والشر يجري في الكون بمقادير وموازين وسنن وأسباب اقتضتها الحكمة البالغة ... " 6. وبعد أن يورد عدداً من الآيات ليستشهد بها على إثبات القدر ـ ومنها قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 7 يعلق قائلاً: "فعلم من هذه الشواهد كلها أن عقيدة القدر والمقدار والتقدير في كتاب الله ـ هي التي   2 مجلة المنار (12/ 199) 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه (ص: 200) 5 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 8. 6 مجلة المنار (12/ 200) 7 سورة الفرقان، الآية (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 تعلم المؤمنين بهذا الكتاب أن لهذا الكون نظاماً محكماً وسنناً مطردة، ارتبطت فيها الأسباب بالمسببات، وأنه ليس في خلق الرحمن خلل ولا تفاوت، ولا فيه قذفات مصادفات ولا خلل استبداد، وأنه لا استئناف في الإيجاد والإمداد ... " 1. ورغم أن كلام رشيد رضا يتضمن عناصر هامة في معنى القدر والإيمان به، إلا أنه يبدو ناقصاً بعض الأركان التي أشرت إليها، وهي: العلم السابق والكتابة والإرادة والخلق. إلا أن رشيد رضا لا ينكر شيئاً من ذلك. فهو ينكر على القدرية الأولى عدم اعترافهم بالعلم السابق ودعواهم أن الأمر أنف: أي مستأنف أو كما يقول رشيد رضا "أن اله يستأنف ويبتدأ ما يريد إيجاده كل شيء في وقته ... " 2. كما أنه ينكر على المتأخرين منهم إنكارهم لإرادة الله تعالى ـ مع إثباتهم العلم ـ مع أن "الإرادة هي وقوع الفعل من العالم على حسب علمه" 3. فإذاً يثبت رشيد رضا هذين العنصرين الهامين في تعريف القدر: وهما: العلم والإرادة، حتى إنه يقول: إن البحث في هذا الموضوع ـ القدر ـ هو من توابع البحث في العلم والإرادة الإلهية 4. فمن أثبت القدر أثبت هذين العنصرين. ولذلك فنحن بحاجة لمعرفة موقف رشيد رضا من عناصر القدر الأربعة التي ذكرتها وهي: العلم والكتابة والإرادة والخلق.   1 مجلة المنار (12/ 195) 2 المصدر نفسه (12/ 196) 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه (3/ 490) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 المبحث الثالث: بيان رشيد رضا لأركان القدر المطلب الأول: العلم ... سبق أن ذكرت أن الإيمان بالقدر يكون على درجتين تشتمل على أربع مراتب، أو أركان: العلم والكتابة والإرادة والخلق. وقد أثبت رشيد رضا هذه المراتب كما يلي: المطلب الأول: العلم: لقد أثبت رشيد رضا العلم السابق، وإن الناس قد قسموا بموجب هذا العلم إلى شقي وسعيد، ورد أقوال المعتزلة في العلم، كما رد أقوال الجبرية في احتجاجهم بالعلم على الجبر، فقال في إثبات العلم: "أما علم الله تعالى فهو قديم بقدمه، أزلي بأزليته، فالقسمة فيه قديمة أزلية أيضاً" 1. ويعني بذلك قسمة الناس إلى شقي وسعيد. ويقول في موضع آخر: "القدر وقوع الشيء على حسب العلم، والعلم لا يكون إلا مطابقاً للواقع، وإلا كان جهلاً، أو: الواقع غير واقع، وهو محال ... " 2. لقد كان المعتزلة الأولون ينكرون علم الله السابق، إلا أن المتأخرين   1 مجلة المنار (12/ 544) 2 تفسير المنار (4/ 195) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 منهم أقروا به ثم تناقضوا ـ في رأي رشيد رضا ـ عندما أقروا بالعلم وأنكروا الإرادة 1، وفي كلامه الذي نقلته آنفاً رد على القدرية الذين أقروا بالعلم ولكنهم أنكروا حجيته في مسألة القدر 2. وأما الجبري فإنهم يحتجون بالعلم على الجبر، فيرد عليهم رشيد رضا بقوله: "إن تعلق العلم والإرادة بأن فلاناً يفعل كذا لا ينافي أنه يفعله باختياره، إلا إذا تعلق العلم بأنه يفعله مضطراً كحركة المرتعش، ولكن أفعال العباد اختيارية، أي: بإرادة فاعليها لارغماً عنهم، وبهذا صح التكليف، ولم يكن التشريع عبثاً، وتيبن من هذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم ولم يسم باسمهم، قد غفلوا عن معنى الاختيار ... " 3. وما ذهب إليه رشيد رضا من إثبات العلم هو الصواب، والعلم هو حجة أهل السنة على القدرية 4. والذين أشار إليهم رشيد رضا بأنهم يقولون بالجبر مع التبرأ من اسمه هم الأشعرية، وقد سبق بيان مذهبهم، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان موقف رشيد رضا من الفرق في القدر.   1 مجلة المنار (12/ 196) 2 انظر: عبد الله: السنة (2/ 438) 3 مجلة المنار (3/ 510ـ 513) ، وقارن مع ابن القيم: الشفاء (ص: 60) 4 انظر: عبد الله السنة (2/ 385 ـ 386) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 المطلب الثاني: الكتابة : أثبت رشيد رضا الكتابة الإلهية التي ترتبط مع العلم، في درجة واحدة، فقد عرفها رشيد رضا لغة وشرعاً وبين علاقتها بالعلم ثم بين الحكمة من هذه الكتابة. عرّف رشيد رضا الكتابة فقال: "الكتابة عبارة عن ضبط العلم بالشيء، والعلم نفسه لا يتعلق بالأشياء تعلق إيجاد وتكوينن وإنما يتعلق بها تعلق انكشاف وإحاطة، فلا إجبار ولا تحتيم، وإنما يكتب الشيء على ما يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 عليه" 1.ولقد سبق بيان رشيد رضا لوجه كون العلم حجة على القدرية، وما يقال في العلم يقال في الكتابة كذلك. ويستدل رشيد رضا بآيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الكتابة. فمن الآيات التي استدل بها قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2، قال: "وفي معنى هذه الآية التي نفسرها آيات" 3. ثم قال: "جمهور علماء الإسلام على أن هذه الآيات كلها في معنى واحد فسرتها الأحاديث التي نورد أشهرها" 4، ثم أورد بعض الأحاديث، ومنها: حديث "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب ـ فهو عنده فوق العرش ـ: إن رحمتي غلبت غضبي" 5، ومنها: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" 6، ومنها: "أول ما خلق الله القلم ثم قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة" 7. ثم قال: "ومذهب السلف أن تؤمن بالقلم الإلهي واللوح المحفوظ، وما كتب في اللوح من مقادير الخلق وإحصائه جميع ما كان ويكون في هذا العالم من بدء تكوينه إلى يوم القيامة من غير أن نحكم آراءنا وأقيستنا في صفة شيء من ذلك ... " 8. وعن حكمة هذه الكتابة يقول: وإذا كان من حكمته أن جعل لهذا   1 مجلة المنار (14/ 424) 2 سورة الأنعام، الآية (59) 3 تفسير المنار (7/ 470 ـ 471) 4 المصدر نفسه. 5 رواه البخاري: الصحيح، ك: بدء الخلق، باب: ما جاء في قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده..} ، ح: 3194. 6 رواه مسلم: الصحيح، ك: القدر، ح: 16 (2653) 7 رواه أبو داود: ك: السنة، باب في القدر، ح: 4700. 8 تفسير المنار (7/ 470 ـ 471) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 الملك العظيم الذي يدار بأعلى درجة من التقدير والتنظيم، عرشاً عظيماً هو مصدر التدبير، أفلا يكون من كمال الحكمة والإتقان أن يكون لذلك كتاب مبين هو مظهر ذلك النظام والتقدير، كما يعهد للمالك المنظمة من كتب النظم والقوانين؟ بلى، ولله المثل الأعلى ... "1. وهذا التوجيه من الشيخ رشيد لا يتعارض مع أوجه أخرى لحكمة الكتابة رويت عن السلف. إن كتابة المقادير في الأزل ثم كتابة الملائكة لأفعال العباد بعد وقوعها ثم مقارنة هذين الكتابين ـ يوم القيامة ـ فلا يرى بينهما اختلافاً في حرف واحد لهو مما يبين قدرة الله تعالى وعلمه المحيط بكل شيء، وكفى بذلك حكمة 2.   1 تفسير المنار (7/ 477 ـ 478) 2 انظر: ابن القيم: الشفاء (ص: 13) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 المطلب الثالث: الإرادة : وقد أثبت رشيد رضا أيضاً الإرادة وقد سبق أن ذكرت أنه اعتبر البحث في القدر من قبيل البحث في العلم والإرادة، وقال: "ثبت بالبرهان أن قدرة الله تعالى منصرفة في الممكنات عن إرادة واختيار ... " 3، وقال في موضع آخر: "إرادة الله تعالى لا تتغير ولا تقبل الفسخ لأنها عن علم تام ... وقدرة الله متصرفة في كل ممكن ... " 4، وينكر رشيد رضا على متأخري القدرية الذين أقروا بالعلم السابق ولكنهم "أنكروا أن يكون له تعالى إرداة تتعلق بأفعال العباد، مع أن معنى الإرادة ووقوع الفعل من العالم على حسب علمه ... " 5. ومع إثباته لإرادة الله تعالى المؤثرة في أفعال العباد يثبت رشيد رضا إرادة الإنسان أيضاً المؤثرة في أفعاله، فإن الله تعالى "خلق   3 مجلة المنار (3/ 510) 4 المصدر نفسه (3/ 511) 5 مجلة المنار (12/ 196) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 الإنسان قادراً مريداً فاعلاً بالاختيار ... وأن أفعاله تستند إليه ويوصف بها لأنها تقوم به وتصدر عنه باختياره ... " 1. ومع ذلك فإن الإنسان "غير تام القدرة ولا الإرادة ولا العلم" 2. وبهذا فارق رشيد رضا المعتزلة القائلين بعدم قدرة الله على أفعال عباده وإرادته لها، والأشعرية المنكرين لتأثير إرادة الإنسان ويعيب عليهم قولهم: "بأن لا تأثير للأسباب في مسبباتها ولا لقدرة الإنسان في عمله ... " 3. وهذه المرتبة ـ مرتبة الإرداة والمشيئة ـ قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه وأدلة العقول والعيان، وليس في لاوجود موجب ومقتضى إلا مشيئة الله وحده وإرادته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن 4.   1 تفسير المنار (8/ 56) 2 المصدر نفسه (4/ 195) 3 مجلة المنار (9/ 81) 4 انظر: ابن القيم الشفاء (ص: 80) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 المطلب الرابع: الخلق : وخلق الله تعالى لكل شيء متفق عليه بين الرسل وعليه جميع الكتب الإلهية، والفطرة والعقول والاعتبار، وخالف في ذلك مجوس هذه الأمة فأخرجوا طاعات عباده عن ربوبيته ومشيئته وخلقه، وجعلوهم هم الخالقين لها، ولا تعلق لها بمشيئة الله تعالى وخلقه 5. وعن هذا الركن الهام من أركان القدر يقول رشيد رضا مثبتاً له: "إننا نؤمن بأن الله تعالى هو خالق كل شيء بقدرته وإرادته، واختياره وحكمته ... " 6. ويقول في موضع آخر: "وهنا أمران كل منهما ثابت في نفسه:   5 المصدر نفسه (ص: 91) 6 الوحي المحمدي (ص: 232) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 أحدهما: أن الله خالق كل شيء، وثانيهما: أن هذا النوع من المخلوقات الذي يسمى الإنسان يعمل أعماله بقصد واختيار ولكنه غير تام القدرة ولا الإرادة ولا العلم ... " 1. وهذا هو الصحيح فإن إرادة الإنسان ومشيئته تابعة لإرادة الله تعالى ومشيئته {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. ولكن كيف يجمع رشيد رضا بين الحقيقتين اللتين كانت سبب الخلاف بين المعتزلة والأشعرية، ورجح كل فريق منهم جانباً منها ـ كمت أشرت في التمهيد لهذا الفصل ـ؟ يقول رشيد رضا جواباً على هذا السؤال: "وجملة القول أن الله تعالى خالق كل شيء وأنه يخلق بقدر ونظام وحكمة وسنن، لا أنفاً ولا جزافاً ولا عبثاً وأنه حكيم في خلقه وأمره ... وأنه خلق الإنسان قادراً مريداً فاعلاً بالاختيار ... وأن أفعاله تستند إليه ويوصف بها لأنها تقوم به وتصدر عنه باختياره، لا لأنه محلها، وتنسب إلى مشيئة الله من حيث انه هو الخالق له بهذه الصفات، والمعطي له هذا التصرف والاختيار ... " 3. ويقول: "ومعنى خلقه تعالى للأشياء بقدر وتقديره لكل شيء: أنه خلقها بنظام جعل فيها الأسباب على قدر المسببات عن علم وحكمة ولم يخلق شيئاً جزافاً ولا أنفاً كما يزعم منكرو القدر ... " 4. والحق أن الشيخ رشيد قد تعثر في هذا الموطن الصعب. إن المعتزلة لم ينكروا الأسباب ولم ينكروا أن القدرة التي يقوم بها الإنسان بأعماله هي من الله تعالى، إنهم يرون أن الإنسان يعمل بقدرة من الله سبحانه 5، ولكن الخلاف في خلق الله تعالى لأفعال العباد الاختيارية على الحقيقة مع أنها واقعة منهم بالبداهة: وأهل السنة يقولون: "إن كل ما في الوجود مخلوق له تعالى، خلقه بمشيئته وقدرته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي   1 تفسير المنار (4/ 195) 2 سورة التكوير، الآية (29) 3 تفسير المنار (8/ 56) 4 المصدر نفسه (8/ 286) 5 انظر: زهدي حسن: المعتزلة (ص: 92 ـ 95) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويفقر ويغني، ويضل ويهدي، ويسعد ويشقي، ويشر صدر من يشاء للإسلام، ويجعل صدر من يشاء ضيقاً حرجاً 1، قال تعالى: { ... وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2 فقد جعل الأصنام منحوتة معمولة لهم وأخبر أنه خالقهم وخالق معمولهم، فإن "ما" ههنا بمعنى الذي، والمراد: خلق ما تعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقاً للمعمول وفيه أثر الفعل، دل على أنه خالق لأفعال العباد 3. ومن ناحية أخرى، فإن المعتزلة سلموا أن الله تعالى قد يخلق في العبد كفراً وفسوقاً على سبيل الجزاء، كما في قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 4، وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} 5، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 6، ثم من المعلوم أن هذه المخلوقات تكون فعلاً للعبد وكسباً له يجزى عليها ويستحق الذم عليها والعقاب، وهي مخلوقة لله تعالى، فالقول عند أهل الإثبات فيما يخلقه ابتداءً كالقول فيما يخلقه جزاءً من هذا الوجه 7. فإن قيل هذا قول من يقول: هي فعل للرب وفعل للعبد. قيل: إنها مفعولة للرب لا فعل له، إذا فعله ما قام به، والفعل عند أهل السنة غير المفعول، فهي مفعولة للرب وهي فعل للعبد، كما يقولون في قدرة العبد: إنها قدرة للعبد مقدورة للرب، لا أنها نفس قدرة الرب. وفي إرادة العبد هي إرادة العبد مرادة للرب 8.   1 ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 78) 2 سورة الصافات، الآية (96) 3 ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 17) 4 سورة الأنعام، الآية (110) 5 سورة البقرة، الآية (10) 6 سورة الصف، الآية (5) 7 ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 124) 8 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (3/ 240) وما بعدهان وابن القيم: الشفاء (ص: 92 ـ 93) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 المبحث الرابع: القدر والأسباب وكما ظهر من تعريف الشيخ رشيد للقدر، فإنه يربط بين القدر والأسباب ربطاً قوياً، حتى جعل الأسباب أو "السنن" داخلة في تعريفه له. فالقدر والتقدير "عبارة عن النظام العام في الخلق الذي تكون فيه الأشياء بقدر أسبابها بحسب السنن، والنواميس العامة التي وضعها الخالق لها، لا ما اشتهر عند الجماهير من الناس من أن المقدر ما ليس له سبب، أو ما يفعله الله على خلاف النظام والسنن، ... ولا يحيط بأسباب الحوادث علماً إلا خالقها ومقدر سببها وسننها" 1. ويقول في موضع آخر تأكيداً لهذا المعنى: "والقدر عبارة عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده" 2. ومشيئة الله تعالى في خلقه إنما تكون على وفق هذا المبدأ "مبدأ السببية" وعلى وفق السنن التي وضعها الله تعالى للخلق، يقول الشيخ رشيد: "فجاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة، وطرائق قويمة، فمن سار على سننه في الحرب ـ مثلاً ـ ظفر   1 الوحي المحمدي (ص: 233) 2 تفسير المنار (5/ 253) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 بمشيئة الله وإن كان ملحداً أو وثنياً، ومن بها خسر وإن كان صديقاً أو نبياً ... " 1. وبتفصيل أكثر، وتمثيل، يشرح لنا الشيخ رشيد هذه المسألة، فيقول: "إن للأسباب مسببات لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق، وأن لله تعالى أفعالاً خاصة به، فطلب المسببات من أسبابها ليس من اتخاذ الأنداد في شيء ... مع اعتقادنا بأن الأسباب كلها من فضل الله علينا ورحمته بنا، إذ هو الذي جعلها طرقاً للمقاصد وهدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر. لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحب من الأرض بغير عمل منهم أخذاً بظاهر قوله: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 2 وإنما يهديهم إلى القيام بجميع الأعمال الممكنة لإنجاح الزراعة ... وأن يتكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم ... " 3. وتتعلق مشيئة الله تعالى بالأسباب والسنن، وتنفذ على وفقها، فإذا أراد الله تعالى شيئاً خلق له أسباباً، بها يقع، وعلى وفقها يكون، وهذا على عكس ما يظنه كثير من الناس. يقول الشيخ رشيد في هذا: "إن من الناس من يظن أن معنى إسناد الشيء إلى مشيئة الله تعالى هو أن الله تعالى يفعل بلا سبب ولا جريان على سنة من سننه في نظام خلقه، وليس كذلك، فإن كل شيء بمشيئة الله تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} 4 أي: بنظام وتقدير موافق للحكمة ليس فيه جزاف ولا خلل، فإيتاؤه الملك لمن يشاء بمقتضى سننه إنما يكون بجعله مستعداً للملك في نفسه، وبتوفيق الأسباب   1 المصدر نفسه (4/ 141) 2 سورة الواقعة، الآية (64) 3 تفسير المنار (2/ 66) 4 سورة الرعد، الآية (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 لسعيه في ذلك ... " 1. "نعم إذا أراد الله إسعاد أمة جعل ملكها قوياً لما فيها من الاستعداد للخير حتى يغلب خيرها على شرها فتكون سعيدة، وإذا أراد الله إهلاك أمة جعل ملكها مقوياً لدواعي الشر فيها حتى يغلب شرها على خيرها، فتكون شقية وذليلة، فتعدو عليها أمة قوية، فلا تزال تنقصها من أطرافها، وتفتات عليها في أمورها، أو تناجزها الحرب، حتى تزيل سلطانها من الأرض، يريد الله تعالى ذلك فيكون بمقتضى سننه في نظام الاجتماع، فهو يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء بعدل وحكمة، لا بظلم وعبث ... " 2. ولدينا في هذا المثال آية واضحة في كتاب الله، تؤيد ما ذهب إليه الشيخ رشيد، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 3. وما هذا إلا مثال فقط على تعلق مشيئة الله تعالى بالأسباب، وإلا فإن كل قدر إلهي ومشيئة؛ تنفذ بالأسباب التي يخلقها الله تعالى. فكتب الله الجنة لأهل الجنة بالأسباب، بأ يسرهم لعمل أهل الجنة فيكونوا من أهلها، وكتب النار على أهل النار فيعملون بعمل أهل النار فيكونوا منهم. والله تعالى هو الخالق للأسباب، وهو الذي يوفق لها، لمن كتب له الخير فيوفقه لأسباب الخير، وهكذا كل قدر قدره الله يكون بقدر الله وعلى أساس مبدأ السببية، فيرفع العلم بقبض العلماء 4، وقبض العلماء سبب طبيعي لقبض العلم، ويهلك الأمم بخلق أسباب الهلاك لها، ويسعدها بخلق أسباب السعادة لها، كما مثل الشيخ رشيد، ويعز من يشاء بأسباب العز، ويذل بأسباب الذل.   1 تفسير المنار (3/ 478) 2 المصدر نفسه (3/ 479) 3 سورة الإسراء، الآية (16) 4 انظر: البخاري: الصحيح، ك: العلم، باب: كيف يقبض العلم، ح: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 وآيات القرآن تذل بوضوح على نفاذ مشيئة الله تعالى وفق مبدأ السببية، كما يظهر من قصة يوسف عليه السلام، وكيد الله تعالى له، وفي قصة موسى مع فرعون، وفي سائر القرآن الكريم تظهر هذه المسألة بوضوح. وفي الأمور الكونية كذلك، فيخلق الله المطر بالسحاب، ويخلق الولد بالنكاح، وينبت النبات بالماء 1. ويحمل الشيخ رشيد على المنكرين للأسباب من القائلين بالجبر الصراح، ومن القائلين به مع التبرؤ من اسمه. فبعد أن نقل كلاماً للسفاريني ولابن تيمية في هذه المسألة، عقب قائلاً: "أوردنا هذا الكلام هنا للذين لا يعرفون من كتب العقائد إلا كتب متأخري الأشعرية القائلة بأن لا تأثير للأسباب في مسبباتها ولا لقدرة الإنسان في عمله، وأن الله يخلق السبب عند المسبب، وأن العبد كاسب لعمله في الظاهر مجبور عليه في الحقيقة، ونعزو هنا إلى الأشعري وكبار أنصاره ليعلموا أن كلام الأشعري ليس نصاً في ذلك وأن أكبر أنصار مذهبه وهم إمام الحرمين والإسفراييني والغزالي قالوا بخلاف ذلك فلم يبق إلا الباقلاني عليه فهل نحصر السنة فيه دون السلف، وسائر أئمة الأشعرية" 2.   1 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 68 ـ 70) 2 مجلة المنار (9/ 81 ـ 110) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 المبحث الخامس: الهدى والضلال : هذه المسألة هي قلب أبواب القدر ومسائله، وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن الهدى والضلال بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه 1. والهداية مراتب: أولها: الهداية العامة، وهي: هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيم حياتها، وهذه هي أعم المراتب. والثانية: هداية البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده، وهذه المرتبة أخص من الأولى لأنها تتعلق بالمكلفين. والثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق، ومشيئة الله لعبده الهداية وخلقه دواعي الهدى 2. ويشير قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 3 وقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 4 إلى المرتبة الأولى. وألى المرتبة الثانية يشير قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 5 وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ   1 انظر: ابن القيم: الشفاء (ص: 117) 2 المصدر نفسه. 3 سورة الأعلى، الآية (1ـ 3) 4 سورة السجدة، الآية (7) 5 سورة فصلت، الآية (17) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} 1، فقد هداهم تعالى هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء، وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها 2. وأما المرتبة الثالثة، فيشير إليها قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} 3 وقوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4 وهذه المرتبة هي التي أنكرتها المعتزلة 5. ويقرر الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ كأهل السنة ـ وكما صرحت آيات الكتاب العزيز ـ أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. قال الله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 6. قال الشيخ رشيد: "أي من تعلقت مشيئة الله بإضلاله يضلله، ... وإنما إضلاله إياهم اقتضاء سنته في عقول البشر وغرائزهم وأخلاقهم أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه، واتباع من يراه مثله، وإن ظهر له أن الحق معه، وأن يعرض المقلد عن النظر في الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلان تقاليده وإثبات خلافها ... وليس معنى ذلك أن يخلق الله الضلال لمن شاء إضلاله خلقاً، ويجعله له غريزة وطبعاً، ولا أن يلجئه إليه إلجاءً، ويكرهه عليه إكراهاً ... {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي ومن يشأ هدايته واستقامته يجعله على طريق مستقيم، وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه ولا ينجو تاركه، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله في آيات الله المنزلة وآياته المكونة ... " 7.   1 سورة التوبة، الآية (115) 2 ابن القيم: الشفاء (ص: 140) 3 سورة الإسراء، الآية (97) 4 سورة الأنعام، الآية (39) 5 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 357) ، وانظر: ابن القيم: الشفاء (ص: 141) 6 سورة الأنعام، الآية (39) 7 تفسير المنار (7/ 402 ـ 403) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 يعني أن الله تعالى يقدر الهدى والضلال، على وفق مبدأ السببية وارتباط الأسباب بالمسببات. وقد نقل الشيخ رشيد رضا عن شيخه معنى الهداية ومراتبها، فقال: "ذكر الأستاذ الإمام أولاً ما قالوه في معنى الهداية لغة من أنها الدلالة بلطف على ما يوصل إلى المطلوب ... " 1. ثم ذكر أنواعها ومراتبها، فقال نقلاً عنه: "ومنح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته: (أولاها) : هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وتكون للأطفال منذ ولادتهم .... (الثانية) : هداية الحواس والمشاعر وهي متممة لهداية الأولى في الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيها الحيوان الأعجم، بل هو فيها أكمل من الإنسان .... (الهداية الثالثة) : العقل: ... وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه .... (الهداية الرابعة) : ... ، أشار القرآن إلى أنواع الهداية التي وهبها الله تعالى للإنسان في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 2 أي طريقي السعادة والشقاوة والخير والشر. قال الأستاذ الإمام: وهذه تشتمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة وهداية العقل وهداية الدين. ومنها قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 3 أي دللناهم على طريقي الخير والشر، فسلكوا سبل الشر المعبر عنه بالعمى ... " 4.   1 تفسير المنار (1/ 62) 2 سورة البلد، الآية (10) 3 سورة فصلت، الآية (17) 4 تفسير المنار (1/ 64) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 وإن كان الله تبارك وتعالى قد منح هذه الهدايات الأربع لكل فرد من أفراد الإنسان، إلا أن هناك هداية خامسة، هي هداية خاصة لم تمنح للكافة، بل اختص الله تعالى بها بعض خلقه. وهذه الهداية الخاصة وهي هداية التوفيق، هي التي افترق الناس فيها، فأثبتها أهل السنة، وأنكرتها المعتزلة والقدرية، وأثبتها كذلك الشيخ رشيد رضا ـ رحمه الله ـ فيقول: "بقي هنا هداية أخرى وهي المعبر عنها بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1 فليس المراد من هذه الهداية ما سبق ذكره، فالهداية في الآيات السابقة بمعنى الدلالة، وهي بمنزلة إيقاف الإنسان على رأس الطريقين؛ المهلك والمنجي، مع بيان ما يؤدي إليه كل منهما، وهي ما تفضل الله به على جميع أفراد البشر. أما هذه الهداية فهي أخص من تلك، والمراد بها إعانتهم وتوفيقهم للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة، وهي لم تكن ممنوحة لكل أحد كالحواس والعقل، وشرع الدين. ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين، وفي استعمال الحواس والعقل ... كان محتاجاً إلى المعونة الخاصة، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2 فمعنى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} دلنا دلالة تصحبها معونة غيبية من لدنك تحفظنا بها من الضلال والخطأ ... " 3. ثم قال الشيخ رشيد: "هذا الفرق بين معنى الهداية معروف في اللغة، وبه يجاب عن التناقض الظاهري في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4 وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 5 وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي   1 سورة الأنعام، الآية (90) 2 سورة الفاتحة، الآية (6) 3 تفسير المنار (1/ 64 ـ 65) 4 سورة الشورى، الآية (52) 5 سورة القصص، الآية (56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 مَنْ يَشَاءُ} 1 فالهداية التي أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم هي الدلالة على الخير والحق، والتي نفاها عنه هي الثانية التي بمعنى الإعانة والتوفيق" 2. وعند قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 3 يقرر الشيخ رشيد نفس المعنى، مع زيادة بيان وتوضيح، فيقول: " أي ذلك الهدى إلى صراط مستقيم، وهو ما كان عليه أولئك الأخيار مما ذكر من الدين القويم، والفضل العظيم، هو هدى الله الخاص، الذي هو وراء جميع أنواع الهدى العام كهدى الحواس والعقل والوجدان، لأنه عبارة عن الإيصال بالفعل إلى الحق والخير، على الوجه الذي يؤدي إلى السعادة ... " 4. وبهذا البيان الواضح، يظهر لنا أن الشيخ رشيد، وكما هو مذهب السنة يثبت هذه المرتبة التي تفضل الله بها على عباده، وقد أنكرتها المعتزلة والقدرية. وكما أن الله تعالى يهدي من يشاء، فإنه يضل من يشاء، ولكن هذا الإضلال ليس على سبيل الجبر، كما هو مذهب الجبرية، بل هو ـ وكما بين الشيخ رشيد ـ من باب ترتب المسببات على الأسباب والمقدمات على النتائج. "وقد علم مما قررناه أن إسناد الضلال إلى الله تعالى ليس معناه أنه أجبرهم على الضلال إجباراً، وأعجزهم بقدرته عن الهدى فكان ضلالهم اضطراراً لا اختياراً، بل معناه أنهم مارسوا الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى الحد العمه في الطغيان، ففقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما   1 سورة البقرة، الآية (272) 2 تفسير المنار (1/ 64) هامش رقم (1) 3 سورة الأنعام، الآية (88) 4 تفسير المنار (7/ 590) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 يضادها من الهدى والإيمان" 1. "والله تعالى يسند الأمور إلى أسبابها تارة وإليه تعالى تعالى تارة من حيث أنه خالق كل شيء وواضع سنن الأسباب والمسببات، ومن هذه الأسباب ما جعله من أفعال المخلوقات الاختيارية على علم، وما جعله بأسباب لا يعلم للخلق اختيار فيها ولا علم، وكل من القسمين يسند إلى سببه تارة وإلى رب الأسباب تارة، والجهة مختلفة معروفة ... وجملة القول: أن من سننه تعالى في البشر أن من يتبع هواه في أعماله ويستمر على ذلك ويدمنه الزمن الطويل تضعف إرادته في هواه، حتى تذوب وتفنى فيه، فلا تعود تؤثر فيه المواعظ القولية، ولا العبر المبصرة ولا المعقولة، وهذه الحالة يعبر عنها بالختم والرين والطبع على القلب ... وأمثال هذه الأمثال المضروبة لهذه الحالة قد ضل بها الجبرية غافلين عن كونها عاقبة طبيعية لإدمان تلك الأعمال الاختيارية ... " 2.   1 المصدر نفسه (9/ 459) 2 تفسير المنار (9/ 636) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 المبحث السادس: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى انقسم الناس في هذه المسألة إلى فريقين: الأول: من نفى الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، وهم الفلاسفة والأشعرية. والثاني: من أثبت الحكمة والتعليل وهم السلف ومن وافقهم. فالفريق الأول وهم النفاة؛ الفلاسفة والأشعرية، يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل إنه تعالى فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة 1. قال ابن سينا: "فما أقبح ما يقال من أن الأمور العالية تحاول أن تفعل شيئاً لما تحتها ... وأن الأول الحق يفعل شيئاً لأجل شيء وأن لفعله لميّة" 2.وقال شارحه: "وإنما سلب الغاية عن فعل الحق الأول جل جلاله مطلقاً، لأن الفاعل الذي يفعل لغاية فهو غير تام ... " 3. والغرض عندهم "أنه علة تامة بذاته، واحد لا كثرة فيه، ولا شيء قبله ولا معه ولا غاية لفعله، بل هو بذاته فاعل وغاية للوجود كله" 4. فالفلاسفة ينفون الحكمة في أفعاله تعالى لأنه تعالى كامل بذاته، ومن يفعل لغاية فهو غير كامل بذاته، بل يكون مستكملاً بوجود تلك الغاية.   1 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 44) [الإرادة والأمر] 2 الإشارات (3/ 150) 3 الطوسي: شرح الإشارات (3/ 151) 4 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 ولنفس السبب نفى الأشعرية الحكمة والتعليل في أفعاله تعالى ـ أي ينفون لأن تتوقف أفعاله على الحكم بل الحكم مترتبة على أفعاله وحاصلة على عقيبها، فهي ليست مقصودة ومطلوبة بالفعل 1. أما أهل السنة فيقولون: "إنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى" 2. ويذهب الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ كأهل السنة والجماعة ـ إلى أن الله تعالى فاعل مختار، وأن فعله عن علم وحكمة، وأن حكمته موافقة لمشيئته. فقد نقل الشيخ رشيد قول السفاريني 3: "وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة واضطرار لكنه لا يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى 4" ونقل كلام السفاريني ثم علق قائلاً مخاطباً الأشعرية المنكرين للحكمة والتعليل: " أيها الأشعري إنك ترى في هذه الجملة من النقول عن أئمة الأمة ما ينبئك بتحقيق معنى العلة والحكمة، وأن كلاً من المعتزلة والأشعرية أخطأوا من جهة وأصابوا من أخرى، وأن مذهب السنة الصحيح وسط بين المذهبين ... وخلاصة القول: أن العقل والكتاب يدلان على حكمة الله تعالى وعدله ورحمته وفضله كما يدلان على قدرته وإرادته، واختياره، يستحيل عليه أضدادها، فكل أفعاله حكمة ومصلحة للخلق، والحكمة أو   1 انظر: محمد ربيع: الحكمة والتعليل (ص: 61) ، وانظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 397) ، والرازي: المحصل، وقد استوفى ابن القيم شبه النفاة ورد عليها جميعاً بما لا مزيد عليه. انظر: شفاء العليل (ص: 347 ـ 442) 2 ابن القيم: شفاء العليل (ص: 319) 3 سبقت ترجمته (ص:) 4 لوامع الأنوار (1/ 276) ط. على نفقة آل ثاني، بقطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 المصلحة في الفعل تسمى في اللغة: علة، وجاء ذلك في القرآن بحرف التعليل، فاجمع بين العقل والنقل تهتدي السبيل ... " 1. وعلى ذلك سار الشيخ رشيد في تفسيره للآيات، فعند قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2، قال: "أي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين، وإنما مشيئته موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سننه ... " 3. وعند قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4، قال: "فما شرع لكم هذه الأحكام وسواها إلا عن علم بأن فيها الخير لكم وحفظ مصالحكم وصلاح ذات بينكم، كما هو شأنه في جميع أحكامه وأفعاله، كلها موافقة للحكمة الدالة على إحاطة العلم وسعة الرحمة" 5. ويبين الشيخ رشيد الحكمة العليا لخلق جميع المخلوقات فيقول: "اعلم أن الحكمة العليا لخلق جميع المخلوقات هي أن يتجلى بها الرب الخالق لها بما هو متصف به من صفات الكمال ـ ليعرف ويعبد ويشكر ويحمد، ويحكم ويجزي فيعدل، ويغفر ويعفو ويرحم، ألخ، فهي مظهر أسمائه وصفاته، ومجلى سننه وآياته، وترجمان حمده وشكره، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} 6 لذلك كانت في غاية الإحكام والنظام، الدالين على العلم والحكمة والمشيئة والاختيار، ووحدانية الذات والصفات والأفعال ... " 7. وقد كان من مقتضى تحقق معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلى أن   1 مجلة المنار (9/ 23 ـ 34) 2 سورة النساء، الآية (116) 3 تفسير المنار (5/ 150) 4 سورة النساء، الآية (176) 5 تفسير المنار (6/ 111) 6 سورة الإسراء، الآية (44) 7 تفسير المنار (8/ 340) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 يخلق ما علمنا وما لم نعلم من أنواع المخلوقات وأن تكون المقابلات والنسب بين بعضها مختلفة من توافق وتباين وتضاد، ويترتب على ذلك في نظام الخلق أن الضد يظهر حسنه الضد، وأن تكون مصائب قوم عند قوم فوائد ... وجملة القول: إن ما خلقه الله تعالى فهو حسن في نفسه، متقن في صنعه، مظهر لنوع أو أنواع من حكمه في خلقه، ومن كماله في ذاته وصفاته، ولا شيء منه بباطل ولا بشر محض {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} 1 {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 2" 3. وآيات القرآن الكريم المثبتة لحكمة الله تعالى تؤيد ما ذهب إليه السلف ـ رحمهم الله ـ وتابعهم فيه الشيخ رشيد، وهي حجة على منكري الحكمة ونفاة التعليل، ومنها: آيات كثيرة في وصف الله تعالى بالحكمة، كما قال تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 4 { ... إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5 في آيات من ذلك كثيرة 6. والمعنى في ذلك " ... الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء" 7. والعقل يؤيد ذلك ويفرضه، فإن معطي الحكمة ومانحها لا بد أن يكون حكيماً، وفاقد الشيء لا يعطيه.   1 سورة الحجر، الآية (85) 2 سورة ص، الآية (27) 3 تفسير المنار (8/ 341) 4 سورة البقرة، الآية (32) 5 سورة البقرة، الآية (129) 6 انظر: عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن (ص: 214 ـ 215) 7 ابن كثير: التفسير (1/ 71) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 المبحث السابع: الحسن والقبح : ومما يتعلق بمسألة الحكمة والتعليل، مسألة الحسن والقبح العقلي والشرعي. فيذهب المعتزلة إلى أن في الأشياء حسن وقبح عقلي، يدرك بالعقل 1، وذهب الأشعرية إلى أنه لا يوجد في الأشياء حسن وقبح ذاتي يدرك بالعقل، بل الحسن ما حسنه الشرع والقبح ما قبحه الشرع، ولو عكس الشرع ذلك لانعكس ولصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً 2. وهناك قول ثالث ـ وهو الحق ـ وهو: أن الأفعال تتصف بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم، ولكن لا يُعاقِب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة لا بمجرد الدلالة العقلية. قال شيخ الإسلام: "وهذا أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة، قبل مجيء الرسول إليهم، وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم.." 3.   1 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص:564) ، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل (1/39) 2 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص:149 ـ 150) والإيجي: المواقف (ص:) 3 درء التعارض (8/493) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 ويعرض الشيخ رشيد رضا هذه الآراء مشيراً إلى هذه المسألة ـ الحسن والقبح ـ بمسألتي الحكمة والتعليل، مشيراً إلى سبب افتراق المعتزلة والأشعرية في هذه المسألة وهو الغلو، فيقول: " غلت القدرية في مسألة الحكمة في الخلق والتكوين، والأمر والتشريع، وغلت الجبرية في مسألة المشيئة والإرادة، فهؤلاء جوزوا أن تخلو المشيئة عن الحكمة، وأولئك قيدوا مشيئة الرب بما يصل إليه أفهامهم من الحكمة، وإن كان كل منهما يؤمن بالصفتين كلتيهما.."1. ثم يبين الشيخ رشيد أن النزاع في مسألة الحسن والقبح مبني على الخلاف في الحكمة والتعليل، مبيناً مذهب الفريقين، قائلاً: ".. ونزاعهم الطويل العريض في مسألة الحسن والقبح والتحسين والتقبيح مبني على ذلك، فالغلاة في إثباتها قالوا: إن في كل فعل يقع التكليف به فعلاً أو تركاً حسناً أو قبحاً ذاتياً يغرف بالعقل ويأتي بالشرع كاشفاً لحسن المأمور به، وبالنهي كاشفاً لقبح المنهي عنه، ولا يكون شيء حسناً بمجرد الأمر، ولا قبيحاً بمجرد النهي، والغلاة في نفيها قالوا: لا حسن ولا قبح ذاتياً في شيء من الأشياء يكون مناط التكليف، وسببه وسبب ما يترتب عليه من الثواب والعقاب وإنما ذلك بالشرع وحده ... والقول الأول أقرب إلى المعقول والمنقول، ولكن وقع كثير من القائلين به في الإفراط والغلو ... " 2. ويظهر من هذا النقل أن الشيخ رشيد رضا يقول بالحسن والقبح العقلي. وهذا هو الواقع، فإن الشيخ رشيد يذهب إليه ويقول به صراحة ولكنه يشير إلى الفرق بين قول أهل السنة وقول المعتزلة المتفقين معاً في هذه المسألة خلافاً للأشعرية. فأولاً: يعرف الشيخ رشيد المعروف والمنكر، قائلاً: "والمعروف ما تعرف العقول السليمة حسنه، وترتاح القلوب الطاهرة له، لنفعه وموافقته   1 تفسير المنار (8/ 54) 2 المصدر نفسه (8/ 55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 للفطرة والمصلحة بحيث لا يستطيع العاقل المنصف السليم الفطرة أن يرده أو يعترض عليه إذا ورد الشرع به. والمنكر ما تنكره العقول السليمة وتنفر منه القلوب وتأباه على الوجه المذكور أيضاً ... " 1. وهذا التعريف من الشيخ فيه إثبات للحسن والقبح العقلي، ثم يرد الشيخ رشيد تفسير الأشعرية لهذين المصطلحين باضطلاع خاص بهم فيقول: "وأما تفسير المعروف بما أمرت به الشريعة والمنكر بما نهت عنه فهو من قبيل تفسير الماء بالماء ... " 2. ثم بين الفرق بين قوله بالتحسين والتقبيح وبين قول المعتزلة، الموافقة لقوله، فيقول: "وكون ما قلناه يثبت مسألة التحسين والتقبيح العقليين وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشعرية مردود إطلاقه بأننا إنما نوافق كلاً منهما من وجه ونخالفه من وجه اتباعاً لظواهر الكتاب والسنة وفهم السلف لهما، فلا ننكر إدراك العقول لحسن الأشياء مطلقاً، ولا نقيد التشريع بعقولنا، ولا نوجب على الله شيئاً من عند أنفسنا، بل نقول إنه لا سلطان لشيء عليه فهو الذي يوجب على نفسه ما شاء إن شاء، كما كتب على نفسه الرحمة لمن شاء، وإن من الشرع ما لم تعرف العقول حسنه قبل شرعه، وإن كل ما شرعه تعالى يطاع بلا شرط ولا قيد ... " 3. فالقول الوسط بين قولي المعتزلة والأشعرية هو ما يلخصه الشيخ رشيد موضحاً أنه مذهب السنة، وهو: "أن صفات الله تعالى لا تعارض بينها، فلا تتعلق مشيئته تعالى بما ينافي حكمته وعدله ورحمته، وحكمته لا تقتضي تقييد مشيئته بما نفهمه ونعقله نحن منها بحيث نوجب عليه بعض الأوامر أو الأفعال ونحظر عليه بعضها، وإنما نعتقد إن كل ما يأمر به فهو حسن، وأنه لا يأمر إلا بما هو حسن، ولا ينهى إلا عما هو قبيح.." 4.   1 تفسير المنار (9/ 227) 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 المصدر نفسه والصفحة. 4 تفسير المنار (8/ 55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 وهذا الموقف من الشيخ رشيد رضا موقف صحيح إذا التفصيل هو الحق في الخلاف بين المعتزلة والأشعرية. وربط رشيد رضا بين هذين المبحثين الحسن والقبح والحكمة والتعليل هو الصواب. قال ابن القيم: "وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين، إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي" 1.   1 مفتاح دار السعادة (2/ 49 ـ 50) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 المبحث الثامن: الصلاح والأصلح هذه المسألة من المسائل التي كانت محل نزاع بين المعتزلة والأشعرية، وهي مترتبة على ما قبلها، لأن من جعل العقل حاكماً يقبح القبيح ويحسن الحسن؛ فإنه يقول بقبح بعض الأفعال منا ـ تعالى ـ ووجوب بعضها عليه ـ وبناءً على ذلك اشتهر عن المعتزلة قولهم بوجوب فعل الصلاح والأصلح عليه تعالى، كما اشتهر عن الأشعرية القول بعدم وجوب ذلك. فانقضت المعتزلة على أن كل فعل من أفعال الله تعالى لا يخلو من الصلاح والخير، لأنه حكيم، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وليس ذلك فحسب، بل إن الله تعالى فعل بعباده من الصلاح ما لا يقدر أن يزيد عليه، فليس في الإمكان أبدع مما أمكن 1. ومما يوضح هذه المسألة، ويصور الخلاف فيها بين المعتزلة والأشعرية، المناظرة التي جرت بين أبي الحسن الأشعري، وشيخه الجبائي 2، فقد قيل: أن الأشعري سأل أبا علي الجبائي عن ثلاثة أخوة،   1 انظر: عبد الجبار: المغني في أبواب العدل والتوحيد (14/ 35) ، والشهرستاني: المل والنحل (1/ 39) ، ونهاية الإقدام (ص: 398) ، وزهدي حسن: المعتزلة (ص: 102) ، وانظر أيضاً: الأشعري: المقالات (1/ 314) وما بعدها، والسافريني: لوامع الأنوار (1/ 332) 2 هو شيخ المعتزلة، وصاحب التصانيف، أبو علي محمد بن عبد الوهاب البصري، كان على بدعته ـ متوسعاً في العلم ـ مات سنة 303هـ بالبصرة. السير (14/ 183) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 أحدهم تقيّ، والثاني كافر، والثالث مات صبياً؟ فقال أبو علي: أما الأول ففي الجنة، والثاني ففي النار، والصبي فمن أهل السلامة. قال الأشعري: فإن أراد أن يصعد إلى أخيه؟ قال: لا؛ لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هناك بعمله. قال: (يعني الأشعري) : فإن قال الصغير: ما التقصير مني، فإنك ما أبقيتني، ولا أقدرتني على الطاعة. قال: يقول الله له: كنت أعمل أنك لو بقيت لعصيت، ولاستحققت العذاب، فراعيت مصلحتك. قال: فلو قال الأخ الأكبر: يا رب كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلمَ راعيت مصلحته دوني؟ فانقطع الجبائي 1. قال ابن القيم معلقاً على هذه المناظرة: "فلعمر الله إنها مبطلة لطريقة أهل البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربهم مراعاة الأصلح لكل عبد وهو الأصلح عندهم، فيشرعون له شريعة بعقولهم، ويحجرون عليه، ويحرمون عليه أن يخرج عنها ... والمقصود أن هذه المناظرة وإن أبظلت قول هؤلاء وزلزلت قواعدهم فإنها لا تبطل حكمة الله التي اختص بها دون خلقه ... " 2. أما موقف رشيد رضا فأبينه مبتدئاً ببيان موقفه من طريق المتكلمين في هذه المسألة ـ وغيرها ـ إذ يقول: "إن نظريات متكلمي المعتزلة والجهمية والأشاعرة في مثل هذه المسألة، ونظريات من سبقهم إلى ابتداع الكلام مخالفة لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم ومن تبعهم من علماء الأمصار ... فلم يكونوا جبرية ولا قدرية، ولا منكرين لشيء مما وصف الله تعالى به نفسه ... ولم يبن أحد منهم عقيدته على استحالة المتسلسل والحوادث التي لا أول لها، ولا على إنكار حسن الأشياء وقبحها في نفسها، أو إنكار امتناع التكليف بما لا حسن فيه لذاته عند العقل ... " 3. وفيما يتعلق بالمسألة نفسها يرى رشيد رضا أنه تعالى لا يجب عليه   1 انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء (14/ 184) ، والسبكي: طبقات الشافعية (3/ 356) ، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 440) ، ومفتاح دار السعادة (ص: 62) ، والبغدادي: أصول الدين (ص: 151) 2 شفاء العليل (ص: 440 ـ 441) 3 تفسير المنار (8/ 50) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 إلا ما أوجبه وكتبه على نفسه ـ فيقول مرجحاً مذهب السلف ـ: " ... مذهب السلف الصالح هو الحق في المسألة، وما كانوا ينكرون الوجوب ولا يقولون به على إطلاقه، وإنما مذهبهم أنه لا يجب على الله تعالى إلا ما أوجبه وكتبه على نفسه، وما هو مقتضى صفاته ومتعلقاتها، فكما وجب له تعالى في حكم العقل الاتصاف بصفات الكمال، وجب أن يترتب على تلك الصفات ما يسمونه متعلقاتها، كالعدل والحكمة والرحمة {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 وأنه لا يجب عليه سبحانه شيء بحكم غيره ولا سلطان فوق سلطانه، فيوجب عليه ... " 2. ويقول: "ولا يمكن أن يظن عاقل أن قانوناً يحكم على الألوهية" 3. فالمسألة إذاً ثابتة في نفسها، إلا أنه لا يصح أن يوجب أحد على الله شيئاً، ولا شك أن فعله تعالى كله صلاح وخير وعدل وحكمة، ولكنه تعالى لم يوجب على نفسه رعاية الأصلح لكل واحد من عباده. ولا شك أن الله سبحانه يفعل ما فيه صلاح العباد ونفعهم وكل ذلك تفضل منه تعالى، وليس شيء من ذلك بواجب عليه تعالى، يقول رشيد رضا: "والذي عليه المحققون أن مسألة الصلاح والأصلح ثابتة لا ريب فيها وأن الخطأ والضلال إنما هو في قولهم أن ذلك واجب عليه سبحانه وتعالى ... وإنما يقال في كل ما ثبت له من صفات الكمال وما يتعلق به من الأفعال المطردة أنها واجبة له لا عليه، لأنه سبحانه هو الأعلى فلا يعلو عليه شيء في شيء، ومذهب الأشعرية أن مراعاة المصلحة ليست من الكمال الواجب له تعالى ويحتجون على ذلك بأمراض الأطفال والبهائم، وفي هذه الحجة بحث لا محل له هنا ... " 4.   1 سورة الأنعام، الآية (54) 2 تفسير المنار (8/ 50) 3 المصدر نفسه (4/ 442) 4 تفسير المنار (7/ 390) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 ويعلق رشيد رضا على المناظرة التي قيل إنها وقعت بين الأشعري والجبائي متخذاً موقف الحكم بينهما، فيقول: "فأما جواب الجبائي الأول في المؤمن الطائع والكافر الفاسق فهو الحق الذي بينه الله في كتابه ... والنصوص في ترتيب الجزاء على الإيمان والكفر مع الأعمال، كثيرة جداً. وكذلك جوابه الأول عن مسألة الصبي، فإنه لا يستحق الدرجات التي نالها المؤمن الذي عمل الصالحات بحسب وعد الله الحق وجزائه العدل، ولكن ذرية المؤمنين تلحق بالأصل. وأما جوابه الثاني فهو خطأ نشأ عن غفلته عن فساد السؤال في نفسه، وذلك أن عدم حياة الصبي إلى أن يبلغ ويعمل ما يعمل مسألة عدمية لا وجه لسؤال الخالق عنها، ولا يأتي فيها مسألة الأصلح في مذهب المعتزلة" 1. كما أن رشيد رضا يرى أن هذا الجدال بين الأشعرية والمعتزلة وما يشوبه من احتجاج بعضهم على بعض بعبارات مبتدعة هي من سوء الأدب مع الله تعالى وهو مما يجب الاستغفار منه 2.   1 المصدر نفسه (8/ 59 ـ 60) 2 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 المبحث التاسع: العمر، والرزق، والدعاء : وهذه المسائل الثلاث فمن فروع عقيدة القدر. ولدينا في مسألة العمر أدلة ظاهرها التعارض، فتدل طائفة منها على أن الأجل لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص، ومنها قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} 2. وطائفة أخرى من الأدلة تشير إلى معنى زيادة العمر ونقصه؛ منها قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} 3، وقوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} 4. ومن السنة أحاديث: منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه" 5.   1 سورة الأعراف، الآية (34) ، وسورة النحل، الآية (61) 2 سورة المنافقون، الآية (11) 3 سورة فاطر، الآية (11) 4 سورة الأنعام، الآية (2) 5 أخرجه البخاري: ك: الأدب، باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم، مف الفتح (1/ 429) برقم: 5986، ومسلم:: ك: البر، باب: في صلة الرحم وتحريم قطيعتها (4/ 1982) برقم: 2557، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (8 / 152 ـ 153) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 فاختلفت أنظار العلماء في ذلك، وتباينت وجهاتهم في الجمع بين هذه النصوص على أقوال: الأول: أن الزيادة ليس حقيقية بل هي كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة 1. الثاني: أن الزيادة حقيقية، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، أما الأجل الذي لا يتغير فهو ما في علمه تعالى. الثالث: أن الزيادة هي عبارة عن دعاء ذريته الصالحة له بعد موته، وورد ذلك في بعض الروايات إلا أن إسنادها ضعيف 2. قال ابن تيمية: "والأجل أجلان "أجل مطلق" يعلمه الله، و "أجل مقيد"، وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" 3 فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلاً وقال: "إن وصل رحمه زدته كذا وكذا" والملك لا يعلم أيزداد أم لا؛ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر" 4. أما رشيد رضا فالذي اختاره وأراد أن يبينه هو الفرق بين الأجل الحقيقي الذي هو في علم الله تعالى، وذهب إلى أن هذا ى يتغير، وإلا صار العلم جهلاً، وبين الأجل التقديري وذهب إلى أن هذا هو الذي تقع به الزيادة والنقصان بحسب الأسباب الشرعية والطبيعية، فالذي يزيد وينقص هو أجل آخر غير الذي في علم الله تعالى، والذي في علمه تعالى لا يتغير ولا يتبدل، ويعرف بالوقوع، فإذا مات الشخص علم أن ذلك أجله المحتوم في علم اله تعالى. وأشار رشيد رضا إلى أن الأجل يطلق ويراد بع معنيان: الأو: المدة التي يعيشها الإنسان بالواقع ونفس الأمر. قال رشيد رضا: "والأجل بهذا المعنى لا يعرف إلا بالوقوع، فمتى مات المرء يعلم أن هذه المدة التي قضاها   1 انظر: ابن حجر: فتح الباري (10/ 430) 2 المصدر نفسه، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (8/ 153) 3 سبق تخريجه. 4 مجموع الفتاوى (8/ 517) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 هي أجله في الواقع ونفس الأمر, ولما كان الله وحده هو الذي يعلم ما سيعرض على الأحياء ... أطلق الأجل على علم الله تعالى بالعمر؛ وبهذا المعنى قالوا: إن عمر الإنسان لا يزيد ولا ينقصن وهو صحيح إذ لو وقع في الوجود خلاف ما يعلم الله أنه سيقع لكان العلم جهلاً" 1. وأما المعنى الثاني للأجل فهو الذي يقع فيه الزيادة والنقصان، قال رشيد رضا: "وكل ما ورد في نقص العمر وإطالته والإنساء فيه بالأسباب العلمية، والنفسية كصلة الرحم والدعاء، فإنما هو بالنسبة إلى الأجلق التقديري أو الطبيعي، الذي هو عبارة عن مظهر سنن الله في الأسباب والمسببات" 2. وبناءً على ذلك فزيادة العمر ونقصه جائز لكن لا باعتبار العلم الإلهي فهو لا يتغير، ولكن باعتبارات أخرى، وله أسباب شرعية وطبيعية. هذا ما يقرره رشيد رضا، ويقول: "كيف ينكر المسلم أن شيئاً من الأشياء يكون سبباً في بسطة الأجل وطول البقاء، وهو أمر ثابت في الفطرة، ودينه دين الفطرة، وثابت بالعقل ودينه دين العقل، وثابت بالنقل أيضاً ... " 3. ويستدل رشيد رضا على زيادة العمر بالأسباب الشرعية، بأحاديث منها حديث أنس المشار إليه أول المبحث، ومنها حديث ثوبان مرفوعاً "لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" 4. ويشير رشيد رضا إلى أن ذلك هو ما يعرف "بالقضاء المعلق" ومعناه كما يفسره: "أن المسببات معلقة في علم الله تعالى بأسبابها، فإذا وقعت الأسباب وقعت معها المسببات لا محالة وإلا فلا ... " 5. قال: "ولا فرق   1 تفسير المنار (8/ 408) 2 المصدر نفسه. 3 مجلة المنار (12/ 560) 4 رواه الحاكم: المستدرك (1/ 493) ، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. والطبراني: في الكبير (2/ 100) وفي الدعاء (2/ 799) ت: سعيد البخاري، وانظر: الألباني: الصحيحة: رقم (154) 5 مجلة المنار (12/ 561) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 فيه بين السبب الذي علم بالاختبار والوجود والسبب الذي علم بالشرع" 1. وتفرقة رشيد رضا بين ما في علم الله تعالى، وبين غيره صحيح، غير أني لاحظت عليه أنه في مسألة "العمر التقديري" يعتمد على ما يقرره الأطباء، بحسب الاستقراء، وهو لا يسلم لا له ولا لهم، لا سيما مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي بين ستين سنة وسبعين سنة" 2 فإذا كنا بحاجة إلى معرفة متوسط أعمال هذه الأمة فنرجع إلى الشرع. ولو صح في الجمع بين أدلة الشرع حديث لوجب المصير إليه دون غيره مما حاول به أهل العلم التوفيق بين الأدلة وإن لم تصح فالأولى ما ذهب إليه السلف في كون الزيادة والنقص تقع في علم الملك الموكل بالعمر. ويسلك رشيد رضا في مسألة الرزق وزيادته وحرمانه نفس المسلك الذي سلكه في الأجل، يقول: "والبحث في زيادة الرزق كالبحث في طول العمر سواء لأن لكل منهما أسباب ... " 3. وعلى ذلك، فالرزق الذي في علم الله تعالى لا يتغير، ولكن الرزق "التقديري" الذي يعتبر بحسب سنن ارتباط الأسباب والمسببات أو "القضاء المعلق" فيزيد وينقص. وإن كان رشيد رضا لم يفسر لنا "الرزق التقديري" كما فسر العمر "العمر التقديري" وإن كان يظهر من كلامه قصده وهو ما يتوقف على الأسباب الشرعية والطبيعية. الدعاء: وأما في مسألة الدعاء، فقد سئل عنها الشيخ، ولكنه أجاب إجابة سريعة، مضطربة، أحال في أولها على تخريج العلماء لها بناءً على مسألة القضاء المعلق والمبرم أيضاً. ولكنه في آخر جوابه ذكر أن هناك أحاديث مشكلة لا يجاب عنها 4.   1 المصدر نفسه. 2 رواه الترمذي: ك: الزهد، باب: ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة ... ،ح: 2321 (4/ 566) 3 مجلة المنار (12/ 561) 4 مجلة المنار (5/ 291) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 والقول الحق في مسألة الدعاء، أنه من قضاء الله تعالى وقدره، كسائر الأسباب التي جعلها الله تعالى لازمة لمسبباتها، متى وجد السبب وجد المسبب بحسب سنة الله تعالى، وكل شيء بقدر الله تعالى. ففي علم الله أن فلاناً يدعو فيرفع بدعائه كذا وكذا من البلاء، أو يحدث له كذا وكذا من الخير، بسبب دعائه، وكل في علم الله تعالى. قال شيخ الإسلام: "لأن الله جعل الدعاء والسؤال من الأسباب التي تنال بها مغفرته ورحمته وهداه ورزقه، وإذا قدر للعبد خيراً يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات" 1. وأما ما هذب إليه الشيخ رشيد في مسألة العمر، والرزق، من أن ما في علمه تعالى لا يتغير، وأن الله تعالى عالم بالأجل الحقيقي المكتوب، وأن المتغير بالزيادة والنقصان هو أجل آخر باعتبار آخر، يسميه الشيخ رشيد بالأجل التقديري، والرزق التقديري، وما هو ثم إلا ما كتبته الملائكة فهو الذي يقع فيه ذلك. وهو الصواب 2.   1 مجموع الفتاوى (8/ 69 ـ 70) 2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 517، 540) ، وابن حجر: فتح الباري: (11/ 497 و 4/ 353 ـ 354) ، وابن سعدي: ك تيسير الكريم الرحمن (4/ 117) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 المبحث العاشر: الكونيات والشرعيات : فرق الشيخ رشيد رضا ـ رحمه الله ـ بين الكونيات والدينيات، فبين الفرق بين الأمر الكوني والأمر الشرعي، وبين الجعل الكوني والشرعي، والإرادة الكونية والشرعية. قال الشيخ رشيد: " ... وهذا الأمر نوعان: أمر تكوين وهو ما عليه الخلق من النظام والسنن المحكمة، وقد سمى الله التكوين أمراً بما عبر عنه بقوله "كن"، وأمر تشريع: وهو ما أوحاه الله إلى أنبيائه وأمر الناس بالأخذ به ... " 1. كما فرق الشيخ رشيد بين الجعل التكويني والتشريعي، قال عند قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ ... } 2 "الجعل هنا إما خلقي تكويني وهو التصيير، وإما أمري تكليفي وهو التشريع ... " 3. وفرق أيضاً بين إرادة التكوين وإرادة التشريع، فعند قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 قال: "والمراد بالإرادة هنا   1 تفسير المنار (1/ 243) 2 سورة المائدة، الآية (97) 3 تفسير المنار (7/ 116) 4 سورة البقرة، الآية (185) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 حكمة التشريع لا إرادة التكوين" 1. وبهذه التفرقة بين الكونية والدينية يفصل النزاع الذي وقع فيه طوائف من الناس في مسألة الأمر والإرادة، وهل أمر الله مستلزم لإرادته أو لا؟ لأنهم لم يفرقوا بينهما. ومن الفروق التي فرق بها الشيخ رشيد بين الأمر الكوني والشرعي، أن الأول متعلق صفة الإرادة، والثاني متعلق صفة الكلام. وأن أمر التكوين يتوجه إلى المعدوم، ليكون ويوجد، كما يتوجه إلى الموجود. وأما أمر التكليف فيخاطب به العاقل فيسمى المكلف ولا يخاطب به غيره، فضلاً عن المعدوم 2. وقد ذكر هذه التفرقة غير واحد من أهل السنة 3. ويندفع بهذا الإشكال الذي وقع فيه من وقع من أهل البدع، بسبب عدم تفرقتهم بين الكوني القدري والشرعي الديني، وبهذه التفرقة يعطل احتجاج أهل المعاصي بالقدر.   1 تفسير المنار (2/164) 2 المصدر نفسه (1/ 438 ـ 439) 3 انظر: الآجري: الشريعة (ص: 151) ، وابن تيمية: مجموع الفتاوى (7/ 58 ـ 61، 140، 159) ، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 464 ـ 469) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 المبحث الحادي عشر: الاحتجاج بالقدر : وإذا كان الإيمان بالقدر واجباً، بل ركناً من أركان الإيمان، لا يقبل من العبد عمل حتى يؤمن به ويستكمله، فإنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك العمل المشروع أو عمل الممنوع. فأهل السنة يؤمنون بالقدر ولا يحتجون به. وأول من احتج بالقدر إبليس 1. وحكى القرآن عن المشركين احتجاجهم بالقدر على شركهم، ورد تعالى عليهم ذلك، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 2. والمعنى: " ... لو شاء الله تعالى أن لا نشرك به من اتخذنا من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر وأن لا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم أو قبورهم ... وأن لا يشرك آباؤنا من قبلنا كذلك ما أشركوا ولا   1 انظر سورة الحجر، الآية (39) . 2 سورة الأنعام، الآيتان (148، 149) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 أشركنا ... ولكنه شاء أن نشرك ... ، وشاء أن نحرم ما حرمنا ... فحرمناه ... " 1. وهذه الآية قد أتت برد قاطع وبرهان ساطع وأفحمت من أراد إبطال الشرائع. قال الشيخ رشيد: " ... ولو لم يكن في المسألة غير هذه الآية لكانت كافية في الزجر والردع عن الاحتجاج بالقدر، كيف وهناك آيات كثيرة منها ما هو صريح في المعنى كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2 ... " 3. ووجه الرد عليهم في الآية، كما بينه الشيخ رشيد، أنه: " ... لو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك والمعاصي إجباراً مخرجاً لذلك عن كونه من أعمالهم لما عاقبهم عليه ... ولو كانت مشيئته لذلك متضمنة رضاه عن فاعله وأمره إياه به خلافاً لما قال الرسل ـ لما عاقبهم عليه تصديقاً للرسل" 4. هذا هو الوجه الأول في رد احتجاجهم وهد تكذيبهم وإلزامهم الحجة وإفحامهم بذكر ما حدث لمن فعل مثل فعلهم واحتج بمثل حجتهم من الأمم التي أهلكها الله قبلهم. والوجه الثاني من الرد في هذه الآية، هو بيان جهلهم واحتجاجهم بما لا علم لهم به، واعتمادهم في ذلك على الظن والتخمين دون العلم واليقين. فما سبق في الوجه الأول كان بياناً للبرهان الفعلي الواقع، وهذا الوجه بيان لبرهان آخر، عقلي نظري.   1 تفسير المنار (8/ 176) 2 سورة يس، الآية (47) 3 مجلة المنار (2/ 130) 4 تفسير المنار (8/ 176 ـ 177) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 يقول الشيخ رشيد في بيان هذا الوجه: "وبعد التذكير بهذا البرهان أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب المشركين بدليل علمي على زعمهم فقال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} 1 أي: هل عندكم بما تقولون علم ما تعتمدون عليه وتحتجون به فتخرجوه لنا لنبحث معكم فيه ونعرضه على ما جئناكم به من الآيات العقلية والمحكية عن وقائع الأمم التي قبلكم، وننصب بينهما الميزان القسط ليظهر الراجح من المرجوح؟ ... " 2. فالمحتج بالقدر ليس عالماً بالقدر فيبني علمه عليه، فكيف يصح الاحتجاج للعاصي بأن الله كتب عليه ذلك قبل صدوره منه، وقدر الله قبل وقوعه غيب لا يعلمه إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ وقد ورد الجواب بذلك أيضاً في آية أخرى هي قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. يقول الشيخ رشيد: " ... فهل الاعتقاد بعلم وإرادته يكون عذراً للإنسان إذا زاغ عن الصراط المستقيم فوقع في الرجز الأليم؟ ... كلا إن هذا هذيان لا يقول به عاقل ... " 4. والحاصل أن رأي الشيخ رشيد ـ وهو الحق ـ أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك العمل، أو عمل المعاصي. يقول الشيخ: "الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين، وقد جاء الكتاب الكريم لتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه ... فلا يسوغ لأحد منا وهو يدعي أنه مؤمن بالقرآن أن يحتج بما يحتج به المشركون ... " 5.   1 سورة الأنعام، الآية (148) 2 تفسير المنار (8/ 177) 3 سورة الأعراف، الآية (28) 4 مجلة المنار (2/ 129 ـ 130) 5 المصدر نفسه (6/ 782) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 الباب الثاني: منهج رشيد رضا في الإيمان بالملائكة والكتب والرسل الفصل الأول: الإيمان بالملائكة تمهيد ... تمهيد: الملائكة هم خلق من خلق الله تعالى لهم صفات وخصائص ووظائف خاصة، ومنهم واسطة في البلاغ بين الله تعالى ورسله؛ واسطة في إبلاغ الوحي والرسالة إلى من اصطفاهم الله تعالى من البشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ... } 1. والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، فلا يتم إيمان امرئ إلا بالإيمان بهم، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... } 2. وقال: { ... وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 3. وقد تحدث الله في القرآن الكريم عن الملائكة باستفاضة فذكر من صفاتهم الخُلُقية والخَلْقية الشيء الكثير، فمن الأولى أنهم لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون به 4، وأنهم يعبدون الله تعالى دون كلل أو فتور 5. ومن الثانية: أنهم ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع 6.   1 سورة الحج، الآية (75) 2 سورة البقرة، الآية (285) 3 سورة النساء، الآية (136) 4 انظر: سورة الأنبياء، الآية (27) ، وسورة التحريم، الآية (6) 5 انظر: سورة الأنبياء، الآية (20) 6 انظر: سورة فاطر، الآية (الأولى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 وقد تناول الشيخ رشيد رضا الحديث عن الملائكة من جوانب متعددة، وأثبت أن الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان، وأن الكافر بهم لا يكون مسلماً، وتحدث عن بعض صفاتهم ووظائفهم، ومع ذلك فقد اتهمه خصومه بإنكارهم، وقد دفع الشيخ عن نفسه ذلك. وفيما يلي أعرض منهج الشيخ رشيد في هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 المبحث الأول: الملائكة المطلب الأول: وجوب الإيمان بالملائكة جملة وتفصيلا ً ... المطلب الأول: وجوب الإيمان بالملائكة جملة وتفصيلاً: بناء على ما تقدم من أدلة الكتاب العزيز من بيان وجوب الإيمان بالملائكة، وكذلك ما ورد من حديث جبريل المشهور، يجب الإيمان بالملائكة جملة وتفصيلاً فيما ورد مفصلاً. وهذا ما قرره الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ إذ قال: "الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، فيجب الإيمان بهم إجمالاً وبمن وردت النصوص بأسمائهم أو صفاتهم تفصيلاً.." 1 وأعاد الشيخ رشيد هذا المعنى كثيراً 2. وبيّن الشيخ رشيد وجوب الإيمان بهذا الركن وبيّن حكم إنكاره، فقال: " ... والملائكة من عالم الغيب الذي يجب على كل مؤمن الإيمان به كما ورد في خبر الوحي من غير تأويل ولا تحريف، ويكفي في ذلك كونه ممكناً عقلاً ... " 3.   1 مجلة المنار (29/ 660 ـ 661) 2 انظر: تفسير المنار (1/ 175و 3/ 144و 5/ 459) 3 مجلة المنار (18/ 602ـ 604) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 وأما المنكر لهذا الركن فهو كما يقول الشيخ رشيد: "لا يؤمن بوحي الله إلى رسله ولا يكون مسلماً ولا يهودياً ولا نصرانياً ولا ملياً وثنياً ... " 1، وذلك لأن الملائكة مذكورون في جميع هذه الديانات وكتبها. وكما ذكرت قبل أن الملائكة عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، ووظائفهم متعددة، وذكر القرآن من أسمائهم: جبريل وهو ملك الوحي 2، وميكال وهو الموكل بالقطر وتصاريفه، وورد في القرآن أيضاً منهم:: مالك وهو خازن النار 3. وورد في السنة منهم إسرافيل وهو الموكل بالصور 4. فما ورد في الكتاب والسنة من أسمائهم يجب الإيمان به ثم التوقف فيما وراء ذلك. وهذا هو ما قرره الشيخ رشيد إذ قال معلقاً على أسماء لم ترد في الشرع: "وأما تسمية ملك الموت بعزرائيل 5 وما أوهمه كلام بعضهم من وجوب الإيمان بهذا الاسم فغير صحيح، فإن اسم عزرائيل لم يرد في القرآن كاسم جبريل وميكال ـ وهو ميكائيل ـ، ومالك، ولا في الأحاديث الصحيحة المرفوعة كاسم إسرافيل ... " 6. وأما إبليس فقد وقع خلاف في حقيقته هل هو من الملائكة أو من الجن 7. والذي رجحه الشيخ رشيد أنه من الملائكة لأنه ظاهر الآيات في قصة السجود لآدم، وأما معارضة قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} 8 فيجيب عنه الشيخ رشيد بأن: "الجن جنس لهؤلاء المخلوقات الخفية ومنهم   1 المصدر نفسه (32/ 753) 2 انظر: البخاري: الصحيح، ك: التفسير، باب: قوله: {من كان عدواً لجبريل} ، ح: 4480، (8/ 15) 3 انظر: سورة البقرة، الآية (98) ، والزخرف الآية (77) 4 انظر: مسلم: الصحيح، ك: صلاة المسافرين، ح: 200 (770) (1/ 534) 5 انظر: ابن كثير: البداية والنهاية (1/ 50) ، والتفسير (3/ 441) 6 مجلة المنار (29/ 660 ـ 661) 7 انظر الأقوال في ذلك عند ابن كثير: التفسير (3/ 87) 8 سورة الكهف، الآية (50) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 نوع الملائكة المعصومين لقوله تعالى في العرب الذين كانوا يقولون أن الملائكة بنات الله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} فالتحقيق إذن أن إبليس وذريته نوع من هذا الجنس أي الجن المكلفين غير المعصومين ومنهم أشرار كالشياطين"2. وكون إبليس من الملائكة أو قبيل منهم فهو مروي عن بعض السلف ـ رحمهم الله ـ، قال ابن عباس: " كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن" 3.   1 سورة الصافات، الآية (158) 2 مجلة المنار (34/ 691) ، وقارن مع ابن تيمية: مجموع الفتاوى (19/ 33 ـ 34) 3 انظر: ابن كثير: التفسير (3/ 87) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 المطلب الثاني: وظائف الملائكة وخصائصهم : وقد ذكر رشيد رضا بعض وظائف الملائكة وخصائصهم. فذكر من وظائف الملائكة التوفي؛ مقرراً هذه الوظيفة ومبيناً عدم تعارضها مع التوحيد فقال: "إن تفويض التوفي إلى بعض الملائكة كتفويض تبليغ الوحي للأنبياء إلى بعضهم، وكتفويض تبليغ الرسالة للناس إلى المرسلين، وكتفويض غير ذلك من الأعمال إلى المخلوقين، كل ذلك لا ينافي التوحيد، والله سبحانه هو المتصرف في الكون ... " 4. إن تفويض هذه الأعمال إلى الملائكة لا يعني أنهم يتصرفون في الكون بإرادتهم ولكنهم موكلون من الله تعالى بهذه الأعمال، وبإقداره تعالى لهم "وهو الذي سخرهم ولو سلبهم ما أعطاهم لما قدروا على شيء ... " 5. وفيما يتعلق بتوفي الملائكة للبشر وهل يقوم بذلك ملك واحد فقط أو ملائكة متعددة، يقول الشيخ رشيد في ذلك: " ... وللموت   4 مجلة المنار (10/ 285) 5 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 أصناف كثيرة لكل منها سنن ونظام في الحياة خاص به، فقبض الألوف من الأرواح في كل لحظة ووضعها في المواضع اللائقة بها عمل عظيم واسع النطاق يقوم بإدارته ونظامه رسل كثيرون، وكل عمل عظيم منظم لا بد أن تكون له جهة واحدة هي مكان الرياسة والنظام منه ... " 1. فقبض الأرواح والتوفي يقوم به ملائكة ذوو عدد كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 2 "وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذي قال الله فيه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 3 كما يقول الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ 4. ومن وظائف الملائكة التي تكلم عنها الشيخ رشيد كتابة أعمال بني آدم وحفظها في الصحف التي تنشر يوم الحساب وهي المرادة ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ بقوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} 5 قال: "وهؤلاء الحفظة هم الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 6 ... وقيل إن الحفظة من الملائكة غير الكاتبين للأعمال، وهم المعقبات في قوله تعالى من سورة الرعد: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 7 قيل: إنهم ملائكة يحفظونه من الجن والشياطين، وقيل من كل ضرر يكون عرضة له لم يكن مقدراً أن يصيبه فإذا جاء القدر تخلو عنه، ولكن لم يصح في ذلك شيء يعتد به ... وليس عندنا من الأحاديث الصحاح في هذه المسألة إلا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما مرفوعاً: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار،   1 تفسير المنار (7/ 484) 2 سورة الأنعام، الآية (61) 3 سورة السجدة، الآية (11) 4 تفسير المنار (7/ 484) 5 سورة التكوير، الآية (10) ، وانظر: تفسير المنار (7/ 482) 6 سورة الإنفطار، الآيات (10 ـ 12) 7 سورة الرعد، الآية (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي، فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" 1 ... فإذا كان هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكاتبين فلا محل لاختلاف العلماء في تجددهم وتعاقبهم" 2. وقد رد الشيخ رشيد على من أنكر هذا الصنف من الملائكة، ورد قوله لأنه "لا هو من أهل العلم بالحديث رواية ولا دراية، ... وقوله هو المردود وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو المقبول ... " 3. وذكر الشيخ رشيد من خصائص الملائكة أنهم يتشكلون في الصور المختلفة، وأنهم قد يُرون في هذه الحالة فقط، إلا أنهم لا يرون في صورتهم الحقيقية، وهو المختار عند الشيخ رشيد كما يقول: "والمختار عندنا أن البشر في حالتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة والجن في حالتهم التي خلقوا عليها، كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} 4 ... " 5. غير أن الرؤية على هذه الحالة قد تقع معجزة لنبي أو كرامة لولي كما يقرر الشيخ رشيد، ويقول: "إنه جائز عقلاً ومرويٌ نقلاً ... " 6.   