الكتاب: مناهل العرفان في علوم القرآن المؤلف: محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367هـ) الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه الطبعة: الطبعة الثالثة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مناهل العرفان في علوم القرآن الزرقاني، محمد عبد العظيم الكتاب: مناهل العرفان في علوم القرآن المؤلف: محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367هـ) الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه الطبعة: الطبعة الثالثة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول تصدير الطبعة الثالثة وفهرسها ... تصدير الطبعة الثالثة وفهرسها 1- التصدير بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} . أما بعد فها هي الطبعة الثالثة من كتاب "مناهل العرفان في علوم القرآن" أقدمها لقرائي الأكرمين بعد أن أعدت النظر فيه رجاء أن أدرك الكمال أو أقارب فزدت وحذفت وقدمت وأخرت وصححت واستدركت ثم هيأ الله تباركت آلاؤه مطبعة عاونتني على حسن إخراجه فضبطته وشكلته ونظمته وصقلته. ولولا أزمة الورق الحادة للبس الكتاب حلة أبهى من هذه الحلة. ولكن إذا سلم لك الجوهر واللباب فلا عليك من القشر والإهاب. خذ بنصل السيف واترك غمده ... واعتبر فضل الفتى دون الحلل على أن الذنب في ذلك هو ذنب هذه الحرب الضروس الطاحنة التي طغت وبغت وطمت وعمت حتى لم ينج من شرها شرق ولا غرب ولا ضيق ولا رحب بل قعدت للناس بكل صراط وأثرت في جميع المرافق حتى أدوات الطبع بالطبع. لطف الله بالبلاد والعباد وأخرج الإسلام من هذه المحنة قوي السناد رفيع العماد عالي الكلمة مسموع الصوت حتى يفيء الجميع إلى بحبوحته ويتفيئوا وارف ظلاله وسلامه وأمنه وإيمانه وعدله ورحمته ويسره وسماحته وحتى يعلموا أن نهضة العلم جناية على الإنسانية جائحة إن لم تسايرها نهضة روحية صالحة توفق بين مطالب الروح والجسد, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وتؤاخي بين إنسان الشرق والغرب وتستأصل النعرات الجنسية والطائفية وتنظم من الكل جبهة متحدة على صراط الحق والخير , {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} . وهل توجد هذه المزايا مجتمعة إلا في الإسلام؟ وهل يوجد الإسلام بغير القرآن؟ وهل يفهم القرآن إلا بعلوم القرآن؟ وهو موضوع كتابنا الآن؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} . محاولاتي: ولقد حاولت في هذا التأليف أمورا خمسة: أولها - أن تكون كتابتي من النسق الأزهري الجديد في تفكيره وفي تعبيره بحيث يتيسر فهمه وهضمه للقراء من أبناء هذا الجيل سواء منهم المحقق الأزهري والمثقف المدني فإن لكل زمان لغة ولسانا ومنطقا وبرهانا. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . على أنني في هذه المحاولة لا أدعي أنني أنشأت وابتكرت ولا أحدثت وابتدعت. بل قصاراي أنني فهمت وأحسنت العرض إذا كنت قد وفقت. أما المادة نفسها فالفضل فيها لعلماء هذه الأمة الذين أبلوا في جمعها بلاء حسنا ولم يخرجوا من الدنيا إلا بعد أن شقوا لنا الطريق وقربوا البعيد وجمعوا الشتيت وتركوا من خلفهم ثروة علمية هائلة وكنوزا ثقافية زاخرة لا يوجد مثلها ولا قريب منها في أية أمة من أمم الأرض إلى يوم الناس هذا وأعتقد أننا لو أحسنا القيام على هذه التركة لكان لنا شأن غير هذا الشأن ومكانة وسلطان لا يدانيهما مكانة ولا سلطان! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ولكن ما قضي كان. ولعل المستقبل القريب يكون أسعد من هذا الحاضر الحزين الأسوان!. ثانيها - أن أعالج شبهات عصرنا الراهن علاجا ينحي الأذى عن طريق عشاق الحق وطلاب الحقيقة ورواد البحث ومريدي الإسلام. ولقد التزمت في علاج هذه الشبهات أدب الباحث وواجب المناظر. ورأيت لمثل هذا الاعتبار أن أرخي الستر على أسماء أصحاب هذه الشبه خصوصا المعاصرين منهم. وتعمدت هذه السياسة محاسنة لهم عسى أن يرعووا وحبا في سلام البحث وهدوئه عسى أن يسلموا ويهدؤوا وغضا من شأنهم إن كان لهم شأن كيلا يقلدوا فإننا أصبحنا في زمان افتتن كثير من الناس فيه بالأسماء والرتب والأموال والنسب. وباتوا لا يعرفون الرجال بالحق إنما يعرفون الحق بالرجال فالباطل إن صدر من فلان النابه فهو عندهم حق وزين والحق إن جاء به فلان الخامل فهو عندهم باطل وشين وهكذا اختلت الضوابط وانقلبت الموازين. ثالثها - أن أظهر عند كل مناسبة جلال التآخي بين الإسلام والعلم لتنكشف تلك الدسيسة الرخيصة المفضوحة التي خيلت إلى المخدوعين أن بين الدين والعلم خصومة قائمة وحربا طاحنة وعداوة متأصلة كأن الدين رديف الجهل وكأن العلم حليف الكفر {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} . رابعها - أن أجلي أسرار التشريع وحكمه كلما دعاني المقام ليعلم من لم يكن يعلم أن هذا الدين هو حاجة الإنسانية ودواء البشرية وكمال الفرد وصلاح الجماعة ولتنقطع أنفاس تلك الدعاية الضالة دعاية فصل الدين عن السياسة والثقافة الدينية عن الثقافة المدنية, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وقوانين العدل ودساتير الحكم عن مقررات العقيدة وشعائر العبادة وهي أخبث الدعوات وأفسقها فيما نعلم!. ولئن صح أن يقال هذا في أديان قاصرة عن الوفاء بحاجات الإنسانية في مناحي الإصلاح البشري فما كان يصح أن يقال هذا في دين الإسلام بحال من الأحوال لأنه دين عقيدة وعمل وعبادة وقيادة وعلم وخلق وحكم وعدل ورحمة وحق ومصحف وسيف ودنيا وآخره! ومن كان في ريب فليسأل التاريخ عن جليل الآثار التي تركها الحكم الإسلامي الصالح في أتباعه ومن انضوى تحت لوائهم من الأقليات الأجنبية على اختلاف أديانهم ومذاهبهم الطائفية. بل ليسألوا العالم وأحداثه والدهر وتصاريفه: أي الحكمين كان أنجح في تربية الأفراد وأنجع في إصلاحات الجماعات وأهدى سبيلا في الاعتدال والاستدلال؟ أحكم السماء أم حكم الأرض؟ وقانون الخالق أم قوانين الخلق وتشريع العليم الحكيم المنزه عن الغرض والهوى أم تشاريع الإنسان القاصر النظر والاطلاع المتأثر بطغيان الغرائز وجموح القوى؟ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ؟ وإن لم يكفهم هذا فليسألوا المنصفين من مشاهير الغرب كغوستاف لوبون الفرنسي وبرناردشو الانجليزي وأمثالهما من الذين درسوا الإسلام وبحثوه ثم حكموا له وأنصفوه وأطروه وامتدحوه. "والفضل ما شهدت به الأعداء"!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ولنمسك القلم عن الجولان في هذا الميدان فالكلمة هنا للتصدير والتنوير لا للمقارنة والتنظير وحسبنا أن نردد قول الشاعر العربي: ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح فحسبكمو هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح خامسها: أن أنفخ الروح من بوق هذا الكتاب في الكرام القارئين لا سيما طلابي الأعزاء الذين هم على وشك النزول إلى ميادين الدعوة والإرشاد فأوقظ همما أخاف أن تكون قد نامت وأحيي عزائم معاذ الله أن تكون قد ماتت. والروح هي كل شيء هي القوة الدافعة وهي الحياة الرائعة والروح الصحيحة لا توجد إلا في القرآن بل الروح الصحيحة هي القرآن {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} . إن الإسلام لا يريد من المسلم ولا يرضى له أن يكون هيكلا جامدا ولا أن يكون تمثالا هامدا فإن الإسلام عدو الهياكل والجمود خصيم التماثيل والهمود. إنما يريد الإسلام أن يكون المسلم روحا يبعث الروح وحياة يملأ الدنيا حياة ورسولا من رسل السلام والرحمة والنجاة أجل. ويريد الإسلام أن يكون أهل العلم من أتباعه أصحاب همم علية ونفوس أبية لا يشترون بعهد الله ثمنا قليلا ولا يريدون بعلمهم عرض هذا الأدنى. إنما همهم وراثة الأنبياء في إصلاح العالم وتبليغ دعوة الإسلام على وجهها لطبقات الخلق وتنفيذ أحكام الله في الأقضية وسائر شؤون الحكم. {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . وهنا في هذه الآية الحكيمة تتجلى رسالة العالم والطالب. ويا لها رسالة ثم يا لها أمانة نسأل الله السلامة والإعانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 رجائي: تلك محاولاتي وأهدافي فإذا كنت قد أصبتها فذلك الفضل من الله وما بكم من نعمة فمن الله النحل وإن كانت الثانية فإنما هي نفسي وأستغفر الله. ورجائي من كل ناظر يطلع على عيب أن يدلني عليه ويرشدني إليه. فالدين النصيحة والمسلمون بخير ما تعاونوا. وما نجح سلفنا الصالح وكانوا خير أمة أخرجت للناس إلا بهذه الفضيلة. وإنه ليحلو لي أن أقول هنا ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "رحم الله رجلا أهدى إلي عيوب نفسي". شكري: وإني لمدين ببالغ الشكر وسابغ الحمد لأولئك السادة الأماجد الذين طوقوا عنقي بجليل معاونتهم وتشجيعهم وجميل تقريظهم وتقديرهم. ولا أزال أحفظ بالإجلال والإكبار ما لقيته في هذه المناسبة السعيدة من بعض رجالات الدولة وكبار العلماء ورؤساء الجماعات الإسلامية وأصحاب المجلات والصحف اليومية وإخواني أبناء الأقطار الشقيقة خصوصا الذين عملوا منهم على ترجمة هذا الكتاب ونقله في دقة وأمانة إلى بعض اللغات الشرقية. وأعتذر عن عدم نشر تقاريظهم والتنويه بفضلهم في هذه المرة لخجل في طبعي وضيق في طبع الكتاب. عجل الله الفرج للأنام وأعاد عهد الرخاء واليسر والسلام وجعل العاقبة للإسلام وبلاد الإسلام {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} . المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتب ولم يجعل له عوجا والصلاة والسلام على من أرسله الله بالقرآن رحمة للعالمين وفرجا سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحابته وأتباعه ومحبيه وأمته. أما بعد فهذا كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن. كتبته تحقيقا لرغبة طلابي المتخصصين في الدعوة والإرشاد من كلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية. مستمدا معارفه بعد فتوح الله وتوفيقه مما كتب علماء الإسلام قديما وحديثا في القرآن الكريم وعلومه والتفسير ومقدماته وعلم تاريخ التشريع وعلمي الكلام والأصول وعلوم اللغة العربية ومعاجمها وعلمي الفلسفة والاجتماع وعلمي النفس والأخلاق وبعض البحوث المنثورة هنا وهناك في غضون الرسائل والمجلات من عربية صميمة ومترجمة منقولة. وإلى الله تعالى أضرع أن يكتب لي فيه النجاح والتوفيق والقبول وأن يحقق به النفع المرجو والأثر المأمول. {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 مقدمة: في القرآن وعلومه ومنهجي في التأليف القرآن الكريم: كتاب ختم الله به الكتب وأنزله على نبي ختم به الأنبياء بدين عام خالد ختم به الأديان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق وقانون السماء لهداية الأرض أنهى إليه منزله كل تشريع وأودعه كل نهضة وناط به كل سعادة. وهو حجة الرسول وآيته الكبرى يقوم في فم الدنيا شاهدا برسالته ناطقا بنبوته دليلا على صدقه وأمانته. وهو ملاذ الدين الأعلى يستند الإسلام إليه في عقائده وعباداته وحكمه وأحكامه وآدابه وأخلاقه وقصصه ومواعظه وعلومه ومعارفه. وهو عماد لغة العرب الأسمى: تدين له اللغة في بقائها وسلامتها وتستمد علومها منه على تنوعها وكثرتها وتفوق سائر اللغات العالمية به في أساليبها ومادتها. وهو أولا وآخرا القوة المحولة التي غيرت صورة العالم ونقلت حدود الممالك وحولت مجرى التاريخ وأنقذت الإنسانية العاثرة فكأنما خلقت الوجود خلقا جديدا. لذلك كله كان القرآن الكريم موضع العناية الكبرى من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن سلف الأمة وخلفها جميعا إلى يوم الناس هذا. وقد اتخذت هذه العناية أشكالا مختلفة فتارة ترجع إلى لفظه وأدائه وأخرى إلى أسلوبه وإعجازه وثالثة إلى كتابته ورسمه ورابعة إلى تفسيره وشرحه إلى غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ولقد أفرد العلماء كل ناحية من هذه النواحي بالبحث والتأليف ووضعوا من أجلها العلوم ودونوا الكتب وتباروا في هذا الميدان الواسع أشواطا بعيدة حتى زخرت المكتبة الإسلامية بتراث مجيد من آثار سلفنا الصالح وعلمائنا الأعلام. وكانت هذه الثروة ولا تزال مفخرة نتحدى بها أمم الأرض ونفحم بها أهل الملل والنحل في كل عصر ومصر. وهكذا أصبح بين أيدينا الآن مصنفات متنوعة وموسوعات قيمة فيما نسميه علم القراءات وعلم التجويد وعلم النسخ العثماني وعلم التفسير وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم غريب القرآن وعلم إعجاز القرآن وعلم إعراب القرآن وما شاكل ذلك من العلوم الدينية والعربية مما يعتبر بحق أروع مظهر عرفه التاريخ لحراسة كتاب هو سيد الكتب وبات هذا المظهر معجزة جديدة مصدقة لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . ولقد أنجبت تلك العلوم الآنفة وليدا جديدا هو مزيج منها جميعا وسليل لها جميعا فيه مقاصدها وأغراضها وخصائصها وأسرارها والولد سر أبيه. وقد أسموه علوم القرآن وهو موضوع دراستنا في هذا الكتاب إن شاء الله. وسأحاول فيما أكتبه أن أمزج بين حاجة الأزهريين إلى البحث والتحليل وبين رغبات جماهير القراء المعاصرين في تقريب الأسلوب وتعبيد السبيل ما وسعني الإمكان. وسأضطر بسبب ذلك إلى شيء من الإسهاب والتطويل ولكنها تضحية ضئيلة بجانب تأدية رسالتنا في وجوب الاتصال الديني بالجماهير. وسأعرض بعون الله وتأييده لعلاج الشبهات التي أطلق بخورها أعداء الإسلام وسددوا سهامها الطائشة إلى القرآن ولكن عند المناسبة وسنوح الفرصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وسأجتزئ في كل مبحث ببعض أمثلة من القرآن الكريم دون أن أحاول ما حاوله سلف الكاتبين من استيعاب كل فرد لكل نوع فإن حبل ذلك طويل وثقيل على حين أن الناظر يكفيه الإيضاح بقليل من التمثيل. وسأجعل نقاط المنهج المقرر عناوين بارزة بين المباحث التي يقوم عليها هذا الكتاب مقتفيا في الغالب أثر تلك النقط في التسمية وفي الترتيب. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المبحث الأول: في معنى علوم القرآن مدخل ... المبحث الأول: في معنى علوم القرآن يقتضينا منهج البحث التحليلي لهذا المركب الإضافي أن نتحدث عن طرفيه وعن الإضافة بينهما ثم عن المراد بهذا المركب بعد نقله وتسمية هذا الفن المدون به. 1- أما العلوم: فجمع علم والعلم في اللغة مصدر يرادف الفهم والمعرفة ويرادف الجزم أيضا في رأي. ثم تداولت هذا اللفظ اصطلاحات مختلفة: فالحكماء: يريدون به صورة الشيء الحاصلة في العقل أو حصول الصورة في العقل أو تعلق النفس بالشيء على جهة انكشافه. والتحقيق عندهم هو الإطلاق الأول. والمتكلمون: يعرفون العلم: بأنه صفة يتجلى بها الأمر لمن قامت به وهو مراد من قال منهم: إنه صفة توجب لمحلها تمييزا لا يحتمل النقيض ولو كان هذا التمييز بوساطة الحواس كما هو رأي الأشعري. ويطلق العلم في لسان الشرع العام: على معرفة الله تعالى وآياته وأفعاله في عباده وخلقه. قال الإمام الغزالي في الإحياء: قد كان العلم يطلق على العلم بالله تعالى وآياته وبأفعاله في عباده وخلقه فتصرفوا فيه بالتخصيص حتى اشتهر في المناظرة مع الخصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 في المسائل الفقهية وغيرها. ولكن ما ورد في فضل العلم والعلماء أكثره في المعنى الأول أهـ وهو يفيد أن العلم الشرعي الخاص يطلق على أخص من هذا الذي ذكره الغزالي في لسان الشرع العام ولكن بحسب ما يقتضيه المقام. بل لقد نص الغزالي نفسه في الإحياء أيضا على أن الناس اختلفوا في العلم الذي هو فريضة على كل مسلم وقال: إنهم تفرقوا فيه إلى عشرين فرقة. ثم ذهبت إلى أن المراد به علم المعاملة الشامل لما يصلح الظاهر من عبادات وعادات إسلامية ولما يصلح الباطن من عقائد الإسلام وأخلاقه. والماديون: يزعمون أن العلم ليس إلا خصوص اليقينيات التي تستند إلى الحس وحده. وسنناقش مذهبهم في مبحث نزول القرآن. ولسنا بسبيل بيان تلك الاصطلاحات الآنفة الذكر فلها علومها وكتبها ومباحثها إنما هو عرض عام يعرف منه كيف أن لفظا واحدا هو العلم أنهكته الاصطلاحات المتعددة وتداولته النقول المتنوعة فلا تقعن في لبس إذا ورد عليك في صورة شبه متعارضة. العلم في عرف التدوين العام: والذي يعنينا كثيرا هو العلم في اصطلاح آخر هو اصطلاح علماء التدوين لأننا بصدد الكلام في علوم القرآن كفن مدون. قالوا: يطلق العلم على المسائل المضبوطة بجهة واحدة. والغالب أن تكون تلك المسائل نظرية كلية وقد تكون ضرورية وقد تكون جزئية. أقول: وقد تكون شخصية أيضا كمسائل علم الحديث رواية فإنها في الواقع قضايا شخصية موضوعها ذات النبي صلى الله عليه وسلم. وقال السعد في المقاصد وعبد الحكيم على المطول: ما يفيد أن العلم المدون قد يطلق على طائفة من التصورات أي المفردات التي يتصورها العقل مضبوطة بجهة واحدة. وأقول: يمكن أن نستخلص من ذلك كله أن العلم في عرف التدوين العام يقال على المعلومات المنضبطة بجهة واحدة سواء أكانت وحدة الموضوع أم وحدة الغاية وسواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أكانت تلك المعلومات تصورات كعلم البديع أم تصديقات. وسواء أكانت تلك التصديقات قضايا كلية وهو الغالب أم جزئية أم شخصية كعلم الحديث رواية. هذا كله إطلاق واحد من إطلاقات ثلاثة لعلماء التدوين. والإطلاق الثاني عندهم: هو الإدراك أي إدراك تلك المعارف السالفة. والإطلاق الثالث: هو على ما يسمونه ملكة الاستحصال أي التي تستحصل بها تلك المعارف. أو ملكة الاستحضار أي التي تستحضر بها المعارف بعد حصولها. وأول هذه الإطلاقات هو أولاها بالقبول لأنه المتبادر من نحو قولهم تعلمت علما من العلوم وموضوع العلم كذا والتبادر كما يقولون أمارة الحقيقة. ذلك ما أردنا بسطه في الكلام على لفظ علوم من قولنا: علوم القرآن. 