1 البخاري: الصحيح،: مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاة العصر، ح: 555. 2 تفسير المنار (7/ 482) 3 مجلة المنار (17/ 658) 4 سورة الأعراف، الآية (27) 5 تفسير المنار (7/ 316 ـ 317) وقارن مع ابن تيمية: مجموع الفتاوى (15/ 26) 6 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 المطلب الثالث: التفاضل بين الملائكة والأنبياء : وقد وقع خلاف بين الناس حول تفضيل الملائكة على الأنبياء وصالحي البشر أو العكس، على أقوال. ثالثها: التوقف، ورابعها: التفصيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 في ذلك. فالتوقف مذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ ورجحه شارح الطحاوية 1. والتفصيل مذهب شيخ الإسلام، وهو أن الأنبياء والصالحين أفضل من الملائكة باعتبار كمال النهاية، وذلك إنما يكون إذا دخلوا دار القرار، ونالوا الزلفى، وسكنوا الدرجات العلى، فلا يظهر فضلهم في ابتداء أحوالهم وإنما يظهر فضلهم عند كما أحوالهم، بخلاف الملك الذي تشابه أول أمره وآخره 2. وليس الخلاف في هذه المسألة كتفضيل الأنبياء بعضهم على بعض، فإن هذه قد ورد بها نص قرآني، وفي مسألتنا هذه الأدلة متكافئة 3. وقد ذكر الشيخ رشيد هذا الخلاف وأدلة كل فريق ثم قال: " والحق أن ظواهر القرآن الواردة في الملائكة والرسل تدل على أن الملائكة أفضل من البشر، ولعله ـ لولا ذلك ـ لما قال تعالى في بني آدم {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 4، بل لقال على جميع من خلقنا، ومقتضى ذلك أن خواص الملائكة كالمقربين أفضل من خواص الرسل، ولا يتحتم أن يقتضي كون عوام الملائكة أفضل من خواص البشر كالرسل، قد ينافيه كون بعض الملائكة مسخرين لمصالح البشر، ولكن ليس في المسألة نص قاطع في المعنى ... والأولى أن يفوض هذا الأمر إلى الله تعالى ولا يجعل محل القيل والقال إذ لا فائدة لنا في ذلك ... " 5. فالذي اختاره الشيخ رشيد في هذه المسألة التوقف، وهو كما قلت قبل ذلك مذهب أبي حنيفة ورجحه شارح الطحاوية. ومن خلال عرض آراء رشيد رضا في فصل الملائكة يتبين عدم صدق   1 ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 410 ـ 411) ط. التركي. 2 ابن تيمية مجموع الفتاوى (11/ 95) 3 ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:412) ط. التركي. 4 سورة الإسراء: الآية (70) 5 تفسير المنار (7/428ـ 429) وانظر أيضاً: المصدر نفسه (7/589) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 الدعوى التي ادعاها يوسف الدجوي 1 على رشيد رضا وهي: "إنكاره للملائكة" وقد ردّ رشيد رضا نفسه هذه الدعوى، رداً مجملاً ومفصلاً، فمن حيث الجملة قال: "فمن كان لا يؤمن بالملائكة فهو لا يؤمن بوحي الله إلى رسله، ولا يكون مسلماً ولا يهودياً ولا نصرانياً ولا ملياً وثنياً. فإن كان صاحب المنار من هذا الصنف فلماذا سكت له على كفره هذا علماء الأزهر الأعلام وغيرهم من علماء الإسلام مدة خمس وثلاثين سنة ... هذا ما نقوله من ناحية الإلزام العقلي ونقضي عليه ببعض الشواهد الناطقة بعقيدة الإيمان بالملائكة واتباعنا عقيدة السلف الصالح فيهم ... " 2.ثم أورد الشيخ رشيد سبعة شواهد من تفسيره لتدل تفصيلاً على اعتقاده فيهم. وأما الشبهة التي اعتمد عليها في توجيه هذه التهمة للشيخ رشيد فهي عبارة نقلها عن الأستاذ محمد عبده كما يقول الشيخ رشيد:"وإنما هي حكاية حكاها الأستاذ الإمام عن بعض الناس ونقلها مؤلف التفسير عنه، فلو كانت كفراً لكانت من باب حاكي الكفر ليس بكافر، فكيف بالحاكي عن الحاكي" 3. والحق أن الشيخ رشيد كان أحياناً يعقب على آراء محمد عبده، ولكنه كان يسكت في أحيان أخرى، والسكوت علامة الموافقة مما يجعل الحجة تتجه عليه، إلا أنني أميل لقبول رده هذا، لما سبق بيانه في هذا الفصل، وكما أني أميل لقبول رده في المسائل الأخرى، إذا أن الصدق هو الأصل في مثل رشيد رضا 4.   1 سبقت ترجمته: انظر: (ص: 217) من هذا البحث. 2 مجلة المنار (32/ 753) 3 المصدر نفسه (32/ 758) 4 انظر: مجلة المنار (32/ 862) ونفيه حكاية القول الذي اعتمد عليه الدجوي في اتهام رشيد رضا بذلك، والذي يظهر ـ وإن كان محمد عبده ـ يروي هذا الرأي على أنه ليس له، إلا أنه يميل إليه إذ بسطه وشرحه شرحاً فلسفياً، وقد مضى أن الفلاسفة يكذبون الرسل في أخبارهم بالغيب ولكن أحياناً ـ ومن باب التقية ـ فإنهم لا يصرحون بذلك. وانظر: سليمان دنيا: مقدمته لحاشية محمد عبده على شرح الدواني (1/21ـ 22) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 المبحث الثاني: الجن والشياطين : وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها. وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة 1. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطب الجن وخاطبوه، وقرأ عليهم القرآن 2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ... وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء، تواتراً معلوماً بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة ... " 3. وبعد ظهور المدنية الحديثة وأفكارها المادية، ظهر اتجاه إنكار وجود الجن ـ في جملة إنكار ما لا يرى ـ وقد تصدى رشيد رضا لهذا الاتجاه فأثبت وجود الجن وعدم وجود حجة عند من أنكرهم على ذلك. وأثبت إمكان رؤيتهم ومخاطبتهم. وإن كان تشدد في مسألة دخولهم جسم الإنسان، وفيما يلي تفصيل ذلك.   1 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (24/ 276 و19/ 32) 2 المصدر نفسه (19/ 37 ـ38) 3 مجموع الفتاوى (19/ 10) وانظر: (19/ 39) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 المطلب الأول: معنى الجن والشيطان : عرّف رشيد رضا هذين اللفظين في اللغة فقال: "الجن والجان والجنة ـ بالكسر ـ مأخوذة من مادة جنن، وهذه المادة تدل على الستر والخفاء ... والشياطين في اللغة: كل عاتٍ متمرد حتى من الدواب، والشاطن: الخبيث ... وقيل: إن الشيطان مشتق من شاط يشيط أي احترق غضباً ... " 1. وقد عرّفهم أيضاً تعريفاً شرعياً فقال: " ... الجن خلق خفي مستتر من عالم الغيب أثبتتهم جميع الأديان ... " 2. ثم بين حكم الإيمان بهم فقال: "وطريقتنا فيهم الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى من أمرهم في كتابه وبكل ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم لمن علم به ... " 3. والإيمان بوجود الجن من الإيمان بالغيب الذي أمر الله تعالى بالإيمان به، قال تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} 4 وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5 فإنكار الجن مخالف للشرع بل لجميع أهل الملل الذين أجمعوا على وجودهم 6. وهو مخالف أيضاً للعقل، الذي يقضي بأن إنكار الشيء لمجرد عدم رؤيته أو الإحساس به غير سديد. وهذا ما يقرره الشيخ رشيد بقوله: "إنكار شيء ونفيه لعدم الإحساس به مما يمنعه العقل، ولو أنكرنا كل ما لم نطلع عليه وندركه بالحواس لما توجهت نفوسنا إلى   1 مجلة المنار (7/ 702 ـ 707) 2 المصدر نفسه (32/ 767) 3 المصدر نفسه. وقد سبق في التمهيد الكلام على موقف رشيد رضا من السنة والقيود التي وضعها لقبولها كقوله أنها تقبل عند من صحت عنده ـ ويريد به قبولها لا سنداً ـ وقوله لمن علم به ... ألخ. 4 سورة الرحمن، الآية (14 و15) 5 سورة الذاريات، الآية (56) 6 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (19/ 10 و19/ 32) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 اكتشاف هذه المجهولات الكثيرة ... " 1.. ويقول أيضاً: " ... وجود أي شيء من الموجودات لا يعرف بالأدلة العقلية، وإنما يعرف بالحس أو بالخبر الصادق، فإننا نعتقد وجود كثير من الحيوانات والنباتات والمعادن ولم نرها. أما العقل فإنه يدلنا مع الاختبار بأن في الكون موجودات كثيرة لا نعرفها ... لأنها لا تدرك بحواسنا هذه، ولو خلق لنا حواس غيرها لأدركنا ما لا ندركه الآن ... " 2، ويقول في موضع آخر: "إن عدم وجدان الشيء لا يقتضي عدم وجوده، فتكذيب جميع أصناف البشر في الاعتقاد بوجود عالم خفي لا تظهر آثاره إلا نادراً لبعض الناس بناءً على أن المكذب لم يدرك ذلك بحواسه ـ غير سديد ـ" 3. ويقرر رشيد رضا أن الإيمان بوجود الجن واجب وثابت بخبر الشرع فيقول عن الجن إنه: "عالم خفي أو غيبي أخبرنا بوجوده الأنبياء المؤيدون من خالق الكون بالوحي والإلهام فوجب التصديق بذلك ... " 4. وهذا الموقف من رشيد رضا في مسألة الإيمان بالجن موقف سديد موافق لما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، فوجود الجن قطعي لثبوته بهذه الأدلة. ولكن وقع الخلاف بعد إثباتهم في مسائل، منها إمكان رؤيتهم على صورتهم الحقيقية، وكذلك مسألة تلبسهم بالإنسي وهو ما أود بيان موقف رشيد رضا منهما.   1 مجلة المنار (7/ 702) 2 المصدر نفسه (6/ 267) 3 المصدر نفسه (7/ 702) ، وانظر: الوحي المحمدي (ص: 49) 4 المصدر نفسه (6/ 267) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 المطلب الثاني: رؤية الجن : اختلف في جواز رؤية الجن، فذهب بعض أهل العلم إلى أن أحداً لا يراهم في الدنيا واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 تَرَوْنَهُمْ} 1، والصواب في معنى هذه الآية هو ما قاله شيخ الإسلام لما سئل عنها: " الذي في القرآن أنهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس، وهذا حق يقتضي أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها، وليس فيه أنهم لا يراهم أحد من الإنس بحال، بل قد يراهم الصالحون وغير الصالحين أيضاً لكن لا يرونهم في كل حال" 2. وهذا هو الصواب فليس في الآية ما يدل على عدم رؤيتهم أبداً، وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً، فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً 3. وأما السنة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم وخاطبهم، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان ابن عباس يجزم بعدم رؤيتهم إلا أن ابن مسعود مثبت فهو مقدم، وابن عباس رضي الله عنه لم يعلم ما علمه ابن مسعود 4. وقد بدا رشيد رضا متشدداً في مسائل الجن ـ بعد إثبات وجودهم ـ كما يظهر في هذه المسألة، والمسألة التي تليها، وسبب ذلك ما عرفنا عند تصوير الحالة الدينية يومئذ، والتي كان من أبرز سماتها انتشار البدع والخرافات ومنها عبادة الجن. ورد سؤال لرشيد رضا عن دعوى بعضهم أن بعض الجن كان يدرس في الأزهر ويحضر الدروس ويلقي الأسئلة على بعض العلماء على مسمع ومرأى من الناس، فأجاب: "إن الجن من العوالم الغيبية، واسمهم يدل على   1 سورة الأعراف، الآية (27) 2 مجموع الفتاوى (15/ 26) 3 انظر: صديق حسن خان: فتح البيان في مقاصد القرآن (3/ 305) 4 انظر: رأي ابن مسعود: البخاري: الصحيح، ك: المناقب، باب: ذكر الجن، ح: 3859، ومسلم: الصحيح، ك: الصلاة، ح: 150 (450) ورأي ابن عباس: مسلم: الصحيح، ك: الصلاة، ح: = = 149 (449) ، البخاري: الصحيح، ك: التفسير، باب: سورة قل أوحي إلي، ح: 4921، وانظر: فتح الباري (8/ 543) ، ومجمع الزوائد (7/ 106) ، وابن تيمية: مجموع الفتاوى (19/ 37 ـ 38) ، وانظر أيضاً: ابن كثير في التفسير (4/ 166) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 خفائهم واستتارهم، وقد قال الله في إبليس وهو من الجن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} 1 وقد نقل عن الإمام الشافعي تشديد عظيم على من يدعي رؤيتهم ... وقد اختلف النقل عن الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فروي عن ابن مسعود أنه رآهم، وروي عن ابن عباس أنه لم يرهم وأنه لو رآهم لما قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} 2، وقال بعض العلماء: إن ابن عباس قال بما يدل عليه القرآن، وابن مسعود قال بما ثبت عنده ولا منافاة. وادعى بعضهم أن رؤيتهم تكون كرامة للأولياء وسيأتي البحث فيه في موضعه ... ولكن لم يقل أحد من المسلمين ولا من غيرهم أن الجن يظهرون ويسألون العلماء على مرأى من الناس ومسمع. وأن للناس من الحكايات عن الجن في كل قطر وكل شعب ما يكاد يصل إلى حد الجنون. والله يعلم إنهم لكاذبون" 3. والذي يدفع رشيد رضا إلى اتخاذ هذا الموقف هو الأمر الذي وصلت إليه البدع من عبادة الجن والتقرب إليهم لاعتقاد الناس أنهم يمرضون الأجسام ويخطفون الأطفال ويشفون المرضى ويردون المفقودين. "ومن ذلك الزار الذي يخرجون به الشياطين من الأجساد بزعمهم، ولهذه الخرافات مضار ورزايا كثيرة في الأبدان والأرواح والأموال والأعراض ... " 4.وبينما يقر رشيد رضا بالطب الشرعي أو الروحي إلا أنه ينعى على الناس ما تسرب إليهم من هذا الباب من الخرافات والبدع، فيقول: "ومن المصائب على البشر أن أكثر المؤمنين بطب الدين الروحي في هذه القرون الأخيرة لا يقفون عند حدود ما أنزل الله على رسوله وما فهمه من حملته من السلف الصالح، بل زادوا وما زالوا يزيدون من الخرافات والبدع والضلالات، ما جعلهم حجة على دينهم وفتنة للذين كفروا ... " 5.   1 سورة الأعراف، الآية (27) 2 سورة الجن، الآية (1) 3 مجلة المنار (6/ 266 ـ 267) وانظر أيضاً: تفسير المنار (8/ 368) 4 تفسير المنار (8/368) 5 المصدر نفسه (8/367) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 ولذلك يتخذ رشيد رضا موقفاً متشدداً في هذه المسألة، فيرى ـ وينقله عن الشافعي ـ أن رؤية الجن خاصة بالأنبياء، ويريد بذلك أن يقطع حجة الدجالين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل بولايتهم للشياطين، وولاية الشياطين لهم، "وقد خوفوا الناس منهم حتى أوقعوا الرعب في قلوبهم، وأوقعوهم في ضلالات كثيرة" 1. والحق أن رؤية الناس الجن وكلامهم إياهم ثابت لا يدفع، وهذا يكون للصالحين على سبيل الكرامة، ولغير الصالحين، كما يقع لبعض السحرة وتسخيرهم لهم في الشرور وغيرها 2. والفرق بين هؤلاء وهؤلاء بيّن والحمد لله، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ـ بيان الفرق بين كرامات الأولياء وخوارق الأشقياء.   1 المصدر نفسه (8/368ـ 369) ولم أجد هذا الكلام المنسوب للشافعي في مناقب البيهقي، ط. دار التراثن مصر، الأولى، 1391هـ، ت: السيد صقر. 2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/232 و 19/ 41ـ 42) وبدر الدين الشبلي: آكام المرجان (ص:15) وانظر: عبد الكريم نوفان: عالم الجن في الكتاب والسنة (ص:19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 المطلب الثالث: دخول الجن في جسم الإنسان : وردت إشارة واحدة في القرآن الكريم تشير إلى تأثير الجن في الإنسان، هي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} 3، أي لا يقومون إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له" 4. ووردت في السنة عدة أحاديث تثبت صرع الجن للإنس وغلبتهم على عقله، وورد فيها معالجته صلى الله عليه وسلم للمصروعين، منها: حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق عن أم أبان بنت الوازع عن أبيها   3 سورة البقرة: الآية (275) 4 ابن كثير: التفسير (1/308) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 أن جدها الوازع 1 انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق معه بابن له مجنون أو ابن أخت له، قال جدي: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قلت يا رسول الله إن معي ابن لي، أو ابن أخت لي مجنون آتيك به فتدعوا الله عزوجل له، قال له: "ائتني به". فانطلقت إليه وهو في الركاب فأطلقت عنه، وألقيت عليه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ادنه مني، واجعل ظهره مما يليني، قال: فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض أبطيه ويقول: أخرج عدو الله، أخرج عدو الله، فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس نظره الأول، ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم يبن يديه فدعا له فمسح وجهه"، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه" 2. ومنها حديث ابن عباس "أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن به لمماً، وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، فثع 3 ثعة فخرج من فيه مثل الجرو 4 الأسود فشفي" 5. ففي هذه الأحاديث دلالة على دخول الجني في جسم الإنسي وصرعه له. وعلى هذا كان السلف. فقد قال عبد الله بن أحمد لأبيه: " إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: يا بني يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه" 6. وقال ابن تيمية: "وليس في أئمة المسلمين من ينكر   1 هو من وفد عبد القيس: انظر: الطبراني: المعجم الكبير (5/275) . 2 هذا الحديث عزاه ابن تيمية إلى أبي داود في السنن، وليس هناك، وإلى أحمد في المسند ولم أجده فيه، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وأم أبان لم يرو عنها غير مطر. مجمع الزوائد (9/2) وهو في المطبوع من الطبراني الكبير (5/275) ت: حمدي عبد المجيد السلفي. 3 الثع: القيء، والثعة: المرة الواحدة. ابن الأثير: النهاية (1/212) 4 الجِرو: صغار القثاء، وقيل الرمان، ويجمع على: أجرٍ. ابن الأثير: النهاية (1/264) 5 رواه أحمد (1/ 254، 268) وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني وفيه فرقد السبخي، وثقه ابن معين والعجلي، وضعفه غيرهما. مجمع الزوائد (9/2) 6 انظر: ابن تيمية مجموع الفتاوى (19/12) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك" 1. وفي الأناجيل المتداولة الآن أخبار عن المسيح عليه السلام تدل على علاجه للمصروعين، وإخراج الجن منهم 2. ولقد سئل الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ عن دخول الجن والشيطان في بدن الإنسان بناء على ما ذكر في الأناجيل، وبناء على ما ورد عن السلف، لا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وفيما يتعلق بما أثبتته الأناجيل، فقد أجاب الشيخ أولاً: بأن الأناجيل لا يعتمد عليها إذ ليس لها أسانيد صحيحة 3. وقد أمرنا أن لا نصدق أهل الكتاب ولا نكذبهم فيما لا حجة له أو عليه في كتابنا، ثم قال: "على أننا إذا سلمنا بأن بعض الشياطين دخلت في أجسام بعض الناس، وأنها خرجت على يد المسيح معجزة له فلا يلزم من ذلك أن نقيس خرافات عجائز الزار على معجزات الأنبياء المصطفين الأخيار " 4. وأما ما ورد عن شيخي الإسلام فيجيب عنه الشيخ رشيد بقوله: " ... وإن كان شيخا الإسلام من أجل الثقات عندنا فيما يرويانه عن أنفسهما وعن غيرهما بالجزم ـ فإننا نقول: إن وقائع الأحوال في هذا المقام فيها إجمال، هي قابلة لأنواع شتى من الاحتمال، على أن ما يؤخذ منها على ظاهره لا حجة فيه على شيء من أعمال الدجالين التي ينكرها الشرع والعقل، وأين دجل هؤلاء الفساق المحتالين من معجزة أو كرامة يكرم الله بها نبياً مرسلاً أو ولياً صالحاً، فيشفي على يديه مصروعاً ألم به شيطان أم لم يلم؟ وما إلمام الشيطان ببعض الناس بالمحال عقلاً حتى نحار في فهم   1 مجموع الفتاوى (24/277) 2 انظر: متى: (4/ 24 و 8/ 16 و9/ 32 ـ 33) 3 تفسير المنار (8/370) 4 مجلة المنار (6/709 ـ 710) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 أمثال هذه الروايات النادرة عند أهل الكتاب وعندنا، بل عند جميع الأمم، وإن بعض الأمراض العصبية التي يصرع أصحابها لابسهم الشيطان فيها أم لا لتشفى بتأثير الاعتقاد وتأثير إرادة الأرواح القوية إذا توجهت إلى الله تعالى سائلة شفاءها، وما نحن بالذين يدارون الماديين أو يبالون بإنكارهم لكل ما لا يثبته الحس لهم، بل نرى أن جملة ما روي عن الأنبياء والعلماء وما اشتهر عند كل الأمم يفيد بمجموعه التواتر المعنوي في إثبات أصل المسألة، وما لنا لا نذكر أنه قد وقع لنا من ذلك ما يعده كثير من الناس أمراً عظيماً يستبعدون أن يكون من فلتات الاتفاق ونوادر المصادفات.." ثم ذكر بعض ما حدث له من ذلك. 1. والدجالون الذين يشير إليهم الشيخ رشيد هم عبدة الجن الذين يقيمون الاحتفالات لإرضائهم وهو ما يعرف بالزار. يقول الشيخ رشيد في نفس السياق السابق: "إن مفاسد (الزار) 2 كثيرة مشهورة في هذه البلاد، وقد وصفناها من قبل في المنار. وسببها اعتقاد الكثيرات من النساء المريضات بأمراض عادية ولا سيما إذا كانت عصبية أن الشياطين قد دخلت في أجسادهن. وأن صانعات الزار يخرجنهم منها بإرضائهم والتقرب إليهم بالقرابين وغيرها. وهذا نوع من عبادة الجن التي كانت في الجاهلية فأزالها الإسلام بإصلاحه، ولما جهل الإسلام في كثير من البلاد وقبائل البدو عادت إلى أهلها ... " 3. والذي يريده رشيد رضا من هذا، هو ما أراده في المسألة السابقة، وهو قطع الطرق على الدجالين كما سبق بيانه، فهو لا ينكر دخول الجن في جسد الإنسان، بدليل ما يرويه هو عن نفسه وما حدث له مع أصحاب الصرع، ولكنه يتشدد في إثبات هذه الوقائع لسد باب الشر، فهو كما يقول بلسانه بعدما روى بعض هذه الوقائع: "إنني لم أذكر مثل هذا إلا لأمرين   1 تفسير المنار (8/369 ـ 370) 2 سبق تعريف الزار (ص:540) 3 تفسير المنار (8/ 369) ، وانظر: الوحي المحمدي (ص/ 222ـ 223) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 أحدهما: أن لا يظن ظان أني أميل في تشددي في كشف غش الدجالين إلى آراء الماديين، وثانيهما: أن لا يجعل أحد ما نقل عن مثل شيخ الإسلام من إرساله رسولاً إلى المصروع يخرج منه الشيطان حجة على من ينكر دجل هؤلاء الضالين من عباد الشياطين أو الدعاة إلىعبادتهم ... " 1. فيريد رشيد رضا إغلاق هذا الباب سداً للذريعة، على أنه لا ينكر أن يقع ذلك معجزة لنبي أو كرامة لولي ولكن: "أين دجل هؤلاء الفساق المحتالين من معجزة أو كرامة يكرم الله بها نبياً مرسلاً أو ولياً صالحاً فيشفي على يديه مصروعاً ألم به الشيطان ... " 2. والذي يدل على أن إخراج الجني من المصروع هو من باب "خوارق العادات، أو المعجزات والكرامات، صنيع المؤلفين من المحدثين وغيرهم، الذين يوردون هذه المسألة تحت باب معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم 3   1 تفسير المنار (8/ 371) 2 تفسير المنار (8/ 370) 3 ومن ذلك ما صنع: الدارمي: السنن (1/ 19) ، والبيهقي: دلائل النبوة (2/ 21 و25) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1405هـ، ت: عبد المعطي قلعجي، والهيثمي: مجمع الزوائد (9/ 2) ، وابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 188) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 الفصل الثاني: الإيمان بالكتب تمهيد ... تمهيد: إن الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عزوجل على أنبيائه ورسله ركن من أركان الإيمان الستة، وقد دلت آيات كثيرة على أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما دلت على إنزال الكتب السابقة على من سبقه من الأنبياء والمرسلين، كما أنها ذكرت بعض ما تضمنته هذه الكتب السابقة، كما ذكرت ما اعتراها من التغيير والتبديل. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 1. وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 2. وقال تعالى: {آلم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} 3. وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً   1 سورة الزمر، الآية (41) 2 سورة الزمر، الآية (23) 3 سورة آل عمران، الآية (1 ـ 4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1. وكان يجب على أهل الكتاب أن يحكموا بما أنزل الله فيه، ولكنهم حرفوه ونبذوه وراء ظهورهم كما أنهم نسوا وأضاعوا جزءاً منه 2. والإيمان بهذه الكتب ـ أي بجنسها ـ قبل أن يصيبها ما أصابها واجب على المؤمن. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 3. وقد قرر الشيخ محمد رشيد هذه المعاني جميعاً وأثبتها في كتاباته وتحدث عن القرآن الكريم والكتب السابقة عليه، وبين ما اعتورها من تحريف وتبديل. فقرر الشيخ رشيد أولاً وجوب الإيمان بجنس هذه الكتب، فقال عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} 4 " ... جمهور المفسرين على أن الخطاب فيها للمؤمنين كافة، أمرهم الله أن يجمعوا بين الإيمان به وبرسوله الأعظم خاتم النبيين والقرآن الذي نزل عليه وبين الإيمان بجنس الكتب التي نزلها على رسله من قبل بعثة خاتم النبيين، بأن يعلموا أن الله قد بعث قبله رسلاً، وأنزل عليهم كتباً، وأنه لم يترك عباده في الزمن الماضي سدى، محرومين من البينات والهدى، ولا يقتضي ذلك أن يعرفوا أعيان تلك الكتب ولا أن تكون موجودة، ولا أن يكون الموجود منها صحيحاً غير   1 سورة المائدة، الآية (44 ـ 45) 2 انظر: سورة البقرة، الآية (110) ، وسورة المائدة، الآية (14) 3 سورة النساء، الآية (136) 4 سورة النساء، الآية السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 محرف، ... " 1. ثم قال: "فالإيمان بالله هو الركن الأول، والإيمان بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني، والإيمان بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث ... " 2. ثم يتحدث رشيد رضا عن كل كتاب من هذه الكتب على حدة.   1 تفسير المنار (5/ 459) 2 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 المبحث الأول: القرآن ويولي الشيخ رشيد القرآن الكريم عناية خاصة فيشير إلى خصائصه ومكانته بين الكتب الإلهية وما امتاز به عليها وما اشتمل عليه من النور والهدى. فيقول الشيخ رشيد واصفاً هذا الكتاب: "القرآن العظيم، القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1 هو كتاب لا كالكتب، هو آية لا كالآيات، هو معجزة لا كالمعجزات، هو نور لا كالأنوار، هو سر لا كالأسرار، هو كلام لا كالكلام ... " 2. ولم يتعرض القرآن لما تعرض له غيره من الكتب السابقة من التغيير والتبديل والتحريف، لأن الله تعالى تعهد بحفظ هذا الكتاب ـ ومن أوفى بعهده من الله ـ وفي هذا يقول الشيخ رشيد: " ... وما كفل تعالى حفظ كتاب من كتبه بنصه إلا هذا القرآن المجيد الذي قال فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3 وظهر صدق كفالته بتسخير الألوف الكثيرة في كل عصر لحفظه عن ظهر قلب ولكتابة النسخ التي لا تحصى منه في كل عصر، من زمن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إلى هذا العصر، وناهيك   1 سورة فصلت، الآية (42) 2 الوحي المحمدي: (ص: 136) 3 سورة الحجر، الآية (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 بما طبع من ألوف الألوف من نسخه في عهد وجود الطباعة بمنتهى الدقة والتصحيح. ولم يتفق ذلك لكتاب إلهي ولا غير إلهي ... " 1. ومن خصائص القرآن الكريم أنه الآية الكبرى لنبينا عليه الصلاة والسلام، وإنها لآية مشتملة على آيات كثيرة، عقلية وكونية، لو لم يكن لنبينا صلى الله عليه وسلم غيرها لكفى، وفي ذلك يقول الشيخ رشيد: " ... فالقرآن في جملته آية علمية، وفي تفصيله آيات كثيرة عقلية وكونية، وهي دائمة لا تزول كما زالت الآيات الكونية كعصا موسى مثلاً، عامة لا تختص ببعض من كان في عصر الرسول كما كانت آية موسى الكبرى خاصة بمن رآها في عصره، وهي أدل على الرسالة من الآيات الكونية ... فالآية العلمية القطعية لا يمكن المراء فيها، كما يمكن المراء في الآية الكونية، التي هي أمر غريب غير معتاد يشتبه بكثير من الأمور النادرة التي لها أسباب خفية كالسحر وغيره ... وقد جاء في الفصل الثالث عشر من سفر تثنية الاشتراع أن من أتى بآية أو أعجوبة من نبي أو حالم، وأمر بعبادة غير الله تعالى لا يسمع له بل يجب قتله لأنه تكلم بالزيغ 2 فالآيات الكونية إذاً لا تدل على صدق كل من تظهر على يديه، بل تختلف دلالتها باختلاف أحوال من تظهر على أيديهم ... " 3. والقرآن ـ في الحق ـ آية كونية كذلك، لأنه من غير المعتاد "أن من عاش أربعين سنة لم يصدر عنه علم ولا عرفان ولا بلاغة لسان، لا يمكن أن يصدر عنه بعد الاكتهال ما لم يكن له أدنى نصيب منه في سن الشباب" 4. وكما يقول الشيخ رشيد: "فظهور أعلى علوم الهداية على لسان أميّ كان ـ هو وقومه ـ أبعد الناس عن كل علم بعبارة أعجزت ببلاغتها قومه كما أعجزت غيرهم، على أنه لم يكن من قبل معدوداً من بلغائهم، أدل   1 تفسير المنار (8/ 14) 2 انظر: سفر التثنية (13/ 1 ـ3) دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط. 3 تفسير المنار (7/ 388) 4 الوحي المحمدي: (ص: 141) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 على كون ذلك موحى به من الله عزوجل من عصا موسى على كون ما جاء به من التوراة موحى به منه تعالى وهي غير معجزة في نفسها، وقد نشأ من جاء بها في دار ملك أربى على سائر ممالك الأرض بالعلوم والشرائع" 1. وأخيراً فإن القرآن هو الحكم العدل وشاهد الصدق على ما سبقه من الكتب، ومهيمناً عليه، ولا طريق لإثبات صدق وحقية ما سبق من الكتب إلا عن طريقه، فهو ـ أي القرآن ـ "الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له، ولا طريق لإثباته سواه لانقطاع سند تلك وفقد بعضها ووقوع الشك فيما بقي منها، فما أثبته كتابنا من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالاً فيما أجمل وتفصيلاً فيما فصل وما أثبته لهم من الكتب كذلك ... " 2.   1 تفسير المنار (7/ 388) 2 المصدر نفسه (3/ 356) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 المبحث الثاني: التوراة : وتحدث رشيد رضا عن التوراة حديثاً كثيراً، ولكني أقتصر عل ما يناسب هذا الموضوع. يفرق الشيخ رشيد بين التوراة التي ذكرها الله تعالى في القرآن وأنه ـ تبارك وتعالى أنزلها على موسى ـ وبين التوارة الحالية المقدسة عند اليهود والنصارى، فالتوراة المذكورة في القرآن هي ما أنزله الله تعالى من الوحي على موسى عليه الصلاة والسلام ليبلغه قومه لعلهم يهتدون به، وقد بين تعالى أن قومه لم يحفظوه كله، كما قال تعالى: {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} 1 كما أخبر عنهم في آيات أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وذلك فيما حفظوه واعتقدوه 2، فهذه التوراة القرآنية هي التي يجب أن نؤمن بها 3. أما التوراة المتداولة الآن بين أهل الكتاب فيعرفها الشيخ رشيد لغة واصطلاحاً فيقول: "التوراة كلمة عبرانية معناها المراد: الشريعة أو الناموس. وهي تطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار، يقولون إن موسى كتبها،   1 سورة المائدة، الآية (14) 2 سورة النساء، الآية (46) 3 تفسير المنار (3/ 155) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 وهي: سفر التكوين؛ وفيه الكلام عن بدء الخليقة، وأخبار بعض الأنبياء، وسفر الخروج، وسفر اللاويين أو الأخبار، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع، ويقال: التثنية فقط ... " 1. ويقرر الشيخ رشيد أن التوراة الحالية تشهد بما قرره القرآن من وقوع التحريف فيها، ويستدل على ذلك بأدلة منها: أولاً: أنه لم يقم دليل على أن موسى هو الذي كتب هذه التوراة، بل قام الدليل عند الباحثين من الأوروبيين على أنها كتبت بعده بمئات السنين. قال الشيخ رشيد: "ولا تعرف اللغة التي كتبت بها التوراة أول مرة، ولا دليل على أن موسى عليه السلام كان يعرف اللغة العبرانية وإنما كانت لغته مصرية، فأين التوراة التي كتبها بتلك اللغة ومن ترجمها عنه؟ " 2. والحق ما قاله الشيخ رشيد، فمن المعقول جداً أن تكون التوراة التي نزلت على موسى المصري هي بلسان قومه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 3 وإلا فكيف يخاطب موسى فرعون والمصريين بلغة عبرانية لا يفهمونها، والأقرب أن موسى كان هو وقومه من بني إسرائيل يتكلمون المصرية القديمة، من أن يتكلم المصريون، الذين كانوا يعدون بني إسرائيل عبيداً لهم، لغة هؤلاء العبيد. إلا أنني لم أجد أحداً أشار إلى هذه الملاحظة غير رشيد رضا، والجميع يقولون إن التوراة دونت باللغة العبرية لغة إسرائيل 4. ثانياً: أن النسخة التي كتبها موسى فقدت، وكان عندهم قراطيس   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 تفسير المنار (3/ 266) 3 سورة إبراهيم، الآية (4) ، وانظر: ابن كثير: التفسير (2/ 504) 4 انظر: صابر طعيمة: التراث الإسرائيلي ط. دار الجيل، بيروت، 1399هـ (ص: 328) وما بعدها. ومحمد علي البار: المدخل لدراسة التوراة ط. دار القلمن دمشق، الأولى، 1410هـ (ص: 126) ، ود. يحيى ربيع: الكتب المقدسة (ص: 102) ط. دار الوفاء، الأولى، 1415هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 متفرقة ـ يبدونها ويخفون كثيراً منها ـ فأرادوا أن يؤلفوا بين الموجود فجاء فيه ذلك الخلط، وقد وقعت هذه المحاولة بعد موسى بعدة مئات من السنين 1. ثالثاً: أن الإلهام الذي ادعوا أن عزرا جمع تلك الكتب بناءً عليه ويحتجون بذلك على صدقها وسلامتها، لا سبيل إلى إقامة البرهان عليه. "وهو مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لا ثقة بنقلهم، ولو جمع عزرا بالإلهام الصحيح لكتب شريعة موسى مجردة عن الأخبار التاريخية، ومنها ذكر كتابته لها ووضعها في جانب التابوت وذكر موته وعدم مجيء مثله 2. رابعاً: أن علماء أوروبا قد قرروا أن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة ولا يمكن أن تكون كتابة واحد 3. خامساً: اشتمال التوراة الحالية على حوادث وقعت بعد موسى أي: أن موسى لا يمكنه كتابتها، ومنها خبر موته، وكونه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله "فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وما هما في الحقيقة من الشريعة المنزلة على موسى" 4. غير أن الشيخ رشيد يقرر أن التوراة الحالية لا بد أن تكون مشتملة على بعض الحقائق "لأن القرآن يقول في اليهود: إنهم أوتوا نصيباً من الكتاب 5، كما يقول: إنهم نسوا حظاً مما ذكروا به 6 ولأنه يستحيل أن تنسى تلك الأمة بعد فقد كتاب شريعتها جميع أحكامها، فما كتبه عزرا   1 تفسير المنار (5/ 140 و3/ 266) 2 تفسير المنار (3/ 157 ـ 158) ، وانظر: الكتاب المقدس: التثنية (34/ 10 ـ 12) 3 تفسير المنار: نفس الصفحة، وانظر: صابر طعيمة: التراث الإسرائيلي (ص: 310) وما بعدها. 4 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (3/ 157) 5 سورة النساء، الآية (44) 6 سورة المائدة، الآية (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده وعلى غيره من الأخبار، وهذا كاف في الاحتجاج على بني إسرائيل بإقامة التوراة وللشهادة بأن فيها حكم الله كما في سورة المائدة 1، وبهذا يجمع بين الآيات الواردة في التوراة وبين المعقول والمعروف في تاريخ القوم" 2.   1 الآية (44 و45) 2 تفسير المنار (3/ 158) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 المبحث الثالث: الإنجيل : قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ} 1. وقد عرف الشيخ رشيد الإنجيل بحسب اللغة، ثم عرفه بحسب اصطلاح النصارى والمسلمين، فقال عن معنى الإنجيل في اللغة: "أما لفظ الإنجيل فهو يوناني الأصل، ومعناه: البشارة، قيل: والتعليم الجديد ... " 2. وكانت البشرى هي أهم ما احتواه الإنجيل، وأهم ما أخبر عنه المسيح ـ عليه السلام ـ {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 3. وأما الإنجيل في اصطلاح القرآن فهو ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ: "ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من البشارة بالنبي الذي يتمم الشريعة والحكم والأحكام وهو ما يدل عليه اللفظ ... " 4. والإنجيل "يطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل الأربعة وعلى ما يسمونه العهد الجديد وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال   1 سورة آل عمران، الآية (3، 4) 2 تفسير المنار (3/ 158) 3 سورة الصف، الآية (6) 4 تفسير المنار (3/ 159) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 الرسل (أي الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا ... " 1. ومن الفرق بين الاصطلاحين ـ الإسلامي والمسيحي ـ يتبين أن النصارى لا يقولون إن هذه الأناجيل نزلت من السماء ـ كما هو المفهوم من تعبير القرآن، بل إنهم يقولون: إنها كتبت بأيدي تلامذته لتحوي سيرته التي شاهدوها، فهي ـ وكما يقول الشيخ رشيد: " ... عبارة عن كتب وجيزة في سيرة المسيح عليه السلام وشيء من تاريخه وتعليمه، ولهذا سميت أناجيل وليس لهذه الكتب سند متصل عند أهلها، وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة ... " 2. وفيما يتعلق أيضاً بتاريخ كتابة هذه الكتب يقول الشيخ رشيد: "وأما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح، لأن أتباعالمسيح كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، فلما آمنوا باعتناق الملك قسطنطين النصرانية سياسة ظهرت كتبهم ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على هذه الأربعة ... " 3. فالمسلمون يقولون إن الإنجيل هو موحى به من الله تعالى، بينما يقول النصارى إنها كتب ألفت لتحتوي سيرة المسيح، كتبها تلامذته. والحق أن نصوص الإنجيل ـ الحالي ـ تشهد لقول المسلمين. إن المسيح نفسه قال ـ بحسب الإنجيل المتداول ـ إن الإنجيل أوحي إليه من عند الله كما يعتقد المسلمون وخاطبه به جبريل الأمين، فقال: "الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم" 4. ويقول بولس: "كل الكلام هو موحى به من عند الله" 5.   1 المصدر نفسه (3/ 158) ، وانظر: صابر طعيمة: الأسفار المقدسة (ص: 253) ط. عالم الكتب، الأولى، 1406هـ. 2 تفسير المنار (3/ 158) 3 المصدر نفسه (3/ 159) 4 يوحنا (17: 7) 5 رسالة بولس الثانية إلى ثيموثاوس (3: 16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وتشير الأناجيل المتداولة الآن إلى إنجيل آخر مفقود، هو إنجيل المسيح، وهو بالضرورة مختلف عن الأناجيل الموجودة حالياً والمنسوبة إلى كاتبيها 1. وهذا هو ما أراد الشيخ رشيد أن يقرره بقوله: "الإنجيل في الحقيقة واحد، وهو ما جاء به المسيح عليه السلام من الهدى والبشارة بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وهو ما كان يدور ذكره على ألسنة كتاب تلك التواريخ الأربعة وغيرهم حكاية عن المسيح وعن ألسنتهم أنفسهم. قال متى حكاية عنه "الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها" 2، أي ما فعلته المرأة التي سكبت قارورة الطيب على رأسه. أوجب عليهم أن يخبروا كل من يبلغونهم الإنجيل في عالم اليهودية كلها بما فعلته تلك المرأة، فخبر تلك المرأة ليس من الإنجيل الذي جاء في كلام المسيح وقد ذكر في تلك التواريخ امتثالاً لأمره. وسميت تلك التواريخ أناجيل لأنها تتكلم عن إنجيل المسيح وتجيء بشيء منه. ولذلك بدأ مرقس تاريخه بقوله "بدء إنجيل يسوع المسيح" 3 ثم قال حكاية عن المسيح "فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" 4 فالإنجيل الذي أمر الناس أن يؤمنوا به ليس هو أحد هذه التواريخ الأربعة ولا مجموعها. وهو الذي سماه بولس في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي 5 "الإنجيل" المطلق (2: 4) وإنجيل الله (2: 8 و9) وإنجيل المسيح (3: 2) ... " 6. وتحدث الشيخ رشيد باستفاضة عن تاريخ هذه الأناجيل وعن أدلة   1 انظر مثلاً: مرقس (1/ 14) ومتى (26/ 13) 2 انظر: متى (26/ 13) 3 انظر: مرقس (1/ 1) 4 مرقس (1/ 14) ، وانظر للتوسع: صابر طعيمة: الأسفار المقدسة (ص: 237 و254) 5 تسالونيكي: كانت تسالونيكي قصبة مكدونية في أيام لرومان، واسمها الحالي: سالونيك في اليونان حالياً. انظر: وليم ادّى: الكنز الجليل في تفسير الإنجيل (7/ 308) 6 تفسير المنار (6/ 290) ، وانظر هذه النصوص المشار إليها في العهد الجديد: رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي: المواضع التي أشار إليها الشيخ رشيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 وظروف تحريفها وضياعها، وعن أسباب عدم الثقة فيها. والحق أن للشيخ رشيد بحوثاً وتحقيقات هامة وطويلة في مقارنة الأديان وتاريخها تستحق أن تدرس على حدة، وأسأل الله تعالى أن ينسأ في أجلي وأن يوفقني لبيان جهود رشيد رضا في "مقارنة الأديان وتاريخها" والله تعالى ولي التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 الفصل الثالث: الإيمان بالرسل تمهيد ... تمهيد: إرسال الرسل لوازم ربوبية الله تعالى لخلقه، لأنه لا يحسن أن يترك عباده سدى هملاً لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم 1.والإيمان بالنبوة والرسالة ينبني على الإيمان بالربوبية والإلهية، فلا يخاطب بها إلا من يؤمن بالله تعالى وصفاته من العلم والحكمة والمشيئة 2. وبالتالي فقد أصاب النبوة مثل ما أصاب الربوبية في هذا العصر الحديث، فالنبوة في العصر الحديث لا تزيد على مرتبة العبقرية، عند الكتّاب والأدباء، كما أنهما عند الشيخ محمد عبده غير النبوة المعروفة في الإسلام، إذ أنه يعرف النبي بأنه: "إنسان فطر على الحق علماً وعملاً، بحيث لا يعلم إلا حقاً ولا يعمل إلا حقاً على مقتضى الحكمة ... " 3. فهذه هي النبوة عند الكتاب والفلاسفة في العصر الحديث. ولقد كان آخر مؤلفات الشيخ رشيد، وأحبها إليه، كتاب يبحث في هذا الموضوع دون غيره، وهو كتاب "الوحي المحمدي". فلدينا إذاً مادة غزيرة في مبحث النبوات عند الشيخ رشيد، أعرض لأهمها في ما يلي.   1 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (1/ 8) ، وانظر أيضاً: السفاريني: لوامع الأنوار (2/ 259) 2 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (1/ 216) 3 انظر: مصطفى صبري: موقف العقل (1/ 29 ـ30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 المبحث الأول: تعريف النبي والرسول : الرسول في لغة العرب مشتق من الإرسال، ومعناه: البعث والتوجيه، فإذا بعثت أحداً في مهمة؛ فهو رسولك فيها، كما قال تعالى عن ملكة سبأ {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 1. ويجمع الرسول على أرسل ورسل، ورسلاء، وسمي الرسل بذلك لأنهم مبعوثون وموجهون من قبل الله عزوجل لتبليغ الخلق أمر الله تعالى ووحيه 2. وأما النبي في اللغة فهو من النَّبْوَة أي: الرفعة، وسمي نبياً لرفعة محله عن سائر الناس. والنبوة والنباوة: الارتفاع، ومنه قيل: نبا بفلان مكانه، كقوله: قضّ عليه مضجعه 3. وقد تكون من النبأ ـ بالهمز ـ وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة الذي يحصل به العلم أو الظن، وسمي النبي لكونه منبئاً بما تسكن إليه العقول الزكية 4. ولقد عرّف رشيد رضا النبي في اللغة والاصطلاح، فقال عن "النبي" لغة: "والنبي في اللغة فعيل من مادة النبأ، بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن   1 سورة النمل، الآية (35) 2 انظر: ابن منظور: لسان العرب (1/ 283 ـ 284) مادة رسل، والراغب: المفردات (ص: 352 ـ 353) رسل، والجوهري: الصحاح (4/ 1709) 3 الراغب: المفردات (ص: 790) 4 المصدر نفسه (ص: 789) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 أو بمعنى الارتفاع وعلو الشأن، والأول أظهر، وأكثر العرب لا تهمزه، بل نقل أنه لم يهمزه إلا أهل مكة ... " 1. وقال في موضع آخر: "النبيءُ في اللغة العربية: وصف من النبأ، وهو الخبر المفيد لما له شأن مهم، ويصح فيه معنى الفاعل والمفعول، لأنه منبئٌ عن الله ومنبأٌ منه، والنبيّ بالتشديد أكثر استعمالاً ... " 2. فيظهر من هذا موافقة رشيد رضا في المعنى اللغوي لما عليه أهل اللغة 3. وأما معنى النبي في الاصطلاح، فقد تعددت أقوال العلماء فيه، والذي اختاره شيخ الإسلام: أن " النبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ عما أنبأ الله به. فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل إلى أحد يبلغه عن الله رسالة، فهو نبي وليس برسول. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 4، فذكر إرسالاً يعم النوعين، وقد خص أحدهما بأنه رسول، فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره الله بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح ... " 5. وأما رشيد رضا فقد وقفت له على تعريفين لمعنى النبي في الاصطلاح الشرعي. الأول: هو التعريف المشهور، وهو: "من أوحى الله إليه وحياً فإن أمره بتبليغه كان رسولاً، فكل رسول نبي وما كل نبي رسولاً" 6. وقد اعْتُرِضَ على هذا التعريف بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا   1 تفسير المنار (9/ 225) 2 الوحي المحمدي (ص: 47) 3 قارن مع الراغب: المفردات (ص: 789ـ 790) 4 سورة الحج، الآية (52) 5 النبوات (ص: 255) ط. دار القلم، بيروت. 6 الوحي المحمدي (ص: 47) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 نَبِيٍّ} الآية 1. لأنها تدل على أن كلاً منهما مرسل، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير 2. لكن للشيخ رشيد تعريف آخر، يقترب فيه من تعريف ابن تيمية الذي سبق ذكره، فقد قال معرفاً له: "وأما في الاصطلاح فالنبي من أوحى الله إليه وأنبأه بما لم يكن يعلمه بكسبه من خبر أو حكم، يعلم به علماً ضرورياً أنه من الله عزوجل، والرسول نبي أمره الله بتبليغ شرع ودعوة دين وبإقامته، بالعمل، ولا يشترط في الوحي إليه أن يكون كتاباً يقرأ وينشر ولا شرعاً جديداً يعمل به ويحكم بين الناس. بل قد يكون تابعاً لشرع غيره كله، كالرسل من بني إسرائيل كانوا متبعين لشريعة التوراة ... ، وقد يكون ناسخاً لبعضه كما نسخ عيسى عليه السلام بعض أحكام التوراة ... ، وجملة القول أن الرسول أخص في عرف شرعنا من النبي، فكل رسول نبي ولا عكس ... " 3. وكون الرسول أخص من النبي هو المتفق عليه، وإنما الخلاف في وجه هذه الخصوصية. وتعريف ابن تيمية السابق هو الأقرب، وقد اقترب منه رشيد رضا 4. ولقد ذكر رشيد رضا تعريف النبي لغة واصطلاحاً عند أهل الكتاب فقال: "إن معنى أصل مادته في العبرانية القديمة: المتكلم بصوت جهوري مطلقاً، أو في الأمور التشريعية ... " 5. وأما اصطلاحاً فهو "يطلق عند أهل الكتاب على الملهم الذي يخبر بشيء من أمور الغيب المستقبلة" 6. ويشير رشيد رضا إلى مسألة "ختم النبوة" مستشهداً بقوله تعالى: {مَا   1 سورة الحج، الآية (52) 2 محمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان (5/ 735) 3 تفسير المنار (9/ 225) 4 وانظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 158) 5 الوحي المحمدي (ص: 47) 6 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1 فيقول: إنه "يدل على انقطاع النبوة والرسالة معاً بعد محمد صلى الله عليه وسلم " 2، وذلك بناءً على كون النبوة أعم من الرسالة. ويقرر رشيد رضا أن النبوة فضل من الله تعالى، ليس لأحد فيها شيء، ولا هي من نوع العبقريات، فيقول: "الرسالة فضل من الله تعالى يختص به من يشاء من خلقه، ولا ينالها أحد بكسبه، ولا يتوسل إليها بسبب ولا نسب، على أنه لا يختص بهذه الرحمة العظيمة والمنقبة الكريمة إلا من كان أهلاً لها بما أهله هو من سلامة الفطرة وعلو الهمة، وزكاء النفس وطهارة القلب وحب الخير والحق ... " 3. ويبين رشيد رضا أن النبوة والرسالة من مقتضى صفات الله تعالى وربوبيته، فيقول: "إن إرسال الرسل وإنزال الكتب شأن من شؤونه سبحانه ومتعلق صفاته في النوع البشري، فإنها من مقتضى الحكمة، وأجل آثار الرحمة ... " 4. ويقول: "إن الإيمان بالنبوة والرسالة ينبني على الإيمان بالربوبية والإلهية" 5. موقف الناس من الرسل: ولقد أرسل الله الرسل لهداية الناس إلى سعادة الدارين، ولكن تباينت مواقف الناس من رسل الله تعالى بين مؤمن ومنكر، فيبين الشيخ رشيد هذا وشبهة كل فريق من المنكرين، ثم يبين حكم الإيمان بهم، فيقول أولاً إن العرب كانت تنكر الوحي والرسالة، إلا قليلاً منهم، وكانت شبهتهم في   1 سورة الأحزاب، الآية (40) 2 الوحي المحمدي (ص: 47 ـ 48) 3 تفسير المنار (8/ 39) وقارن مع ابن حجر: فتح الباري (1/16 ـ 17) 4 المصدر نفسه (7/ 612) 5 المصدر نفسه (1/ 216) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 ذلك: "استبعاد اختصاص الله تعالى بعض البشر بهذا التفضيل على سائرهم وهم متساوون في الصفات البشرية بزعمهم ... " 1. وقريباً من موقف العرب، يقف اليهود "الذين أنكروا أن يختص الله تعالى بهذه الرحمة والمنة من يشاء من عباده، وأوجبوا عليه أن يحصر النبوة في شعب إسرائيل وحده ... على أنهم وصفوا الأنبياء بالكذب والخداع والاحتيال ... ووافقهم النصارى على حصر النبوة فيهم وأثبتوا قداسة غير الأنبياء من رسل المسيح وغيرهم من البابوات والعباد ... " 2. ومن بين هذه المواقف يأتي موقف المسلمين الوسط بين الأمم، فالمسلمون ـ وكما يقول الشيخ رشيد ـ "يؤمنون بأن رب العالمين أرسل في كل الأمم رسلاً هادين مهديين، فهم يؤمنون بهم إجمالاً، وبما قصه القرآن عن بعضهم تفصيلاً ... فالمسلم صديق ومحب وحبيب لجميع الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة، وتجاه هذا يصح أن يقال: إن غير المسلم عدو لله ولهم كلهم، لأن تكذيب بعضهم تكذيب لرسالتهم ولمرسلهم سبحانه ... " 3. والحق ما قال الشيخ رشيد، فإن المسلم هو صاحب أصح موقف بين الأمم باتخاذه الموقف الوسط بينها في الإيمان بجميع رسل الله تعالى، وعدم تفريقه بينهم بالإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم، وفي هذا يقول الشيخ رشيد: "ومما بينه القرآن في مسألة الأنبياء والرسل أنه يجب الإيمان بجميع رسل الله تعالى وعدم التفرقة بينهم في الإيمان، وأن الإيمان ببعضهم والكفر ببعض كالكفر بهم كلهم لأن إضافتهم إلى الله تعالى واحدة ... قال تعالى في خواتيم سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 4، وبين في   1 الوحي المحمدي (ص: 198) 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 المصدر نفسه (ص: 203) 4 سورة البقرة، الآية (285) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 سورة النساء أن التفرقة بينهم في الإيمان هي الكفر حق الكفر، وأن الإيمان بالجميع بغير تفرقة هو الإيمان حق الإيمان 1 ... وقد انفرد بهذه الحقيقة العادية المسلمون دون أهل الملل الوثنية من المجوس والهندوس، ودون أهل الكتاب الذين لا يؤمنون إلا بأنبياء بني إسرائيل ... " 2. وموقف المسلمين هذا يستند إذاً إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهما سداه ولحمته، ولذلك جاء موقفها هذا موقفاً معتدلاً وسطاً، لا غلو فيه ولا إفراط 3   1 انظر: سورة النساء، الآية (150 ـ 151) 2 الوحي المحمدي (ص: 202 ـ 203) 3 انظر: د. محمد باكريم با عبد الله: وسطية أهل السنة (ص: 277) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 المبحث الثاني: الحاجة إلى الوحي والنبوة : لا شك أن النبوة ضرورة من ضرورات حياة البشر، لا غنى عنها بحال من الأحوال، فحاجة البشرية إلى النبوة، كحاجة الحياة إلى الروح، وأنهم ـ أي الرسل ـ من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ مبيناً حاجة العباد إلى الأنبياء والرسل: " ... ومن ههنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم ... فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير ... " 1. وقد ذهب قوم إلى أن البشر يستغنون عن الدين في انتظام شملهم وقوام مدنيتهم وأن الإنسان يمكن أن يصل بعقله إلى ما فيه سعادته من غير وحي إلهي ولا إرشاد سماوي اكتفاء بالعقل والمشاعر والوجدان والإلهام التي وهبها له مدبر الكون 2. ويقولون أيضاً: ها هو ذا الدين الذي يقال أنه جامع الكلمة ورسول المحبة كان سبباً في الشقاق والخلاف 3.   1 زاد المعاد (1/ 69) . 2 انظر: مجلة المنار (1/ 243) 3 انظر: المصدر نفسه (1/ 289) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 وقد بين الشيخ رشيد حاجة البشر إلى الرسالة وأجاب عن شبهات المنكرين لهذه الحاجة. قال: "وجه حاجة البشر إلى هداية الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في الجملة: أن موضوع رسالتهم المقصود بالذات، أو القصد الأول ثلاثة أمور، لا تستقل معارفهم المكتسبة بحواسهم وعقولهم بها، ولا يذعنون فيها إلا لأمر ربهم وخالقهم: أحدها: الإيمان بالغيب ورأسه توحيد الله وصفاته وآياته الدالة على كماله وتنزهه عن النقص، وما يجب من عبادته وشكره وذكره الذي هو أعلى ما تتزكى به الأنفس، وتتطهر من أدران مساويها، وتصل إلى الكمال المستعدة له بفطرتها، ويليه الإيمان بملائكته وما يناط بهم من الوحي والنظام في الخلق والأمر ويجب الوقوف في ذلك عند ما ورد به النص .... ثانيها: ما يجب اعتقاده من البعث بعد الموت والحساب والجزاء على الإيمان والأعمال، وهو أكبر البواعث ـ بعد الإيمان بالله ومعرفته ـ على اتباع ما شرعه من اتباع الحق، وإقامة العدل، وأعمال البر والخير والصدود عن أضدادها. ثالثها: وضع حدود وأصول للأعمال التشريعية المشار إليها لا مجال للآراء والأهواء فيها، لتكون جامعة للكلمة، مانعة من التفرقة، متبعة في السر والعلانية ... " 1. ويبين رشيد رضا ـ مُفصِلاً ومؤكداً لهذا المعنى ـ إن حاجة البشر إلى الوحي تظهر في جهتين: الدنيا والآخرة؛ فأما في الدنيا فمن حيث أن الإنسان يعيش في جماعة ـ وقد أودع في كل فرد من أفرادها ما يقتضي التباين والتنازع، ولا يتم لنوع الإنسان ارتقاؤه ولا بقاؤه مع هذه الغرائز المتعارضة، فمن ثم كان محتاجاً إلى إرشاد يوفق بين آثار هذه الغرائز وعوارضها، بما يذهب بتعارضها، ويعرف كل فرد من الأفراد حده، ويجعل له من نفسه وازعاً يوقفه عنده، ولم تكمل له هذه الحاجة إلا بالدين 2. وأما سعادة الآخرة فلا طريق إليها إلا الرسل ـ عليهم السلام ـ فهم أولاً: يخبرون   1 الوحي المحمدي (ص: 48 ـ 50) باختصار. 2 انظر: مجلة المنار (4/ 10 و 140) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 بها ويؤكدون ما فطر عليه الإنسان من الإحساس بوقوعها، ثم يبينون السبيل للفوز بنعيمها وسعادتها 1. وأما كون الدين لم يرفع الشقاق، بل ربما كان سبباً فيه، وهي من الشبه التي يلقيها منكرو الوحي والرسالة، فيجيب عنها الشيخ بقوله: " ... نعم كل ذاك قد كان ولكن بعد زمن الأنبياء، وانقضاء عهدهم ووقوع الدين في أيدي من لا يفهمه أو يفهمه ويغلو فيه ولكن لم يمتزج حبه بقلبه، أو امتزج بقلبه حب الدين ولكن ضاقت سعة عقولهم عن تصريفه تصريف الأنبياء ... وإلا فقل لنا: أي نبي لم يأت أمته بالخير الجم، والفيض الأعم، ولم يكن دينه وافياً بجميع ما تمس إليه حاجتها في أفرادها وجملتها ... وكذلك الرسل ـ عليهم السلام ـ أعلام هداية نصبها الله على طريق النجاة، فمن الناس من اهتدى بها فانتهى إلى غايات السعادة، ومنهم من غلط في فهمها وانحرف عن هديها فانكب في مهاوي الشقاء، فالدين هاد والنقص يعرض لمن دُعوا إلى الاهتداء به ... " 2. إن الرسل دعوا إلى كل خير، وتفاوتت الأمم في إجابة دعواتهم، دعت الرسل للتوحيد فأجابهم بعض وأعرض بعض وضل بعدهم آخرون، ودعوا إلى التآلف فعاش فيه الناس حقبة من الدهر ثم نكصوا على أعقابهم، ولو كان الناس على عهد الأنبياء لما وردت مثل هذه الشبهة على الحاجة إلى الوحي والرسالة. ولم يقف الشيخ رشيد عند إثبات الحاجة إلى الوحي والرسالة، إذ قد يقال: "إن الحاجة إلى الشيء لا تستلزم وقوعه، وكذا إمكانه وعدم استحالته عقلاً لا يقتضي حصوله" 3، فذهب الشيخ رشيد ليثبت أيضاً وقوع الوحي والرسالة، بالأدلة والبراهين، بما لا يدع مجالاً للشك في وقوعها 4.   1 انظر: المصدر نفسه (4/ 142 ـ 147) باختصار. 2 مجلة المنار (1/ 289) 3 انظر: الوحي المحمدي (ص: 88) 4 الوحي المحمدي (ص: 90) وما بعدها، واتكأ في ذلك على كلام لشيخه محمد عبده. انظر: رسالة التوحيد (ص: 107 ـ 108) ط. دار إحياء العلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 العقل والوحي: ومن الشبهات التي يطلقها الملحدون بين حين وآخر ويلبسون بها على الأغرار والدهماء دعوى كفاية العقول البشرية عن الرسل ـ لا سيما بعد رقيها في سلم الحكمة والمعرفة في الاستقلال بوضع ما يكفل سعادة الإنسان، لا سيما وقد قررنا أن معرفة الله تعالى أمر فطري 1، وإن بعض الحكماء المفكرين قد ارتقوا في المعارف العقلية إلى حيث أقاموا البراهين على وجود الله تعالى وحكمته وعلمه، ووجوب تعظيمه وشكره، بل قد قرر بعضهم وجوب بقاء النفس بعد الموت، وقد أثبت التاريخ أن من هؤلاء من وضع أصولاً للفضائل والشرائع، والآداب التي تكفل سعادة الإنسان. هكذا يعرض الشيخ رشيد هذه الدعوى ثم يجيب عليها بقوله: " ... نعم لكل ذلك أصل يثبته التاريخ الماضي، ويشهده العصر الحاضر، ولكن بين هداية الأنبياء وحكمة الحكماء وعلومهم فروقاً في مصدر كل منها، وفي الثقة بصحته، وفي الإذعان لحقيقته، وفي تأثيره في أنفس جميع طبقات المخاطبين. فحكمة الحكماء وعلومهم آراء بشرية ناقصة؛ وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول، وهي عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة مخصوصة من الناس، وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحتها يرجحها على هواه وشهواته، إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد، لأن النوع البشري يأبى طبعه وغريزته أن يدين ويخضع خضوع التعبد لمن هو مثله في بشريته، وإن فاقه في علمه وحكمته، وإنما يدين لمن يعتقد أن له سلطاناً غيبياً عليه، بما يملكه من القدرة على النفع والضر بذاته دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس بحسب سنن الكون ونظامه.." 2. ولقد وجد ـ على طول التاريخ وعرضه ـ حكماء وفلاسفة و "عقلاء" دعوا الناس إلى الفضيلة والحكمة، ولكنهم ذهبوا أثراً بعد عين،   1 انظر: (ص:266) من هذا البحث. 2 الوحي المحمدي (ص: 54) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 ولم يستجب لهم من الناس إلا أفذاذ أو أفراد، ثم ذهبت معهم دعوتهم، فاتخذت لنفسها مكاناً معهم في أجداثهم، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟. وأين علوم الأنبياء من علوم الحكماء؟ لقد أتى الأنبياء بعلوم وحقائق مات بحسرتها الفلاسفة، وما بلغوا شيئاً منها، وما أتوا إلا بجهالات وسفسطات. يقول الشيخ رشيد: " ... فمن أعظم مزايا الوحي الدينية على العلمية الكسبية أن جميع طبقات المؤمنين بها يذعنون لها بالوازع النفسي التعبدي، فبذلك تكون عامة ثابتة لا مجال للخلاف والتفرق فيها، ما دام الفهم لها صحيحاً، والإيمان بها راسخاً، ولذلك نرى الشعوب التي ساء فهمها للدين وتزلزل إيمانها به أو زال، لا ينفعها من دونه علوم العلماء ولا حكمة الحكماء، وقد ارتقت العلوم والحكمة في هذا العصر، وعم انتشارها بما لم يعرف مثله في عصر آخر، وهم لا يذعنون في أنفسهم لإرادة ملك أو أمير، ولا لرأي عالم نحرير، ولا فيلسوف شهير، ولا مشرع خبير، بل صاروا إلى فوضى في الأخلاق والآداب والاجتماع، واستباحة الأموال والأعراض، وكذا الدماء لم يعهد لها في البشر نظير، صارت بها الأمم والدول عرضة لفتنة في الأرض وفساد كبير ... " 1. وبهذا يبطل رشيد رضا كل الشبه التي قد توجه إلى عدم حاجة البشر إلى الوحي، ويثبت أن هذه الحاجة كانت شديدة، وأننا اليوم بحاجة إلى هداية الأنبياء ـ ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ـ فلا بد إذن من الرجوع إلى هديه والاهتداء برسالته، وهو ما ألف رشيد رضا كتابه "الوحي المحمدي" من أجله.   1 الوحي المحمدي (55ـ 56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 المبحث الثالث: معنى الوحي وأنواعه، وشبهة الوحي النفسي المطلب الأول: تعريف الوحي ... وبعد تعريف النبوة والرسالة وبيان حاجة الناس إليها ووقوعها فعلاً وإزاحة الشبه عنها، يحسن أن نعرف معنى الوحي وأقسامه، ونعرج بعد ذلك إلى تمحيص شبهة الوحي النفسي التي لجأ لها بعض الماديين بعدما تبين لهم ـ بلا ريب ـ صدق الأنبياء وتواترهم بما يحيل كذبهم ـ وقد ركزوا في ذلك على نبينا ـ صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك تناوله الشيخ رشيد ـ رحمه الله تعالى ـ. المطلب الأول: تعريف الوحي: عرف رشيد رضا الوحي في اللغة فقال: " ... إنه الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره، ومنه: الإلهام الغريزي كالوحي إلى النحل، وإلهام الخواطر بما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة، كالوحي إلى أم موسى، ومنه ضده وهو وسوسة الشيطان، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 1، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 2 ... " 3.   1 سورة الأنعام، الآية (121) 2 سورة الأنعام، الآية (112) 3 الوحي المحمدي (ص: 44) ، وانظر أيضاً: مجلة المنار (4/ 252 و6/ 864) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 وأما الوحي شرعاً فقد عرفه الشيخ رشيد أيضاً، فقال: " ... هو ما أنزله الله على أنبيائه وعرفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم، ومنهم من أعطاه كتاباً، أي تشريعاً يكتب ومنهم من لم يعطه ... " 1. أنواع الوحي: ويبين الشيخ رشيد أنواع الوحي معتمداً على قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 2، قال: "فالآية الشريفة ناطقة بأن طرق كلام الله لأنبيائه ثلاثة: أحدها الوحي بلا واسطة ... وهذا التلقي قد يكون بالإلهام وعبرت عنه الآية بالوحي المطلق. وهذا الحرف مستعمل في القرآن بمعنى الإلهام كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} 3 ... وقال جل ذكره: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 4 الآية وليس كل موحى إليه بالإلهام الصحيح نبياً أو مرسلاً، بل النبي هو الموحى إليه بالدين الذي يرشد به الناس والرؤيا الصادقة من هذا القسم وكانت أول وحي نبينا عليه الصلاة والسلام، وأدخل بعضهم الإلقاء في القلب في معنى وحي الإلهام ... ولكن ورد في الحديث ذكر الإلقاء والنفث في الروع مضافاً إلى روح القدس، فيدل على أنه من القسم الثالث وهو الوحي بواسطة الرسول ... " 5. فهذا النوع الأول هو المراد بقوله تعالى: {إِلَّا وَحْياً} . أما النوع الثاني من الوحي فقد قال في تعريفه: " ... والكلام من وراء حجاب: هو أن يسمع كلام الله من حيث لا يراه، كما سمع موسى عليه السلام النداء من وراء الشجرة ... " 6. وأما النوع الثالث فهو الوحي بواسطة   1 الوحي المحمدي) ص: 44) 2 سورة الشورى، الآية (51) 3 سورة النحل، الآية (68) 4 سورة القصص، الآية (7) 5 مجلة المنار (4/ 252) 6 الوحي المحمدي (ص: 45) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 الملك المسمى بالروح القدس، وكما يقول الشيخ رشيد: "فهو ما يلقيه ملك الوحي المرسل من الله إلى رسول الله، فيراه متمثلاً بصورة رجل، أو غير متمثل ويسمعه منه أو يعيه بقلبه" 1.   1 الوحي المحمدي (ص: 45) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 المطلب الثاني: الوحي النفسي : يتبين لنا من أنواع الوحي السابقة أنها كلها تأتي من خارج نفس الإنسان، في كل نوع منها، أي أنه لم يسر إليها بل هي التي سارت إليه، وأنه لم يصعد إليها بل هي نزلت عليه، وأن الناس لم يعرفوا ربهم بنور العقل بل بنور الوحي. ولكنّ فريقاً من الماديين، وقد أعيتهم حجج النبوة، وبراهين صدق الأنبياء، فلم يكن لهم بد من التسليم بوقوع الوحي، إلا أنهم قالوا إنه وحي من داخل الإنسان، بتأثير عوامل نفسية من نوع الملاحظات والتأملات الفردية، أو من جنس التأثيرات والضرورات الاجتماعية، اللاشعورية. وسموا هذا النوع من الوحي: الوحي النفسي 2. ويلخص لنا الشيخ محمد رشيد رأي هؤلاء الماديين فيقول مصوراً شبهتهم: "إن الوحي إلهام كان يفيض من نفس الموحى إليه لا من الخارج، وذلك أن منازع نفسه العالية وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنية وتقاليد وراثية رديئة، يكون لها في جملتها من التأثير ما ينجلي في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحلام الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السماء بدون واسطة ... " 3. وأول ما أجاب به الشيخ رشيد على هذه الشبهة إيراده لحديث بدء   2 انظر: الوحي المحمدي (ص:87) ، ودراز: الدين (ص: 172 ـ 173) 3 الوحي المحمدي (ص: 87 ـ 88) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 الوحي في صحيح البخاري 1 ففيه صفة الوحي وكيف كان بدؤه ثم فتوره، وأثر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدفع شبهة التخيل والرؤى والوهمية 2. ثم عقب ذلك بما يراه الشيخ: "أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً، وهو موضوع الوحي الذي هو آية نبوته الخالدة، وحجته الناهضة، ومصدر جميع تلك الأنوار الفائقة، وهو آية الله الكبرى ـ القرآن العظيم" 3، ووجه الشيخ رشيد الكلام هنا إلى هداية القرآن بأسلوبه وتأثيره وعلومه المصلحة للبشر، وهو القدر الذي يعلم منه أن هذه العلوم أهدى من كل ما حفظه التاريخ عن جميع الأنبياء والحكماء، وواضعي الشرائع والقوانين، فإعجازه من هذه الناحية أقوى البراهين على كونه وحياً من الله تعالى تقوم به الحجة على جميع البشر. "ومن كان لا يؤمن بوجود هذا الرب الحكيم فهذا القرآن حجة ناهضة على وجوده الحق، بكونه ليس من المعهود في الخلق، وبما اشتمل عليه من الآيات البينات في الأنفس والآفاق" 4. وأما ما وصفوا به الأنبياء، لا سيما نبينا ـ عليهم الصلاة والسلام، من صفاء النفس وحب الخير فهو حق، ولكنه استعداد فطري لا كسبي، فهو عبارة عن جعل الله تعالى روحه الكريمة كمرآة صقيلة حيل بينها وبين كل ما في العالم من التقاليد الدينية والأعمال الوراثية والعادات المنكرة ... " 5. وهذا هو حقيقة الاستعداد الفطري لتلقي الوحي، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 6 وأما الحوادث التي احتج بها هؤلاء الماديين وزعموا أن الوحي النفسي لنبينا صلى الله عليه وسلم من جنسها، كقصة جان دارك 7، فيرد عليها الشيخ   1 انظر: البخاري: ك: بدء الوحي، باب: 3، ح: 3 (1/ 30) مع الفتح. 2 الوحي المحمدي (ص: 111) وما بعدها. 3 الوحي المحمدي (ص: 136) 4 المصدر نفسه (ص:139) 5 المصدر نفسه (ص: 133) 6 سورة الأنعام، الآية (124) 7 هي فتاة فرنسية ريفية، كثيرة التخيل، كانت تحلم بتحرير فرنسا من أعدائها ثم خيل لها أنها دعيت لتخلص بلادها، وتوسلت إلى الحكام فعينوها قائداً للجيش وحاربت معهم فانتصرت ومعها عشرة آلاف جندي، ثم زال ما بها من الخيال فهوجمت من السنة التالية فهزمت وانكسرت. انظر: المعلم بطرس البستاني: دائرة المعارف (6/360 ـ 362) مطبعة المعارف، بيروت، 1882، ومحمد فريد وجدي: دائرة معارف القرن العشرين (3/ 13 ـ 20) ط. الثالثة، 1971، دار المعرفة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 رشيد ـ بعد بسطه لها ـ فيقول: "أين هذه النوبة العصبية القصيرة الزمن، المعروفة السبب، التي لا دعوة فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعي، إلا المدافعة عن الوطن عند الضيق التي هي مشتركة بين الإنسان والحيوان، التي لا حجة تدعمها، ولا معجزة تؤيدها، التي اشتعلت بنفخة وطفئت بنفخة أين هي من دعوة الأنبياء ... إن الأمم التي ارتقت بما أرشدها تعليم الوحي إنما ارتقت بطبيعة ذلك التعليم وتأثيره ... أين حال تلك الفتاة التي كانت كبارقة خفت (أي: ظهرت وأومضت) ثم خفيت، وصيحة علت ولم تلبث أن خفتت، من حال شمس النبوة المحمدية التي أشرقت فأنارت الأرجاء ولا يزال نورها ولن يزال متألق السناء ... لا جرم أن الفرق بين الحالين عظيم ... " 1. إن المقارنة بين هذه الحالة التي احتجوا بها ـ ومثلها ـ وبين حالة الأنبياء وآثارها، هو كالمقارنة بين الثرى والثريا، أو بين السماء والأرض في العلو والسعة، فالأنبياء قد أتوا بالمعجزات وبإصلاح أحوال أممهم، وأحوال الأنبياء لا تخفى على العقلاء. "أنوار التقوى تتلألأ في وجه صاحب المعجزات، وآثار الصلاح تلوح في وجوه أهل الخيرات ... " 2.   1 الوحي المحمدي (ص: 92 ـ 93) 2 انظر: ابن الوزير: إيثار الحق (ص: 67) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 المطلب الثالث: الوحي والنبوة عند أهل الكتاب : تحدث الشيخ رشيد عن معنى الوحي والنبوة عند أهل الكتاب، فنقل تعريفهم لهذين المصطلحين ليقارن بين هذين المفهومين عند المسلمين وأهل الكتاب، فقد نقل عن "قاموس الكتاب المقدس" مع حذفه للشواهد، في معنى كلمة "وحي" ما يلي: "تستعمل هذه اللفظة للدلالة على نبوة خاصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 بمدينة أو شعب" وجاء في جزء (12: 10) "هذا الوحي هو الرئيس" أي: أنه آية للشعب، وعلى العموم يراد بالوحي الإلهام ... وهو حلول روح الله في روح الكتاب الملهمين ... " 1. وأما كلمة "نبي" فقد نقل ما يلي: "النبوة لفظة تفيد معنى الإخبار عن الله وعن الأمور الدينية ولا سيما عما سيحدث فيما بعد، وسمي هارون نبياً، لأنه كان المخبر والمتكلم عن موسى نظراً لفصاحته (خروج: 7: 1) أما أنبياء العهد القديم فكانوا ينادون بالشريعة الموسوية، وينبئون بمجيء المسيح، ولما قلت رغبة الكهنة وقل اهتمامهم بالتعليم والعلم في أيام صموئيل أقام مدرسة الرامة 2، وأطلق عليها تلامذتها اسم "بني الأنبياء" فاشتهر من ثم صموئيل بإحياء الشريعة وقرن اسمه باسم موسى وهارون في مواضع كثيرة من الكتاب، وتأسست أيضاً مدارس أخرى للأنبياء ... وكان يعلم في هذه المدارس تفسير التوراة والموسيقى والشعر ... " 3. ثم انتقد الشيخ رشيد هذه التعريفات، فقال عن تعريفهم للوحي: بأنه حلول روح الله في روح الملهم إنه تحكم، ويلزم منه أن يكونوا آلهة، إذ المسيح لم يكن إلهاً عند النصارى إلا بحلول الروح فيه 4. وأما تعريفهم للنبوة: "فيؤخذ منه ما يأتي: "أن أكثر أنبياء بني إسرائيل كانوا يتخرجون في مدارس خاصة بهم، يتعلمون فيها تفسير شريعتهم التوراة والموسيقى والشعر، وأنهم كانوا شعراء ومغنين وعزافين على آلات الطرب، وبارعين في كل ما يؤثر في الأنفس ويحرك الشعور والوجدان ويثير رواكد الخيال، فلا غرو أن يكون عزر ونحميا من أعظم أنبيائهم ساقيين من سقاة الخمر لملك بابل "أرتحشستا" ومغنين له ... فالنبوة على هذا كانت صناعة   1 الوحي المحمدي (ص: 60) 2 الرامة: من قرى بيت المقدس. انظر: ياقوت: معجم البلدان (3/20) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1410هـ. 3 الوحي المحمدي (ص: 61) 4 الوحي المحمدي (ص: 63) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 تعلم موادها في المدارس، ويستعان على الإقناع بها بالتخييلات الشعرية والإلهامات الكلامية، والمؤثرات الغنائية والموسيقية، والمعلومات المكتسبة فأين هذا من نبوة محمد الأميّ الذي لم يتعلم شيئاً ولم يقل شعراً، وقد جاء مفرداً بأعظم مما جاءوا به كلهم أجمعون مجتمعاً، ... " 1. وكان هذا المفهوم للنبوة سبباً في إنكار الماديين للوحي والأنبياء جميعاً، طالما أن النبوة تعلم في مدارس مع الشعر والموسيقى، فكونها صناعة تنال بالكسب يتنافى مع كونها وحياً من الله تعالى.   1 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 المبحث الرابع: عدد الرسل : قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ... } 1. وقوله تعالى: {قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} أي: من قبل هذه الآية في السور المكية وغيرها، وتسمية هؤلاء الأنبياء الذين نص عليهم في القرآن هي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً2. وآدم وإدريس وهود وصالح وشعيب ومحمد وذو الكفل 3 صلى الله تعالى عليهم. ويروى عن ابن عباس وابن مسعود أن إلياس هو إدريس 4. كما وقع خلاف في "ذو الكفل" فقيل: إنما هو رجل صالح، وتوقف في ذلك ابن جرير، وظاهر سياقه مع الأنبياء أنه منهم 5.   1 سورةالنساء، الآية (163) 2 ذكر أسماء هؤلاء الأنبياء مجتمعة في موضع واحد في نسق سورة الأنعام، الآية (83 ـ 86) 3 انظر: ابن كثير: التفسير (1/ 554) 4 انظر: البخاري: الصحيح: ك: أحاديث الأنبياء، باب: {وإن إلياس لمن المرسلين} (6/ 430) 5 انظر: ابن كثير: التفسير (3/ 185) ، والطبري: التفسير (17/75) ط. الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} 1. وأما السنة فقد ورد فيها ذكر أنبياء ليسوا في القرآن، منهم: شيث 2، ويوشع بن نون 3. ووقع في السنة ذكر عدد الأنبياء والرسل إجمالاً. ولم يرد ذكر أسمائهم كما قال تعالى: {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} 4، فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء فقال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، فقلت: يا رسول الله: كم الرسل منهم؟ فقال: ثلاثمائة وثلاثة عشرة جم غفير، وسأله: من أولهم؟ فقال: آدم" 5. وعن أبي أمامة قال: قال أبو ذر قلت يا رسول الله: كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً" 6. وقد عقد رشيد رضا فصلاً في تفسيره بحث فيه مسألة عدد الأنبياء صلى الله تعالى عليهم كما أنه أشار إلى هذه المسألة في عدة مناسبات.   1 سورة الأنبياء، الآية (85) 2 في الحديث الذي رواه ابن حبان عن أبي ذر. انظر: ابن حبان: (2/77 ـ الإحسان) ، وانظر: ابن كثير: التفسير (1/ 554) فقد عزاه لابن مردويه. وانظر: له البداية والنهاية (1/ 99) 3 وهو الذي حبست له الشمس. انظر: انظر: أحمد: المسند: ح: 8298، ط. شاكر. و 8315 ط. الأرناؤوط، وإسناده صحيح على شرط البخاري، وانظر: مسلم: الصحيح: ك: الجهاد، ح: 32 (1747) [3/1366] وانظر: وابن كثير: البداية والنهاية (1/ 323) ، 4 سورة النساء، الآية (163) 5 رواه: ابن حبان مطولاً في صحيحه (الإحسان: 2/ 77) ، وأحمد: المسند (5/ 178 و179) ، والحاكم: المستدرك (2/ 282) . قال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط بنحوه، وعند النسائي طرف منه، وفيه: المسعودي، وهو ثقة ولكنه اختلط. انظر: مجمع الزوائد (1/ 160) ، وانظر أيضاً (1/ 197 و8/ 198 و8/ 210) ، وقال الألباني: صحيح. انظر: المشكاة (3/ 1599) ط. المكتب الإسلامي، الثالثة، 1405 هـ، بيروت. وعزاه ابن كثير في التفسير إلى ابن مردويه وابن أبي حاتم. انظر: التفسير (1/ 554 ـ 555) 6 رواه أحمد: المسند (5/ 265) ، والطبراني: في الكبير (8/ 127) ح: 7871، كلهم من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم، وقد ضعف ابن كثير الثلاثة، التفسير (1/ 554) ، وقال الهيثمي: مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف. مجمع الزوائد (1/ 159) ، وانظر أيضاً (3/ 115) وصححه الألباني: المشكاة (3/ 1599) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 فقرر رشيد رضا أن من أصول العقائد الإسلامية أنه يجب الإيمان بأن الله تعالى أرسل في كل الأمم رسلاً منهم من قص على رسولنا ومنهم من لم يقصص عليه، وأنه يجب الإيمان بمن ذكر منهم في القرآن إيماناً تفصيلياً، أي تجب معرفتهم بأسمائهم 1 وهؤلاء الرسل الذين يجب الإيمان بهم تفصيلاً ـ كما يقول رشيد رضا ـ هم المسرودة أسماؤهم في السور المكية وأجمعها آية سورة الأنعام، وآيات قصصهم في سورة هود 2 والشعراء 3، والرسل الذين لم يقصصهم الله تبارك وتعالى، ويجب الإيمانبهم إجمالاً أي دون معرفة أسمائهم وعددهم؛ هم الرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى الأمم المجهولة علمها وتاريخها. قال: " وحسبنا العلم بأن الله تعالى أرسل الرسل في كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا محصورة في شعب معين احتكرها لنفسه كما كان يزعم أهل الكتاب غير مبالين بكونه لا يليق بحكمة الله، ولا ينطبق على سعة رحمته، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4 ... " 5. ويحدد رشيد رضا أسماء الرسل الذين يجب الإيمان بهم تفصيلاً وهم المذكورون في القرآن فقط، ولكنه يذكر أن العدد المتفق على رسالته منهم هو ثلاثة وعشرون فقط ـ إذا أن هؤلاء هم: "المجمع على وجوب الإيمان برسالتهم" 6. قال: "فجملة هذه النقول ... أن آدم مختلف في رسالته وأن إدريس مختلف في رسالته وفي كونه هو إلياس المذكور في آيات سورة الأنعام.." 7. ومع أن رشيد رضا يقر بوجود رسل لم يقصصهم الله تعالى علينا إلا أنه لا يعترف بالعدد الوارد في الأحاديث المشار إليها أول هذا المبحث،   1 تفسير المنار (7/601) 2 انظر: سورة هود: الآيات (25، 50، 61، 69، 84) 3 انظر: سورة الشعراء: الآيات (105، 123، 142، 161، 178) 4 سورة النحل: الآية: (36) 5 تفسير المنار (6/70) 6 المصدر نفسه (7/605) 7 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 ومنها حديث أبي ذر لأنه ـ كما يقول ـ مختلف فيه بين الضعف والوضع 1. والذي أريد أن أقف عنده هو مسألة نبوة إدريس وآدم. فالذي ورد فيما يتعلق بإدريس صلى الله عليه وسلم الخلاف في كونه هو إلياس أو غيره، ولم أر أحداً اختلف في كونه نبياً ولا في كون إلياس نبياً. فقد قال تعالى عن إلياس: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال عن إدريس: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} 3. وقال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} 4، فإن كان رشيد رضا يقصد ـ بناءً على تعريفه للنبوة وأنها أعم من الرسالة ـ أن إدريس نبي وليس رسولاً فالخلاف يتجه على تعريفه هذا 5. وأما آدم فرشيد رضا يرى أنه ليس نبياً ولا رسولاً، واحتج بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... } 6 وبحديث أنس في الشفاعة: " ... ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله" 7. وأما حديث أبي أمامة: أن رجلاً قال: "يا رسول الله أنبياً كان آدم؟ قال: نعم، معلم مكلم" 8 فرده لأنه أحادي 9 وتأول المعلم بالملهم   1 تفسير المنار (7/ 604 ـ 605) 2 سورة الصافات، الآية (123) 3 سورة مريم، الآية (56) 4 سورة الأنبياء، الآية (85) 5 انظر: النووي: شرح مسلم (3/ 55) ط. الريان. 6 سورة النساء، الآية (163) 7 البخاري: الصحيح: ك: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، ح: 6565 (11/ 425) ، ومسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 322 (193) 8 رواه الطبراني: في الكبير (8/ 118 ـ 119) ح: 7545، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي وهو ثقة. وقال ابن كثير: هذا على شرط مسلم ولم يخرجه. البداية والنهاية (1/ 101) ،، ورواه الطبراني أيضاً في الأوسط، وقال: الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد (1/ 196) ، وروي هذا أيضاً عن أبي ذر: انظر: أحمد: المسند (5/ 265) ، وقال الهيثمي: فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، مجمع الزوائد (1/ 160) ، وانظر أيضاً (1/ 197) 9 قد سبق بيان موقف رشيد رضا في مسألة أحاديث الآحاد، ولكنه يلجأ أحياناً إلى هذه القاعدة عند الحاجة فيبدو مضطرباً فيها. فهذا كلام متأخر له إذ أنه انتهى من تفسير هذا الجزء (السابع) في شعبان 1337هـ. انظر: تفسير المنار (7/ 673) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 للخير والصواب 1. ولم يرضَ رشيد رضا بأوجه الجمع التي حاول بها العلماء التوفيق بين الثابت من نبوة آدم وبين ما دلت عليه الآية والحديث من أولية نوح عليهما السلام 2، واختار هو طريقاً للجمع فقال: "والذي يتجه في الجمع بغير تكلف هو التفرقة بين هداية من ولدوا على الفطرة وبين بعثة نوح ومن بعده من الرسل إلى من فسدت فطرتهم واختلفوا في الدين الفطري أو في الكتاب الإلهي ... بأن تجعل هذه الهداية الأخيرة هي الرسالة الشرعية التي يسمى من جاءوا بها رسلاً دون الأولى، وبهذا يجمع بين عدة أجوبة مما نقل عن العلماء في رفع التعارض بتوضيح قليل كقول من قال: إنما كانت رسالة آدم إلى بنيه المؤمنين، ورسالة نوح ومن بعده إلى الكافرين، ومن قال: إنما كانت رسالة آدم إلى بنيه من قبيل تربية الوالد لأولاده، وفيهما أن تسميتها رسالة شرعية بالمعنى المراد من الآيات هو الذي يحقق التعارض، فكيف يجعل دافعاً له؟ وأما إذا أثبتنا ما ذكر لآدم ولم نسمه رسالة بالمعنى الشرعي المذكور فإن التعارض يندفع بغير تكلف ... ويكون الخلاف أشبه باللفظي، فهو رسول بالمعنى المشهور عند المتكلمين دون المعنى المتبادر من القرآن والحديث" 3. فيرى رشيد رضا ـ جمعاً بين ما هو مشهور من نبوة آدم وبين آية النساء وحديث أنس ـ أن آدم في هدايته كان على الفطرة التي خلقه الله عليها، فهي هداية فطرية نشأ عليها ونشأت عليها ذريته إلى زمن نوح، ثم فسدت الفطرة فأرسل الله نوحاً نبياً رسولاً بالمعنى الشرعي الاصطلاحي. فليس آدم نبياً رسولاً كنوح ومن بعده، لذا فإن الله تعالى لم يذكره معهم في سياقهم. وهذا التحقيق يشكل عليه سبق شيث وإدريس، فهما قبل نوح. وقد   1 تفسير المنار (7/ 606) 2 انظر: تفسير المنار (7/ 606 ـ 607) 3 تفسير المنار (7/ 608 ـ 609) ، وانظر أيضاً (607) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 يجاب بأن الثلاثة: آدم وشيث وإدريس، كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلاً، ولكن يشكل عليه حديث أبي ذر الذي صححه ابن حبان ففيه تصريح برسالة شيث، وإنزال الصحف عليه 1. وهو من علامات الإرسال. وأما إدريس فقد سبق القول بأنه قد يكون هو إلياس، وهو متأخر في بني إسرائيل فيندفع ـ لو صح ـ هذا الإشكال 2. والذي دفع رشيد رضا إلى اتخاذ هذا الموقف من "نبوة آدم" أن أحد طلاب مدرسته "الدعوة والإرشاد" قد تعرض للحكم بالكفر من المحكمة الشرعية بسبب رأيه في نبوة آدم. وقد دافع عنه رشيد رضا في مجلته "المنار" وهاجم المدعين عليه. وإن كانت محكمة الاستئناف الشرعية قد ألغت هذا الحكم، إلا أن رشيد رضا أراد في تفسيره أن يقرر هذا المذهب على نحو ما رأينا ليقول إن طالبه لم يكن مخطئاً. ولأن هذه القضية شغلت مصر يومئذ بين أنصار "نبوة آدم" وأنصار "عدم نبوته بالأدلة القطعية" 3. اتفاق الأنبياء: هؤلاء الأنبياء ـ صلى الله تعالى عليهم ـ على كثرة عددهم وتباعد أوطانهم وأزمانهم، متفقون في أصل دينهم، وإن اختلفت شرائعهم، إلا أنهم جميعاً متفقون في أصل الدين والدعوة إليه، وهو الإيمان بالله تعالى وتوحيده. وهذا ما قرره رشيد رضا، فقال: "فالرسل عليهم السلام كانوا متفقين في الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وإنما كانوا يختلفون في تفصيل الأعمال الصالحة والشرائع المصلحة، بحسب اختلاف استعداد أممهم ... " 4.   1 انظر: ابن حبان (2/77 ـ الإحسان) ، وعزاه ابن كثير لابن مردويه، وللآجري: التفسير (1/ 554 ـ 555) 2 انظر: ابن حجر: فتح الباري (11/ 442) 3 انظر: مجلة المنار (21/ 49 ـ 54) وهذه القضية كانت في شهر ربيع سنة 1337هـ وهو نفس العام الذي فسر فيه رشيد رضا آية سورة الأنعام، وحقق فيها مسألة عدد الأنبياء ومن اختلف فيه منهم. 4 تفسير المنار (1: 216) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 وعند قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 قال: "المراد بهذا تقرير وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية، وكلاهما متفق عليه بين الأنبياء، فقد كان إبراهيم موحداً صرفاً، وقد كان الأساس الأول لشريعة موسى قول الله له (أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مما في السماء من فوق ومما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن) 2، وعلى هذا درج جميع أنبياء بني إسرائيل حتى المسيح عليه السلام، وهم لا يزالون ينقلون عنه في إنجيل يوحنا قوله (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) 3. وغير ذلك من عبارات التوحيد، وكان يحتج على اليهود بعدم إقامتهم ناموس موسى (شريعته) وهو لم ينسخ من هذا الناموس إلا بعض الرسوم الظاهرة كالتشديدات في المعاملة، أمّا الوصايا العشر ـ ورأسها التوحيد والنهي عن الشرك ـ فلم ينسخ منها شيئاً ... " 4. والذي قرره رشيد رضا هو الصواب، وهو مما اتفقت عليه الأنبياء جميعاً5. المفاضلة بين الأنبياء: ولا يمنع اتفاق الأنبياء في الدعوة من كونهم متفاضلين في الدرجات. فهناك نصوص صريحة في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، وبعض الرسل على بعض. قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 6، وقال:   1 سورة آل عمران، الآية (64) 2 خروج (20/ 1ـ 5) 3 يوحنا (17: 3) 4 تفسير المنار (3/ 325) 5 انظر: الشوكاني: إرشاد الثقات (ص: 5) وما بعدها. 6 سورة البقرة، الآية (253) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 1 ولكن ما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوا بين أنبياء الله" 2 وقوله: "لا تخيروني على موسى" 3، وقوله: "لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى" 4. ولقد قرر رشيد رضا المفاضلة بين الأنبياء، كما أجاب عن التعارض الظاهري بين النصوص في ذلك. قال رشيد رضا مقرراً التفاضل بين الأنبياء: " ... ومن المعلوم بنص القرآن أن بعض الأنبياء والرسل أفضل من بعض، بتخصيص الله تعالى وبما كان لكل نبي من عمل في نفع العباد وهدايتهم وهي متفاوتة جداً ... " 5. فالسبب في هذا التفاضل كما يشير رشيد رضا في النص السابق: أمران: الأول: تخصيص الله تعالى لهؤلاء الأنبياء بهذا الفضل، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} 6 وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 7. الثاني: الأثر والنفع الذي يتركه النبي في أمته، ومقدار هدايته لهم، وكثرة أتباعه منهم. وبناءً على هذين الأمرين نستطيع أن نقرر باطمئنان أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أرفع هؤلاء الأنبياء درجة ـ صلى الله تعالى عليهم ـ وهو ما يقرره رشيد رضا فيقول: "ومن المعلوم بالدلائل العقلية والنقلية أن محمداً   1 سورة الإسراء، الآية (55) 2 رواه مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 159 (2373) (15/ 130) بشرح النووي. 3 رواه مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح:160 (2373) [4/1844] والبخاري: الصحيح، ك: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، ح: 3408 (6/ 508) مع الفتح. 4 البخاري: الصحيح، ك: أحاديث الأنبياء، ح: 3412 (6/ 519) مع الفتح، ومسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 166 (2376) [4/1846] وانظر أيضاً: ح: 159 (2373) [4/1843] 5 الوحي المحمدي (ص: 204 ـ 205) 6 سورة القصص، الآية (68) 7 سورة الحج، الآية (75) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 خاتم النبيين الذي أكمل الله به الدين وأرسله رحمة للعالمين، هو الذي رفعه الله عليهم كلهم درجات ... " 1. ويشير رشيد رضا إلى وجه آخر لتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم وهو عموم بعثته للعالم أجمع فهو صاحب الدين الكامل والخاتم، والرحمة العامة 2. وأما الأدلة على هذا فهي من الكتاب والسنة. وإن كانت آيات الكتاب لا تنص صراحة على هذا المعنى إلا أنها تشير إليه إشارة لا تنطبق على غيره 3 منها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 4 قال رشيد رضا: "ولم يجئ رسول يصدق عليه ما ذكر غير محمد صلى الله عليه وسلم ومن ثم اتفقوا على أنه هو" 5، ومن هذه الآيات كذلك: الآيات التي تشير إلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم وكونه خاتم النبيين 6. وأما أدلة السنة فهي كثيرة وصريحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي: آدم فمن سواه إلا تحت لوائي" 7. وكان ينبغي لرشيد رضا أن يستدل بهذا الحديث أيضاً على نبوة آدم. ثم يجمع رشيد رضا بين هذه النصوص والنصوص التي تنهى عن المفاضلة، فيقول: إن هذه النصوص وردت على سبب والغرض منها: "منع المسلمين من تنقيص أحد من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ومن التعادي بين   1 الوحي المحمدي (ص: 205) 2 مجلة المنار (14/ 178) 3 المصدر نفسه (4/ 177) 4 سورة آل عمران، الآية (81) 5 مجلة المنار (14/ 178) 6 المصدر نفسه. 7 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 3 (2278) ، وانظر أيضاً: الترمذي: السنن، ك: القيامة، باب: ما جاء في الشفاعة، ح: 2434 (5/ 622) وك: التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، ح:3148 (4/ 308) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 الناس لأجله، ومن الغلو فيه صلى الله عليه وسلم" 1. وكون بعض هذه النصوص ورد على سبب هو الصحيح 2. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" 3 وقوله: "لا تفضلوني على يونس بن متى" 4 فالنهي عن التفضيل فيه ـ كما يقول رشيد رضا ـ " في أصل النبوة لأجل هفوته" 5. وأيضاً: المراد منه عدم التفريق بين الرسل، والأنبياء، لا منع مطلق التفضيل 6. وهذا أدب عالٍ من آداب النبوة التي تأدب بها المسلمون، وهذا التشريع المحكم هو الذي ينزه الأنبياء عن تعدي السفهاء.   1 الوحي المحمدي (ص: 204 ـ 205) 2 انظر: البخاري: الصحيح، ك: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، ح: 3408 (6/508) ومسلم: الصحيح، ك: المناقب، ح: 159 (2373) (4/1843) 3 رواه مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 166 (2376) ، وح: 167 (2377) ، وانظر أيضاً: البخاري: الصحيح، ك: أحاديث الأنبياء، باب قوله الله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين} ، ح: 3412 و3413 و3414 (6/ 519 ـ 520) 4 روى نحوه البخاري، ك: أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين} ، ح: 3416 [6/520] 5 تفسير المنار (7/ 597) 6 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 المبحث الخامس: صفات الرسل ووظائفهم المطلب الأول: صفات الرسل ... المطلب الأول: صفات الرسل: النبوة فضل من الله تعالى يختص به من يشاء فالله تعالى يختار ويصطفي هؤلاء الرسل ـ صلى الله تعالى عليهم ـ ويخصهم بصفات كمال النوع الإنساني من العلوم والمعارف والفضائل والآداب 1، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 2، وقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 3، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} 4. وقد أشار الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ إلى بعض صفات الرسل ـ صلى الله تعالى عليهم ـ وأول هذه الصفات "أنهم رجال من البشر في جميع الشؤون البشرية الفطرية، ليسوا أرباباً ولا شركاء لرب العباد في علم الغيب ... ". ولقد كرر الشيخ رشيد هذا المعنى مراراً للتأكيد عليه 5.   1 انظر: ابن حجر: فتح الباري (12/ 368) 2 سورة الحج، الآية (75) 3 سورة الأنعام، الآية (124) 4 سورة القصص، الآية (68) 5 تفسير المنار (8/ 282 و8/ 275 و278) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 وفيما يتعلق بهذه الصفة ـ أعني البشرية ـ فقد افترق الناس ثلاث فرق: طرفان ووسط، فأحد الطرفين هو الذي غلا في الأنبياء عليهم السلام، فأفرط في تصوير خصوصيتهم، فرفعهم فوق جنس البشر، وجعل لهم صفات الإلهية والربوبية 1. وآخرون ـ وقفوا في الطرف الآخرـ وجعلوا هذه الصفة مانعة من النبوة، فلم يروا مزية لهؤلاء الرسل، إذ رأوهم بشراً وظنوا أن الوحي يخرجهم منها ويجعلهم كالملائكة 2. وإنما أنزل الله الوحي على البشر "لاقتضاء حكمته أن يكونوا معلمين لسائر البشر ما فيه هدايتهم ... " 3. و "كون الرسول إلى البشر بشراً مثلهم يفهمون أقواله ويتأسون بأفعاله هو المعقول الذي تقتضيه الفطرة وطبيعة الاجتماع" 4. ومقتضى بشرية الرسل أنهم "كسائر البشر في سنن الله تعالى فيهم إلا أنه ميزهم بالوحي وعصمهم من الخطأ في تبليغ ما أمرهم بتبليغه قولاً وعملاً ... " 5. ومن صفات الرسل أيضاً أنهم رجال، وكما يقول رشيد رضا، فإن النبوة حصرت في الرجال دون النساء، وهو ما يدل عليه ظاهر آيات القرآن، كما أنها حصرت في ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام 6. وكون الرسل من البشر يبطل "ما سرى إلى المسلمين من أهل الوثنية والكتب المحرفة من الغلو في الأنبياء والصالحين، كزعمهم أنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في خزائن ملك الله تعالى بالعطاء والمنع، والضر والنفع، وإلحاقهم بالملائكة من عالم الغيب، حتى صاروا يطلبون ما لا يطلب إلا من الله تعالى، وهذا عين العبادة التي يسمى الذين توجه إليهم آلهة ... " 7.   1 المصدر نفسه (8/ 278) 2 المصدر نفسه (8/ 279) 3 المصدر نفسه (8/ 278) 4 تفسير المنار (8/ 278) 5 المصدر نفسه (8/ 276) 6 المصدر نفسه (8/ 106) 7 المصدر نفسه (8/ 278) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 وأما مسألة الرسل من الجن، فقد اختلف فيها أهل العلم، والأدلة فيها متكافئة، وقد اختار رشيد رضا التوقف مع التسليم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم كما أرسل إلى الإنس 1.   1 المصدر نفسه (8/ 107) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 المطلب الثاني: وظيفة الرسل : إن طبيعة الرسل البشرية تساعد على فهم وظيفتهم ـ صلى الله تعالى عليهم ـ فإن الآيات المنزلة تفيد حصر "وظيفة جميع المرسلين في التبليغ والتعليم المنقسم إلى التبشير والإنذار، وهو قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 2 ... لأنها من أول ما نزل في بيان هذه العقيدة الهادمة لعقائد الكفار في الرسل وخواص أتباعهم، التي منها أنهم وكلاء الله على الأرض بيدهم الهدى والحرمان منه، والإسعاد والإشقاء والرحمة والغفران والعقاب وغير ذلك ... " 3 وينتقل الشيخ رشيد من هذا الإجمال إلى شيء من التفصيل في وظائف الرسل ـ صلى الله تعالى عليهم ـ فيقول: "الوظيفة الأولى: هي بيان ما يجب اعتقاده في خالق الكون ومقدره وحكيمه، فقد علم أن هذا الاعتقاد مركوز في فطرة الإنسان بصفة مجملة مبهمة يغلط فيها العقل ويضل فيها الفكر ... الوظيفة الثانية: بيان ما يجب لهذا الإله العظيم، والمبدع الحكيم، من الشكر على آلائه والعبادة التي ترضيه ... الوظيفة الثالثة: ما يجب اعتقاده في الدار الآخرة والحياة في النشأة الثانية ...   2 سورة الأنعام، الآية (48) 3 تفسير المنار (8/ 277) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 الوظيفة الرابعة: تهذيب الأخلاق ... بحملها على الأعمال الصالحة ... " 1. الوظيفة الخامسة: حدود العقوبات وأحكام المعاملات ... " 2. وهناك وظيفة يجب أن يعتقد أنها ليست من وظائف الرسل ـ كم يقول رشيد رضا ـ وهي: "بيان طرق الكسب وأسباب المعايش، وتعليم الفنون التي يتوسل بها إلى السعة والثروة ... وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في مسألة تأبير النخل بقوله: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" 3 ... " 4. ثم يجيب الشيخ رشيد عن كل شبهة واعتراض يرد على هذه الوظائف 5. ومما سبق من بيان صفات الرسل ووظائفهم يتقرر أنهم ليس لهم من الأمر شيء ـ أو كما يقول الشيخ رشيد: "فعلم مما قررناه أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم الكسبية، كما أنهم لم يعطوا قوة التصرف في خزائن ملك الله، وهي ما لم يمكن البشر من أسبابه فيكون من أعمالهم الكسبية، ولا أعطاهم إياه أيضاً على سبيل الخصوصية، كما أظهرهم على بعض الغيب الذي هو موضوع الرسالة ... ويتضمن بيان جهل المشركين بحقيقة الإلهية وحقيقة الرسالة إذ كانوا يقترحون على الرسول من الأعمال ما لا يقدر عليه إلا من له التصرف فيما وراء الأسباب ... وإذا كان الله تعالى لم يؤت الرسل ما لم يؤت غيرهم من أساب التصرف المخلوقات ومن علم الغيب ... فمن أين جاءت دعوى التصرف في الكون وعلم الغيب، لمن هم دون الرسل منزلة وكرامة عند الله تعالى من المشايخ المعروفين وغير المعروفين حتى صاروا يدعون   1 مجلة المنار (4/ 617) 2 مجلة المنار (4/ 617 و4/ 688) 3 رواه مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 141 (2363) 4 مجلة المنار (4/ 688) 5 المصدر نفسه (4/ 690 ـ 692 و4/ 714) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 من دون الله تعالى لما عز نيله بالأسباب والسنن الإلهية، و "الدعاء هو العبادة" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ... " 1. وهكذا لا يترك الشيخ رشيد أي مناسبة إلا وينبه فيها على شيء من توحيد الإلهية.   1 تفسير المنار (7/ 424) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 المبحث السادس: عصمة الأنبياء المطلب الأول: تعريف العصمة ... وأعني بالعصمة: أن يكون الرسل والأنبياء معصومين في تحمل الرسالة والتبليغ عن الله، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم، ولا يكتمون شيئاً منه. وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي تحصل مقصود النبوة والرسالة. والكلام في هذا المقام مبني على أصل؛ وهو: أن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه 1، وأما عصمتهم في غير ما يتعلق بالتبليغ عن الله فاختلف فيه. وهذه المسألة تناولها وتعرض لها الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ عدة مرات في المجلة والتفسير، والوحي المحمدي. فقد ذكر العصمة وأدلتها وقارن بين عصمة الأنبياء عند المسلمين وعند أهل الكتاب وأجاب على شبهات قد ترد على القول بعصمة الأنبياء. المطلب الأول: تعريف العصمة: عرّف الشيخ رشيد العصمة لغةً فقال: "هي في اللغة المنع" 2.   1 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (10/ 289) 2 مجلة المنار (5/ 18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 وأما اصطلاحاً، فقد عرفها معتمداً على مصدرين: أحدهما التعريفات للجرجاني 1، والثاني: المواقف للإيجي 2، والذي كان يعتبره ـ حتى المجلد الخامس ـ هو أعظم كتب الكلام 3. وشرح الشيخ رشيد قول الجرجاني "العصمة: ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها" 4، فقال: "أي أن المعصوم من الشيء يجد في نفسه قدرة عليه ويشرع بزاجر منها يحول دون الوقوع فيه، فالعصمة وازع نفسي راسخ في النفس، وهي في الأنبياء فطرية، وقد يكون لغيرهم ـ بحسن التربية ـ من ملكة الفضيلة ما يربأ بنفوسهم عن موافقة الفجور والدنايا ويسمي علماؤنا هذا المعنى حفظاً للتفرقة ... " 5. يعني التفرقة بين الأنبياء وغيرهم.   1 هو علي بن محمد بن السيد الزين من كبار العلماء بالعربية، فيلسوف، توفي سنة 816هـ. وانظر: الزركلي: الأعلام (5/ 7) 2 سبقت ترجمته. 3 مجلة المنار (5/ 21) 4 التعريفات (ص: 131) 5 مجلة المنار (5/ 18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 المطلب الثاني: بعض مسائل العصمة : يفصل رشيد رضا في بعض المسائل المتعلقة بالعصمة، ومنها: أولاً: العصمة من الصغائر: وقد وقع خلاف في جواز وقوع صغائر الذنوب من الأنبياء فذهب قوم إلى جوازه، إلا أنهم لا يقرون عليها، بل ينبهون فيتوبون ويستغفرون 6. وذهب آخرون إلى امتناع ذلك عليهم ـ صلى الله تعالى عليهم ـ لأننا مأمورون بالتأسي بهم، وأولوا ما ورد في ذلك مما ظاهره إثبات الذنوب للأنبياء واستغفارهم منها 7.   6 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 419 و320، و15/ 150) 7 انظر: القاضي عياض: الشفاء (ص: 136) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 واحتج الأولون بظواهر الآيات التي تدل على ما ذهبوا إليه، كقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 1. وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2. وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 3. وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} 4. وقوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} 5. فهذا وغيره فيه إثبات الأوزار والذنوب والخطايا على الرسل ـ صلى الله تعالى عليهم ـ وأجيب عن كل ذلك بأجوبة منها أن ذلك كان من بعضهم قبل النبوة، وأنها ـ لعلو منزلتهم وشدة خوفهم من الله تعالى، ليست ذنوباً حقيقية وإنما هي أشياء خافوا منها، وقد وقعت منهم بناءً على اجتهاد لم يسبق فيه نص، أو هي: كانت ـ كما قيل ـ: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي أنهم يرونها بالنسبة إلى نبوتهم كالسيئات ـ لذلك استغفروا منها، وأخبروا أنها قد غفرت لهم 6. وأما الشيخ رشيد فيقول ـ بعد إثباته للعصمة كما سبق ـ أنه ليس معناها أن الأنبياء "آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الضعف البشري من التقصير في القيام بحقوق الله تعالى على الوجه الأكمل، ومن الخطأ في الاجتهاد في بعض المصالح والمنافع ودفع المضار ... ولا يمكن أن يحيط بوجوه المصالح والمنافع ودرء المضار والمفاسد إلا من هو بكل شيء عليم، ومن ليس له هذه الإحاطة قد يخطئ في اجتهاده فيعمل العمل وهو يعتقد أنه الصواب والخير فيجيء بخلاف ذلك ومثل هذا يسمى ذنباً من الكامل والمقرب ... فإذا وقع   1 سورة الفتح، الآية (2) 2 سورة محمد، الآية (19) 3 سورة التوبة، الآية (43) 4 سورة طه، الآية (121) 5 سورة الشعراء، الآية (82) 6 انظر: القاضي عياض، الشفاء (ص: 149 ـ 150) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 هذا من الأنبياء يعاتبهم الله تعالى عليه ويغفره لهم ويأمرهم بتبليغ ذلك لأمتهم ليعرفوا الفرق بين الرب والعبد، فلا يفضي بهم الغلو بتعظيم أنبيائهم والإعجاب بفضائلهم ونزاهتهم إلى عبادتهم مع الله تعالى ... " 1. ثم أورد الشيخ رشيد أمثلة لذلك منها قصة الأعمى 2، ومسألة زيد وزينب 3، ومسألة أسرى بدر 4، كأمثلة على اجتهادات خالفت الأولى أو الصواب. ثم قال: "فهذه هي ذنوب الأنبياء وهم يستغفرون منها وهي مغفورة لهم بفضل الله تعالى ... وإنما فيها فائدةمعرفة الناس أن النبي وإن جل قدره وعلت نفسه فهو بشر مثلهم ميزه الله تعالى بالوحي وجعله إماماً في الخير وأنه على هذه الخصوصية يعاتب وينسب إليه الذنب والتقصير ويمنحه الله المغفرة دلالة على أنه له أن يغفر له وله أن يعاقبه {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} 5 ... " 6. إن الشيخ رشيد يثبت العصمة للأنبياء ولكن يثبت أيضاً ما يكون من مقتضى الجبلة البشرية والجنس الإنساني من جواز الخطأ في الاجتهاد واختيار الأقرب والأسهل إلى نفس الإنسان، لأن الأنبياء لا يتحولون بنبوتهم إلى آلهة وهذه هي الذنوب التي تقع منهم ويغفر لهم ولا يقرون عليها. فالشيخ رشيد قد وافق أهل السنة في إثبات وقوع هذا النوع من الصغائر 7. إلا أنه أيضاً لم يخالف الفريق الآخر، لأنه لم يثبت ما أنكروه، وهو ما أراه راجحاً في المسألة، وأن الخلاف بين الفريقين لفظي، لأن الذنوب التي ينفيها هؤلاء غير الذنوب التي يثبتها هؤلاء، فإن الذي ينفيه   1 مجلة المنار (5/ 49) 2 انظر: سورة عبس، الآيات من (1 ـ12) 3 انظر: سورة الأحزاب، الآيات (37 ـ 39) 4 سورة الأنفال، الآيات (67ـ 69) 5 وانظر: مجلة المنار (5/ 49 ـ 50) 6 مجلة المنار (5/ 50 ـ 51) ، وانظر أيضاً: الوحي المحمدي (ص: 53 ـ 54) ، وتفسير المنار (7/ 511 ـ 513) 7 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 319) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 ليس كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وإنما الذنوب التي لغيرهم هي ما يأخذ من اسمها وهو الشيء الدني الرذل، أما الأنبياء فإن أسوأ ما يكون منهم هو ما ذكر من خطأ في اجتهاد أو شيء دفعت إليه الجبلة الإنسانية، لولاه لكان الإنسان ملكاً 1. وبناءً على ذلك لا يكون النسيان ـ مثلاً ـ منافياً للعصمة، وهو ما يقرره الشيخ رشيد 2. ثانياً: العصمة في التبليغ: قال الشيخ رشيد نقلاً عن الإيجي: " ... إن أهل الملل والشرائع قد أجمعوا على عصمة الأنبياء عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله تعالى، وإن عاقلاً لا يجمع بين الإيمان بالوحي والنبوة وبين تجويز كذب النبي على الله تعالى فيما يبلغ عنه، فإن كان هذا جائزاً فأي ثقة بالوحي ... " 3. فالشيخ رشيد هنا يعتمد الدليل العقلي على عصمة الأنبياء بناءً على ثبوت نبوتهم حتى إن الدليل على العصمة في التبليغ هو نفس الدليل على النبوة نفسها 4. العصمة من الكفر وكبائر الذنوب: قال الشيخ رشيد: "وأجمع المسلمون من جميع الفرق على عصمتهم من الكفر قبل النبوة وبعدها، وليس هنا شبهة لأحد فنتوسع فيه" 5. وأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر   1 انظر: القاضي عياض: الشفاء (ص: 150) ، والوحي المحمدي (ص: 53 ـ 54ت) 2 تفسير المنار (7/ 508 ـ 509) 3 مجلة المنار (5/ 18) ، وقارن مع الإيجي: المواقف (ص: 358) 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 المصدر نفسه (5/ 19) وقارن مع: الرازي: عصمة الأنبياء (ص: 26) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1409هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 والموبقات 1. وقد نقل الشيخ رشيد عن الإيجي ذلك الحكم، كما نقل الخلاف بين الأشعرية الذين يقولون بأن دليل ذلك السمع مخالفة للمعتزلة الذين يقولون أن دليل ذلك العقل بناءً على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ووجوب رعاية الصلاح والأصلح، لأن صدور الكبائر عنهم عمداً يوجب سقوط هيبتهم من القلوب، وانحطاط رتبتهم في أعين الناس فيؤدي إلى النفرة منهم ... " 2. ثم أبدى الشيخ رشيد رأيه في ذلك فقال: "والذي نراه أنه يصح الاستدلال بالعقل على عصمة الأنبياء عليهم السلام ولا يستلزم ذلك القول بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين ولا سلب الاختيار عن الله تعالى، وكذلك يستنبط من كثير من الآيات القرآنية ما يدل على نزاهتهم وكونهم قدوة في الخير والفضائل ... وفي الكتاب والسنة إسناد الذنوب إلى بعض الأنبياء عليهم السلام وما جاز على بعضهم جاز على الآخرين والعلماء يأولون ذلك، وقصارى هذا كله وجوب الاعتماد على الدليل العقلي والتوفيق بينه وبين ما ورد من إسناد الذنوب إليهم ... " 3. فالعصمة ثابتة بالعقل وبالنقل، والذي يثبت أيضاً نسبة بعض الذنوب إليهم، ويحتاج هذا إلى الجمع بين ما يظهر من التعارض. فسوف يبين الشيخ رشيد لنا الأدلة العقلية ثم النقلية على وجوب العصمة للأنبياء، ثم يرد ما قد يرد على ذلك من شبهات تقدح ـ بحسب الظاهر ـ فيما قررناه.   1 انظر: عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 126) وانظر: الرازي: عصمة الأنبياء (ص: 27) 2 مجلة المنار (5/ 19 ـ 20) ، وقارن مع الإيجي: المواقف (ص: 359) 3 مجلة المنار (5/ 21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 المطلب الثالث: الأدلة العقلية والنقلية على ثبوت العصمة : لقد بنى الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ الدليل العقلي على وجوب ثبوت العصمة للأنبياء على ما بينه من وجه الحاجة إليهم ومن وظائفهم التي بينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 إجمالاً ثم تفصيلاً 1. وقد قسم هذه الوظائف إلى قسمين: نوع في بيان الاعتقادات، ونوع في تهذيب النفس وتزكيتها. قال: " ... وبديهي أن العمدة في بيان النوع الأول صدق الخبر بحيث لا يحوم حوله الشك والريب، والعمدة في الثاني صدق الخبر كذلك مع حسن الأسوة وصحة القدوة بالمخبر ... ولا تحصل الثقة القطعية بصدق الخبر إلا إذا كان المخبر معصوماً من الكذب والخطأ في التبليغ، ولا تتم القدوة وتحسن الأسوة إلا إذا كان الإمام المقتدى به بريئاً من النقائص ... إذاً لا تتم حكمة الله تعالى في إرسال الرسل إلا إذا كانوا بحيث ذكرنا من الصدق والنزاهة ... ولا يلزم من هذا إيجاب شيء على الله تعالى فيكون حجة للمعتزلة ... " 2. وبعد إيراده للدليل العقلي يورد الشيخ رشيد أدلة الكتاب العزيز التي تثبت عصمة الأنبياء، فيقول: "الدليل النقلي على عصمتهم أن الله تعالى ما أرسل المرسلين إلا ليتبعوا ويقتدى بهم وقد أمر باتباعهم كقوله في خاتمهم عليه السلام: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 3، فلو كانوا يخالفون ما يجيئون به من الهدى لكان الله تعالى آمراً بالشيء ناهياً عنه في آن واحد، وهو محال على الله تعالى. ولو فعلوا الفاحشة لكان الله آمراً بها من حيث أمر باتباعهم أمر تشريع، وأمر بالتأسي بالعظماء أمر تكوين بأن أودع ذلك في فطرة الإنسان، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} 4 ... " 5. وهذا الاستدلال من الشيخ رشيد صحيح، ولكن أرى أنه استدلال عقلي أيضاً، كالأول، والأولى عند الاستدلال بالكتاب العزيز أن يستدل بأدلة مباشرة، كقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 6 وكقوله تعالى:   1 انظر: (ص:656) من هذا البحث. 2 مجلة المنار (5/ 47) وقارن مع: الرازي: عصمة الأنبياء (ص: 29) 3 سورة الأعراف، الآية (158) 4 سورة الأعراف، الآية (28) 5 مجلة المنار (5/ 48) 6 سورة الأنعام، الآية (124) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. فهذا استدلال مباشر بالكتاب على عصمة الأنبياء، وأما استدلال الشيخ فهو بواسطة العقل.   1 سورة آل عمران، الآية (79) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 المطلب الرابع: دفع شبهات حول العصمة: وبعد إثبات العصمة عقلاً ونقلاً يحسن دفع ما يرد عليها من شبهات وهو ما فعله رشيد رضا في دفعه عن عدد من الأنبياء شبهات ترد على عصمتهم، منها: أولاً: قصة آدم وحواء: تمسك بعضهم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2 قالوا: لا شك أن النفس الواحدة هي آدم، وزوجها المخلوق منها هي حواء، وهذا يقتضي صدور الشرك عنهما. وتمسكوا ببعض الآثار التي تشير إلى هذا المعنى، منها حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه مرفوعاً: "لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث   2 سورة الأعراف، الآية (189ـ 191) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 فعاش، فكان ذلك وحياً من الشيطان" 1. وقد أجاب أهل العلم على ذلك بوجوه: الأول: إن الآية تشير إلى خلق الناس من آدم وحواء كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 2. وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 3. وإنما وقع الشرك في قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ} من بعض ذريته، وروي ذلك عن الحسن 4، واختاره ابن كثير 5. الثاني: إن النفس الواحدة في الآية ليست هي آدم، إذ لا دليل في نص الآية على ذلك ـ مع عدم صحة حديث سمرة ـ في رأيهم ـ بل الخطاب في الآية لقريش، والمعنى: خلقكم من نفس قصي وجعل منها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة عبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار 6. الثالث: على التسليم بأن الآية في آدم وحواء وأن الشرك فيها منسوب إليهما، وكما ورد في حديث سمرة، أن هذا الشرك لم يكن شركاً في العبادة، وإنما هو شرك في التسمية واللفظ، فقد قصدت بتسمية   1 أخرجه الترمذي: ك: التفسير، باب: ومن سورة الأعراف، ح: 3077 (5/ 267) وقال: حسن غريب. وأحمد في المسند (5/ 11) وأعله ابن كثير من ثلاثة أوجه، ورجح وقفه على سمرة. انظر: التفسير (2/ 263) ، وقد أخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك (2/ 545) وقد ضعفه أحمد شاكر، انظر: حاشية الطبري (13/ 310) 2 سورة النساء، الآية (1) 3 سورة الحجرات، الآية (13) 4 انظر: ابن كثير: التفسير (2/ 267) وقال: هذه أسانيد صحيحة عن الحسن. وانظر: الطبري: التفسير (13/ 303 و314) ط. شاكر. 5 ابن كثير: المصدر نفسه (2/ 267) 6 الرازي: عصمة الأنبياء (ص: 42 و43ـ44) وانظر: الطبري: التفسير (13/ 314) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 عبد الحارث أن الحرث سبب لنجاة الولد، فالمعاتبة على ذلك من حيث أنها نظرت إلى السبب دون المسبب، والشرك في الألفاظ مما يقع وحكمه الاستغفار منه والتوبة منه، وعدم العود إليه 1. وأما رشيد رضا فقد رجح في معنى الآية أن المراد جنس الذكر والأنثى ولا يقصد فيه إلى معين، آدم ولا غيره، فالمعنى خلقكم جنساً واحداً وجعل أزواجكم منكم أيضاً لتسكنوا إليها سكوناً زوجياً، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين ما حكي في الآية 2. فيرى رشيد رضا أن الآية ليست نصاً في آدم وحواء. وأما الحديث والآثار المروية كحديث سمرة فيهذب رشيد رضا إلى أنه ضعيف، ومأخوذ من الإسرائيليات لأن فيه طعناً صريحاً في آدم وحواء، ورمياً لهما بالشرك. وقد نقل كلام ابن كثير بطوله 3 واستحسنه، لأنه يؤيد رأيه في الآثار المروية وكونها من الإسرائيليات المروية عن أهل الكتاب. قال: "إن هذه الآثار مأخوذة من الإسرائيليات ولما كانت طعناً في عقيدة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام بما تبطله عقائد الإسلام، وجب الجزم ببطلانها وتكذيبهم فيها"4. ثانياً: قصة يوسف عليه السلام: وتمسك الطاعنون في العصمة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} 5.   1 انظر: الطبري: التفسير (13/ 315) وهذا هو الذي اختارد ابن جرير، وانظر: صديق حسن خان: فتح البيان (3/ 475) ، وانظر: سليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 593) ، والميلي: الشرك ومظاهره (ص: 276 ـ 277) 2 انظر: تفسير المنار (9/ 517 و520) 3 تفسير المنار (9/ 521 ـ 525) وقارن مع ابن كثير: التفسير (2/ 263 ـ 264) 4 انظر: تفسير المنار (9/ 525) 5 سورة يوسف، الآية (24) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 وقد اختلف في معنى الهم في الآية، فقيل هو: الهم منها بالفاحشة 1، وقيل المراد به منه: حديث النفس 2، كقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: "إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة ... وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ... " 3. ولكن الشيخ رشيد يذهب في ذلك مذهباً خاصاً، فإنه يرى أن الهم بالفاحشة لم يقع منها ولا منه ـ عليه السلام ـ وإنما الذي وقع منها هو المراودة، فلما امتنع وكان ذلك إهانة لها وكسراً لطبيعة الأنثى التي فطرت على أن تكون مُرَاوَدة لا مراوِدة، من عبدها العبراني، وعدّت هذا احتقاراً منه، أرادت الانتقام منه بالاعتداء عليه والبطش به في ثورة غضبها وهو انتقام معهود من مثلها ومن دونها في كل زمان ومكان، والهم منه كان هماً بدفع اعتدائها عليه، والبرهان الذي رآه يوسف ـ كما يرى رشيد رضا ـ هو آية رآها يوسف في نفسه، وهي إما النبوة التي آتاه الله إياها بعد الحكم، أو مقدمات هذه النبوة من مقام الصديقية العليا وهي: مراقبته لله تعالى، ورؤية ربه متجلياً له ناظراً إليه، فهذا هو البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام 4، ويرفض رشيد رضا كل ما روي في معنى الهم منها ومنه، ويعده من الإسرائيليات التي انخدع بها كثير من الناس 5، كما يرفض الروايات في البرهان الذي رآه يوسف 6. ومهما يكن من شيء في معنى الهم فإن يوسف عليه السلام كان   1 انظر: ابن جرير: التفسير (16/ 35 ـ 37) 2 انظر: ابن كثير: التفسير (2/ 456) ، والرازي: عصمة الأنبياء (ص: 76) ، وانظر أيضاً: الطبري: التفسير (16/ 34) 3 رواه مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 203 (128) و204 و205 (129) [1/ 117] 4 تفسير المنار (12/ 275 ـ 276) وقريب منه أيضاً رأي عند الطبري: انظر: التفسير (16/ 38) 5 المصدر نفسه (12/ 280) 6 المصدر نفسه (12/ 279) وانظر: الآراء في هذا البرهان: الطبري: التفسير (16/ 39 ـ 43) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 معصوماً كالأنبياء ولم يرتكب الفاحشة قط، فقد شهد ببراءة يوسف من الذنب كل من له تعلق بتلك الواقعة من زوج وحاكم ونسوة وملك، وادعى يوسف ذلك واعترف له خصمه بصدق ما قال مرتين، وشهد بذلك رب العالمين وهو أصدق القائلين 1. ثالثاً: سحر النبي صلى الله عليه وسلم: ومما يشبه أن يكون شبهة على عصمة الأنبياء، ما روي من "أن اليهود سحروا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه كان يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله" 2. وفي رواية: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن" 3، وطعن بعض الملحدة في الشرع متمسكين بهذا الحديث 4، كما أن بعض المبتدعة أنكرته بزعم أن تجويز ذلك يطرح الثقة بالشرائع. وممن أنكر أحاديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ محمد عبده 5. وكان رشيد رضا قد أورد هذه الأحاديث ضمن الأحاديث التي ينبغي أن ترد لعلة في متنها لأنها تمثل شبهة على الدين، ولأن نفس النبي صلى الله عليه وسلم أقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها 6، ونسب رشيد رضا رد هذه الرواية للأستاذ الإمام. ولكن رشيد رضا أورد هذا الحديث في السياق الذي أشرت إليه ليمثل للأحاديث التي ترد لعلة في متنها، وإن صح بحسب صناعة تعديل الرجال سندها 7. إلا أنه عندما هاجمه يوسف الدجوي ـ   1 انظر: الرازي: عصمة الأنبياء (ص: 75 ـ 76) 2 انظر: البخاري: الصحيح، ك: الطب، باب: السحر، ح: 5763 و5766، ومسلم: الصحيح، ك: السلام، ح: 43 (2189) 3 البخاري: الصحيح، ك: الطب، باب: هل يستخرج السحر، ح: 5765. 4 انظر: القاضي عياض: الشفا (ص: 160) ، وابن القيم: زاد المعاد (4/ 124) ، وابن حجر: فتح الباري (10/ 237) 5 انظر: محمد عبده: تفسير جزء عم (ص:183 ـ 184) ط. الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، ط. الثانية، بمطبعة مجلة المنار، مصر، 1329هـ 6 مجلة المنار (14/ 623) 7 المصدر نفسه (14/ 624) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 محرر مجلة الأزهر ـ أنكر رشيد رضا رده للحديث واعتبر كلام الدجوي بهتاً له. وقال: " ... إنني ناقل لهذه المسألة عن الأستاذ الإمام ولست أنا الذي رددت الحديث، فإسناد الرد إليّ، بهت لي وافتراء عليّ" 1. ولكن أليس السكوت في موطن الحاجة بيان وهو علامة الموافقة؟ لقد أورد رشيد رضا عبارة "الأستاذ الإمام" من تفسير جزء عم بطولها، وفيها حجته ومنها قوله: "ولا يخفى أن تأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أنه فعل شيئاً وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يصدق قول المشركين فيه: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} 2 وليس المسحور عندهم إلا من خولط في عقله، وخيل له أن شيئاً يقع وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه وقد قال كثير من المقلدة الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها أن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع المبتدعين ... " 3. ثم علق رشيد رضا قائلاً: "هذه حجة "الأستاذ الإمام" على إنكاره لوقوع السحر على تلك النفس القدسية العليا ... فهو يجلها أن يؤثر فيها سحر ذلك اليهودي الرجيم ... وإننا لم نرَ من علماء الملة متقدميهم ومتأخريهم من بين لنا من فضل تلك النفس الزكية العلوية، والشخصية الشريفة المحمدية، ما بينه لنا هذا الإمام الجليل ... " 4، وهذا التعليق من الشيخ رشيد يدل على استحسانه لرأي الشيخ محمد عبده وموافقته له وإعجابه به. والذي أريد أن أشير إليه هنا هو حديث الشيخين هنا محمد عبده ورشيد رضا عن النفس وسيأتي أيضاً كلام لرشيد رضا عن "قوى النفس"،   1 مجلة المنار (33/ 39) 2 سورة الفرقان، الآية (8) 3 مجلة المنار (33/ 41) 4 مجلة المنار (33/ 43) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 فقول محمد عبده عن المثبتين للسحر المتمسكين بالحديث أنهم "لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها" وإنكاره عليهم قولهم: "إن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح فيلزم الاعتقاد به ... " هو صحيح، إذ أن النبوة عند الفلاسفة الذين أعجب بهم محمد عبده بعد درسه للإشارات، هي من قوى النفس فالطعن في "قوى النفس" طعن في النبوة. وغني عن البيان أن هؤلاء الفلاسفة هم الذين "لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها" ولا أحد يطعن في الأنبياء طعنهم، إذا أنهم يقولون إن الأنبياء لا يخبرون بالحقائق على ما هي عليه، بل يتابعون "الجمهور" في ما يعتقدون ويخبرونهم بما "يفهمونه ويتخيلونه" بضروب من التمثيل والتخييل 1. كما أنني أريد أن أشير إلى قول رشيد رضا أيضاً أنه "لم ير من علماء الملة متقدميهم ومتأخريهم، من بين لنا فضل تلك النفس الزكية العلوية .... ما بينه لنا هذا الإمام الجليل" وأقول إن هذا "بهت وافتراء" على علماء الملة "متقدميهم ومتأخريهم" إذ أنهم رحمهم الله تعالى قد قاموا ببيان حقيقة النبوة ووضعوها في موضعها، ونقلوا لنا حقيقة هذه "النفس العلوية" بما لم تقم به أمة من الأمم، حتى صار عملهم ذلك من علامات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. وبعد ذلك كله ذكر رشيد رضا أقوالاً أخرى لمنكري السحر ثم ختم ذلك بقوله: "وإن لنا في هذا الحديث كلمتين: إحداهما في سنده: وهي: أن الذين أعلوا الحديث بهشام بن عروة 2، ورد عليهم العلامة ابن القيم باتفاق الجماعة على تعديله لهم وجه   1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 8 ـ 10 وص: 179 ـ 180) 2 هو: هشام بن عروة بن الزبير، الإمام الثقة، شيخ الإسلام، راى ابن عمر ودعا له ومسح برأسه، كان مثل الحسن وابن سيرين، ثقة ثبت حجة. السير (6/ 34 ـ 46) . ولم يقتصر طعن رشيد رضا هنا في هشام بن عروة بل طعن في ابن حجر أيضاً بأنه "من الرجال الذين انحصرت قوة تحقيقهم في الروايات وحفظ ما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها وسائر العلماء في متونها، والترجيح بينها بمقتضى قواعدهم التي هي آراء لهم. فبضاعته ضعيفة في تحقيق مسائل المتون وبنائها على قواعد المعقول والمنقول ... " مجلة المنار (33/ 48) . بل إنه طعن بهذه المناسبة، في جميع المحدثين، فقال: "أما علماء الروايات فليسوا ممن يطلب منهم معرفة هذه الحقائق في نقد المتون". مجلة المنار (33/ 44) . فإذا كنا لا نأخذ الحديث من المحدثين، ولا من "علماء المناقشات اللفظية" يعني الفقهاء، فلا بد أن نأخذها من الفلاسفة ومنهم "الأستاذ الإمام" حكيم الإسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 وجيه ومستند من أقوال أئمة الجرح والتعديل ... فالقول بوقوع الخطأ منه أهون من قبول روايته هذه وهو أوثق من روى هذا الحديث. الثانية في متنه: وهو أن الروايات عن عائشة تدور على أمر واحد وهو ما يتعلق بالنساء، فقولها كان يخيل إليه إنه يفعل الشيء وهو لم يفعله كناية عن ذلك الأمر حياء من التصريح به على أنها صرحت في رواية أخرى فظن بعض الرواة أنه عام في كل فعل فعظمت الشبهة فيه على علماء الأصول والعقائد، ويؤيد حصر التأثير فيما ذكر ما في طبقات ابن سعد عن ابن عباس: مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن النساء والطعام والشراب، وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. فجملة القول أنه مرض مرضاً أثر في الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي فقط، وما زالت الناس تعد هذا من أنواع السحر ويعبر عنه العوام في زماننا بالعقد ويسمون الواقع عليه "معقوداً" وكانت العرب تسميه مطبوباً، ... "1. ثم قال الشيخ رشيد مبيناً قصده من ذلك: "وإننا على هذا قد محصنا أقوال علماء المعقول والمنقول في الراوية متناً وسنداً بما يهون فيها أمر منكري الرواية بما قيل في هشام، وبما يرجع أقوال مثبتيها إلى كون التأثير الذي وقع على قولهم هو خاص بمباشرة الراوية له (عائشة) على أن أستاذنا ـ رحمه الله تعالى ـ فوض الأمر في تأويل الحديث لأهله، ولم يرد روايته كغيره" 2. وأما الشيخ محمد عبده فإن دفاع رشيد رضا عنه لا يجديه، فإن رده للمسألة هو ردٌ للحديث بلا شك.   1 مجلة المنار (33/ 46) 2 المصدر نفسه (33/ 49) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 ومهما يكن من شيء فإن السحر مرض من الأمراض، وعارض من العوارض والعلل، يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض مما لا ينكر، ولا يقدح في نبوته 1، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما 2.   1 انظر: عياض: الشفا (2/ 160) 2 انظر: ابن القيم: زاد المعاد (4/ 124) ، وابن حجر: فتح الباري (10/ 237) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 المطلب الخامس: عصمة الأنبياء عند أهل الكتاب : ويقارن رشيد رضا بين العصمة التي قررها المسلمون للأنبياء، وبين مذهب أهل الكتاب في عدم عصمة الأنبياء ونسبتهم إلى سائر الشرر والمعاصي. إلا أنه لا يسلم لهم هذه الدعوى، ويستدل بنصوصهم المقدسة على ذلك. وأريد هنا ـ وقبل أن أعرض لمقارنة الشيخ رشيد هذه ـ أن أذكر ـ وباختصار ـ بعض الآيات القرآنية التي تبين تزكية الله تعالى لأنبيائه في كتابه، وتبين موقف المسلمين من هؤلاء الأنبياء صلى الله تعالى عليهم؛ يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ... } 3. ونلاحظ أن الأمر الأخير بالاقتداء بهم ـ صلى الله تعالى عليهم ـ قد جاء بعد ذكرهم والثناء عليهم وذكر صلاحهم، وإحسانهم وهدى الله تعالى لهم. وهذا   3 سورة الأنعام، الآيات (84 ـ 90) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 هو ما نقول أنه موجب العصمة. إلا أن أهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة للأنبياء يقول رشيد رضا: "وأهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة، وكتبهم المقدسة ترمي بعض الأنبياء بكبائر الفواحش المنافية لحسن الأسوة، بل المجرئة على الشرور والمفاسد.." 1. ولا يقف الأمر بأهل الكتاب عند مجرد الدعوى النظرية بل ينسبون إلى الأنبياء في كتبهم ارتكاب جميع الموبقات التي يستنكف عامة المسلمين عن مجرد الحديث عنها. وسأقتصر هنا على ذكر أسماء بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في الآية السابقة، فمثلاً تنسب التوراة إلى يعقوب عليه السلام أنه سرق مواشي من حميه وخرج خلسة دون أن يراه أحد 2. وأما إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ فقد قدم ـ بحسب رواية التوراة ـ امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها 3. ومن ذلك أيضاً: أن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنا بهما الواحدة بعد الأخرى كما تزعم رواية التوراة 4. وأما دواد الذي يقول في صفته القرآن {إِنَّهُ أَوَّابٌ} 5 فيقول العهد القديم: إنه زنا بزوجة رجل من قواد جيشه ثم دبر حيلة لقتل الرجل، فقتل وأخذ داود الزوجة وضمها إلى نسائه فولدت له سليمان 6. وأما سليمان الذي يصفه القرآن بأنه {نِعْمَ الْعَبْدُ} 7، فيقولون: إنه ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، وبنى لها المعابد بسبب حب النساء الوثنيات اللاتي أملن قلبه 8. ويقولون: إن هارون صنع عجلاً وعبده مع بني إسرائيل 9.   1 الوحي المحمدي (ص: 51) 2 انظر: التوراة: سفر التكوين: إصحاح: 31 عدد17 3 المصدر نفسه الخروج: إصحاح: 12 عدد 114 4 المصدر نفسه تكوين: إصحاح: 19: عدد30 5 سورة ص: الآية (17) والأواب: التواب (الراغب: المفردات، ص: 97، أوب) 6 صموئيل الثاني: إصحاح: 11/ عدد: 1 7 سورة: ص: الآية (30) 8 الملوك: الأول: (11/5) 9 الخروج: (32/ 1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 واستغل النصارى هذه الروايات الغريبة لصالحهم، ـ وبما أنهم لا بدّ أن يؤمنوا بالتوراة ـ فقد اتخذوا من هذه الروايات سنداً يستندون إليه في تصحيح عقيدتهم في المسيح ـ عليه السلام ـ كما يقول الشيخ رشيد: " والنصارى منهم يحعلون معاصي الأنبياء دليلاً على عقيدتهم، وهي أن المسيح هو المعصوم وحده لأنه رب وإله، ولأنه هو المخلص للناس من العقاب على الخطيئة اللازبة اللازمة لكل ذرية آدم بالوراثة عنه، وأنه لا شفيع ولا مخلص لهم غيره، لأن المخطئ لا يخلص المخطئين وهو منهم، وهذه العقيدة الوثنية مخالفة لدين الأنبياء وكتبهم وللعقل، ومطابقة للأديان الوثنية الهندية وغيرها" 1. ولكن الحقيقة لا تزول أبداً فلا بدّ أن نجد طريقاً لها، يقول الشيخ رشيد: " ... إن كتب العهدين القديم والجديد المقدسة عندهم والمحرفة في اعتقادنا لا تشهد لهم برمي جميع أنبيائها بالذنوب فضلاً عن المعاصي التي هي أشد من الذنوب، فإن يوحنا المعمدان: يحيى بن زكريا عليهما السلام لم يوصم بخطيئة قط، بل شهدت له أناجيلهم بما يدل على أنه كان أعظم من المسيح في عصمته، ففي إنجيل لوقا: "إنه يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومسكراً لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس" 2 وفيه: "كانت يد الرب معه" 3، وقال المسيح فيه: "الحق أقول لكم إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" 4، ثم قال فيه: "جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان، وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب العشارين والخطاة" 5 بل شهدت الأناجيل أن المسيح عليه السلام أهان أمه وأخواته   1 الوحي المحمدي (ص: 51) 2 انظر: لوقا (1:65) 3 لوقا (1: 66) 4 متى (11: 11) 5 متى (11: 18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 ولم يسمح لهم بلقائه، وقد استأذنوا عليه ليكلموه، وعلل ذلك بأنهم مخالفون لمشيئة أبيه كما تراه في آخر الفصل الثاني عشر من إنجيل متى وآخر الثالث من مرقس بالمعنى ... نعم إن إخوته لم يكونوا مؤمنين به كما هو مصرح به في موضع آخر، ولكن هل كانت أمه كذلك؟ وهل يجازيها هذا الجزاء؟ ... وإهانة الأم ذنب في جميع الشرائع والآداب، كما أن المبالغة في شرب الخمر ذنب حتى في الشرائع التي لم تحرمها مطلقاً، وجاء في هذه الأناجيل أن الشيطان استولى عليه أربعين يوماً يجربه ويدعوه إلى عبادته 1 ... ونحن نبرئه من كل ذلك. وهنا شهدت الأناجيل أيضاً بأن يوحنا كان يعمد الناس للتوبة ومغفرة الخطايا، وأنه عمد المسيح نفسه، وبأن أباه زكريا وأمه إليصابات " كان كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم" 2، وهذه شهادة بالعصمة التامة. وهناك أنبياء آخرون شهدت لهم نبوات العهد القديم بالبر ولم ينسب إلى أحد منهم أدنى خطيئة، وآدم عندما ارتكب الخطيئة لم يكن نبياً مرسلاً إلى أحد، ولا كان معه قوم يسيئون الاقتداء به، وكان قد نسي النهي عن الأكل من الشجرة ... " 3. ويريد الشيخ رشيد من هذا كله إثبات العصمة للأنبياء حتى بدلالة الكتب المقدسة عند أهل الكتاب، وأن عصمة المسيح من الذنوب التي يدعيها النصارى دليلاً على ألوهيته ليست كذلك. وقد سبق الجواب عن الآيات القرآنية التي تتحدث عن استغفار الأنبياء من الذنوب ومغفرتها لهمن كقوله تعالى لخاتمهم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 4 وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 5   1 انظر: لوقا (4:1ـ 13) 2 لوقا (1: 6) 3 الوحي المحمدي (ص: 52 ـ 53) 4 سورة الفتح، الآية (2) 5 سورة محمد، الآية (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 فالذنب فيه ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ: "جاء على أصل معناه اللغوي المشتق من ذنب الدابة، وهو كل عمل له عاقبة ضارة أو منافية للمصلحة، أو لما هو أولى وأنفع، ويدخل فيه الاجتهاد في الرأي المباح شرعاً كإذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وعاتبه الله عليه بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 1، وإنما العصمة للأنبياء من معصية الله بمخالفة وحيه إليهم، إذ لو عصوه لكان أتباعهم مأمورين من الله بالمعصية لأنه أمرهم باتباعهم، وقال في نبينا صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 2 ... " 3. ومهما يكن من شيء فإن الله تعالى يعصم الأنبياء بعد الأخطاء فيبينها لهم فيعرفونها ويتوبون منها ويتوب الله عليهم فيغفرها لهم، فلا خوف من ذلك على الأنبياء ولا أتباعهم.   1 سورة التوبة، الآية (43) 2 سورة الأحزاب، الآية (21) 3 الوحي المحمدي (ص: 53) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 المبحث السابع: آيات الأنبياء، وكرامات الأولياء، وخوارق الأشقياء تمهيد ... آيات الأنبياء هي أدلتهم وبراهين صدقهم، كما سماها الله تعالى آيات وبراهين 1، فالأنبياء الذين بعثهم الله تعالى لهداية الناس لا بد أن يقيموا على دعواهم دليل الصدق لتقوم الحجة بهم على الناس، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} 2 فإذاً كان المقصود هو معرفة صدق مدعي النبوة أو كذبه، فالتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما هو دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ فطرق العلم بالرسالة كثيرة جداً ومتنوعة، منها دلالة المعجزة وغير المعجزة 3. ولقد كتب الشيخ رشيد عن آيات الأنبياء ومعجزاتهم، فعرفها بعد أن أثبتها ـ وقارن بينها وبين آيات نبينا صلى الله عليه وسلم ورجح آية نبينا صلى الله عليه وسلم الباقية على مر الأيام والسنين، شاهدة شهادة صدق دائم لا يغيب. كما تحدث الشيخ عن كرامات الأولياء حديثاً طويلاً مسهباً وقارن بينها وبين آيات الأنبياء ـ وبين السحر كذلك، وفيما يلي أعرض للنواحي التي تناولها الشيخ رشيد في مبحث الآيات.   1 انظر: ابن تيمية: النبوات (ص: 5) 2 سورة الحديد، الآية (25) 3 انظر: ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 120) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 المطلب الأول: تعريف الشيخ رشيد للآية والمعجزة : يلاحظ الشيخ رشيد أولاً: أن القرآن عبر عما أيد الله تعالى به الأنبياء من أجل إيمان الناس بهم بالآيات، بينما اصطلح المتكلمون على تسميتها معجزات، واختلفوا في وجه دلالتها على صدق النبي هل هي عقلية أو عادية أو وضعية؟ 1، ويعرض الشيخ رشيد ـ كما هي عادته ـ عن الخوض فيما خاض فيه المتكلمون، ويقول: "ولا نبحث في مثل هذه الخلافات النظرية، وإنما نقول إن القصد منها الحمل على قبول الدعوة والإذعان للرسالة عند استعداد الأمة لذلك وإقامة الحجة البالغة على المعاندين بحيث ينقطع لسان الاعتذار من أهل الجحود والإنكار ... " 2. ثم يعرفها ـ الآية أو المعجزة ـ بأنها "أمر يؤيد الله تعالى به نبيه ويخضع له به النفوس، وكان يختلف باختلاف الأمم ومعارفها ودرجات ارتقائها ... " 3. وقد قرر الشيخ رشيد أن الله تعالى قد أعطى كل نبي من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر بدلالة مثله، وأشار إلى أن البينة هي كل ما يتبين به الحق فهي تشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية 4. وقد اعتمد الشيخ رشيد في تقريره ذلك على حديث الصحيحين: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" 5. وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في كلام الشيخ رشيد بيان الفرق بين   1 مجلة المنار (4/ 371) ، وانظر أيضاً: تفسير المنار (1/ 217) 2 مجلة المنار (4/ 371) 3 المصدر نفسه والصفحة. 4 تفسير المنار (8/ 524 ـ 525) 5 رواه البخاري: الصحيح: ك: الاعتصام، باب قول النبي (: بعثت بجوامع الكلم، ح: 7274، ومسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 239 (152) [1/ 134] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 آيات الأنبياء وآية نبينا عليهم الصلاة والسلام. إلا أنني هنا أريد أن أؤكد على ما يشير إليه الشيخ رشيد بقوله إن "الآيات التي أيد الله بها الأنبياء ليست محصورة في الخوارق الكونية ... " 1. فعند قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} 2 قال إن معنى الآيات فيها: "الدلائل والبينات من براهين عقلية، نظرية كانت أو علمية أو كونية، كآياته تعالى في الأنفس والآفاق، ومنها معجزات الأنبياء عليهم السلام وأظهرها وأقواها القرآن العظيم من حيث هو دال على صدق النبي الأمي في دعوى الرسالة من وجوه كثيرة ... " 3.   1 مجلة المنار (11/ 913) 2 سورة الأعراف، الآية (146) 3 تفسير المنار (9/ 199) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 المطلب الثاني: أنواع الآيات : لقد قسم الشيخ رشيد آيات الله تعالى إلى أقسام، فقسمها أولاً إلى: آيات كونية آفاقية ـ أي متعلقة بالكون والآفاق كآيات موسى وآيات المسيح صلى الله تعالى عليهما، وأشار الشيخ رشيد إلى أن هذا النوع من الآيات غايته إخضاع النفوس أمام صاحب الآية، وإن كانت نفس الآية لا تشتمل على بيان أمور الدين ومسائله. وأنها أيضاً قد تشتبه على المؤمنين بها وغير المؤمنين بالسحر والشعوذة 4. وقسيم هذا النوع عند الشيخ رشيد ـ نوع آخر من الآيات هو أولى وأقوى من تلك وهو الآيات النفسية العلمية ـ وهي كما يعرفها الشيخ: "ما تدل على صدق النبي دلالة حقيقية بالبرهان الذي يجزم العقل بأن صاحبها مؤيد من الله تعالى وموحى إليه ما بلغه ودعا إليه لأنها عبارة عن كون حال   4 مجلة المنار (4/ 372 ـ 373) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 النبي وما جاء به يشهدان بأنهما لا يمكن أن يكونا إلا بإمداد إلهي ووحي سماوي، لأنها كحجة من يدعي الطب ويستدل على دعواه بمعالجة المرضى وشفائهم على يده وبالإتيان بكتاب في الطب إذا عمل به الناس تذهب أمراضهم وتحفظ صحتهم ... " 1. والفرق بين النوعين من الآيات أن "مدعي الطب إذا استدل على صدقه بأنه يقلب العصا حية ويكشف حيلة مشعوذ يُري الناس الحبال والعصي حيات وثعابين وفعل ذلك لم يكن بين الدليل والمدلول اتصال يربط أحدهما بالآخر ... " 2. وهذا هو الفارق بين آية خاتم النبيين وآيات من سبقه من الأنبياء ـ صلى الله تعالى عليهم ـ وهو ما أشار إليه الحديث السابق في قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحياً" وسيأتي مزيد بيان لذلك ـ إن شاء الله ـ. وأود أن أشير هنا إلى قول الشيخ رشيد في النوع الثاني: "إنها عبارة عن كون حال النبي وما جاء به يشهدان بأنهما لا يمكن أن يكونا إلا بإمداد إلهي" وإلى أن هذا يعني الاستدلال من جهتين: الأولى: حال النبي: وهو استدلال شخصي، وهو ما استدل به ملك الروم في سؤالاته لأبي سفيان 3. والثاني: نوعي: وهو المقارنة بين ما جاء به ومعرفة نوعه، مع نوع ما جاء به الأنبياء ـ وهو ما استدل به النجاشي 4 وورقة بن نوفل 5. يقول الشيخ رشيد: "لقد كانت عمدة هذا الرسول عليه الصلاة والسلام في الاستدلال على   1 المصدر نفسه (4/ 373) 2 المصدر نفسه (4/ 373) 3 انظر: البخاري: الصحيح: ك: بدء الوحي، باب: 6، ح: 7 (1/ 42) مع الفتح. 4 انظر: ابن هشام: السيرة النبوية (1/ 349 ـ 350) ط. دار الفكر، القاهرة. 