2- أما لفظ القرآن: فهو في اللغة مصدر مرادف للقراءة ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} - ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل اسما للكلام المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من باب إطلاق المصدر على مفعوله. ذلك ما نختاره استنادا إلى موارد اللغة وقوانين الاشتقاق وإليه ذهب اللحياني وجماعة. أما القول بأنه وصف من القرء بمعنى الجمع أو أنه مشتق من القرائن. أو أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء أو أنه مرتجل أي موضوع من أول الأمر علما على الكلام المعجز المنزل غير مهموز ولا مجرد من أل فكل أولئك لا يظهر له وجه وجيه ولا يخلو توجيه بعضه من كلفة ولا من بعد عن قواعد الاشتقاق وموارد اللغة. وعلى الرأي المختار فلفظ قرآن مهموز وإذا حذف همزه فإنما ذلك للتخفيف وإذا دخلته أل بعد التسمية فإنما هي للمح الأصل لا للتعريف. ويقال للقرآن: فرقان أيضا وأصله مصدر كذلك ثم سمي به النظم الكريم تسمية للمفعول أو الفاعل بالمصدر باعتبار أنه كلام فارق بين الحق والباطل أو مفروق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 بعضه عن بعض في النزول أو في السور والآيات. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ثم إن هذين الاسمين هما أشهر أسماء النظم الكريم. بل جعلهما بعض المفسرين مرجع جميع أسمائه كما ترجع صفات الله على كثرتها إلى معنى الجلال والجمال. ويلي هذين الاسمين في الشهرة هذه الأسماء الثلاثة الكتاب والذكر والتنزيل. وقد تجاوز صاحب البرهان حدود التسمية فبلغ بعدتها خمسة وخمسين وأسرف غيره في ذلك حتى بلغ بها نيفا وتسعين كما ذكره صاحب التبيان. واعتمد هذا وذاك على إطلاقات واردة في كثير من الآيات والسور وفاتهما أن يفرقا بين ما جاء من تلك الألفاظ على أنه اسم وما ورد على أنه وصف ويتضح ذلك لك على سبيل التمثيل في عدهما من الأسماء لفظ قرآن ولفظ كريم أخذا من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} الواقعة كما عدا من الأسماء لفظ ذكر ولفظ مبارك اعتمادا على قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} على حين أن لفظ قرآن وذكر في الآيتين مقبول كونهما اسمين. أما لفظ كريم ومبارك فلا شك أنهما وصفان كما ترى. والخطب في ذلك سهل يسير بيد أنه مسهب طويل حتى لقد أفرده بعضهم بالتأليف. وفيما ذكرناه كفاية {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 القرآن في الاصطلاح معلوم أن القرآن كلام الله وأن كلام الله غير كلام البشر ما في ذلك ريب ومعلوم أيضا أن الإنسان له كلام قد يراد به المعنى المصدري أي التكلم وقد يراد به المعنى الحاصل بالمصدر أي المتكلم به. وكل من هذين المعنيين لفظي ونفسي. فالكلام البشري اللفظي بالمعنى المصدري: هو تحريك الإنسان للسانه وما يساعده في إخراج الحروف من المخارج. والكلام اللفظي بالمعنى الحاصل بالمصدر: هو تلك الكلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المنطوقة التي هي كيفية في الصوت الحسي وكلا هذين ظاهر لا يحتاج إلى توضيح. أما الكلام النفسي بالمعنى المصدري فهو تحضير الإنسان في نفسه بقوته المتكلمة الباطنة للكلمات التي لم تبرز إلى الجوارح فيتكلم بكلمات متخيلة يرتبها في الذهن بحيث إذا تلفظ بها بصوت حسي كانت طبق كلماته اللفظية. والكلام النفسي بالمعنى الحاصل بالمصدر: هو تلك الكلمات النفسية والألفاظ الذهنية المترتبة ترتبا ذهنيا منطبقا عليه الترتب الخارجي. ومن الكلام البشري النفسي بنوعيه قوله تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} . ومنه الحديث الشريف الذي رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل فقال" إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري" فقال عليه السلام: "لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن" فأنت ترى أن النبي سمى ذلك الشيء الذي تحدثت به النفس كلاما مع أنه كلمات ذهنية لم ينطق بها الرجل مخافة أن يحبط بها أجره. وهذا الإطلاق من الرسول يحمل على الحقيقة لأنها الأصل ولا صارف عنها. كذلكم القرآن كلام الله ولله المثل الأعلى قد يطلق ويراد به الكلام النفسي وقد يطلق ويراد به الكلام اللفظي والذين يطلقونه إطلاق الكلام النفسي هم المتكلمون فحسب لأنهم المتحدثون عن صفات الله تعالى النفسية من ناحية والمقررون لحقيقة أن القرآن كلام الله غير مخلوق من ناحية أخرى. أما الذين يطلقونه إطلاق الكلام اللفظي فالأصوليون والفقهاء وعلماء العربية وإن شاركهم فيه المتكلمون أيضا بإطلاق ثالث عندهم كما يتبين لك بعد. وإنما عني الأصوليون والفقهاء بإطلاق القرآن على الكلام اللفظي لأن غرضهم الاستدلال على الأحكام وهو لا يكون إلا بالألفاظ. وكذلك علماء العربية يعنيهم أمر الإعجاز فلا جرم كانت وجهتهم الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 والمتكلمون يعنون أيضا بتقرير وجوب الإيمان بكتب الله المنزلة ومنها القرآن وبإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن. وبدهي أن ذلك كله مناطه الألفاظ فلا بدع أن ساهموا في هذا الإطلاق الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 القرآن عند المتكلمين ثم إن المتكلمين حين يطلقونه على الكلام النفسي يلاحظون أمرين: أحدهما: أن القرآن علم أي كلام ممتاز عن كل ما عداه من الكلام الإلهي. ثانيهما: أنه كلام الله وكلام الله قديم غير مخلوق فيجب تنزهه عن الحوادث وأعراض الحوادث. وقد علمت أن الكلام النفسي البشري يطلق بإطلاقين أحدهما: على المعنى المصدري وثانيهما على المعنى الحاصل بالمصدر. فكذلك كلام الله النفسي. يطلق بإطلاقين أحدهما على نظير المعنى المصدري للبشر وثانيهما على نظير المعنى الحاصل بالمصدر للبشر. وإنما قلنا على نظير لما هو مقرر من وجوب تنزه الكلام الإلهي النفسي عن الخلق وأشباه الخلق. فعرفوه بالمعنى الأول الشبيه بالمعنى المصدري البشري. وقالوا: إنه الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الحكمية. من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وهذه الكلمات أزلية مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية. وهي مترتبة غير متعاقبة. كالصورة تنطبع في المرآة مترتبة غير متعاقبة. وقالوا: في تعريفهم هذا: إنها حكمية لأنها ليست ألفاظا حقيقية مصورة بصورة الحروف والأصوات. وقالوا: إنها أزلية ليثبتوا لها معنى القدم. وقالوا: إنها مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية لينفوا عنها أنها مخلوقة. وكذلك قالوا: إنها غير متعاقبة لأن التعاقب يستلزم الزمان والزمان حادث. وأثبتوا لها الترتب ضرورة أن القرآن حقيقة مترتبة بل ممتازة بكمال ترتبها وانسجامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 إذا عرفت هذا الإطلاق الأول عند المتكلمين سهل عليك أن تعرف إطلاقهم الثاني للقرآن الكريم: وهو أنه تلك الكلمات الحكمية الأزلية المترتبة في غير تعاقب المجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية. وهو تعريف للقرآن كلام الله بما يشبه المعنى الحاصل بالمصدر لكلام البشر النفسي. ذانك إطلاقان اختص بهما المتكلمون كما رأيت. وهناك إطلاق ثالث للقرآن يقول به المتكلمون أيضا لكن يشاركهم فيه الأصوليون والفقهاء وعلماء العربية. ذلك أنه هو: اللفظ المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس الممتاز بخصائصه التي سنذكرها بعد قليل. فهو مظاهر وصور لتلك الكلمات الحكمية الأزلية التي أشرنا إليها آنفا. ويطلق القرآن إطلاقا رابعا على النقوش المرقومة بين دفتي المصحف باعتبار أن النقوش دالة على الصفة القديمة والكلمات الغيبية واللفظ المنزل. وهذا إطلاق شرعي عام. ولنضرب لك مثلا يوضح ذلك المقام الذي ضلت فيه الأفهام وزلت فيه الأقدام. رجل شاعر كشرف الدين البوصيري رحمه الله لا ريب أنه كان يحمل في نفسه قوة شاعرة يستطيع أن يصوغ بها ما شاء من غرر القصائد وعندما اتجهت شاعريته فعلا أن يمتدح أفضل الخليقة صلوات الله سلامه عليه بقصيدته المعروفة بالهمزية لا شك أنه عالج النظم في نفسه واستحضر المعاني والألفاظ والأوزان حتى تمثل له ذلك القصيد في نفسه وتأثرت نفسه به على وجه إذا تكلم به بصوت حسي كان عين نظمه المقفى الموزون. ثم لا شك أنه نطق بقصيده بعد ثم كتبه بعد أن أنشده فهذا الاسم الشهير بالهمزية في مدح خير البرية يمكن أن نقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 به الإطلاقات الأربعة التي أطلقنا بها القرآن الكريم: يصح أن نطلق الهمزية على القوة الشاعرة لذلك الرجل باعتبار اتجاهها إلى هذا النظم الخاص الذي تمثل في نفسه من قبل أن يأخذ صورة اللفظ والنقش. ويصح أن نطلقها على هذا النظم الخاص الذي تمثل في نفسه من قبل أن يظهر بمظهر الألفاظ والنقوش كذلك. ويصح أن نطلقها على هذا النظم بعد أن تمثل أصواتا ملفوظة وحروفا موزونة. ويصح أن نطلقها على هذا النظم متمثلا في صورته المرسومة ونقوشه المكتوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 القرآن عند الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية أظنني قد أطلت عليك ولكن المقام دقيق وخطير فلا تضق ذرعا بهذا التطويل والتمثيل ثم استمع لما وعدتك إياه من بيان معنى القرآن على أنه اللفظ المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. هذا الإطلاق كما علمت ينسب إلى علماء الأصول والفقه واللغة العربية. ويوافقهم عليه المتكلمون أيضا غير أن هؤلاء الذين أطلقوه على اللفظ المنزل الخ اختلفوا في تعريفه: فمنهم من أطال في التعريف وأطنب بذكر جميع خصائص القرآن الممتازة. ومنهم من اختصر فيه وأوجز. ومنهم من اقتصد وتوسط. فالذين أطنبوا عرفوه بأنه الكلام المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته وأنت ترى أن هذا التعريف جمع بين الإعجاز والتنزيل على النبي صلى الله عليه وسلم والكتابة في المصاحف والنقل بالتواتر والتعبد بالتلاوة. وهي الخصائص العظمى التي امتاز بها القرآن الكريم. وإن كان قد امتاز بكثير سواها. ولا يخفى عليك أن هذا التعريف كان يكفي فيه ذكر بعض تلك الأوصاف ويكون جامعا مانعا غير أن مقام التعريف مقام إيضاح وبيان فيناسبه الإطناب لغرض زيادة ذلك والبيان. لذلك استباحوا لأنفسهم أن يزيدوا فيه ويسهبوا. والذين اختصروا وأوجزوا في التعريف: منهم من اقتصر على ذكر وصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 واحد هو الإعجاز. ووجهة نظرهم في هذا الاقتصار أن الإعجاز هو الوصف الذاتي للقرآن. وأنه الآية الكبرى على صدق النبي صلى الله عليه وسلم والشاهد العدل على أن القرآن كلام الله. ومنهم من اقتصر على وصفين: هما الإنزال والإعجاز وحجتهم أن ما عدا هذين الوصفين ليس من الصفات اللازمة للقرآن. بدليل أن القرآن قد تحقق فعلا بهما دون سواهما على عهد النبوة. ومنهم من اقتصر على وصفي النقل في المصاحف والتواتر لأنهما يكفيان في تحصيل الغرض وهو بيان القرآن وتمييزه عن جميع ما عداه. والذين توسطوا: منهم من عرض لإنزال الألفاظ وللكتابة في المصاحف وللنقل بالتواتر فحسب موجها رأيه بأن المقصود هو تعريف القرآن لمن لم يدركه زمن النبوة وأن ما ذكره من الأوصاف هو من اللوازم البينة لأولئك الذين لم يدركوها بخلاف الإعجاز فإنه غير بين بالنسبة لهم وليس وصفا لازما لما كان أقل من سورة من القرآن. ومن أولئك الذين توسطوا من عرض للإنزال والنقل بالتواتر والتعبد بالتلاوة فقط مستندا إلى أن ذلك هو الذي يناسب غرض الأصوليين. وعرفوه بأنه: اللفظ المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم المنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته فاللفظ جنس في التعريف يشمل المفرد والمركب. ولا شك أن الاستدلال على الأحكام كما يكون بالمركبات يكون بالمفردات كالعام والخاص والمطلق والمقيد. وخرج بالمنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم ينزل أصلا مثل كلامنا ومثل الحديث النبوي وما نزل على غير النبي صلى الله عليه وسلم كالتوراة والإنجيل. وخرج بالمنقول تواترا جميع ما سوى القرآن من منسوخ التلاوة والقراءات غير المتواترة سواء أكانت مشهورة نحو قراءة ابن مسعود متتابعات عقيب قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} أم كانت آحادية كقراءة ابن مسعود أيضا لفظ متتابعات عقيب قوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فإن شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 من ذلك لا يسمى قرآنا ولا يأخذ حكمه. وخرجت الأحاديث القدسية إذا تواترت بقولهم المتعبد بتلاوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 هل القرآن علم شخص؟ أسلفنا أن القرآن يطلق على الصفة القديمة ويطلق على الكلمات الحكمية الأزلية وهذان الإطلاقان لا تعدد فيهما ألبتة لا حقيقة ولا اعتبارا. بل هما منزهان عنه لأن التعدد من أمارات الحدوث. كيف وهما قديمان؟ وإذا فلفظ القرآن علم شخص بهذين الإطلاقين لا محالة. أما إذا أريد بالقرآن اللفظ المنزل فهنا يكون الخلاف فالرأي السائد أنه علم شخص مدلوله تلك الآيات المنزلة الممتازة بخصائصها العليا من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وهذه الألفاظ المعينة لا يقدح في تشخصها اختلاف المتلفظين ولا تعدد القارئين كما لا يقدح في تشخص محمود مثلا أن يكون في مكة أو في المدينة ولا أن يتقلب في أطوار مختلفة من طفولة إلى شيخوخة ومن صحة إلى مرض ومن حياة إلى موت ونحو ذلك. وبعضهم يجعله علم جنس نظرا إلى تعدد هذه الألفاظ المنزلة بتعدد قارئيها وكاتبيها. وهذا مردود من وجهين: أحدهما: أن علم الجنس ضرورة نحوية اقتضتها أحكام لفظية كامتناع إضافته ودخول أل عليه. ولا ضرورة هنا لفظية. ثانيهما: أن علم الجنس نكرة في المعنى. وأفراده منتشرة متعددة حقيقة لا اعتبارا. والتعدد الملحوظ هنا اعتباري لا حقيقي. للقطع بأن ما يقرؤه أو يكتبه كل منا فهو القرآن عينه لا فرد من أفراده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 هل يصاغ للأعلام تعاريف بقي علينا أن نتساءل: إذا كان القرآن علما فكيف ساغ أن يصاغ له تعريف بل تعاريف على نحو ما سبق مع أن التعاريف لا تكون إلا للكليات والعلم جزئي مركب من الماهية ومشخصاتها. والمشخصات لا يمكن معرفتها إلا بالاطلاع عليها بالحواس كالإشارة مثلا أو بالتعبير عنها باسم علم؟ ولنا على ذلك أجوبة ثلاثة: أولها: أنا نمنع أن التعاريف لا تكون إلا للكليات. لم لا يجوز أن تعرف الجزئيات بأمور كلية لا يتحقق مجموعها في الخارج إلا في هذا الشخص بخصوصه. وهذا الجواب قريب مما ذكره صاحب التلويح إذ قال: الحق أن الشخص يمكن أن يحد بما يفيد امتيازه عن جميع ما عداه بحسب الوجود لا بما يفيد تعينه وتشخصه بحيث لا يمكن اشتراكه بين كثيرين بحسب العقل. فإن ذلك إنما يحصل بالإشارة لا غير اهـ. ثانيها: أنا نسلم أن التعاريف لا تكون إلا للكليات. لكن ما ذكروه ليس بتعريف حقيقي إنما هو ضابط مميز وليس بمعرف. ثالثها: أن هذا تعريف على رأي الأصوليين الذين لا يشترطون في التعاريف أجناسا ولا فصولا. بل الحد عندهم هو الجامع المانع مطلقا. وعليه فيصح أن يحد الشخص عند الأصوليين دون المناطقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 إطلاق القرآن على الكل وعلى أبعاضه لا شك أن القرآن يطلق على الكل وعلى أبعاضه. فيقال لمن قرأ اللفظ المنزل كله إنه قرأ قرآنا. وكذلك يقال لمن قرأ ولو آية منه: إنه قرأ قرآنا. لكنهم اختلفوا: فقيل: إن لفظ قرآن حقيقة في كل منهما وإذا يكون مشتركا لفظيا. وقيل: هو موضوع للقدر المشترك بينهما وإذا يكون مشتركا معنويا ويكون مدلوله حينئذ كليا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقد يقال: إن إطلاقه على الكل حقيقة وعلى البعض مجاز. والتحقيق أنه مشترك لفظي بدليل التبادر عند إطلاق اللفظ على الكل وعلى البعض كليهما والتبادر أمارة الحقيقة. والقول بعلمية الشخص فيه كما حققنا آنفا يمنع أنه مشترك معنوي فتعين أن يكون مشتركا لفظيا. وهو ما يفهم من كلام الفقهاء إذ قالوا مثلا: يحرم قراءة القرآن على الجنب فإنهم يقصدون حرمة قراءته كله أو بعضه على السواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 3- معنى علوم القرآن بالمعنى الإضافي الآن وقد انتهينا من الكلام على المتضايفين في لفظ علوم القرآن ننتقل بك إلى أن الإضافة بينهما تشير إلى طوائف المعارف المتصلة بالقرآن سواء أكانت تصورات أم تصديقات على ما عرفت وجه اختياره في مدلول لفظ العلم في عرف التدوين العام. وإنما جمعت هذه العلوم ولم تفرد لأنه لم يقصد إلى علم واحد يتصل بالقرآن. إنما أريد شمول كل علم يخدم القرآن أو يستند إليه. وينتظم ذلك علم التفسير وعلم القراءات وعلم الرسم العثماني وعلم إعجاز القرآن وعلم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم إعراب القرآن وعلم غريب القرآن وعلوم الدين واللغة إلى غير ذلك. وتلك أشتات من العلوم توسع السيوطي فيها حتى اعتبر منها علم الهيئة والهندسة والطب ونحوها. ثم نقل عن أبي بكر بن العربي في قانونه التأويل أنه قال: علوم القرآن خمسون وأربعمائة وسبعة آلاف وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة. إذ أن لكل كلمة ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا. هذا في المفردات فحسب. أما إذا اعتبرت التراكيب وما بينها من روابط كان ما لا يحصى مما لا يعمله إلا الله تعالى اهـ بتصرف قليل. وأحب أن تعرف أن هذا الكلام من السيوطي وابن العربي محمول على ضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 كبير من التأويل والتوسع بأن يراد من العلوم كل ما يدل عليه القرآن من المعارف سواء أكانت علوما مدونة أم غير مدونة وسواء أكانت تلك الدلالة تصريحية أم تلميحية عن قرب أم عن بعد. فأما أن تراد العلوم المدونة صراحة فدون ذلك خرط القتاد وصعود السماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 القرآن كتاب هداية وإعجاز وتحقيق القول في هذا الموضوع: أن القرآن الكريم كتاب هداية وإعجاز من أجل هذين المطمحين نزل وفيهما تحدث وعليهما دل. فكل علم يتصل بالقرآن من ناحية قرأنيته أو يتصل به من ناحية هدايته أو إعجازه فذلك من علوم القرآن. وهذا ظاهر في العلوم الدينية والعربية. أما العلوم الكونية وأما المعارف والصنائع وما جد أو يجد في العالم من فنون ومعارف كعلم الهندسة والحساب وعلم الهيئة والفلك وعلم الاقتصاد والاجتماع وعلم الطبيعة والكيمياء وعلم الحيوان والنبات فإن شيئا من ذلك لا يجمل عده من علوم القرآن لأن القرآن لم ينزل ليدلل على نظرية من نظريات الهندسة مثلا ولا ليقرر قانونا من قوانينها. وكذلك علم الهندسة لم يوضع ليخدم القرآن في شرح آياته أو بيان أسراره وهكذا القول في سائر العلوم الكونية والصنائع العالمية. وإن كان القرآن قد دعا المسلمين إلى تعلمها وحذقها والتمهر فيها خصوصا عند الحاجة إليها. وإنما قلنا: إنه لا يجمل اعتبار علوم الكون وصنائعه من علوم القرآن مع أن القرآن يدعو إلى تعلمها لأن هناك فرقا كبيرا بين الشيء يحث القرآن على تعلمه في عموماته أو خصوصاته وبين العلم يدل القرآن على مسائله أو يرشد إلى أحكامه أو يكون ذلك العلم خادما للقرآن بمسائله أو أحكامه أو مفرداته. فالأول ظاهر أنه لا يعتبر من علوم القرآن بخلاف الثاني. وهو ما نريد أن نرشدك إليه وأن تحرص أنت بدورك عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 القرآن يحض على الانتفاع بالكون أجل: إن القرآن حض على معرفة علوم الكون وصنائع العالم وحث على الانتفاع بكل ما يقع تحت نظرنا في الوجود. قال سبحانه وتعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقال جلت حكمته: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . فلا يليق بالمسلمين وهم المخاطبون بهذا أن يفروا من وجه هذه المنافع العامة ولا أن يزهدوا في علوم الكون ولا أن يحرموا أنفسهم فوائد التمتع بثمرات هذه القوى العظيمة التي أودعها الله لخلقه في خزائن سمواته وأرضه ولهذا نص علماؤنا على أن تعلم تلك العلوم الكونية وحذق هذه الصناعات الفنية فرض من فروض الكفايات ما داموا في حاجة إليها لمصلحة الفرد أو المجموع. وذلك لأن البقاء في هذه الحياة للأصلح والحياة في هذا الوجود للسلام المسلح والأسلحة في كل عصر عامة وفي هذا العصر خاصة إنما تقوم على التمهر في العلوم وعلى السبق في حلبة الصناعات والفنون. والويل فينا للضعيف والحظ كل الحظ للقوي والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا. ولكن قل قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 إعجاز علمي للقرآن وأحب ألا أنتهي من هذا الموضوع حتى أنبهك إلى شيء آخر جدير بالنظر والتقدير: وهو أن القرآن الكريم في طريقة عرضه للهداية والإعجاز على الخلق قد حاكم الناس إلى عقولهم وفتح عيونهم إلى الكون وما في الكون من سماء وأرض, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وبر وبحر وحيوان ونبات وخصائص وظواهر ونواميس وسنن. وكان القرآن في طريقة عرضه هذه موفقا كل التوفيق بل كان معجزا أبهر الإعجاز لأن حديثه عن تلك الكونيات كان حديث العليم بأسرارها الخبير بدقائقها المحيط بعلومها ومعارفها على حين أن هذا الذي جاء بالقرآن رجل أمي نشأ في أمة أمية جاهلة لا صلة لها بتلك العلوم وتدوينها ولا إلمام لها بكتبها ومباحثها. بل إن بعض تلك العلوم لم ينشأ إلا بعد عهد النبوة ومهبط الوحي بقرون وأجيال. فأنى يكون لرجل أمي كمحمد ذلك السجل الجامع لتلك المعارف كلها إن لم يكن تلقاه من لدن حكيم عليم قال سبحانه مقررا لهذا الإعجاز العلمي: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} ولعل من الحكمة أن نسوق لك نموذجين من القرآن على سبيل التمثيل أولهما في سورة النور إذ يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} قل لي بربك ألا يملكك العجب حين تقرأ هذا النص الكريم الذي يتفق وأحدث النظريات العلمية في الظواهر الطبيعية من سحاب ومطر وبرق؟. النموذج الثاني يقول الله تعالى في سورة القيامة مبينا ومقررا كمال اقتداره على إعادة الإنسان وبعثه بعد موته: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ. بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} . أرجو أن تقف قليلا عند تخصيصه البنان بالتسوية في هذا المقام. ثم تستمع بعد ذلك إلى هذا العلم الوليد علم تحقيق الشخصية في عصرنا الأخير وهو يقرر أن أدق شيء وأبدعه في بناء جسم الإنسان هو تسوية البنان حتى إنه لا يمكن أن تجد بنانا لأحد يشبه بنان آخر بحال من الأحوال. وقد انتهوا من هذا القرار إلى أن حكموا البنان في كثير من القضايا والحوادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ولا أريد أن أطيل عليك في هذا فمعجزات القرآن العلمية لها ميدان آخر. إنما هي نظرة خاطفة نوضح بها المراد بعلوم القرآن ونوجه بها كلام السيوطي في الإتقان ونعتذر فيها عن ابن العربي في التأويل. والله وحده هو المحيط بأسرار كتابه. ولا يزال الكون وما يحدث في الكون من علوم وفنون وشؤون لا يزال كل أولئك يشرح القرآن ويفسره ويميط اللثام عن نواح كثيرة من أسراره وإعجازه مصداقا لقوله جل ذكره: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 4- معنى علوم القرآن كفن مدون وموضوعه وفائدته أما بعد فقد تبين لك فيما سبق أن لفظ علوم القرآن يراد بمعناه الإضافي ما يشمل العلوم الدينية والعربية ونفيدك هنا أن هذا اللفظ نقل من ذلك المعنى الإضافي ثم جعل علما على الفن المدون وأصبح مدلوله بعد النقل وهو علم غير مدلوله قبل النقل وهو مركب إضافي ضرورة أن هذا الفن ليس هو مجموعة العلوم الدينية والعربية بل هو غيرها وإن كان مستمدا منها ومأخوذا عنها ويمكن أن نعرفه بأنه مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه وجمعه وكتابته وقراءته وتفسيره وإعجازه وناسخه ومنسوخه ودفع الشبه عنه ونحو ذلك. وموضوعه القرآن الكريم من أية ناحية من النواحي المذكورة في التعريف. بخلاف علوم القرآن بالمعنى الإضافي فإن موضوعه هو مجموع موضوعات تلك العلوم المنضوية تحت لوائه. وموضوع كل واحد منها هو القرآن الكريم من ناحية واحدة من تلك النواحي. فعلم القراءات مثلا موضوعه القرآن الكريم من ناحية لفظه وأدائه وعلم التفسير موضوعه القرآن الكريم من ناحية شرحه ومعناه وهلم جرا. وفائدة هذا العلم: ترجع إلى الثقافة العالية العامة في القرآن الكريم وإلى التسلح بالمعارف القيمة فيه استعدادا لحسن الدفاع عن حمى الكتاب العزيز ثم إلى سهولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 خوض غمار تفسير القرآن الكريم به كمفتاح للمفسرين فمثله من هذا الناحية كمثل علوم الحديث بالنسبة لمن أراد أن يدرس علم الحديث. وقد صرح السيوطي بذلك في خطبة كتابه الإتقان إذ قال: ولقد كنت في زمان الطلب أتعجب من المتقدمين إذ لم يدونوا كتابا في أنواع علوم القرآن كما وضعوا ذلك بالنسبة إلى علم الحديث اهـ. ثم رأيت صاحب كتاب التبيان في علوم القرآن يشير إلى ذلك المعنى إذ وضع على طرة كتابه الكلمة الآتية: وهذا هو المقدمة الصغرى من مقدمتي التفسير. هذا وإنما سمي هذا العلم القرآن بالجمع دون الإفراد. للإشارة إلى أنه خلاصة علوم متنوعة باعتبار أن مباحثه المدونة تتصل اتصالا وثيقا كما علمت بالعلوم الدينية والعلوم العربية حتى إنك لتجد كل مبحث منها خليقا أن يسلك في عداد مسائل علم من تلك العلوم. فنسبته إليها كنسبة الفرع إلى أصوله أو الدليل إلى مدلوله. وما أشبهه بباقة منسقة من الورود والياسمين إزاء بستان حافل بالوان الزهور والرياحين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المبحث الثاني: في تاريخ علوم القرآن وظهور اصطلاحه عهد ما قبل التدوين كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه ما عرف العلماء وفوق ما عرف العلماء من بعد. ولكن معارفهم لم توضع على ذلك العهد كفنون مدونة ولم تجمع في كتب مؤلفة لأنهم لم تكن لهم حاجة إلى التدوين والتأليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أما الرسول صلوات الله وسلامه عليه فلأنه كان يتلقى الوحي عن الله وحده. والله تعالى كتب على نفسه الرحمة ليجمعنه له في صدره وليطلقن لسانه بقراءته وترتيله وليميطن له اللثام عن معانيه وأسراره. اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . ثم بلغ الرسول ما أنزل عليه لأصحابه وقرأه على الناس على مكث أي على مهل وتؤدة ليحسنوا أخذه ويحفظوا لفظه ويفهموا سره. ثم شرح الرسول لهم القرآن بقوله وبعمله وبتقريره وبخلقه أي بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته مصداقا لقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . ولكن الصحابة وقتئذ كانوا عربا خلصا متمتعين بجميع خصائص العروبة ومزاياها الكاملة من قوة في الحافظة وذكاء في القريحة وتذوق للبيان وتقدير للأساليب ووزن لما يسمعون بأدق المعايير حتى أدركوا من علوم القرآن ومن إعجازه بسليقتهم وصفاء فطرتهم ما لا نستطيع نحن أن ندركه مع رحمة العلوم وكثرة الفنون. وكان الصحابة رضوان الله عليهم مع هذه الخصائص أميين وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم والرسول نهاهم أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن وقال لهم أول العهد بنزول القرآن فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "لا تكتبوا عني. ومن كتب غير القرآن فليمحه. وحدثوا عني فلا حرج. ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وذلك مخافة أن يلتبس القرآن بغيره أو يختلط بالقرآن ما ليس منه ما دام الوحي نازلا بالقرآن. فلتلك الأسباب المتضافرة لم تكتب علوم القرآن كما لم يكتب الحديث الشريف. ومضى الرعيل الأول على ذلك في عهد الشيخين أبي بكر وعمر. ولكن الصحابة كانوا مضرب الأمثال في نشر الإسلام وتعاليمه والقرآن وعلومه والسنة وتحريرها تلقينا لا تدوينا ومشافهة لا كتابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن ثم جاءت خلافة عثمان رضي الله عنه وقد اتسعت رقعة الإسلام واختلط العرب الفاتحون بالأمم التي لا تعرف العربية وخيف أن تذوب خصائص العروبة من العرب من جراء هذا الفتح والاختلاف بل خيف على القرآن نفسه أن يختلف المسلمون فيه إن لم يجتمعوا على مصحف إمام فتكون فتنة في الأرض وفساد كبير لهذا أمر رضي الله عنه أن يجمع القرآن في مصحف إمام وأن تنسخ منه مصاحف يبعث بها إلى أقطار الإسلام وأن يحرق الناس كل ما عداها ولا يعتمدوا سواها. كما يأتيك تفصيله في مبحث جمع القرآن وكتابته. وبهذا العمل وضع عثمان رضي الله عنه الأساس لما نسميه علم رسم القرآن أو علم الرسم العثماني. ثم جاء علي رضي الله عنه فلاحظ العجمة تحيف على اللغة العربية وسمع ما أوجس منه خيفة على لسان العرب فأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع بعض قواعد لحماية لغة القرآن من هذا العبث والخلل وخط له الخطط وشرع له المنهج. وبذلك يمكننا أن نعتبر أن عليا رضي الله عنه قد وضع الأساس لما نسميه علم النحو ويتبعه علم إعراب القرآن. على الخلاف في هذه الرواية. ثم انقضى عهد الخلافة الرشيدة وجاء عهد بني أمية وهمة مشاهير الصحابة والتابعين متجهة إلى نشر علوم القرآن بالرواية والتلقين لا بالكتابة والتدوين. ولكن هذه الهمة في هذا النشر يصح أن نعتبرها تمهيدا لتدوينها وعلى رأس من ضرب بسهم وفير في هذه الرواية الأربعة الخلفاء وابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير وكلهم من الصحابة رضوان الله عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وعلى رأس التابعين في تلك الرواية مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم بالمدينة وعنه أخذ ابنه عبد الرحمن ومالك بن أنس من تابعي التابعين رضي الله عنهم أجمعين. وهؤلاء جميعا يعتبرون أنهم واضعو الأساس لما يسمى علم التفسير وعلم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم غريب القرآن ونحو ذلك. وستجد بسطا لهذا الإجمال في بحث طبقات المفسرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عهد التدوين لعلوم القرآن بالمعنى الإضافي ثم جاء عصر التدوين فألفت كتب في أنواع علوم القرآن واتجهت الهمم قبل كل شيء إلى التفسير باعتباره أم العلوم القرآنية لما فيه من التعرض لها في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز. ومن أوائل الكاتبين في التفسير شعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وتفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين. وهم من علماء القرن الثاني. ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفي سنة 310 هـ وكتابه أجل التفاسير وأعظمها لأنه أول من عرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض كما عرض للإعراب والاستنباط. وبقيت العناية بالتفسير قائمة إلى عصرنا هذا حتى وجدت منه مجموعة رائعة فيها المعجب والمطرب والموجز والمطول والمتوسط ومنها التفسير بالمعقول والتفسير بالمأثور ومنها تفسير القرآن كله وتفسير جزء وتفسير سورة وتفسير آية وتفسير آيات الأحكام إلى غير ذلك. أما علوم القرآن الأخرى ففي مقدمة المؤلفين فيها: علي بن المديني شيخ البخاري إذ ألف في أسباب النزول وأبو عبيد القاسم بن سلام إذ كتب في الناسخ والمنسوخ وكلاهما من علماء القرن الثالث. وفي مقدمة من ألف في غريب القرآن أبو بكر السجستاني وهو من علماء القرن الرابع. وفي طليعة من صنف في إعراب القرآن علي ابن سعيد الحوفي وهو من علماء القرن الخامس. ومن أوائل من كتب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 مبهمات القرآن: أبو القاسم عبد الرحمن المعروف بالسبيلي وهو من علماء القرن السادس. كذلك تصدر للتأليف في مجاز القرآن ابن عبد السلام وفي القراءات علم الدين السخاوي وهما من علماء القرن السابع. وهكذا قويت العزائم وتبارت الهمم ونشأت علوم جديدة للقرآن. وظهرت مؤلفات في كل نوع منها سواء في ذلك أقسام القرآن وأمثال القرآن وحجج القرآن وبدائع القرآن ورسم القرآن وما أشبهها مما يروعك تصوره بله الاطلاع عليه ومما يملأ خزائن كاملة من أعظم المكتبات في العالم. ثم لا يزال المؤلفون إلى عصرنا هذا يزيدون وعلوم القرآن ومؤلفاته تنمى وتزدهر وتزيد بينما الزمان يفنى والعالم يبيد أليس إعجازا آخر للقرآن؟ يريك إلى أي حد بلغ علماء الإسلام في خدمة التنزيل. ويريك أنه كتاب لا تفنى عجائبه ولا تنقضي معارفه ولن يستطيع أن يحيط بأسراره إلا صاحبه ومنزله! إذا أضفت إلى علوم القرآن ما جاء في الحديث النبوي الشريف وعلومه وكتبه وبحوثه باعتبارها من علوم القرآن نظرا إلى أن الحديث شارح للقرآن يبين مبهماته ويفصل مجملاته ويخصص عامه كما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أقول: إذا أضفت الحديث النبوي وعلومه إلى علوم القرآن تراءى لك بحر متلاطم الأمواج. فإذا زدت عليها سائر العلوم الدينية والعربية باعتبارها خادمة للقرآن أو مستمدة منه رأيت نفسك أمام مؤلفات كالجبال وموسوعات تكاثر الرمال ولا يسعك حينئذ إلا أن تردد قول الله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} . وتزداد عجبا اذ علمت أن طريقة أولئك المؤلفين في تأليفهم كانت طريقة استيعاب واستقصاء يعمد أصحابها أن يحيطوا بجزئيات القرآن من الناحية التي كتبوا فيها بقدر طاقتهم البشرية. فمن يكتب في غريب القرآن مثلا يذكر كل مفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 من مفردات القرآن التي فيها غرابة وإبهام ومن يكتب في مجاز القرآن يقتفي أثر كل لفظ فيه مجاز أيا كان نوعه في القرآن ومن يكتب في أمثال القرآن يتحدث عن كل مثل ضربه الله في القرآن وهكذا سائر أنواع علوم القرآن. ولا ريب أن تلك المجهودات الجبارة لا يتهيأ لإنسان أن يحيط بها ولو أفنى عمره واستنفد وسعه. لهذا اشرأبت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علما جديدا يكون كالفهرس لها والدليل عليها والمتحدث عنها. فكان هذا العلم هو ما نسميه علوم القرآن بالمعنى المدون. ولا نعلم أن أحدا قبل المائة الرابعة للهجرة ألف أو حاول أن يؤلف في علوم القرآن بالمعنى المدون لأن الدواعي لم تكن موفورة لديهم نحو هذا النوع من التأليف. وإن كنا نعلم أنها كانت مجموعة في صدور المبرزين من العلماء على الرغم من أنهم لم يدونوها في كتاب ولم يفردوها باسم. أجل: كانت علوم القرآن مجموعة في صدور المبرزين من العلماء. فنحن نقرأ في تاريخ الشافعي رضي الله عنه أنه في محنته التي اتهم فيها بأنه رئيس حزب العلويين باليمن وسيق بسبب هذه التهمة إلى الرشيد مكبلا بالحديد في بغداد سأله الرشيد حين لمح علمه وفضله فقال: كيف علمك يا شافعي بكتاب الله عز وجل فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به. فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله تعالى قد أنزل كتبا كثيرة. قال الرشيد: قد أحسنت لكن إنما سألت عن كتاب الله المنزل على ابن عمي محمد صلى الله عليه وسلم. فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه أو عن تقديمه وتأخيره أو عن ناسخه ومنسوخه أو عن؟؟ أو عن وصار يسرد عليه من علوم القرآن ويجيب على كل سؤال بما أدهش الرشيد والحاضرين. فأنت ترى من جواب الشافعي هذا ومن فلجه بالصواب في هذا الموقف الرهيب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ما يدلك على أن قلوب أكابر العلماء كانت أناجيل لعلوم القرآن من قبل أن تجمع في كتاب أو تدون في علم. وقد نوه جلال الدين البلقيني في خطبة كتابه بكلمة الشافعي التي ذكرناها إذ قال: قد اشتهر عن الإمام الشافعي رضي الله عنه مخاطبة لبعض خلفاء بني العباس فيها ذكر بعض أنواع علوم القرآن يحصل منها لمقصدنا الاقتباس. ونحن لا نستبعد على الشافعي هذا فقد كان آية من آيات الله في علمه وذكائه وفي ابتكاره وتجديده وفي قوة حجته وتوفيقه. حتى إنه وضع كتابه الحجة في العراق يستدرك به على مذاهب بعض أهل الرأي وألف في مصر كتبا يستدرك بها على مذاهب بعض أهل الحديث. ثم وضع دستورا للاجتهاد والاستنباط لم يتسن لأحد قبله إذ كان أول من صنف في أصول الفقه وهو من علوم القرآن كما علمت. قال ابن خلدون في مقدمته كان أول من كتب فيه أي علم أصول الفقه الشافعي رضي الله عنه أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها على الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس اهـ. وقال الزركشي في كتابه البحر المحيط في أصول الفقه الشافعي أول من صنف في أصول الفقه صنف فيه كتابه الرسالة وكتاب أحكام القرآن واختلاف الحديث وإبطال الاستحسان وكتاب جماع العلم وكتاب القياس الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول رسالتهم اهـ رضي الله عنه وعن سائر الأئمة المجتهدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أول عهد لظهور هذا الاصطلاح ولقد كان المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن أن أول عهد ظهر فيه هذا الاصطلاح أي اصطلاح علوم القرآن هو القرن السابع. لكني ظفرت في دار الكتب المصرية بكتاب لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بالحوفي المتوفى سنة 330 هـ اسمه البرهان في علوم القرآن. وهو يقع في ثلاثين مجلدا والموجود منه الآن خمسة عشر مجلدا غير مرتبة ولا متعاقبة من نسخة مخطوطة. وإذن نستطيع أن نتقدم بتاريخ هذا الفن نحو قرنين من الزمان أي إلى بداية القرن الخامس بدلا من القرن السابع. ولقد كنت مشغوفا أن أقرأ مقدمة كتابه هذا لآخذ اعترافا صريحا منه بمحاولته إنشاء هذا العلم الوليد. ولكن ماذا أصنع والجزء الأول مفقود غير أن اسم الكتاب يدلني على هذه المحاولة. وكذلك استعرضت بعض الأجزاء الموجودة فرأيته يعرض الآية الكريمة بترتيب المصحف ثم يتكلم عليها من علوم القرآن خاصا كل نوع منها بعنوان فيسوق النظم الكريم تحت عنوان: القول في قوله عز وجل. وبعد أن يفرغ منه يضع هذا العنوان: القول في الإعراب ويتحدث عنها من الناحية النحوية واللغوية: ثم يتبع ذلك بهذا العنوان القول في المعنى والتفسير ويشرح الآية بالمأثور والمعقول. ثم ينتقل من الشرح إلى العنوان الآتي: القول في الوقف والتمام مبينا تحته ما يجوز من الوقف وما لا يجوز. وقد يفرد القراءات بعنوان مستقل فيقول القول في القراءة. وقد يتكلم في الأحكام الشرعية التي تؤخذ من الآية عند عرضها ففي آية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} من سورة البقرة يذكر أوقات الصلاة وأدلتها وأنصبة الزكاة ومقاديرها. ويتكلم على أسباب النزول وعلى النسخ وما إلى ذلك عند المناسبة. فأنت ترى أن هذا الكتاب أتى على علوم القرآن ولكن لا على طريقة ضم النظائر والأشباه بعضها إلى بعض تحت عنوان واحد لنوع واحد بل على طريقة النشر والتوزيع تبعا لانتشار الألفاظ المتشاكلة في القرآن وتوزعها. حتى كأن هذا التأليف تفسير من التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع من علوم القرآن عند المناسبات. وأيا ما يكن هذا الكتاب فإنه مجهود عظيم ومحاولة جديرة بالتقدير في هذا الباب. جزى الله مؤلفه خير الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ثم جاء القرن السادس فألف فيه ابن الجوزي المتوفي سنة 597 هـ كتابين: أحدهما اسمه فنون الأفنان في علوم القرآن والثاني اسمه المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن. وكلاهما مخطوط بدار الكتب المصرية. وفي القرن السابع ألف علم الدين السخاوي المتوفي سنة 641 هـ كتابا سماه جمال القراء وألف أبو شامة المتوفي سنة 665 هـ كتابا أسماه المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز وهما كما قال السيوطي عبارة عن طائفة يسيرة ونبذ قصيرة بالنسبة للمؤلفات التي ألفت بعد ذلك في هذا النوع. ثم أهل القرن الثامن فكتب فيه بدر الدين الزركشي المتوفي سنة 794 هـ كتابا سماه البرهان في علوم القرآن وتوجد منه نسخة مخطوطة بالخزانة التيمورية في دار الكتب المصرية تقع في مجلدين ناقصين. ثم طلع القرن التاسع على هذا العلم باليمن والبركة فدرج فيه وترعرع إذ ألف محمد بن سليمان الكافيجي المتوفي سنة 873 هـ كتابا يقول السيوطي عنه: إنه لم يسبق إليه وقد اشتمل على بابين: الأول في ذكر معنى التفسير والتأويل والقرآن والسورة والآية. أما الثاني ففي شروط القول في القرآن بالرأي. وبعدهما خاتمة في آداب العالم والمتعلم غير أنه قال أخيرا ولكن ذلك لم يشف لي غليلا ولم يهدني إلى المقصود سبيلا اهـ. وفي هذا القرن أيضا وضع جلال الدين البلقيني كتابا سماه مواقع العلوم من مواقع النجوم. وقد رتبه على ستة مباحث الأول في مواطن النزول وأوقاته ووقائعه وفيه اثنا عشر نوعا1. الثاني في سند القرآن وهو ستة أنواع2. الثالث في أدائه وهو ستة   1 المكي، المدني، السفري، الحضري، الليلي، النهاري، الصيفي، الشتائي، الفراشي، أسباب النزول، أول ما نزل، آخر ما نزل. 2 المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبي صلى الله عليه وسلم، الرواة، الحفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أنواع أيضا1. الرابع في ألفاظه وهو سبعة أنواع2. الخامس في معانيه المتعلقة بأحكامه وهو أربعة عشرة نوعا3. السادس في معانيه المتعلقة بألفاظه وهو خمسة أنواع4. وبذلك يكمل الكتاب كله خمسين نوعا غير ما فيه من أنواع الأسماء والكنى والألقاب والمبهمات. وهي لا تدخل تحت حصر. وفي هذا القرن التاسع أيضا ألف السيوطي كتابا سماه التحبير في علوم التفسير ضمنه ما ذكره البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها وأضاف إليه فوائد سمحت قريحته بنقلها. وقد أوفى هذا الكتاب على الاثنين بعد المائة من الأنواع. وفرغ الإمام من تأليف تحبيره هذا سنة 872 هـ غير أن نفسه الكبيرة لم تقنع بهذا المجهود العظيم بل طمح إلى التبحر والتوسع والترتيب فوضع كتابه الثاني كتاب الإتقان في علوم القرآن وهو عمدة الباحثين والكاتبين في هذا الفن. ذكر فيه ثمانين نوعا من أنواع علوم القرآن على سبيل الإجمال والإدماج ثم قال بعد أن سردها نوعا نوعا ولو نوعت باعتبار ما أدمجته فيها لزادت على الثلاثمائة اهـ. وتوفي السيوطي رحمه الله سنة 911 هـ في مفتتح القرن العاشر وكأن نهايته كانت نهاية لنهضة التأليف في علوم القرآن عليه سحائب الرحمة والرضوان فلم نر من سار في هذا المضمار مثله بعده كما لم نر من بزه فيه قبله.   1 الوقف، الابتداء، الإمالة، المد، تخفيف الهمزة، الإدغام. 2 الغريب، المعرب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، التشبيه. 3 العام الباقي على عمومه، العام المخصوص، العام الذي أريد به الخصوص، ما خص فيه الكتاب السنة، ما خصت فيه السنة الكتاب المجمل، المبين، المؤول، المفهوم، المطلق، المقيد، الناسخ، المنسوخ، نوع من الناسخ والمنسوخ وهو ما عمل به مدة معينة والعامل به واحد من المكلفين. 4 الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب، القصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 علوم القرآن في القرن الأخير بيد أنه ظهرت في أيامنا بوادر استئناف لحركة النشاط والتأليف في هذا العلم. إذ ألف العلامة المرحوم الشيخ طاهر الجزائري كتابا جليلا سماه التبيان في علوم القرآن يقع في قريب من ثلاثمائة صفحة. وفرغ من تأليفه سنة 1335 هـ. وألف العلامة المرحوم الشيخ محمود أبو دقيقة مذكرة قيمة لطلاب تخصص الدعوة والإرشاد بكلية أصول الدين. وقفاه العلامة الشيخ محمد علي سلامة فوضع كتابا حافلا لطلاب تخصص الدعوة والإرشاد كذلك سماه منهج الفرقان في علوم القرآن. وتوجد مؤلفات في بعض مباحث علوم القرآن لكثير من أفاضل العلماء والأدباء نذكر من بينهم الأعلام المرحومين الشيخ محمد بخيت والشيخ محمد حسنين العدوي والشيخ محمد خلف الحسيني إذ كتبوا في نزول القرآن على سبعة أحرف وفي بعض مباحث أخرى والمرحوم السيد مصطفى صادق الرافعي إذ ألف في إعجاز القرآن كتابا جليلا طبعه المغفور له الملك فؤاد الأول على نفقته. ومنهم المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش إذ كتب محاضرات موضوعها أثر القرآن في تحرير العقل البشري وألقاها في نادي دار العلوم. والمرحوم الشيخ عبد العزيز الخولي إذ وضع كتابه القرآن الكريم وصفه أثره هدايته وإعجازه. والمرحوم الشيخ طنطاوي جوهري إذ وضع رسالة سماها القرآن والعلوم العصرية. ثم انبرى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر للقول بجواز ترجمة القرآن وكتب في ذلك رسالة عظيمة الشأن وأيده آخرون وتصدى العلامة الكبير الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام بتركيا سابقا للرد على ذلك في كتاب دقيق سماه مسألة ترجمة القرآن وظاهره آخرون. وقد اطلعت أخيرا على صدر كتاب اسمه النبأ العظيم عن القرآن الكريم, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 والطريقة المثلى في دراسته فراعني دقة بحثه وتفكيره وراقني رقة أسلوبه وتعبيره ووددت لو تم هذا الكتاب وهو لصديقي العلامة الشيخ محمد عبد الله دراز مبعوث الأزهر إلى فرنسا الآن رده الله سالما غانما وأمتع به الإسلام والمسلمين آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 خلاصة ويمكنك أن تستخلص مما سبق أن علوم القرآن كفن مدون استهلت صارخة على يد الحوفي في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس ثم تربت في حجر ابن الجوزي والسخاوي وأبي شامة في القرنين السادس والسابع. ثم ترعرعت في القرن الثامن برعاية الزركشي. ثم بلغت أشدها واستوت في القرن التاسع بعناية الكافيجي وجلال الدين البلقيني. ثم اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج في نهاية القرن التاسع وبداية العاشر بهمة فارس ذلك الميدان صاحب كتابي التحبير والإتقان في علوم القرآن للسيوطي عليه ألف رحمة من الله ورضوان. ثم وقف نموها بعد ذلك حتى هذا القرن الأخير. ثم بدأت تنتعش في هذه السنين من جديد وعسى أن تعود سيرتها الأولى {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} . كلمة لا بد منها وقبل أن ننتهي من هذا البحث نلفت نظرك إلى أن هذا العلم يسير على سنة غيره من العلوم بين جزر ومد وزيادة ونقص. على مقدار ما يستهدف له من مؤثرات خاصة. فلا بدع أن تجد في منهج دراستك اليوم مباحث جديدة ومواضع مبتكرة لم تنتظم قبل في سمط علوم القرآن ذلك لأن الأفكار متحركة ومتجددة ولأن الشبهات التي تحوم في رؤوس بعض الناس في هذا العصر والمطاعن التي يوجهها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أعداء الإسلام في هذا الجيل, قد تكون هي الأخرى جديدة ومبتكرة. ومن الحكمة أن نقاتل الناس بمثل سلاحهم وأن ندرس في علوم القرآن ما يحمي حمى القرآن الشريف من هذا العدوان الخبيث. أضف إلى ذلك أن العلوم تخبو بالإهمال والترك وتزكو بالدرس والبحث. سنة الله في خلقه {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المبحث الثالث: نزول القرآن معنى نزول القرآن ... المبحث الثالث: نزول القرآن هذا مبحث مهم في علوم القرآن بل هو أهم مباحثه جميعا لأن العلم بنزول القرآن أساس للإيمان بالقرآن وأنه كلام الله وأساس للتصديق بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام حق. ثم هو أصل لسائر المباحث الآتية بعد في علوم القرآن. فلا جرم أن يتصدرها جمعاء ليكون من تقريره وتحقيقه سبيل إلى تقريرها وتحقيقها. وإلا فكيف يقوم البناء على غير أساس ودعام؟. ولأجل الإحاطة بهذا المطلب العزيز نتكلم إن شاء الله على معنى نزول القرآن ثم على مرات هذا النزول ودليل كل نزول وكيفيته وحكمته ثم على الوحي وأدلته العقلية والعلمية مع دفع الشبهات الواردة في ذلك المقام. 