5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: بدء الوحي، باب: 2، ح: 2 (1/ 25 ـ 26) مع الفتح، وفيه أيضاً: استدلال السيدة خديجة بالقسم الأول. وانظر: ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 125) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 نبوته ورسالته: نفسَه وما جاء به من النور والهدى كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب بما بيديه من العلم والعمل والنجاح فيها" 1. ويقسم الشيخ رشيد آيات الله تعالى أيضاً ـ وبشكل عام ـ إلى نوعين: الأول: الآيات الجارية على سننه تعالى العامة المطردة في نظام الخلق والتكوين، وهي أكثرها، وأظهرها وأدلها على كمال قدرته وإرادته وإحاطة علمه وحكمته وسعة فضله ورحمته" 2. والنوع الثاني: "الآيات الجارية على خلاف السنن المعروفة للبشر وهي أقلها، وربما كانت أدلها عند أكثر الناس على اختياره عزوجل في جميع ما خلق وما يخلق وكون قدرته ومشيئته غير مقيدتين بسنن الخلق التي قام بها نظام العالم، فالسنن مقتضى حكمته وإتقانه لكل شيء خلقه، وقد يأتي بما يخالفها لحكمة أخرى من حكمه البالغة ... " 3. وفيما يخص النوع الثاني ـ وهو ما جاء على خلاف السنن ـ فإن الشيخ رشيد يقسمه أيضاً إلى حقيقي وصوري. فالحقيقي هو "آيات الله تعالى الحقيقية التي نسميها المعجزات هي فوق هذه الأعمال الصناعية الغريبة، لا كسب لأحد من البشر، ولا صنع لهم فيها، وإن ما أيد الله به رسله منها لم يكن بكسبهم ولا عملهم ولا تأثيرهم حتى ما يكون بدؤه بحركة إرادية يأمرهم الله تعالى بها ... " 4. وأما القسم الصوري: فهو الأعمال الصناعية "فإن منها ما له أسباب مجهولة للجمهور، وإن منها لما هو صناعي يستفاد بتعليم خاص، وإن منها لما هو من خصائص قوى النفس في توجيهها إلى مطالبها وفي تأثير أقوياء الإرادة في ضعفائها ... " 5.   1 مجلة المنار (4/ 374) 2 الوحي المحمدي (ص: 206) 3 المصدر نفسه والصفحة. 4 الوحي المحمدي (ص: 209 ـ 200) 5 الوحي المحمدي (ص: 209) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 وأخيراً يقسم الشيخ رشيد آيات الأنبياء إلى معجزات كونية، كآيات موسى، وروحانية كآيات المسيح صلى الله تعالى عليهما، ويفرق بينهما بأن الأولى منها لا تحتمل أن تكون بسبب من الأسباب المعروفة بين الناس كالرياضة وتوجيه الإرادة أو خواص المادة، وإن الثانية: على كونها خارقة للعادات الكسبية وعلى خلاف السنن المعروفة للناس ـ إلا أنها قد يظهر فيها أنها على سنة الله في عالم الأرواح 1. على أن هذه الفروق قد لا تسلم للشيخ رشيد ـ وهولم يسبق إليها ـ على أنه كان يعرض هذا في مقام المناظرة وإقامة الحجة على أهل الكتاب ـ والغلبة يومئذ لهم ـ وفي سياق إثبات الوحي المحمدي وعلوه وتفوقه على غيره. وأما كون بعضها من قوى النفس، وكما سبق أن أشرت فهذا من أثر فلسفة الشيخ محمد عبده في رشيد رضا، فإن الفلاسفة يقولون: إن معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة: هي قوى أنفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية دون انشقاق القمر ونحو ذلك فإنهم ينكرونه 2. إثبات معجزات الأنبياء بالقرآن: أشار الشيخ رشيد إلى حقيقة هامة وهي "أنه لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء في هذا العصر بحجة لا يمكن لمن عقلها ردها، إلا هذا القرآن العظيم، وما ثبت فيه بالنص الصريح منها ... " 3. وهذه الحقيقة التي أشار إليها الشيخ رشيد ترد على شبهتين أدتا إلى إنكار المعجزات ودلالتها على النبوة: الأولى منهما: أن التواتر غير متوافر   1 المصدر نفسه (ص: 221 ـ 224) بتصرف واختصار. 2 انظر: ابن تيمية: الفرقان (ص: 42) ط. المعارف، وسيأتي إنكار رشيد رضا لانشقاق القمر وشبهته في ذلك. 3 الوحي المحمدي (ص: 229 ـ 230) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 في كتب أهل الكتاب التي نقلت هذه المعجزات، وهو الذي يحملنا على تصديقها. والثانية: أن وقوع الخوارق المذكورة فيها لا يدل على النبوة والرسالة، وأنها خوارق غير حقيقية 1. أما آية القرآن "فهي باقية ببقائه إلى يوم القيامة، وكل واقف على تاريخ الإسلام يعلم علماً قطعياً أنه متواتر تواتراً متصلاً في كل عصر، ... وإذ قد ثبت بذلك كونه وحياً من الله تعالى فقد وجب الإيمان بكل ما أثبته من آياته في خلقه ... وكما يجب على كل مؤمن أن يؤمن بها، يجب أن يؤمن بانقطاع معجزات الرسل بعد ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ... " 2. وهذه أيضاً من الفروق بين آية خاتم النبيين وآيات من سبقه من المرسلين ـ صلى الله تعالى عليهم ـ فهي باقية بقاء الدهر، ثابتة بنفسها مثبتة لما سبقها، لا يتطرق إليها احتمال الاشتباه بالخرافات والشعوذات والحيل، كما تطرق إلى ما سبقها من آيات الرسل الكونية، وكما تأولها من تأولها من الملحدين، وأخيراً فإن القرآن ـ وهو آية كونية أيضاً ـ كما يقرر الشيخ رشيد ـ فهو آية علمية عقلية، ويمتاز أيضاً بأنه يدل على صدق الرسالة كما يدل على موضوعها ومضمونها 3. وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى.   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 المصدر نفسه (ص: 230 ـ 231) 3 انظر: مجلة المنار (4/ 374) ، والوحي المحمدي (ص: 71 و79) وما بعدها و (ص: 81 ـ 83) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 المطلب الثالث: كرامات الأولياء : ومما يناسب الحديث عن معجزات الأنبياء الحديث عن كرامات الأولياء، لأن كرامات الأولياء إنما حصلت ببركة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول 4.   4 انظر: ابن تيمية: الفرقان (ص: 65) ط. المعارف بالرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 ولقد أطال الشيخ رشيد الحديث في موضوع الكرامات وأعاد وكرر ذلك في مجلته وتفسيره وغيرها من مؤلفاته. وسوف أحاول أن اخلص من بين ذلك كله إلى تصوير رأيه ومنهجه في هذا البحث من خلال النقاط التالية: أولاً: تعريف الولي: عرف الشيخ رشيد كلمة "الولي" لغة وشرعاً، فقال: "الولي في اللغة الناصر والمتولي للأمور وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من دونه أولياء وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} 1، وقال: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 2، وقال {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3.وأولياء الله هم أنصار دينه، والمميز لهم كمال الاتباع المعبر عنه بالتقوى، فكل مؤمن تقي ولي، وليس عمل الغرائب ولا صدور الخوارق دليلاً على التقوى ولا على الولاية. قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 4 ... " 5. ثم بين الشيخ رشيد أن هناك اصطلاحاً ـ جاء لاحقاً ـ هو: "أن الأولياء صنف من الناس تظهر على أيديهم الخوارق ويتصرفون في الكون بما وراء الأسباب، ولم يعرف الصحابة هذا المعنى ... " 6. وهذا المعنى هو الذي حاربه الشيخ رشيد، وبين الفرق بين أصحابه المدعين للولاية وبين أولياء الله الحقيقيين الذين وصفهم القرآن بالإيمان والتقوى وبين أن هذا المعنى الاصطلاحي الحادث للولاية لم يكن معروفاً في صدر الإسلام. فقال: "إن ما يعتقده عوام المسلمين في الولاية في هذه الأزمنة لم يكن معروفاً   1 سورة البقرة، الآية (257) 2 سورة الأعراف، الآية (3) 3 سورة الزمر: الآية (3) 4 سورة يونس، الآية (62ـ 63) 5 مجلة المنار (6/ 185) 6 تفسير المنار (1/ 22) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 في صدر الإسلام بالمرة، فلم يكن الصحابة يدعون بعض عبادهم بالأولياء. والولي في اللغة الناصر والصديق والمتولي الأمر، وجاء في القرآن أن لله أولياء وللشيطان أولياء، ... فولي الله من ينصر دينه ويقيم سنته وشريعته ... " 1. وأما الأولياء الجدد فإنهم لا تنطبق عليهم هذه الصفات الشرعية، يقول الشيخ رشيد: "إنك إذا بحثت في حال الذين يدعون الخوارق تجدهم طلاب مال وطلاب جاه، وإنهم يقصدون بما يأتون استرهاب الناس بما يوهمونهم من قدرتهم على إيذائهم متى شاءوا أو تعليق آمالهم بهم وإيهامهم أن بأيديهم مقاليد الرزق ومفاتح الغيب، أو الجمع بين الأمرين، حتى إنهم جعلوا إرادة الله تابعة لإرادتهم، كما قالوا في الكلمة المأثورة عن الربانيين منهم: إن لله عباداً إذا أرادوا أراد ... " 2. ويصف أحد هؤلاء الأولياء المدعين، بما يبين الحال التي وصل إليها مفهوم الهداية عند الناس: "في الجيزة 3 شيخ من الذين يعتقد الناس فيهم الولاية وينسبون لهم الكرامات، وهذا الشيخ متهتك مدمن خمر يجلس في الحانات التي في الشوارع العمومية ويشرب في مجلس واحد أكثر من ثلاثين كأساً، ونقل إلينا أن بعض الأغنياء الموصوفين بالصلاح يتقربون إلى الله ـ تعالى وتنزه عن تقربهم ـ بدفع ثمن الخمرة التي يشربها ويزعمون أن سؤره من الخمر فيه شفاء وبركة فيشربونه بهذه النية ... وحزب ولي الجيزة يعتقدون أنه يشرب الخمر فينزل في جوفه خمراً، ولكنه من أحباب الله (حاشا لله) الذين لا يؤاخذهم ولا يؤاخذ من ينتمي إليهم ويتصل بهم، وهذا الاعتقاد كفر وخروج عن ملة الإسلام بلا خلاف بين الأئمة. وما أوقع   1 مجلة المنار (9/ 139) 2 المصدر نفسه (6/ 57 ـ 58) وقارن مع: الوكيل: هذه هي الصوفية (ص: 117 ـ 118) 3 الجيزة: إحدى محافظات مصر، جنوب القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 الناس فيه إلا الغلو في اعتقاد الكرامات وجعلها صناعة من الصناعات ... " 1. وهكذا تحول معنى الولي من الالتزام بالدين بدرجة كبيرة من الإيمان والتقوى، إلى أن أصبح الخروج من الدين إلى الكفر. لقد وصل الأمر بهؤلاء المدعين للكرامات إلى دعوى أنهم يتصرفون في الكون نيابة عن الله تعالى؛ فيسعدون ويشقون، ويحيون ويميتون، ويعزون ويذلون، يقول الشيخ رشيد في ذلك: "حتى قال بعضهم إنهم يخرجون من قبورهم بأجسادهم، ويتولون قضاء الحاجات، وكشف الكربات، ولو كانت كذلك لما كانت من خوارق العادات. وقال بعضهم في كتاب مطبوع: إن فلاناً من الأقطاب يميت ويحيي، ويسعد ويشقي، ويفقر ويغني، بل قالوا وكتبوا ما هو أبعد من ذلك عن نصوص الكتاب والسنة القطعية المحكمة والعقائد المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة في الأصل وما كان عليه مسلمو القرون الأولى، فصارت بانتشار الخرافات والجهل من الكرامات ... " 2. فليس وقوع الخوارق على يد بعضهم دليلاً على ولايتهم، وإنما يعرف ولي الله تعالى بالأوصاف التي وصفهم بها الله تعالى. يقول الشيخ رشيد: "وإنما يعرف ولي الله تعالى والصالح من عباده بأمر واحد وهو مطابقة اعتقاده للحق المؤيد بالبراهين الصحيحة، وموافقته في أخلاقه وسجاياه وأعماله السرية والجهرية لما أرشد إليه الدين والعقل ... " 3. ومذهب الأشعرية أن الخوارق تقع على يد الجميع حتى الكفار والفساق، فيقول الشيخ رشيد معلقاً "وفي كتب العقائد التي تقرأ في الأزهر وغيره ... أن خوارق العادات تظهر على أيدي جميع أصناف الناس حتى الكفار   1 مجلة المنار (4/ 679) وقارن معك الوكيل: هذه هي الصوفية (ص: 109) 2 الوحي المحمدي (ص: 214) ، وأشار الشيخ رشيد في موطن آخر إلى أن هذا الكتاب هو "ترياق المحبين" وكتاب "طبقات الوتري" والمدعي فيه ذلك هو "عبد الرحيم الرفاعي" انظر: مجلة المنار (6/ 111) وقارن مع: الوكيل: المصدر السابق (ص: 112) 3 مجلة المنار (5/ 57 ـ 58) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 والفساق ... وإننا نقول لمن يأخذون أقوال هؤلاء بالتسليم: إذا كانت الخوارق تقع على أيدي جميع طبقات الناس فلا يجوز الاستدلال بها على أن من تظهر على يديه محق في اعتقاده أو مرضي عند ربه ... " 1. هذه الحالة التي وصل إليها مفهوم الولاية والكرامة حتى وصلت للشرك بالله تعالى هو الذي جعل الشيخ رشيد يعلن الحرب على خوارق الدجالين المشعوذين، ويتخذ مع مبحث الكرامات عموماً موقفاً متشدداً. وهو ما نراه في المبحث التالي. ثانياً: الكرامات: لقد بحث الشيخ رشيد مسألة الكرامات ضمن المجلدين الثاني والسادس، وفي غيرهما من مؤلفاته. وقد حصر الكلام في هذه المسألة في النقاط التالية: حقيقتها، والحكمة فيها، حجج القائلين بجوازها ووقوعها، حجج المنكرين لها، ادعاء جميع الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها ومضرته، وتمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات. وقد يبدو من سياق حديث الشيخ في المجلد الثاني ـ بادئ الرأي ـ أنه ينكر الكرامات أو على الأقل يرجح أدلة المنكرين، ولكن يحسن بنا أن نتريث حتى نصل إلى النهاية. أ) ـ تعريف الكرامة: عرف الشيخ رشيد الكرامة، فقال: "بأنها الأمر الخارق للعادة يظهر على يد العبد الصالح وهو من يقوم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد. والأمر الخارق للعادة إما أن يكون خرقه لها بمجيئه على خلاف سنن الكون المعروفة ونقيض ما تقتضيه، أو بكونه لم تعرف له سنة طبيعية يندرج فيها، وإن كان في الواقع ونفس الأمر مندرجاً تحت ناموس طبيعي غير معروف عند كافة الناس. مثال الأول: العلم والتهذيب اللذين كان عليهما نبينا عليه   1 المصدر نفسه والصفحة، وقارن مع ابن تيمية: الفرقان (ص: 34) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 الصلاة والسلام مع كونه لم يتعلم ولم يتربَ ... ومنه إحياء الموتى لسيدنا عيسى، وعصا سيدنا موسى عليهما السلام، ومثال الثاني: المكاشفات ومعرفة بعض الأمور قبل وقوعها، فإن للنفوس البشرية والأرواح الإنسانية استعداداً لهذا الأمر ولله تعالى فيه سنة روحية ... ولكن هذه السنة لم تزل من الأمور الغامضة التي لم يهتد إليها أكثر الناس ... " 1. ثم أورد الشيخ رشيد حجج المثبتين للكرامات، ولخصها بأنها على ضربين: الأول: ما جاء في الكتاب العزيز، وقد أول الشيخ رشيد هذه الآيات محاولاً صرفها عن دلالتها على وقوع الكرامات لغير الأنبياء. الثاني: ما ورد عن السلف ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وتتبع الشيخ ما روي في ذلك، فأوّل بعضها وسلّم بعضها 2. قال الشيخ رشيد: "فتخلص مما تقدم أن قصارى ما يحتج به من الآيات الكريمة أن الله أكرم أم موسى بالإلهام الصحيح، وأكرم السيدة مريم بكلام الملائكة، وليس في هذين الأمرين مخالفة لسنن الله تعالى في الخلق، وأن لله تعالى في خلقه آيات لا تنطبق على سنن الكون المعروفة كحبل مريم وولادتها من غير اقتران برجل، وكالضرب على آذان أهل الكهف سنين عدداً. فأما الإلهام فإنه لا يزال يقع في كل عصر لأصحاب النفوس العالية، فهو كرامة اختصوا بها من دون سائر الناس. وأما كلام الملائكة للناس فلم يثبت لغير الأنبياء بوجه قطعي إلا لمريم، فإن كانت غير نبية فهو كرامة قطعية لها تدل على جوازه لغيرها ... " 3. وإذا كان لله تعالى آيات خارجة عن سنن الكون فهذه هي التي نقول إنها: الكرامة. وهو ما سلمه الشيخ رشيد نفسه إذ يقول: "ونقول نحن في   1 مجلة المنار (2/ 417) وأكرر هنا ما علقت به في (ص:670) على مسألة "قوى النفس" عند الفلاسفة. 2 انظر: مجلة المنار (2/ 481 ـ 489 و 2/ 545 ـ 552) 3 المصدر نفسه (2/ 488) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 هذا المقام إن لله تعالى في خلقه آيات تدل على أن قدرته تعالى حاكمة على سنن الكون لا محكومة بها. وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} 1، فحبلها على غير النحو المعهود في الخلق ليس لها فيه كسب ولا عمل بوجه ما، بل كانت كارهة له، فإن كان يعد مما نحن فيه فقصارى ما يدل عليه جواز وقوع مثله، وهذا هو مراد السبكي وغيره بالاستدلال به وبنحوه مما يأتي، أما الوقوع بالفعل، فلا يثبت إلا بدليل قطعي كالمشاهدة وكنص القرآن أو الخبر المتواتر تواتراً حقيقياً ... " 2. ويقول في مسألة الثبوت: "على أنني إذا ثبت عندي أثر ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ بسند صحيح فإني أعده كرامة أكرمه الله بها بإلهام الأسد التنحي عن الطريق، ولكن لا أقول إن فيه مخالفة لسننه تعالى في الخلق، فإن مثل هذه الإلهامات بخلاف ما تقتضيه العادات الطبيعية الغالبة معهود في العجموات وفي الإنسان أيضاً ... " 3. والذي أريده الآن هو ثبوت الكرامة بالسند الصحيح فيضاف إلى الطرق التي بينها الشيخ رشيد: القرآن والتواتر. وأما مسألة مخالفة السنن فهي التي تحتاج إلى استفهام من الشيخ رشيد. إنه يقول: "إن الله تعالى قد أقام نظام هذا الكون على سنن ثابتة مطردة ... وقال: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} 4، وهذا نص قطعي لا معارض له إلا بقطعي مثله من مشاهدة ... أو تواتر صحيح ... وإذا أمكن إثبات الكرامات بدليل قطعي كالتواتر الصحيح أو النص القرآني الصريح، فهناك حجة الإثبات ناهضة ... " 5. فهل يرى الشيخ رشيد أن الآية تدل على عدم جواز وقوع الكرامات   1 سورة المؤمنون، الآية (50) 2 مجلة المنار (2/ 481) 3 المصدر نفسه (2/ 661) 4 سورة فاطر، الآية (43) 5 مجلة المنار (2/ 445) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 التي هي خرق للعادة والسنن الكونية، ولكن ما القول في معجزات الأنبياء، وهو يثبتها، وقد وقعت مخالفة لهذه السنن كما رأينا؟ وليس لأحد أن يفرق بين المعجزة والكرامة في أصل التبديل والتحويل لما هو معتاد في نظام الكون. والحق أن الشيخ رشيد لا ينكر كرامات الأولياء إلا أنه يريد أن يضيق الباب أو يغلقه في وجه الدجالين والمشعوذين، كما أنه يريد أيضاً ـ وهو ما صرح به ـ رد حجة أهل الكتاب الذين لا يحتجون على صحة دينهم إلا بالعجائب ـ خوارق العادات ـ وليس لهم برهان على عقائدهم، ولا سند متواتر على صحة كتابهم، بل ويحتجون على المسلمين بأن القرآن لم يثبت لنبينا صلى الله عليه وسلم العجائب والخوارق، فهو إذن ليس نبياً، ولا يرون العلم الإلهي والشرائع الدينية والمدنية وتكوين الأمم وسياستها من رجل أمي تربى يتيماً في جاهلية جهلاء وأمه أمية، لا يرون هذا كله تأييداً إلهياً وبرهاناً على صدقه قطعياً، وإنما البرهان عندهم هو تلك الحكايات التي ينقلونها في عجائب مقدسيهم وينقل الوثنيون عن كهنتهم أعظم منها 1. وأما مسألة السنن ومخالفتها: فيفسر الشيخ رشيد ذلك بأن مراده السنن العامة لأن مخالفة آيات الأنبياء وكرامات الأولياء للسنن المادية مشاهد ومنقول بنص الكتاب العزيزـ هكذا يقول الشيخ رشيد 2 إلا أنه لم يقل لنا ماذا يقصد بالسنن العامة والسنن الأخرى الخاصة. لقد اتخذ الشيخ رشيد موقفاً متشدداً من الكرامات لهذين السببين اللذين ذكرهما، أما معجزات الأنبياء، فكانت عنده مصونة من كل خطر، لا يتطرق إليها الشك 3 وأما هذا الموقف المتشدد من الكرامات فقد اتخذه ـ أيضاً ـ لما أوقع فيه مما يسميه: "ضرر الاعتقاد بها" وأكبر ذلك: أنها صارت صناعة من الصناعات وزلزلت قاعدة العقائد الكبرى وهي توحيد الله   1 مجلة المنار (11/ 913 ـ 917) 2 المصدر نفسه (11/ 917) 3 انظر: مجلة المنار (6/ 12 و11/ 914) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 تعالى وأوقعت الناس في ضروب من الشرك الأصغر والأكبر 1، ومنها أيضاً: أنها أدت إلى إباحة الموبقات وتحريم الواجبات لأنه لا يجوز الإنكار على الأولياء لأن المعصية التي تشاهد منهم هي صورية لا حقيقية ولذا يجب تأويلها، فإذا رأيت أحدهم يشرب الخمر فاعتقد أنه انقلبت عينها كرامة له فصارت لبناً أو عسلاً، وإذا رأيته يترك الصلاة فاعتقد أنه يصلي بمكة أخذاً من قول السيد البدوي في الرد على الذين اتهموه بذلك: ولم يعلموا أني أصلي بمكة مع السادة الأقطاب أهل الطريقة 2. وفي ضندتا قالوا صلاتي تركتها أصلي صلاة الخمس في البيت دائماً هذا ـ وغيره ـ مما ذكره الشيخ رشيد من ضرر على اعتقاد المسلمين، بسبب ما آلت إليه مسألة الكرامات. ويقول الشيخ رشيد: "إننا لا نقول بأن ما يعبر عنه بخوارق العادات غير جائز ولا غير واقع بل نقول الآن، كما قلنا من قبل إنه جائز وواقع وإن كانت الآيات التي أيد الله بها الأنبياء ليست محصورة في الخوارق الكونية ... " 3. ويبين غرضه من موقفه فيقول: "ويعلم الله أن غرضي من فتح باب التأويل المحافظة على دين الله تعالى وإرشاد عباده إلى التمييز بين الحقائق والأوهام ... " 4. وخلاصة الأمر أن الشيخ رشيد يثبت الكرامات الصحيحة لأولياء الله الحقيقيين: حتى إنه نفسه من أصحاب الكرامات كما يحكي لنا ذلك في "المنار والأزهر" 5 ويقول: "وههنا نرجع إلى مذهب جمهور أهل السنة فنقول: إن الكرامة جائزة ... " 6.   1 مجلة المنار (6/ 11 ـ 112) 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 مجلة المنار (11/ 913) 4 مجلة المنار (2/ 663) 5 المنار والأزهر (ص: 166) 6 مجلة المنار (6/ 112) وأيضاً (2/ 657 و2/ 482) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 ب) ـ الحيلة في دعوى الكرامة: ويبين الشيخ رشيد أن الكرامة صارت تقع بالحيل والكذب، فمن ذلك ما راج بين ألوف المصريين ـ ذلك الحين ـ أن أرواح الشهداء تطوف في أعلى قبة في إحدى القرى، وقد كشف تلك الحيلة بعض علماء الأزهر ـ فذهب غير واحد إلى هناك فتبين لهم أن هذه الكرامة مصنوعة للمرتزقين هناك من السدنة وأن الذي يرى في القبة إنما هو ظلال رجال يطوفون للمرتزقين وقت الأصيل حول القبة في مكان يحاذي الكوىمن أعلاها، فيوهم السدنة النساء والأطفال ومن في حكمهم من الرجال أنهم شخوص الشهداء وزاد بعضهم أنه اكتشف حيلة أخرى وهي أنهم يطلعون الناس في قبر هناك على رأس مكسو بشعر طويل يزعمون أنه رأس شهيد لم يتغير بمرور القرون عليه، ولكن الشيخ وصل إلى الرأس فإذا هو جمجمة قديمة بالية وإذا بالشعر قد ألصق عليها حديثاً بنحو صمغ أو غراء 1. وروى الشيخ رشيد أيضاً حكايات تتعلق بالطعام والشراب مما عدّ من الكرامات، وما هو إلا حيل وكذب 2. ونكتفي بذلك ـ عن الحديث عن الكرامات الكاذبة التي وقف الشيخ رشيد منها هذا الموقف، ونعود إلى الحديث عن الكرامات الصادقة ونرى تفريق الشيخ رشيد بينها وبين معجزات الأنبياء، وبين هذه وبين السحر والشعوذة. جـ) ـ الفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق الأشقياء: خوارق العادات على ثلاث مراتب: الأولى: آيات الأنبياء، والثاني: كرامات الأولياء، ثم خوارق الأشقياء كالسحرة والكهان 3. والحق أن آيات الأنبياء وكرامات الأولياء من جنس واحد، فإنه ـ وكما   1 مجلة المنار (7/ 413 ـ 414) 2 انظر: تفسير المنار (7/ 253) وما بعدها. 3 انظر: ابن تيمية: النبوات (ص: 8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 ذكرت قبل ـ تعد كرامات الأولياء من معجزات الأنبياء، فإنهم يقولون: نحن إنما حصل لنا ذلك باتباع طريق الأنبياء. ومثل ذلك أيضاً ما تقدم من الإرهاص 1 ومع ذلك فإن كرامات الأولياء لا تبلغ قط إلى مثل معجزات الأنبياء والمرسلين، فالولي دون النبي والرسول فكما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب مبلغهم، فلا تبلغ كراماتهم مبلغ آياتهم 2. وقد ذكر الشيخ رشيد فروقاً بين آيات الأنبياء وكرامات الأولياء ـ تبع فيها المتكلمين في تفرقتهم ـ والحق أن الفروق التي ذكروها فروق ضعيفة، كقولهم: الكرامة يخفيها صاحبها، أو لا يتحدى بها فلا تكون مقرونة بدعوى النبوة وأنها لا تتكرر 3، إلا أن الشيخ رشيد ذكر فرقاً صحيحاً وهو قوله: "إن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة كإحياء الموتى وإنما تكون فيما دون ذلك كشفاء مرض ومكاشفة خلافاً للقول المشهور (ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي) ... " 4. وعن هذه العبارة يقول الشيخ رشيد: "العبارة ليست حديثاً ولا أثراً عن الصحابة، وهذه الاصطلاحات من المعجزة والكرامة والولاية قد حدثت من بعدهم، وإنما هي كلمة لبعض المشايخ، وافقت هوى الناس فتلقوها بالقبول وصارت عندهم من قبيل القواعد الدينية وسارت بها الأمثال فيما بينهم، ونحمد الله أننا لم نعدم في شيوخ التصوف والعلم من أنكرها ... " 5. وهذا الفرق صحيح فلا تبلغ كرامات الأولياء آيات الأنبياء، كالفرق بين الأنبياء والأولياء، ومهما يكن من شيء، فإن كرامات الأولياء مؤيدة لمعجزات الأنبياء، بمنزلة ما تقدمهم من الإرهاصات ولكن الذي يحتاج إلى   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 انظر: الوحي المحمدي (ص: 211 ـ 214) ، وانظر أيضاً: البغدادي: أصول الدين (ص: 174 ـ 175) والسبكي: طبقات الشافعية (2/ 318 ـ 321) 4 مجلة المنار (6/ 61 ـ 62) 5 المصدر نفسه (10/ 115) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 الفرق هو ما يحدث للأشقياء من الخوارق كالسحرة والكهان وغيرهم، ليظهر الفرق بين الحق والباطل، كما يعرف الفرق بين النبي والمتنبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 المطلب الرابع: الفرق بين آيات الأنبياء وخوارق الأشقياء : والفرق بين هذين الصنفين ميسور بحمد الله فإن آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الإنس والجن بخلاف خوارق الأشقياء فإنها معهودة في البشر كقتل الساحر لغيره وتمريضه له، وكاستراق السمع من الجن، وإطلاع أوليائهم من الكهان مع الكذب والخطأ في بعضها، بخلاف أخبارهم عما يأكلون وما يدخرون فهذا لا تظهر عليه الشياطين 1. ومن خصائص معجزات الأنبياء أنه لا يمكن معارضتها أبداً بخلاف هذه الخوارق التي تعارض من جنس هؤلاء الكهان وغيرهم 2. وأما الشيخ رشيد فقد ذكر فروقاً بين هذين الجنسين. أهمها: التمييز بحال من تظهر عليه هذه الخوارق، فإنه وكما يقول الشيخ رشيد: "أن بعض ما ينقل عنهم معصية باتفاق أئمة الإسلام كأكل الحيات حية، وبعضها يحصل بالتعود والتمرن لكل من حاوله وزاوله كإلقاء الرجل نفسه من شاهق ... وأما دخول النار والدنو من السباع الضارية فقد يكون كرامة وقد يكون حيلة وشعوذة وغير ذلك، ومعلوم أن علماء الدين يشترطون ليكون الخارق كرامة أن تصدر من ظاهر الصلاح سالك سبيل التقوى، والرفاعية المشهور عنهم ذلك ليسوا كذلك ... " 3. وهذا الفرق صحيح فإن الناس رجلان: موافق للأنبياء ومخالف لهم، فالمخالف مناقض، فلا يجوز أن يوجد مع المناقض مثلما يوجد مع النبي   1 انظر: ابن تيمية: النبوات (ص: 9، 10، 12) 2 المصدر نفسه (ص: 35) 3 مجلة المنار (1/ 598) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 الصادق، فالأشقياء يستعينون بهذه الخوارق على الفواحش والظلم والشرك والقول الباطل، وهذا كله مناقض للنبوة، ومن هذا الجنس ما يفعله أهل الطريقة الرفاعية، فهي من جنس خوارق السحرة والكهان والفجار 1، فالفرق حاصل بين الأنبياء وغيرهم، في نفس صفات هذا وصفات هذا، وأفعال هذا وأفعال هذا، وأمر هذا وأمر هذا، وخبر هذا وخبر هذا، وآيات هذا وآيات هذا 2. وذكر الشيخ رشيد فرقاً ثانياً وهو: أن السحر صناعة تتعلم، كما أنها أيضاً خداع باطل وتخييل يري ما لا حقيقة له في صورة الحقائق. فقال: "ومما سبق بيانه في هذا الباب تخطئة من قال من المتكلمين إن السحر من خوارق العادات الذي هو الجنس الجامع لمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وفاتهم أنه السحر صناعة تتلقى بالتعليم كما ثبت بنص القرآن وبالاختبار ... " 3. وهذا فرق صحيح فإن السحر وجنسه متيسر لمن تعلمه وتمرن عليه بخلاف آيات الأنبياء، فإنها خارجة عن مقدور الإنس والجن.   1 انظر: ابن تيمية: النبوات (ص: 9) 2 المصدر نفسه (ص: 13) 3 تفسير المنار (9/ 46) ، وانظر أيضاً (7/ 311) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 المبحث الثامن: نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: حاجة العالم لبعثة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ... تمهيد: ومن المناسب أن يفرد خاتم النبيين وأفضلهم على الإطلاق، ببحث مستقل، وقد سلك رشيد رضا في "نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم" مسلكاً صحيحاً إذ أنه بين أولاً حاجة العالم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم ورد شبهة كفاية أديان أهل الكتاب عن رسالته، ثم بين استعداد العالم لهذه الرسالة، ثم بين أدلة صدق هذه النبوة، حتى إنه لا تثبت نبوة نبي قبله ما لم تثبت نبوته بهذه الأدلة. وهو ما أعرضه في المطالب التالية. المطلب الأول: حاجة العالم لبعثة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم: بين رشيد رضا ـ تمهيداً لإثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ـ حاجة العالم لهذه النبوة واستعداده لها. فقال: "كان العالم الإنساني قبل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة، وظلمات من الفتن، وفساد الأخلاق، وتداعي أركان المدنية السابقة وصدع بنيانها، فأراد الحي القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ويقيم مدنيته على أساس من الحكمة، يثبت ويبقى إلى ما شاء الله تعالى، ويبلغ به الإنسان كماله المستعد هو له في أصل الفطرة القويمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 فأظهر له جل ثناؤه الإسلام في الأمة العربية فحملته وطافت به العالم المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية، فما كان كلمح البصر أو هو أقرب حتى عم نوره المشرق والمغرب ... " 1. ويقول: "بيان حاجة الأمم إلى الإصلاح المحمدي يتوقف على معرفة تاريخ الأمم قبل الإسلام، لا سيما تاريخ أهل الكتاب الذين يدعون أن في كتبهم ما يغني عن هداية الإسلام وإصلاحه ... " 2. ويستند رشيد رضا إلى عبارة شيخه محمد عبده في وصف هذه الحاجة فيقول: "كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسة إلى قارعة تهز عروش الملوك وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم ... وصيحة فصحى تزعج الغافلين ... وبالجملة تؤب 3 بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنها الله له: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} 4 ليبلغ بسلوكه كماله، ويصل على نهجها إلى ما أعد في الدارين له ... " 5. وفصل رشيد رضا في بيان الحالة التي كانت دول ذلك الزمان قد وصلت إليها من التدني والسقوط. وأما حاجة أهل هذا العصر لهداية هذه الرسالة ـ فكما يقول ـ: "إن حاجة الأمم قد اشتدت في عصرنا هذا إلى هدايته، حتى أشدها إمعاناً في عداوته ولجاجاً في نكايته، وجهلاً بحقيقته" 6. ويرى رشيد رضا أن هذه البعثة كانت قمة " التطور" للمراحل التي مرت بها البشرية، فالاستعداد لها وقبول دعوتها مرحلة من المراحل التي سارت فيها الإنسانية على سنة الترقي والتدرج، فلما بلغت البشرية "سن الرشد" وهذا الحد من العقل وهبها الله تعالى تلك الهداية الجديدة وأيدها بالدلائل التي بلغ من قوة العقول أن تدركها، وأن تصل من مقدماتها إلى   1 مجلة المنار (6/ 173) 2 المصدر نفسه (5/ 329 ـ 338) 3 تؤب: أب لكذا أي تهيأ له. المفردات (ص: 59) 4 سورة الإنسان، الآية (3) 5 مجلة المنار (5/ 338) 6 الوحي المحمدي (ص: 40 ـ 41) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 نتائجها، وقد كانت النبوات السابقة وآياتها تلائم حالاتهم النفسية ومكانتها العقلية، ولما كان الاستعداد يتفاوت في الأمم كانت أمة أولى من أمة بتقدم عهد النبوات فيها، وكانت تلك الأمة المتقدمة جديرة بأن تكون إماماً للأمة المتأخرة، سنة الله في الخلق 1. وبناءً على ذلك فإن آية هذه البعثة ليست كآيات من سبقه من الأنبياء لأن "الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها، لأن البشر قد بدؤوا يدخلون بها في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع من تصدر منهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون، بل لا يكمل ارتقاؤهم واستعدادهم العقلي مع هذا الخضوع ... فجعل حجة خاتم النبيين عين موضوع نبوته وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وعلومه وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبأنباء الغيب الماضية والحاضرة والآتية، ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال، هذا الفصل بين النبوات الخاصة الماضية والنبوة العامة الباقية، قد عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما من الأنبياء نبي إلى وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" 2 ... " 3. وأما الآيات الكونية التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فيثبتها رشيد رضا إلا أن له فيها رأياً سوف نراه قريباً. ويورد رشيد رضا اعتراضاً على تقريره حاجة العالم لبعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ويجيب عليه فيقول: "فإذا قيل: إنه كان في الدنيا دينان سماويان، أي دين اليهود ودين النصارى، وكتابان إلهيان وهما: التوراة والإنجيل، فكان يغني عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلهام الله تعالى رؤساء الدينين وحملة الكتابين أن يقيما   1 تفسير المنار (2/ 294 ـ 295) بتصرف. 2 سبق تخريجه (ص:679) 3 الوحي المحمدي (ص: 79 ـ 80) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 أصولهما ويسيرا على صراطهما، ويدعون الناس إلى ذلك. نقول في الجواب: إن دين اليهود كان خاصاً بشعب إسرائيل، وهم المخاطبون بالتوراة دون من سواهم، لعلم الله تعالى أن هذا الكتاب يصلح لهدايتهم وحدهم في زمانهم الذي أنزل فيه وبعده إلى أجل مسمى. وبعد ذلك أفسد بنو إسرائيل في الأرض فسلط الله عليهم الوثنيين فسبوهم وخربوا ديارهم وأحرقوا كتابهم ... ولولا أن الله أخبرنا في كتابه بأن اليهود نسوا حظاً مما ذكروا به لا جميع ما ذكروا به، ولولا أنه احتج عليهم بعدم العمل بالتوراة والحجة تقوم ببعض كلام الله تعالى كما تقوم به كله ـ لما صدقنا كلمة واحدة من كتبهم ولا وثقنا بحكم واحد من أحكام شريعتهم. وحاصل القول: أن الله تعالى لم يجعل التوراة منذ شرعها هداية عامة مرشدة لجميع البشر إلى كمال الفطرة فكيف تصلح لذلك بعدما طرأ عليها وعلى الناس ما طرأ؟ وأما السيد المسيح عليه السلام فإنه لم يأت بدين جديد وإنما ديانته اليهودية وشريعته التوراة، ولكنه كان مكملاً لأن اليهود جمدوا على ظواهر الشريعة حتى صاروا كالماديين، فأرسله الله "إلى خراف إسرائيل الضالة" ... وأما "الديانة البولسية" التي انتشرت في أوروبا بتعليم بولس 1 ثم مساعدة قسطنطين ومن بعده من الملوك ... فهي لا تنطبق على ما قلناه سابقاً في وجه حاجة البشر إلى إرسال الرسل لهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، بتربية الروح والجسد وليس فيها قاعدة واحدة من قواعد الفطرة، وإنما هي عبارة عن شيء واحد، وهو الإيمان بالمسيح على الوجه الذي يقولونه وأنه لا حاجة مع هذا الإيمان إلى العمل بالشريعة ... " 2. وإذن لم يكن وجود هذين الدينين كافياً ومغنياً عن بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.   1 هو: أحد تلامذة الحواريين، ادعى الإيمان بعد محاربة تلامذة المسيح، وبذل جهوداً كبيرة في تطوير المسيحية، ونجح في ذلك. انظر: شارل حينيبير: المسيحية نشأتها وتطورها (ص:101) وما بعدها ترجمة د. عبد الحليم محمود، ط. المكتبة العصرية بيروت. 2 مجلة المنار (5/ 333 ـ 334) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 استعداد العالم لبعثة نبينا: ثم بين الشيخ رشيد استعداد العالم لهذه الرسالة الخاتمة ـ بناء على وجه الحاجة ـ فقال: "حاجة الناس إلى الشيء تولد فيهم الاستعداد له، فإذا استدللنا بالعلة على المعلول فلنا أن نستنبط استعداد الأمم لمصلح عام يرسله الله تعالى لهداية الأمم من شدة حاجة الأمم إلى ذلك الإصلاح، وإذا استدللنا بالمعلول على العلة فالدليل أوضح لأنه ههنا وجودي مشهود لا نظري مستنبط، وهو قبول الأمم على اختلافها في الأديان واللغات والمواقع هذا الإصلاح الروحي الاجتماعي الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، بالوحي الإلهي والإلهام، فقد انتشر الإسلام في المشرق والمغرب بسرعة لم يعرف التاريخ مثلها حتى كان ملك الإسلام بعد ثمانين سنة من ظهوره أوسع من ملك الرومان بعد ثمانمائة سنة والرومان أعظم أمم التاريخ الماضي في الحروب والفتوحات ... " 1. وبهذا القدر من البيان يظهر حاجة العالم إلى هذه الرسالة الخاتمة، واستعداده لها، ولكن ـ وكما ذكرت قبل ـ ليست الحاجة دليلاً على الوقوع فيجب إثبات هذا الوقوع بدليله، وهو ما نراه في المبحث التالي.   1 المصدر نفسه (5/ 334 ـ 335) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 المطلب الثاني: أدلة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم : يشير الشيخ رشيد أولاً إلى أنه "لا يشترط في صحة الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم النظر الاستدلالي المعروف عند المتكلمين بل يكفي فيها الاطمئنان النفسي لصدقه بمعرفة حاله، وحسن ما دعا إليه" 2. فطريقة المتكلمين التي رفضها الشيخ رشيد في الاستدلال على وجود الله وصفاته، يرفضها هنا أيضاً عند الاستدلال على نبوة الأنبياء صلى الله تعالى عليهم.   2 تفسير المنار (2/ 93) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 ويشير أيضاً ـ كما أشار سابقاً ـ إلى أن "آيات النبوة أعم من المعجزات، فمن آيات نبوته بشائر الأنبياء السابقين، وهي لا تسمى معجزات ... " 1. وآيات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم التي اعتمد عليها الشيخ رشيد هي: أولاً: القرآن الكريم: يعتبر الشيخ رشيد القرآن الكريم هو أقوى حجة وبرهان على صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم فيقول: " .... إن آية القرآن أقوى الحجج وأظهر الدلالات، وهي مشتملة ومرشدة إلى كثير من الآيات والبينات ... " 2. ويقول: إنه ـ أي القرآن ـ "الجامع لأقوى طرق الاستدلال العلمية والعقلية، على كونه آية في نفسه من وجوه كثيرة، وآية باعتبار كون من أنزل على قلبه وظهر على لسانه كان أمياً لم يتعلم شيئاً من أنواع العلوم الإلهية والشرعية والاجتماعية والتاريخية التي اشتمل عليها ... " 3. ثم يفصل هذا الإجمال ـ في موضع آخر ـ فيقول: "إن الآية الكبرى لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم على نبوته هي القرآن وإنها لآية مشتملة على آيات كثيرة، وقد احتج عليهم به وتحداهم بسورة من مثله، فعجزوا، واحتج عليهم أيضاً ببعض ما اشتمل عليه من الآيات كأخبار الغيب ... ، فالقرآن في جملته آية علمية، وفي تفصيله آيات كثيرة عقلية وكونية، وهي دائمة لا تزول كما زالت الآيات الكونية، كعصا موسى مثلاً، عامة لا تختص ببعض من كان في عصر الرسول كما كانت آية موسى الكبرى خاصة بمن رآها في عصره، وهي أدل على الرسالة من الآيات الكونية، لأن موضوع الرسالة علمي، فهو علم موحى به غير مكسوب يقصد به هداية الخلق إلى الحق، فظهور أعلى علوم الهداية على لسان أميّ كان ـ هو وقومه ـ أبعد الناس عن كل علم بعبارة أعجزت ببلاغتها قومه كما أعجزت غيرهم، على أنه لم يكن من قبل معدوداً من بلغائهم؛ أدل على كون ذلك موحى به من الله عزوجل من   1 مجلة المنار (6/ 67) 2 تفسير المنار (8/ 280) 3 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 عصا موسى على كون ما جاء به من التوراة موحى به منه تعالى، وهي غير معجزة في نفسها، وقد نشأ من جاء بها في دار ملك أربى على سائر ممالك الأرض بالعلوم والشرائع. فالآية العلمية القطعية لا يمكن المراء فيها كالمراء في الآية الكونية التي هي أمر غريب غير معتاد يشتبه بكثير من الأمور النادرة التي لها أسباب خفيةكالسحر وغيره ... " 1. ويقول في موضع آخر مؤكداً على نفس المعنى: " ... فإنزاله مشتملاً على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرها عل لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأوضح آية على أنه من عند الله تعالى لا من عنده هو كما قال بأمر الله في آية أخرى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} 2 جاوز الأربعين من السنين ولم يصدر عني فيه شيء من مثله في علومه ولا في إخباره بالغيب ولا في أسلوبه ولا في فصاحته وبلاغته {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن مثل هذا لا يكون إلا بوحي من العليم الحكيم؟ ... " 3. وحجة إعجاز هذا القرآن ودلالته على نبوة نبينا دلالة علمية عقلية ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ: " إذ لا يتصور عاقل يؤمن برب العالمين أن يصدر هذا الكتاب المشتمل على هذا القدر السنيع 4 من المعاني، في هذا الأسلوب البديع، والنظم المنيع من المباني، من رجل أمي ولا متعلم أيضاً، إلا أن يكون وحياً اختصه به الرب عزوجل، ناهيك به وقد جزم بعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله 5، فهذا التحدي حجة مستقلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بصرف النظر عن المتحدى به ما هو ... " 6.   1 تفسير المنار (7/ 386) 2 سورة يونس، الآية (16) 3 تفسير المنار (8/ 10) 4 السنيع: الجامع بين الطول والحسن من سنع سنوعاً وسناعة. لسان العرب (33/168) 5 يشير إلى آيتي: البقرة (23) ، ويونس (38) 6 تفسير المنار (1/ 218) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 إن هذا القرآن هو أمر "خارق للعادة" كسائر خوارق الأنبياء، إلا أنه أجلاها وأقواها. ولا يقتصر إعجازه على بلاغته وبيانه ـ وكما يقول الشيخ رشيد ـ: "وإعجازه ليس مقصوراً على أسلوبه البديع وارتقائه أسمى درج البلاغة وعلى إخباره بالمغيبات المستقبلة وسرده قصص الماضين من غير الاطلاع عليها، بل فيما اشتمل عليه من العلوم والمعارف في تهذيب البشر وبيان مصالحهم في أمور معاشهم ومعادهم أعظم خارق لحجب العوائد ... " 1. لقد تحدث الشيخ رشيد على أوجه الإعجاز اللفظي والمعنوي بالإجمال والإيجاز وقسمها إلى أنواع، عند حديثه عن آية التحدي في سورة البقرة 2. كما تحدث عن التحدي ببلاغته ونظمه في سورة يونس 3. ووجه الكلام في " الوحي المحمدي" إلى هداية القرآن بأسلوبه وتأثيره وعلومه المصلحة للبشر بما يحتمله المقام من البسط والتفصيل، وهو القدر الذي يعلم منه أن هذه العلوم أهدى من كل ما حفظه التاريخ عن جميع الأنبياء والحكماء وواضعي الشرائع والقوانين وأن إعجازه من هذه الناحية أقوى البراهين على كونه وحياً من الله تعالى تقوم به الحجة على جميع البشر ... " 4. ونرى الشيخ رشيد كثيراً ما يلجأ إلى المقارنة، فقد قارن بين آيات نبينا وآيات الأنبياء قبله من حيث ذاتها وحقيقتها ومن حيث قوة دلالتها، ومن حيث أثرها الذي طبعته في نفوس أممها، فقد قارن بين أثر القرآن في العرب وأثر التوراة في بني إسرائيل وبين أثر القرآن في نفس المسلمين والمشركين 5. وخلص من ذلك كله إلى أن: "ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو   1 مجلة المنار (2/ 418) 2 انظر: تفسير المنار (1/ 191 ـ 228) 3 انظر: المصدر نفسه (11/ 195 ـ 197) 4 الوحي المحمدي (ص: 138ـ 166) 5 الوحي المحمدي (ص:65، 71، 148) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 أعلى وأكمل مما جاء به من قبله من جميع الأنبياء والحكماء والحكام فهو برهان علمي على أنه من عند الله تعالى، لا من فيض استعداده الشخصي" 1. وقد سبق أن أشرت إلى أن الشيخ رشيد يثبت وقوع آيات كونية للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يقصد بها التحدي وإقامة الحجة على نبوته ورسالته، بل كان ذلك لأسباب أخرى 2. ومن منهج المقارنة الذي يعتمده الشيخ رشيد رضا للوصول إلى الحقائق، أنه قارن أيضاً بين آيات النبيين قبل نبينا وآياته، والحق أن المقارنة تقوم مقام التجربة في البحوث العلمية؛ وتتساوي نتيجتها في القوة مع تلك أو تعلو عليها. لذلك فإن الشيخ رشيد يعتمد منهج المقارنة، لإثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كما نبين في المبحث التالي. ثانياً: المقارنة: لدينا قوانين مستقرة في بداهة العقول، منها قانون التماثل، وهو: "أن المثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه" 3. ولدينا أيضاً قانون الأولى: وهو: لو أن مثلين اشتركا في صفة أو صفات وزاد أحدهما على الآخر في الصفة أو الصفات فهو أولى بالحكم من صاحبه 4. وينتج عن هذين قانون آخر هو: أن التفريق بين المتماثلين كالجمع بين المتناقضين. وعلى هذه القوانين العقلية تكون المقارنة حجة عقلية تنتج حكماً صحيحاً لا مرد له، وعلى هذا الأساس فقد قارن الشيخ محمد رشيد   1 المصدر نفسه (ص: 167) 2 الوحي المحمدي (ص: 80 ـ 81) 3 انظر: ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 52) 4 انظر: المصدر السابق (ص: 116 ـ 117) فقد استخدم هذا القياس في حق الله تعالى. وانظر أيضاً: منهاج السنة (2/ 55 ـ 61) فقد استخد نفس القياس في حق الأنبياء، ثم في حق الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 بين نبينا صلى الله عليه وسلم وبين من سبقه من الأنبياء للوصول إلى حقيقة عالية هي: أن النبوة أولى بنبينا صلى الله عليه وسلم من غيره، وإذا لم تثبت نبوته فلا تثبت نبوة نبي قبله. فالمقارنة الأولى التي عقدها الشيخ رشيد كانت بين نبينا وبين موسى ـ صلى الله عليهما ـ فقال: "فأما الأول الخاص بشخص الرسول، فإن العاقل المستقل الفكر إذا عرف تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، فإنه يرى أن محمداً قد نشأ أمياً لم يتعلم القراءة والكتابة، وأن قومه الذين نشأ فيهم كانوا أميين وثنيين جاهلين بعقائد الملل وتواريخ الأمم وعلوم التشريع والفلسفة والأدب، حتى إن مكة عاصمة بلادهم وقاعدة دينهم ومثوى كبرائهم ورؤسائهم، ومثابة الشعوب والقبائل للحج والتجارة فيها، والمفاخرة بالفصاحة والبلاغة في أسواقها التابعة لها لم يكن يوجد فيها مدرسة ولا كتاب مدون قط، فما جاء به من الدين التام الكامل والشرع العام الجامع، لا يمكن أن يكون مكتسباً ولا أن يكون مستنبطاً بعقله وفكره، كما بيناه من قبل ... ويرى تجاه هذا أن موسى ـ عليه السلام ـ أعظم أولئك الأنبياء في علمه وعمله، وفي شريعته وهدايته، قد نشأ في أعظم بيوت الملك لأعظم شعب في الأرض وأرقاه تشريعاً وعلماً وحكمة وفناً وصناعة، وهو بيت فرعون مصر، ورأى قومه في حكم هذا الملك القوي القاهر مستعبدين مستذلين تذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، تمهيداً لإبادتهم ومحوهم من الأرض، ثم إنه مكث بضع سنين عند حميه في مدين وكان نبياً ـ أو كاهناً كما يقولون ـ فمن ثم يرى منكرو الوحي أن ما جاء به موسى من الشريعة الخاصة بشعبه ليس بكثير على رجل كبير العقل عظيم الهمة، ناشئ في بيت الملك والتشريع والحكمة إلخ ... ثم يرى الناظر أن سائر أنبياء العهد القديم كانوا تابعين للتوراة متعهدين بها، وأنهم كانوا يتدارسون تفسيرها في مدارس خاصة بهم وبأبنائهم مع علوم أخرى، فلا يصح أن يذكر أحد منهم مع محمد ذكر موازنة ومفاضلة، ويرى أيضاً أن يوحنا المعمدان الذي شهد المسيح بتفضيله عليهم كلهم 1 لم يأت بشرع   1 انظر: متَّى (11/ 11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 ولا بنبأ غيبي، بل يرى أن عيسى عليه السلام وهو أعظمهم قدراً، وأعلاهم ذكراً، وأحلاهم أثراً، لم يأت بشريعة جديدة، بل كان تابعاً لشريعة التوراة مع نسخ قليل من أحكامها ... فأمكن لجاحدي الوحي أن يقولوا: إنه لا يكثر على رجل مثله زكي الفطرة، زكي العقل ناشئ في حجر الشريعة اليهودية، والمدنية الرومانية، والحكمة اليونانية، غلب عليه الزهد والروحانية، أن يأتي بتلك الوصايا الأدبية، ونحن المسلمين لا نقول بهذا ولا ذاك، وإنما يقوله الماديون والملحدون والعقليون، وألوف منهم ينسبون إلى المذاهب النصرانية ... " 1. والذي نقوله نحن المسلمين بعد هذا العرض والمقارنة: إن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح، وبعد أمر محمد عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن الشبهة، فإذا جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق فالقدح فيما دونه أولى، وإن كان القدح في المسيح باطلاً، فالقدح في محمد أولى بالبطلان، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالإثبات 2. ثم يقارن الشيخ رشيد بين ما جاء به نبينا من العقائد والأحكام وبين ما جاء به غيره ـ فيقول: "وأما الوجه الثاني: وهو عقائد الدين وعباداته وأحكامه، فلا يرتاب العقل المستقل الفكر غير المقلد لدين من الأديان، أن عقائد الإسلام من توحيد الله وتنزيهه عن كل نقص، ووصفه بصفات الكمال والاستدلال عليها بالدلائل العقلية والعلمية الكونية، ومن بيان هداية رسله به ومن عباداته وآدابه المزكية للنفس المرقية للعقل، ومن تشريعه العادل، وحكمه الشوري المرقي للاجتماع البشري ـ كل ذلك أرقى مما في التوراة والأناجيل وسائر كتب العهد القديم والجديد ... " 3. وبالمقارنة فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وفيما يتعلق بالأنبياء والرسل، يقول الشيخ رشيد   1 الوحي المحمدي (ص: 66 ـ 68) ، وأيضاً: مجلة المنار (4/ 379 ـ 386) 2 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 55ـ 56) 3 الوحي المحمدي (ص: 68) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 مقارناً بين ما جاء به نبينا وما جاءت به كتب أهل الكتاب: "ومن نظر في قصص آدم ونوح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ويوسف من سفر التكوين، وسيرة موسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء في سائر أسفار العهد القديم، ثم قرأ هذه القصص في القرآن يرى الفرق العظيم في الاهتداء بسيرة هؤلاء الأنبياء العظام، ففي أسفار العهد القديم يرى وصف الله تعالى بما لا يليق به من الجهل والندم على خلقه البشر والانتقام منهم، ووصف الأنبياء أيضاً بما لا يليق بهم من المعاصي مما هو قدوة سوءى، من حيث يجد في قصص القرآن من حكمة الله تعالى ورحمته وعدله وفضله وسننه في خلقه، ومن وصف أنبيائه ورسله بالكمال، وأحاسن الأعمال، ما هو قدوة صالحة وأسوة حسنة تزيد قارئها إيماناً وهدى، فأخبار الأنبياء في كتب العهدين تشبه بستاناً فيه كثير من الشجر والعشب والشوك والأزهار والحشرات، وأخبارهم في القرآن تشبه العطر المستخرج من تلك الأزهار، والعسل المشتار من جنى تلك الثمار ... وندع هنا ذكر ما كتبه علماء الإفرنج الأحرار في نقد هذه الكتب والطعن فيها، ومن أخصرها وأغربها كتاب "أضرار تعليم التوراة والإنجيل" لأحد علماء الإنجليز 1، وما فيها من مخالفة العلم والعقل والتاريخ، والقرآن خالٍ من ذلك 2" 3. والذي أريد أن أثبته هنا، هو أن المسلمين لا يقولون بصحة ما ورد في الكتب المقدسة عند أهل الكتاب فيما يتعلق بصفات الله ورسله، ولكننا نقول: إذا كان يمكن الإيمان بهذه الكتب وهؤلاء الأنبياء والحالة هذه،   1 هو: تشارلز وطس: مطبعة الموسوعات في مصر، سنة 1319هـ = 1901م. انظر: صابر طعيمة: الأسفار المقدسة (ص: 168) وما بعدها. 2 ومن البحوث الجديدة في ذلك: ما كتبه موريس بوكاي في المقارنة بين الحقائق العلمية في الكتب المقدسة. انظر: موريس بوكاي: الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، دار المعارف، مصر، الترجمة العربية. وانظر أيضاً: مقارنة دراز: مدخل إلى القرآن الكريم (ص: 97 ـ 102) 3 الوحي المحمدي (ص: 68 ـ 69) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 فالإيمان بنبينا وكتابه أولى وأحرى وهو سالم من كل هذه المطاعن. وقد قارن الشيخ رشيد أيضاً بين آيات نبينا وآيات الأنبياء قبله، وقد سبق الإشارة إلى ذلك فلا أعيده هنا وأكتفي بما كتبت ونقلت هناك 1. وجانب آخر قارن فيه الشيخ رشيد لنفس السبب هو الأثر الذي تركه نبينا في أمته من بعده وأثر الأنبياء قبله 2. ونتيجة هذه المقارنات ـ كما يقول الشيخ رشيد: " ... أنه لا يستطيع أحد أن يؤمن إيماناً علمياً بأن تلك الكتب وحي من الله، وأن الذين كتبوها أنبياء معصومون فيما كتبوه، ثم لا يؤمن بأن القرآن وحي من الله تعالى، وأن محمداً نبي معصوم فيما بلغه عن الله تعالى ... " 3. ثالثاً: البشارات: أثبتت آيات القرآن الكريم أن الكتب القديمة فيها بشارات بنبينا صلى الله عليه وسلم وأنه ذكر باسمه على لسان المسيح عليه السلام، فقال تعالى: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 4، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ.. .} 5 ففي الآية الأولى: ذكر اسمه، وفي الآية الثاني: ذكر وصفه ووصف شريعته. وعند تفسير الآية الثانية وقف الشيخ رشيد وعقد فصلاً طويلاً في بشارات الكتب السابقة بنبينا صلى الله عليه وسلم. واعتمد فيه على ما أورده العلامة رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" فقد أورد كلامه بطوله ولفظه، وسبق ذلك أيضاً بالمقدمات التي مهد بها رحمة الله لهذه البشارات، وهي ثمان   1 انظر (ص:702) من هذا البحث. 2 انظر: الوحي المحمدي (ص: 148 وص: 151 ـ 165) 3 الوحي المحمدي (ص: 58) 4 سورة الصف، الآية (6) 5 سورة الأعراف، الآية (157) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 مقدمات 1 أُوردُ منها أهمها مع الاختصار: الأولى: أن إخبار النبي المتقدم عن المتأخر يكون مجملاً خفياً ولكنه يتضح بالقرائن والعلامات. الثانية: أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون ثلاثة: إيليا ـ وهو يحيى عليه السلام ـ والمسيح ـ ونبياً آخر بعد المسيح ليس هو إيليا ـ يحيى ـ ولا المسيح، فادعاء أن المسيح هو الخاتم باطل 2. الثالثة: أن اليهود ينكرون ما يستدل به النصارى من بشارات العهد القديم كما ينكر النصارى البشارات بنبي الإسلام، مع أن هذه أظهر وأقوى من تلك التي يحتج بها النصارى. الرابعة: وهي أهم هذه المقدمات، وهي مسألة ترجمة أهل الكتاب لنصوص كتبهم بالمعنى الذي يكون على قدر ما يفهم المترجم، فقد ترجمت الأسماء في هذه الكتب بمعانيها أحياناً كما أنهم أضافوا ـ أثناء عملية الترجمة عبارات تفسيرية لبعض النصوص دون الإشارة إلى ما يميز هذه العبارة الإلحاقية عن النص الأصلي. ومثال الأول: ما جاء في العهد القديم ـ سفر التثنية في قول كاتب العهد القديم: "فمات هناك موسى عبد الرب" 3، وفي ترجمة أخرى: "فمات هناك موسى رسول الله" 4 وهاتان الترجمتان في اللغة العربية، فلو بدل لفظ رسول الله في البشارات المحمدية بلفظ آخر لما كان غريباً، ومثال آخر من الإنجيل: ففي إنجيل يوحنا ـ في الترجمة العربية كذلك ـ قول المؤلف: "لما علم يسوع" وفي ترجمة أخرى ـ عربية كذلك ـ "لما علم الرب" 5، فبدل المترجم لفظ يسوع   1 انظر: تفسير المنار (9/ 230 ـ 250) ، وقارن مع: رحمة الله الهندي: إظهار الحق (4/ 1078 ت 1115) ط. ملكاوي. 2 انظر: يوحنا: 1/19ـ 26 3 العهد القديم: تثنية (34/ 5) 4 رحمة الله الهندي: إظهار الحق (4/ 1100ـ 1101) ، وتفسير المنار (9/ 247) 5 بشارة يوحنا (4/ 1) ، وانظر: رحمة الله الهندي: المصدر السابق (4/ 1103) ، وتفسير = = المنار (9/ 247) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 وهو علم على المسيح بلفظ الرب، فلو بدلوا اسماً من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم بآخر لما كان بعيداً ... ومثال الأمر الثاني: وهو العبارات الملحقة ضمن النص ـ ما كتبه مؤلف متى في قوله: "ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لماذا شبقتني؟ أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ "1 فلا ريب أن هذه العبارة التفسيرية ليست من كلام المصلوب. ويشير الشيخ رشيد إلى أن هذه الأمور عندهم لا تعاب من أهل الدين فكيف بمن ليسوا كذلك، بل بدلوا وحرفوا عمداً، بالزيادة والنقصان 2. وبعد ذلك أورد الشيخ رشيد نقلاً عن الشيخ رحمة الله البشارات التي وردت في التوراة والإنجيل مع الشرح ورد المطاعن فيها، ونقل عن "إظهار الحق" البشارات بطولها، وكان يعلق أحياناً ويقوم بتحقيق بعض المسائل، كما حقق معنى كلمة "البارقليط" الواردة في بعض هذه البشارات فحقق معناه في اللغة الإنجليزية 3. ولم يكتف رشيد رضا بالنقل عن رحمة الله الهندي، بل إنه استدرك عليه ما لم يعلمه. وذلك أن الشيخ رشيد قد وقف على إنجيل برنابا ـ الذي نقل عنه الشيخ رحمة الله بالواسطة ـ ولذلك فإنه أورد منه بشارة صريحة فيها ذكر اسم نبينا صلى الله عليه وسلم العلم "محمد". وذكر الشيخ رشيد أن ذلك موضع ارتياب الباحثين من علماء أوروبا، لأن المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات والإشارات، وأجاب عن ذلك بعدة أجوبة: فقال: "بقي أمر يستنكره الباحثون في هذا الإنجيل بحثاً علمياً لا دينياً أشد الاستنكار وهو تصريحه باسم "النبي محمد" عليه الصلاة والسلام قائلين: لا يعقل أن يكون ذلك كتب قبل ظهور الإسلام إذ المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات والإشارات، والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكراً في خبر   1 انظر: بشارة متى (27/ 45) ، ورحمة الله الهندي: المصدر نفسه (4/ 1103) ، وتفسير المنار (9/ 247) 2 رحمة الله الهندي: المصدر نفسه (4/ 1110) 3 تفسير المنار (9/ 279) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 الوحي، وقد نقل الشيخ محمد بيرم 1 عن رحالة إنجليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها يقول المسيح: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وذلك موافق لنص القرآن بالحرف، ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنه رأى شيئاً من هذه الأناجيل التي فيها البشارات الصريحة، فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا تلك الأناجيل والكتب التي كانت ممنوعة في القرون الأولى ما لو ظهر لأزال كل شبهة عن إنجيل برنابا وغيره. على أنه لا يبعد أن يكون مترجم إنجيل برنابا باللغة الإيطالية قد ذكر اسم "محمد" ترجمة، وأن يكون قد ذكر في الأصل الذي ترجم هو عنه بلفظ يفيد معناه كلفظ "البارقليط"، ومثل هذا التساهل معهود عند المسيحيين في الترجمة كما بينه الشيخ رحمة الله ... وإنني أزيد مثالاً على ما سبق من اختلاف ترجمة الأعلام والألقاب والصفات في كتب أهل الكتاب يقرب لفهم القارئ هذه المسألة وهو ما جاء في نبوة النبي حجي من البشارة بنبينا صلى الله عليه وسلم ... " 2. والنبي حجي هو أحد أنبياء العهد القديم وله سفر قصير فيه إصحاحان فقط، وقد أورد الشيخ رشيد هذه البشارة وشرحها كما يلي: بشارة النبي حجي بمحمد صلى الله عليه وسلم: نقل الشيخ رشيد نص البشارة، وهو: " (2:6) هكذا قال رب الجنود: هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة، 7 وأزلزل كل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً، قال رب الجنود 8 لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود 9 مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود 10 وفي هذا المكان أعطي السلام، يقول رب الجنود" 3. ثم علق الشيخ رشيد أولاً بملاحظة تتعلق بالترجمة كشاهد آخر على تصرف المترجمين في الأسماء فقال: "أقول قبل كل شيء   1 انظر: ترجمته: الزركلي: الأعلام (7/101) 2 تفسير المنار (9/ 297 ـ 298) 3 حجي (2/ 6 ـ 10) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 إن اسم أو لقب مشتهى الأمم" هو في الأصل العبراني عند اليهود "حمدوت" ومعناه الذي يحمد، فهو صيغة مبالغة من الحمد كملكوت من الملك، فحمدوت الأمم هو الذي تحمده الأمم، وهو معنى محمد ومحمود، فالأول اسم فاعل من حمده بالتشديد إذا حمده كثيراً؛ ومن تحمده الأمم يكون محموداً حمداً كثيراً أي محمداً، والثاني اسم مفعول من حمد الثلاثي، ومحمود من أسمائه صلى الله عليه وسلم، فهل بعد هذا يبعد أن يكون لفظ الفارقليط اليوناني مترجماً من لفظ حمدوت العبراني، ونسخ الإنجيل العبرانية التي نقلت ألفاظ المسيح عليه السلام بحروفها قد فقدت ... ؛ ... ثم إن بقية بشارة حجي لا تصدق على غير نبينا صلى الله عليه وسلم محمد الأمم فهو الذي زلزل رب الجنود ببعثته العالم، ونصره بالجنود وبالحجة جميعاً، وكان مجد دين الله به أعظم من مجده بموسى وسائر أنبياء قومه، وفرضت شريعة الزكاة وخمس الغنائم لتنفق في سبيل الله فكانت الفضة والذهب لله ... " 1. إن الترجمة هي الباب الذي دخل منه العبث بنصوص الكتب المقدسة السابقة على الإسلام، والترجمة ليست هي الأصل ولو مع وجوده، فكيف إذا فقد النص الأصلي، وأرى أن أنقل هنا اعترافاً لأحد المترجمين للعهد الجديد يبين فيه حقيقة الترجمة فيقول: "إن كل كلمة في أي لغة تحمل عادة معاني عديدة، وعلى المترجم في حال كهذه أن يختار معنى واحداً، يستخدمه في ترجمته، إلى ماذا يستند المترجم عندما يختار ذلك المعنى الواحد من بين المعاني المتعددة؟ إنه يختار ذلك المعنى الذي يشعر أنه يتفق مع فكرة القرينة، لكن هل يكون مصيباً دائماً في اختياره؟ إنه يظن ذلك. لكن قد يكون هناك من يخالفه في الرأي ... " ويقول أيضاً: "المترجم كائن بشري عرضة للخطأ، وكلنا خطاة ضعفاء، إن الذي يحدث هو أن المترجم يقوم بتفسير الآية بالإضافة إلى ترجمته، والقارئ الذي لا يعرف اللغة الأصلية للكتاب المقدس يصبح تحت رحمة المترجم"، ويقول: "إن من السهل أن يغرب عن البال أن الترجمات   1 تفسير المنار (9/ 298 ـ 299) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 العربية للكتاب المقدس هي ترجمات وليست الأصل" 1. إن اللغة التي كتبت بها الأسفار المقدسة هي العبرية، وهذه النصوص لم تصل إلينا في لغتها الأصلية. فصرنا جميعاً تحت رحمة المترجمين ـ وأمانتهم، ولولا أن منّ الله علينا برسوله الخاتم وكتابه العظيم لضاعت الحقيقة. رابعاً: الشهادة: هذا دليل شرعي عقلي، أعني أنه جاء به الشرع وأيده العقل. وهو دليل معتمد عند أهل الكتاب. قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} 2 وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} 3، وقال: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} 4، وأما العقل: فإنه يقول إن الله تعالى سميع بصير ـ وهذا باتفاق ـ فكان يرى نبينا ويسمعه، ويعلم دعواه التي أقام عليها ثلاثاً وعشرين سنة، فإما أنه ـ تعالى ـ كان يعلم أو لا يعلم، وفي الثاني نسبته تعالى للجهل. أو كان يعلم ولا يقدر على تغييره وفي ذلك نسبته إلى العجز المنافي للربوبية، أو كان قادراً ومع ذلك أعزه ونصره وأيده بكل طريق ـ أي وهو كاذب ـ فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق بالعقلاء، فكيف برب السماء، فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه. فلا بد أن يكون عالماً قادراً شاهداً بالحق، ولا بد أن يكون محمد نبياً صادقاً 5. ويعتمد أهل الكتاب هذا دليلاً على صدق المسيح "أي أنه رسول الله   1 د. كينيث بايلي: الفهرس العربي لكلمات العهد الجديد: لغسان خلف. دار النشر المعمدانية، بيروت، 1979م (ص: 16) [عن الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف (ص: 104) ] 2 سورة النساء، الآية (166) 3 سورة الأنعام، الآية (19) 4 سورة الرعد، الآية (43) 5 انظر تقرير هذا الدليل: ابن القيم: هداية الحيارى (ص: 104) ط. دار الكتب العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 بشهادة يوحنا المعمدان، وبشهادة الأب له بالآيات التي صنعها على يده وبالنبوءات التي تمت به، ومن ثم حق له أن يطلب تصديق دعواه بمجرد قوله" 1. لذلك كله فإن الشيخ رشيد قرر هذا الدليل أيضاً من أدلة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. لقد عرف الشيخ رشيد كلمة "شهادة" فقال: "شهادة الشيء حضوره ومشاهدته، والشهادة به: الإخبار به عن علم ومعرفة، واعتقاد مبني على المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة: أي العقل والوجدان، ومنه: الشهادة بالتوحيد، وإثبات الشيء بالدليل والبرهان شهادة به ... " 2. ويعلق على قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} قائلاً: "أي شيء شهادته أكبر شهادة وأعظمها، وأجدر بأن تكون أصحها وأصدقها؟ ... أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو الله تعالى وهو شهيد بيني وبينكم، وأوحى إليّ هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبي فيما جئت به مؤيداً بشهادته سبحانه ... " 3. ثم بين الشيخ أقسام هذه الشهادة فقال إنها قسمان: الأول: شهادته سبحانه برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: شهادته بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقسم القسم الأول: وهو شهادته عزوجل برسالة رسوله إلى ثلاثة أنواع: الأول: إخباره برسالته في كتابه كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 4 وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} 5، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ   1 انظر: د. وليم إدي: الكنز الجليل في تفسير الإنجيل (3/ 85 و3/ 135) 2 تفسير المنار (7/ 338) 3 المصدر نفسه والصفحة. 4 سورة الفتح، الآية (29) 5 سورة البقرة، الآية (119) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 الْمُرْسَلِينَ} 1، وهذا النوع شهادة بغير لفظ الشهادة، قال: "وهي غير شرط في صحتها خلافاً لبعض الفقهاء" 2، ولكن وردت الشهادة بلفظها أيضاً ـ كما في الآيات التي في صدر البحث. وأورد منها الشيخ رشيد قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 3، وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} 4، فهذا النوع الأول يشمل الشهادة بلفظ الشهادة وبغير لفظ الشهادة، وأما النوع الثاني من شهادة الله لرسوله بالرسالة فهو: تأييده له بالآيات الكثيرة، وأعظمها القرآن. ومنها غير القرآن من الآيات الحسية، والأخبار النبوية بالغيب. والنوع الثالث من شهادته تعالى لرسوله: شهادة الكتب السابقة له وبشارة الرسل به 5. وأما القسم الثاني: وهو شهادة الله تعالى لما جاء به الرسول من التوحيد والبعث، فيقسمه الشيخ رشيد إلى ثلاثة أنواع كذلك: أحدها: شهادة كتابه بذلك، كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6. ثانيها: ما أقامه من الآيات البينات في الأنفس والآفاق على توحيده واتصافه بصفات الكمال. ثالثها: ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان الفطري، وبالألوهية وبقاء النفس وما هدى إليه العقول السليمة من تأييد هذا الشعور الفطري بالدلائل والبراهين 7.   1 سورة البقرة، الآية (252) 2 تفسير المنار (7/ 339) 3 سورة النساء، الآية (166) 4 سورة الرعد، الآية (43) 5 تفسير المنار (7/ 339 ـ 340) 6 سورة آل عمران، الآية (18) 7 تفسير المنار (7/ 340) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 ويلخص الشيخ رشيد هذا المعنى كله بقوله: "علم مما بيناه أن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن، وآياته في الأكوان، وآياته في العقل والوجدان، وهذه الآيات قد بينها القرآن وأرشد إليها، فهو الدعوى والبينة والشاهد والمشهود له، وكفى به ظهوراً بالحق وإظهاراً له، أنه لا يحتاج إلى شهادة غيره له ... " 1. خامساً: الآيات الكونية: وفي سياق المقارنة بين آيات نبينا صلى الله عليه وسلم العقلية العلمية، وآيات من سبقه، أثبت رشيد رضا وقوع آيات كونية لنبينا صلى الله عليه وسلم على نحو ما وقع لمن سبقه من الأنبياء، إلا أن آيات نبينا صلى الله عليه وسلم قد رويت "بالأسانيد المتصلة تارة والمرسلة 2 أخرى" وهي "أكثر من كل ما رواه الإنجيليون وأبعد عن التأويل" 3، ومع ذلك فإنه "لم يجعلها برهاناً على صحة الدين ولا أمر بتلقينها للناس" 4، وذلك لأن "الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها، لأن البشر قد بدؤوا يدخلون بها في سن الرشد والاستقلال" 5. وأما هذه الآيات الكونية "فلم يكن لإقامة الحجة على نبوته ورسالته، بل كان من رحمة الله تعالى وعنايته به وبأصحابه في الشدائد" 6، ومن هذه الآيات: "شفاء المرضى 7، وإبصار الأعمى 8، وإشباع العدد الكثير   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 الرواية المرسلة: هي التي لم يذكر فيها اسم الصحابي. انظر: ابن الصلاح: المقدمة (ص: 71) ، وأحمد شاكر: شرح ألفية السيوطي في علم المصطلح (ص: 26) 3 الوحي المحمدي (ص: 79) 4 المصدر نفسه. 5 المصدر نفسه (ص: 79 ـ 80) 6 الوحي المحمدي (ص: 80 ـ 81) 7 انظر: الطبراني: المعجم الكبير (5/ 275) ، والهيثمي: مجمع الزوائد (8/ 298) 8 انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (8/ 297 ـ 298) ، وانظر أيضاً: الترمذي: ك: الدعوات، باب: 119، ح: 3578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 من الطعام القليل في غزوة الأحزاب 1، وفي غزوة تبوك 2، كما وقع للمسيح عليه السلام 3، ومنها: تسخير الله السحاب لإسقاء المسلمين، وتثبيت أقدامهم التي كانت تسيخ في الرمل ببدر، ولم يصب المشركين من غيثها شيء 4، ومثل ذلك في غزوة تبوك إذ نفد ماء الجيش في الصحراء والحر شديد، حتى كانوا يذبحون البعير ويخرجون الفرث من كرشه ليعتصروه ويبلوا ألسنتهم، على قلة الرواحل معهم 5 ... " 6. ويرى رشيد رضا أن معجزات الأنبياء من هذا النوع لا تتفق مع عقلية العصر الحديث التي أصبحت لا تؤمن إلا بالمعقول وبما تحسه فقط، وتنكر ما يخرح عن قوانين الطبيعة، فمعجزات الرسل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أصبحت شبهة على الدين عند علماء العصر، وكما يقول رشيد رضا "إن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالذات، ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته، ولا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وإن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة" 7. ولكن يرد رشيد رضا من هذه الآيات: انشقاق القمر.   1 انظر: البخاري: الصحيح، ك: المغازي، باب: غزوة الأحزاب، ح: 4101، و 4102. 2 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 11 (1392) 3 انظر: متى (14/ 13 ـ 21) ، ويوحنا (6/ 5 ـ 14) 4 انظر: ابن كثير: التفسير (2/ 279ـ 280) ، وابن هشام: السيرة (2/ 658) ، وأحمد: المسند (2/192) ح: 948، ت: شاكر. وقال: إسناده صحيح، وقال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح، غير حارثة بن مضر وهو ثقة. مجمع الزوائد (6/ 76) 5 انظر: ابن خزيمة (1/ 52 ـ 53) ، وابن حبان: الإحسان (2/ 331) ، والحاكم (1/ 159) ،وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراين في الأوسط ورجال البزار ثقات: مجمع الزوائد (6/ 194 ـ 195) 6 الوحي المحمدي (ص: 81) 7 مجلة المنار (34/ 793) وقد نسب مصطفى صبري لرشيد رضا بناء على هذه الكلمة إنكاره لمعجزات النبياء. انظر: مصطفى صبري: موقف العقل (1/ 347 و 1/ 25) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 انشقاق القمر: من الآيات التي أكرم الله تعالى بها نبيه آية انشقاق القمر نصفين بناء على اقتراح أهل مكة وسؤالهم 1، وقد تواترت بذلك الأحاديث 2، وأجمع على الإيمان بها أهل السنة 3، وأنكرها جمهور الفلاسفة بحجج لا تستحق أن يلتفت إليها 4، وقد قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 5 "ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة، أنه لو لم يكن انشق لأسرع المؤمنون بها إلى تكذيب ذلك، فضلاً عن أعدائه الكفار والمنافقين، ومعلوم أنه كان أحرص الناس على تصديق الخلق له، واتباعهم إياه، فلو لم يكن انشق لما كان يخبر به ويقرئه على جميع الناس ويستدل به ويجعله آية له" 6. لقد رد الشيخ رشيد دعوى تواتر أحاديث انشقاق القمر، ثم طفق يوهن من أمر ما روي في الصحيحين، فقال إن ما روي على شرط الشيخين هو حديث واحد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 7، وأما حديثا أنس 8 وابن عباس 9 ـ رضي الله عنهما ـ فزعم أنهما مرسلان. قال: "والخلاف في الاحتجاج بالمراسيل معروف ومن يحتج بمراسيل الصحابة مطلقاً يبني احتجاجه على أنهم يروون عن مثلهم، ولكن ثبت أن بعضهم   1 انظر: البخاري: الصحيح، ك: المناقب، باب: وانشق القمر، ح: 4865 ـ 4867 (7/ 182) مع الفتح. 2 حكى التواتر: ابن كثير: التفسير (4/ 263) ، وابن حجر: الفتح (7/ 183 و185) ، وابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 160) 3 انظر: القاضي عياض: الشفا (1/ 213) 4 ابن حجر: الفتح (7/ 183) ، وابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 180) 5 سورة القمر، الآية (1) 6 ابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 161) 7 البخاري: التفسير: سورة اقتربت الساعة، باب: ومن سورة القمر، ح: 4864 (8/ 617) ، ومسلم: صفات المنافقين، باب: انشقاق القمر، ح: 43 (2800) (4/ 2158) 8 البخاري: مناقب الأنصار، باب: انشقاق القمر، ح: 3868 (7/ 182) 9 البخاري: التفسير: سورة اقتربت الساعة، باب: وانشق القمر، ح: 4866 (8/ 617) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 كان يروي عن بعض التابعين حتى كعب الأحبار، وعلى كل حال لا يصح في مراسيلهم ما اشترط في التواتر من الرواية المتصلة إلى من شاهد المروي ورواية الشيخين المتصلة من طريقين فقط ... " 1. ثم ذكر الشيخ رشيد أيضاً مطعناً آخر وهو دعوى اختلاف المتون في أحاديث انشقاق القمر 2، وإشكال خفاء هذه الحادثة على جميع الأقطار 3، ثم أورد ما أسماه الإشكال الأصولي الأعظم وهو "أن سنته قد مضت بأن ينزل عذاب الاستئصال لكل قوم اقترحوا آية على رسولهم ولم يؤمنوا بإجابتهم إلى ذلك ... " 4. وقال: "وجملة القول أنه لو صح أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدق نبوته وأن الله تعالى أجابهم إلى طلبهم فجعل انشقاق القمر آية كما هو نص حديث أنس في الصحيحين وغيره في غيرهما لعذب الله أمته وقومه باستئصالهم على حسب القاعدة الصحيحة الثابتة بالنص القطعي ... " 5. ولذلك فإن الشيخ رشيد خص حديث أنس رضي الله عنه الذي يثبت اقتراح قريش لهذه الآية ـ بمزيد من الطعن. ثم إن الشيخ رشيد حمل آية الانشقاق في سورة القمر على وجه آخر حاول فيه الاعتضاد بمعاجم اللغة. واتهم المفسرين أيضاً بالتساهل في تصحيح روايات انشقاق القمر حباً في تكثير دلائل النبوة بالمعجزات الكونية 6. والحق أن الشيخ رشيد كان في غنى عن كل ذلك، لأن الأحاديث المروية كافية في إثبات هذا الحادث العظيم، وكل ما أورده هو ومن قبله من الاعتراضات ليست مما يصمد أمام الفحص والنظر الصحيح.   1 مجلة المنار (30/ 262 ـ 263) 2 المصدر نفسه (30/ 264) 3 المصدر نفسه (30/ 270) 4 المصدر نفسه (30/ 364) 5 المصدر نفسه. 6 مجلة المنار (30/ 372) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 فتواتر الأحاديث في هذا مروي عن عدد من المحدثين 1 وهم المرجع في ذلك "وأنه قد يتواتر عند أهل العلم بالشيء ما لا يتواتر عند غيرهم، وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته ... " 2. وأما خفاء هذا الحادث على جميع الأقطار فهي شبهة واهية لأن "الأمر في هذا خارج عما ذهبوا إله من قياس الأمور النادرة الغريبة إذا ظهرت لعامة الناس ... وذلك أن هذا شيء طلبه قوم خاص من أهل مكة على ما رواه أنس بن مالك فأراهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليلاً لأن القمر آية الليل ولا سلطان له بالنهار، وأكثر الناس في الليل تنام ومستكنون بأبنية وحجب والأيقاظ البارزون منهم في البوادي والصحاري قد يتفق أن يكونوا في ذلك الوقت مشاغيل بما يلهيهم من سمر وحديث ... وكثيراً ما يقع للقمر كسوف فلا يشعر به الناس حتى يخبرهم الآحاد منهم، والأفراد من جماعتهم ... ولو أحب الله أن تكون معجزات نبيه عليه السلام أموراً واقعة تحت الحس قائمة للعيان حتى يشترك في معاينته الخاصة والعامة لفعل ذلك، ولكنه سبحانه قد جرت سننه بالهلاك والاستئصال في كل أمة أتاها نبيها بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا بها، وخص هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها التي دعاهم إليها وتحداهم بها عقلية، وذلك لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولئلا يهلكوا فيكون سبيلهم سبيل من هلك من سائر الأمم المسخوط عليهم المقطوع دابرهم، قلم يبق لهم عين ولا أثر، والحمد لله على لطفه بنا ... " 3. ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 4، فهذه الأمة مرحومة   1 انظر: ابن حجر: فتح الباري (6/ 730) ، وحاشية (6) (ص:716) 2 ابن تيمية درء التعارض (7/ 32) 3 الخطابي: أعلام الحديث (3/ 1618 ـ 1620) ، وانظر أيضاً: ابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 447 ـ 451) ، وانظر أيضاً: عياض: الشفا (ص: 215) 4 سورة الأنفال، الآية (33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 موعودة بألا تستأصل بسنة عامة 1. فهذا جواب لشبهتين أوردهما الشيخ رشيد في آن واحد ـ وأما تفسير الآية بما يوافق الأحاديث فهو ما عليه المفسرون 2. فيكون الشيخ رشيد قد جانب الصواب في هذه المسألة 3.   1 انظر: الترمذي: السنن، ك: الفتن، باب: ما جاء في سؤال النبي (ثلاثاً في أمته، ح: 2175 و2176 (5/ 471 ـ 472) 2 انظر: الزجاج: معاني القرآن (5/ 81) وذكر أنه إجماع المفسرين. 3 وقد أشرت قبل قليل إلى أنه يمكن أن رشيد رضا قد أخذ هذا من فلسفة محمد عبده بناءً على مذهب الفلاسفة في مثل هذه الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 المبحث التاسع: منهج رشيد رضا في الصحابة : عرف الشيخ رشيد الصحابي بقوله: "الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً، واشترط بعضهم طول الاجتماع به والرواية عنه، وبعضهم أحدهما، وقال بعضهم هم كغيرهم من الناس" 1. ومعتمداً على قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ... } الآية 2. قسم رشيد رضا الصحابة إلى ثلاث طبقات: الأولى: السابقون الأولون من المهاجرين، والثانية: السابقون الأولون من الأنصار، والثالثة: الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار 3. قال: "ولفظ الاتباع فيها نص في الصحابة المتأخرين الذين اتبعوا الأولين من المهاجرين والأنصار في صفتيهم: الهجرة والنصرة، وهو بصيغة الماضي، فلا يدخل في عمومه التابعون الذين تلقوا الدين والعلم من الصحابة ولم ينالوا شرف الصحبة والهجرة والنصرة، وتسمية هؤلاء بالتابعين اصطلاحية حدثت بعد نزول القرآن" 4. وأما حكم هذه الطبقات الثلاث، فيقول عنهم: "هذه الشهادة من   1 مجلة المنار (34/ 117) 2 سورة التوبة، الآية (100) 3 تفسير المنار (11/ 13 ـ 17) بتصرف. 4 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 رب العالمين للطبقات الثلاث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدفع حقها باطل الروافض الذين يطعنون فيهم، ويحثو التراب في أفواههم، والذي سن لهم هذا الطعن في جمهورهم الأعظم عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام لأجل إيقاع الشقاق بين المسلمين وإفساد أمرهم ثم نظم الدعوة لذلك زنادقة المجوس بعد فتح المسلمين لبلادهم ... ثم جُعل الرفض مذهباً، له فرق ذات عقائد، منها ما هو كفر صريح ومنها ما هو ابتداع قبيح ومنها ما هو دون ذلك ... " 1. ويرى رشيد رضا أن هذه الطبقات الثلاث من الصحابة قد جاوزوا القنطرة، فيقول: "إن جميع أفراد هذه الطبقات الثلاث قد جاوزوا القنطرة واستبقوا الصراط وما يؤثر في كمال إيمانهم شيء، لأن نورهم يمحوا كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب ... " 2. وعند قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} 3، قال: "هذا خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق بين به الله فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار وتجاوزه عن هفواتهم ... لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة، على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى لهم بياناً قطعياً يعد مخالفه عاصياً ... " 4. وقال رداً على سؤال عن عدالة الصحابة: " ... وورد من الأحاديث النبوية في تعديلهم والثناء عليهم، والنهي عن سبهم وحظر بغضهم، ما لا محل لذكر شيء منه في هذا الجواب الوجيز" 5. وأيضاً فقد "كان من سيرتهم المتواترة في نشر الإسلام في العالم وإصلاح البشرية، ما هو أكبر   1 تفسير المنار (11/ 16) 2 المصدر نفسه (11/ 17) 3 سورة براءة، الآية (117) 4 تفسير المنار (11/ 64) 5 مجلة المنار (34/ 118) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 حجة علمية تاريخية على تفضيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على جميع أصحاب الأنبياء والمرسلين ... " 1. وهذه المكانة العالية لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا تمنع أن يرتكب بعضهم الذنوب ومنها الكبائر ـ يقول رشيد رضا ـ إلا أن هذا "لا يبيح هتك حرمة هؤلاء الأخيار في جملتهم" 2. إلا أن رشيد رضا يرى أن القول بعدالة جميع الصحابة على اصطلاح من لا يشترط في الصحبة طول العشرة وتلقي العلم والتربية النبوية مطلقاً فيه إفراط، ويفرق بين من رأى النبي صلى الله عليه وسلم طفلاً ـ مثلاً ـ ولا يعي وبين من عاشر النبي صلى الله عليه وسلم ولازمه 3. وقد تابع رشيد رضا في ذلك أبو رية وغيره 4. ولا ريب أن الاعتقاد بعدالة كافة الصحابة هو قول جمهور أهل السنة. وكافة المحدثين، وعليه سلف الأمة وجماهير الخلف 5. وعدالة الصحابة كافة هي ما تدل عليه آيات القرآن الكريم دون استثناء. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 6، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 7،وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 8، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه. 4 انظر: أضواء (ص: 324) ، وأحمد أمين: فجر الإسلام (ص: 216 ـ 217) 5 انظر: الأعظمي: منهج النقد عند المحدثين (ص: 105) 6 سورة البقرة، الآية (143) 7 سورة الفتح، الآية (18) 8 سورة الحشر، الآية (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..} 1. وهذه الآيات وغيرها ترد مذهب رشيد رضا إذ أنها تشير إلى تعديل كافة الصحابة دون استثناء، بما فيهم معاوية رضي الله عنه والذي اتخذ منه رشيد رضا موقفاً غير مرضي كما سيأتي بيانه بعد قليل. ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل والخلافة: يرى الشيخ رشيد أن ترتيب الصحابة في الخلافة هو على ترتيبهم في الفضل، وأن ذلك بحكمة الله ورحمته. فيقول: "وكان من حكمة الله ورحمته أن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خير أصحابه علماً وحكمة وإخلاصاً ليكونوا قدوة لمن بعدهم وحجة لله عليهم، وألهم أهل الحل والعقد أن يقدموا أقصرهم فأقصرهم عمراً من حيث لا يدرون لتستفيد الأمة من كل واحد منهم، وهذه حكمة ألهمني الله تعالى إياها منذ عشرات السنين لم أروها ولم أسمعها من أحد، وهاك وجه كل واحد منهم ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ... " 2. ثم طفق يبين وجه الحكمة تفصيلاً. والشاهد من ذلك تقرير الشيخ رشيد لمنهج السلف في ترتيب الخلفاء في الخلافة والفضل. حكم سب ولعن الصحابة: ويرى الشيخ رشيد أن سب الشيخين معصية فيقول جواباً على سؤال عن حكم من فعل ذلك، وهل تطلق زوجته: "سب الشيخين عليهما الرضوان معصية، والمعاصي لا تحل عقد الزوجية، وإلا لما صح لفاسق زوجية ولا نسب ... " 3. وفيما يتعلق بالصحابي معاوية رضي الله عنه، فإن الشيخ رشيد يرى تحريم لعنه مطلقاً ـ كغيره من الصحابة ـ لأسباب عديدة منها: النهي الوارد   1 سورة التوبة، الآية (100) 2 مجلة المنار (35/ 7) 3 مجلة المنار (7/ 380) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 في السنة عن اللعن الذي يتساهل فيه أهل الأهواء من السفهاء 1. ولأنه لا يستحق اللعن إلا من مات كافراً بالله وغضب الله عليه، وهذا لا يعرف إلا بوحي من الله تعالى، ولأن الخاتمة مجهولة 2 ووراء ذلك كله: "إن السواد الأعظم من المسلمين يعدون سب معاوية ولعنه من الكبائر، ويرمون سابه بالرفض والابتداع، وأن السني من المسلمين ليعادي الشيعي على سب معاوية وأبي سفيان بلهَ الخلفاء الثلاثة، ويعادي الخارجي على سب عثمان وعلي ما لا يعادي غيرهما على ترك فريضة من الفرائض أو ارتكاب فاحشة من الفواحش، فهذا الطعن في عظماء الصحابة وحملة الدين الأولين لو كان جائزاً في نفسه لكفى في تحريمه ما يترتب عليه من زيادة التفريق بين أهل القبلة وتمكين العداوة في قلوبهم حتى يكفر بعضهم بعضاً. لهذا لا أبالي أن أقول لو اطلع مطلع على علم الغيب فعلم أن معاوية مات على غير الإسلام لما جاز له أن يلعنه ... " 3. وقد استفتي الشيخ رشيد في لعن معاوية غير مرة فلم يفتِ به ولم يرضه 4. ورغم ذلك فإن موقف الشيخ رشيد من معاوية رضي الله عنه غير مرضي. إنه يقول: "إن سيرة معاوية تفيد بجملتها وتفصيلها أنه كان طالباً للملك ومحباً للرياسة، وإنني لأعتقد أنه قد وثب على هذا الأمر مقتاتاً، وأنه لم يكن له أن يحجم عن مبايعة علي بعد أن بايعه أولو الأمر ... وإنني على اعتقادي هذا لا أرى للمسلمين خيراً في الطعن في الأشخاص والنبز بالألقاب واللعن والسباب، وإنما عليهم أن يبحثوا عن الحقائق ليعلموا من أين جاءهم البلاء فيسعوا في تلافيه مع الاتحاد والاعتصام، والاقتداء بالسلف الصالح في حسن الأدب مع الصحابة الكرام" 5. ويقول أيضاً: " ... ونحن من أولياء علي ـ عليه السلام والرضوان ـ لا   1 المصدر نفسه (8/ 629 ـ 630) 2 مجلة المنار (8/626) 3 مجلة المنار (8/630) 4 المصدر نفسه والصفحة 5 المصدر نفسه (9/ 213) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 من أولياء معاوية وفئته الباغية ـ عليهم من الله ما يستحقون ـ ولكننا لسنا بسبابين ولا لعانين كما ورد في وصف المؤمنين. وقد ذكرت في ترجمة الوالد ـ رحمه الله ـ من المجلد الثامن ـ أنه كان يقول: "لا نحب معاوية ولا نسبه" وكيف نحب من بغى على جدنا وخرج عليه 1 وكان سبباً في تلك الفتن التي كانت نكتة سوداء في تاريخ عصر النور الأول لنور الإسلام. وبه تحول شكل الحكومة الإسلامية عن القاعدة التي وضعها لها الله تعالى في كتابه بقوله في المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2 إلى حكومة شخصية استبدادية ... " 3. والحق أن في هذا الموقف من الشيخ رشيد ـ رغم رفضه للعن والسب ـ قصور شديد وبخس لحق هذا الصحابي الجليل، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 4 ومعاوية رضي الله عنه هو من جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينطبق عليه ما ينطبق عليهم. فمعاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين 5، ولاه عمر رضي الله عنه الشام، وأقره عليها عثمان 6. أسلم يوم العقبة وكتم إسلامه خوفاً من أبيه 7. كنيته: أبو عبد الرحمن 8.   1 ليست المسألة مسألة عصبية للآباء والأجداد، ويجب أن يكون الكلام علمياً لا عصبياً على سنن الجاهلية. 2 سورة الشورى، الآية (38) 3 مجلة المنار (12/ 954) 4 سورة هود، الآية (85) 5 ابن عساكر: تاريخ دمشق (59/ 55) ط. دار الفكر، الأولى، سنة 1418هـ، وانظر: الطبراني: المعجم الكبير (19/ 304) ، والذهبي: تاريخ الإسلام: عهد معاوية (ص: 306) ، والسير (3/ 119) ، وأخته أم المؤمنين حبيبة بنت أبي سفيان. الذهبي: تاريخ الإسلام (ص: 308) 6 ابن عساكر: المصدر السابق (59/ 111) 7 ابن عساكر (59/ 55) ، والذهبي: السير (3/ 120) ، والتاريخ (ص: 308) 8 ابن عساكر (ص: 59) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 ولي الخلافة حين سلم الأمر إليه الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ وذلك سنة إحدى وأربعين 1. شهد له ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بالأمانة والفقه 2. كان أبيض طويلاً أبيض الرأس واللحية 3، إذا ضحك انقلبت شفته العليا 4. اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً بوصية جبريل عليه السلام 5. وبشره بالخلافة وأوصاه بالمسلمين 6، ودعا له كثيراً 7. ولما كان معاوية هو أحد الذين أكرمهم الله تعالى بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فكل كلام يقال في الصحابة فإن معاوية يدخل فيه، وللسلف كلام فيه يخصه رضي الله عنه. فقد روى البخاري أن معاوية أوتر بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: "دعه فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية: فقال ابن عباس: "إنه فقيه" 8. وروى أحمد في مسنده عن مجاهد عن ابن عباس أن معاوية أخبره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر شعره بمشقص" فقلت لابن عباس: ما بلغنا هذا الأمر إلا عن معاوية! فقال: " ماكان معاوية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم متهماً 9. وعن أبي الدرداء: "ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا ـ يعني معاوية ـ" 10.   1 المصدر نفسه (ص: 60) 2 المصدر نفسه (ص: 166 ـ 167) ، وانظر: البخاري: الصحيح: فضائل الصحابة، باب ذكر معاوية، ح: 3765 (7/130) مع الفتح. 3 ابن عساكر (ص: 109) وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (9/ 356) 4 الذهبي: تاريخ الإسلام: عهد معاوية (ص: 308) 5 ابن عساكر: المصدر السابق (ص: 68) وما بعدها. 6 المصدر نفسه (ص: 109) ، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (9/ 356) 7 ابن عساكر (ص: 71) وما بعدها. 8 البخاري: الصحيح، ك: فضائل الصحابة، باب: ذكر معاوية، ح: 3764و3765 (7/130) (4/ 102) ورواه مسلم: ك: الحج: ح: 210 (1246) [2/ 913] 10 انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (9/ 357) وقال: رجاله رجال الصحيح غير قيس وهو ثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 وروى أحمد في مسنده 1 عن العرباض بن سارية السلمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعونا إلى السحور في شهر رمضان: "هلموا إلى الغداء المبارك" ثم سمعته يقول: "اللهم علم معاوية الكتاب وقه العذاب" وعن قبيصة بن جابر قال: "صحبت معاوية فما رأيت أحداً أنبل حكماً ولا أبعد أناة منه" 2. وسئل سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من مات محباً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وشهد للعشرة بالجنة وترحم على معاوية كان حقيقاً على الله أن لا يناقشه الحساب" 3. وسئل عبد الله بن المبارك عنه فقال: "ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سمع الله لمن حمده"، فقال: معاوية من خلفه: "ربنا ولك الحمد". فقيل له: ما تقول في معاوية ـ هو أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: "لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خير ـ أو أفضل ـ من عمر بن عبد العزيز" 4، وقال الربيع بن نافع 5:"معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه" 6. وسئل أحمد عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال إنه رافضي؟ قال: "إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، وما يبغض أحد أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وله داخلة سوء" 7. وقال ابن المبارك: "معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إلى معاوية   (4/ 101) وقال الهيثمي: فيه الحارث بن زياد ولم أجد من وثقه، ولم يرو عنه غير يونس، وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. مجمع الزوائد (9/ 356) 2 المصدر نفسه (59/ 178) وكان يضرب المثل بحلمه (، وألف ابن أبي الدنيا، وابن أبي عاصم تصنيفاً في ذلك. انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام: عهد معاوية (ص: 315) 3 ابن عساكر: تاريخ دمشق (59/ 207) 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 الربيع بن نافع: الإمام الثقة الحافظ ولد سنة 150، حدث عنه أبو حاتم، وأبو داود في سننه، وروى عنه البخاري ومسلم بالواسطة، توفي سنة 241 (السير 10/ 653) 6 ابن عساكر (59/ 209) 7 المصدر نفسه (59/ 210) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 شزراً، اتهمناه على القوم يعني على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لعن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ونحوهما ... فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين، وتنازع العلماء هل يعاقب بالقتل؟ أو ما دون القتل ... " 2. وقال أيضاً: " ... "ومعاوية لم يدّع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنهن ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدوا علياً وأصحابه بالقتال ... " 3. وقال: " ... فمن لعنهم فقد عصى الله ورسوله ... " 4. فهذا موقف السلف من "أمير المؤمنين ملك الإسلام" 5 "معاوية بن أبي سفيان" ـ رضي الله عنهما ـ وقد روى المحدثون في فضائله أحاديث وأفردوا لذلك أبواباً وفصولاً 6، ومن هنا تعلم مدى تقصير الشيخ رشيد في حق هذا الصحابي الجليل المشهود له بالفقه والأمانة، وبكل أسى فقد اشتهر الطعن فيه، لا سيما في المتأخرين، ومن المنتسبين لأهل السنة 7، وذاع ذلك حتى بين العامة، ورحم الله تعالى أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، وكاتب الوحي الأمين، وسائر أصحاب نبينا، والتابعين لهم بإحسان ومن أحبهم وترضى عنهم.   1 المصدر نفسه. 2 مجموع الفتاوى (35/ 58) 3 المصدر نفسه (35/ 72) 4 المصدر نفسه (35/ 66) 5 انظر: الذهبي: السير (3/ 120) 6 انظر: البخاري: الصحيح: ك: فضائل الصحابة، باب: ذكر معاوية (7/ 103) مع الفتح، وانظر أيضاً: الهيثمي: مجمع الزوائد (9/ 354) وما بعدها، والطبراني: المعجم الكبير (19/ 304) وما بعدها. 7 انظر مثلاً: محمد الطيب النجار: تاريخ العالم الإسلامي، (ص:68ـ 69) ط. مكتبة المعارف، الرياض، وانظر: ربيع بن هادي المدخلي: مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله (مكتبة الغرباء، الثانية 1416هـ ـ 1995م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 المبحث العاشر: الخلافة والإمامة المطلب الأول: تعريف الخلافة والإمامة ... تعد الإمامة والخلافة من أهم المسائل الدينية التي تبحث ضمن موضوعات العقيدة، لذا فإن علماء أهل السنة قد عُنوا ببحثها وبيان المنهج الواجب اتباعه فيها. وقد تعرضت الخلافة في عصر رشيد رضا إلى هزة عنيفة، وفي حياته أعلن سقوط آخر خليفة عثماني، وإلغاء هذا المنصب 1، الذي لم يكن له في الحقيقة يوم ألغي أي أثر فعلي. لقد كان لهذا الحدث أثر بالغ في حياة المسلمين واضطربوا لذلك اضطراباً شديداً، وكثرت المناقشات حول هذا الموضوع بين العلماء، وكان رشيد رضا طرفاً هاماً في هذا النقاش، وألف كتاباً مستقلاً في هذا الموضوع، فضلاً عما كتبه في مجلته وتفسيره. ومن خلال هذه الكتابات أحاول ـ بما يسعه المقام ـ أن أبين منهج رشيد رضا في هذا المبحث 2. المطلب الأول: تعريف الخلافة والإمامة: عرف رشيد رضا الخلافة والإمامة، فقال: "الخلافة والإمامة العظمى، وإمارة المؤمنين، ثلاث كلمات معناها واحد، وهو: رئاسة الحكومة   1 انظر: مجلة المنار (23/703 و25/ 257ـ 272) 2 اعتمدت في هذا على كتاب الخلافة لرشيد رضا، وأصل الكتاب ـ كغيره ـ مقالات في المجلة. انظر: مجلة المنار (23/ 729) وما بعدها و (24/ 33) وما بعدها. و (24/ 459، 766) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا.." 1. ويرى رشيد رضا أن نصب الإمام واجب عقلاً وشرعاً لا عقلاً فقط، كما قال بعض المعتزلة. قال: "أجمع سلف الأمة وأهل السنة وجمهور الطوائف الأخرى على أن نصب الإمام ـ أي توليه على الأمة ـ واجب شرعاً لا عقلاً فقط كما قال بعض المعتزلة.." 2. وأما الأدلة؛ فقد حكى رشيد رضا عن بعض المتكلمين أنه استدل بالإجماع والعقل على هذا الحكم، لكنه اعترض عليه بالغفلة عن الاستدلال بالسنة، فقال: "وقد غفل هو وأمثاله عن الاستدلال على نصب الإمام بالأحاديث الصحيحة الواردة في التزام جماعة المسلمين وإمامهم، وفي بعضها التصريح بأن "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" رواه مسلم 3 ... وسيأتي حديث حذيفة المتفق عليه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم له: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" 4.." 5. وقد استدل بعض أهل العلم المثبتين للإمامة بآيات من كتاب الله تعالى على وجوب نصب الإمام 6. ويبين رشيد رضا أن هذا الواجب هو واجب كفائي، وأن المطالب به هم أهل الحل والعقد 7. وعرف أهل الحل والعقد بأنهم:"زعماء الأمة وأولو المكانة وموضع الثقة من سوادها الأعظم، بحيث تتبعهم في طاعة من يولونه عليهم، فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها   1 الخلافة (ص:17) ط. الزهراء للإعلام العربي 1408هـ. 2 المصدر نفسه. 3 الصحيح: ك: الإمارة، ح: 58 (1851) 4 رواه البخاري الصحيح: ك: الفتن، باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، ح: 7084، ومسلم: الصحيح: ك: الإمارة، ح: 51 (1847) [3/ 1475] 5 الخلافة (ص:18) 6 انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (1/ 164) 7 الخلافة (ص:19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 عليه.. وإنما تصح المبايعة باتفاقهم، أو اتفاق الرؤساء الذين يتبعهم غيرهم.. " 1. ويمثل رشيد رضا لهؤلاء فيقول: "ومن رؤسائهم في هذا العصر: قواد الجيش، كوزيري الحربية والبحرية وأركان الحرب لهما.." 2.ولكن رشيد رضا لا يطلق ذلك بل يقيده ـ في هذا العصر ـ بحزب الأستاذ الإمام، فهم ـ في رأيه ـ أهل الحل والعقد: "لقد وصل الأستاذ الإمام ـ رحمه الله تعالى ـ إلى مقام الزعامة في هذه الأمة، ومرتبة أهل الحل والعقد في الأمور الدينية والدنيوية.." 3. ويقول:" وهذا الحزب هو الذي يمكنه إزالة الشقاق من الأمة.. فإن موقفه في الوسط يمكنه من جذب المستعدين لتجديد الأمة من الطرفين، وهو الحزب الذي سميناه في المقالة الثالثة من مقالات" مدينة القوانين" بحزب الأستاذ الإمام" 4. شروط من يختار الخليفة: ذكر رشيد رضا أن الشروط المعتبرة في الذين يختارون الخليفة، هي ثلاثة: العدالة، والرأي والحكمة والعلم. وقال: "لهذه الشروط مأخذ من هدي السلف.."5. وتوقف رشيد رضا عند شرط العلم فقال: "ومن ظن أن كل من يوصف بالعلم والوجاهة تنعقد ببيعتهم الإمامة ويجب على الأمة اتباعهم فيها، فقد جهل معنى الحل والعقد ومعنى الجماعة ومعنى الإجماع.." 6. وأود هنا أن أذكر بموقف رشيد رضا من مسألة الإجماع وأهله، قد تبين لي هناك أنه هو الذي لا يعرف معنى الإجماع ولا أهله 7. وأما أهل العلم الذين يقصدهم   1 المصدر نفسه (ص: 19ـ 20) 2 المصدر نفسه، وانظر: تفسير المنار (5/ 181) 3 الخلافة (ص: 67) 4 المصدر نفسه (ص: 70) 5 المصدر نفسه (ص:23) 6 الخلافة (ص: 25) 7 انظر: (ص: 143) من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 رشيد رضا فهم أصحاب العلم " الاستقلالي المعبر عنه بالاجتهاد" 1، لا حزب حشوية الفقهاء الجامدين" فإن هؤلاء " يعجزون عن جعل القوانين العسكرية والمالية والسياسية مستمدة من الفقه التقليدي ويأبون القبول بالاجتهاد المطلق في كل المعاملات الدنيوية، ولو فوض إليهم أمر الحكومة على أن ينهضوا بها لعجزوا قطعاً.." 2. وهم ـ أي أصحاب الفقه الاستقلالي: "حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل" 3. وطبعاً هم حزب الأستاذ الإمام. الشروط المعتبرة في الخليفة: ذكر رشيد رضا أن الشروط المعتبرة في الخليفة سبعة، وهي: العدالة والعلم وسلامة الحواس وسلامة الأعضاء، والشجاعة والرأي والنسب 4. وكما توقف عند شرط العلم في المختارين للإمام، فقد توقف عند شرط النسب في الإمام، فقال: إنه قد ثبت الإجماع عليه، قال: "أما الإجماع على اشتراط القرشية فقد ثبت بالنقل والفعل، رواه ثقات المحدثين، واستدل به المتكلمون، وفقهاء مذاهب السنة كلهم، وجرى عليه العمل بتسليم الأنصار وإذعانهم لبني قريش ثم إذعان السواد الأعظم من الأمة عدة قرون حتى إن الترك الذين تغلبوا على العباسيين وسلبوهم السلطة بالفعل لم يتجرأ أحد منهم على ادعاء الخلافة ولا التصدي لانتحالها.. وما ذلك إلا لأن الأمة مجمعة على ما ذكر.." 5. ويستدل رشيد رضا لهذا الشرط بالسنة، فيقول: "وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة مستفيضة في جميع كتب السنة، وقد أخرجوها في كتب الأحكام وأبواب الخلافة أو الإمارة والمناقب وغيرها.."6. ويذكر رشيد رضا من هذه الأحاديث   1 الخلافة (ص:24) 2 المصدر نفسه (ص: 72) 3 المصدر نفسه (ص:69) 4 المصدر نفسه (ص: 25ـ 226) 5 الخلافة (ص: 27) 6 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 قوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" 1، ويقول: " وحسبنا من قوة حديث "الأئمة من قريش" من حيث الرواية قول الحافظ في فتح الباري عند ذكره في "المناقب" من صحيح البخاري ما نصه: "قد جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابياً" 2 .... فمن علم هذا لا يلتفت إلى ما ذكره بعض أهل هذا العصر من تأويل تلك الأحاديث والبحث في أسانيد بعضها ... " 3، هذا من حيث الراوية، وأما من حيث الدراية فبين رشيد رضا الحكمة من اشتراط هذا الشرط فيقول؛ بعد أن نقل آراء بعضهم: "فحكمة جعله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ خلافة نبوته فيها ـ يعني قريش ـ وسببه: أمران: الأول: كثرة المزايا التي تنتشر بها الدعوة، وتكون ـ بسبب طباع البشر ـ سبباً لجمع الكلمة، ومنع المعارضة، والمزاحمة أو ضعفها، وكذلك كان، فإن الناس أذعنوا لهم على تنازلهم وكثرة من لم يقم بأعباء الخلافة منهم ولا أخذها بحقها ... والثاني: أن تكون إقامة الإسلام متسلسلة في سلاسل أول من تلقاها ودعا إليها ونشرها حتى لا ينقطع اتصال سيرها المعنوي والتاريخي، فإن الحقوق الخاصة من الملل والأمم وليدة التاريخ ... " 4. والذي دفع رشيد رضا إلى الوقوف عند هذا الشرط ـ وهو ما صرح به ـ محاولة البعض تصحيح خلافة بني عثمان ـ بينما يرى رشيد رضا أنها خلافة بالتغلب ـ وسيأتي بيان رأيه فيها ـ وشيء آخر لم يصرح به، وهو ما وقع في نفوس البعض من ملوك ذاك العهد وتطلعهم لشغل هذا   1 روي هذا اللفظ عن عدد من الصحابة. انظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 122 ـ 123) ، والهيثمي: مجمع الزوائد (5/ 191 ـ 192) ، وترجم البخاري بلفظ: الأمراء من قريش، إذ لم يصح على شرطه: الصحيح، ك: الأحكام، باب: الأمراء من قريش، والمعنى ثابت في أحاديث أخرى في الصحيحين: انظر: البخاري: ك: الأحكام، باب: الأمراء من قريش، ح: 7139 7140، ومسلم: الصحيح، ك: الإمارة، ح: 1818 وما بعده. 2 انظر: فتح الباري (6/ 613) 3 الخلافة (ص: 28) 4 الخلافة (ص: 30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 المنصب بعد فراغه 1.   1 لقد عقد مؤتمر بالقاهرة يناقش هذه المسألة، وأشيع يومئذ أن هذا المؤتمر كان لغرض ترشيح أحد ملوك ذلك الوقت لهذا المنصب: انظر: مجلة المنار (27/ 208 و280 و370 و449 و458) وأيضاً (25/ 525 و599 و26/ 789) وانظر: رسالة رشيد رضا لهذا المؤتمر: مجلة المنار (27/ 138) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 المطلب الثاني: طرق التولي : ذكر الشيخ رشيد ثلاث طرق للولاية: أحدها: المبايعة، فقال: "الإمامة عقد تحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد لمن اختاروه إماماً للأمة، بعد التشاور بينهم، والأصل في البيعة أن تكون على الكتاب والسنة وإقامة الحق والعدل من قبله، وعلى السمع والطاعة في المعروف من قبلهم ... وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يلقنهم قيد الاستطاعة عند المبايعة، وقد بايعوه أيضاً على الإسلام، وعلى الهجرة، وعلى الجهاد، والصبر وعدم الفرار من القتال، وعلى بيعة النساء المنصوصة في القرآن 2 ... " 3. وهذه الطريق هي إحدى الطرق الصحيحة عند أهل السنة 4. وأما الطريق الثاني التي يقررها رشيد رضا فهي التولية بالاستخلاف والعهد، فيقول: "اتفق الفقهاء على صحة استخلاف الإمام الحق والعهد منه بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه، أي في الإمام الحق، فالعهد أو الاستخلاف لا يصح إلا من إمام مستجمع لجميع شروط الإمامة لمن هو مثله في ذلك. هذا شرط العهد إلى فرد، واستدلوا على ذلك باستخلاف أبي بكر لعمر، وأما العهد إلى الجميع وجعله شورى في   2 انظر: سورة الممتحنة، الآية (12) 3 الخلافة (ص: 33) 4 انظر: الماوردي: الأحكام السلطانية (ص: 33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 عدد محصور من أهل الحل والعقد، فاشترطوا فيه أن تكون الإمامة متعينة لأحدهم، بحيث لا مجال لمنازعة أحد لمن يتفقون عليه منهم، وهو الموافق لجعل عمر إياها شورى في الستة ـ رضي الله عنهم ـ ... " 1. ويرى الشيخ رشيد أن هذه الطريق وإن كانت صحيحة فهي متوقفة على إقرار أهل الحل والعقد للخليفة المستخلف احترازاً عن وضعها في غير موضع باستخلاف من ليس أهلاً لها ولا مستجمعاً لشروطها. قال: "وأما المتغلبون بقوة العصبية فعهدهم واستخلافهم كإمامتهم، وليس حقاً شرعياً لازماً لذاته، بل يجب نبذه كما تجب إزالتها، واستبدال إمامة شرعية بها عند الإمكان والأمان من فتنة أشد ضرراً على الأمة منها، وإذا زالت بتغلب آخر فلا يجب على المسلمين القتال لإعادتها ... " 2. وسيأتي الكلام حول مسألة الخروج على الإمام الفاسق والكافر غير أني أشير هنا إشارة إلى أن محاولات الخروج على أئمة الجور قديماً وحديثاً قد أدت دائماً إلى ما هو أشد من جورهم، حتى كانت ولايتهم بالنسبة لما حدث بعدهم نعمة ود الناس لو دامت عليهم. والطريق الثالث التي يكون بها الخليفة هي طريق الضرورة والغلبة، وخلافة الضرورة ـ كما يراها الشيخ رشيد ـ هي خلافة من لم يستجمع شروط الخلافة المعتبرة، فإذا تعذر وجود بعض الشروط تدخل المسألة في حكم الضرورات، والضرورات ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ تقدر بقدرها فيكون الواجب حينئذ مبايعة من كان مستجمعاً لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها ... 3. وأما خلافة التغلب ـ وهي جائزة للضرورة أيضاً ـ إلا أن الفرق بينها وبين ما قبلها أن الأولى صدرت من أهل الحل والعقد باختيارهم لمن هو أمثل الفاقدين لبعض الشرائط ... وأما الثانية: فصاحبها هو المعتدي على   1 الخلافة (ص: 41) 2 الخلافة (ص: 42) 3 الخلافة (ص: 43) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 الخلافة بقوة العصبية لا باختيار أهل الحل والعقد له، لعدم وجود من هو أجمع للشرائط منه، فذاك يطاع اختياراً، وهذا يطاع اضطراراً ... " 1. ويثبت الشيخ رشيد كما وضح من النص السابق وجوب طاعة الإمام في كلا الحالتين. غير أنه يقول إن حالة سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة لتنفذ بالقهر وتكون أدنى من الفوضى. ومقتضاه ـ كما يقول ـ "إنه يجب السعي دائماً لإزالتها عند الإمكان، ولا يجوز أن توطن النفس على دوامها ... " 2. والحق أن الاستخلاف بالغلبة متى تم واستقر أصبح له حكم الخلافة الشرعية من وجوب الطاعة وعدم الخروج 3، وهو الواجب على الرعية الذي بينه الشيخ رشيد فيما يلي: طاعة أولي الأمر: قال الشيخ رشيد: "ومتى تمت البيعة وجب بها على المبايعين وسائر الأمة بالتبع لهم الطاعة للإمام في غير معصية الله والنصرة له، وقتال من بغى عليه أو استبد بالأمر دونه ... وأهم ما يجب التذكير به من طاعة الإمام الحق على كل مسلم، وكذا إمام الضرورة أو التغلب على كل من بايعه بالذات، ومن لزمته بيعة أهل الحل والعقد ـ أداء زكاة المال والأنعام والزرع والتجارة والجهاد الواجب وجوباً كفائياً على مجموع الأمة ... كما يجب عليهم طاعة من ولاهم أمر البلاد من الولاة السياسيين والقضاة، وقواد الجيوش دون غيرهم، ويجب على هؤلاء الخضوع له فيما يفيد به سلطتهم، وفي عزله إياهم إذا عزلهم، والشرط العام في الطاعة أن لا تكون في معصية الله تعالى ... " 4.   1 المصدر نفسه (ص: 45) 2 الخلافة (ص: 45) 3 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 379) ط. المكتب الإسلامي. 4 الخلافة (ص: 34) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد مجمع عليه بين أهل السنة، فيقولون بوجوب طاعة الإمام، وأنها من طاعة الله تعالى وطاعة رسوله 1.   1 انظر: ابن أبي العز: المصدر السابق (ص: 381) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 المطلب الثالث: وظيفة الإمام : قال الشيخ رشيد: "يجب على الإمام نشر دعوة الحق، وإقامة ميزان العدل، وحماية الدين من الاعتداء والبدع، والمشاورة فيما ليس فيه نص، وهو مسئول عن عمله يراجعه كل أحد من الأمة فيما يراه أخطأ فيه، يحاسبه عليه أهل الحل والعقد ... " 2. وانتقد الشيخ رشيد على الماوردي إغفاله لواجب الشورى. فإن الشيخ رشيد يعتبره واجباً شرعياً على الإمام، فيقول: "وأهم ما يجب على الإمام المشاورة في كل ما لا نص فيه عن الله ورسوله، ولا إجماعاً صحيحاً يحتج به، أو ما فيه نص اجتهادي غير قطعي ولا سيما أمور السياسة والحرب ... فهو ليس حاكماً مطلقاً كما يتوهم الكثيرون بل مقيد بأدلة الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين العامة وبالمشاورة، ولو لم يرد فيها إلا وصف للمؤمنين بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 3، وقوله لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 4 لكفى ... " 5. فيرى الشيخ رشيد أن سلطة الخليفة مقيدة، بالشورى وبما ذكر معها، فهل الشورى واجبة على الإمام، أو هي جائزة له؟ الذي ترشد إليه أدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف أن الشورى مستحبة للإمام، لا واجبة عليه، وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية 6 وصرح به   12 الخلافة (ص: 35) 3 سورة الشورى، الآية (38) 4 سورة آل عمران، الآية (159) 5 الخلافة (ص: 38) 6 السياسة الشرعية (ص: 157) ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الرابعة 1969م. وانظر: مجموع الفتاوى له (28/ 386) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 الإمام ابن القيم، فقال: "ومنها استحباب مشاورة الإمام رعيته وجيشه استخراجاً لوجه الرأي واستطابة لنفوسهم، وأمناً لعتبهم، وتعرفاً لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، امتثالاً لأمر الرب ... " 1. وممن قال بالاستحباب الحافظ ابن حجر 2، وهو مذهب الماوردي وأبي يعلى، ويدل عليه ظاهر فعلهما 3، فكلاهما لم يورد الشورى بين واجبات الإمام. والندب مذهب الشافعي 4، وأحمد 5، فتبين من ذلك كله أن الحق أن الشورى ليست واجبة بل هي جائزة ومستحبة، ومن قال بالوجوب ـ وأكثرهم من المحدَثين 6 ـ فلا أرى إلا أنهم متأثرون بالدعاية الجديدة والمبادئ الحادثة في نظام الحكم، وأكثرها من فلسفات لا تتعبد بشرع وبنظم لا تقول بوجوب الطاعة والسمع. وعلى رأي المحدَثين القائلين بالوجوب: الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا 7.   1 زاد المعاد (2/ 141) وانظر: أعلام الموقعين (4/ 256) 2 فتح الباري (13/ 341) 3 انظر: الماوردي: الأحكام السلطانية (ص: 51 ـ 52) ، وأبو يعلى: الأحكام السلطانية (ص:37) 4 انظر: الأم (5/ 18) ط. الثانية 1393هـ. 5 انظر: المغني والشرح الكبير (11/ 396) 6 انظر: عبد القادر عودة: الإسلام وأوضاعنا السياسية (ص: 194) ، محمد أبو زهرة: ابن حزم (ص: 252) ، ومحمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة (ص: 438) ، وعبد الكريم زيدان: أصول الدعوة (ص: 207) 7 ويصرح رشيد رضا بألفاظ محدثة (كالديمقراطية) وتقييد سلطة الملوك والآراء. انظر: مجلة المنار (1/ 869) وهو ما يدل على تأثره بالأفكار الآتية من أوروبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 المطلب الرابع: ما يخرج به الخليفة عن الإمامة : اعتمد الشيخ رشيد في هذا على ما أورده الماوردي ولخصه، وعلق عليه بعض التعليقات 8، فقال: "وما ذكره من انعزال الإمام بالفسق قد   8 انظر: الماوردي: الأحكام السلطانية (ص: 53 ـ 60) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 اختلف فيه، والمشهور الذي حققه الجمهور أنه لا يجوز تولية الفاسق، ولكن طروء الفسق بعد التولية لا تبطل به الإمامة مطلقاً، وبعضهم فصل ... " 1. وبين الشيخ رشيد اتفاق العلماء على وجوب الخروج على الإمام بالكفر، وأنهم اختلفوا في الظلم والفسق بتعارض الأدلة، ومنها سد ذريعة الفتنة، والتحقيق المختار أن على الأفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطهما دون الخروج على ولي الأمر بالقوة، وأما أهل الحل والعقد فيجب عليهم ما يرون فيه المصلحة الراجحة حتى القتال 2. وقال: "وقد استدل من قال يخلع بالكفر دون المعصية بحديث عبادة بن الصامت في المبايعة عند الشيخين 3، قال: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان" وقد ذكر الحافظ في شرح قوله: "إلا أن تروا كفراً بواحاً" روايات أخرى بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر 4 ... وقال في شرح قوله: "عندكم من الله فيه برهان" أي من نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل ... " 5. ولخص الشيخ المسألة بقوله: "وملخصه أن أهل الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل وإزالة سلطانهم الجائر   1 الخلافة (ص: 48) 2 المصدر نفسه (ص: 33) 3 البخاري: الصحيح، ك: الفتن، باب: قول النبي (: "سترون بعدي أموراً تنكرونها"، ح: 7055 و7056، ومسلم: الصحيح، ك: الإمارة، ح: 41 (1709) وما بعده (3/ 1470) 4 انظر: فتح الباري (13/ 10 ـ 11) 5 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة والمفسدة هي المرجوحة ... " 1. وبذلك يضع الشيخ رشيد ضابطاً لمسألة الخروج هو قياس المصلحة والمفسدة، ويوضح رأي الشيخ رشيد أكثر ما يلي من تقسيمه الدور إلى دار عدل ودار جور. تقسيم البلاد إلى دار عدل ودار جور: عرف الشيخ رشيد دار العدل فقال: " ... دار العدل وهي دار الإسلام التي نصب فيها الإمام الحق، الذي يقيم ميزان العدل، تسمى بذلك إذا قوبلت بدار البغي والجور، وهي ما كان الحكم فيها بتغلب أهل العصبية من المسلمين وعدم مراعاة أحكام الإمامة الشرعية وشروطها ... ، وهاتان الداران قد توجدان معاً في وقت واحد وقد توجد إحداهما دون الأخرى ولكل منهما أحكام ... " 2. ويبين الشيخ رشيد أحكام دار العدل فيقول: "أما دار العدل فطاعة الإمام فيها في المعروف واجبة شرعاً، ظاهراً وباطناً، ولا تجوز مخالفته إلا إذا أمر بمعصية لله تعالى ثابتة بنص صريح من الكتاب والسنة دون الاجتهاد والتقليد، ويجب قتال من خرج عليه من المسلمين أو بغى في بلاده الفساد بالقوة، كغيره من القتال الواجب شرعاً، وتجب الهجرة من دار الحرب ودار البغي إلى هذه الدار على من استضعف فيهما فظلم أو منع من إقامة دينه ... " 3. ويبين أيضاً بعض أحكام دار الجور والبغي، فيقول: "وأما دار البغي والجور فالطاعة فيها ليست قربة واجبة شرعاً لذاتها، بل هي ضرورة تقدر بقدرها ... ومن الظلم الموجب للهجرة منها على من قدر إلى دار العدل ـ إن وجدت ـ حمل المتغلبين من يخضع لهم على القتال لتأييد عصبيتهم   1 الخلافة (ص: 49) 2 المصدر نفسه (ص: 50) 3 الخلافة (ص: 50) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 والاستيلاء على بعض بلاد المسلمين، فمن قدر على الفرار من ذلك وجب عليه، فأمرها دائماً دائر على قاعدة ارتكاب أخف الضررين، والظاهر أن يفرق بين قتالهم لأهل العدل فلا تباح الطاعة فيه بحال، وبين قتال غيرهم كأمثالهم من المتغلبين ... وأما الجهاد الشرعي فيجب مع أئمة الجور، ومنه دفاعهم عن بلادهم إذا اعتدى عليها الكفار ... " 1. فيرى الشيخ رشيد أن الحال في دار البغي والجور مرتبطة بارتكاب أخف الضررين ودفع أشد المفسدتين، درءاً للمفسدة وحفظاً للمصلحة الراجحة، والحق أنه يجب طاعة أولي الأمر مطلقاً وإن جاروا وظلموا أوخذوا أموالنا وجلدوا ظهورنا، لأن الخروج عليهم يترتب عليه من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير للسيئات ومضاعفة للحسنات، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} 2، والواجب ساعتئذ الاجتهاد في العمل والتوبة 3.   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 سورة الشورى، الآية (30) 3 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 381) ط. المكتب الإسلامي، التاسعة، وانظر: أدلة وجوب طاعة الإمام: البخاري: الصحيح، ك: الفتن، باب قول النبي (: "سترون بعدي أموراً تنكرونها"، ح: 7052 وما بعده، وك: الأحكام، باب: قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، ح: 7137 وما بعده. ومسلم: الصحيح، ك: الإمارة، ح: 31 (1834) وما بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 المطلب الخامس: تعدد الأئمة : يرى الشيخ رشيد أن الأصل هو وحدة الإمام، وقال إنه: "أمر إجماعي" 4، إلا أنه يرى أن التعدد جائز في حال اتساع رقعة الدولة   4 الخلافة (ص: 56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 الإسلامية وتباعد الأقطار وتعذر الاتصال، فيكون التعدد حينئذ للضرورة، التي يجب أن تقدر بقدرها، وأن يجتهد في إثباتها، فإن: "بُعْد الشقة بين البلاد وتعذر المواصلات التي يتوقف عليها تنفيذ الأحكام، مما يختلف باختلاف الزمان والمكان، فلا يصح أن يجعل عذراً دائماً لصدع وحدة الإسلام ... " 1. ويرى الشيخ رشيد أن أمام وحدة الإمام واجبات كثيرة، قد فرط فيها المسلمون من قبل، "فأي واجب أقاموا حتى يطالبوا بهذا الواجب" 2، ويقول: "وحدة الإمام تتبع وحدة الأمة، وقد مزقت العصبية المذهبية ثم الجنسية الشعوب الإسلامية بعد توحيد الإسلام إياها بالإيمان برب واحد وإله واحد وكتاب واحد، والخضوع لحكم شرع واحد، وتلقي الدين والآداب بلسان واحد، فأنى يكون لها اليوم إمام واحد وهي ليست أمة واحدة ... " 3. لقد خالف الشيخ رشيد هنا الماوردي 4 وتابع صاحب الروضة الندية في هذا التفصيل 5، إن ذلك لا يعني أنه كان مقلداً في مذهبه هنا ـ فقد عرفت موقفه من التقليد ـ إنه كان عارضاً ناقداً يختار من كلام الفقهاء ما يراه مناسباً لحال العصر ولا يتقيد بالتقريرات والحواشي القديمة، التي لا تتناسب مع هذا الزمان، فليست الشريعة محصورة في جلود كتب الحنفية 6.   1 المصدر نفسه (ص: 59) 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 المصدر نفسه (ص: 60) 4 انظر: الأحكام السلطانية (ص: 37 ـ 38) 5 انظر: صديق حسن خان: الروضة الندية (2/ 774) ط. دار الأرقم، بريطانيا، الثانية، 1413هـ. 6 انظر: مجلة المنار (6/ 508) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 الباب الثالث: منهج محمد رشيد رضا في الإيمان باليوم الآخر تمهيد ... تمهيد: إن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة، ولا يصح إيمان أحد إن لم يؤمن باليوم الآخر. قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 1،وقال في وصف الكافرين: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} 2، ويشمل الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه وما يكون من النفخ في الصور وما يكون من البعث والنشور، وما يكون من القيامة من ثواب وعقاب وجنة ونار، وما يكون قبل ذلك كله من علامات وأشراط. إن الإيمان باليوم الآخر أحد الأسس العقائدية التي وجدت عند الجماعات البشرية منذ أن خلق الله الإنسان، كما نجده واضحاً عند قدماء المصريين، وعند البراهمة من الهنود، ونجده عند الفرس أيضاً 3. ويرجع ذلك ـ لا إلى التطور الفكري كما يحلو للبعض أن يقول ـ ولكن يرجع إلى الوحي عن طريق الأنبياء، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 4 كما يرجع إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها بإحساسهم جميعاً بضرورة وجود حياة آخرة يجازى فيها المحسن والمسيء.   1 سورة البقرة، الآية (4) 2 سورة الأعراف، الآية (45) 3 انظر: فرج الله عبد الباري: اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام (29ـ 48) ط. دار الوفاء، مصر، ط. الثانية 14112هـ =1992م. 4 سورة فاطر، الآية (24) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 ولا ريب أيضاً أن أهل الكتاب لديهم اعتقاد باليوم الآخر، ولكنه ضوء خافت لا يكاد يرى الناظر من خلاله شيئاً، وأفكار مشوشة لا يحصل باجتماعها صورة واضحة لهذا اليوم بسبب ما طرأ على كتبهم من تحريف وتبديل. وقد تحدث الشيخ رشيد عن اليوم الآخر وعرض مسائله التي أشرت إليها، وقارن بين اليوم الآخر كما صوره القرآن وكما هو في كتب أهل الكتاب، وبيّن إصلاح القرآن لهذه العقيدة التي شُوهت في جميع الأديان، وفيما يلي عرض ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 الفصل الأول: منهج رشيد رشا لليوم الآخر تمهيد ... تمهيد لما كانت الطبيعة البشرية فيها الاستعداد للخير والشر: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 1 فقد يطغى أحد الجانبين على الآخر، وقد يكون الغالب هو جانب الشر بدافع الشهوات والغفلة، والتي غالباً ما تجمح بصاحبها إلى تجاوز الحدود والتعدي على الآخرين. وواقع الحال يبين لنا كثيراً أن ممن ارتكب جرائم التعدي في حق غيره وأوقع الظلم بهم، قد غادر الحياة مع المظلوم، قبل أن يأخذ هذا الأخير حقه منه: ولما كانت عدالة الله تعالى تقتضي القصاص وأن يأخذ المظلوم حقه من الظالم، كان لا بد من حياة أخرى غير هذه الحياة يقع فيها القصاص وهو {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} 2 كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 3 وقال: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 4. ولكن كثيراً من الناس قد ضلوا في هذا الباب، فأنكر قوم البعث جملة واستبعدوه، وأثبته قوم، ولكنهم سلكوا في إثباته طرقاً مختلفة، فالمتكلمون ـ من المسلمين ـ يرون أن الدليل عليه لا يكون إلا سمعياً وأن العقل لا حظ له في ذلك إلا مجرد بيان عدم الامتناع. وأما القرآن الكريم   1 سورة الشمس، الآية (7 ـ 8) 2 سورة المعارج، الآية (43) 3 سورة المؤمنون، الآية (115) 4 سورة القيامة، الآية (36) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 فقد سلك مسالك متعددة تفيد العلم والقطع بآحادها ومجموعها على إثبات البعث والمعاد. وقد سار رشيد رضا في ذلك على نهج القرآن ورفض منهج المتكلمين. فأثبت البعث جملة وتفصيلاً، وبين أثر الإيمان به، كما تحدث عن الموت ـباعتباره أول منازل الآخرة، ومايتعلق به من الحياة البرزخية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 المبحث الأول: إثبات الشيخ رشيد لليوم الآخر جملة وحكمه : لقد تكلم الشيخ رشيد عن اليوم الآخر في كل مناسبة ورد ذكره فيها في كتاب الله تعالى، الذي أكثر من ذكر هذا اليوم ودعا إلى العمل من أجله. تكلم الشيخ رشيد عنه جملة فأثبته وبين أثر الإيمان به، كما بين شيئاً من تاريخ هذه العقيدة في الأديان السابقة على الإسلام. فقال: "الإيمان باليوم الآخر، وما يكون فيه من البعث والحساب والجزاء على الأعمال، هو الركن الثاني للدين الذي بعث الله به الرسل عليهم السلام، وبه يكمل الإيمان بالله تعالى، ويكون باعثا على العمل الصالح، وترك الفواحش والمنكرات والبغي والعدوان" 1. وأما تاريخ هذه العقيدة وما طرأ عليها من الفساد، فيقول عنه الشيخ رشيد: "وكان جل مشركي العرب ينكرونه، وأما أهل الكتاب وغيرهم من الملل ـ التي كان لها كتب وتشريع ديني ومدني ثم فقدت كتبهم واستحوذت عليهم الوثنية ـ فكلهم يؤمنون بحياة بعد الموت وجزاء يختلفون في صفتها لا في أصلهما. ولكن إيمانهم هذا قد شابه الفساد ببنائه على بدع ذهبت بجل فائدته في إصلاح الناس ... فكان فساد الإيمان بهذا الركن من أركان الدين تابعاً لفساد الركن الأول وهو الإيمان   1 الوحي المحمدي (ص: 175) ، وقارن مع ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 211) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 بالله تعالى ومعرفته، ومحتاجاً إلى الإصلاح مثله ... " 1. ويقول الشيخ رشيد في حكم الإيمان بهذا اليوم: "أنه لا يتقبل إيمان أحد حتى يؤمن بما أخبر به النبي بعد الموت ... فإن أركان الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله وصفاته والإيمان بالنبوة والإيمان بالآخرة ... " 2. وعند قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 3 قال: "أما لفظ الآخرة فقد ورد في القرآن كثيراً حيث الجزاء على الأعمال، ويتضمن كل ما وردت به النصوص القطعية من الحساب والجزاء على الأعمال ... " 4. ولقد أصلح القرآن ما طرأ على عقيدة أهل الكتاب في هذا الباب ببيانه أتم البيان، وبرد الاعتقادات الفاسدة فيه والتي طرأت على هذه العقيدة 5. أثر الإيمان باليوم الآخر: ويشير الشيخ رشيد إلى أثر الإيمان باليوم الآخر وأنّه يظهر في الأعمال فيقول: "ويعرف اليقين في الإيمان بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال" 6، ويقول في موضع آخر: "فإن العلم بذلك هو الذي يؤثر في النفس فيبعثها على العمل، وأما من كان على ظن أو شك فإنه يعمل تارة ويترك أخرى لتنازع الشكوك قلبه ... " 7. ويشير إلى أن تمسك المسلم وأدائه للعبادات ـ كالصوم ـ يرجع إلى   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 مجلة المنار (5/ 911) ، وقارن أيضاً مع: ابن تيمية: المصدر السابق والصفحة، وكون الأركان ثلاثة يفسر بإرجاع بعضها إلى بعض، فيكون الإيمان بالنبوة شاملاً للإيمان بالملائكة والكتب والرسل، كما يمكن إرجاع القدر إلى الإيمان بالله لأنه متعلق بصفاته تعالى. 3 سورة البقرة، الآية (4) 4 تفسير المنار (1/ 133 ـ 134) ، وانظر أيضاً: المصدر نفسه (8/ 283) 5 انظر: الوحي المحمدي (ص: 176) 6 تفسير المنار (1/ 134) 7 المصدر نفسه (2/ 243) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 إيمانه باليوم الآخر وما فيه من الجزاء والحساب، والعكس صحيح 1. وفي هذا تأكيد لمذهب الشيخ رشيد ـ الصحيح ـ في ارتباط العمل بالإيمان والاعتقاد بالأفعال والذي سبق بيانه في موضعه في الباب الأول 2.   1 انظر: مجلة المنار (4/ 227) 2 انظر (ص:193) من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 المبحث الثاني: الموت والبرزخ : الموت هو أول منازل الآخرة، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 1، قال الشيخ رشيد: "المعنى ظاهر يفهمه كل من يعرف العربية وهو: أن كل حي يموت، فتذوق نفسه طعم مفارقة البدن الذي تعيش فيه، ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين ... " 2. ولدي هنا أيضاً دليل آخر على رفض الشيخ رشيد لطريقة المتكلمين واصطلاحاتهم، وهو يشير هنا إلى اختلافهم في تعريف النفس والروح والموت، ومعنى أن النفس تذوق الموت: أي هل تموت النفس أولاً؟ وكل ذلك من الاصطلاحات الفلسفية التي دست في كتب المسلمين، لذا فإن الشيخ رشيد يرفضها ويقول: "ومن العبث والجهل البحث في تعريف الموت، فالموت هو الموت المعروف لكل أحد ... " 3.   1 سورة آل عمران، الآية (185) 2 تفسير المنار (4/ 270) 3 المصدر نفسه (4/ 270 ـ 271) ، وانظر: الخلافات المشار إليها: الأشعري: مقالات الإسلاميين (2/ 28 ـ 30) ، والجرجاني: التعريفات (ص: 211) ط. الحلبي، وابن القيم: الروح (ص: 272) ت: الجميلي، ط. دار الكتاب.، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 570) ط. التركي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 ويبين الشيخ رشيد المراد بعذاب القبر فيقول: "والمراد بعذاب القبر ما يسمونه عذاب البرزخ أي ما بين الموت والحشر يوم القيامة سواء دفن الإنسان في قبر أم لا" 1. وقد تواترت الأحاديث التي تثبت عذاب القبر 2، وأجمع أهل السنة على ثبوته، بينما أنكره الملاحدة ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة من المسلمين كابن سينا ومن نحا نحوه، وكذا أنكرته الخوارج وبعض المعتزلة 3. وتبعاً لأهل السنة يثبت الشيخ رشيد عذاب القبر، ويذكر أن إنكاره ينسب للمعتزلة ولكن "الزمخشري" 4 وهو من أساطينهم يرد استدلالهم 5. كما يثبت الشيخ رشيد حياة الشهداء في البرزخ غير أنه يقول: "إنها حياة غيبية لا نبحث عن حقيقتها ولا نزيد فيها على ما جاء به خبر الوحي شيئاً ... " 6. ورفض الشيخ رشيد تأويل المعتزلة للنصوص التي تثبت هذه الحياة، كما رفض أيضاً ـ وعلى قدم المساواة ـ قول من قال: "إنهم أحياء بأجسادهم كحياتنا الدنيا يأكلون ويشربون وينكحون في قبورهم كسائر أهل الدنيا" 7. وأما وقوع عذاب القبر على الروح والجسد جميعاً، أو أحدهما دون الآخر، فيذهب الشيخ رشيد في ذلك مذهب أهل السنة، وهو وقوع العذاب على الإنسان كله ـ روحه وجسمه ـ فبعد أن ذكر الخلاف بين المعتزلة ـ الذين يقولون بنفي عذاب القبر ـ على الروح والجسد جميعاً، وبين من يقول   1 مجلة المنار (26/ 500) 2 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 578) 3 انظر: سليمان دنيا: مقدمة شرح الدواني على العقائد العضدية (ص:20ـ 21 و17 ـ 18) ، وانظر: الأشعري: المقالات (2/ 166) ، والبغدادي: أصول الدين (ص: 245) 4 هو: أبو القاسم جار الله محمود بن عمر، العلامة المعتزلي، المفسر النحوي، كان رأساً في البلاغة والعربية والمعاني والبيان. انظر: الذهبي: السير (20/ 151ـ 156) 5 انظر: تفسير المنار (4/ 271) 6 المصدر نفسه (4/ 233) 7 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 به ويثبته على الروح فقط، قال: " ... ولا شك أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب الأخذ به، وهو أن نقول أن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر البرزخ والآخرة حق نؤمن به ونفوض الأمر في حقيقته وكيفيته إلى الله تعالى، مع العلم بأن الأرواح هي التي تشعر باللذة والألم وأن الأجساد لباس لها، وآلات لتوصيل بعض اللذات والآلام ... " 1. وقال في موضع آخر: "الإحساس بالألم أو اللذة من شأن الأحياء والجسد لا حياة له إلا بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد وصل إليها الألم بواسطته يصح أن يقال: إن هذا الألم ألمّ بالروح والجسد وإن كان الشعور للروح وحدها ... فعلم بهذا أن قول العلماء: عن عذاب القبر ـ أي الألم الذي ينزل بالإنسان بعد الموت وإن لم يقبر ـ يكون على الروح والجسد: يتضمن القول بأنه يبقى للروح بعد الموت علاقة، واتصال بمادة الجسد الذي كانت فيه وإن تفرقت هذه المادة وانحلت إلى أجسام كثيفة وغازات لطيفة ... " 2. ويرى رشيد رضا أن عذاب القبر غير دائم، مستدلاً ببعض نصوص الكتاب والسنة، فيقول: "فظواهر النصوص تدل على أنه غير دائم، منها قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} 3 قالوا: هي في عذاب البرزخ بدليل ما بعدها، وما ورد من دوام عذاب جهنم، ومنها ما ورد في الصحيحين من خبر اللذين يعذبان في قبورهما وأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع جريدة خضراء شقها وغرزها على كل قبر منهما لما يرجى أن يكون سبب التخفيف عنهما 4 ... " 5. وهذا الذي ذهب إليه رشيد رضا في هذه المسألة   1 مجلة المنار (8/257) 2 مجلة المنار (5/ 946) ، وانظر: (26/ 500) 3 سورة غافر، الآية (46) 4 رواه البخاري: الصحيح، ك: الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله، ح: 216 (1/ 379) 5 مجلة المنار (26/ 500) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 هو الموافق لأدلة الشرع ومذهب أهل السنة 1. وهل ينجو أحد من عذاب القبر؟ يقول رشيد رضا: "ورد في بعض الأحاديث أن بعض الأعمال الصالحة تنجي فاعلها من فتنة القبر وعذاب القبر، كالرباط في سبيل الله 2، وقراءة سورة تبارك 3" 4. ولا ريب أن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن كالصلاة والصيام والزكاة وسائر أعمال البر قد تكون سبباً لنجاته من هذه الفتنة 5. وأود أن أختم الكلام هنا بقاعدة للشيخ رشيد تتعلق بالإيمان باليوم الآخر وتشبه قاعدة سابقة قرر الشيخ رشيد أنها قاعدة السلف في إثبات صفات الله تعالى. يقرر الشيخ رشيد هنا أن "مذهب السلف عدم البحث في كيفية ما يرد في الكتاب والسنة من أحوال الآخرة لأنها مما يجب الإيمان به كما ورد من غير فلسفة فيه، ولا نحكم على الغيب إذ لا يقاس عالم الغيب على عالم الشهادة ... " 6. فالشيخ رشيد هنا يقرر قاعدة تفويض الكيفية فيما يغيب عن عين الإنسان ومدركاته، ويجب الإيمان به في نفس الوقت، وهي قاعدة سلفية صحيحة، سبق تقريرها في الباب الأول من هذا البحث، وبينت هناك موقف الشيخ رشيد منها وأنه كان ـ وهو هنا أيضاً ـ موقف صحيح.   1 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 296 ـ 299) 2 الترمذي: ك: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فض من مات مرابطاً، ح: 1621، وقال: حسن صحيح (4/ 165) 3 انظر: الترمذي: السنن، ك: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل سورة الملك، ح: 2890 و2891 (5/ 164) ، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (7/ 127 ـ 128) ، وقال الترمذي: حسن غريب. 4 مجلة المنار (26/ 500) 5 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 375) 6 مجلة المنار (8/ 257) ، وانظر أيضاً: المصدر نفسه (5/ 946) ، وأيضاً (7/ 856) و (26/500) ، وانظر كذلك: تفسير المنار (4/ 233) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 الفصل الثاني: البعث وأدلته تمهيد ... تمهيد يدل على إمكان البعث ووقوعه النقل والعقل والفطرة، وقبل أن نتعرض لمنهج الشيخ رشيد في هذه المسألة، نقف هنا أيضاً ونرى مخالفته للمتكلمين الذين يقولون: إن العلم والدليل على البعث لا يكون إلا سمعياً 1، ويرد عليهم الشيخ رشيد بقوله: "كان الذين ألفوا كتب الكلام على طريق فلسفة اليونان النظرية يرون أن الدليل على البعث لا يكون إلا سمعياً إذ لا يمكن عندهم أن يستدل العقل بأدلة علمية، ولم يفهم هؤلاء قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 2، وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 3، وغيرها من الآيات ... " 4. ونقف عند هذه الملاحظة لأنها فرق بين طريقين في إثبات المعاد، الأولى طريقة القرآن الذي بيّن إمكان المعاد أتم بيان، وبين طريقة المتكلمين الذين يعتمدون في إثبات المعاد على السمع مع عدم الامتناع العقلي، وإثبات المعاد بناء على إمكانه الذهني فقط؛ أي أنه ممكن لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال 5. الحق أن الإمكان الذهني حقيقته عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجي، وأما القرآن، فلم يكتف في بيان إمكان المعاد بمجرد الإمكان   1 انظر: ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 212) 2 سورة العراف، الآية (29) 3 سورة الأنبياء، الآية (104) 4 مجلة المنار (14/ 155) 5 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 الذهني، بل بين الأدلة التي تؤكد ـ يقيناً ـ وقوع المعاد فعلاً وهو الإمكان الخارجي في الواقع، ولما كان الشيء يعلم إمكانه الخارجي: تارة بعلمه بوجود الشيء نفسه، وتارة بعلمه بوجود نظيره، وتارة بعلمه بوجود ما الشيء أولى بالوجود منه، ثم يعلم مع ذلك قدرة الرب عليه، وإلا مجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه، إن لم يعلم قدرة الرب عليه. وقد بين القرآن الكريم هذا كله 1، وهو ما أشار إليه الشيخ رشيد في النص السابق ـ إجمالاًـ وفصله كما يلي تفصيلاً.   1 المصدر نفسه (1/ 31 ـ 32) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 المبحث الأول: أدلة البعث المطلب الأول: النشأة الأولى ... بعدما رفض رشيد رضا طريقة المتكلمين في الاستدلال على البعث اتبع طريق القرآن وسار على نهجه في بيان أدلة البعث، كما يلي: المطلب الأول: النشأة الأولى: هذا الدليل من أدلة الكتاب العزيز العقلية على وقوع البعث، وقد كرر في القرآن ذكر هذا الدليل، قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 1. قال الشيخ رشيد: "هذا تذكير بالبعث والجزاء على الأعمال ... وهذه الجملة من أبلغ الكلام الموجز المعجز فإنها دعوى متضمنة للدليل بتشبيه الإعادة بالبدء، فهو يقول: {كَمَا بَدَأَكُمْ} ربكم خلقاً وتكويناً بقدرته {عُودُونَ} إليه يوم القيامة ... " 2. وقال في موضع آخر معلقاً على نفس الآية: " ... وفيه دليل على إمكان البعث لأنه كالبدء أو أهون على المبدئ بداهة، فكيف وهو القادر على كل شيء بدءاً وإعادة على سواء ... " 3.   1 سورة الأعراف، الآية (30) 2 تفسير المنار (9/ 375 ـ 376) 3 المصدر نفسه (9/ 567) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 وأشار الشيخ رشيد كذلك إلى خاتمة سورة يس، وهي قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ... } 1 إذ أنه استدلال بنفس الدليل، وكما يقول الشيخ رشيد: "بأسلوب المناظرة والاستدلال" 2. كما أشار أيضاً إلى نفس الدليل في فاتحة سورة (ق) قال: "وفي فاتحة سورة (ق) ومن الرد عليهم في أثنائها {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} 3 ... " 4. وهذا الدليل الذي استدل به الشيخ رشيد هو من أدلة القرآن العقلية، وقد استدل به الشيخ رشيد على وجهه الصحيح، وتقرير هذا الاستدلال على آيات سورة يس مثلاً، وهو قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 5 وهو في صورة قضية منطقية عقلية هكذا: هذه العظام رميم ولا أحد يحيي العظام وهي رميم، فلا أحد يحيي هذه العظام. ولكن هذه القضية الأخيرة السالبة كاذبة، لأن مضمونها امتناع الإحياء، فبين سبحانه إمكانه من وجوه ببيان إمكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه فقال: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقد أنشأها من تراب. ثم استدل بعد ذلك بخلقه لما هو أولى وأكبر من خلق الإنسان. وهو خلق السماوات والأرض، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} 6. فهذان دليلان في الحقيقة، الأول: خلق المثل، والثاني: خلق ما هو أكبر وأعظم. وقد أشار الشيخ رشيد إلى هذا الاستدلال من سورة يس، التي "تكرر فيها ذكر الحشر والبعث والجزاء بأسلوب المناظرة   1 سورة يس، الآية (78) 2 تفسير المنار (8/ 284) 3 سورة ق، الآية (15) 4 تفسير المنار (8/ 284) 5 سورة يس، الآية (79) 6 سورة يس، الآية (81) ، وانظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 والاستدلال ... " 1، وأشار أيضاً في موضع آخر إلى أن إنكار البعث سببه: " ... جهل وغفلة من قوم يؤمنون بأن الله تعالى هو الذي بدأ هذا الخلق وبأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه قادر على كل شيء" 2. قال الشيخ رشيد: "وهذا برهان جليّ كرر في القرآن مراراً" 3. ولكن "يظن الذين اعتادوا تلقي العقائد من طريق النظريات الجدلية أن هذه دعاوى غير برهانية" 4.   1 تفسير المنار (8/ 284) 2 المصدر نفسه (8/ 283 ـ 284) 3 المصدر نفسه (8/ 117) 4 المصدر نفسه (8/ 283) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 المطلب الثاني: الاستدلال على البعث بالخلق : ومن الأدلة أيضاً التي قررها الشيخ رشيد الاستدلال بالخلق على البعث، فعند قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} 5 قال: "أما معنى كون هذا الخلق لا يكون باطلاً فهو أن هذا الإبداع في الخلق، والإتقان للصنع، لا يمكن أن يكون من العبث والباطل، ولا يمكن أن يفعله الحكيم العليم لهذه الحياة الفانية فقط، كما أن الإنسان الذي أوتي العقل الذي يفهم هذه الحكم، ودقائق هذا الصنع ... لا يمكن أن يكون وجد ليعيش قليلاً ثم يذهب سدى ويتلاشى فيكون باطلاً، بل لا بد أن يكون باستعداده الذي لا نهاية له قد خلق ليحيا حياة لا نهاية لها، وهي الحياة الآخرة، التي يرى كل عامل فيها جزاء عمله ... " 6. ومن أحسن الأساليب التي بيّن الله بها في القرآن تقرير عقيدة البعث وتثبيتها كما يقول الشيخ رشيد: "التذكير بها في القرآن بالأساليب العجيبة   5 سورة آل عمران، الآية (191) 6 تفسير المنار (4/ 300) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 التي فيها من حسن البيان وتقريب البعيد من الأذهان تارة بالحجة والبرهان وتارة بضرب الأمثال ... تأمل ذلك في سور المفصل، ترَ تكرار الكلام على البعث والجزاء فيها بما لا يخطر على بال بشر ... ومن أبدع الأساليب المكررة الجامعة وأروعها: المحاجة في النار بين الأتباع والمتبوعين والغاوين والمغوين والضالين والمضلين من شياطين الإنس والجن، وبراءة بعضهم من بعض، ومنه التنادي والتحاور بين أهل الجنة وأهل النار ... " 1. والاستدلال بالخلق على البعث هو من الاستدلال بالأعلى على الأدنى، وهو طريق الأولى: كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} 2.   