1- معنى نزول القرآن جاء التعبير بمادة نزول القرآن وما تصرف منها في الكتاب والسنة ومن أمثلته قوله سبحانه في سورة الإسراء: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف". وهو حديث مشهور بل قيل فيه بالتواتر كما سيأتي. لكن النزول في استعمال اللغة يطلق ويراد به الحلول في مكان والأوي به. ومنه قولهم نزل الأمير المدينة والمتعدي منه وهو الإنزال يكون معناه إحلال الغير في مكان وإيواءه به. ومنه قوله جل ذكره: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} ويطلق النزول إطلاقا آخر في اللغة على انحدار الشيء من علو إلى سفل نحو نزل فلان من الجبل. والمتعدي منه يكون معناه تحريك الشيء من علو إلى سفل ومنه قوله سبحانه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} . ولا ريب أن كلا هذين المعنيين لا يليق إرادته هنا في إنزال الله للقرآن ولا في نزول القرآن من الله لما يلزم هذين المعنيين من المكانية والجسمية. والقرآن ليس جسما حتى يحل في مكان أو ينحدر من علو إلى سفل سواء أردنا به الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الغيبية الأزلية أم أردنا به نفس تلك الكلمات أم أردنا به اللفظ المعجز لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلقها وهو الكلمات الغيبية عن الحوادث وأعراض الحوادث ولما تعرفه من أن الألفاظ أعراض سيالة تنقضي بمجرد النطق بها كما يقولون. إذن فنحن بحاجة إلى التجوز والمجاز بابه واسع وميدانه فسيح. وليكن المعنى المجازي لإنزال القرآن هو الإعلام في جميع إطلاقاته. أما على أن المراد بالقرآن الصفة القديمة أو متعلقها فإنزاله: الإعلام به بواسطة ما يدل عليه من النقوش بالنسبة لإنزاله في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا وبواسطة ما يدل عليه من الألفاظ الحقيقية بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي اللزوم لأن إنزال شيء إلى شيء يستلزم إعلام من أنزل إليه ذلك الشيء به إن كان عاقلا ويستلزم إعلام من يطلع عليه من الخلق به مطلقا وإذن فالمجاز مرسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وأما على أن المراد بالقرآن اللفظ المعجز فمعنى إنزاله الإعلام به أيضا ولكن بوساطة إثباته هو أو إثبات داله فإثباته هو بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وإثبات داله بالنسبة إلى اللوح المحفوظ وبيت العزة والعلاقة اللزوم كذلك والمجاز مرسل كسابقه. ويمكن أن يكون هذا التجوز من قبيل الاستعارة التصريحية الأصلية بأن يشبه إعلام السيد لعبده بإنزال الشيء من علو إلى سفل بجامع أن في كل من طرفي التشبيه صدورا من جانب أعلى إلى جانب أسفل وإن كان العلو والسفل في وجه الشبه حسيا بالنسبة إلى المشبه به ومعنويا بالنسبة إلى المشبه. وأنت خبير بأن النزول مطاوع الإنزال فما يجري من التجوز في أحدهما يجري نظيره في الآخر. وقل مثل ذلك في التنزيل والتنزل. وكأن وجه اختيار التعبير بمادة الإنزال وما تصرف منها أو التقى معها هو التنويه بشرف ذلك الكتاب نظرا إلى ما تشير إليه هذه المادة من علو صاحب هذا الكتاب المنزل علوا كبيرا كما قال تعالى في فاتحة سورة الزخرف: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} . ثم إن تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب والأوفق بالمقام وذلك من وجوه ثلاثة: أحدها: أن تعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام ولا ريب أن القرآن كلام فتأويل إنزاله بالإعلام رجوع إلى ما هو معلوم من تعلقه ومفهوم من تحققه. ثانيها: أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم هو إعلام الخلق في العالمين العلوي والسفلي بما شاء الله دلالة البشر عليه من هذا الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ثالثها: أن تفسير الإنزال بالإعلام ينسجم مع القرآن بأي إطلاق من إطلاقاته وعلى أي تنزل من تنزلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 2- تنزلات القرآن شرف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة تنزلات: أ- التنزل الأول إلى اللوح المحفوظ. ودليله قول سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} . وكان هذا الوجود في اللوح بطريقة وفي وقت لا يعلمهما إلا الله تعالى ومن أطلعه على غيبه. وكان جملة لا مفرقا لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق ولا صارف عنه. ولأن أسرار تنجيم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لا يعقل تحققها في هذا التنزل. وحكمة هذا النزول ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه وإقامته سجلا جامعا لكل ما قضى الله وقدر وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين. فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله وعلمه وإرادته وحكمته وواسع سلطانه وقدرته. ولا ريب أن الإيمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي ويبعث الطمأنينة إلى نفسه والثقة بكل ما يظهره الله لخلقه من ألوان هدايته وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته وشؤونه في عباده كما يحمل الناس على السكون والرضا تحت سلطان القدر والقضاء ومن هنا تهون عليهم الحياة بضرائها وسرائها كما قال جل شأنه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ا. هـ من سورة الحديد. وللإيمان باللوح وبالكتابة فيه أثر صالح في استقامة المؤمن على الجادة وتفانيه في طاعة الله ومراضيه وبعده عن مساخطه ومعاصيه لاعتقاده أنها مسطورة عند الله في لوحه. مسجلة لديه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 كتابه. كما قال جل ذكره: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} ا. هـ من سورة القمر. ب - التنزل الثاني للقرآن كان هذا التنزل الثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا والدليل عليه قوله سبحانه في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} . وفي سورة القدر {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . وفي سورة البقرة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} . دلت هذه الآيات الثلاث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة توصف بأنها مباركة أخذا من آية الدخان وتسمى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر وهي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة. وإنما قلنا ذلك جمعا بين هذه النصوص في العمل بها ودفعا للتعارض فيما بينها. ومعلوم بالأدلة القاطعة كما يأتي أن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا لا في ليلة واحدة بل في مدى سنين عددا فتعين أن يكون هذا النزول الذي نوهت به هذه الآيات الثلاث نزولا آخر غير النزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا كما تدل الروايات الآتية: 1- أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم. 2- وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} . {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} . 3- وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض. 4- وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . وهذا أنزل في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرم وصفر وشهر ربيع. فقال ابن عباس إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام. قال أبو شامة: رسلا أي رفقا. وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها. يريد أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق. هذه أحاديث أربعة من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب وكلها صحيحة كما قال السيوطي وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس غير أن لها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما هو مقرر من أن قول الصحابي ما لا مجال للرأي فيه ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات حكمه حكم المرفوع. ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات فثبت الاحتجاج بها. وكان هذا النزول جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت لأنه المتبادر من نصوص الآيات الثلاث السابقة وللتنصيص على ذلك في الأحاديث التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 عرضناها عليك. بل ذكر السيوطي أن القرطبي نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. وهناك قول ثان بنزول القرآن إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين ينزل في كل ليلة قدر منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على النبي صلى الله عليه وسلم. وثمة قول ثالث: أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلى الله عليه وسلم. وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول جملة إلى بيت العزة في ليلة القدر. وذكروا قولا رابعا أيضا هو أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة. ولكن هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة بمعزل عن التحقيق وهي محجوجة بالأدلة التي سقناها بين يديك تأييدا للقول الأول. والحكمة في هذا النزول على ما ذكره السيوطي نقلا عن أبي شامة هي تفخيم أمره أي القرآن وأمر من نزل عليه بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم وبإنزاله مرتين مرة جملة ومرة مفرقا. بخلاف الكتب السابقة فقد كانت تنزل جملة مرة واحدة. وذكر بعضهم أن النزول إلى السماء الدنيا إلهابا لشوق النبي صلى الله عليه وسلم إليه على حد قول القائل: وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام أقول: وفي تعدد النزول وأماكنه مرة في اللوح وأخرى في بيت العزة وثالثة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم: في ذلك التعدد مبالغة في نفي الشك عن القرآن وزيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 للإيمان وباعث على الثقة فيه لأن الكلام إذا سجل في سجلات متعددة وصحت له وجودات كثيرة كان ذلك أنفى للريب عنه وأدعى إلى تسليم ثبوته وأدنى إلى وفرة الإيقان به مما لو سجل في سجل واحد أو كان له وجود واحد. ج - التنزل الثالث للقرآن هذا هو واسطة عقد التنزلات لأنه المرحلة الأخيرة التي منها شع النور على العالم ووصلت هداية الله إلى الخلق وكان هذا النزول بوساطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم. ودليله قول الله تعالى في سورة الشعراء مخاطبا لرسوله عليه الصلاة والسلام: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كيفية أخذ جبريل للقرآن وعمن أخذ هذا من أنباء الغيب. فلا يطمئن الإنسان إلى رأي فيه إلا إن ورد بدليل صحيح عن المعصوم وكل ما عثرنا عليه أقوال منثورة هنا وهناك نجمعها لك فيما يأتي مع إبداء رأينا في كل منها: أولها: قال الطيبي: لعل نزول القرآن على الملك أن يتلقفه تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فيلقيه إليه اهـ. وأنت خبير بأن كلمة لعل هنا لا تشفي غليلا ولا تهدينا إلى المقصود سبيلا ولا نستطيع أن نأخذ منها دليلا. ثانيها: حكى الماوردي أن الحفظة نجمت القرآن على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة اهـ. ومعنى هذا أن جبريل أخذ القرآن عن الحفظة نجوما عشرين. ولكنا لا نعرف لصاحب هذا الرأي دليلا ولا شبه دليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثالثها: قال البيهقي في معنى قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} يريد والله أعلم إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع اهـ. ومعنى هذا أن جبريل أخذ القرآن عن الله سماعا. وذلك فيما أرى أمثل الأقوال من ناحية أخذ جبريل عن الله لا من ناحية تأويل النزول في الآية بابتداء النزول. ويؤيده ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدا فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله بوحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة فكلما مر بسماء سأله أهلها: ما قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمر". وأيا ما تكن هذه الأقوال فإن هذا الموضوع لا يتعلق به كبير غرض ما دمنا نقطع بأن مرجع التنزيل هو الله تعالى وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ما الذي نزل به جبريل؟ ولتعلم في هذا المقام أن الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن باعتبار أنه الألفاظ الحقيقية المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده لا دخل لجبريل ولا لمحمد في إنشائها وترتيبها بل الذي رتبها أولا هو الله سبحانه وتعالى ولذلك تنسب له دون سواه وإن نطق بها جبريل ومحمد وملايين الخلق من بعد جبريل ومحمد من لدن نزول القرآن إلى يوم الساعة. وذلك كما ينسب الكلام البشري إلى من أنشأه ورتبه في نفسه أولا دون غيره ولو نطق به آلاف الخلائق في آلاف الأيام والسنين إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين. فالله جلت حكمته هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتفهم كما نبرز نحن كلامنا اللفظي على وفق كلامنا النفسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 لأجل التفهيم والتفهم ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه في نفسه أولا دون من اقتصر على حكايته وقراءته ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريل أو محمد ولا لغير جبريل ومحمد كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص ورتبه في نفسه أولا إلى شخص آخر حكاه وقرأه حين اطلع عليه أو سمعه. وقد أسف بعض الناس فزعم أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن والرسول يعبر عنها بلغة العرب. وزعم آخرون أن اللفظ لجبريل وأن الله كان يوحي إليه المعنى فقط وكلاهما قول باطل أثيم مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع ولا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به. وعقيدتي أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم. وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله. والحق أنه ليس لجبريل في هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإيحائه إليه وليس للرسول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه ثم حكايته وتبليغه ثم بيانه وتفسيره ثم تطبيقه وتنفيذه. نقرأ في القرآن نفسه أنه ليس من إنشاء جبريل ولا محمد نحو {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} . ونحو: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} . ونحو: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . ونحو: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ثم إن ما ذكرناه هو تحقيق ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وإن كان قد نزل عليه أيضا غير القرآن نقل السيوطي عن الجويني أنه قال: كلام الله المنزل قسمان: قسم قال الله لجبريل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه: إن الله يقول افعل كذا وكذا وأمر بكذا وكذا ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي وقال له ما قاله ربه. ولم تكن العبارة تلك العبارة كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال فإن قال الرسول: يقول لك الملك: لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند يتفرق وحثهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة. وقسم آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب فنزل به جبريل من الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول اقرأه على فلان فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا اهـ. قال السيوطي بعد ذلك: قلت: القرآن هو القسم الثاني والقسم الأول هو السنة كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبريل أداها بالمعنى. ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أدى القرآن باللفظ ولم يبح له أداؤه بالمعنى. والسر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين قسم يروونه بلفظه الموحى به وقسم يروونه بالمعنى. ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل اهـ. أقول: وهذا كلام نفيس بيد أنه لا دليل أمامنا على أن جبريل كان يتصرف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن. وما ذكره الجويني فهو احتمال عقلي لا يكفي في هذا الباب. ثم إن هذا التقسيم خلا من قسيم ثالث للكتاب والسنة وهو الحديث القدسي الذي قاله الرسول حاكيا عن الله تعالى فهو كلام الله تعالى أيضا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التي امتاز بها عن كل ما سواه. ولله تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزا وغير معجز لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف من إقامة حجة للرسول ولدين الحق بكلام الله المعجز ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز لأنه تصح روايته بالمعنى وقراءة الجنب وحمله له ومسه إياه إلى غير ذلك. وصفوة القول في هذا المقام أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقا وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور والحديث النبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول صلى الله عليه وسلم. بيد أن القرآن له خصائصه من الإعجاز والتعبد به ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ونحو ذلك وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من هذه الخصائص. والحكمة في هذا التفريق أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه وكان مظنة للتغيير والتبديل واختلاف الناس في أصل التشريع والتنزيل. أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها القرآن الكريم تخفيفا على الأمة ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مدة هذا النزول وابتدأ هذا الإنزال من مبعثه عليه الصلاة والسلام وانتهى بقرب انتهاء حياته الشريفة وتقدر هذه المدة بعشرين أو ثلاثة وعشرين أو خمسة وعشرين عاما تبعا للخلاف في مدة إقامته في مكة بعد البعثة أكانت عشر سنين أم ثلاث عشرة أم خمس عشرة سنة. أما مدة إقامته بالمدينة فعشر سنين اتفاقا. كذلك قال السيوطي. ولكن بعض محققي تاريخ التشريع الإسلامي يذكر أن مدة مقامه بمكة اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما من 17رمضان سنة 41 من مولده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الشريف إلى أول ربيع الأول سنة 54 منه. أما مدة إقامته في المدينة بعد الهجرة فهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام من أول ربيع الأول سنة 54 من مولده إلى تاسع ذي الحجة سنة 63 منه. ويوافق ذلك سنة عشر من الهجرة. وهذا التحقيق قريب من القول بأن مدة إقامته في مكة ثلاث عشرة سنة وفي المدينة عشر سنين وأن مدة الوحي بالقرآن ثلاثة وعشرون عاما. لكن هذا التحقيق لا يزال في حاجة إلى تحقيقات ثلاثة ذلك لأنه أهمل من حسابه باكورة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم عن طريق الرؤيا الصادقة ستة أشهر على حين أنها ثابتة في الصحيح. ثم جرى فيه على أن ابتداء نزول القرآن كان ليلة السابع عشر من رمضان وهي ليلة القدر على بعض الآراء غير أنه يخالف المشهور الذي يؤيده الصحيح ثم ذهب فيه مذهب القائلين بأن آخر ما نزل من القرآن هو آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وذلك في تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة وسترى في مبحث آخر ما نزل من القرآن أن هذا المذهب غير صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 دليل تنجيم هذا النزول والدليل على تفرق هذا النزول وتنجيمه قول الله تعالت حكمته في سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} وقوله في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} . روي أن الكفار من يهود ومشركين عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم نزول القرآن مفرقا واقترحوا عليه أن ينزل جملة فأنزل الله هاتين الآيتين ردا عليهم وهذا الرد يدل على أمرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أحدهما: أن القرآن نزل مفرقا على النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن الكتب السماوية من قبله نزلت جملة كما اشتهر ذلك بين جمهور العلماء حتى كاد يكون إجماعا. ووجه الدلالة على هذين الأمرين أن الله تعالى لم يكذبهم فيما ادعوا من نزول الكتب السماوية جملة بل أجابهم ببيان الحكمة في نزول القرآن مفرقا ولو كان نزول الكتب السماوية مفرقا كالقرآن لرد عليهم بالتكذيب وبإعلان أن التنجيم هو سنة الله فيما أنزل على الأنبياء من قبل كما رد عليهم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} . حين طعنوا على الرسول وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} ؟. اهـ من سورة الفرقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الحكم والأسرار في تنجيم القرآن الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه ... الحكم والأسرار في تنجيم القرآن لتنجيم نزول القرآن الكريم أسرار عدة وحكم كثيرة نستطيع أن نجملها في أربع حكم رئيسية:- الحكمة الأولى تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه وذلك من وجوه خمسة: الوجه الأول: أن في تجدد الوحي وتكرار نزول الملك به من جانب الحق إلى رسوله صلى الله عليه وسلم سرورا يملأ قلب الرسول وغبطة تشرح صدره وكلاهما يتجدد عليه بسبب ما يشعر به من هذه العناية الإلهية وتعهد مولاه إياه في كل نوبة من نوبات هذا النزول. الوجه الثاني: أن في التنجيم تيسيرا عليه من الله في حفظه وفهمه ومعرفة أحكامه وحكمه وذلك مطمئن له على وعي ما يوحى إليه حفظا وفهما وحكامأ كما أن فيه تقوية لنفسه الشريفة على ضبط ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الوجه الثالث: أن في كل نوبة من نوبات هذا النزول المنجم معجزة جديدة غالبا حيث تحداهم كل مرة أن يأتوا بمثل نوبة من نوب التنزيل فظهر عجزهم عن المعارضة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. ولا شك أن المعجزة تشد أزره وترهف عزمه باعتبارها مؤيدة له ولحزبه. خاذلة لأعدائه ولخصمه. الوجه الرابع: أن في تأييد حقه ودحض باطل عدوه المرة بعد الأخرى تكرارا للذة فوزه وفلجه بالحق والصواب وشهوده لضحايا الباطل في كل مهبط للوحي والكتاب. وإن كل ذلك إلا مشجع للنفس مقو للقلب والفؤاد والفرق بين هذا الوجه والذي قبله هو الفرق بين الشيء وأثره أو الملزوم ولازمه فالمعجزة من حيث إنها قوة للرسول ومؤيدة له مطمئنة له ومثبتة لفؤاده بقطع النظر عن أثر انتصاره وهزيمة خصمه بها ثم إن هذا الأثر العظيم وحده مطمئن لقلبه الكريم ومثبت لفؤاده أيضا, أشبه شيء بالسلاح وجوده في يد الإنسان مطمئن له ولو لم يستعمله في خصمه ثم انتصار الإنسان وهزيمة خصمه به إذا أعمل فيه مطمئن للفؤاد مريح للقلب مرة أخرى. الوجه الخامس: تعهد الله إياه عند اشتداد الخصام بينه وبين أعدائه بما يهون عليه هذه الشدائد ولا ريب أن تلك الشدائد كانت تحدث في أوقات متعددة فلا جرم كانت التسلية تحدث هي الأخرى في مرات متكافئة. فكلما أحرجه خصمه سلاه ربه. وتجيء تلك التسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين التي لها في القرآن عرض طويل وفيها يقول الله: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} من سورة هود. وتارة تجيء التسلية عن طريق وعد الله لرسوله بالنصر والتأييد والحفظ كما في قوله سبحانه في سورة الطور: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقوله في سورة المائدة: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ونحو ما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 سورتي الضحى وألم نشرح من الوعود الكريمة والعطايا العظيمة. وطورا تأتيه التسلية عن طريق إبعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى في سورة القمر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وقوله سبحانه في سورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} . وطورا آخر ترد التسلية في صورة الأمر الصريح بالصبر نحو قوله جل شأنه في سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أو في صورة النهي عن التفجع عليهم والحزن منهم. نحو قول الله في سورة فاطر: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ونحو قوله سبحانه في خواتم سورة النحل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} . ومن موارد تسلية الله لرسوله أن يخوفه عواقب حزنه من كفر أعدائه نحو: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} في فاتحة سورة الشعراء. ومنها أن يؤيسه منهم ليستريح ويتسلى عنهم نحو: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} من سورة الأنعام. ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول الله في بيان الحكمة من تنجيم القرآن {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} من سورة الفرقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الحكمة الثانية التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا. وينضوي تحت هذا الإجمال أمور خمسة أيضا: أولها: تيسير حفظ القرآن على الأمة العربية وهي كما علمت كانت أمة أمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم وكانت مشتغلة بمصالحها المعاشية وبالدفاع عن دينها الجديد بالحديد والدم فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقا ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره. ثانيها: تسهيل فهمه عليهم كذلك مثل ما سبق في توجيه التيسير في حفظه. ثالثها: التمهيد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة وعباداتهم الفاسدة وعاداتهم المرذولة. وذلك بأن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا فكلما نجح الإسلام معهم في هدم باطل انتقل بهم إلى هدم آخر وهكذا يبدأ بالأهم ثم بالمهم حتى انتهى بهم آخر الأمر عن تلك الأرجاس كلها فطهرهم منها وهم لا يشعرون بعنت ولا حرج وفطمهم عنها دون أن يرتكسوا في سابق فتنة أو عادة. وكانت هذه سياسة رشيدة لا بد منها في تربية هذه الأمة المجيدة لا سيما أنها كانت أبية معاندة تتحمس لموروثاتها وتستميت في الدفاع عما تعتقده من شرفها وتتهور في سفك الدماء وشن الغارات لأتفه الأسباب. رابعها: التمهيد لكمال تحليهم بالعقائد الحقة والعبادات الصحيحة والأخلاق الفاضلة بمثل تلك السياسة الرشيدة السابقة. ولهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشرك والإباحة وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء من جراء ما فتح عيونهم عليه من أدلة التوحيد وبراهين البعث بعد الموت وحجج الحساب والمسؤولية والجزاء. ثم انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفرضية الصلاة قبل الهجرة وثنى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة وختم بالحج في السنة السادسة منها. وكذلك كان الشأن في العادات زجرهم عن الكبائر وشدد النكير عليهم فيها. ثم نهاهم عن الصغائر في شيء من الرفق وتدرج في تحريم ما كان مستأصلا فيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 كالخمر تدرجا حكيما حقق الغاية وأنقذهم من كابوسها في النهاية. وكان الإسلام في انتهاج هذه الخطة المثلى أبعد نظرا, وأهدى سبيلا وأنجح تشريعا وأنجع سياسة من تلكم الأمم المتمدنية المتحضرة التي أفلست في تحريم الخمر على شعوبها أفظع إفلاس وفشلت أمر فشل. وما عهد أمريكا في مهزلة تحريمها الخمر ببعيد. أليس ذلك إعجازا للإسلام في سياسة الشعوب وتهذيب الجماعات وتربية الأمم بلى والتاريخ على ذلك من الشاهدين. خامسها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين من قصص الأنبياء والمرسلين وما كان لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين وما وعد الله به عباده الصالحين من النصر والأجر والتأييد والتمكين. والآيات في ذلك كثيرة حسبك منها قول العلي الكبير في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثانية بما انضوى تحتها في قول الله تعالى في سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} كما يمكن أن يفسر بها قوله تعالى في سورة الفرقان في بيان أسرار التنجيم {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} باعتبار أن التنوين للتعظيم إشارة إلى المعاني المنطوية تحت هذا الترتيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الحكمة الثالثة: مسايرة الحودث والطواىء في تجددها وتفرقها ... الحكمة الثالثة مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها فكلما جد منهم جديد نزل من القرآن ما يناسبه وفصل الله لهم من أحكامه ما يوافقه. وتنتظم هذه الحكمة أمورا أربعة: أولها: إجابة السائلين على أسئلتهم عندما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. سواء أكانت تلك الأسئلة لغرض التثبت من رسالته. كما قال الله تعالى في جواب سؤال أعدائه إياه. {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} في سورة الإسراء وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} الخ الآيات في هذا الموضوع من سورة الكهف. أم كانت لغرض التنور ومعرفة حكم الله كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . ولا