1 الوحي المحمدي (ص: 178ـ 179) 2 سورة غافر، الآية (57) ، وانظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 المطلب الثالث: المشاهدة : هذا الدليل فيه الاستدلال بأمور مشاهدة: منها: إخراج النبات من الأرض الميتة، ومنها: الاستدلال على البعث بعد الموت، بالنوم واليقظة. فعن الأول يقول الشيخ رشيد: "تشبيه إخراج الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة بعد إنزال المطر عليها وهذا التشبيه يتضمن البرهان الواضح على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى بعد فناء أجسادهم ... " 3. وعند قوله تعالى: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 4 قال: "أي مثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من البشر وغيرهم، فالقادر على هذا قادر على ذاك ... " 5. ثم يبين وجه الشبه فيقول: "فوجه الشبه في الآية هو إخراج الحي من الميت والحي في   3 تفسير المنار (9/ 567) 4 سورة الأعراف، الآية (57) 5 تفسير المنار (8/ 470) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 عرفهم يعرف بالنماء والتغذي كالنبات، وبالحس والتحرك بالإرادة كالحيوان ... " 1. وأما المثال الثاني المشاهد ـ الذي بيّنه الله تعالى ـ وقرره الشيخ رشيد فهو الاستدلال بالنوم واليقظة على البعث بعد الموت. فيقول الشيخ رشيد: " ... على أن القرآن استدل على البعث بالنوم واليقظة ... " 2. وعند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ... } 3 قال الشيخ رشيد: " ... وفيه تنبيه على أن القادر على البعث من توفي النوم قادر على البعث من توفي الموت ... " 4.   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 المصدر نفسه (7/ 297) 3 سورة الأنعام، الآية (60) 4 تفسير المنار (7/ 480) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 المطلب الرابع: قدرة الله تعالى : فإذا دلت الشواهد السابقة على الإمكان الخارجي لوقوع البعث، فإن قدرة الله تعالى المشاهد آثارها تؤكد هذا الوقوع. يقول الشيخ رشيد معلقاً على قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 5 "بلى، إن الكيماوي يحلل بعض الأجسام المركبة، ويرجعها إلى عناصرها البسيطة فتراها قد فنيت وتلاشت ثم يعيدها إلى شكلها الأول فتراها خلقاً جديداً. هذا والكيماوي رجل مثلك يشكو الجهل والضعف {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} 6 أفرأيت الحي الذي استمد الحياة منه كل الأحياء، القيوم الذي قامت بقدرته الأرض والسماء. يعجز عن   5 سورة القيامة، الآية (40) 6 سورة الإسراء، الآية (85) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 فعل ذلك بك وهو الفعال لما يريد؟ ... " 1. ويقول في موضع آخر: "كما أن القادر على الإحياء بعد لبث مائة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى ألوفاً من السنين، هكذا يشبه بعض أفعاله بعضاً" 2. وهذا استدلال أيضاً بالمشاهدة وبما وقع من إحياء بعض الموتى في الدنيا على إحياء الجميع يوم القيامة 3. فلقد نهج الشيخ رشيد منهجاً معارضاً لمنهج المتكلمين الذين يستدلون على البعث بمجرد خبر الشرع ظانين أنه لا يدل عليه العقل، ويستدلون على إمكانه بمجرد الإمكان الذهني المبني على عدم وجود المانع.   1 مجلة المنار (4/ 722) 2 تفسير المنار (3/ 52) وانظر أيضاً: مجلة المنار (4/ 725) 3 هذا المعنى من تعليق فضيلة أستاذي الدكتور محمد باكريم على هذا الموضع من كلام رشيد رضا، وقد نقلته من خطه وبلفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 المبحث الثاني: البعث يكون بالجسد والروح : وقرر الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ مذهب السلف في الإيمان بالبعث، فقد ذهب أهل السنة إلى أن المعاد يكون بالروح والجسد معاً، لما دلت عليه النصوص الكثيرة الثابتة في الكتاب والسنة. فمن القرآن، قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 1، وفي الحديث: "ما بين النفختين أربعون، ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، ومنه يركب الخلق" 2، فهذا كله إشارة إلى أن ذرات الإنسان لا تفنى أبداً، وإنما تتفرق أجزاؤه في الأرض، ويبقى منه جزء لا يفنى ولا يتفرق، وبذلك تكون الإعادة، وهي عبارة عن جمع المتفرق. فالبعث لا يتحقق إلا بقيام الموتى من قبورهم بأجسادهم التي أطاعوا بها أو عصوا في الدنيا حتى يتحقق العدل الإلهي بإثابة المطيعين وتعذيب العاصين. ولقد قرر الشيخ رشيد هذا المذهب ـ البعث بالجسد والروح جميعاً ـ فقال: "ومما جاء به القرآن مخالفاً لما عند النصارى من عقيدة البعث والجزاء أن الإنسان في الحياة الآخرة يكون إنساناً كما كان في الدنيا، إلا أن أصحاب   1 سورة طه، الآية (55) 2 البخاري، الصحيح، ك: التفسير، باب: ونفخ في الصور، ح: 4814 (8/ 414) مع الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 الأنفس الزكية والأرواح العالية، يكونون أكمل أرواحاً وأجساداً مما كانوا بتزكية أنفسهم في الدنيا.. ولو كان البعث للأرواح وحدها لنقص من ملكوت الله تعالى هذا النوع الكريم المكرم من الخلق المؤلف من روح وجسد، فهو يدرك اللذات الروحية والجسمية، ويتحقق بحِكَم الله (جمع حكمة) وأسرار صنعه فيها معاً، من حيث حرم النبات والحيوان من الأولى، والملائكة من الثانية ... " 1. ولكن الشيخ رشيد ـ مع قوله بحشر الروح والجسد جميعاً ـ يرى أن الجسد المبعوث لا يجب أن يكون هو الذي كانت الأعمال التكليفية به، فيقول: "ليس للكفار شبهة قوية على أصل البعث ... ولكن للمتقدمين والمتأخرين شبهة على حشر الأجساد ترد على ظاهر قول جمهور المسلمين: أن كل أحد يحشر بجسده الذي كان عليه في الدنيا أو عند الموت لكي يقع الجزاء بعده على البدن الذي اقترف الأعمال. وتقرير هذا الإيراد أن هذه الأجساد مركبة من العناصر المؤلفة منها مادة الكون كله وهي مشتركة يعرض لها التحليل والتركيب فتدخل الطائفة منها في عدة أبدان على التعاقب فمن الإنسان والحيوان ما تأكله الحيتان أو الوحوش ومنها ما يحرق فيذهب بعض أجزائه في الهواء ... وينحل ما يدفن في الأرض فيها ثم يتغذى بكل منهما النبات الذي يأكله بعض الناس والأنعام فيكون جزءاً من أجسادهم، ويأكل الناس من لحوم الحيتان والأنعام التي تغذت من أجساد الناس بالذات أو بالواسطة، فلا يخلص لشخص معين جسد خاص به ... " 2. وبعد أو أورد الشيخ رشيد هذه الشبهة ذكر ما أجاب به عنها بعض العلماء بأن للجسد أجزاء أصلية وأجزاء فضلية والذي يعاد بعينه هو الأصلي دون الفضلي. ولكن الشيخ رشيد لم يرض بهذا الجواب لأنه لا يدفع الشبهة 3. والذي اختاره هو: "أن التزام القول بوجوب حشر الأجساد التي كانت لكل حي بأعيانها لأجل وقوع الجزاء عليها غير لازم لتحقيق العدل، فجميع قضاة العالم   1 الوحي المحمدي (ص: 179) 2 تفسير المنار (8/ 472) 3 المصدر نفسه (8/ 473 و746) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 المدني في هذا العصر يعتقدون أن أبدان البشر تتجدد في سنين قليلة ولا يوجد أحد منهم ولا من غيرهم من العقلاء يقول إن العقاب يسقط على الجاني بانحلال أجزاء بدنه التي زاول بها الجناية وتبدل غيرها بها، فما لم يكن عندنا نص صريح من القرآن أو الحديث المتواتر على بعث الأجساد بأعيانها فما نحن بملزمين قبول الإيراد وتكلف دفعه، فإن حقيقة الإنسان لا تتغير بهذا التبدل فقد تبدلت أجسادنا مراراً ولم تتبدل بها حقيقتنا ولا مداركنا، ولا تأثير الأعمال التي زاولناها قبل التبدل في أنفسنا، بل لم يكن هذا التبدل إلا كتبدل الثياب ... " 1. هذا ما أجاب به الشيخ رشيد على هذه الشبهة، ولدينا جواب آخر وهو الصحيح، وخلاصته: أن قدرة الله تعالى لا يعجزها جمع ما تفرق في الأرض والسماء من أجساد الناس، كما قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} 2 أي: ما تأكل من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم 3، فالقدرة والعلم هما الحجة في هذه المسألة.   1 تفسير المنار (8/ 4473) وانظر أيضاً: مجلة المنار (7/ 413) 2 سورة ق، الآية (4) 3 انظر: ابن كثير: التفسير (4/ 223) وانظر: د. محمد علي ناصر فقيهي: منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان (ص: 297) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 الفصل الثالث: الساعة وأشراطها تمهيد ... تمهيد لقد أخبر الله تعالى "بقيام الساعة" ولكنه استأثر بعلم وقت قيامها، إلا أنه تعالى من رحمته جعل لنا علامات نعرف بها قرب وقوعها وقيامها، فينتبه الغافل ويجد المتكاسل ويزيد العامل. وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} 1. ولقد تحدث رشيد رضا عن الساعة فعرفها، وبين أن الله تعالى استأثر بعلم وقتها {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} 2 ورد كل محاولة لكسر هذا الحجاب، ولكنه غلا في ذلك حتى أنكر أشراطها لأنه ـ حسب رأيه ـ يؤدي إلى معرفة وقتها وذهاب الحكمة من إخفائه، وفيما يلي تفصيل ذلك.   1 سورة طه، الآية (15) 2 سورة الأعراف، الآية (187) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 المبحث الأول: الساعة المطلب الأول: تعريف الساعة لغة واصطلاحاً وشرعاً ... المطلب الأول: تعريف الساعة لغة واصطلاحاً وشرعاً: عرف رشيد رضا الساعة لغة واصطلاحاً وشرعاً، فقال: "الساعة في اللغة جزء قليل غير معين من الزمان، وتسمى ساعة زمانية، ومنه قوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} 1، وفي اصطلاح الفلكيين: جزء من أربعة وعشرين جزءاً متساوية من اليوم والليلة.." 2. وأما الساعة الشرعية فيشير رشيد رضا إلى أنها تأتي في القرآن معرفة بأل العهد بخلاف الساعة الزمانية التي تكون فيه منكرة، والشرعية هي:"ساعة خراب هذا العالم وموت أهل الأرض.." 3. وقد جمع الله في آية بين الساعة الشرعية والساعة الزمانية في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} 4.   1 سورة الأعراف، الآية (34) 2 تفسير المنار (9/ 461) 3 المصدر نفسه (9/462) 4 سورة الروم، الآية (55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 الفرق بين الساعة والقيامة في القرآن: ويلاحظ رشيد رضا الفرق بين استعمال القرآن وتعبيره بالقيامة والساعة، فيقول: " الغالب في استعمال القرآن التعبير بيوم القيامة عن البعث والحشر الذي يكون بعد الموت الذي يكون فيه الحساب وما يتلوه ... والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء في هذا العالم ويضطرب نظامه ويخرب بما يكون فيه من الأهوال يتلو بعضها بعضاً، فالساعة هي المبدأ والقيامة هي الغاية، ففي الأولى الموت والهلاك، وفي الآخرة البعث والجزاء، وبعض التعبيرات في كل منها يحتمل حلوله محل الآخر في الغالب، وفي المعنى المشترك الذي يعم المبدأ والغاية.." 1. وقال أيضاً: "وحيث يذكر قيام الساعة كآيات سورة الروم الثلاثة 2، وآية غافر: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 3، فالمتبادر منه غايتها يوم البعث والحساب والجزاء.. وحيث يذكر التكذيب بها أو المماراة فيها فالمراد المعنى العام لكل ما وعد الله به، وأوعد من أمر مبدئها وغايتها، وحيث يذكر اقتراب الساعة أو مجيئها وإثباتها ولا سيما إذا قرن ببغتة فالمتبادر منه مبدأ القيامة وخراب العالم الذي نعيش فيه ومن هذا القبيل السؤال عنها فإن السؤال يكون عن أول الأمر المنتظر.." 4.   1 تفسير المنار (9/ 462ـ 463) 2 يعني قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} الآية: 12، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} الآية: 14، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} الآية: 55. 3 الآية: (46) 4 تفسير المنار (9/ 464) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 المطلب الثاني: علم الساعة : دل الكتاب والسنة على أن الله تعالى استأثر بعلم وقت الساعة فلا يعلم أحد متى الساعة إلا الله وحده، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. قال الشيخ رشيد: "قل أيها النذير إن علم الساعة عند ربي وحده ليس عندي ولا عند غيري من الخلق شيء منه ـ وهذا ما يدل عليه لفظ "إنما" من الحصر، كما قال تعالى في الآية التي فسر بها النبي صلى الله عليه وسلم مفاتح الغيب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} 2، أي عنده لا عند أحد سواه، ومثله قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} الآية 3، أي يرد إليه وحده لا إلى غيره، وأشبه الآيات الدالة على استئثار علم الله تعالى بالساعة بآية الأعراف؛ آيتان: آية الأحزاب 4.. وآية أواخر النازعات وما بعدها: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا، إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} 5، أي: إلى ربك وحده من دونك ودون سائر خلقه منتهى أمر الساعة الذي يسألونك عنه.." 6. وأما ما ورد من قرب الساعة فهو حق مقتبس من القرآن ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ ويستشهد بآيات، كقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} 7، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} 8، قال: " وفي التعبير عن قربه بلعل وعسى ما يناسب عدم إطلاع الله لرسوله على وقته. ولا شك أن قرب ذلك اليوم الذي مقداره من مبدئه إلى غايته خمسون ألف سنة مناسب له، ولما تقدم من عمر الدنيا وما بقي منه، والقرب والبعد من الأمور   1 سورة الأعراف: الآية (187) 2 سورة لقمان، الآية (34) 3 سورة فصلت، الآية (47) 4 يعني قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} الآية (63) . 5 سورة النازعات، الآيات (43 ـ 46) 6 تفسير المنار (9/ 465) 7 سورة الشورى، الآية (17) 8 سورة الإسراء: الآية (51) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832 النسبية والمراد قربها بالنسبة إلى ما مضى من عمر الدنيا ولا يعلمه إلا الله تعالى ... " 1. ورغم حسم الكتاب العزيز لهذا الأمر ـ مسألة وقت قيام الساعة ـ إلا أن اليأس من ذلك لم يتمكن من البعض، فقد حاول بعضهم تحديد عمر الدنيا بناء على ظنون وأوهام 2، فما هو موقف الشيخ رشيد من هؤلاء؟ رد الشيخ رشيد بشدة هذه المحاولات لأنها تكذيب لآيات القرآن الناطقة بأن الساعة من علم الغيب. قال: " وما جاء في الآثار من أن عمر الدنيا سبعة آلاف سن مأخوذ من الإسرائيليات التي كان يبثها زنادقة اليهود والفرس في المسلمين حتى رووه مرفوعاً، وقد اغتر بها من لا ينظر في نقد الروايات إلا من جهة أسانيدها حتى استنبط بعضهم منها ما بقي من عمر الدنيا، وللجلال السيوطي 3، في هذا رسالة في ذلك قد هدمها عليه الزمان، كما هدم أمثالها من التخرصات والأوهام.." 4. ونقل عن الآلوسي قوله: "وأخرج الجلال عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وذكر أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة.، وإذا لم يظهر المهدي على رأس المائة التي نحن فيها ينهدم جميع ما بناه فيها كما لا يخفى.." ثم قال الشيخ رشيد معلقاً: "وقد مضت المائة التي كان فيها مؤلفه برأسها وذنبها وهي المائة الثالثة عشرة من الهجرة ثم مضى زهاء نصف المائة التي بعدها وهي الرابعة عشرة إذ نكتب هذا البحث في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف، ولم يظهر   1 تفسير المنار (9/4470) 2 آخر هذه المحاولات كتاب: "عمر أمة الإسلام وقرب ظهور المهدي عليه السلام" لمؤلفه: أمين محمد جمال، وأتى فيه بالعجائب. ط. مكتبة المجلد العربي، مصر، الرابعة، 1417هـ =1997م. 3 هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، إمام حافظ مؤرخ أديب، له نحو 600 مصنف، انظر: الزركلي: الأعلام (3/301 ـ 302) 4 تفسير المنار (9/470) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 833 المهدي، فانهدم ولله الحمد ما بناه السيوطي عفا الله تعالى عنه من الأوهام التي جمعها كحاطب ليل.." 1. ثم نقل الشيخ رشيد عن الحافظ ابن حجر في الفتح نقلاً طويلاً في مسألة عمر الدنيا 2 ثم قال:"وأقول هذا كلام المحققين، فالذين حاولوا تحديد عمر الدنيا ومعرفة وقت قيام الساعة إرضاء لشهوة الإتيان بما يهم جميع الناس لم يشعروا بأنهم يحاولون تكذيب آيات القرآن الكثيرة الناطقة بأن الساعة من علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به، وأنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.." 3. وهذا الموقف السديد من الشيخ رشيد في مسألة علم وقت الساعة وعمر الدنيا يحمد له، لا ريب، ولكن الشيخ رشيد تجاوز هذا الموقف وامتد به الحبل إلى أن اتخذ موقفاً غير سديد من "أشراط الساعة" المروية بالأحاديث الصحيحة، امتداداً لموقفه من مسألة علم الساعة وعمر الدنيا، وردها بناء على نفس السبب وهو: عدم علم الساعة لأحد سوى الله تعالى. وهو ما نراه في المبحث التالي.   1 تفسير المنار (9/471) وانظر: السيوطي: الكشف في مجاوزة هذه الأمة الألف (ضمن الحاوي للفتاوي 2/86) 2 انظر: تفسير المنار (9/471ـ 4476) وقارن مع: ابن حجر: فتح الباري (11/ 350) وما بعدها. 3 تفسير المنار (9/ 482) . وقد سبق الطبريُّ السيوطيَّ في محاولة تحديد عمر الدنيا اعتماداً على روايات زائفة. انظر: فتح الباري (8/514) والطبري: التاريخ (1/ 10) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 834 المبحث الثاني: أشراط الساعة تمهيد ... المبحث الثاني: أشراط الساعة الأشراط العلامات، واحدها: شرط، بالتحريك، وبه سميت شرط السلطان، لأنهم يجعلون لأنفسهم علامات يعرفون بها 1، والمراد بالأشراط هنا العلامات التي يعقبها قيام الساعة. وقد مضى قريباً ذكر معنى الساعة لغة وشرعاً واصطلاحاً، والمراد بها هنا: القيامة 2. قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} 3. أي: أعلامها 4.وفي حديث جبريل المشهور 5، حيث سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة قال: أخبرني عن أماراتها، فقال صلى الله عليه وسلم "أن تلد الأمة ربتها 6، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان" وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة،   1 انظر: ابن الأثير: النهاية (2/ 460) ، مادة شرط، وابن منظور: لسان العرب (7/329ـ 330) مادة شرط. وانظر أيضاً: أبو عبيدة: مجاز القرآن (2/215) 2 راجع (ص:764) من هذا البحث. 3 سورة محمد، الآية (18) 4 انظر: الزجاج: معاني القرآن (5/11) وأبو عبيدة: مجاز القرآن (2/215) 5 سبق تخريجه، انظر: (ص:542) من هذا البحث 6 قال ابن الأثير: يعني أن الأمة تلد لسيدها ولداً فيكون لها كالمولى، لأنه في الحسب كأبيه، أرد أن السبي يكثر. انظر: النهاية (2 179) مادة ربب. وقيل غير ذلك. انظر: ابن حجر فتح الباري (1/149) ط. الريان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 دعوتها واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي به 1 وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً" 2 وأيضاً حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: "طلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات. فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم" 3. وهناك روايات أخرى كثيرة فيها ذكر هذه الأشراط. وقد أفردت بالتصانيف من السلف والخلف 4. ومذهب أهل السنة الإيمان بما ورد من هذه الأشراط بالروايات الصحيحة. قال أحمد: "ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: ... والإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التي جاءت فيه والإيمان بأن ذلك كائن، وأن عيسى بن مريم   1 أي: لا حاجة لي فيه، والأرب: الحاجة. انظر: ابن الأثير: النهاية (1/ 35) وما بعدها. مادة: أرب. 2 البخاري: ك: الفتن، باب: 25، ح: 7121 (13/ 88) مع الفتح. 3 مسلم: ك: الفتن، باب: في الآيات التي تكون قبل الساعة، ح: 39 (2901) (4/2225) 4 من تصانيف السلف: نعيم بن حماد: كتاب الفتن، مطبوع. وأبو عمرو الداني: السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها، مطبوع، ت: د. رضاء المباركفوري، دار العاصمة، الأولى 1416هـ=1995م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 ينزل فيقتله بباب لد ... "1. وبطريق الاستقراء يمكن تقسيم هذه الأشراط إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما وقع منها وانتهى، والثاني: ما وقع ولكنه لم يتم بعد ولم يستحكم، والثالث: ما لم يأت بعد. ويمكن أيضاً أن تقسم إلى كبرى، وهو ما كان قريباً من قيام الساعة، كخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، وطلوع الشمس من مغربها ... ألخ. وإلى صغرى: وهو ما يكون قبل ذلك ومنه ما ورد في حديث جبريل المشار إليه آنفاً وغيره 2.   1 انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (2/ 178) ، وانظر أيضاً: عبد الغني المقدسي: الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 189 ـ 192) ت: أحمد بن عطية الغامدي، ط. العلوم والحكم، الأولى، سنة 1414هـ، والموفق ابن قدامة: لمعة الاعتقاد (ص: 19) ت: بدر البدر، ط. دار ابن الأثير، الثانية، 1416هـ. 2 انظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 83 ـ 85) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 المطلب الأول: موقف الشيخ رشيد من أشراط الساعة جملة : لم يكن للشيخ رشيد بد من إثبات أشراط للساعة ـ جملة ـ لورود ذلك في القرآن الكريم، وبناءً عليه أثبتها فقال: "إن للساعة أشراطاً ثبتت في الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} 3". وعرف الشيخ رشيد الأشراط بقوله: "الأشراط جمع شَرَط بفتحتين، كأسباب جمع سبب، وهي العلامات والأمارات الدالة على قربها، وأعظمها بعثة خاتم النبيين ... لأن بعثته صلى الله عليه وسلم قد كمل بها الدين، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 4، ... وما بعد الكمال إلا الزوال ... " 5.   3 سورة محمد، الآية (18) 4 سورة المائدة، الآية (3) 5 تفسير المنار (9/ 483) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 والحق أنه لم يثبت الشيخ رشيد من علامات الساعة إلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما سوى ذلك من العلامات الصغرى والكبرى فلم يكن لها نصيب من القبول عند الشيخ رشيد. لقد ادعى أن روايات الفتن وأشراط الساعة مشكلة ومتعارضة. فأما الإشكال الذي أبداه على العلامات الصغرى، فهو أن ما ورد منها من الأمور المعتادة التي تقع بالتدريج لا يُذّكر بقيام الساعة ولا تحصل به الفائدة التي من أجلها أخبر الشارع بقرب قيام الساعة ـ يعني لأنها أصبحت من الأمور المعتادة المألوفة ـ 1. وأما الأشراط الكبرى الخارقة للعادة فوجه الإشكال فيها عند الشيخ رشيد أن العالم بها يكون في مأمن من قيام الساعة قبل وقوعها كلها فهو مانع أيضاً من حصول تلك الفائدة، فالمسلمون المنتظرون لها يعلمون أن لها أشراطاً تقع بالتدريج، فهم آمنون من مجيئها بغتة في كل زمن، وإنما ينتظرون قبلها ظهور الدجال والمهدي والمسيح عليه السلام ويأجوج ومأجوج، وهذا الاعتقاد لا يفيد الناس موعظة ولا خشية ولا استعدادً لذلك اليوم ولا لتلك الساعة، فما فائدة العلم به إذن؟ هذا ما قاله الشيخ رشيد رضا 2. وأريد هنا أن أرد على هاتين الشبهتين عند الشيخ رشيد، وذلك قبل أن أتناول تفصيل ما أورده في أشراط الساعة الكبرى ـ وقد خص منها بالذكرـ الدجال والمهدي، وطلوع الشمس من مغربها، وسوف أتحدث عن كل ذلك تفصيلاً إن شاء الله. فأقول أولاً: إن الشيخ رشيد تناقض هنا، فإنه: قد أثبت أشراطاً للساعة، وخص بالذكر منها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فما أورده من الإشكال في الأشراط الأخرى وارد على ما أثبته، ومهما كان جوابه فهو جوابنا. ثانياً: إنّ ما استشكله الشيخ رشيد غير مشكل، لأن ما أورده في الأشراط الصغرى من كونها أموراً صارت معتادة لا تذكر بالآخرة، ـ وهو   1 تفسير المنار (9/ 488) 2 المصدر نفسه (9/ 489) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 الحكمة من تقديم الأشراط ـ ليس صحيحاً على إطلاقه هذا، فإن من الناس من يوفقه الله تعالى للاعتبار، فإذا رأى من أشراط الساعة شيئاً مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم تنبه من غفلته وقام من رقدته، وأصلح من شأنه، لا يألو جهداً في التوبة ولا يتوانى في الحوبة، كالمريض إذا ظهر له قرب أجله فإنه يسارع في الإحسان، وينظر لنفسه وورثته وأصحاب الحقوق عنده، وينقطع عن الدنيا إلى الآخرة. ومنهم من طبع الله على قلبه وتمكنت منه الغفلة فهو على حد قوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1. وأما الأشراط الكبرى وخوف الشيخ رشيد أن تتعارض مع ما تقرر من عدم علم أحد بالساعة إلا الله تعالى، ومن أن العالم بهذه الأشراط يكون في مأمن من الساعة، فالجواب عنه أيضاً من وجوه: أحدها: أن يقال فيه ما قيل فيما قد سبق من صنفي الناس، فمنهم حي القلب، العالم الذي ينفعه ذلك، ومنهم دون ذلك. الثاني: أن الله تعالى ورسوله قد أخبرا مع وجود الأشراط وظهور العلامات أن الساعة لا تكون إلا بغتة، كما قال تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} 2، فالعلم بأشراطها لا يورث العلم بوقوعها، ومع أن السنة قد بينت أن الساعة تكون في آخر ساعة من يوم الجمعة، فلا تكون في يوم آخر ولا ساعة أخرى، إلا أنها كذلك قد بينت أنها لا تكون إلا فجأة. ومما يؤيد هذا الوجه اختلاف أهل العلم في بعض الأشراط والعلامات هل وقعت أم لا، كاختلافهم في الدخان 3، والمهدي هل هو عمر بن عبد العزيز أم   1 سورة هود، الآية (34) 2 سورة الأعراف، الآية (187) 3 انظر: أبا عمرو الداني: السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها، ت: رضاء الله المباركفوري (5/ 995 ـ 1002) مع التعليق. وأيضاً: (5/ 1003 ـ 1009) مع تعليق المحقق، وانظر: عمر سليمان الأشقر: اليوم الآخر: القيامة الصغرى (ص: 221) وما بعدها، دار النفائس، السادسة 1415هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 غيره؟ 1، والمقصود أن العلم بالأشراط ليس علماً بوقت الساعة، لأن الإخبار بها ـ أعني الأشراط ـ جاءت دون تحديد لوقت الظهور وأشخاص محددين، بل جاءت بصفات تحتمل وقد تقوى مع القرائن. فما خاف منه الشيخ رشيد لا يخيف. فهذا جواب سريع مختصر على ما أورده الشيخ رشيد على أشراط الساعة الصغرى والكبرى، إجمالاً، ثم أنتقل بعد ذلك لعرض رأيه في مسائل منها معينة، تناولها بمزيد البحث، وهي المهدي والدجال وطلوع الشمس من مغربها، ولنرى شبهات الشيخ رشيد، وأهم من ذلك معرفة من أين جاءه هذا المذهب.   1 انظر: أبا عمرو الداني: مرجع سابق (6/ 1073) وما بعدها مع تعليق المحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 المطلب الثاني: موقف رشيد رضا من أشراط الساعة تفصيلا ً: أولاً: الدجال: لقد أورد الشيخ رشيد على روايات الدجال إشكالات في المتن والسند، مجموعها خمسة، وخص حديث الجساسة بمزيد بحث في تسع نقاط 2. أما أحاديث الدجال فقال إنها مشكلة من وجوه: أولها ما استشكله آنفاً من كونها تنافي الحكمة في إنذار القرآن الناس بقرب قيام الساعة وإتيانها بغتة، وقد تقدم الرد على هذه الشبهة قبل قليل 3، وأزيد هنا أن هذه الحكمة المشار إليها ليست بنص الشرع، بل هي مما استنبطه أهل العلم واجتهدوا فيه 4، وهي لا تنافي حكماً أخرى لم يصلوا   2 تفسير المنار (9/ 490 ـ 491) وسيأتي ذكر حديث الجساسة. 3 انظر (ص:772) 4 من هؤلاء القرطبي: التذكرة (ص: 732) ، والحليمي: المنهاج (1/ 343) ، وابن حجر: فتح الباري (11/ 350) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 إليها، قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 1، فلا يصلح أن تعارض هذه الحكمة المستنبطة بالاجتهاد نصوص الكتاب والسنة. وأما الإشكال الثاني عند الشيخ رشيد فهو ـ كما يقول ـ: "ما ذكر فيها من الخوارق التي تضاهي أكبر الآيات التي أيد الله بها أولي العزم من المرسلين، أو تفوقها، وتعد شبهة عليها ... " 2. وللجواب على هذه الشبهة أقول: أولاً: قد سبق الكلام على معجزة الأنبياء، وبينت هناك أن المعجزة ليست وحدها السبيل لتصديق الرسل، بل يكون معها من القرائن ما يبين صدقهم، وبهذا فرقنا بين ما يكون مع الأنبياء من الخوارق وما يكون مع الأشقياء منها 3. ولا ريب أن الدجال من صنف هؤلاء الأشقياء، فلا يلتبس أمره على المؤمنين، لا سيما وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علامته، وأنه مكتوب بين عينيه "كافر" يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب 4، وأنه يدعي الألوهية، مع أنه أعور والله تعالى متصف بصفات الكمال والجمال والجلال، فليس بأعور 5. وثانياً: أن الدجال لم يدع النبوة فيلتبس أمره وإنما ادعى الألوهية، وهو منافٍ لبشريته وصفاته التي وصفه بها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتبس أمره والحمد لله 6. وأما الإشكال الثالث عند الشيخ رشيد في أحاديث الدجال، فهو أن ما   1 سورة الأنعام، الآية (149) 2 تفسير المنار (9/ 490) 3 انظر (ص:692) من هذا البحث. 4 انظر: أحمد: المسند (6/ 456 و 455و 459) ومسلم: الصحيح: ك: الفتن، ح: 103 (2933) [4/2248] 5 انظر: مسلم: الصحيح: ك: الفتن، باب ذكر الدجال، ح: 100 (169) (4/ 2247) 6 انظر: مسلم: الصحيح: ك: الفتن، ح: 113 (2938) (4/2256ـ 2257) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 841 عزي إليه من الخوارق مخالف لسنن الله تعالى في خلقه، وقد ثبت بنص القرآن أنه لا تبديل لسننه تعالى ولا تحويل 1، وقد سبق أن أثار الشيخ رشيد هذه المسألة عند الكلام على كرامات الأولياء، واستشهد بالآيات التي تصرح بهذا المعنى ـ ولا أدري من هو أول من دس هذا البلاء تحت معنى هذه الآيات، إن هذه الآيات لا تتحدث عن السنن الطبيعية والقوانين الكونية، وعدم حدوث التغيير والتبديل فيها، قال ابن تيمية في معنى الآيات: " والمقصود أن الله أخبر أن سننه لن تتبدل ولن تتحول، وسنته عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة" 2. ولو كان معنى الآية هو ما فهمه الشيخ رشيد لكان يرد مثل الذي استشكله على معجزات الأنبياء ـ صلى الله تعالى عليهم ـ، ومهما كان جوابه كان جوابنا لأنه لا يستطيع أن يفرق بينها في أصل التبديل والتحويل. فالمقصود من الآية بيان سنة الله تعالى في نصر الأنبياء ومن تبعهم، وخذلان أعدائهم ومن والاهم 3، وهذا المعنى الذي فهمه الشيخ رشيد مناقض لأكثر آيات القرآن التي تصف وقائع الأنبياء وغيرها من عجائب قدرة الله تعالى. وهناك جواب آخر على سبيل التنزل مع الشيخ على ما فهمه أن المعنى: من سنة الله تعالى أن يخلق أشياءً بأسباب لحكمة، وأشياء بلا أسباب لحكمة أخرى، ولن تجد لسنة الله تبديلاً 4. وأيضاً فإن وقت ظهور الدجال هو من مقدمات اليوم الآخر، وفيه تكثر الخوارق، وكان ينبغي للشيخ رشيد أن يطبق قاعدته الصحيحة في أمور الغيب والآخرة، وهي الإيمان بما ورد منها مع تفويض الكيفية 5.   1 تفسير المنار (9/ 490) 2 مجموع الفتاوى (13/ 23) 3 انظر: الشوكاني: فتح القدير (4/356) ط. البابي الحلبي، بمصر الثانية، 1383هـ 4 مجلة المنار (11/ 912) من رد لأحد العلماء على الشيخ رشيد. 5 لقد كرر الشيخ هذه القاعدة وقد سبق ذلك مراراً. انظر: مجلة المنار (10/ 289) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 842 الدعوى الأخيرة التي ادعاها الشيخ رشيد هي التعارض بين روايات الدجال، تعارضا يوجب تساقطهما 1، وقد ضرب أمثلة لهذا التعارض. منها؛ أعني في حديث الدجال: التردد في زمن ظهوره، فبينما تشير بعض الروايات إلى أنه يخرج بعد الملحمة وفتح القسطنطينية 2، تجوز بعض الروايات خروجه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كأحاديث ابن صياد 3. ويرى الشيخ رشيد تعارضاً بين الروايات فيما يتعلق بشخص الدجال، وهل هو ابن صياد أو غيره 4. وأيضاً التردد في مكانه: هل هو في بحر الشام ـ أي المتوسط ـ أو بحر اليمن ـ وهو في الجنوب ـ أو جهة المشرق؟ 5، وأيضاً؛ وفيما يتعلق بالفتن التي مع الدجال، هل هي حقيقية أو وهمية، فإنه يظهر من بعض الروايات أنها فتن حقيقية، ومع ذلك فقد ورد قوله صلى الله عليه وسلم: "هو أهون على الله من ذلك" 6. هذه أهم أوجه التعارض عند الشيخ رشيد والتي جعلته يشك في صدور أحاديث الدجال عن النبي صلى الله عليه وسلم مع رواية البخاري لها ـ والذي يشيد الشيخ رشيد دائماً بروايته ويشك فيما لا يخرجه منها ـ إلا أنه هنا لا يجعل لما يرويه منها كرامة. وأما سبب هذا التعارض عند الشيخ رشيد، هو أكبر من رد أحاديث الدجال، فهو:   1 تفسير المنار (9/ 490) 2 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الفتن، باب: 18، ح: 2920 (4/ 2238) عبد الباقي. 3 ابن صياد: اسمه صاف، من يهود المدينة، أسلم وتسمى بـ: "عبد الله". انظر: مسلم: الصحيح، ك: الفتن، ح: 94 (2929) (4/2243ـ 2244) 4 انظر: البخاري: الصحيح، ك: الاعتقاد، باب: من رأى النكير من النبي حجة، ح: 7355 (13/ 335) مع الفتح، ومسلم: ك: الفتن، باب ذكر ابن صياد، ح: 95 (2930) ، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 337) وما بعدها، وابن كثير: النهاية (1/60) 5 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الفتن، باب: قصة الجساسة، ح: 119 (2942) (4/ 2261) 6 انظر: البخاري الصحيح، ك: الفتن، باب: ذكر الدجال، ح: 7122 (13/ 96) مع الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 843 أولاً: أن أحاديث الأشراط ـ كأكثر الأحاديث ـ قد رويت بالمعنى، قال: "واتفق عليه العلماء" 1، ويدلل عليه باختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها، وكذلك بوجود الإدراج 2، وقد كرر الشيخ رشيد هذه الشبهة، وهي شبهة ترد على السنة جميعها، فتكون هي ـ ومسألة الكتابة ـ ساقين قامت عليهما دعوى رد السنة ودفع الثقة بها، وهو يأتي على كل أبواب الشريعة التي احتج فيها بالسنة لأنه يقال فيها ما يقال في غيرها، لذا يجب دفع هاتين الشبهتين دفعاً، وإقامة البراهين على بطلانهما، لتسلم السنة، وهو ما أرجو أن أكون أديته في الباب الأول 3. ثانياً: أرجع الشيخ رشيد الاختلاف والاضطراب في أحاديث الدجال إلى أن الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم صادق وغير صادق دون تمييز، ثم إنهم لم يكونوا يفرقون في أداء ما سمعوه، بين ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما سمعوه من غيره 4، قال: " ... وقد ثبت أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان يروي بعضهم عن بعض وعن التابعين حتى عن كعب الأحبار وأمثاله، والقاعدة عند أهل السنة أن جميع الصحابة عدول فلا يخل جهل اسم رواٍ منهم بصحة السند، وهي قاعدة أغلبية لا مطردة، فقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم منافقون ... " 5. ثم خرج من كل ذلك بتقعيد قاعدة عامة في طرح الأحاديث، فقال: "كل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية، أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق، أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية، فهو مظنة لما ذكرنا في هذه الشبهات، فمن صدق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالاً فالأصل فيها الصدق ومن ارتاب في كل شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو   1 تفسير المنار (9/ 506) 2 الإدراج: أن تزاد لفظة في متن الحديث من كلام الراوي، وقد يقع في السند. انظر: ابن الصلاح: المقدمة (ص: 125) ، وابن كثير: الباعث الحثيث (ص: 73) 3 انظر (ص:127) من هذا البحث. 4 تفسير المنار (9/ 506) 5 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 844 المشككين إشكالاً في متونها، فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية لاحتمال كونها من دسائس الإسرائيليات أو خطأ الرواية بالمعنى ... " 1. وأقول: لقد انتفع بهذه النصائح كل من جاء بعد الشيخ رشيد وأراد الطعن في السنة، فإنه قلد الشيخ رشيد في دعاويه ـ مع التوسع ـ وردد نفس الشبهات والطعون، ومن ذلك ما فعل أبو رية 2. وأكتفي هنا ببيان ما استشكله الشيخ رشيد في مسألة الدجال، تاركاً ما بقي من المسائل التي بحثت عند الحديث عن السنة وموقفه منها. إن أحاديث الدجال ليست مشكلة وليست متعارضة لتتساقط، وإنما هو احتجاج أهل الأهواء الذين قصر علمهم عن الاتساع، وعييت أذهانهم عن وجوهها فلم يجدوا شيئاً أهون عليهم من أن يقولوا: متناقضة فأبطلوها كلها 3. والدليل على ذلك: أن كل الذي استشكله الشيخ رشيد غير مشكل وكل ما زعم تعارضه غير متعارض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوحي إليه بصفات الدجال العامة، ولم يوح إليه شيء في شخصه وعينه، وكذلك زمنه ومكانه، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بكونه الدجال، وكان أيضاً لا يعلم زمن خروجه، ثم تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال ليس هو ابن صياد، وأنه يخرج زمن كذا وكذا، ومكانه كذا، فتبين له صلى الله عليه وسلم بعد التردد ما لم يكن يعلم، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} 4، وأما ابن صياد فليس هو الدجال الأكبر، وإنما هو دجال من الدجاجلة من أصحاب الأحوال الشيطانية وإلى ذلك ذهب جمع من العلماء 5.   1 تفسير المنار (9/ 507) 2 انظر: أبو رية: أضواء (ص: 181 ـ 182، و368) وأيضاً: (ص: 238 وص: 241 ـ 243) ، وانظر: (ص:119) من هذا البحث. 3 انظر: أبو عبيد القاسم بن سلام: الإيمان (ص: 40) 4 سورة النساء، الآية (113) 5 انظر: ابن كثير: النهاية (ص: 1/65) ، وابن حجر: فتح الباري (13/ 338) ، وابن تيمية: الفرقان (ص: 69) ط. مكتبة المعارف، الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 845 والذي يدل على صحة هذا الرأي حديث الجساسة الشهير، فعن فاطمة بنت قيس 1 ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت ـ وذكرت قصة تأيمها من زوجها ـ: "فلما انقضت عدتي، سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: "ليلزم كل إنسان، ثم قال: أتدرون لماذا جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجّال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر، حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب 2 السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة، أهلب كثيرة الشعر، لا يدرون ما قُبُله من دُبُرِه من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقال: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة، قالت: أيها القوم: انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير 3 فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمت لنا رجلاً؛ فرقنا منها أن تكون شيطانة. قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خَلْقاً، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم 4، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة، فلقينا دابة أهلب كثيرة الشعر لا يدرى ما قُبُله من   1 هي: إحدى المهاجرات ـ رضي الله تعالى عنها ـ وأخت الضحاك بن قيس، زوجها النبي (من زيد، وتوفيت في خلافة معاوية. السير (21/ 319) 2 أقرب: بضم الراء: سفن صغار تكون مع السفن الكبار، واحدها قارب، والجمع: قوارب وأقرب. النهاية (4/ 35) ، والنووي: شرح مسلم (18/ 81) 3 الدير: بيت يتعبد فيه الرهبان. الحموي: معجم البلدان (2/ 495) 4 اغتلم: هاج واضطرمت أمواجه. النهاية (3/ 382) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 846 دُبُره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً، وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة. قال: أخبروني عن نخل بيسان 1؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها: هل يثمر؟ قلنا له: نعم. قال: أما إنه يوشك أن لا يثمر. قال أخبروني: عن بحرية طبريّة 2؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء. قال: إن ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زغر 3؟ قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبي الأميين، ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب, قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها، وإن على كل نقب 4 منها ملائكة يحرسونها" قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته 5 في المنبر: "هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة ـ يعني المدينة ـ ألا هل كنت   1 بيسان: بفتح فسكون: مدينة بالأردن، بين حوران وفلسطين، توصف بكثرة النخل. الحموي: معجم البلدان (1/ 625) ، وقد رآها ياقوت وليس بها إلا نخلتان 2 طبرية: بحيرة في بلاد الشام على حدود سوريا حالياً. 3 زعر: قرية بمشارف الشام. ياقوت (3/161) معجم البلدان 4 النقب: الخرق في الجدار، جمعه أنقاب، المعجم الوسيط (2/943) ط. مطبعة مصر، 1380هـ 5 المخصرة: ما يتوكأ عليها كالعصا أو يشار بها في أثنا الخطبة والكلام. المعجم الوسيط (1/237) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 847 حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم "فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه، وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام، أو بحر اليمن، لا بل هو من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو وأومأ بيده إلى المشرق" 1. ولقد وجه الشيخ رشيد عدة سهام لهذا الحديث على وجه الخصوص في تسع نقاط. منها أنها رواية لم تتواتر مع توفر الدواعي لذلك، ولم يرضِ جواب الحافظ ابن حجر عن ذلك بأنه روي أيضاً عن أبي هريرة وعائشة وجابر ـ رضي الله عنهم ـ 2. ومهما يكن من شيء فإن التواتر ليس شرطاً في قبول الأحاديث، ولا يلزم من صدور الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر وفي حشد من الناس أن يروى ذلك متواتراً فها هي ذي خطبة حجة الوداع وكانت في أعظم حشد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلم تتواتر ولم ينقلها إلا عدد قليل من الصحابة 3. ولم يمتنع البخاري عن إخراج الحديث ـ كما زعم الشيخ رشيد 4 ـ وأين قال البخاري ذلك، وأين قال أنه خرج كل حديث صحيح؛ إن الذي صرح به البخاري عكس ذلك، إذ قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً وما تركت من الحديث أكثر"5. وفوق ذلك فقد نقل تواتر أحاديث الدجال 6.   1 مسلم: الصحيح، ك: الفتن، ح: 119 (2942) [4/2261] 2 انظر: تفسير المنار (9/ 492) ، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 340) 3 انظر: حمود بن عبد الله التويجري: إتحاف الجماعة (2/ 61) 4 تفسير المنار (9/ 492) 5 انظر: ابن حجر: هدي الساري (ص: 9) ، وانظر أيضاً: ابن الصلاح: المقدمة (ص: 30) مع شرح العراقي، وابن كثير: الباعث الحثيث (ص: 25) بشرح: أحمد شاكر، والقاسمي: قواعد التحديث (ص: 83) 6 انظر: الكتاني: نظم المتناثر (ص:146) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 848 لقد بلغ الشيخ رشيد مبلغاً بعيداً في رد هذا الحديث حتى يشم من كلامه تكذيب تميم الداري رضي الله عنه في روايته هذه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً من تصديق الكاذبين 1. وما كان للشيخ رشيد أن يقحم نفسه في هذا الميدان ويضع نفسه بين هؤلاء الفرسان، اللهم إلا أن تكون كلمات قرائه ومحبيه وأوصافهم المبالغ فيها، التي خلعوها عليه، كمحيي السنة وغيرها قد أثرت فيه وظن بذلك أنه يطاول السماء ويفاخر الشهب، وهو الذي قد أقر على نفسه بقصر باعه في هذا الميدان 2، كما أقر بذلك على شيخه 3. وأقول ـ وبكل أسى ـ لقد طاولت هذه الشبهة العقلية المتوهمة غير الشيخ رشيد وبناءً على نفس الحجة، ردت أحاديث أخرى وتؤولت لأن البحارة "قد مسحوا البحرين مسحاً، وجابوا سطحهما طولاً وعرضاً، وقاسوا مياههما عمقاً عمقاً، وعرفوا جزائرهما فرداً فرداً، فلو كانت في أحدهما جزيرة فيها دير أو قصر حبس فيه الدجال وله جساسة فيها تقابل الناس وتنقل إليه الأخبار لعرف ذلك كله كل الناس " 4. وما هكذا ترد الأحاديث، وما هكذا تورد يا سعد الإبل. فبناءً على شبهة مثل هذه ردت وتؤولت أحاديث يأجوج ومأجوج 5،   1 تفسير المنار (9/ 495) 2 مقدمة مفتاح كنوز السنة (ص: ق) 3 انظر: مجلة المنار (32/ 21) 4 انظر: تفسير المنار (9/ 494) 5 انظر: عبد الرزاق العباد: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي (ص: 247) وما بعدها. وابن سعدي: معاصر للشيخ رشيد، وبينهما رسائل متبادلة. انظر: مجلة المنار (29/ 143) ، وانظر أيضاً: د. محمد مصطفى الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي (1/ 28) ، وقد ترددت هذه الأفكار عند الكتاب العصريين، مثل أحمد أمين. انظر: ضحى الإسلام (3/ 244) وقد ردد نفس الاتهامات التي وجهها الشيخ رشيد للثقات مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وانظر: تفسير المنار (9/ 498) وأيضاً (9/ 502) وأنكره أيضاً محمد فريد وجدي: دائرة معارف القرن العشرين (8/788ـ 797) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 849 وبهذه الجرأة على الحديث والمحدثين ردت غيرها من الأحاديث، وطعن في الرواة حتى من الصحابة والتابعين، وربما كان ذلك كله رجع صدى لما ينشره الشيخ في مجلته الذائعة الصيت. ولا ريب أن تكذيب الرواة وتخطئتهم بغير بينة إنما هو شطط وتجاوز للمعقول، لا سيما إن كان الرواة هؤلاء مجمع على صدقهم وعدالتهم، وأمانتهم، كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك لا لشيء إلا لشبه واهية وحجج داحضة ليست بناهضة. وأما ما استشكله الشيخ رشيد فيما يتعلق بالفتن التي تكون مع الدجال، وهل هي حقيقية أو خيالية، وتعارض الروايات في ذلك ـ كما زعم ـ باعتبار الروايات التي تثبت أن معه جنة وناراً وأنهاراً وجبالاً خبزاً وماءاً، والروايات التي تصرح بأنه أهون على الله من ذلك. فالجواب عنه: أن معنى هذه الجملة أن الدجال أهون على الله من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضلاً للمؤمنين وتشكيكاً لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويرتاب الذين في قلوبهم مرض والكافرون لا أن قوله هو أهون على الله من ذلك أنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئاً من ذلك آية على صدقه 1. ومن ذلك كله يتبين أن ما استشكله الشيخ رشيد غير مشكل وما زعم أنه تعارض يوجب التساقط، غير متعارض، وبقي أن أقول إن الشيخ رشيد قفى ما ليس له به علم فاتهم المحدثين بالتكلف 2 وعدم التحري 3، وتكلم في الرواة بغير بينة وخطأ الثقات حتى اتهم الصحابة المتفق على عدالتهم بالغفلة لأنهم يروون عن الكذابين، بل اتهم تميماً الداري بالكذب 4، كل   1 انظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 99) 2 تفسير المنار (9/ 491 و493) 3 المصدر نفسه (9/ 492) فيفهم من قوله: " ... ويؤيده امتناع البخاري عن إخراجه في صحيحه لشدة تحريه" يعني حديث الجساسة ـ أن الإمام مسلم الذي أخرجه بطوله وغيره من الأئمة ليسوا متحرين!!. 4 انظر: تفسير المنار (9/ 506) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 850 ذلك من أجل شبهة في غير محلها، وأقل ما يوصف به موقف الشيخ رشيد من أحاديث الدجال بأنه موقف متسرع ومتكلف وغير مبرر. وبقي أن أقول إن هذا البلاء قد أتى للشيخ رشيد من جهة شيخه المتأثر بالفلسفة القديمة والحديثة، فهو الذي أطلق هذه البلية فقال: "إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح" 1. وفيما يتعلق بأشراط الساعة عموماً فإن الشيخ محمد عبده ـ كما يقول عنه الشيخ رشيد ـ كان لا يثق إلا بأقل القليل مما روي في الصحاح من أحاديث الفتن 2. ولقد حاول الشيخ رشيد الاعتذار عن هذا الموقف بأنه يدفع الشبهات عن الدين وتبرئة الرسول صلى الله عليه وسلم من كل طعن ويزيل الإشكالات والشبهات التي عند كثير من الناس لا سيما في عصره، ولكنه عذر ضعيف، فهو قد كان كمن يدفع عن نفسه طعان أعدائه بأن يطعن هو أيضاً في جسده 3. ثانياً: المهدي: يخرج في آخر الزمان رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤيد الله به الدين، يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً، تنعم الأمة في عهده نعمة عظيمة، ويعم السلام والرخاء 4، وقد يبن النبي صلى الله عليه وسلم أن اسم هذا الرجل يوافق اسم النبي صلى الله عليه وسلم أي "محمد بن عبد الله" 5، والمهدي لقبه، وقد تواترت   1 تفسير المنار (3/ 317) 2 المصدر نفسه (9/ 506) 3 انظر: مجلة المنار (28/ 475) وانظر أيضاً: تفسير المنار (1/ 10) فقد صرح فيه بأنه يراعي حال العصر في تفسيره. 4 انظر: ابن كثير: النهاية (1/27) ، والقرطبي: التذكرة (ص:701) ط. الريان، وابن القيم: المنار المنيف (ص: 139) ت: محمود مهدي الإستانبولي، والبرزنجي: الإشاعة (87ـ 90) ، وصديق حسن خان: الإذاعة (94) ط. دار المدني، جدة، 1406هـ 5 انظر: ابن كثير: النهاية (1/27) والبرزنجي (ص: 87) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 851 الأحاديث بهذا 1 وأجمع عليه أهل السنة 2. وفي زمن المهدي ينزل المسيح عليه السلام ويساعده في قتل الدجال، لعنه الله 3. ولم ينكر المهدي من المتقدمين أحد يعرف، وأول من نقل عنه الإنكار أو التردد: ابن خلدون 4 في مقدمته 5. والحق "أن ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم واقتحم قحماً لم يكن من رجالها وغلبه ما شغله من السياسة وأمور الدولة ... تهافت في هذا الفصل تهافتاً عجيباً وغلط فيه أغلاطاً واضحة ... إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين "الجرح مقدم على التعديل" ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً مما قال، وقد يكون قرأ وعرف ولكنه أراد تضعيف أحاديث المهدي، بما غلب عليه من الرأي السياسي في عصره ... " 6. ومن المحدَثين من أنكر المهدي وتكلم على الأحاديث المروية فيه،   1 نقل التواتر: أبو الحسن الآجري (ت: 363هـ) ، نقلاً عن القرطبي: التذكرة (ص: 701) ، وأثبته أيضاً: البرزنجي (ت: 1103هـ) الإشاعة (ص: 112) ، والسفاريني (ت: 1188هـ) : لوامع الأنوار (2/ 84) ، وصديق حسن خان (ت: 1307هـ) : الإذاعة (ص: 113) ، والكتاني: نظم = = المتناثر (ص: 144 ـ 145) ، وانظر أيضاً: السيوطي: العرف الوردي (2/ 57) ضمن الحاوي للفتاوي، وعبد المحسن العباد: عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر (ص: 171) ،وحمود بن عبد الله التويجري: إتحاف الجماعة (2/ 21) وما بعدها، ط. الأولى. 2 انظر: السفاريني: لوامع الأنوار (2/ 84) 3 انظر: القرطبي: التذكرة (ص: 699) ط. الريان. 4 هو: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مؤرخ مصنف، نشأ في تونس، ثم رحل إلى مصر، وتولى قضاء المالكية فيها، وتوفي بالقاهرة سنة 808هـ، رحمه الله. انظر: ابن العماد: شذرات الذهب (7/ 76 ـ 77) ، والزركلي: الأعلام (3/ 330) 5 المقدمة (1/ 574) ، وأما ما روي عن بعض السلف من قولهم: إن المهدي هو المسيح بن مريم، بناءً على حديث ضعيف. انظر: ابن القيم: المنار المنيف (ص: 139) ومن قال منهم: إنه عمر بن عبد العزيز [انظر: أبو عمرو الداني: السنن الواردة في الفتن (5/ 1073) ، وابن القيم: المنار المنيف (ص: 148) ] فإنه في الحقيقة إثبات لوجود المهدي واختلاف في شخصه. 6 أحمد شاكر: شرح المسند (5/ 197 ـ 198) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 852 وكلهم ليسوا من أهله، ويصح القول عليهم بمثل ما قيل في ابن خلدون، لأنهم أنكروا بناءً على دوافع سياسية غلبت عليهم 1. وقد كان الشيخ رشيد من المنكرين لخروج المهدي على الصفة التي وردت في السنة 2. ورد الأحاديث التي جاءت في ذلك بنفس الدعوى التي رد بها أحاديث الدجال، وهي دعوى تعارضها واضطرابها، ومن مظاهر هذا التعارض عند الشيخ رشيد، الاختلاف في اسم المهدي واسم أبيه، فهو عند أهل السنة محمد بن عبد الله وفي رواية أحمد بن عبد الله، وعند الشيعة الإمامية محمد بن الحسن العسكري 3، وعند الكيسانية 4 هو محمد بن الحنفية. ومن مظاهر الاختلاف أيضاً ـ عند الشيخ رشيد ـ الاختلاف في نسبه، فتشير بعض الروايات إلى أنه علوي فاطمي حسني، وفي بعضها أنه من ولد الحسين، كما أنه في بعض الأحاديث من ولد العباس. قال: "وأهل الرواية يتكلفون الجمع بين هذه الروايات وما يعارضها باحتمال أن يكون لكل من العباس والحسن والحسين فيه ولادة بعضها من جهة الأب وبعضها من جهة الأم ... " 5. ويرجع الشيخ رشيد هذا الاختلاف إلى أسباب سياسية وخلافات بين الشيعة والعباسيين أدت إلى وضع أحاديث المهدي ممثلاً بحديث ثوبان المرفوع في سنن ابن ماجه ولفظه: "يقتتل عند كنزكم هذا ثلاثة كلهم ابن   1 انظر: أحمد أمين: ضحى الإسلام (3/ 244) ، ومحمد فريد وجدي: دائرة معارف القرن العشرين (10/ 480) ، ومحمد رشيد رضا: تفسير المنار (10/ 393 ـ 394) 2 انظر: مجلة المنار (7/ 394 و4/ 6 ـ 7 و7/ 340 ـ 341 و7/ 145 ـ 146) 3 ولد سنة 256هـ وتوفي 275هـ، على أن وجوده مشكوك فيه. انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 131) ، والزركلي: الأعلام (6/ 80) . 4 الكيسانية: أتباع المختار ابن أبي عبيد الثقفي وينسبون إلى كيسان مولى علي ـ (ـ، وقيل إن كيسان لقب محمد بن الحنفية. انظر: الشهرستاني: الملل والنحل (1/ 145) ، والبغدادي: الفرق بين الفرق (ص: 38) 5 تفسير المنار (9/ 502) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 853 خليفة، ثم لا تصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونهم قتلاً لم يقتلهم قوم ـ ثم ذكر شيئاً لا أحفظه ـ فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي" 1. ومن الأسباب التي دفعت الشيخ رشيد إلى إنكار المهدي ورد أحاديثه ما يصرح هو به، إذ يقول: " ... وقد كان شيوع هذا بين المسلمين من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالى في كل وقت من إعلاء دينه وإقامة حجته، وحماية دعوته، وتنفيذ شريعته، وتعزيز سلطته، اتكالاً على أمور غيبية مستقبلة، لا تسقط عنهم فريضة حاضرة، ... إن أحاديث المهدي لا يصح منها شيء يحتج به، وأنها مع ذلك متعارضة متدافعة، وإن مصدرها نزعة سياسية شيعية معروفة، وللشيعة فيها خرافات مخالفة لأصول الدين ... " 2. وأيد الشيخ كلامه في رد أحاديث المهدي لاختلافها، بأن البخاري ومسلماً لم يعتدا بشيء منها، فأعرضا عن إخراجها 3، هذا هو كل ما اعتمد عليه الشيخ رشيد من الحجج في رده لأمر المهدي. وللجواب عن هذه الشبه أقول: أولاً: لا ينكر أن الوضع قد وقع في الحديث النبوي، فإنكاره إنكار لأمر محسوس، وكذلك فإن من أكبر أسباب الوضع في الحديث هو الخلافات السياسية، والفتن التي وقعت بين المسلمين 4. إلا أنه يكون أيضاً من إنكار المحسوس والمعلوم بالضرورة إنكار جهود علماء السنة رحمهم الله تعالى في مقاومة هذه الأحاديث الموضوعة وبيانها والكشف عن رواتها، وقد سلكوا في ذلك كل سبيل، وحيث أن المقام هنا لا يسمح ببيانها على وجه   1 انظر: ابن ماجه: السنن: ك: الفتن، باب خروج المهدي، ح: 4084 (4/ 1367) وصححه الحاكم: المستدرك (4/463ـ 464) ،والبوصيري: مصباح الزجاجة (2/314) وابن كثير: النهاية (1/55) 2 تفسير المنار (10/ 393ـ 394) 3 تفسير المنار (9/ 499) وردد نفس الشيء: أحمد أمين: ضحى الإسلام (3/ 237) 4 انظر في تفصيل ذلك: د. عمر حسن فلاته: الوضع في الحديث (1/ 173 ـ 306) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 854 التفصيل 1، إلا أنني يمكنني أن أقول: إن أئمة الحديث قد بينوا الصحيح من غيره، وصنفوا في الموضوعات، وسجلوها حتى تعرف فلا تشتبه على أحد، ووضعوا قانوناً في الرواية عن الثقات، وبينوا الضعفاء والمتروكين والمتهمين بالكذب، حتى لم يبق صاحب بدعة أو كذب إلا وأظهروا أمره فحفظ الله تعالى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بهم. ثم إن الوضع في الحديث لم يقتصر على باب دون باب، بل تعددت دوافعه فتعددت موضوعاته 2 ولا يدفعنا ذلك إذن إلى طرح الثقة بالروايات الصحيحة خوفاً من الوقوع فيما نحذر. فإذا كانت هناك روايات وضعت في المهدي تعصباً فإن ذلك لا يجعلنا نترك ما صح منها، فقد جاءت الروايات الصحيحة التي فيها ذكر المهدي وصفته واسمه واسم أبيه، فإذا عين إنسان شخصاً وقال: إنه المهدي دون أن يساعده على ذلك الدليل فهي من الدعاوى الباطلة المردودة، ولا يدفعنا ذلك إلى إنكار ما جاء في الصحيح من أمر المهدي 3. ثانياً: إن أحاديث المهدي الكثيرة التي ألف فيها مؤلفون وحكى تواترها جماعة، واعتقد موجبها أهل السنة والجماعة وغيرهم، تدل على حقيقة ثابتة بلا شك، ولا صلة البتة لهذه الحقيقة الثابتة عند أهل السنة بالعقيدة الشيعية، فإن ما يعتقده الشيعة على اختلاف فرقها من مهديين لا حقيقة له ولا أصل، بل هو شيء موهوم لا يقوم على ساق من الأدلة 4. ولذلك فإن الخلاف بين الشيعة والسنة في ذلك ليس خلافاً معتبراً فيه حقيقة الخلاف العلمي، بل خلاف بين الدليل والوهم، فلا يعارض بهذا.   1 انظر هذه الجهود: د. عمر حسن فلاته: المصدر السابق (3/ 329) ، وانظر أيضاً: د. محمد مصطفى الأعظمي: منهج النقد عن المحدثين (ص: 5 ـ 18) ، وأيضاً (ص: 40 ـ 42) ، ومصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع (ص: 90 ـ 102) 2 انظر: مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع (ص: 78) وما بعدها، ود. عمر حسن فلاته: الوضع في الحديث (1/ 173، 177) 3 انظر: ابن القيم: المنار المنيف (ص: 145 ـ 153) 4 انظر: الشيخ عبد المحسن العباد: عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر (ص: 221) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 855 ثالثاً: إنه ليس للمسلمين في أي زمن أن يتركوا ما أوجبه الله تعالى عليهم من نصرة الدين اتكالاً على ما جاء في أحاديث المهدي، ولو وقع ذلك منهم لكان خطأ يجب تصحيحه لهم، وإرشادهم إلى ما يجب عليهم من التصديق بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بها كلها، فتلك التي ترشد ـ مع آيات القرآن الكريم ـ إلى وجوب نصرة الله ورسوله والأخذ بأسباب القوة، والنصر، يجب الإيمان بها، كما يجب الإيمان بأن ظهور المهدي ما هو إلا حلقة في أواخر سلسلة طويلة ينصر الله به في زمنه دينه، ذلك الزمن الذي يستشري فيه الشر والظلم، وينزل فيه الدجال 1. ثم إنني أقول فوق ذلك: إن الأحاديث المروية في المهدي ترجع إلى عصور الإسلام الأولى، واعتقد ما جاء فيها المسلمون الأولون، في القرون المفضلة ومن بعدهم، وكانت عندهم هذه الأحاديث وهذا الاعتقاد، فلم يحل ذلك بين أخذهم بأسباب القوة والنصر فمكن الله تعالى لهم في الأرض، مع اعتقادهم بهذه العقيدة، وإنما ساء حال المسلمين أخيراً بسبب سوء اعتقادهم، وفشو البدع فيهم ومنها رد الأحاديث الصحيحة وحملها على غير وجهها والتكذيب بما ورد في الشرع بتأويله أو تضعيفه فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا ينكرون. وأما شبهة عدم ورود شيء من أحاديث المهدي في الصحيحين فقد سبق الكلام عليها 2، ومع ذلك ففي الصحيحين من ذكر المهدي أحاديث أذكر منها: أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري 3: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم". وفي   1 انظر: عبد المحسن العباد: الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي (ص: 133) 2 انظر (ص:781) من هذا البحث. 3 ك: أحاديث الأنبياء، باب: نزول عيسى، ح: 3449، ورواه أيضا: مسلم: الصحيح: ك: الإيمان، باب: تزول عيسى، ح: 244 (1/136) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 856 صحيح مسلم 1 عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" قال: "فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول: أميرهم: تعال صلِّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة". وفي رواية عن غير مسلم: "يقول أميرهم المهدي ... " الحديث 2، فهذه الرواية تدل على أن ذلك الأمير المشار إليه في رواية مسلم يقال له: المهدي. ولا محمل له ولأمثاله إلا المهدي 3. وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر كذلك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده عداً" قال الجريري 4 ـ أحد رواة الحديث ـ: "قلت لأبي نضرة 5 وأبي العلاء 6: أتريان أنه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا" 7. فهذه الأحاديث وإن لم يكن فيها ذكر اسم المهدي أو لقبه، إلا أنه لا محمل لها إلا عليه كما قال أهل العلم. أثر إنكار الشيخ رشيد لأحاديث المهدي: لقد كان لإنكار الشيخ رشيد لخروج المهدي أثر واسع، نظراً لانتشار   1 ك: الإيمان، باب: نزول عيسى بن مريم، ح: 247 (156) [1/ 137] 2 رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن جابر. انظر: ابن القيم: المنار المنيف (ص: 144) ، وانظر: الداني: السنن الواردة في الفتن (6/ 1236 ـ 1237) ، وانظر حاشية (6/ 1237) 3 انظر: صديق حسن خان: الإذاعة (ص:118) 4 هو أبو مسعود: سعيد بن إياس، محدث أهل البصرة، ثقة. انظر: ابن حجر: تهذيب التهذيب (4/ 5ـ 7) 5 هو: المنذر بن مالك بن قطعة، تابعي ثقة، توفي 108هـ. انظر: ابن حجر: المصدر السابق (10/ 302ـ 303) 6 هو: يزيد بن عبد الله الشخير، تابعي ثقة، توفي 108هـ. انظر: ابن حجر: المصدر السابق (11/ 341) 7 مسلم: الصحيح، ك: الفتن، ح: 67 (2913) [4/2234] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 857 مجلته "المنار" فقد تلقف ذلك منه كثيرون، فتأثروا به ورددوا دعاويه التي رددت عليه آنفاً. لقد ردد أحمد أمين 1، نفس الشبه التي ذكرها الشيخ رشيد 2، وكذلك أبو ريه 3، وابن محمود 4 وغيرهم. وورث تلامذة الشيخ رشيد فيما ورثوا منه هذه الأفكار في إنكار المهدي ورد الأحاديث بلا بينة بل بالتشهي، فقد وجد ـ من أنصار السنة تلامذة رشيد رضا ـ من ينكر المهدي، ويرد الأحاديث بنفس الطريقة التي اتبعها الشيخ رشيد 5. ثالثاً: نزول المسيح عليه السلام: ومما هو ثابت بالكتاب والسنة الصحيحة أن عيسى عليه السلام رفعه الله تعالى إلى السماء حياً عندما تكالبت عليه اليهود وأرادوا قتله، فهو حي في السماء، وسينزل إلى الدنيا قبل القيامة فيقتل الدجال، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ونزوله هذا ثابت بالكتاب وبالسنة المتواترة وإجماع المسلمين. فأما الكتاب، فقد قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} 6، والضمير في قوله {قَبْلَ مَوْتِهِ} عائد على عيسى عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة 7.   1 انظر: ضحى الإسلام: (3/ 235ـ 245) وقد ردد نفس شبهات صاحب المنار. 2 قارن مع رشيد رضا، مجلة المنار (7/ 394 و340ـ 341و7/ 145ـ 146) 3 أضواء (ص: 232 و 241ـ 243) 4 انظر: ابن محمود: "لا مهدي ينتظر" (ص: 3) وما بعدها. 5 ألف رئيس فرع الاسكندرية، وهو الأستاذ عبد المعطي محمود، كتاباً يرد فيه أحاديث المهدي، وقرظ له: الأستاذ بخاري عبده، موافقاً، وحكى لي فضيلة الشيخ محمد علي عبد الرحيم الرئيس السابق حكاية هذا المؤلف وذكر لي بعض من رد عليه. 6 سورة النساء، الآية (159) 7 انظر: الأقوال عند: الطبري (9/379 ـ 382) ، وقد رجح هذا الرأي واختاره الطبري: التفسير (9/386) ، وانظر: محمد خليل هراس: فصل المقال (ص: 18) ط. مكتبة السنة، الأولى، 1410هـ=1990م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 858 وقال تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 1، وقال: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} 2، فأشارت هاتان الآيتان إلى آيتين من آيات المسيح عليه السلام: الأولى: تكلمه في المهد، والثانية: تكلمه بعد نزوله قبل يوم القيامة وهو في حال الكهولة، وإلا فإن كلام الكهل في معتاد الأحوال أمر مألوف فلا وجه لعطفه على كلام الطفولة 3. وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ} 4، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بأنه خروج عيسى بن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة 5، أي: وإن عيسى لعلم للساعة تعلم بنزوله فلا تشكن فيها 6. وأما الأحاديث في نزوله صلى الله عليه وسلم فمتواترة 7، وعلى نزوله وقع إجماع المسلمين 8. ولقد أنكر الشيخ محمد عبده أحاديث النزول في آخر الزمان، وبنى إنكاره على طريقين: الأول: أنها أحاديث آحاد متعلقة بأمر اعتقادي والتي لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي الذي يورث اليقين 9. والطريق الثاني: التأويل، وقد   1 سورة آل عمران، الآية (46) 2 سورة المائدة، الآية (110) 3 انظر: ابن جرير: التفسير (6/ 420) ، والآلوسي: روح المعاني (4/ 179) ، وانظر أيضاً: محمد خليل هراس: الصدر السابق (ص: 20) 4 سورة الزخرف، الآية (61) 5 انظر: أحمد: المسند (4/ 328 ـ 329) ح: 2921، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. 6 انظر: محمد خليل هراس: فصل المقال (ص: 21) 7 انظر: صديق حسن خان: الإذاعة (ص: 160) ، والكتاني: نظم المتناثر (ص: 147) ، وأنور شاه الكشميري: التصريح بما تواتر في نزول المسيح. 8 نقل الإجماع: ابن عطية: المحرر الوجيز (3/ 105) ، والسفاريني: لوامع الأنوار (2/ 94) 9 تفسير المنار (3/ 317) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 859 تأول الشيخ محمد عبده نزول المسيح بغلبة روحه وسر رسالته على الناس وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم 1. فأما مسألة أحاديث الآحاد فقد سبق لي أن بينت ما فيها في الكلام على موقف الشيخ رشيد من السنة 2. ويضاف هنا أن أحاديث نزول المسيح متواترة كما بينت آنفاً، فهي تفيد اليقين الذي يطلبه الشيخ محمد عبده. وأما تأويله فحكايته كافية في رده، وهل غلبة روح المسيح هي التي سوف تكسر الصليب وتقتل الخنزير والدجال؟!؟ 3. وأما الشيخ رشيد فقد علق على قوله شيخه بقوله: "هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح، ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه" 4. إلا أنه عطف على ذلك مباشرة ـ وربما كان ذلك مجاملة لشيخه وحفظاً لماء وجهه ـ وجهاً يرد به أصحاب التأويل فقال: "ولأهل التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل ما يفهمه" 5، وربما لم يكن الشيخ محمد عبده يستطيع أن يصل إلى هذا المخرج، لولا أن إمكانات الشيخ رشيد الحديثية ساعدته، ومهما يكن من شيء، فإن هذه العبارة من الشيخ رشيد قد انطوت على أمرين سيئين: الأول: خدمته الجليلة لأهل التأويل وعلى رأسهم شيخه بهذه الفائدة وتجويز تأويلهم مستندين إليها. والثاني: وهو أشد الأمرين: زعمه أن أكثر الأحاديث قد رويت بالمعنى، وقد عرفت ما فيه عند مناقشة موقفه من السنة 6. وأريد أن أتجاوز هذا الموضع إلى موضع آخر تكلم فيه الشيخ رشيد   1 المصدر نفسه والصفحة. 2 انظر (ص:119) من هذا البحث. 3 انظر: محمد خليل هراس: فصل المقال (ص: 58) 4 تفسير المنار (3/ 317) 5 المصدر نفسه والصفحة. 6 انظر (ص: 127) من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 860 عن نزول المسيح بعد وفاة شيخه. ففي المجلد الثامن والعشرين من مجلة المنار أجاب الشيخ رشيد عن سؤال حول موضوعنا، وتحدث عن نزول المسيح في القرآن وفي السنة، فماذا قال؟، لقد بدا الشيخ رشيد متردداً أيضاً، فقد قال إن القرآن "ليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام إلى الآن بثها في المسلمين، وممن حاول ذلك بإدخالها في التفسير وهب بن منبه الركن الثاني بعد كعب الأحبار ... " 1. وأما الأحاديث الكثيرة المتواترة في نزول المسيح، فيقول: عنها الشيخ رشيد: والأحاديث الواردة في نزوله عليه السلام كثيرة في الصحيحين والسنن وغيرها، وأكثرها واردة في أشراط الساعة، وممزوجة بأحاديث الدجال، وفي تلك الأشراط ولا سيما أحاديث الدجال والمهدي المنتظر اضطراب واختلاف وتعارض كثير" 2. ويقول: "وأما من اطلع على الأحاديث الواردة في نزوله وقتله للدجال، واعتقد صحتها فلا يسعه إلا أن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها بأعلام من الله تعالى لأنها ليست من الآراء الدنيوية التي يتكلم فيها الأنبياء كغيرهم بحسب الظن ... وحينئذ يجب عليه الأيمان بصدقه فيها، فإن أنكره ورده عالماً بصحته غير متأول لمدلوله؛ يكفر، والعياذ بالله تعالى.. " 3. هذا الحكم لو كان يعتقد صحتها غير متأول، كما تأول "الأستاذ الإمام" فقد أعاد الشيخ رشيد تأويله هنا فقال:"وقد ذكر "الأستاذ الإمام" أن بعضهم تأولها بأن روح المسيح ومقاصده التي جاء بها لإصلاح جمود اليهود على ظواهر الألفاظ.." 4، ثم كرر الشيخ رشيد ما قاله هناك من أن هذا التأويل " بعيد عن ظواهر الألفاظ في تلك الأحاديث ولكن المتأول يقول: إنها وأمثالها من   1 مجلة المنار (28/ 755ـ 756) 2 المصدر نفسه والصفحة. 3 المصدر نفسه (28/ 757) 4 المصدر نفسه والصفحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 861 أشراط الساعة وأمور الغيب قد نقلت بالمعنى فغير الرواة ما سمعوا بما فهوا. وقد تقدم البحث في أشراط الساعة ... " 1. ويعطي الشيخ رشيد خلاصة رأيه قائلاً: "والخلاصة أنه لا يجب على مسلم أن يقف على تلك الأحاديث وأمثالها لأنها ليست من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام.. ولا يضره في إيمانه وإسلامه الاشتباه في صحتها.." 2. والذي يتضح لي أن موقف الشيخ رشيد من نزول المسيح هو امتداد لموقفه من أشراط الساعة كالدجال والمهدي، وهذا الموقف سيمتد أيضاً ليشمل طلوع الشمس من مغربها، وهو في كل هذا يضطرب وينكر معتمداً على أوهام ليست من الحقيقة على شيء. ولقد كنا نرجو جميعاً أن يكون موقف الشيخ رشيد قد تغير بعد وفاة شيخه، كما حدث في مسائل أخرى، إلا أن ذلك لم يكن وبدا وكأن هذا الموقف هو عن قناعة ولم يكن تحت تأثير وجود شيخه 3. وقد تابع الشيخ رشيد في ذلك الموقف تلامذة مدرسة الأستاذ الإمام 4. إلا أن أحداً من أنصار السنة لم يتورط في إنكار نزول المسيح، بل إن الشيخ حامد الفقي رد على أحد أعضاء هذه المدرسة، وقد تولى منصب شيخ الأزهر، وكان قد أنكر نزول المسيح كذلك 5.   1 مجلة المنار (28/ 757) 2 المصدر نفسه والصفحة 3 وهذا الموقف قديم أيضاً للشيخ رشيد: انظر: مجلة المنار (5/ 135) و (114/508) 4 منهم الشيخ المراغي: انظر: مجلة الرسالة: العدد 519/ 11 جمادى الآخرة، سنة 11362هـ. 14 يونيو 1943م. السنة الحادية عشرة (ص: 466) ومنهم الشيخ شلتوت: نفس المجلة: العدد (514، 6 جمادى 1362هـ 10 مايو سنة 1943م. السنة الحادية عشرة (ص: 365) وهو الذي رد عليه حامد الفقي، كما يعتبر مؤلَّف خليل هراس، ـ رئيس فرع طنطا ـ دليل على ذلك أيضاً. 5 انظر: محمد خليل هراس: فصل المقال (ص:64) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 862 رابعاً: طلوع الشمس من مغربها: قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} 1. فتشير هذه الآية إلى أنه يأتي يوم لا تقبل فيه التوبة، وهو يوم تظهر فيه بعض الآيات الدالة على اقتراب الساعة، وفي معنى هذه الآية جاء الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال ودابة الأرض" 2، وعليه أكثر المفسرين 3. والمراد: أن كلاً من الثلاثة مستند في أن الإيمان لا ينفع بعد مشاهدتها فأيها تقدم ترتب عليه عدم النفع 4. وإنما كان كذلك لأن ذلك الوقت يكون حكمه في قبول الإيمان والتوبة كحكم يوم القيامة 5. وأما الشيخ رشيد فيظهر مضطرباً هنا أيضاً، فهو أولاً لا يمنع طلوع الشمس من مغربها عقلاً، فيقول: "وقد كان طلوع الشمس من مغربها بعيداً عن المألوف المعقول، ولا سيما معقول من كانوا يقولون بما تقول به فلاسفة اليونان في الأفلاك والعقول، وأما علماء الهيئة الفلكية في هذا العصر فلا يتعذر على عقولهم أن تتصور حادثاً تتحول فيه حركة الأرض اليومية فيكون الشرق غرباً والغرب شرقاً.." 6. ويقول في تفسير الآية: " وقد روي في أحاديث منها الصحيح المسند والضعيف الذي لا يحتج به وحده بأن هذه الآية التي أبهمت وأضيفت إلى   1 سورة الأنعام، الآية (158) 2 مسلم: الصحيح: ك: الإيمان ح: 249 (1/ 138) 3 انظر: البغوي: التفسير (2/ 144) وابن كثير: التفسير (2/ 184) 4 انظر: الحسيني الهاشمي: شرح المسند (ج: 19/ 24) ط. دار المعارف، مصر. 5 انظر: ابن كثير: النهاية (1/ 222) والتفسير (2/ 195) 6 تفسير المنار (8/ 210) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 863 الرب تعالى لتعظيم شأنها وتهويله هي طلوع الشمس من مغربها ... " 1. وأما الأحاديث فذكر منها الشيخ رشيد حديثين، الأول: حديث أبي هريرة عند البخاري 2: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين {رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} 3". ووصف الشيخ رشيد هذا الحديث بأنه أقوى الأحاديث الواردة في الباب 4، وأورد حديث مسلم الذي صدرت به هذا البحث، وقال: "وهو مشكل مخالف للأحاديث الأخرى الواردة في نزول المسيح بعد الدجال وإيمان الناس به ... " 5. واستطرد قائلاً: "والمشكلات في الأحاديث الواردة في أشراط الساعة كثيرة، أهمها ـ فيما صحت أسانيده واضطربت المتون وتعارضت أو أشكلت من وجوه أخرى ـ أن هذه الأحاديث رويت بالمعنى ولم يكن كل الرواة يفهم المراد منها لأنها في أمور غيبية فاختلف التعبير باختلاف الأفهام ... " 6. وهذه الشبهة التي لازمت الشيخ رشيد على امتداد حديثه عن أشراط الساعة، وعمدته أن هذه الأحاديث رويت بالمعنى، وقد بحثت هذه الشبهة في التمهيد، ولكني أجيب هنا على ما استشكله في هذا الحديث بأن خروج الدجال هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغيير أحوال العالم الأرضي، وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم، وأن طلوع الشمس من مغربها هو أول الآيات المؤذنة بتغيير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج   1 المصدر نفسه (8/ 209) 2 ك: الرقاق، باب: 40، ح: 6506 (11/ 360) مع الفتح. 3 سورة الأنعام، الآية (158) 4 تفسير المنار (8/ 210) 5 المصدر نفسه والصفحة. 6 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 864 الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من مغربها، وعلى كل حال فأيهما خرجت قبل الأخرى فالأخرى في إثرها 1. وقيل في قصة الدجال لا ينفع إيمان من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال وينفعه بعد انقراضه 2. والمقصود أن الشيخ رشيد متردد ومضطرب في إثبات هذه الآية لورودها في القرآن، واستشكاله الأحاديث التي رويت فيها، وخشيته أن تكون رويت عن كعب الأحبار، ولذلك فإنه يضع هذه الآية في سلك المتشابهات، وحمل التعارض بين الروايات على ما أشار إليه من الرواية بالمعنى 3. وقد بينت أنه لا تعارض بين الروايات وأنها متفقة، ومتعددة المخرج، وإنما التردد من الشيخ رشيد سببه موقفه العام من أشراط الساعة وطعنه في أحاديثها كما سبق أن بينت. خامساً: خروج الدابة ومن الآيات التي تكون قبل الساعة، وورد ذكرها في القرآن، خروج الدابة، قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} 4 كما جاءت في السنة، وقد سبق ذكر بعض الأحاديث، ومنها أيضاً حديث أبي هريرة: "بادروا بالأعمال ستاً ... " وذكر فيها دابة الأرض 5. ونقل الإجماع على صحة خروج الدابة 6.   1 انظر: ابن حجر: فتح الباري (11/ 361) 2 المصدر نفسه (11/ 362) 3 تفسير المنار (8/ 211) وهنا أيضاً طعن الشيخ رشيد في الرواة بغير بينة، كعبد الرزاق بن همام الصنعاني، والعلاء بن عبد الرحمن، كما أنه طعن في حديث سجود الشمس، وقد بحث ذلك عند بيان موقفه من السنة. انظر (ص:106) من هذا البحث. 4 سورة النمل، الآية (82) 5 مسلم: الصحيح، ك: الفتن، ح: 129 (4/ 2267) عبد الباقي. 6 انظر: الكتاني: نظم المتناثر (ص: 147) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 865 والدابة خلق عظيم يخرج من بعض بقاع الأرض، وهي من دوابها وليست بإنسان، لا يفوتها أحد فتسم المؤمن فتكتب بين عينيه (مؤمن) وتسم الكافر وتكتب بين عينيه (كافر) 1. وقد تكلم الشيخ رشيد ـ جواباً لسؤال حول الآية ـ عن الدابة، وذلك في المجلد العاشر من المجلة 2، فقال: "هذه الآية مما أخبر الله به عن المستقبل البعيد، فهي من أنباء الغيب التي تؤخذ بالتسليم ما لم يكن ظاهرها محالاً فتحمل على خلاف الظاهر بالتأويل، كما هي القاعدة 3، وكلام الدواب ليس محالاً في نظر العقل ... ". ولكن هذا الكلام متقدم ـ كما هو ظاهرـ على كلامه السابق في الأشراط الأخرى، ولم أجد له في الدابة غير هذا الموضع، إلا ما ذكره مع طلوع الشمس ـ وقد سبق ـ فهل ثبت الشيخ على رأيه في الدابة، لوروده في القرآن، فخصها بالإثبات لذلك، أو تأولها كما أولها غيره؟ 4.   1 انظر: ابن كثير: التفسير (3/ 374 ـ 376) ، ولوامع الأنوار (2/ 146) ، والبرزنجي: الإشاعة (ص: 174 ـ 176) (ص: 289) 3 كان هذا في موقفه القديم من قانون التأويل. وانظر: (ص:347) من هذا البحث. 4 تأولها القرطبي: التذكرة (ص: 786) ومحمد فريد وجدي: دائرة المعارف (4/ 14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 866 الفصل الرابع: الصور والموازين المبحث الأول: الصور ... المبحث الأول: الصور: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالنفخ في الصور، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} 1.وقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} 2. ولقد عرف الشيخ رشيد الصور بأنه: القرن لغة 3، وأشار إلى ذكره في كتاب العهد القديم 4، وذكر له تعريفات أخرى ولكنه ردها اعتماداً على أقوال أهل اللغة 5. وقد ورد ذكر الصور في السنة النبوية كذلك، وهو ما أشار إليه الشيخ رشيد بقوله: "وأما الأخبار المرفوعة في الصور فقد أخرجها أصحاب السنن والتفسير المأثور وغيرهم بأسانيد لم يصح منها شيء على شرط الشيخين، ولذلك لم يخرجا منها شيئاً، وأقواها ما رواه أبو داود 6، والترمذي   1 سورة الزمر، الآية (68) 2 سورة الحاقة، الآية (13 ـ 15) 3 تفسير المنار (7/ 531) 4 المصدر نفسه والصفحة. 5 المصدر نفسه والصفحة. 6 ك: السنة، باب: في ذكر البعث والصور، برقم: 4742 (5/ 107) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 869 وحسنه 1، والنسائي 2، وغيرهم، وصححه الحاكم 3 من حديث عبد الله بن عمرو، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال: "هو قرن ينفخ فيه"، وروي عن ابن مسعود أنه قال: " الصور كهيئة القرن ينفخ فيه" 4، وورد في روايات يقوي بعضها بعضاً، وصحح بعضها الحاكم 5 أن الملك الموكل بالصور مستعد للنفخ فيه ينتظر متى يؤمر، وفي بعضها أنه وكل به ملكان ... " 6. وعن عدد هذه النفخات يذهب الشيخ رشيد إلى أنهما نفختان "والنفخة الأولى هي التي يموت فيها جميع أهل الأرض دفعة واحدة والثانية هي التي بها يبعثون وليس بعدها موت ... وهذه النفخة تسمى نفخة الفزع لقوله تعالى في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} 7 ونفخة الصعق لقوله في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} 8 ... " 9. فنفخة الفزع والصعق واحدة عند الشيخ رشيد مع اختلاف الوصفين. وهذا هو ما يذهب إليه ابن جرير   1 ك: التفسير، باب: ومن سورة الزمر، ح: 3244 (5/ 373) 2 في الكبرى رقم (11312 و11456) ، ورواه أحمد في المسند (2/ 162 و192) 3 المستدرك (2/ 473) وقول الشيخ لا يسلم من انتقاد، فليس كل ما صح على شرط الشيخين أورداه في الصحيح، فإنهما لم يلتزما ذلك، وقد ذكر الصور أيضاً في صحيح مسلم: ك: الفتن، باب: في خروج الدجال ... ، ح: 116 (2940) ((4/ 2259) 4 انظر: الطبراني: المعجم الكبير (9/ 353 ح: 9755) وانظر: السيوطي: الدر المنثور (3/22) 5 المستدرك (4/ 603ـ 604) ، وانظر: مجمع الزوائد (10/ 330 ـ 331) 6 المصدر السابق نفس الموضع. وقد سبق أن الشيخين لم يلتزما استيعاب الصحيح، فلا معنى لما يقوله رشيد رضا. 7 سورة النمل، الآية (87) 8 سورة الزمر، الآية (68) 9 تفسير المنار (8/ 335) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 870 في تفسيره 1 وابن حجر في فتح الباري 2 وكذلك القرطبي 3. وأما المستثنى من الفزع في الآيات فيرى الشيخ رشيد أن التوقف فيه أولى لأنه "أمر غيبي لا يعلم إلا بتوقيف، ولم يصح في قول منها حديث مرفوع ... " 4 ولكنه أشار أيضاً إلى بعض الروايات في ذلك 5. وقد تعددت الأقوال فيمن يستثنى من الصعق، والأولى التوقف في التعيين، ولا يمكن الجزم بكل ما استثناه الله في كتابه وقد توقف النبي صلى الله عليه وسلم في موسى، فإذا كان النبي لم يخبر بكل من استثنى الله فلا يمكننا نحن ذلك 6.   1 انظر: تفسير الطبري (24/ 39 ـ 531) 2 انظر: الفتح (11/ 377) 3 انظر: التذكرة (1/ 226) 4 تفسير المنار (8/ 336) 5 المصدر نفسه والصفحة، وانظر هذه الروايات: القرطبي: التذكرة (1/ 206) وما بعدها. 6 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 261) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 871 المبحث الثاني: الموازين : الموازين جمع ميزان، وهو الذي توزن به الحسنات والسيئات، وقد ورد ذكر الوزن والموازين في آيات كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} 1، وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 2، وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} 3. فتدل هذه الآيات وغيرها على إثبات الموازين والوزن يوم القيامة، وأن أعمال العباد خيرها وشرها توزن بالموازين إظهاراً للعدل الإلهي. وأجمع عليه أهل السنة 4، قال أحمد: "والميزان حق توزن به الحسنات والسيئات،   1 سورة الأعراف، الآية (8 ـ 9) 2 سورة الأنبياء، الآية (47) 3 سورة القارعة، الآيات (6ـ 9) 4 انظر: ابن أبي عاصم: السنة (2/ 363) ، وابن منده: الإيمان (3/ 224) ، والبخاري: الصحيح، ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} (13/ 547) ،وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 608) وما بعدها. وابن حجر: فتح الباري (13/ 548) ، والقرطبي: التذكرة (ص: 373) ط. الكليات الأزهرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 872 كما شاء الله أن توزن" 1. وأما الشيخ رشيد فعلى قاعدته في الإيمان بعالم الغيب وما يتعلق به، فإنه يثبت الميزان مع تفويض الكيفية، فيقول: "والأصل الذي عليه سلف الأمة في الإيمان بعالم الغيب أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه، نؤمن به ولا نحكم رأينا في صفته وكيفيته، فنؤمن إذاً بأن في الآخرة وزناً للأعمال قطعاً، ونرجح أنه بميزان يليق بذلك العالم يوزن به الإيمان والأخلاق والأعمال، لا نبحث عن صورته وكيفيته، ولا كفتيه ... " 2. وفيما يتعلق بالكفتين، يقول الشيخ رشيد: "وأما الميزان فلم يرد وصفه بما وصفوه به من الكفتين واللسان والصنج 3 أحاديث صحيحة ... " 4. وهو في هذا متابع لشيخه محمد عبده الذي قال نفس الكلمات في نفس المناسبة 5. ولم يتغير موقف الشيخ رشيد من كفتي الميزان فيما بعد، فها هو يقول: "ومن الأحاديث الغريبة في هذا الباب، "حديث البطاقة" الذي سبقت الإشارة إليه، فقد رواه الترمذي في باب (من يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً 6 ... وجَعْله دليلاً على كون الميزان ذا كفتين غير متعين لإمكان جعل الكلام استعارة مكنية 7، وجعل الكفة ترشيحاً لها ... " 8.   1 السنة (ص: 73) ت: الأنصاري، وانظر روايات أخرى عن أحمد وغيره عند اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (1/ 178 و186 و175) 2 تفسير المنار (8/ 323) 3 الصنج: مثاقيل توضع في كفة الميزان ويوضع الموزون في الكفة الأخرى. 4 مجلة المنار (5/ 912) 5 وللأسف نسيت الموضع الذي ذكر فيه محمد عبده هذه الكلمات. 6 انظر: الترمذي: السنن: ك: الإيمان، باب: ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، ح: 2639 (5، 24) وقال: حسن غريب. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. المسند (11/ 175ح:6994) 7 سبق الكلام عن الكناية والمجاز. انظر (ص:409) من هذا البحث. 8 تفسير المنار (8/ 324 ـ 325) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 873 ويقول: " ... وإذا لم يكن في الصحيحين ولا في كتب السنة المعتمدة حديث صحيح مرفوع في صفة الميزان ولا في أن له كفتين ولساناً فلا تغتر بقول الزجاج أنه مما أجمع عليه أهل السنة ... " 1. وما أدري ما السبب الذي جعل الشيخ رشيد يتخذ هذا الموقف المتشدد من الكفتين ولِمَ لم يجرِ عليهما قاعدته في تفويض الكيفية التي يكررها دائماً؟ إنهما كفتان تسعان السماوات والأرض فليست إذن كالمعهودة في الدنيا 2. ومهما يكن من شيء فإن الكفتين ثابتتان في السنة فقد روى أحمد 3، والترمذي 4، وابن ماجه 5، حديث البطاقة الذي أشار إليه الشيخ رشيد، وفيه: "فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة ... "، فثبت بهذا أن للميزان كفتين كما ثبت بغيره من الأحاديث 6. وأما الحكمة من وزن الأعمال، فيقول الشيخ رشيد: "أنه يكون أعظم مظهر لعدل الرب تبارك وتعالى، أي ولعلمه وحكمته وعظمته في ذلك اليوم العظيم ... " 7. وقد اختلف أهل العلم فيما هو الموزون؟ فذهب بعضهم إلى أنه الأعمال نفسها وبعضهم إلى أنه الكتب التي كتبت فيها الأعمال، وبعضهم   1 تفسير المنار (8/ 322) 2 انظر: القرطبي: التذكرة (2/ 378) 3 المسند (2/ 213) 4 سبق تخريجه قريباً. 5 السنن (2/ 1437، ح:4300) ، والحاكم: المستدرك (1/ 47) وصححه وافقه الذهبي. وصححه أحمد شاكر كما سبق في حاشية رقم (5) (ص:803) وكذلك الألباني: الصحيحة (ح: 135) . 6 انظر: ابن أبي عاصم: السنة (2/ 362) ، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 610) ت: الأرناؤوط. 7 تفسير المنار (8/ 321و 324) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 874 إلى أنه صاحب العمل 1، والذي دلت عليه السنة أن العمل يوزن لقوله صلى الله عليه وسلم: "والحمد لله تملأ الميزان" الحديث 2. ودلت أيضاً على أن صاحب العمل يوزن كما في إحدى روايات حديث البطاقة، وفيها "توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة" 3، كذا قوله صلى الله عليه وسلم في ساقي ابن مسعود "والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد" 4، وغيرها من الأحاديث كما دل حديث البطاقة على وزن السجلات التي كتبت فيها الأعمال. وأما الذي اختاره الشيخ رشيد فهو أن الأعمال هي التي توزن، واستدل بحديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن" 5. وهل توزن أعمال الكفار؟ اختلف في ذلك أهل العلم، على قولين 6. والذي رجحه الشيخ رشيد هو أن أعمال الكفار توزن، قال: "وما من كافر إلا وله حسنات ولكن الكفر يحبطها فتكون هباءً منثوراً، وهي تحصى مع السيئات وتضبط بالوزن الذي به يظهر مقدار الجزاء وتفاوتهم فيه ... إذ من   1 انظر: ابن حجر: فتح الباري (13/548) 2 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الطهارة، ح: 1 (223) [1/ 203] 3 انظر: أحمد: المسند (2/ 221) ، وقال الهيثمي: وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (10/ 82) ، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. المسند (6/ 23، ح: 7066) 4 انظر: أحمد: المسند (1/420) وقال الهيثمي: فيه عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح. مجمع الزوائد (9/289) ، وله شواهد هناك. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. المسند (12/ 39، ح: 3991) ، وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب برقم: (920) ، وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبي يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة. مجمع الزوائد (9/ 288 ـ 289) 5 الترمذي: ك: البر، باب: ما جاء في حسن الخلق، ح: 2002، وقال: حسن صحيح، وح: 2003، وقال: غريب (4/ 362 ـ 363) 6 انظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 548) ، والقرطبي: التذكرة (2/ 373) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 875 المتفق عليه والمجمع عليه أن عذاب الكفار متفاوت ولا يعقل أن يكون عذاب أبي جهل كعذاب أبي طالب لولا الخصوصية، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 1 ... "2.   1 سورة النساء، الآية (40) 2 تفسير المنار (8/ 320) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 876 الفصل الخامس: الجنة والنار المبحث الأول: الجنة ونعيمها ... المبحث الأول: الجنة ونعيمها: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالجنة وأنها حق لا ريب فيها. والجنة هي دار النعيم التي أعدها الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين المشتملة على أصناف النعيم والبهجة والسرور. وقد أكثر الله تعالى من ذكر الجنة ونعيمها في كتابه الكريم، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ. كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ. لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} 2. وأما الأحاديث التي تدل على الجنة ونعيمها فكثيرة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"   1 سورة الدخان، الآيات (51 ـ 56) 2 سورة محمد، الآية (15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 879 قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 1. وقد تحدث الشيخ رشيد ـ رحمه الله ـ عن الجنة ونعيمها عند كل موضع ذكرت فيه في الكتاب العزيز كما أنه أجاب عن أسئلة قرائه عنها في مجلة المنار، وأثبت الشيخ رشيد نعيم الجنة الروحي والجسمي، فقال في تعريف الجنة: "والجنة في اللغة البستان والجنات جمعها، وليس المراد بها مفهومها اللغوي فقط ... فالجنة دار الأبرار والمتقين ... " 2. وعن الإيمان بها يقول: "وإننا نؤمن بتلك الجنات والحدائق، وأنها أرقى مما نرى في هذه الدنيا وأنه ليس لنا أن نبحث عن كيفيتها لأنها من عالم الغيب ... " 3، وهنا نرى امتداد المنهج الذي اختطه الشيخ رشيد في الإيمان بالغيب، وهو تفويض الكيفية مع إثبات الحقائق وهو امتداد لمنهجه السلفي في الإيمان بالصفات الإلهية، ولكنه ـ وكما رأينا من قبل ـ يخالفه أحياناً. وأثبت الشيخ رشيد ـ رداً على سؤال ـ وجود الجنة والنار الآن، فقال: "ظواهر نصوص الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة المتفق عليها تدل على أن الجنة والنار داري الجزاء للأبرار والفجار، هما عالمان مخلوقان، ولا نرى ما يعارض هذه الظواهر من الدلائل العقلية ولا النقلية ... " 4. وهذا الذي ذهب إليه متواتر متفق عليه 5. وقسم الشيخ رشيد نعيم الجنة إلى روحاني وجسماني، فقال: "إن من أصول العقائد القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن نعيم الآخرة قسمان: روحاني وجسماني، لأن البشر لا تتقلب حقيقتهم في الآخرة بل   1 سورة السجدة، الآية (17) ، والحديث أخرجه البخاري: ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، ح: 7498 (13/ 473) 2 تفسير المنار (1/ 231) 3 المصدر نفسه (4/ 431) 4 مجلة المنار (19/ 281 ـ 282) 5 انظر: الكتاني: نظم المتناثر (ص: 148) ، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 614) ط. التركي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 880 يبقون بشراً أولي أرواح وأجساد، ولكن الروحانية تكون هي الغالبة على أهل الجنة، فيكون النعيم الروحاني عندهم هو أعلى من النعيم الجسماني ... " 1. ويقرر الشيخ رشيد أن أعلى نعيم أهل الجنة لقاء الله تعالى بتجليه عليهم تجلياً يحصل لهم به أعلى ما استعدت له أنفسهم وأرواحهم من المعرفة، كما أن أعظم عقاب لأهل النار حجبهم عن ربهم وحرمانهم من هذا التجلي والعرفان، الخاص بدار الكرامة والرضوان 2، ويقرر أن هذه هي الرؤية التي أثبتها أهل الأثر "لدلالة ظواهر القرآن ونصوص الأحاديث عليها، ومنعوا قياس رؤية الباري تعالى على رؤية المخلوقات بدعوى استلزامها التحيز والحدود وغير ذلك من صفات الأجسام، وقالوا: إننا لا نبحث في كيفية ذاته ولا صفاته تعالى، فإننا نجزم بأن له علماً وقدرة وسمعاً وبصراً، ولكن علمه ليس كعلمنا ناشئاً عن انطباع صور المعلومات في النفس ومكتسباً لها بالحواس أو الفكر، وكذلك قدرته وسائر صفاته، فنحن نجمع بين الإيمان بالنصوص في أسماء الله وصفاته، وأفعاله وسائر شؤونه، وبين تنزيهه عما لا يليق به من مشابهة خلقه الممنوعة بدلائل النقل والعقل كما قال عزوجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3 ثم أشار إلى أن الذين نفوا الرؤية هم: "أهل الكلام والفلسفة بناءً على قياس الخالق سبحانه وتعالى على المخلوق ودعوة منافاة الرؤية للتنزيه 4. وعلى خلاف مذهب الفلاسفة الذين يكذبون باليوم الآخر وبالجنة والنار ويدعون عدم حقيقة ذلك 5، وكذلك خلافاً لأهل الكتاب الذين   1 المصدر نفسه (19/ 282) 2 المصدر نفسه (19/ 283) 3 سورة الشورى، الآية (11) 4 مجلة المنار (19/ 283) وقد سبق بحث مسألة الرؤية في الباب الأول من هذا البحث، الفصل الثالث (ص:395) بشيء من التفصيل. 5 انظر: سليمان دنيا: مقدمة حاشية محمد عبده على الدواني (ص: 17 ـ 18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 881 يعتبرون ذلك مجرد نعيم روحي وعذاب روحي 1، يقول الشيخ رشيد بأن الجنة والنار حقيقتان، وإن كان لهما مدلول شرعي غير ما يدل عليه مجرد المعنى اللغوي 2. ويقرر الشيخ رشيد وجود اللذات الحسية في الجنة لأن الإنسان "يبعث في الآخرة كما كان في الدنيا أي أن حقيقته لا تبدل فتخرج عن الإنسانية إلى حقيقة أخرى، بيد أنه يكون في الجنة أرقى مما كان في الدنيا فتكون حياته دائمة سليمة من العلل، ومتى كان الإنسان إنساناً فلا وجه لاستكثار أكله وشربه وغشيان أحد زوجيه للآخر حقيقة. وقد جاءت الآيات صريحة في ذلك فلا وجه لإخراجها عن ظاهرها وتحريفها عن معانيها اتباعاً للهوى والرأي" 3. وبناءً على ذلك يثبت الشيخ رشيد لذة الزوجية والمعاشرة في الجنة وما يترتب عليه من أسئلة عن المرأة ذات الزوجين وقسمة نساء الجنة على أهلها، وعن الولادة والتناسل في الآخرة 4. خلود نعيم الجنة: ويبقى هنا ـ بعد ذكر هذا النعيم ـ الكلام على دوامه وهل هو باقٍ إلى الأبد أو موقت بوقت يزول فيه. فيرى الشيخ رشيد أن نعيم الجنة باقٍ لا يزول ولا يفنى، فعند قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5، قال: "الخلود في اللغة طول المكث، ومن كلامهم: خلدني السجن، كما في الأساس، وفي الشرع الدوام الأبدي، أي: لا يخرجون منها ولا هي تفنى بهم فيزولوا بزوالها، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها ... " 6.   1 انظر: فرج الله عبد الباري: اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام (ص: 276) 2 مجلة المنار (10/ 442) 3 المصدر نفسه (9/ 207 ـ209) 4 انظر: مجلة المنار (32/ 91 و9/ 261) وتفسير المنار (1/ 233 و3/ 248) 5 سورة البقرة، الآية (25) 6 تفسير المنار (1/ 234) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 882 فالجنة عند الشيخ رشيد لا تزول ولا تفنى أبداً، وهذت المذهب هو مذهب أهل السنة وهو ما نص عليه أئمته المحققون 1.   1 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 613) ط. التركي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 883 المبحث الثاني: النار وعذابها : ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بوجود النار وهي دار أعدها الله سبحانه لأعدائه ولمن عصاه وخالفه، فهي دار العقوبة في الآخرة. وقد ورد ذكر النار وعذابها في كتاب الله تعالى مرات ومرات، قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2. وقد تحدث الشيخ رشيد عن النار وعذابها من خلال تفسيره للآيات ومن خلال مقالاته وأجوبته على قراء مجلته "المنار" فقد قال في تعريفها، عند قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 3 "النار اسم لدار الجزاء المعدة للمشركين والمجرمين، والمثوى: مكان الثواء، والثواء نفسه وهو الإقامة والسكنى ... " 4. وقال أيضاً عند قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ   1 سورة آل عمران، الآية (131) 2 سورة التحريم، الآية (6) 3 سورة الأنعام، الآية (128) 4 تفسير المنار (8/ 68) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 884 غَوَاشٍ} 1 "جهنم اسم لدار العذاب والشقاء، قيل: أعجمي، وقيل: مأخوذ من قولهم: ركية 2 جهنام (بتثليث الجيم وتشديد النون) أي: بعيدة القعر ... " 3. وقال في موضع آخر: "جهنم اسم من أسماء دار الجزاء على الكفر والفسوق والعصيان" 4. وعن الإيمان بهذه الدار ـ أعاذنا الله منها ـ قال الشيخ رشيد: " ... نؤمن بها لأنها من عالم الغيب الذي أخبر الله تعالى به، ولا نبحث عن حقيقتها، ولا نقول إنها شبيهة بنار الدنيا، ولا أنها غير شبيهة بها. وإنما نثبت لها جميع الأوصاف التي وصفها الله تعالى بها، كقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 5 ... ولا يسبق إلى الفهم أنها لا توجد إلا بوجود الناس والحجارة، إذ يصح أن يكونوا وقودها بعد وجودها" 6. ويلاحظ أن مذهب الشيخ رشيد يطرد هنا فيما يتعلق بتفويض الكيفية في كل ما يتعلق بعالم الغيب، وينحى الشيخ رشيد فيه أيضاً ـ مع طرد مذهبه ـ منحى السلامة التي لا يعدلها شيء ـ ليتفادى ـ إذا ما أراد الخوض في الحقائق ـ اعتراض المعترضين الذين كانوا يتحينون الفرص لإقامة الشبهات حول الدين ومسائله، وهو ما كان يتفاداه الشيخ رشيد دائماً ويسعى لإزالته، ويفرح إذا ما وجده في كلام أهل العلم ما يدفعه عن الدين، وهو ما جعله يتخذ الموقف التالي من كلام ابن القيم في مسألة فناء النار على ما أبسطه في المطلب التالي.   1 سورة الأعراف، الآية (41) 2 الركية بالتشديد ـ كقضية ـ هي: البئر. ابن الأثير: غريب الحديث (2/261) 3 تفسير المنار (8/ 419) 4 المصدر نفسه (8/ 338 ـ 339) 5 سورة التحريم، الآية (6) 6 تفسير المنار (1/ 197) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 885 مسألة فناء النار: خلود الجنة والنار وبقاؤهما بإبقاء الله لهما، وعدم فنائهما، ولا فناء من فيهما، ثابت بالكتاب والسنة، ولا يوجد فرق في النصوص بين خلود الجنة وخلود النار. قال تعالى في الجنة وأهلها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} 1، وقال تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2، وقال تعالى عن النار وأهلها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} 3، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} 4، وقد سماها الله تعالى "دار الخلد" فقال: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} 5. وورد في السنة أحاديث تدل على ذلك أيضاً ـ أعني أبدية الجنة والنار وخلود أهلهما فيهما ـ من دون فرق بينهما ـ منها حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُدخل الله أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يؤذن مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار: لا موت، كل خالد فيما هو فيه" 6، ففي هذا الحديث دلالة على خلود الدارين وأهلهما من دون فرق بينهما. وعلى ذلك أجمع السلف وأصحاب الحديث 7.   1 سورة النساء، الآية (57) 2 سورة التوبة، الآية (100) 3 سورة النساء، الآية (168 ـ 169) 4 سورة الأحزاب، الآية (64 ـ 65) 5 سورة فصلت، الآية (28) 6 البخاري: ك: الرقاق، باب: يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، ح: 6544 (11/ 414) مع الفتح. 7 انظر: الصابوني: عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: 66) ت: بدر البدر، وابن تيمية: مجموع الفتاوى (3/ 304، 8/ 380، 12/ 45، 14/ 348، 18/ 307) ، ودرء التعارض (1/ 227 ـ 228، 1/ 38، 1/ 304 ـ 305) ، وابن القيم: اجتماع الجيوش (ص:91) ط. السلفية، وطريق الهجرتين (ص: 254 ـ 255) ت: عبد الله الأنصاري، وزاد المعاد (1/ 66 ـ 68) ت" الأرناؤوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 886 وقد نسب القول بفناء النار إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله تعالى ـ واشتهر ذلك بين الناس 1، وقد بحث هذه النسبة عدد من الباحثين، وأثبتوا بالأدلة وقوف الشيخين ابن تيمية وابن القيم في صف أهل السنة في هذه المسألة كغيرها من المسائل 2. ولكن ما موقف الشيخ رشيد في هذه المسألة؟ وهل تبع فيها ما اشتهر عن ابن القيم وشيخه ابن تيمية ـ الذين لم يعرف مذهب السلف إلا عن طريقهما؟ وإن كانت لم تصح نسبة هذا القول إليهما كما سبق، أو خالفهما اتباعاً للأدلة كما هو منهجه في عدم التقليد لأحد كائن من كان؟ لقد نقل الشيخ رشيد كلام ابن القيم في حادي الأرواح بطوله، وأعلن إعجابه به لسببين: الأول: ما في كلام ابن القيم من "دقائق المعرفة بالله تعالى وفهم كتابه، والغوص على درر حكمه وأحكامه وأسراره في أقداره، والإفصاح عن سعة رحمته وخفي لطفه وجليل إحسانه" 3، ويقرر الشيخ رشيد أن أحداً لم يسبق ابن القيم ولم يلحقه فيه أحد. وقال: "فنسأله سبحانه أن يكافئه على ذلك أفضل ما يكافئ العلماء العاملين، والعارفين الكاملين وأن يحشرنا وإياه في ثلة المقربين" 4. والسبب الثاني في إعجاب الشيخ رشيد بكلام ابن القيم وهو أهم من الأول: أنه يزيل شبهة عن الدين،   1 انظر: الصنعاني: رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار (ص: 63) ، ط. المكتب الإسلامي. 2 انظر في ذلك: د. جابر الحربي: كشف الأستار. ط" دار طيبة بمكة، وبكر أبو زيد: ابن القيم حياته وآثاره (ص: 148) ط. المكتب الإسلامي، وانظر أيضاً: محمد علي ناصر الفقيهي، وأحمد بن عطية الغامدي: مقدمة الصواعق المنزلة لابن القيم (1/ 12 ـ 20) ط. الجامعة الإسلامية. 3 تفسير المنار (8/م 98) وانظر أيضاً: مجلة المنار (22/ 315) 4 المصدر نفسه والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 887 وهي: "قول أهل كل دين من الأديان المشهورة أنهم هم الناجون وحدهم، وأكثر البشر يعذبون عذاباً شديداً دائماً لا ينتهي أبداً بل تمر ألوف الألوف المكررة من الأحقاب والقرون ولا يزداد إلا شدة وقوة وامتدادً، مع قولهم ـ ولا سيما المسلمين منهم ـ أن الله تعالى أرحم الراحمين وأن رحمة الأم العطوف الرؤوم بولدها الوحيد ليست إلا جزءاً صغيراً من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وهذا البحث جدير بأن يزيل شبهة هؤلاء فيرجع المستعدون منهم إلى دين الله تعالى مذعنين لأمره ونهيه، راجين رحمته خائفين عقابه، ... فما أعظم ثواب ابن القيم علىاجتهاده في شرح هذا القول المأثور عن بعض الصحابة والتابعين وإن خالفهم الجمهور ... " 1. هذا السبب هو أهم ما جعل الشيخ رشيد يشيد بقول ابن القيم وهو إزالته لشبهة بعض الناس على الدين، وهو من أهداف الشيخ رشيد الهامة. ولكن هل يعني ذلك أن الشيخ رشيد يقول بفناء النار؟ يبدو من كلام الشيخ رشيد ـ كما بدا من كلام ابن القيم ـ الميل إلى هذا القول. فها هو يقول منتقداً قول الجمهور: "الذين حملوا الخلود والأبد اللغويين في القرآن على المعنى الاصطلاحي الكلامي، وهو عدم النهاية في الواقع ونفس الأمر، لا بالنسبة إلى تعامل الناس وعرفهم في عالمهم كما يقصد أهل كل لغة في أوضاع لغتهم. فالعرب كانت تستعمل الخلود في الإقامة المستقرة غير المؤقتة ... ولا يتضمن ذلك استحالة الانتقال والنقل، ... ويعبرون بالأبد عما يبقى مدة طويلة كما صرح به الراغب ... ويقول أهل القضاء وغيرهم في زماننا: حكم على فلان بالسجن المؤبد أو الأشغال الشاقة المؤبدة ـ وهو لا ينافي عندهم انتهاءها بعفو السلطان مثلاً ... " 2. ويقول أيضاً مفسراً الخلود في آية الأنعام: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 3 "والخلود المكث الطويل غير الموقت كمكث أهل   1 تفسير المنار (8/ 99) 2 تفسير المنار (8/ 98 ـ 99) 3 سورة الأنعام، الآية (128) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 888 الوطن في بيوتهم المملوكة لهم فيه. أي: تثوون فيها ثواء خلود أو مقدرين الخلود موطنين أنفسكم عليه، إلا ما شاء الله تعالى مما يخالف ذلك، فكل شيء بمشيئته، وهذا الجزاء يقع باختياره فهو مقيد بها، فإن شاء أن يرفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل لأن مشيئته نافذة في كل شيء ... ولكن هل يشاء شيئاً من ذلك أم لا؟ ذلك مما يعلمه هو سبحانه حق العلم وحده ولا يعلمه غيره إلا بإعلامه ... " 1. يقول الشيخ رشيد ـ رداً على من انتقده في ميله هذا ـ " ... إننا قد بينا غير مرة في المنار أن المعتمد عندنا في التفسير وأصول الدين وفروعه ظواهر النصوص مجتمعة، وفي اختلاف العلماء ما كان عليه جمهور السلف إن علم بالنقل الصحيح، وإننا إذا أوردنا في المنار أقوالاً أخرى، فإنما نقصد بذلك دفع بعض الشبهات عن الدين أو تقريب بعض مسائله ... وعلى هذه القاعدة جرينا في تفسير آية الأنعام ... " 2. فما هو إذن موقف الشيخ رشيد الأخير؟ يرى الشيخ رشيد أن ابن القيم توقف في هذه المسألة، ولم يرجح أحد القولين على الآخر، وبناءً على ذلك يتخذ الشيخ رشيد نفس الموقف، وهو التوقف أيضاً وتفويض الأمر لله تعالى وأن مشيئته تعالى في ذلك مجهولة 3، ويذكر الشيخ رشيد في هذه المناسبة أيضاً توقفه في آية المائدة {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 4 فإن ظاهر هذه الآية جواز مغفرة الشرك، فإن قيل: إن الله تعالى بين أنه لا يغفر الشرك قال الشيخ رشيد: "قلنا إنما يدل هذا على أن العقاب على الشرك حتم مقضي ولكنه لا يدل على أنه سرمدي" 5.   1 تفسير المنار (8/ 68) وأريد أن أشير هنا إلى موقف قديم للشيخ رشيد من تأويل الخلود ورفضه. انظر: تفسير المنار (1/ 364) 2 مجلة المنار (22/ 316) 3 انظر: المصدر نفسه والصفحة. 4 سورة المائدة، الآية (118) 5 مجلة المنار (22/ 316) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 889 فالشيخ رشيد متوقف في مسألة فناء النار وانتهاء عذاب المشركين وغفرانه، ولا ريب أنه تبع في ذلك ما اشتهر عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم اللذان لم يعرف مذهب السلف إلا عن طريقيهما، فأصبح يتابعهما شبراً بشبر وذراعاً بذراع. والحق أن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لم يثبت عنهما صراحة إلا القول بالأبدية كما ذكرت قبل قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 890 الخاتمة لقد عرض الباحث من خلال هذه الرسالة إلى منهج رشيد رضا في العقيدة فتناول موقفه من مصادر أهل السنة وقواعدهم في الاستدلال، وعرض آراء رشيد رضا في أبواب ومسائل العقيدة المختلفة، وقد توصل إلى النتائج والتوصيات الآتية: أولاً: نتائج البحث: بعد أن عرضت منهج رشيد رضا في العقيدة ومسائلها معتمداً في ذلك على كتابات رشيد رضا مباشرة وسبر مؤلفاته جميعاً، قد تبين لي ما يلي: أولاً: أن رشيد رضا لم يكن مصرياً لا مولداً ولا نشأة ولا تعليماً، بل مهاجراً، وكانت كل نشأته العلمية في موطنه الأصلي وأتى مصر بعدما اكتملت نشأته العلمية هناك. ثانياً: إن الحالة السياسية والعلمية والدينية في مصر ومقارنتها مع الشام، هي التي دفعت رشيد رضا إلى الهجرة من الشام إلى مصر، إذ كانت مصر مستقرة سياسياً بتولي محمد علي وأولاده عرشها، وانفرادهم به، واهتمامهم بنهضتها وقوتها بينما كانت الشام ما تزال خاضعة لنظام تعاقب الولاة الذين كانوا سبباً أساسياً في إرهاق أهل الشام. مضافاً إلى ذلك الضغط الزائد من السلطة العثمانية على بلاد الشام، خوفاً منها أو عليها، مما ضيق مجال العمل الإصلاحي الذي كان ينشده رشيد رضا وأمثاله، مقارنة بما كانت تنعم به مصر من الحرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 891 ثالثاً: كانت النشأة العلمية لرشيد رضا ضعيفة بسبب الحالة العلمية التي مرت بها الشام آنذاك، إذ لم تكن هناك مدارس عربية لتعليم العلوم الدينية، مما دفع رشيد رضا وغيره إلى الاعتماد على العلماء في التلقي، ولم يكن هؤلاء جميعاً في درجة واحدة من العلم، على أنهم لم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة، وكانت نتيجة ذلك وقوع رشيد رضا في أخطاء واضحة ولا سيما بعد خلافته لمحمد عبده في زعامة المدرسة الإصلاحية، ومواجهته لقضايا هامة ومسائل معقدة. رابعاً: كانت مرحلة رشيد رضا في الشام مرحلة غلب عليه فيها التصوف، كما غلب عليه طابع المتكلمين، فرغم مشاركته في كثير من العلوم إلا أن السمة الغالبة عليه ـ كما على غيره من طلبة العلم على طريقة الأزهريين ـ هي طابع المتكلمين، وعندما هاجر إلى مصر ولقي محمد عبده وكان رجلاً متأثر بالفلسفة القديمة التي أشربها من كتاب الإشارات لابن سينا حيث شرحه له الأفغاني، والفلسفة الحديثة التي أخذها أثناء وجوده في فرنسا. كان رشيد رضا قد خرج من حفرة صغيرة فوقع في هوة سحيقة. خامساً: لم يلبث رشيد رضا أن تعرف على منهج السلف بطريق الكتب السلفية التي كانت تطبع في مصر في مطبعة بولاق وغيرها، ومنها كتابات ابن تيمية وأئمة دعوة التوحيد بنجد الذين أتوا مصر واستقروا فيها قبل ذلك. ومن هنا تحول رشيد رضا واطمأن بمذهب السلف الصالح، وكان تحوله هذا تدريجياً وزادت درجته بعد وفاة محمد عبده واستقلال رشيد رضا بالعمل. سادساً: اعتمد رشيد رضا على مصادر التلقي عند أهل السنة وهي الكتاب والسنة والإجماع، كما أنه اعتمد في فهمه هذه المصادر على تلك القواعد التي أقرها السلف الصالح، كما أنه ـ في مرحلته الأخيرة ـ قد وضع العقل في موضعه وأعطى الفطرة حقها. إلا أنني قد أخذت على رشيد رضا بعض المآخذ في مسألة نسخ التلاوة، كما أنني بينت موقفه السلبي من السنة الذي خالف فيه ما كان عليه السلف وأجبت هناك ـ قدر الإمكان ـ على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 892 أثاره من شبهات. وقد كان لهذا الموقف من رشيد رضا أثره الكبير، والذي كان من ثمرته بعد ذلك كتاب أبي رية في الطعن في السنة النبوية معتمداً على رشيد رضا، كما أنني أخذت على رشيد رضا موقفه في دليل الإجماع الذي بدا لي أنه لم يعرف معناه الشرعي فأدخل فيه ما ليس منه وأخرج منه ما هو منه. سابعاً: وقد وقف رشيد رضا في تعريف الإيمان موقفاً صحيحاً لغة وشرعاً، فقد بين المعنى اللغوي للإيمان وأنه ليس مجرد التصديق فقط، كما بين التعريف الشرعي له وأنه قول وفعل. كما أنه قرر أن الإيمان يزيد وينقص كما يقول أهل السنة لا بحسب زيادة العمل اللازم له فقط، بل بحسب ما في نفس قلب المؤمن. وبين رشيد رضا العلاقة بين الإسلام والإيمان واختار الرأي الراجح عند أهل السنة في ذلك وهو أنه إذا اجتمع الإيمان والإسلام افترقا في المعنى وإذا افترقا اجتمعا. ثامناً: في باب الإيمان بالله تعالى، قسم رشيد رضا التوحيد إلى أقسامه الثلاثة": الربوبية والألوهية والصفات، متابعة لأهل السنة، وفي فصل الربوبية قرر رشيد رضا المعنى الصحيح لها وبين الفرق بين اسم الرب واسم الإله، كما أنه قرر المعرفة الفطرية الضرورية التي رفضها المتكلمون. واستدل بالفطرة على وجود الله تعالى وربوبيته كما استدل بالنظر القرآني وهو النظر في كتاب الكون، لا النظر الفلسفي عند المتكلمين، واتخذ موقفاً صحيحاً من مسألة حدوث العالم. وفي فصل الألوهية قرر رشيد رضا توحيد الله تعالى أتم تقرير فقد بين معنى اسم الإله ومعنى العبادة، وذكر صوراً منها وبين خطر الشرك فيها وأثره السيء في النفس والكون. كما ذكر صوراً من الشركيات التي وقع فيها المسلمون ومنها الواسطة والتوسل والشفاعة ... إلخ. وكان رشيد رضا في ذلك متأثر بأئمة دعوة التوحيد في نجد، ناشراً لفتاواهم ورسائلهم. وفي فصل الصفات قرر رشيد رضا منهج السلف في إثبات الصفات القائم على الإثبات والتنزيه وتفويض الكيفية، وقرر نفس القواعد التي اعتمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 893 عليها مثل: القول في الصفات كالقول في الذات، وقد اعتمد رشيد رضا في هذا على ما كتب السلف الصالح، والكتب التي تشرح وتصور منهجهم ككتب ابن تيمية ومدرسته. وفي مفردات الصفات التي تكلم عنها وقسمها إلى ذاتية وفعلية، كان رشيد رضا ناجحاً في تطبيق المنهج العام الذي قرره، إلا أنه لم يكن واضحاً أحياناً، ونقصته الشجاعة والجرأة في أحيان أخرى، إلا أنه في العموم كان موفقاً لا سيما في إثباته الصفات الفعلية وتجددها وهي التي كانت مثار نقاش طويل وحاد بين السلفيين والمتكلمين جميعاً. كما أثبت صفات الفعل الخبرية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب. تاسعاً: في فصل القدر لم يستطع رشيد رضا أن يحدد بدقة الفرق بين تعريف السلف للقدر وبين تعريف القدرية، ولم يبين الفرق الهام بينهما، مع أنه قرر مراتب القدر التي فصلها أهل السنة وهي العلم والكتابة والمشيئة والخلق، إلا أنه غلبت عليه مسألة الأسباب فصرفته عن معرفة تعريف القدر الصحيح. وفي بقية المسائل كان رشيد رضا موفقاً فقد قرر مذهب السلف في مسائل: الحسن والقبح، والحكمة والتعليل، والصلاح والأصلح، والاحتجاج بالقدر وربط الأسباب بالمسببات، إلا أنه في مسألة العمر والرزق وإن كان قد اقترب من قول السلف إلا أنه لم يكن موفقاً في مسألة العمر التقديري الذي اعتمد فيع على غير معتمد وهو ما يقرره الأطباء افتراضياً بحسب الاستقراء. ويثبت هناك أن الواجب اتباع الشرع في ذلك، وأن الراجح هو قول السلف مع أن الزيادة في العمر والرزق بحسب ما في علم الملك. عاشراً: لم تكن تهمة إنكار الملائكة التي وجهها يوسف الدجوي لرشيد رضا صحيحة، إذ أن رشيد رضا قد قرر وجوب الإيمان بالملائكة وأنه ركن من أركان الإيمان، وتحدث عن بعض صفاتهم ووظائفهم. وكذلك أثبت وجود الجن والشياطين إلا أنه اتخذ موقفاً متشدداً ومحتاطاً في مسألة رؤيتهم وتلبسهم بالإنس، ولكنه على كل حال قرر في مسألة التلبس وإخراج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 894 الجني أنه قد يكون معجزة لنبي أو كرامة لولي، وإنما كان يتشدد وينكر ما طرأ واحتف بهذه المسألة من الشركيات والخرافات التي شوهت حقيقة التوحيد. حادي عشر: قرر رشيد رضا أن الإيمان بالكتب الإلهية ركن من أركان الإيمان، وتحدث بالتفصيل عن هذه الكتب وخص القرآن الكريم بعناية خاصة لأنه الكتاب السماوي الوحيد الباقي صحيحاً سليماً من التحريف والتبديل. كما أنه بين الفرق بين الكتب الأخرى والتي وردت في القرآن الكريم وبين الكتب المتداولة الآن بين أيدي أهل الكتاب وبين الأدلة على أنها حرفت و"طورت". ثاني عشر: كما قرر رشيد رضا الإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى لهداية الخلق في كل زمان ومكان، وقرر الإيمان بأسمائهم التي وردت في الكتاب العزيز. إيماناً تفصيلياً وقرر الإيمان بمن لم يرد فيه من الرسل إيماناً إجمالياً مع توقفه في العدد الوارد في بعض الأحاديث. إلا أنه أنكر نبوة آدم بمعنى النبوة الاصطلاحية وقرر أنها نبوة نظرية تربوية ليست رسالة وحي وكتاب. وقد بينت أن الصحيح أن آدم كان نبياً معلماً مكلماً كما ورد في الأحاديث الصحيحة. وفي عصمة الأنبياء كان رشيد رضا موفقاً إذ أثبتها وبين معناها وقارن بين عصمة الأنبياء عند المسلمين وعصمتهم عند أهل الكتاب الذين نسبوا إليهم كل الجرائم والشرور، ولكنه امتد به الأمر في العصمة حتى أنكر سحر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم مع ثبوته، بحجة أنه يطعن في العصمة وفي النبوة، وكان هذا الموقف منه دليلاً على بقاء بعض أثر لفلسفة شيخه محمد عبده في فكره. ودليل آخر على ذلك وجدته في معجزات الأنبياء، التي وإن كان رشيد رضا قد قررها وأحسن فيها، إلا أنه عدّ بعضها من قوى النفس ورد منها انشقاق القمر لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بناء على ما كان عليه الفلاسفة من الإيمان بالمعجزات التي هي من قبيل تأثير قوى النفس دون سواها، كانشقاق القمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 895 ثالث عشر: تشدد رشيد رضا في مسالة الكرامات لنفس السبب الذي كان وراء موقفه من تلبس الجن، وهو الحال التي وصل إليها مدعو الكرامات، ولكنه على كل حال أثبت الكرامات الحقيقية، وأثبت الولاية الصحيحة، وفرق بين أولياء الله الصالحين وبين مدعي الولاية الكاذبين وبين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق الأشقياء. رابع عشر: اتخذ رشيد رضا موقفاً صحيحاً في مسالة الصحابة وأقر بفضلهم جميعاً ووجوب الترضي عنهم وهاجم الرافضة الذين اتخذوهم غرضاً وطعنوا فيهم، إلا أن موقفه من معاوية رضي الله عنه كان غير مرضي إذ كان فيه قصور شديد استدعى مني أن أبين للقراء باختصار بعض ما ورد في مناقب هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه. وفي مبحث الخلافة وافق رشيد رضا أهل السنة في تعريفها وفي شروطها وفي طرق التولي وفي طاعة أولي الأمر. إلا أنني لاحظت عليه التأثر بالأفكار التي انتشرت في عهده وكان مصدرها الفكر الغربي كمسألة سلطة الأمة وهي إحدى مبادئ النظام "الديمقراطي" وهو ما دفعه لاعتبار الشورى واجبة على الإمام، كما أنني أخذت عليه دعوته إلى تغيير الخليفة المتغلب وهو ما يعد دعوة للخروج ترفضها الشريعة. خامس عشر: وقد أثبت رشيد رضا أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، وقرر مسائل هذا الباب كالموت والبرزخ وعذاب القبر والبعث ـ بالروح والجسد ـ وأكد رشيد رضا على أن الله تعالى قد استأثر بعلم "الساعة" ولكنه تجاوز ذلك إلى إنكار أشراط الساعة وكان في ذلك متأثراً بشيخه محمد عبده. وقرر رشيد رضا أن الصراط حق وكذلك الميزان إلا أنه أنكر صفته الواردة في السنة، كما أثبت وجود الجنة والنار وخلقهما الآن وأنهما موجودتان، كما قرر أبدية الجنة ولكنه توقف في فناء النار مختاراً نفس الموقف الذي اتخذه ابن القيم في ظنه. سادس عشر: لقد تبين لي من خلال عرض منهج وآراء رشيد رضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 896 في العقيدة أنه كان متأثراً بعدة مدارس مختلفة، منها مدرسة شيخه محمد عبده الفلسفية، ومدرسة ابن تيمية السلفية، وبناءً على ذلك تعددت الآراء فيه فعده بعضهم محسوباً على هؤلاء وعده آخرون على هؤلاء، وكلا نظر إلى جانب واحد، ولكني أقول إحقاقاً للحق أن الذي غلب على رشيد رضا ـ لا سيما في آخر حياته ـ هو المنهج السلفي المتأثر فيه بمؤلفات ابن تيمية ومدرسته. سابع عشر: لقد بقيت أفكار وآراء رشيد رضا بعد وفاته ولم تمت بموته، بل بقيت في تلامذته وأشدهم تأثراً به "أنصار السنة" في مصر وغيرها، وذلك بسبب انتشار مجلة المنار في العالم الإسلامي وقوة تأثيرها الذي أخذته من قوة منشئها وبيانه وحجته وبلاغته، واعتماده على الدليل المباشر من الكتاب والسنة، كما ورثت مجلة الهدي النبوي مجلته المنار ورددت نفس آرائها وأفكارها. وإننا نرى أثر هذه الأفكار وهذا المنهج إلى يومنا هذا وتردد في آذاننا ـ مع الآراء الصحيحة التي اتخذها ـ الآراء الأخرى التي انتقدناها عليه. ثانياً: توصيات: أولاً: إنه رغم كل البحوث التي دارت موضوعاتها حول رشيد رضا من جوانب متعددة إلا أنه لا زال هناك بعض هذه الجوانب لم يدرس. منها جهود رشيد رضا الفقهية. إذ أنه ترك ثروة فقهية تستحق الدراسة والتقويم. ويجب أن يدخل في هذه الدراسة أو يستقل ببحث وحده: آراؤه الأصولية؛ كموقفه من الاجتهاد والتقليد وأثر ذلك على العمل الفقهي بعده. كما أنه بقي من جوانب العقيدة باب الأديان والفرق وجهود رشيد رضا في ذلك. فيحسن أن يفرد ذلك الباب ـ الذي كان جزءاً من خطتي في هذا البحث، وحذفه مجلس الكلية مشكوراً ـ ببحث منفرد يبحث فيه: جهود رشيد رضا في الأديان وتاريخها ومقارنتها، لقد بذل الشيخ رشيد جهوداً كبيرة في هذا الباب وأتى فيه ببحوث قيمة ومادة وفيرة، معتمداً على مصادر أهل الكتاب بجوار مصادر التاريخ العام والاكتشافات الحديثة، وعرض ونقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 897 وقارن، مما كان له أقوى الأثر في هذه الفترة التي كانت مصر وكثير من بلاد المسلمين متعرضين لفتنة دينية بسبب سيطرة الغرب المسيحي على معظم بلاد المسلمين، ونشرهم لأفكارهم وآرائهم والتي كان مصدرها في الغالب العقائد الدينية المسيحية. وقد كان ذلك ظاهراً أتم الظهور في مصر والشام والمغرب العربي. لقد واجه رشيد رضا وبشدة محاولات تنصير المسلمين في أماكن متعددة في العالم الإسلامي الخاضع للاحتلال الغربي. والله تعالى ولي التوفيق. ثانياً: في مسألة الرواية بالمعنى التي كانت إحدى الساقين التي وقفت عليها دعوى طرح الثقة بالأحاديث "القولية" لم أر من بحثها بحثاً كبحث مصطفى الأعظمي في مسألة الكتابة في "دراسات في الحديث النبوي" ونظراً لأهمية هذه المسألة ـ ولأنني أيضاً لم يكن لي بد من الاختصار والاقتصار على الأمثلة ـ فيجب أن يندب أحد زملائنا في كلية الحديث ببحث هذا الموضوع بحثاً علمياً يجيب فيه عن شبهة "الرواية بالمعنى" ويرد ما يقال حولها بالأدلة العلمية القائمة على الاستقراء التام، والله الموفق. وفي النهاية أتقدم إليك بالشكر أيها القارئ الصبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 898 مصادر ومراجع ... قائمة المصادر والمراجع 1- القرآن الكريم. 2- الآجري: محمد بن الحسين، الشريعة، ط. حديث أكادمي، باكستان، الأولى 1403هـ 1983م. ت: محمد حامد الفقي. 3- الآمدي: علي بن محمد، الأحكام، ط. محمد علي صبيح، بمصر، 1387هـ= 1968م. 4- إبراهيم خليل أحمد (فيليبس) : إسرائيل والتلمود، دار المنار، 1410هـ= 1990م. 5- ابن الأثير: أبو السعادات المبارك بن محمدالجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، ط. المكتبة العلمية، بيروت، بدون بيانات أخرى، ت: طه الزاوي ومحمود الطناحي. 6- أحمد: صلاح الدين مقبول، دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة. ط. مجمع البحوث العلمية الإسلامية، الهند، الهند 1412هـ 1992م. 7- الأحمدي: عبد الإله بن سليمان، المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة، ط. دار طيبة، الرياض، الثانية. 1416هـ. 1995م. 8- الأخفش: سعيد بن مسعدة، معاني القرآن. ط. الثانية، 1401هـ. 1981م. 9- أرسلان: شكيب: الأمير: حاضر العالم الإسلامي، دار الفكر. 10- أرسلان: شكيب: الأمير: "رشيد رضا" أو "إخاء أربعين سنة"، ط. ابن زيدون، دمشق، الأولى، 1356هـ. 11- الأزهري: محمد بن أحمد (أبو منصور) ، تهذيب اللغة، ط. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، ت: عبد السلام هارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 929 12- الأشعري: علي بن إسماعيل بن أبي بشر، الإبانة عن أصول الديانة. ط. دار الأنصار، مصر، الأولى، 1397هـ =1977م. ت: فوقية حسين محمود. 13- الأشعري: علي بن إسماعيل، الإبانة، عن أصول الديانة، ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الخامسة 1409هـ 1409هـ تقديم حماد الأنصاري. 14- الأشعري: علي بن إسماعيل، مقالات الإسلاميين، ط. المكتبة العصرية، بيروت 1411هـ 1990م. ت: محمد محيي الدين عبد الحميد. 15- الأشعري: علي بن إسماعيل، رسالة إلى أهل الثغر، ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ت: عبد الله شاكر الجنيدي. 16- الأشقر: عمر سليمان، القضاء والقدر، ط. مكتبة الفلاح ـ دار النفائس، الكويت، الثالثة 1411هـ =1991م. 17- الأشقر: عمر سليمان، الرسل والرسالات: دار النفائس، الأردن، السادسة 1415هـ 1995م. 18- الأشقر: عمر سليمان، اليوم الآخر، (القيامة الصغرى) ط. دار النفائس، الأردن، السادسة 1415هـ 1995م. 19- الأشقر: عمر سليمان، اليوم الآخر (القيامة الكبرى) ط. دارالنفائس، الأردن، 1415هـ 1995م. 20- الأصفهاني: أحمد بن الحسين بن مهران، المبسوط في القراءات العشر، مجمع اللغة العربية بدمشق، ت: سبيع حمزة حاكمي. 21- الأصفهاني: الراغب، مفردات ألفاظ القرآن الكريم. ط. دار القلم ـ الدار الشامية، دمشق، الأولى، 1412هـ 1992م. 22- الأصفهاني: محمود بن عبد الرحمن بن أحمد، بيان المختصر (لابن الحاجب) ط. جامعة أم القرى، الأولى، 1406هـ 1986م. ت: محمد مطهر بقا. 23- الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن عبد الملك، الأصمعيات، دار المعارف، مصر، ت: أحمد شاكر، وعبد السلام هارون. 24- الأعشى: ميمون بن قيس، ديوان الأعشى، ط. مكتبة الآداب، مصر. شرح: د. محمد حسين. 25- الأعظمي: محمد مصطفى، دراسات في الحديث النبوي، ط. شركة الطباعة العربية السعودية المحدودة، الرياض، ط. الثالثة 1401هـ 1981م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 930 26- الأعظمي: محمد مصطفى، منهج النقد عند المحدثين: شركة الطباعة العربية السعودية المحدودة، الرياض، ط. الثانية، 1402م =1982م. 27- آغا: محمد منير الدمشقي، نموذج من الأعمال الخيرية، ط. مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، الثانية 1406هـ. 28- الأفغاني: الشمس السلفي، الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، ط. مكتبة الصديق، الطائف، الثانية،/ 1419هـ. =1998م. 29- الألباني: محمد ناصر الدين، تحذير لاساجد من اتخاذ القبور مساجد، ط. المكتب الإسلامي، الرابعة 1403هـ 1983م. 30- الألباني: محمد ناصر الدين، التوسل أنواعه وأحكامه، الخامسة، 1406هـ 1986م. 31- الألباني: محمد ناصر الدين، مختصر العلو، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى، 1401هـ. 1981م. 32- الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الرابعة، 1405هـ 1985م. 33- الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ط. مكتبة المعارف، الرياض، الأولى، 1417هـ. 34- الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الضعيفة، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الخامسة، 1405هـ =1985م. 35- الألباني: محمد ناصر الدين، صحيح الجامع الصغير وزيادة، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة، 1408هـ = 1988م. 36- الألباني: محمد ناصر الدين، صحيح سنن الترمذي، ط. مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1408هـ 37- الألباني: محمد ناصر الدين، صحيح سنن أبي داود، ط. مكتب التربية العربي لدول الخليج 1409هـ. 38- الألباني: محمد ناصر الدين، صحيح سنن النسائي، ط. المكتب التربية العربي لدول الخليج، 1409هـ. 39- الألباني: محمد ناصر الدين، صحيح سنن ابن ماجه، ط. مكتب التربية العربي لدول الخليج 1408هـ. 40- الألباني: محمد ناصر الدين، ضعيف سنن الترمذي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط. الأولى، 1411هـ. = 1991م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 931 41- الألباني: محمد ناصر الدين، ضعيف سنن أبي داود، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط. الأولى، 1412هت. = 1992م. 42- الألباني: محمد ناصر الدين، ضعيف سنن النسائي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط. الأولى، 1411هـ =1990م. 43- الألباني: محمد ناصر الدين، ضعيف سنن ابن ماجه، ط. مكتب التربية العربي لدول الخليج، الأولى، 1408هـ 1988م. 44- الألباني: محمد ناصر الدين، ضعيف الجامع الصغير وزياداته، ط. المكتب الإسلامي، الثالثة، 1410هـ 1990م. 45- الألباني: محمد ناصر الدين، صحيح الكلم الطيب، ط. المكتب الإسلامي. 46- الآلوسي: محمود البغدادي (شهاب الدين أبو الفضل) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث، بيروت (مصور عن إدارة الطباعة المنيرية، مصر) 47- أمين: أحمد، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، 1979م. 48- أمين: أحمد، ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، العاشرة. 49- أمين: أحمد، فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، العاشرة، 1969م. 50- الأمين: الأمين الصادق، موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1418هـ =1998م. 51- الأنباري: عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد النحوي، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت (مصورة عن طبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر) 52- الأنصاري: حماد بن محمد، إعلام الزمرة بأحكام الهجرة، مكتبة الدار، المدينة المنورة. 53- الأنصاري: حماد بن محمد، أبو الحسن الأشعري، ط. مؤسسة النور، الرياض، الثالثة، 1390هـ. 54- أيبش: يوسف، رحلات رشيد رضا، ط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الثانية، 1979م. 55- الإيجي: عبد الرحمن بن أحمد عضد الدين، المواقف في علم الكلام، ط. عالم الكتب، بيروت، مكتبة المتنبي، القاهرة، ومكتبة سعد الدين، دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 932 56- الأيوبي: إلياس، تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل، ط. دار الكتب المصرية، 1923=1341هـ. 57- البار: محمد علي، مدخل لدراسة التوراة والعهد القديم، ط. دار الفكر، دمشق، والدار الشامية، بيروت، الأولى، 1410هـ =1990م. 58- البار: محمد علي، الإله والأنبياء في التوراة والعهد القديم، ط. دار القلم، دمشق، الأولى، 1410هـ= 1990م. 59- الباقلاني: محمد بن الطيب (أبو بكر) ، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، الثالثة، 1414هـ =1993م، ت: عماد الدين حيدر. 60- البخاري: محمد بن إسماعيل، الصحيح، ط. المطبعة السلفية ومكتبتها (مصورة الريان للتراث) ط. الثانية، 1409هـ =1988م. 61- بروكلمان: كارل، تاريخ الشعوب الإسلامية، نقله للعربية: نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي، ط. دار العلم للملايين، بيروت، الخامسة، 1968م. 62- بروكلمان: كارل، تاريخ الدب العربي، ط. دار المعارف، مصر. 63- البزار: عمر بن علي، الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، ط. المكتب الإسلامي، الثانية، 1396هـ، ت: زهير الشاويش. 64- البزار: أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، البحر الزخار (مسند البزار) ، ط. مؤسسة علوم القرآن، بيروت، الأولى، 1409هـ، ت: د. محفوظ الرحمن زين الله. 65- البسام: عبد الله بن صالح، علماء نجد خلال ثمانية قرون، ط. دار العاصمة، الرياض، الثانية، 1413هـ. 66- البستاني: بطرس، دائرة المعارف، مطبعة المعارف، بيروت، 1882م. 67- ابن بطة: عبيد الله بن محمد العكبري الحنبلي، الرد على الجهمية، ط. دار الراية، الرياض. 68- ابن بطة: عبيد الله بن محمد العكبري الحنبلي، القدر، د. دار الراية، الرياض، الثاني، 1418هـ. 69- البغدادي: أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، الرحلة في طلب الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1395هـ =1975م، ت: نور الدين عتر. 70- البغدادي: أحمد بن علي الخطيب، الكفاية في علم الرواية، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1409هـ =1988م (مصورة عن الهند) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 933 71- البغدادي: أحمد بن علي الخطيب، الفقيه والمتفقه، تصحيح: الشيخ إسماعيل الأنصاري، 1395هـ =1975م، بدون رقم الطبعة. 72- البغدادي: أحمد بن علي الخطيب، تاريخ بغداد، المكتبة السلفية، المدينة المنورة. 73- البغدادي: أحمد بن علي الخطيب، رسالة في الكلام على الصفات، ط. مكتبة العلم، جدة، ت: عمرو عبد المنعم. 74- البغدادي: أحمد بن علي الخطيب، تقييد العلم، ط. دار إحياء السنة النبوية، الثانية، 1974م، ت: يوسف العش. 75- البغدادي: عبد القاهر بن طاهر، أصول الدين، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1401هـ. 76- البغدادي: عبد القاهر بن طاهر، الفرق بين الفرق، ط. مكتبة محمد علي صبيح وأولاده بمصر، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد. 77- البنا: أحمد بن محمد، إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر، ط. عالم الكتب ـ الكليات الأزهرية ـ الأولى، 1407هـ =1987م، ت: شعبان محمد إسماعيل. 78- بوكاي: موريس، القرآن والتوراة والإنجيل والعلم، دار المعارف، مصر. 79- البيجوري: إبراهيم، تحفة المريد على جوهرة التوحيد، الإدارة للمعاهد الأزهرية، 1406هـ =1986م. 80- البيهقي: أحمد بن الحسين، مناقب الشافعي، ط. دار التراث، مصر، ت: السيد صقر، الأولى، 1391هـ =1971م. 81- البيهقي: أحمد بن الحسين، الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الأولى، 1401هـ =1981م، ت: أحمد عصام الكاتب. 82- البيهقي: أحمد بن الحسين، الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ت: أحمد محمد مرسي، 1380هـ =1961م. 83- البيهقي: أحمد بن الحسين، الأسماء والصفات، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى، 1405هـ =1985م. 84- البيهقي: أحمد بن الحسين، حياة الأنبياء في قبورهم، ط. مكتبة العلوم والحكم، الأولى، 1414هـ =1993م، ت: أحمد عطية الغامدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 934 85- البيهقي: أحمد بن الحسين، دلائل النبوة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1405هـ، ت: عبد المعطي قلعجي. 86- البيومي: د. محمد رجب، النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ط. دار القلم ـ الدار الشامية ـ الأولى، 1415هـ =1995م. 87- التبريزي: الخطيب، مشكاة المصابيح، ط. المكتب الإسلامي، الثالثة، 105هـ ت: الألباني. 88- الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة، السنن، ط. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، الثانية، 1398هـ =1978م، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر. 89- التميمي: د. محمد بن خليفة، معتقد أهل السنة في أسماء الله الحسنى، ط. دار إيلاف الدولية للنشر والتوزيع، الأولى، 1417هـ=1996م. 90- التويجري: حمود بن عبد الله بن حمود، الرد القويم على المجرم الأثيم، مكتبة دار العليان الحديثة، بريدة، الثانية، 1406هـ =1986م. 91- التويجري: حمود بن عبد الله بن حمود، إتحاف الجماعة، طبع على نفقة بعض المحسنين، الأولى، 1396هـ. 92- ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، الإستقامة، مؤسسة قرطبة، الثانية، ت: محمد رشاد سالم. 93- ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، نقد التأسيس، ط. مكتبة الحكومة بمكة المكرمة، بأمر الملك فيصل، الأولى، 1391هـ. 94- ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، نقد التأسيس (مخطوط) 95- ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، الرسالة التدمرية، ط. المطبعة السلفية ومكتبتها، الثالثة، 1400هـ. 96- ابن تيمية: الرسالة التدمرية [ضمن مجموع الفتاوى (3) ] 97- ابن تيمية: شرح حديث النزول [ضمن مجموع الفتاوى (5) ] 98- ابن تيمية: الفتوى الحموية الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت. 99- ابن تيمية: الفتوى الحموية الكبرى، ط. المطبعة السلفية، بمصر. 100- ابن تيمية: مجموع الفتاوى، دار عالم الكتب، الرياض، 1412هـ =1991م. 101- ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير، ط. المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، الرابعة، 1399هـ =1979م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 935 102- ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل، ط. دار الكنوز الأدبية، ت: محمد رشاد سالم. 103- ابن تيمية: التوسل (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) ، ط. دار لينة، ت: د. ربيع المدخلي، الأولى، 1409هـ. 104- ابن تيمية: التوسل والوسيلة، ت: محمد رشيد رضا، ط. المنار بمصر. 105- ابن تيمية: بغية المرتاد، ط. مكتبة العلوم والحكم، الثانية، 1415هـ، ت: موسى الدويش. 106- ابن تيمية: الإيمان، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية، 1392هـ، ت: الألباني. 107- ابن تيمية: النبوات، ط. دار القلم، بيروت. 108- ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، ط. جامعة الإمام، ت: محمد رشاد سالم، الأولى، 1406هـ =1986م. 109- ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص [ضمن مجموع الفتاوى (17) ] 110- ابن تيمية: شرح الأصفهانية، الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1415هـ = 1995م. 111- ابن تيمية: الرسالة المدنية [ضمن مجموع الفتاوى (6) ] 112- ابن تيمية: الرد على من قال بفناء الجنة والنار، ت: د. محمد عبد الله السمهري، ط. دار بلنسية، الأولى، 1415هـ = 1995م. 113- ابن تيمية: الرد على البكري، ط. الدار العلمية، دلهي، الهند، الثانية، 1405هـ. 114- ابن تيمية: الرد على الأخنائي (بهامش السابقة) 115- ابن تيمية: الجواب الباهر، المطبعة السلفية بمصر، الأولى، بدون تارخ. 116- ابن تيمية: العبودية، ط. المكتب الإسلامي، الخامسة، 1399هـ. 117- ابن تيمية: العبودية، ط. مكتبة المعارف بالرياض، 1402هـ. 118- ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، ت: ناصر العقل، 1404هـ، الأولى. 119- ابن تيمية: الإكليل في المتشابه والتأويل، ط. المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1394هـ. 120- ابن تيمية: الواسطة بين الحق والخلق، ت: محمد جميل زينو. 121- ابن تيمية: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ط. دار الفكر، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 936 122- آل تيمية: المسودة في أصول الفقه، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر، بدون بيانات. 123- جار الله: زهدي حسن، المعتزلة، ط. مطبعة مصر، 1366هـ= 1947م. 124- الجامي: محمد أمان، الصفات الإلهية، ط. الجامعة الإسلامية (المجلس العلمي) المدينة المنورة، 1408هـ. 125- الجبرتي: التاريخ، ط. دار الجيل، بيروت، الثانية، 1978م. 126- الجرجاني: علي بن محمد بن علي السيد الزين، التعريفات، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1357هـ. 127- الجزائري: أبو بكر جابر، إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام، ط. راسم للدعاية والإعلان، الأولى، 1412هـ. 128- الجزري: محمد بن محمد، النشر في القراءات العشر، مكتبة القاهرة، مصر، ت: محمد سالم محيسن. 129- الجسر: حسين، الرسالة الحميدية: في حقيقة الديانة الإسلامية وحقية الشريعة المحمدية، ط. إدارة الطباعة المنيرية، 1352هـ. 130- الجسر: محمد نديم، قصة الإيمان، بدون بيانات. 131- الجكني: محمد الأمين، شرح مراقي السعود، ط. مطبعة المدني بمصر، 1378هـ. 132- جمال الدين: أمين محمد، عمر أمة الإسلام وقرب ظهور المهدي عليه السلام، ط. مكتبة المجد العربي، القاهرة، الرابعة، 1417هـ =1997م. 133- الجمل: سليمان بن عمر الشافعي، الفتوحات الإلهية، ط. دار إحياء التراث، بيروت. 134- ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن، تلبيس إبليس (نقد العلماء) ، ت: محمود مهدي استانبولي، 1396هـ = 1976م. 135- ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن، الحث على حفظ العلم، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1405هـ =1985م. 136- ابن الجوزي: جمال الدين، نواسخ القرآن، ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، الأولى، 1404هـ =1984م، ت: محمد أشرف المليباري. 137- جولد سهير: أجناس، العقيدة والشريعة في الإسلام، نقله إلى العربية: محمد يوسف موسى وعلي حسن عبد القادر وعبد العزيز عبد الحق، الناشر: دا رالكتب الحديثة، مصر، ومكتبة المثنى، بغداد، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 937 138- جولد سهير: أجناس، مذاهب التفسير الإسلامي، ط. مكتبة الخانجي، مصر. 139- الجيوش: محمد إبراهيم، دراسات عن اليهود، بدون بيانات. 140- الجيوش، محمد إبراهيم، دراسات في النصرانية، ط. دار الهدى للطباعة، 1408هـ =1988م. 141- جينيبير: شارل، المسيحية نشأتها وتطورها، ترجمة: د. عبد الحليم محمود، ط. المكتبة العصرية، بيروت. 142- ابن الحاجب: عثمان بن عمر، المختصر، ط. جامعة أم القرى، الأولى، 1406هـ =1986م، ت: محمد مظهر بقا (مع شرح الأصفهاني) . 143- الحاكم: أبو عبد الله ابن البيّع، المستدرك على الصحيحين، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1411هـ =1991م، ت: مصطفى عبد القادر عطا. 144- ابن حبان: أبو حاتم البستي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (علاء الدين علي بن بلبان الفارسي) ط. مؤسسة الرسالة، الثانية، 1414هـ =1993م، ت: شعيب الأرناؤوط. 145- ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، التلخيص الحبير، ط. شركة الطباعة الفنية، القاهرة، ت: عبد الله هاشم اليماني المدني، 1384هـ = 1964م. 146- ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، ط. وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، السعودية، الأولى، 1415هـ= 1994م. 147- ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، النكت على مقدمة ابن الصلاح، ط. الجامعة الإسلامية، ت: د. ربيع المدخلي، الأولى، 1404هـ =1984م. 148- ابن حجر: أحمد بن علي، تقريب التهذيب، ط. دار العاصمة، الأولى، 1416هـ. 149- ابن حجر: أحمد بن علي، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ط. دار الجيل، بيروت. 150- ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، لسان الميزان، 151- ابن حجر: أحمد بن علي، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط. المكتبة السلفية ومطبعتها (مصورة الريان للتراث) الثانية، 1409هـ =1989م. 152- ابن حجر: أحمد بن علي، الإصابة في معرفة الصحابة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، (مصورة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 938 153- ابن حجر: أحمد بن محمد بن علي الهيتمي، الزواجر عن اقتراف الكبائر، ط. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الثانية، 1390هـ 1970م. 154- حرازم: علي، جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني، ط. شركة - مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الأخيرة، 1380هـ =1961م، (وبالهامش: رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم) 155- حرب: د. محمد، السلطان عبد الحميد الثاني، ط. دار القلم، دمشق، الأولى، 1410هـ = 1990م. 156- ابن حزم: محمد بن علي، مراتب الإجماع، ط. دار الكتب العلمية، بيروت. 157- ابن حسن: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام، ط. دار الهداية، الرياض، ت: إسماعيل بن سعد بن عتيق. 158- حسن: عباس، النحو الوافي، ط. دار المعارف، مصر، السادسة. 159- الحسني: عبد الحي، معارف العوارف في أنواع العلوم والمعارف، ط. دائرة المعرف العثمانية، حيدر آباد، الهند. 160- حسين: محمد الخضر، نقض كتاب في الشعر الجاهلي، ط. المكتبة العلمية، بيروت. 161- حسين: د. محمد محمد، الإسلام والحضارة الغربية، ط. المكتب الإسلامي، الأولى، 1399هـ =1979م. 162- حسين: د. محمد محمد، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ط. مكتبة الآداب، القاهرة. 163- الحصري: ساطع (أبو خلدون) ، البلاد العربية والدولة العثمانية، ط. دار العلم للملايين، بيروت. 164- الحفناوي: محمد إبراهيم، دراسات في القرآن الكريم، دار الحديث، مصر. 165- الحفني: عبد المنعم، معجم المصطلحات الصوفية، ط. دار المسيرة، بيروت، الأولى، 1400هـ 1980م. 166- الحكمي: حافظ بن أحمد، معارج القبول، بدون بيانات. 167- حلمي: د. مصطفى، التصوف وابن تيمية، ط. مكتبة ابن تيمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 939 168- حليم: إبراهيم بك، تاريخ الدولة العثمانية العلية، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى، 1408هـ =1988م. 169- الحليمي: المنهاج في شعب الإيمان، ط. دار الفكر، بيروت، الأولى، 1399هـ 1979م. 170- حماد: نعيم المروزي، الفتن، ط. مكتبة التوحيد، القاهرة، الأولى، 1412هـ، ت: سمير بن أمين الزهير. 171- آل حمد: أحمد بن ناصر، رؤية الله تعالى، ط. معهد البحوث العلمية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الأولى، 1411هـ =1991م. 172- الحمدان: سليمان بن عبد الرحمن، الدر النضيد على أبواب التوحيد، ط. المكتبة السلفية ومكتبتها، الأولى، 139هـ. 173- حمزة: محمد عبد الرزاق، ظلمات أبي رية، ط. المطبعة السلفية، مصر، 1378هـ، بدون رقم الطبعة. 174- الحمود: محمد بن حمد، النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ط. مكتبة الذهبي، الكويت، 1413هـ. 175- الحموي: ياقوت، معجم البلدان، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1410هـ. 176- ابن حنبل: أحمد بن حنبل، المسند، ط. المكتب الإسلامي (مصورة عن الميمنية) مع فهرس الألباني. 177- ابن حنبل: أحمد بن حنبل، المسند، ط. دار المعارف بمصر، 1376هـ =1957م، ت: أحمد شاكر. 178- ابن حنبل: أحمد بن حنبل، المسند، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1414هـ = 1994م. بإشراف عبد الله بن عبد المحسن التركي. 179- ابن حنبل: أحمد بن حنبل، السنة (مع الرد على الجهمية) ط. رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، السعودية. 180- ابن حنبل: عبد الله بن أحمد، السنة، ط. دار رمادي، المؤتمن للتوزيع، الثالثة، 1416هـ =1995م. ت: محمد سعيد القحطاني. 181- الحنبلي: عبد المؤمن بن كمال الدين البغدادي، قواعد الأصول ومعاقل الفصول، ط. معهد البحوث العلمية، جامعة أم القرى، ت: علي عباس الحكمي، الأولى، 1409هـ = 1988م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 940 182- الحنفي: أحمد شلبي بن عبد الغني المصري، أوضح الإشارت فيمن تولى مصر من الباشوات، ت: د. عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، ط. مكتبة الخانجي، القاهرة، 1978م. 183- الحنفي: عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، الاختيار لتعليل المختار، ط. إدارة المعاهد الأزهرية، 1390هـ =1971م. 184- خان: صديق حسن، الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة، ط. دار المدني، جدة، 1406هـ =1986م. 185- خان: صديق حسن، فتح البيان في مقاصد القرآن، الناشر دار أم القرى للطباعة والنشر، القاهرة، 1965م. 186- خان: صديق حسن، قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر، ت: عاصم القريوتي، ط. الأولى، 1404هـ. 187- خان: صديق حسن، الروضة الندية شرح الدرر البهية، ط. دار الأرقم، بريطانيا، ومكتبة الكوثر، الرياض، الثانية. 1413هـ 1993م. 188- خان: وحيد الدين، الدين في مواجهة العلم، ط. دار الاعتصام، الأولى، 1392هـ =1972م. 189- ابن خزيمة: محمد بن إسحاق، التوحيد وإثبات صفات الرب عزوجل، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ – 1978م، ت: محمد خليل هراس. 190- ابن خزيمة: محمد بن إسحاق، التوحيد وإثبات صفات الرب، ط. دار الرشد، الرياض، الأولى، 1408هـ = 1988م، ت: عبد العزيز الشهوان. 191- الخطابي: حمد بن محمد، شأن الدعاء، ط. دار المأمون للتراث، دمشق، الأولى، 1404هـ =1984م، ت: أحمد يوسف الدقاق. 192- الخطيب: عبد الكريم، المهدي المنتظر ومن ينتظرونه، ط. دار الفكر العربي، دار الثقافة العربية للطباعة، عابدين، الأولى، 1980م. 193- ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد، التاريخ، دار الكتاب اللبناني، الثالثة 1967هـ. 194- ابن خلكان، أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان، ط. دار صادر، بيروت، ت: إحسان عباس، 1977م = 1397هـ. 195- داخل: أحمد بن عوض الله، الماتريدية دراسة وتقويماً، ط. دار العاصمة، الرياض، الأولى، 1413هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 941 196- الدارقطني: علي بن عمر، الصفات، ط. مكتبة لينة، الثانية، 1414هـ =1994م. ت: عبد الله بن محمد الغنيمان. 197- الدارمي: عثمان بن سعيد، رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد، ط. حديث أكادمي، باكستان، 1402هـ، حققه: حامد الفقي. 198- الدارمي: عثمان بن سعيد، الرد على الجهمية، دون بيانات. 199- دارون: شارلز روبرت، أصل الأنواع، ترجمة: إسماعيل مظهر، ط. دار العصور للطبع والنشر، القاهرة، 1928م. 200- الداني: أبو عمرو، السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها، ت: رضاء الله المباركفوري، ط. دار العاصمة، الأولى، 1416هـ =1995م. 201- أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، السنن، ط. دار الحديث، ت: عزت عبيد الدعاس. 202- ابن أبي داود: عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث، المصاحف، ط. مؤسسة قرطبة للنشر والتوزيع، مصر. 203- ابن أبي داود: عبد الله بن أبي داود سليمان الأشعث، البعث، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ = 1987م، ت: بسيوني زغلول. 204- دراز: محمد عبد الله، الدين، 1389هـ = 1969م. 205- دراز: محمد عبد الله، النبأ العظيم، ط. دار القلم، الكويت، السادسة، 1405هـ= 1984م. 206- دراز: محمد عبد الله، المدخل إلى القرآن الكريم، ط. دار القلم، الكويت، الثالثة، 1401هـ = 1981م. 207- دراز: محمد عبد الله، دستور الأخلاق في القرآن الكريم، ط. مؤسسة الرسالة، الثالثة، 1400هـ = 1980م. ترجمة: عبد الصبور شاهين. 208- دروزة: محمد عزت، تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم، ط. المكتبة العصرية، بيروت، 1389هـ =1969م. 209- درويش: أبو الوفاء محمد، القضاء والقدر، ط. دار القسم، الرياض، الأولى، 1416هـ =1995م، تقديم: حامد الفقي. 210- درويش: أبو الوفاء محمد، الأسماء الحسنى، ط. الجمعية الشرعية بسوهاج، مصر، الأولى، 1390هـ = 1970. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 942 211- الدسوقي: عمر، في الأدب الحديث، ط. دار الفكر العربي، القاهرة، الخامسة. 212- الدمشقي: محمد بن أبي بكر بن ناصر الدين، الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة، 1411هـ = 1991م. 213- الدمشقي: تقي الدين أبو بكر محمد الحسيني الشافعي، كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، ط. الإدارة العامة للمعاهد الأزهرية، 1399هـ = 1979م. 214- الدميجي: عبد الله بن عمر بن سليمان، الإمامة العظمى عند اهل السنة والجماعة، ط. دار طيبة للنشر والتوزيع، الثانية، 1409هـ. 215- الدميجي: عبد الله عمر، اسم الله العظم، ط. دار الوطن، الرياض، الأولى، 1419هـ = 1998م. 216- دنيا: سليمان، الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين، ط. دار إحياء الكتب العربية، مصر، الأولى، 1958م = 1377هـ. 217- ديدات: أحمد، خمسون ألف خطأ في الكتاب المقدس، ط. المختار الإسلامي، مصر. 218- ديدات: أحمد، سر الحجر، ط. المختار الإسلامي، مصر. 219- الذهبي: محمد بن احمد بن عثمان، العلو للعلي الغفار، ط. المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة، 1388هـ =1968م. 220- الذهبي: محمد بن أحمد، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ط. دار المعرفة، ت: علي محمد البجاوي. 221- الذهبي: محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى، 1409هـ 1989م. 222- الذهبي: محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الحادية عشرة، 1417هـ 1996م. ت: شعيب الأرناؤوط، وزملاؤه. 223- الذهبي: محمد حسين، التفسير والمفسرون، ط. مكتبة وهبة، مصر، الرابعة، 1409هـ 1989م. 224- الذهبي: محمد حسين، الإسرائيليات في التفسير، ط. مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، 1407هـ 1987م. 225- الرازي: محمد بن عمر بن حسين (فخر الدين) ، مفاتح الغيب أو التفسير الكبير، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 943 226- الرازي: محمد بن عمر بن حسين، أساس التقديس، مطبعة كردستان العلمية، بمصر، 1328هـ. 227- الرازي: محمد بن عمر بن حسين، شرح الأسماء الحسنى، ط. مكتبة الكليات الأزهرية، 1396هـ =1976م، راجعه: طه عبد الرؤوف سعد. 228- الرازي: محمد بن عمر بن حسين، المحصل، ط. مكتبة دار التراث، القاهرة، الأولى، 1411هـ. 229- الرازي: محمد بن عمر بن حسين، عصمة الأنبياء، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1409هـ =1988م. 230- الرازي: محمد بن عمر بن حسين، أصول الدين، ط. الكليات الأزهرية، مصر. 231- الرازي: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر، مختار الصحاح، ط. مكتبة لبنان، بيروت. 232- الرازي: أحمد بن محمد بن المظفر، حجج القرآن، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1406هـ. 233- الرافعي: عبد الرحمن، الحملة الفرنسية، ط. نهضة مصر، الرابعة، 1381هـ. 234- الرافعي: عبد الرحمن، الثورة العرابية، ط. دار المعارف، مصر. 235- الرافعي: عبد الرحمن، مصطفى كامل، ط. دار المعارفن مصر. 236- الرافعي: مصطفى صادق، تحت راية القرآن، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الثامنة، 1403هـ =1983. 237- الرافعي: مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، التاسعة، 1393هـ =1973. 238- ربيع: د. يحيى محمد، الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف، ط. دار الوفاء، الأولى، 1415هـ =1994م. 239- ربيع بن هادي المدخلي: العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم، ط. دار الوحدة للكتاب، مصر، الأولى، 1415هـ =1994م. 240- ربيع بن هادي المدخلي: أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة، الأولى، 1414هـ =1993م. 241- ربيع بن هادي المدخلي: مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة، الثانية، 1416هـ = 1995م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 944 242- ابن رجب: شهاب الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الحنبلي البغدادي، جامع العلوم والحكم، ط. شركة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الرابعة، 1393هـ =1973م. 243- ابن رجب: أبو الفرج، لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ط. دار ابن كثير، ت: ياسين السواس، الثالثة، 1416هـ. 244- ابن رجب: أبو الفرج، شرح علل الترمذي، ت: د. همام عبد الرحيم سعيد، ط. مكتبة المنار، الأردن، الأولى، 1407هـ =1987م. 245- ابن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، ط. الأنجلو مصرية، الثانية، ت: محمد قاسم. 246- رضا: محمد رشيد، حقوق النساء في الإسلام، دون بيانات. 247- رضا: محمد رشيد، الخلافة، الزهراء للإعلام العربي، 1408هـ =1988م. 248- رضا: محمد رشيد، الوحي المحمدي، ط. المكتب الإسلامي، التاسعة، 1399هـ =1979م. 249- رضا: محمد رشيد، المنار والأزهر، ط. المنار، الأولى، 1353هـ. 250- رضا: محمد رشيد، الوهابيون والحجاز، ت: عبد الرحمن بن عبد الجبار، ط. إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنهارس، الهند، الأولى، 1409هـ =1988م. 251- رضا: محمد رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، ط. مطبعة المنار، الأولى، 1350هـ =1931م. 252- رضا: محمد رشيد، الربا والمعاملات في الإسلام، ط. مكتبة القاهرة، تقديم: محمد بهجت البيطار. 253- الرضي: محمد بن الحسن، شرح شافية ابن الحاجب، ط. دار الفكر العربي، بيروت، 1395هـ =1975م. 254- الرومي: د. فهد بن عبد الرحمن، اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، ط. بإذن رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، 1407هـ= 1986م. 255- الرومي: د. فهد بن عبد الرحمن، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، ط. مؤسسة الرسالة، الأولى، 1401هـ =1981م. 256- الريسوني: أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط. الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الثانية، 1412هـ =1992م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 945 257- أبو رية: محمود، أضواء على السنة، ط. دار المعارف، مصر، الرابعة. 258- زاده: طاش كبرى، مفتاح السعادة ومفتاح الريادة، ط. دار الكتب الحديثة بمصر. 259- الزبيدي: محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس، 260- الزجاج: إبراهيم بن السري، معالم القرآن، ط. عالم الكتب، بيروت، 1408هـ، ت: د. عبد الجليل الشلبي. 261- الزرقاني: محمد عبد العظيم، مناهج العرفان في علوم القرآن، دار إحياء الكتب العربية، مصر، (فيصل الحلبي) . 262- الزركشي: محمد بن جمال الدين عبد الله، البرهان في علوم القرآن، ط. دار المعرفة، بيروت، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم. 263- الزركشي: محمد بن جمال الدين عبد الله، النكت على مقدمة ابن الصلاح، ط. أضواء السلف، الأولى، 1419هـ= 1998م، ت: زين العابدين ابن محمد بلافريح. 264- الزركلي: خير الدين، الأعلام، ط. دار العلم للملايين، بيروت، الثانية عشرة، 1997م. 265- الزركلي: خير الدين، الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، دار العلم للملايين، الثالثة، 1977م. 266- زكي: عبد الرحمن، التاريخ الحربي لمحمد علي الكبير، ط. دار المعارف، مصر، 1369هـ =1950م. 267- الزنجاني: أبو عبد الله، تاريخ القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الثالثة، 1388هـ = 1969م. 268- زهران: محمد علي، إنجيل يوحنا في الميزان، ط. دار الأرقم، مصر، الأولى، 1412هـ = 1992م. 269- الزهراني: محمد مطر، تدوين السنة، ط. مكتبة الصديق، الأولى، 1412هـ. 270- أبو زهرة: محمد، محاضرات في النصرانية، ط. دار الفكر العربي، القاهرة. 271- أبو زهرة: محمد، المعجزة الكبرى، دار الفكر العربي، مصر. 272- أبو زهو: محمد محمد، الحديث والمحدثون، ط. مطبعة مصر، الأولى، 1378هـ =1958م. 273- زيدان: جورجي (منشئ الهلال) ، تاريخ مصر الحديث، ط. مطبعة الهلال، الثالثة، 1925م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 946 274- زيدان: جورجي، مصر العثمانية، ت: محمد حرب، ط. دار الهلال (كتاب الهلال، العدد: 517، رجب ـ يناير، 1994م) . 275- الزيلعي: عبد الله بن يوسف الحنفي، نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، ط. دار الحديث بالقاهرة. 276- الساعاتي: أحمد عبد الرحمن البنا، الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني، ط. مطبعة الإخوان المسلمين، الأولى. 277- السايس: محمد علي، تفسير آيات الأحكام، ط. محمد علي صبيح، مصر. 278- السايس: محمد علي، نشأة الفقه الاجتهادي وأطواره، ط. مجمع البحوث الإسلامية، الكتاب التاسع، 1389هـ = 1970م. 279- السباعي: مصطفى، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الرابعة، 1405هـ =1985م. 280- السبكي: تاج الدين، طبقات الشافعية، ط. دار إحياء الكتب العربية، مصر، ت: محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو. 281- السجزي: عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي (أبو نصر) ، رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت، تحقيق ودراسة: د. محمد باكريم با عبد الله، ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الأولى، 1413هـ. 282- السخاوي: أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن، فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، تحقيق وتعليق: علي حسين علي، ط. إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنهارس، الهند، الأولى، 1409هـ = 1988م. 283- ابن سعد: محمد الزهري، الطبقات، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1411هـ = 1991م. 284- ابن سعدي: عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ط. الجامعة الإسلامية، 1398هـ. 285- ابن سعدي: عبد الرحمن، الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين، ط. مكتبة المعارف، الرياض، 1402هـ = 1982م. 286- ابن سعدي: عبد الرحمن، القول السديد في مقاصد التوحيد، ط. الجامعة الإسلامية، 1409هـ، السابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 947 287- أبو السعود: محمد بن محمد العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت. 288- السعيد: د. لبيب، المصحف المرتل أو الجمع الصوتي الأول للقرآن، ط. دار المعارف، مصر. 289- السعيدي: عبد الله بن محمد بن حسن، الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة (بحث للدكتوراه على الحاسب الآلي) الجامعة الإسلامية، كلية الشريعة، قسم الفقه. 290- السفاريني: محمد بن أحمد، لوائح الأنوار، ط. المنار، الأولى، 1323هـ. وط. أخرى باسم: لوامع الأنوار، منشورات مؤسسة الخافقين، دمشق، الثانية، 1402هـ = 1982م. وط. ثالثة على نفقة حاكم قطر مع تعليقات عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (مفتي نجد) . 291- ابن سلام: أبو عبيد القاسم، الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز، ط. مكتبة الرشد، الرياض، 1411هـ = 1990م، ت: محمد صالح المديفر. 292- ابن سلام: أبو عبيد القاسم، الإيمان، ط. المكتب الإسلامي، الثانية، 1403هـ = 1983م، ت: محمد ناصر الدين الألباني. 293- السلمان: محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ط. مكتبة المعلا، الكويت، الأولى، 1409هـ = 1988م. 294- أبو سليمان: عبد الوهاب إبراهيم، كتابة البحث العلمي، ط. دار الشروق، الثالثة، 1408هـ = 1987م. 295- السندي: عبد القادر بن حبيب، التصوف في ميزان البحث والتحقيق، توزيع مكتبة ابن القيم، الأولى، 1410هـ. 296- السندي: الصغير بن محمد صادق، بهجة النظر شرح نخبة الفكر، ط. أكاديمية الشاه ولي الله، باكستان. 297- السنوسي: محمد بن يوسف، أم البراهين أو السنوسية الصغرى (ضمن مجموعات مهمات المتون) ط. الحلبي بمصر، الرابعة، 1369هـ = 1949م. 298- السهسواني: محمد بشير الهندي، صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، تقديم: محمد رشيد رضا، ط. على نفقة أحد كرام المحسنين، الثالثة. 299- السهيلي: عبد الرحمن بن عبد الله، نتائج الفكر في النحو، ط. دار الرياض للنشر والتوزيع، ت: د. محمد إبراهيم البنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 948 300- سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر (أبو بشر) ، الكتاب، ط. الهيئة العامة للكتاب، مصر، ت: عبد السلام هارون. 301- ابن سينا: أبو علي، الإشارات والتنبيهات (مع شرح نصير الدين الطوسي) ت: سليمان دنيا، ط. دار المعارف بمصر، الثالثة. 302- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، تفسير الجلالين مع حاشية الجمل. 303- السيوطي: جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1411هـ. 304- السيوطي: جلال الدين، الجامع الكبير، ط. مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الأولى، 1395هـ. ـ 1975م. 305- السيوطي: جلال الدين، مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، ط. الجامعة الإسلامية، الخامسة، 1415هـ. 306- السيوطي: جلال الدين، الحاوي للفتاوي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1395هـ =1975م. 307- السيوطي: جلال الدين: ألفية الحديث (شرح: أحمد شاكر) ، ط. دار المعرفة، بيروت، بدون بيانات. 308- السيوطي: جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، ط. المكتبة العصرية، بيروت، 1408هـ، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم. 309- شاتليه: أ. ل، الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة: محب الدين الخطيب ـ مساعد اليافي، ط. المطبعة السلفية ومكتبتها، الثالثة، 1385هـ. 310- الشاطبي: إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي، الموافقات في أصول الشريعة، ط. دار المعرفة، بيروت، الثانية، 1395هـ =1975م. 311- الشاطبي: إبراهيم بن موسى، الاعتصام، ط. المكتبة التجارية الكبرى، مصر. 312- الشافعي: محمد بن إدريس، الرسالة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، ت: أحمد شاكر، بدون بيانات. 313- شاكر: أحمد محمد، عمدة التفسير، ط. دار المعارف، بدون بيانات. 314- شاكر: أحمد محمد، شرح ألفية السيوطي في علم الحديث، ط. دار المعرفة، بيروت، بدون بيانات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 949 315-0 شاكر: أحمد محمد، شرح المسند، ط. دار المعارف، مصر، 1376هـ =1957م. 316- شاكر: أحمد محمد، الباعث الحثيث، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، بدون تاريخ. 317- شاكر: محمود: التاريخ الإسلامي، ط. المكتب الإسلامي، الثانية، 1407هـ =1987م. 318- أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، الباعث على إنكار البدع والحوادث، ط. مكتبة المؤيد، الطائف، السعودية، ومكتبة دار البيان، دمشق، حققه: بشير محمد عيون، الأولى، 1412هـ =1991م. 319- الشبل: علي بن عبد العزيز، منهج ابن رجب في العقيدة، دار الصميعي بدون بيانات. 320- الشبل: علي بن عبد العزيز، الثبت لمخطوطات ابن تيمية، ط. دار الوطن. 321- الشبلي: بدر الدين محمد بن عبد الله، آكام المرجان في أحكام الجان، ط. محمد علي صبيح، مصر. 322- شحاته: د. عبد الله، منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن الكريم، ط. المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر. 323- الشربيني: محمد بن أحمد الخطيب، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، ط. إدارة المعاهد الأزهرية، ط. 1399هـ =1979م. وط. 1409هـ = 1983م. 324- الشرقاوي: محمود، مصر في القرن الثامن عشر، ط. الأنجلو مصرية. 325- الشريف: علي، حكم الاحتفال بالموالد، ط. مجلة التوحيد، مصر، جماعة أنصار السنة المحمدية. 326- شقفة: محمد فهر، التصوف بين الحق والخلق، ط. الدار السلفية، الكويت، الثالثة، 1403هـ =1983م. 327- شكري: د. محمد فؤاد، مصر والسودان، ط. دار المعارف، مصر، 1958م. 328- شلبي: أحمد، موسوعة التاريخ الإسلامي (اليهودية) ، ط. مكتبة النهضة المصرية، مصر، العاشرة، 1992م. 329- الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم، المل والنحل، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1413هـ = 1992م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 950 330- الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم، نهاية الإقدام في علم الكلام، ت: ألفريد جيوم. 331- الشمراني: صالح بن عبد الله، الدرر الحسان في علاج العين والسحر ومس الجان، 1418هـ. 332- الشناوي: عبد العزيز محمد، السخرة في حفر قناة السويس، ط. منشأة المعارف، الإسكندرية. 333- الشنتري: يوسف بن سليمان بن عيسى، أشعار الستة الجاهليين، ط. دار الآفاق الجديدة، بيروت، الثانية، 1401هـ = 1981م. 334- الشنقيطي: أحمد محمود عبد الوهاب، خبر الواحد وحجيته، ط. الجامعة الإسلامية، الأولى، 1419هـ. 335- الشنقيطي: محمد الأمين بن محمد المختار، منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات، ط. الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1401هـ. 336- الشنقيطي: محمد الأمين، مذكرة أصول الفقه، ط. دار القلم، بيروت، بدون بيانات. 337- الشنقيطي: محمد الأمين، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ط. مكتبة ابن تيمية. 338- الشنقيطي: محمد الأمين، منع جواز المجاز، ط. مطبعة المدني، مصر. 339- الشنقيطي: محمد الأمين الجكني (غير الأول) ، شرح مراقي السعود، ط. دار أبو الوفاء، 1378هـ =1959م. 340- أبو شهبة: محمد بن محمد، دفاع عن السنة، ط. مكتبة السنة، مصر، 1409هـ. 341- أبو شهبة: محمد بن محمد، المدخل لدراسة القرآن الكريم، ط. مكتبة السنة، القاهرة، الأولى، 1412هـ = 1992م. 342- أبو شهبة: محمد بن محمد، الإسرائيليات والموضوعات، طز مكتبة السنة، مصر، الرابعة، 1408هـ. 343- الشوابكة: د. أحمد فهد بركات، محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية، ط. دار عمار، عمان، الأردن، الأولى، 1409هـ. 344- الشوكاني: محمد بن علي، غرشاد الفحول، ط. الحلبي بمصر، الأولى، 1356هـ = 1937م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 951 345- الشوكاني: محمد بن علي، طلب العلم، ط. مكتبة القرآن، القاهرة، ت: عثمان الخشت. 346- الشوكاني: محمد بن علي، تحفة الذاكرين، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الأولى، 1408هـ = 1988م. 347- الشوكاني: محمد بن علي، إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات، ط. دار الباز، مكة المكرمة، الأولى، 1404هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 348- الشوكاني: محمد بن علي، فتح القدير، ط. البابي الحلبي، مصر، الثانية، 1383هـ. 349- ابن أبي شيبة: أبو بكر عبد الله، الإيمان، ط. المكتب الإسلامي، الثانية، 1403هـ = 1983م، ت: محمد ناصر الدين الألباني. 350- ابن أبي شيبة: أبو بكر عبد الله، المصنف، ط. المكتبة الإمدادية، مكة المكرمة، الأولى، 1404هـ = 1984م، ت: حبيب الرحمن الأعظمي. 351- ابن أبي شيبة: محمد بن عثمان، العرش، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1418هـ = 1998م، دراسة وتحقيق: د. محمد خليفة التميمي. 352- شيبة الحمد: عبد القادر، الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، ط. الجامعة الإسلامية. 353- أل الشيخ: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد، ط. المكتب الإسلامي. دون تاريخ. 354- آل الشيخ: محمد بن إبراهيم، تحكيم القوانين، ط. الجامعة الإسلامية، الثالثة، 1404هـ. 355- آل الشيخ: محمد بن إبراهيم، الروضة الندية في الرد على من أجاز المعاملات الربوية (ضمن ثلاث رسائل لسماحة مفتي السعودية) ، ط. الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الرياض، تصحيح: الشيخ إسماعيل الأنصاري. 356- آل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ط. دار الفكر، بيروت، 1409هـ = 1989م. ت: محمد حامد الفقي. 357- الشيخ: ناصر بن علي بن عايض حسن، مباحث العقيدة في سورة الزمر، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1415هـ = 1995م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 952 358- الصابوني: إسماعيل أبو عثمان، عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ت: بدر البدر. 359- صادق: صادق سليم، المصادر العامة للتلقي عند الصوفية، ط. مكتبة الرشد، الأولى، 1415هـ. 360- الصالح: صبحي، مباحث في علوم القرآن، ط. دار العلم للملايين، بيروت، السادسة عشر، 1985م. 361- صبري: د. محمد، مصر في أفريقيا الشرقية، ط. مطبعة مصر ومكتبتها، 1939م. 362- صبري: مصطفى (شيخ الإسلام) ، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، ط. إحياء التراث العربي، بيروت. 363- صبري: مصطفى، موقف البشر تحت سلطان القدر، ط. المطبعة السلفية بمصر، الأولى، 1352هـ. 364- صبري: مصطفى، القول الفصل، ط. مكتبة دار السلام ـ مكتبة النور 1407هـ = 1986م. 365- الصعيدي: عبد المتعال، تاريخ الإصلاح في الأزهر، ط. مطبعة الاعتماد، الأولى. 366- الصعيدي: عبد المتعال، المجددون، ط. مكتبة الآداب ومطبعتها، مصر. 367- الصعيدي: عبد المتعال، بغية الإيضاح، ط. مكتبة الآداب، مصر، 1412هـ = 1991م. 368- ابن الصلاح: عثمان بن عبد الرحمن أبو عمرو، مقدمة في علوم الحديث، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الأولى، 1411هـ = 1991م. 369- صليبا: جميل، المعجم الفلسفي، ط. دار الكتاب العربي، الأولى، 1971م. 370- الصنعاني: محمد بن إسماعيل (الأمير) ، رفع الأستار لإبطال أدلة الأقائلين بفناء النار، ط. الكتب الإسلامي، الأولى، 1405هـ = 1984م، ت: محمد ناصر الدين الألباني. 371- صوفي: عبد القادر عطا، الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات، ط. مكتبة الغرباء الأثري، المدينة المنورة، الأولى، 1418هـ = 1997م. 372- الصيمري: عبد الله بن علي بن إسحاق، التبصرة والتذكرة، ط. مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، الأولى، 1402هـ = 1982م، ت: فتحي أحمد مصطفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 953 373- الضباع: علي بن محمد، شرح الشاطبية (إرشاد المريد إلى مقصود القصيد) ، ط. محمد علي صبيح، مصر. 374- الضبي: المفضل بن محمد بن يعلى، المفضليات، ط. دار المعارف، مصر، ت: أحمد شاكر وعبد السلام هارون. 375- ضيف: د. شوقي، الأدب العربي المعاصر في مصر، ط. دار المعارف، السادسة، بدون تاريخ. 376- ضيف: شوقي، تاريخ الأدب العربي (عصر الدول والإمارات) ، ط. دار المعارف، مصر، الثانية. 377- أبو طالب: د. صوفي حسن، الوجيز في القانون الدولي الخاص، ط. دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1972م. 378- الطبراني: سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، ط. وزارة الأوقاف العراقية، الثانية، 1405هـ. 379- الطبراني: سليمان بن أحمد، الدعاء، ط. دار البشائر الإسلامية، الأولى، 1407هـ = 1987م، ت: محمد سعيد البخاري. 380- الطبري: محمد بن جرير، التفسير، ط. دار المعارف، مصر، ت: محمود وأحمد شاكر، وط. أخرى شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الثالثة، 1388هـ = 1968م. 381- الطبري: محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري) ، ط. دار المعارف، مصر، الثانية. 382- الطبري: محمد بن جرير، صريح السنة، ط. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الأولى، ت: بدر المعتوق، 1405هـ = 1985م. 383- الطبري: محمد بن جرير، التبصير فيمعالم الدين، ط. دار العاصمة، الرياض، الأولى، 1416هـ = 1996م، ت: علي عبد العزيز الشبل. 384- الطحان: محمود، تيسير مصطلح الحديث، مكتبة المعارف، الرياض، الثامنة، 1407هـ =1987م. 385- الطحاوي: أحمد بن محمد بن سلامة، شرح معاني الآثار، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1407هـ = 1987م، حققه: محمد زهري النجار. 386- الطحاوي: أحمد بن محمد بن سلامة، مشكل الآثار، ط. مؤسسة الرسالة، الأولى، 1415هـ = 1994م، ت: شعيب الأرناؤوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 954 387- طعيمة: د. صابر، الأسفار المقدسة قبل الإسلام، ط. عالم الكتب، الأولى، 1406هـ = 1985م. 388- طعيمة: صابر، بنو إسرائيل بين نبأ القرآن وخبر العهد القديم، ط. عالم الكتب، الأولى، 1404هـ = 1984م. 389- طعيمة: صابر، الصوفية معتقداً ومسلكاً، توزيع عالم الكتب، الولى، 1405هـ. 390- طعيمة: صابر، التراث الإسرائيلي في العهد القديم وموقف القرآن الكريم منه، ط. دار الجيل، بيروت، 1399هـ = 1979م. 391- طعيمة: صابر، العقائد الباطنية وحكم الإسلام منها، ط. مكتبة الثقافة، بيروت، الثانية، 1411هـ = 1991م. 392- طعيمة: صابر، التاريخ اليهودي العام، ط. دار الجيل، بيروت، الثانية، 1403هـ = 1983م. 393- الطنطاوي: محمد، تعريف الأسماء، ط. الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، السادسة، 1408هـ. 394- طوسون: عمر (الأمير) ، مديرية خط الاستواء، ط. مطبعة العدل، الإسكندرية، 1355هـ. 395- الطوفي: سليمان بن عبد القوي الصرصري، البلبل في أصول الفقه، ط. مؤسسة النور، الرياض، الأولى، 1383هـ. 396- الطويان: عبد العزيز بن صالح بن إبراهيم، جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف، ط. مكتبة العبيكان، الأولى، 1419هـ = 1998م. 397- ابن عاشور: محمد الطاهر، التحرير والتنوير. ط. دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس. 398- ابن أبي عاصم: عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني، السنة، ومعه (ظلال الجنة) للألباني، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى، 1400هـ = 1980م. 399- العباد: عبد المحسن بن حمد، عشرون حديثاً من صحيح مسلم، دراسة أسانيدها وشرح متونها، ط. الجامعة الإسلامية، 1409هـ الأولى. 400- العباد: عبد المحسن، عشرون حديثاً من صحيح البخاري، ط. الجامعة الإسلامية، 1409هـ الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 955 401- العباد: عبد المحسن، الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي. ط. الأولى 1402هـ. 402- العباد: عبد الرزاق بن عبد المحسن، القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد، ط. دار ابن عفان، الأولى، 1417هـ 1997م. 403- العباد: عبد الرزاق، الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وجهوده في توضيح عقيدة السلف. ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1411هـ 1990م. 404- العباد: عبد الرزاق، زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه، دار القلم والكتاب، الرياض، الأولى، 1416هـ 1996م. 405- العباد: عبد الرزاق، أسباب زيادة الإيمان ونقصانه، دار القلم والكتاب، الأولى، 1414هـ 1994م. 406- العباد: عبد الرزاق، تنبيهات على رسالة محمد عادل عزيزة في الصفات، دار الفتح، الشارقة، الأولى، 1414هـ 1994م. 407- عبد الله: محمد رمضان، الباقلاني، وآراؤه الكلامية، ط. مطبعة الأمة، بغداد، الأولى، 1986م. 408- با عبد الله، محمد باكريم، وسطية أهل السنة. ط. دار الراية، الرياض، الأولى، 1415هـ 1994م. 409- عبد الباقي: محمد فؤاد، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ط. دار الفكر بيروت، 1407هـ. 410- ابن عبد البر: أبو عمر يوسف، جامع بيان العلم وفضله، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. 411- ابن عبد البر: أبو عمر يوسف، التمهيد لما في موطأ مالك من المعاني والأسانيد، ط. المغرب، مصورة العلوم والحكم. 412- عبد الجبار: القاضي. شرح الأصول الخمسة، مكتبة وهبة، مصر، الأولى، 1384هـ، ت: عبد الكريم عثمان. 413- عبد الجبار: القاضي، فضل الاعتزال، ط. الدار التونسية، 1393هـ. 414- عبد الجبار: القاضي، المغني في أبواب العدل والتوحيد، ط. مطبعة دار الكتب مصر، الأولى، 1961م. ت: إبراهيم الأبياري. 415- عبد الحميد الثاني: السلطان، مذكراتي السياسية، 1891م ـ 1908م، مؤسسة الرسالة، الخامسة، 1406هـ =1986م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 956 416- عبد الرحيم: محمد علي، الأخلاق المحمدية والآداب النبوية، ط. جماعة أنصار السنة المحمدية، مصر، الأولى، 1404هـ = 1984م. 417- عبد الرحيم: عبد الغفار، الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير، ط. المركز العربي للثقافة والعلوم. 418- عبد الخالق: د. عبد الغني، حجية السنة، ط. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الأولى، 1407هـ = 1986م. 419- عبد السلام: عبد العزيز (العز) ، قواعد الأحكام، ط. المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 420- آل عبد الكريم: عبد السلام بن برجس بن ناصر، معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة. 421- العبدلي: عبد الله بن سعدي الغامدي، عقيدة الموحدين، ط. على نفقة: محمد إبراهيم النعمان، مكتبة الطرفين، الطائف، الأولى، 1411هـ =1991م. 422- العبد اللطيف: عبد العزيز بن محمد بن علي، نواقض الإيمان القولية والعملية، ط. دار الوطن، الرياض، الثانية، 1415هـ. 423- العبد اللطيف: عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم، ضوابط الجرح والتعديل، ط. الجامعة الإسلامية، الأولى، 1412هـ. 424- ابن عبد الهادي: محمد، الصارم المنكي في الرد على السبكي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1405هـ وط. أخرى مكتبة التوعية الإسلامية، مصر، ت: إسماعيل الأنصاري. 425- ابن عبد الوهاب: محمد، تفسير كلمة التوحيد (ضمن الجامع الفريد) ، ط. على نفقة: محمد بن إبراهيم النعمان. 426- ابن عبد الوهاب: محمد، كتاب التوحيد (مع القول السديد) ، ط. الجامعة الإسلامية، 1409هـ، السادسة. 427- ابن عبد الوهاب: محمد، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ط. الجامعة الإسلامية، الرابعة، 1408هـ. 428- ابن عبد الوهاب: محمد، كشف الشبهات في التوحيد، تصحيح: محمد منير الدمشقي الأزهري، ط. الجامعة الإسلامية، السابعة، 1414هـ. 429- عبده: محمد، تفسير جزء عم، ط. الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، الثانية، مطبعة مجلة المنار بمصر، 1329هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 957 430- عبده: محمد، رسالة التوحيد، ط. مطبعة المنار، مصر، ت: رشيد رضا، وط. أخرى: دار إحياء العلوم، بيروت، السادسة، 1406هـ = 1986م، تقديم: حسين يوسف غزال. 431- عبده: محمد، حاشية على العقائد العضدية. 432- العبود: صالح بن عبد الله بن عبد الرحمن، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة. 433- عبيدات: عبد الكريم نوفان فواز، عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة (رسالة ماجستير) ، دار ابن تيمية للنشر والتوزيع والإعلام، الرياض، الأولى،1405هـ =1985م. 434- أبو عبيدة: معمر بن المثنى، مجاز القرآن، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية، 1401هـ = 1981م، ت: محمد فؤاد سزكين. 435- ابن عثيمين: محمد بن صالح، شرح العقيدة الواسطية، ط. دار ابن الجوزي، الرابعة، 1417هـ. 436- ابن عثيمين: محمد بن صالح، فتح رب البرية، ط. دار الوطن للنشر، الرياض. 437- ابن عثيمين: محمد بن صالح، تقريب التدمرية، ط. دار ابن الجوزي، الأولى، 1412هـ = 1992م. 438- ابن عثيمين: محمد بن صالح، القواعد المثلى، ط. مكتبة المعارف، الرياض، 1405هـ. 439- العدوي: محمد أحمد، دعوة الرسل إلى الله تعالى، ط. دار المعرفة، بيروت، 1414هـ = 1993م. 440- العدوي: مصطفى، الصحيح المسند من أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ط. دار الهجرة للنشر والتوزيع، الرياض، الأولى، 1412هـ =1991م. 441- العراقي: زين الدين عبد الرحيم بن الحسين، التقييد والإيضاح، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى، 1411هـ = 1991م. 442- ابن العربي: أبو بكر، العواصم من العواصم، ط. مؤسسة الكتب العلمية، 1406هـ =1986م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 958 443- العريني: محمد بن ناصر، وجوب طاعة السلطان في غير معصية الرحمن، ط. الأولى، 1415هـ 444- ابن أبي العز: علي بن علي الحنفي، شرح الطحاوية، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، التاسعة، 1408هـ 1988م. ت: الألباني. وط. أخرى: دار عالم الكتب الثالثة 1418هـ 1997م. ت: عبد الله التركي ـ شعيب الأرناؤوط. 445- ابن عساكر: تاريخ دمشق، ط. دار الفكر، الأولى، 1418هـ، ط. أخرى: مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. 446- عضيمة: محمد عبد الخالق، فهارس كتاب سيبويه ودراسة له، دار الحديث، مصر. الأولى، 1395هـ =1975م. 447- أبو عطا الله: د. فرج عبد الباري، اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام، ط. دار الوفاء، المنصورة، مصر، الثانية، 1412هـ. 448- ابن عطية: عبد الحق بن غالب، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، وزارة الأوقاف المغربية، 1395هـ =1975م. 449- عطية: د. عزت علي، البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها، ط. دار الكتاب العربي اللبناني، بيروت، الثانية، 1400هـ. 450- العقاد: عباس محمود، الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية، ط. دار المعارف، مصر، الثالثة، بدون تاريخ. 451- العقاد: عباس محمود، أفيون الشعوب، ط. المكتبة العصرية، بيروت. 452- العلائي: أبو سعيد بن خليل، جامع التحصيل في أحكام المراسيل، ط. عالم الكتب، الثانية، 1407هـ =1986م، ت: حمدي عبد المجيد السلفي. 453- العلبي: أكرم حسن، دمشق بين عصر المماليك والعثمانيين، ط. الشركة المتحدة للتوزيع، الأولى، 1982م = 1402هـ. 454- العلوي: الحسن بن عبد الرحمن، الخطابي ومنهجه في العقيدة، ط. دار الوطن، الأولى، 1418هـ = 1997م. 455- ابن علي: عثمان، منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1412هـ = 1992م. 456- علي: محمد (حضرة صاحب السمو الملكي الأمير) ، مجموعة خطابات وأوامر خاصة للمغفور له عباس باشا الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 959 457- ابن العماد: عبد الحي الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت. 458- عنان: محمد عبد الله، تاريخ الجامع الأزهر، ط. مؤسسة الخانجي، الثانية، 1378هـ = 1958م. 459- العنبري: خالد بن علي بن محمد، الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير، الأولى، 1416هـ = 1996م. بدون بيانات. 460- العواجي: غالب بن علي، فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها، ط. دار لينة، مصر، الأولى، 1414هـ = 1993م. 461- عودة: عبد القادر، الإسلام وأوضاعنا السياسية، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، بدون بيانات. 462- عوني: حامد، المنهاج الواضح، ط. مكتبة الجامعة الأزهرية. 463- الغامدي: أحمد بن سعد حمدان، فطرية المعرفة، ط. دار طيبة الرياض، الأولى. 464- الغامدي: د. أحمد بن عطية، البيهقي وموقفه من الإلهيات، ط. مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الثالثة، 1412هـ =1992م. 465- الغامدي: د. أحمد بن عطية، الإيمان بين السلف والمتكلمين (بحث للماجستير مكتوب بالآلة الكاتبة) . 466- غزال: مصطفى فوزي بن عبد اللطيف، دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، ط. دار طيبة، الأولى، 1403هـ. 467- الغزالي: محمد بن محمد أبو حامد، تهافت الفلاسفة، ت: سليمان دنيا، ط. عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1366هـ =1947م. 468- الغزالي: أبو حامد، مقاصد الفلاسفة، ط. دار المعارف، مصر، الثانية، ت: سليمان دنيا. 469- الغصن: عبد الله بن صالح، أسماء الله الحسنى، ط. دار الوطن، الرياض، الأولى، 1417هـ. 470- الغصن: عبد الله بن صالح، عقيدة الإمام ابن عبد البر في التوحيد والإيمان، ط. دار العاصمة، الرياض، الأولى، 1416هـ =1996م. 471- الغفيلي: عبد الله، ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف، دار المسير، الأولى، 1418هـ =1998م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 960 472- الغنام: سليمان بن محمد، قراءة جديدة في حروب محمد علي التوسعية، ط. الكتاب العربي السعودي، الأولى، 1400هـ. 473- الغنيمان: عبد الله بن محمد، شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، ط. مكتبة الدار، المدينة المنورة، الأولى، 1405هـ. 474- ابن فارس: أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ط. مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الثانية، 1389هـ = 1969م، ت: عبد السلام هارون 475- الفراء: يحيى بن زياد، معاني القرآن، ط. عالم الكتب، بيروت، الثالثة، 1401هـ. 476- الفقيهي: علي بن محمد ناصر، منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان، الأولى، 1405هـ، بدون ناشر. 477- الفقيهي: علي بن محمد ناصر، البدعة، ط. الجامعة الإسلامية، الأولى، 1413هـ. 478- فلاتة: د. عمر حسن، الوضع في الحديث، ط. مكتبة الغزالي، مؤسسة علوم القرآن، 1401هـ = 1981م. 479- الفلاني: صالح بن محمد، إيقاظ همم أولي الأبصار في الاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار، ط. دار المعرفة، بيروت، 1398هـ = 1978م. 480- فنسنك: أ. ي.، مفتاح كنوز السنة، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403هـ= 1983م. 481- فنسنك: أ. ي.، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ط. يريل ليدن، 1936م. 482- الفريابي: جعفر بن محمد بن حسن، القدر، ط. أضواء السلف، الرياض، 1418هـ =1997م، ت: عبد الله بن حمد المنصور. 483- الفريابي: جعفر بن محمد بن حسن، دلائل النبوة، ط. دار طيبة، الرياض، ت: محمود الحداد. 484- الفيروز آبادي: محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، ط. المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت. 485- الفوزان: صالح، شرح العقيدة الواسطية، ط. مكتبة المعارف، الرياض، الخامسة، 1410هـ =1990م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 961 486- فوزي: خالد، محمد رشيد رضا، ط. دار علماء السلف، الإسكندرية، الثانية، 1415هـ. 487- فوزي: رفعت، صحيفة همام بن منبه، ط. مكتبة الخانجي، مصر، الأولى، 1406هـ. 488- فوزي: رفعت، المدخل إلى توثيق السنة، مؤسسة الخانجي بمصر، 1398هـ = 1978م. 489- القاري: عبد العزيز بن عبد الفتاح، حديث الأحرف السبعة، ط. دار النشر الدولي، الرياض، الأولى، 1412هـ. 490- القاري: علي بن سلطان بن الهروي، شرح نخبة الفكر، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ =1978م. 491- ابن قاسم: عبد الرحمن بن محمد، الدرر السنية في الأجوبة النجدية، الخامسة، 1413هـ= 1992م. بدون بيانات أخرى. 492- القاسمي: محمد جمال الدين، دلائل التوحيد، ط. دار الكتب العلمية، الأولى، 1405هـ = 1984م. 493- القاسمي: محمد جمال الدين، قواعد التحديث، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1399هـ = 1979م. 494- القرطبي: محمد بن أحمد الأنصاري (أبو عبد الله) ، الجامع لأحكام القرآن، ط. دار الكتب المصرية، 1936م، الأولى. 495- القرطبي: محمد بن أحمد (أبو عبد الله) ، التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، ت: أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. وط. أخرى، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407هـ =1987م. 496- القرطبي: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، مكتبة الحرمين، الرياض، السعودية. 497- القاضي: أحمد عبد الرحمن، مذهب أهل التفويض، دار العاصمة، الرياض، الأولى، 1416هـ =1996م. 498- ابن قدامة: موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي، إثبات صفة العلو، ط. مؤسسة علوم القرآن، بيروت، الأولى، 1409هـ، ت: احمد عطية الغامدي. 499- ابن قدامة: موفق الدين، لمعة الاعتقاد، ط. المكتب الإسلامي، الرابعة، 1395هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 962 500- ابن قدامة: ذم التأويل، ط. دار ابن الأثير، الكويت، الثانية، 1416هـ =1995م، ت: بدر البدر. 501- ابن قدامة: المغني، ط. مكتبة الجمهورية العربية ومكتبة الكليات الأزهرية بمصر. 502- ابن قدامة: روضة الناظر وجنة المناظر ومعها شرح نزهة الخاطر العاطر للشيخ عبد القادر بن بدران، تعليق محمد بكر إسماعيل، ط. مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة مصورة عن دار إحياء الكتب العربية بمصر 503- القطان: مناع، مباحث في علوم القرآن، ط. مكتبة المعارف، الرياض، الثامنة، 1401هـ =1981م. 504- قطاوي: رينيه وجورج قطاوي، محمد علي وأوروبا، ط. دار المعارف، مصر. 505- القفاري: ناصر بن عبد الله، مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الأولى، 1412هـ. 506- قوام السنة: إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني، الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل الأثر، ط. دار الراية، الأولى، 1411هـ =1990م، ت: محمد ربيع المدخلي ومحمد أبو رحيم. 507- القيسي: مكي بن أبي طالب، الكشف عن وجوه القراءات السبع، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الثالثة، 1404هـ = 1984م. 508- ابن القيم: محمد بن أبي بكر، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ط. مطبعة المدني، القاهرة، قدم له: علي السيد صبح المدني. 509- ابن القيم: بدائع الفوائد، ط. دار الكتاب العربي اللبناني، بيروت. 510- ابن القيم: شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1407هـ =1987م. 511- ابن القيم: اجتماع الجيوش، ت: عواد بن معتق، 1408هـ. 512- ابن القيم: أعلام الموقعين، ط. دار الكتب الحديثة، مصر، ت: عبد الرحمن الوكيل. 513- ابن القيم: إغاثة اللهفان، ط. دار المعرفة، بيروت، ت: محمد حامد الفقي. 514- ابن القيم: مفتاح دار السعادة، مكتبة الأوس، المدينة المنورة، ت: محمد بيومي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 963 515- ابن القيم: الفوائد، ط. دار الكتاب، بيروت. 516- ابن القيم: زاد المعاد، ط. مؤسسة الرسالة، ط. الثانية، 1412هـ= 1991م. ت: شعيب عبد القادر أرناؤوط. 517- ابن القيم: مختصر الصواعق (للموصلي) ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ = 1985م. 518- ابن القيم: الروح، ط. دار الكتاب العربي، الثالثة، 1408هـ =1988م. 519- ابن القيم: المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ت: محمود مهدي استانبولي. 520- ابن القيم: الصواعق المنزلة، ط. كلية الدعوة بالجامعة الإسلامية، ت: د. علي ناصر الفقيهي ود. أحمد عطية الغامدي. 521- ابن القيم: مدارج السالكين، ط. دار الفكر، بيروت، الأخيرة، 1408هـ، ت: حامد الفقي. 522- ابن القيم: الجواب الكافي لمن سأل عن الجواب الشافي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الرابعة، 1412هـ =1992م. 523- ابن القيم: طريق الهجرتين وباب السعادتين، ط. المطبعة السلفية ومكتبتها، مصر، الثالثة، 1400هـ. 524- ابن القيم: هداية الحيارى، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولىن 1407هـ. 525- الكاندهلوي: محمد زكريا، الأبواب والتراجم على صحيح البخاري، ط. المكتبة الخليلية، يوبي، الهند. 526- الكاندهلوي: محمد زكريا، الفيض السمائي على سنن النسائي، ط. المكتبة الخليلية، يوبي، الهند. 527- الكتاب المقدس. 528- الكتاني: محمد بن جعفر الحسني الإدريسي أبو الفيض، نظم المتناثر في الحديث المتواتر، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ، مصورة عن طبعة فاس 1328هـ. 529- الكتاني: محمد بن جعفر، الرسالة المستطرفة ببيان مشهور كتب السنة المشرفة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1400هـ. 530- ابن كثير: إسماعيل، النهاية في الفتن الملاحم، ط. مؤسسة النور، الرياض، الأولى، تصحيح: إسماعيل الأنصاري، 1388هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 964 531- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ط. الريان، مصورة عن طبعة دار الحديث، مصر، الأولى، 1408هـ =1988م. 532- ابن كثير: البداية والنهاية، ط. دار الفكر، بيروت، 1398هـ =1978م. 533- كحالة: عمر رضا، معجم المؤلفين، ط. مكتبة المثنى، بيروت، ودار إحياء التراث العربي، بيروت. 534- كرد علي: محمد، خطط الشام، ط. دار العلم للملايين، بيروت، الثالثة، 1403هـ = 1983م. 535- كرد علي: محمد، الإسلام والحضارة العربية، ط. لجنة التأليف والنشر، الثالثة، القاهرة، 1968م. 536- الكرمي: مرعي بن يوسف، أقاويل الثقات، ط. مؤسسة الرسالة، الأولى، 1985م =1406هـ، ت: شعيب الأرناؤوط. 537- الكشميري: محمد أنور شاه، التصريح بما تواتر في نزول المسيح، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، الخامسة، 1412هـ، ت: عبد الفتاح أبو غدة. 538- كندو: محمد بن إسحاق، منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في العقيدة من خلال كتابه فتح الباري، ط. مكتبة الرشد، الرياض، 1419هـ =1998م. 539- الكناني: حمزة بن محمد بن العباس، جزء البطاقة، ت: عبد الرزاق العباد، ط. مكتبة دار السلام، الرياض، الأولى، 1412هـ. 540- اللالكائي: هبة الله بن الحسن بن منصور، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ط. دار طيبة، الرياض، الثالثة، 1415هـ = 1995م، ت: أحمد بن سعد حمدان. 541- لبيد: ديوانه، ط. ليدن، ت: د. أ. هوبر. 542- اللكنوي: محمد عبد الحي، الأجوبة الفاضلة، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الثانية، 1404هـ =1984م. 543- اللامشي: محمود بن زيد الحنفي الماتريدي، التمهيد لقواعد التوحيد، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت، الأولى، 1995م، ت: عبد المجيد التركي. 544- لوح: محمد، جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية، ط. دار ابن عفان، الخبر، السعودية، الأولى، 1418هـ =1997م. 545- اللويحق: عبد الرحمن بن معلا، مشكلة الغلو في الدين في العصر الحديث، الأولى، 1419هـ =1998م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 965 546- اللويحق: عبد الرحمن بن معلا، الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، الخامسة، 1419هـ = 1998م. 547- ابن ماجه: محمد بن يزيد، السنن، ط. المكتبة العلمية، بيروت، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، وط. أخرى: مع حاشية السندي، ط. دار الفكر، بيروت، الثانية. 548- الماوردي: علي بن محمد بن حبيب، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ط. الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 549- الماوردي: علي بن محمد، أعلام النبوة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1393هـ =1973م. 550- مبارك: علي، الخطط التوفيقية، ط. مطبعة دار الكتب، 1969م. الثانية. 551- المترك: عمر بن عبد العزيز، الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، ط. دار العاصمة، الرياض، الثالثة، 1418هـ. 552- متولي: تامر محمد، منهج الشيخ رشيد رضا في تفسيره، مكتوب بالآلة الراقمة، كلية القرآن الكريم، المدينة المنورة، 1413هـ. 553- متولي: تامر محمد، تقرير مختصر عن شرح الإصفهانية لشيخ الإسلام (من بحوث السنة المنهجية في قسم العقيدة 1416هـ) . 554- متولي: حسن السيد، مذكرة التوحيد، مقرر على طلاب الصفوف الثانوية بالأزهر، ط. الكليات الأزهرية، 1409هـ =1989م. 555- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ط. مطبعة مصر، 1380هـ = 1960م، الثانية. 556- محفوظ: علي، الإبداع في مضار الابتداع، دار الاعتصام، السابعة، بدون تاريخ. 557- محمود: عبد الحليم، الإسلام والعقل، ط. دار الكتب الحديثة، مصر، بدون تاريخ. 558- محمود: عبد الحليم، الفلسفة، ط. جماعة أنصار السنة المحمدية (هدية مجانية مع مجلة التوحيد) . 559- مختار: محمد حبيب الله، السنة النبوية ومكانتها في ضوء القرآن الكريم، ط. المكتبة البنورية، كراتشي، 1407هـ= 1986م. 560- مخلوف: محمد حسنين، بلوغ السول في مدخل علم الأصول، ط. شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الثانية، 1386هـ = 1966م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 966 561- المدخلي: محمد ربيع، الحكمة والتعليل، ط. دار لينة، مصر، الأولى، 1409هـ = 1988م. 562- المرادي: محمد خليل، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، طزمكتبة المثنى، بغداد. 563- المراغي: محمد مصطفى، الاجتهاد، ط. مجلة الأزهر، 1417هـ. 564- المراغي: أحمد مصطفى، تفسير المراغي، ط. مصطفى البابي الحلبي بمصر، الخامسة، 1394هـ =1974م. 565- المروزي: محمد بن نصر، تعظيم قدر الصلاة، ط. مكتبة الدار، المدينة المنورة، الأولى،1406هـ. 566- المزي: يوسف بن الزكي عبد الرحمن، تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف مع النكت الظراف لابن حجر، ت: عبد الصمد شرف الدين. 567- مسلم: ابن الحجاج، الصحيح، ط. دار إحياء الكتب العربية، مصر، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي. 568- مسلم: ابن الحجاج، الكنى والأسماء، ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الأولى، 1404هـ =1984م، ت: عبد الرحيم القشقري. 569- مصطفى: محمد، الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، ط. ألمانيا الغربية، الأولى، 1404هـ = 1984م. 570- المصري: أحمد شلبي عبد الغني الحنفي، أوضح الإشارات في من تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات. 571- معاشر: عبد الرزاق بن طاهر بن أحمد، الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه، ط. دار الوطن، الأولى، 1417هـ = 1996م. 572- المعتق: عواد بن عبد الله، المعتزلة وأصولهم الخمسة، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الثانية، 1416هـ =1995م. 573- المعصومي: محمد سلطان الخجندي، تنبيه النبلاء من العلماء إلى قول حامد الفقي إن الملائكة غير عقلاء، ط. المكتبة السلفية بمصر، القاهرة، 1374هـ. 574- المعلمي: عبد الرحمن بن يحيى اليماني، التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، ط. مكتبة المعارف، الرياض، الثانية، 1406هـ. 575- المعلمي: عبد الرحمن، الأنوار الكاشفة، ط. عالم الكتب، 1403هـ = 1983م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 967 576- آل معمر: حمد بن ناصر بن عثمان، النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين، ط. دار العاصمة، الرياض، الأولى، 1409هـ. 577- المغراوي: محمد عبد الرحمن، المفسرون بين التأويل والإثبات، ط. دار طيبة، الرياض، الأولى، 1405هـ. 578- المقدسي: عبد الغني بن عبد الواحد، الاقتصاد في الاعتقاد، ط. مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1414هـ. 579- المقريزي: أحمد بن علي تقي الدين، تجريد التوحيد المفيد، ت: طه محمد الزيني، ط. الجامعة الإسلامية، الثالثة، 1409هـ. 580- المقريزي: أحمد بن علي، الخطط، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، مصر. 581- ملكاوي: محمد أحمد، بشرية المسيح ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم في نصوص العهدين، ط. مطبعة الفرزذق التجارية، الأولى، 1413هـ = 1993م. 582- ملكاوي: محمد أحمد، عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، ط. الأولى، 1405هـ، دار ابن تيمية للنشر والتوزيع والإعلام، الرياض. 583- ابن منده: محمد بن إسحاق، التوحيد ومعرفة أسماء الله عزوجل وصفاته، ط. الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ت: علي ناصر الفقيهي. 584- ابن منده: محمد بن إسحاق، الإيمان، ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ت: علي ناصر الفقيهي. 585- ابن منده: محمد بن إسحاق، الرد على الجهمية، الأولى، 1401هـ =1981م، ت: علي ناصر الفقيهي. 586- منسي: محمد صالح، مشروع قناة السويس. 587- ابن منظور: محمد بن مكرم جمال الدين، لسان العرب، دار صادر، بيروت، دار بيروت، بيروت. 588- المنوفي: السيد أبو الفيض الحسيني، جمهرة الأولياء، ط. مؤسسة الحلبي وشركاه، مصر، الأولى، 1387هـ = 1967م. 589- آل مهدي: فالح بن مهدي، التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية، ط. الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1406هـ. 590- الميلي: مبارك بن محمد، الشرك ومظاهره، ط. الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الأولى، 1407هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 968 591- ابن النجار: محمد بن أحمد بن عبد العزيز، شرح الكوكب المنير، ط. مكتبة العبيكان، 1413هـ = 1993م، ت: محمد الزحيلي ونزيه حماد. 592- النجار: محمد الطيب، تاريخ العالم الإسلامي، ط. مكتبة المعارف، الرياض، 1406هـ –1985م. 593- النجدي: عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، ط. مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. 594- النجدي: عبد العزيز بن راشد، تيسير الوحيين للاقتصار مع القرآن على الصحيحين، ط. السنة المحمدية، الثالثة. 595- النحاس: أبو جعفر، معاني القرآن، ط. جامعة أم القرى، مكة المكرمة، مركز إحياء التراث الإسلامي، ت: محمد علي الصابوني. 596- النجمي: أحمد بن يحيى، أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة، ط. الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الرياض، 1405هـ. 597- نجيب: عمارة، الإنسان في ظل الأديان، ط. مكتبة المعارف، الرياض، 1400هـ = 1979م. 598- الندوي: أبو الحسن علي الحسني، مذكرات سائح بالشرق العربي، ط. مؤسسة الرسالة، الثالثة، 1403هـ = 1983م. 599- الندوي: أبو الحسن، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، ط. دار الندوة للتوزيع، لبنان، الثانية، 1388هـ = 1968م. 600- الندوي: أبو الحسن، الحافظ أحمد ابن تيمية، ط. دار القلم، الكويت، الرابعة، 1407هـ = 1987م. 601- النسائي: أبو عبد الرحمن، السنن الكبرى، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، ت: عبد الغفار سليمان وسيد كسروي حسن، الأولى، 1411هـ = 1991م. 602- النسائي: أبو عبد الرحمن، السنن الصغرى (المجتبى) ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، حاشية السيوطي والسندي. 603- النسائي: زهير بن حرب (أبو خيثمة) ، كتاب العلم، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية، 1403هـ، ت: محمد ناصر الدين الألباني. 604- النسفي: عبد الله بن أحمد بن محمود، مدارك التأويل (تفسير النسفي) ، ط. دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 969 605- النصر بوري: محمد أكرم، إمعان النظر شرح نخبة الفكر، حققه وخرج نصوصه: أبو سعيد غلام مصطفى، بدون بيانات. 606- نصر الله: يوسف، الكنز المرصود في قواعد التلمود، ط. دار القلم، دمشق، ودارة العلوم، بيروت، الأولى، 1408هـ = 1987م. 607- النعمي: حسين بن مهدي، معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، ط. أنصار السنة المحمدية، باكستان، بدون تاريخ، ت: حامد الفقي. 608- نوفان: عبد الكريم، عالم الجن في الكتاب والسنة، ط. دار ابن تيمية، الرياض، الأولى، 1405هـ = 1985م. 609- نوفل: عبد الرزاق، الله والعلم الحديث، بدون بيانات. 610- النووي: يحيى بن شرف، المنهاج بشرح مسلم بن الحجاج، ط. دار الريان للتراث، القاهرة، الأولى، 1407هـ = 1987م. 611- نومسوك: عبد الله، منهج الإمام الشوكاني في العقيدة، ط. دار القلم والكتاب، الرياض، الثانية، 1414هـ. 612- هراس: محمد خليل، فصل المقال في رفع عيسى حياً ونزوله وقتله الدجال، ط. مكتبة السنة، مصر، الأولى، 1410هـ = 1990م. 613- هراس: محمد خليل، ابن تيمية السلفي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1404هـ = 1984م. 614- هراس: محمد خليل، شرح الواسطية، ط. دار الهجرة الرياض، الثالثة، 1415هـ. 615- هراس: محمد خليل، دعوة التوحيد، ط. مكتبة ابن تيمية، الأولى، 1407هـ، القاهرة. 616- ابن هشام: عبد الملك أبو محمد، السيرة النبوية، ط. دار الفكر، القاهرة. 617- الهندي: رحمت الله، المناظرة الكبرى بين رحمت الله وفندر، ت: خليل ملكاوي، ط. دار ابن تيمية، الرياض، الثانية، 1412هـ. 618- الهندي: رحمت الله، إظهار الحق، ط. دار الوطن، 1412هـ، ت: خليل ملكاوي. 619- الهيثمي: علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ط. دار الكتاب العربي ـ دار الريان للتراث، 1407هـ = 1987م. 620- هيكل: محمد حسن (باشا) ، مذكرات في السياسة المصرية، ط. دار المعارف، مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 970 621- الوابل: يوسف بن عبد الله، أشراط الساعة، ط. دار ابن الجوزي، الثانية، 1411هـ = 1990م. 622- وجدي: محمد فريد، دائرة معارف القرن العشرين، ط. دار المعرفة، بيروت، الثالثة، 1971م. 623- وزارة الأوقاف المصرية: الأزهر تاريخه وتطوره. 624- ابن الوزير: أبو عبد الله محمد بن المرتضى، ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1404هـ. 625- ابن الوزير: أبو عبد الله، البرهان في إثبات الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع، ط. المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة، 1349هـ. 626- ابن الوزير: إيثار الحق على الخلق، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة ـ دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ. 627- ابن الوزير: العواصم القواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ط. مؤسسة الرسالة، الثالثة، 1415هـ = 1994م. ت: شعيب الأرناؤوط. 628- الوكيل: عبد الرحمن، هذه هي الصوفية، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الرابعة، 1984م. 629- الوكيل: عبد الرحمن، الصفات الإلهية، دار لينة، دمنهور، مصر، بدون بيانات. 630- الوكيل: عبد الرحمن، دعوة الحق، مطبعة التقدم، الثانية، 1411هـ = 1991م. 631- أبو يعلى: محمد بن حسين الفراء، الأحكام السلطانية، ط. مصطفى البابي الحلبي بمصر، الأولى، 1356هـ =1938م، ت: محمد حامد الفقي. 632- أبو يعلي: محمد، طبقات الحنابلة، ط. دار المعرفة، بيروت. 633- اليماني: علي بن علي جابر الحربي، كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ط. دار طيبة، الأولى، بدون تاريخ. 634- اليحصبي: القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى، 1416هـ، ت: كمال بسيوني زغلول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 971 المجلات والدوريات 635- مجلة المقتطف؛ مصر، أكتوبر، 1935م. 636- مجلة نور الإسلام (الأزهر) ، أعداد مختلفة. 637- مجلة المنار، مصر. 638- مجلة أهلاً وسهلاً السعودية، السنة 19، العدد: 8، ربيع الأول: 1416هـ. 639- مجلة التقوى، لبنان، العدد 66، ربيع الثاني: 1418هـ. 640- مجلة المؤرخ العربي، الأردن، العددان: 41 و42. السنة 16، 1410هـ. 641- مجلة الرسالة، مصر، 1945م، العدد: 9 يوليو. 642- مجلة المجمع العلمي العربي، دمشق، 1/ 366. 643- مجلة البيان، السنة الرابعة عشرة، العدد: 137، محرم: 1420، يونيو 1999م. 644- مجلة المجمع الفقهي، 2/ 4/ 103. 645- مجلة التوحيد، مصر، تصدرها جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر. 646- مجلة العروة الوثقى (باريس) الناشر دار الكتاب العربي اللبناني، بيروت، الثانية، 1400هـ = 1980م. 647- مجلة منار الإسلام، الإمارات، العدد: 4، السنة: 25، ربيع الآخر 1420، يوليو 1999م. 648- جريدة الشرق الأوسط، السعودية، الأحد: 1/ 8/ 1999م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 972