ريب أن تلك الأسئلة كانت ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة وعلى نوبات متعددة حاكية أنهم سألوا ولا يزالون يسألون. فلا بدع أن ينزل الجواب عليها كذلك في أوقاتها المختلفة ونوباتها المتعددة. ثانيها: مجاراة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها ووقوعها. ومعلوم أن تلك الأقضية والوقائع لم تقع جملة بل وقعت تفصيلا وتدريجا فلا مناص إذن من فصل الله فيها بنزول القرآن على طبقها تفصيلا وتدريجا. والأمثلة على هذا كثيرة منها قوله سبحانه في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} إلى قوله سبحانه: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهن عشر آيات نزلن في حادث من أروع الحوادث: هو اتهام السيدة الجليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك. وفيها دروس اجتماعية لا تزال تقرأ على الناس كما لا تزال تسجل براءة الحصان الطاهرة من فوق سبع سموات. ومن الأمثلة قوله تعالى في مفتتح سورة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وهن ثلاث آيات نزلن عندما رفعت خولة بنت ثعلبة شكواها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن زوجها أوس بن الصامت ظاهر منها وجادلت الرسول بأن معها صبية صغارا إن ضمتهم إلى زوجها ضاعوا وإن ضمتهم إليها جاعوا. ثالثها: لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم التي يخطئون فيها وإرشادهم إلى شاكلة الصواب في الوقت نفسه. ولا ريب أن تلك الأغلاط كانت في أزمان متفرقة فمن الحكمة أن يكون القرآن النازل في إصلاحها متكافئا معها في زمانها. اقرأ إن شئت قوله سبحانه في سورة آل عمران: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إلى آيات كثيرة بعدها وكلها نزلت في غزوة أحد إرشادا للمسلمين إلى مواضع أخطائهم في هذا الموقف الرهيب والمأزق العصيب. وكذلك اقرأ قوله سبحانه في سورة التوبة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهي آيات تردع المؤمنين عن رذيلة الإعجاب والاغترار في يوم من أيام الله وتلفت نظرهم إلى مقدار تدارك الله لهم في شدتهم والى وجوب أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى ربهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 رابعها: كشف حال أعداء الله المنافقين وهتك أستارهم وسرائرهم للنبي والمسلمين كيما يأخذوا منهم حذرهم فيأمنوا شرهم. وحتى يتوب من شاء منهم. اقرأ إن شئت قوله تعالى في سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهن ثلاث عشرة آية فضحت المنافقين كما فضحتهم سورة التوبة في كثير من الآيات وكما كشف القرآن أستارهم في كثير من المناسبات. ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثالثة بمضامينها الأربعة في قول الله تعالى في تلك الآية من سورة الفرقان: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الحكمة الرابعة الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده وأنه لا يمكن أن يكون كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه. وبيان ذلك. أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره فإذا هو محكم السرد دقيق السبك متين الأسلوب قوي الاتصال آخذ بعضه برقاب بعض في سورة وآياته وجمله يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل كأنه حلقة مفرغة أو كأنه سمط وحيد وعقد فريد يأخذ بالأبصار نظمت حروفه وكلماته ونسقت جمله وآياته وجاء آخره مساوقا لأوله وبدا أوله مواتيا لآخره. وهنا نتساءل: كيف اتسق للقرآن هذا التأليف المعجز وكيف استقام له هذا التناسق المدهش؟ على حين أنه لم يتنزل جملة واحدة بل تنزل آحادا مفرقة تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما. الجواب: أننا نلمح هنا سرا جديدا من أسرار الإعجاز ونشهد سمة فذة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 سمات الربوبية ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن وأنه كلام الواحد الديان {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . وإلا فحدثني بربك كيف تستطيع أنت؟ أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط متين النسج والسرد متآلف البدايات والنهايات مع خضوعه في التأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر وهي وقائع الزمن وأحداثه التي يجيء كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها ومتحدثا عنها: سببا بعد سبب وداعية إثر داعية مع اختلاف ما بين هذه الدواعي وتغاير ما بين تلك الأسباب ومع تراخي زمان هذا التأليف وتطاول آماد هذه النجوم إلى أكثر من عشرين عاما. لا ريب أن هذا الانفصال الزماني وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام. أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا نزل مفرقا منجما ولكنه تم مترابطا محكما. وتفرقت نجومه تفرق الأسباب ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب. ولم يتكامل نزوله إلا بعد عشرين عاما ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما. أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر ومالك الأسباب والمسببات ومدبر الخلق والكائنات وقيوم الأرض والسموات العليم بما كان وما سيكون الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شؤون؟؟. لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال: "ضعوها في مكان كذا من سورة كذا". وهو بشر لا يدري طبعا ما ستجيء به الأيام ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ولا يدرك ما سيحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل من الله فيها. وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف ويلتئم ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت بل يعجز الخلق طرا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . وإنه ليستبين لك سر هذا الإعجاز إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتساق والانسجام لن يمكن أن يأتي على هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط لا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام غيره من البلغاء وغير البلغاء. خذ مثلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه لقد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة لدواع متباينة في أزمان متطاولة فهل في مكنتك ومكنة البشر معك أن ينظموا من هذا السرد الشتيت وحدة كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه؟؟. ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ومن حاول ذلك فإنما يحاول العبث ويخرج للناس بثوب مرقع وكلام ملفق ينقصه الترابط والانسجام وتعوزه الوحدة والاسترسال وتمجه الأسماع والأفهام. إذن فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجما بأنه كلام الله وحده. وتلك حكمة جليلة الشأن تدل الخلق على الحق في مصدر القرآن: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه مدخل ... 3- المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه كل ما قدمناه إليك في نزول القرآن لا يسلمه ولا يقبله إلا من آمن بالوحي وأساليبه والاتصالات الروحية بالملأ الأعلى واستمداد الإنسان لمعارفه عن الله تعالى بوساطة الملك على غير الطريقة المعتادة بين البشر. ولكن العقلية العصرية أصابها مس من المادية والإلحاد والإباحة فأصبح كثير من المتعلمين تعليما مدرسيا ناقصا لا يهضمون هذه الحقائق العليا ولا يستسيغون فهمها بل يلقون حبالا وعصيا في سبيل المؤمنين بها ولا شبهة لهم فيما ذهبوا إليه إلا شكوك تلقفوها من هنا وهناك يروجونها باسم العقل مرة وباسم العلم مرة أخرى. لهذا نرى لزاما علينا أن نقف هنا بجانب الوحي وقفة نرفع فيها النقاب عن حقيقته وأنواعه وكيفياته ثم نتبع ذلك بالأدلة العلمية على الوحي وإمكانه ثم نردفها بالأدلة العقلية على تحققه ووقوعه. ثم نختتم هذا المبحث بعلاج الشبهات التي تعترضهم ويعترضون بها في هذا الموقف الجلل. والموضوع الخطير. تلك نقاط أربع إذا وفقنا في بحثها قطعنا الطريق على عصابات مجرمة اتخذت مبحث الوحي أداة للفتنة وستارا يقضون من ورائه وطرا للغواية ومأربا للإباحة وسبيلا إلى هدم الأديان وضلال الإنسانية والإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ا- حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته أما الوحي فمعناه في لسان الشرع أن يعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ولكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ويكون على أنواع شتى: منه ما يكون مكالمة بين العبد وربه كما كلم الله موسى تكليما. ومنه ما يكون إلهاما يقذفه الله في قلب مصطفاه على وجه من العلم الضروري لا يستطيع له دفعا ولا يجد في شكا. ومنه ما يكون مناما صادقا يجيء في تحققه ووقوعه كما يجيء فلق الصبح في تبلجه وسطوعه. ومنه ما يكون بوساطة أمين الوحي جبريل عليه السلام وهو ملك كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين. وذلك النوع هو أشهر الأنواع وأكثرها. ووحي القرآن كله من هذا القبيل وهو المصطلح عليه بالوحي الجلي. قال الله تعالى في سورة الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . ثم إن ملك الوحي يهبط هو الآخر على أساليب شتى: فتارة يظهر للرسول في صورته الحقيقية الملكية. وتارة يظهر في صورة إنسان يراه الحاضرون ويستمعون إليه. وتارة يهبط على الرسول خفية فلا يرى ولكن يظهر أثر التغير والانفعال على صاحب الرسالة فيغط غطيط النائم ويغيب غيبة كأنها غشية أو إغماء وما هي في شيء من الغشية والإغماء إن هي إلا استغراق في لقاء الملك الروحاني وانخلاع عن حالته البشرية العادية فيؤثر ذلك على الجسم فيغط ويثقل ثقلا شديدا قد يتصبب منه الجبين عرقا في اليوم الشديد البرد. وقد يكون وقع الوحي على الرسول كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه وذلك أشد أنواعه. وربما سمع الحاضرون صوتا عند وجه الرسول كأنه دوي النحل لكنهم لا يفقهون كلاما ولا يفقهون حديثا. أما هو صلوات الله وسلامه عليه فإنه يسمع ويعي ما يوحى إليه ويعلم علما ضروريا أن هذا هو وحي الله دون لبس ولا خفاء ومن غير شك ولا ارتياب فإذا انجلى عنه الوحي وجد ما أوحي إليه حاضرا في ذاكرته منتقشا في حافظته كأنما كتب في قلبه كتابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 والأدلة الشرعية على ما ذكرنا كثيرة في الكتاب والسنة منها ما قصصنا عليك في تنزلات القرآن ومنها قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . ومنها الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ب - الوحي من ناحية العلم اعلم أن أعداء الوحي ومنكريه لا يؤمنون بالشرع وأدلة الشرع. إنما يؤمنون بالعقل على الطريقة التي يستسيغونها وبالعلم الذي تواضعوا عليه في اصطلاحهم الحديث وهو جملة المعارف اليقينية التي أنتجها دستور البحث الجديد في الوجود وكائناته من جعل الشك أساسا للبحث والاستناد إلى القاطع الذي يؤيده الحس دون سواه فهم يقدمون الشك ويمعنون فيه ثم لا يعترفون إلا بالحسيات ولا يحفلون بمجرد العقليات. ومن هنا سجنوا أنفسهم في سجن المادة ومكثوا حينا من الدهر ينكرون ما وراء المادة ويسرفون في الشكوك إلى أبعد الحدود ويستخفون بأمر الإلهيات والنبوات والوحي إلى مدى بعيد لم تصل إليه أظلم عهود الجاهلية لولا أن صدمهم العلم نفسه صدمة عنيفة غيرت رأيهم في إنكار ما وراء المادة كما يأتي إن شاء الله. وإنما نبدأ هنا بأدلة الوحي العلمية لأنها في الواقع أدلة لإمكان الوحي وتقريبه إلى العقول. وإمكان الوحي هو الخطوة الأولى في الموضوع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وهو ملحوظ في المقدمة الأساسية من مقدمات الدليل العقلي الآتي فلا غرو أن يكون لتلك الأدلة العلمية مكان الصدارة والتقديم. الدليل الأول: التنويم الصناعي أو التنويم المغناطيسي وهو من المقررات العلمية الثابتة. كشفه الدكتور مسمر الألماني في القرن الثامن عشر وجاهد هو وأتباعه مدى قرن كامل من الزمان في سبيل إثباته وحمل العلماء على الاعتراف به وقد نجحوا في ذلك فاعترف العلماء به علميا بعد أن اختبروا به الآلاف المؤلفة من الخلق واطمأنوا إلى تجاربه. وأخيرا أثبتوا بوساطته ما يأتي: 1- أن للإنسان عقلا باطنا أرقى من عقله المعتاد كثيرا. 2- أنه وهو في حال التنويم يرى ويسمع من بعد شاسع ويقرأ من وراء حجب ويخبر عما سيحدث مما لا يوجد في عالم الحس أقل علامة لحدوثه. 3- أن للتنويم درجات بعضها فوق بعض يزداد العقل الباطن سموا بتنقله فيها. 4- أنه قد يصل إلى درجة تخرج فيها روح الوسيط من جسده وتمثل إلى جانبه غير مرئية بينما يكون الجسم في حالة تشبه الموت لولا علاقة خفية بين الروح والجسم. 5- أثبتوا من وراء ذلك أن هناك روحا. 6- أن الروح مستقلة عن الجسم كل الاستقلال. 7- أن الروح لا تنحل بانحلاله. 8- أنها تتصل بالأرواح التي سبقتها إذا تجردت عن المادة إلى غير ذلك مما لا نسلم جميع تفاصيله تقليدا وإن كنا نسلم هذا العلم وتجاربه. ومقرراته في الجملة لثبوت الدليل بها في الجملة أيضا بواسطة التجارب العديدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 والمشاهدات الكثيرة. وله في الغرب أنصار من علماء وطلاب وله دور وكتب وله مستشفيات يؤمها الناس للتداوي به. وليس من موضوعنا أن نتوسع لك في هذا العالم وتاريخه وتجاربه وفوائده ولكنا نريد أن نتقدم إليك بفكرة مجملة عنه تريك إلى أي حد أظهر الله في هذا العصر آيات باهرات على أيدي الطبيعيين الذين ينكرون ما وراء المادة ويسرفون في الإنكار فانقلبوا بنعمة من الله وفضل يثبتون ما وراء المادة ويسرفون في الإثبات. تحقيقا لقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} اهـ من خاتمة سورة فصلت. وإننا نضع بين يديك هنا تجربة واحدة من تجارب التنويم تقرب إليك الوحي كل التقريب وهذه التجربة رأيتها بعيني وسمعتها بأذني بنادي جمعية الشبان المسلمين على مرأى ومسمع من جمهور مثقف كبير حضر ليشهد محاضرة مهمة في التنويم المغناطيسي وإثبات أنه يمكن أن يتخذ سلاحا مسموما لتغيير عقيدة الشخص ودينه كما تسفل إلى ذلك بعض المبشرين إذ فتن بهذا العدوان الخبيث شابا من خيرة الشبان المسلمين حول سنة هـ في حادثة مشهورة مروعة وما هي منكم ببعيد. قام المحاضر وهو أستاذ في التنويم المغناطيسي وأحضر الوسيط وهو فتى فيه استعداد خاص للتأثر بالأستاذ والأستاذ فيه استعداد خاص للتأثير على الوسيط فالأول ضعيف النفس والثاني قويها. وللضعف والقوة وجوه ليس هذا موضع بيانها. نظر الأستاذ في عين الوسيط نظرات عميقة نافذة وأجرى عليه حركات يسمونها سحبات فما هي إلا لحظة حتى رأينا الوسيط يغط غطيط النائم وقد امتقع لونه وهمد جسمه وفقد إحساسه المعتاد حتى لقد كان أحدنا يخزه بالإبرة وخزات عدة ويخزه كذلك ثان وثالث فلا يبدي الوسيط حراكا ولا يظهر أي عرض لشعوره وإحساسه بها. وحينئذ تأكدنا أنه قد نام ذلك النوم الصناعي أو المغناطيسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وهناك تسلط الأستاذ على الوسيط يسأله: ما اسمك؟ فأجابه باسمه الحقيقي. فقال الأستاذ: ليس هذا هو اسمك إنما اسمك كذا وافترى عليه اسما آخر ثم أخذ يقرر في نفس الوسيط هذا الاسم الجديد الكاذب ويمحو منه أثر الاسم القديم الصادق بوساطة أغاليط يلقنها إياه في صورة الأدلة وبكلام يوجهه إليه في صيغة الأمر والنهي. وهكذا أملى عليه هذه الأكذوبة إملاء وفرضها عليه فرضا حتى خضع لها الوسيط وأذعن. ثم أخذ الأستاذ وأخذنا نناديه باسمه الحقيقي المرة بعد الأخرى في فترات متقطعة وفي أثناء الحديث على حين غفلة كل ذلك وهو لا يجيب. ثم نناديه كذلك باسمه الموضوع فيجيب دون تردد ولا تلعثم. ثم أمر الأستاذ وسيطه أن يتذكر دائما أن هذا الاسم الجديد هو اسمه الصحيح حتى إلى ما بعد نصف ساعة من صحوه ويقظته. ثم أيقظه وأخذ يتم محاضرته ونحن نفجأ الوسيط بالاسم الحقيقي فلا يجيب ثم نفجؤه باسمه الثاني فيجيب حتى إذا مضى نصف الساعة المضروب عاد الوسيط إلى حاله الأولى من العلم باسمه الحقيقي. وبهذه التجربة أثبت الأستاذ أن المنوم بكسر الواو يستطيع أن يمحو من نفس وسيطه كل أثر يريد محوه مهما كان ثابتا في النفس كاسم الإنسان عينه ومهما كان مقدسا فيها كعقائد الدين. وإنما اختار الأستاذ محو الاسم دون الدين لأمرين: أحدهما أن محو الدين عدوان أثيم وإجرام شنيع لم تقبله نفسية المحاضر ولا الحاضرين. ثانيهما: أن الاسم أثبت في نفس صاحبه من دينه فمحوه منها أعجب ومنه تعلم أن محو الدين منها أيسر. وبهذه التجربة أيضا ثبت لي أنا من طريق علمي ما قرب إلي الوحي عمليا وما جعلني أعلله تعليلا علميا: فالوحي عن طريق الملك عبارة عن اتصال الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بالرسول اتصالا يؤثر به الأول في الثاني ويتأثر فيه الثاني بالأول وذلك باستعداد خاص في كليهما فالأول فيه قوة الإلقاء والتأثير لأنه روحاني محض والثاني فيه قابلية التلقي عن هذا الملك لصفاء روحانيته وطهارة نفسه المناسبة لطهارة الملك. وعند تسلط الملك على الرسول ينسلخ الرسول عن حالته العادية ويظهر أثر التغير عليه ويستغرق في الأخذ والتلقي عن الملك ويطبع ما تلقاه في نفسه حتى إذا انجلى عنه الوحي وعاد إلى حالته الأولى وجد ما تلقاه ماثلا في نفسه حاضرا في قلبه كأنما كتب في صحيفة فؤاده كتابا. أتظن أيها القارئ الكريم أن المخلوق يستطيع أن يؤثر في نفس مخلوق آخر ذلك التأثير بواسطة التنويم المغناطيسي ثم لا يستطيع مالك القوى والقدر أن يؤثر في نفس من شاء من عباده بواسطة الوحي كلا ثم كلا إنه على ما يشاء قدير. الدليل العلمي الثاني: إن العلم الحديث استطاع أن يخترع من العجائب ما نعرفه ونشاهده وننتفع به مما يسمونه التليفون واللاسلكي والميكرفون والراديو. وعن طريق أولئك أمكن الإنسان أن يخاطب من كان في آفاق بعيدة عنه وأن يفهمه ما شاء ويرشده إلى ما أراد. فهل يعقل بعد قيام هذه المخترعات المادية أن يعجز الإله القادر عن أن يوحي إلى بعض عباده ما شاء عن طريق الملك أو غير الملك تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. الدليل الثالث: استطاع العلم أيضا أن يملأ بعض اسطوانات من الجماد الجامد الجاهل بأصوات وأنغام وبقرآن وأغان وكلام على وجه يجعلها حاكية له بدقة وإتقان وبين أيدينا من ذلك شيء كثير لا سبيل إلى إنكاره يسمونه بالفونغراف. أبعد هذه المخترعات القائمة يستبعد على القادر تعالى بوساطة ملك ومن غير وساطة ملك أن يملأ بعض نفوس بشرية صافية من خواص عباده بكلام مقدس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 يهدي به خلقه. ويظهر به حقه على وجه يجعل ذلك الكلام منتقشا في قلب رسوله حتى يحكمه بدقة وإتقان كذلك؟ الدليل الرابع: أننا نشاهد بعض الحيوانات الدنيا تأتي بعجائب الأنظمة والأعمال مما نحيل معه أن يكون صادرا عن تفكير لها أو غريزة ساذجة فيها ومما يجعلنا نوقن بأنها لم تصدر في ذلك إلا عن إرادة عليا توحي إليها وتلهمها تلك العجائب والغرائب من الصناعات والأعمال والدقة والاحتيال. وإذا صح هذا في عالم الحيوان فهو أولى أن يصح في عالم الإنسان حيث استعداده للاتصال بالأفق الأعلى يكون أقوى وأخذه عنه يكون أتم ومن ذلك ما يكون بطريق الوحي. وإن شئت أمثلة لتلك الحيوانات التي ضربناها لك مثلا في إلهاماته العلوية فدونك النمل والنحل وما تأتيان من ضروب الأعمال ودقة النظام. وهاك حيوانا غريبا أسموه اكسيكلوب. وقال عنه الأستاذ ميلن إدوار المدرس بجامعة السوربون بفرنسا ما ترجمته إن الحيوانات المسماة اكسيكلوب تعيش منفردة وتموت بعد أن تبيض مباشرة وتخرج صغارها على حالة ديدان لا أرجل لها ولا تستطيع حماية نفسها من أية عادية كما لا تستطيع الحصول على غذائها. ومع ذلك فحياتها تقتضي أن تعيش مدة سنة في مسكن مقفل وفي هدوء تام وإلا هلكت. فترى الأم متى حان وقت بيضها تعمد إلى قطعة من الخشب فتحفر فيها سردابا طويلا فإذا أتمته أخذت في جلب ذخيرة إليه تكفي صغيرا واحدا مدة سنة تلك الذخيرة هي طلع الأزهار وبعض الأوراق السكرية فتحشو بها قاع السرداب ثم تضع عليه بيضة واحدة ثم تأتي بنشارة الخشب وتكون منها عجينة تجعلها سقفا على تلك البيضة ثم تأتي بذخيرة أخرى فتضعها فوق ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 السقف ثم تضع بيضة أخرى وهلم جرا حتى يفرغ بيضها ثم تترك الكل وتموت. فمن ذا الذي علم هذه الحشرة الضعيفة الساذجة تلك الصناعة المحيرة للعقل؟ ومن أفهمها وهي تموت بعد أن تبيض مباشرة أن صغارها التي ستولد في حاجة إلى البقاء سنة في حالة ضعف وعجز من الذي غرس في قلبها هذه العناية بنوعها حتى كلفتها كل هذه المشقة في وضع بويضاتها؟. لا ريب أن قيوم الوجود يؤتي الكائنات علما بما يقيمها وبما يصلحها من غير طريق الحواس التي لا تستطيع أن تكتسبه بها. ومن العبث وضلال الرأي أن يثبت الباحث الطبيعي إلهاما تبعثه القدرة الإلهية إلى أحقر الحشرات ثم ينفيه عن النوع البشري وهو أشد ما يكون حاجة إلى هذا الوحي والإلهام في حياته الفردية والاجتماعية. الدليل الخامس: العبقرية ويعرفها أفلاطون بأنها حال إلهية مولدة للإلهامات العلوية للبشر ويقرر الفلاسفة أنها حال علوية لا شأن للعقل فيها. ويقول الطبيعيون: إنها هبة من الطبيعة نفسها لا تحصلها دراسة ولا يوجدها تفكير. وهاك أمثلة للعبقرية والعباقرة تشع على موضوع الوحي نورا كشافا يهدي الحيارى الضالين إلى سواء السبيل. 1- قال الأستاذ ميرس الانجليزي مدرس علم النفس بجامعة كامبردج في كتاب كبير له أسماه الشخصية الإنسانية ما ترجمته كان للمستر بيدلر خاصة تكاد تلتحق بالمعجزات فإنه كان يعين على البديهة العوامل التي إذا ضرب بعضها في بعض أنتجت عددا من سبعة أو ثمانية أرقام. فإذا سئل مثلا: ما هما العددان اللذان إذا ضرب أحدهما في الآخر نتج العدد 17861 أجابك على الفور بأنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 (337, 53) . وهو يقول: إنه لا يدري على أية حال يأتي بهذا الجواب فكانت الإجابة عنده كأنها غريزة طبيعية. 2- ونقل عن الشاعر الكبير سوللي برودوم الفرنسي أنه قال حدث لي في بعض الأحايين أني كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية ألقيت إلي منذ سنة وذلك بدون أن ألقي إليها أقل التفات. 3- وذكر المسيو رينه الشاعر الفرنسي أنه ينام غالبا وهو يعمل قطعة من الشعر لم تتم ثم يستيقظ فيجدها تامة. 4- وكذلك يقول الشاعر موسيه الفرنسي أنا لا أعمل شيئا ولكن أسمع ما يلقى إلي فأنقله فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني. وهذه الأمثلة التي سقناها تثبت وجود اتصالات روحانية باطنة في بعض الأفراد تمد الإنسان بعلم وهداية من طريق غير معتاد وذلك يقرب الوحي أيما تقريب في وقت اشتد شك الناس فيه حتى كذبوا بالإلهيات والنبوات وسخروا بالأديان والشرائع مع أنها أعظم عوامل التحول الاجتماعي والفكري في الإنسان وأكبر الأحداث التي غيرت العالم وحولت مجرى التاريخ ومن العار الجارح لكرامة البشر أن تكون تلك العوامل والأحداث العظمى قامت على أوهام خاطئة أو على أكاذيب متعمدة. الدليل السادس: قرر العلم الحديث أنه شوهد على بعض الناس أنهم يظهرون بمظاهر روحانية تعتبر من الخوارق التي لم يكن يحلم بحدوثها العلماء على حين أن هؤلاء الذين أتوا بتلك الظواهر الخارقة كانوا في حالة ذهول وقد استحال تعليل ما أتوا تعليلا ماديا يستند إلى الحس وقد اختبروا تلك الظواهر واستحضروا لشهودها أكبر مشعوذي الأرض فشهدوا بأنها ليست من الشعوذة في شيء وإنما هي أحداث روحانية لا أثر فيها للمهارة وخفة اليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 تلك حقيقة من حقائق العلم الحديث الحاضر يقررون فيها أنه قد يفتح على بعض الناس في حالة من حالات ذهولهم بانكشافات وظواهر روحية فكيف يستبعد بجانب هذا الكشف العلمي أن يفتح الله على بعض الممتازين من خلقه بانكشافات علمية عن طريق الوحي بينما هم من كملة العقول والأخلاق لقد أسفر الصبح لذي عينين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ج - الوحي من ناحية العقل عرفت فيما سقناه لك من الأدلة العلمية أن الوحي ممكن وقريب من الوقوع ونقيم لك الدليل العقلي هنا على أن هذا الأمر الممكن قد وقع فعلا ذلك أنه قد أخبر بوقوعه الصادق المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فهو حق ثابت وذلك هو المطلوب أما الدليل على أنه قد أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فما مر عليك من أنباء الوحي في الكتاب والسنة. وأما الدليل على أن كل ما أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فهو حق ثابت فإن ذلك هو مقتضى الصدق والعصمة. وأما الدليل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق معصوم فإنما هي المعجزة القائمة مقام قوله تعالى لعباده في شأن تصديق رسوله صدق عبدي في كل ما يبلغ عني ومن ذلك أنه يوحى إليه مني. وهنا نجد أنفسنا قد انتهينا إلى المعجزة فما هي المعجزة؟ المعجزة هي أمر يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله أو هي أمر خارق للعادة خارج عن حدود الأسباب المعروفة يخلقه الله تعالى على يد مدعي النبوة عند دعواه إياها شاهدا على صدقه. فإذا قام إنسان ما وادعى أنه مبعوث الله إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 خلقه ورسوله إلى عباده وقال: إن آية صدقي فيما أدعيه أن يغير الله الذي أرسلني عادة من عاداته على يدي وأن يخرج الآن عن سنة من سننه العامة في وجوده ثم قال: وسيأتيكم الله بهذا الأمر العجاب من باب ترون أنكم فيه نابغون وعليه قادرون وإني أتحداكم زرافات ووحدانا أن تأتوا بمثل هذه الآية وأمامكم الباب مفتوحا كما تعتقدون وفيكم النبوغ موفور كما تدعون ثم أنتم مجتمعون وأنا وحدي. قال ذلك بلغة الواثق وتحدانا هذا التحدي الظاهر في وقت يثور فيه على عقائدنا وعاداتنا وأخلاقنا ويسفه فيه أحلامنا وأحلام أمثالنا من آبائنا ونحن أحرص ما نكون على تعجيزه وتبهيته والغلبة عليه والظفر به دفاعا عن كرامتنا, وانتصارا لأعز شيء لدينا. ثم لم يلبث أن قام وقمنا وأجمع أمره وأجمعنا وإذا نحن جميعا بعد محاولات ومصاولات لم نستطع أن نأتي بمثل ما أتى به فضلا عن أعظم منه. مع أننا أمة وهو فرد. ومع أنه قد دخل علينا من أيسر الطرق في نظرنا ومن أشهر فن في زماننا ومع أنه قد أعطانا الفرصة الكافية لمناظرته وأنصفنا كل إنصاف من نفسه. هل يشك ذو مسكة من عقل في أن هذا الإنسان المتفوق الممتاز صادق في رسالته محق في دعايته خصوصا إذا عرفنا فوق ذلك كله أنه نشأ فينا على الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق من لدن صباه وطفولته إلى يوم مبعثه ورسالته. لو أنه جاء بالمعجزة من باب لا نعرفه لقلنا رجل حذق فنا من الفنون التي لا علم لنا بها أو تعلم صناعة من الصناعات التي لم نحط بخبرها. أما وقد جاءنا من الناحية التي نشهد لأنفسنا فيها بالفوق والسبق فلا يسعنا إلا الإذعان له والإيمان بما جاء به ما دمنا منصفين. ولنضرب لك مثلا: جاء موسى عليه السلام بمعجزته عصا من الخشب لا روح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فيها ولا حركة ولا لين ولا رطوبة ثم ألقاها باسم الذي أرسله فإذا هي حية تسعى بينما الأمة التي تحداها بذلك كانت قد تفوقت في السحر وحذقته وضربت فيه بأوفر سهم وأوفى نصيب خصوصا أنهم أمة وهو فرد. وهم نابغون في السحر وهو مع نشأته فيهم لم يعرف يوما من الأيام بمعالجة السحر. وهم معتزون بعددهم وعددهم وسلطانهم وهو خلو من هذه الأسباب والمظاهر. فهل يبقى للشك ظل بعد أن ألقى موسى عصاه {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} . الحق أبلج. ولذلك كان أول من آمن به هم السحرة أنفسهم لأنهم أعرف بالسحر ومقدماته ونتائجه وقد رأوا رأي العين أن ذلك الإعجاز ليس من نوع هذا السحر المبني على مقدمات يستطيع كل إنسان أن يزاولها ولها نتائج محدودة لا يمكن أن يتجاوزها نعم لم يطق السحرة صبرا عن المسارعة إلى الاعتراف والخضوع للحق بعد ما تبين مهما كلفهم ذلك أن يقتلوا أو يصلبوا وقالوا لفرعون مليكهم ومعبودهم بالأمس {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . اقرأ إن شئت الآيات بعدها في سورة طه إلى قوله سبحانه: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} . قل مثل ذلك في معجزة كل رسول أرسله الله قله في عيسى عليه السلام وإبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير بإذن الله أمام قوم نبغوا في الطب أيما نبوغ ومهروا فيه أيما مهارة1.   1 لا تعبأ هنا بما يعزى إلى المسيو رينان من إنكاره نبوغ قوم عيسى في الطب. فإنه ناف, والمثبت مقدم على النافي. وعلى فرض صحة هذا النفي فإن هذا لا يضرنا شيئا لأن المعجزة يكفي في تحققها عجز البشر عن مثلها. وليس تفوق المواجهين بها شرطا، إنما هو أمر زائد غير مشروط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقل مثل ذلك وأكثر من ذلك في خاتم الأنبياء سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات بينات ومعجزات واضحات وحسبك القرآن وحده برهانا ساطعا بل براهين ساطعات: كل مقدار ثلاث آيات منه حجة قاطعة تقوم في فم الدنيا إلى يوم الساعة. تتحدى العالم بما يكون فيها من أسرار الفصاحة والبيان والعلوم والمعارف وأنباء الغيب وشواهد الحق. أضف إلى ذلك أن الذين شوفهوا بخطابه عند مهبط الوحي كانوا أئمة الفصاحة وفرسان البلاغة بضاعتهم الكلام والتفنن في إجادته. وصناعتهم التنافس في النثر وديباجته والشعر ورونقه وكرامتهم مرتبطة بما يجيدون في هذا الباب لا بما يجمعون من الذهب أو يحملون من ألقاب. حتى بلغوا في هذا الميدان شأوا لا يبارى وغاية لا تدرك. وما يكون لنا أن نطلق العنان هنا للقلم. وإلا ضاق بنا التأليف والزمن. وأنت خبير بإعجاز القرآن وما كتب في إعجاز القرآن. فاكتف بهذه الإشارة الخاطفة. وإن أردت المزيد فعليك بما كتب في إعجاز القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 د - دفع الشبهات ولكني أعالج بين يديك لهذه المناسبة شبهات عشرا يرددها كثير من المفتونين: الشبهة الأولى يقولون: إن المعجزات شأنها شأن كثير من المخترعات. فإذا كان فيها طرافة أو دهشة أو عجب فكذلك آثار العلم ومدهشاته فيما نرى ونسمع. والجواب: تعرفه مما ذكرناه آنفا في بحث المعجزة. مما يتبين به الفرق بعيدا والبون شاسعا بين المعجزة وما جد أو يجد في العالم من عجائب العلم وروائع الفن وبدائع الاختراع. فالمعجزة ليست لها أسباب معروفة حتى تلتمس ويؤتى بمثلها. أما هذه المخترعات فإن لها أسبابا معروفة عند أصحابها ويمكن معرفتها لمن لم يعرفها بيسر وسهولة متى التمسها من طريقها. الشبهة الثانية يقولون: إن المعجزة كالسحر والشعوذة وما إليهما إن هي إلا تخييلات وتضليلات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 والجواب: يتبين لك مما قصصنا عليك في المعجزة وفي ضرب المثل لها بعصى موسى. ويمكن تلخيصه بأن المعجزة نفحة من نفحات الحق تخرج عن أفق الأسباب المعتادة والوسائل المشاهدة والغايات المألوفة. أما السحر وما أشبهه فإنها فنون خبيثة ذات قواعد وأوضاع يعرفها كل من ألم بها ويصل إلى وسائلها وغاياتها كل من عالجها من بابها. ولهذا كان أول من آمن بموسى هم السحرة أنفسهم لأنهم أعلم بهذا الفرق الواضح والبون الشاسع كما تقدم. الشبهة الثالثة يقولون: إن ما تسمونه معجزات من العلوم والمعارف التي اشتمل على مثلها القرآن ما هي إلا آثار لمواهب بعض النابغين من الناس وهذه المواهب وآثارها وجدت ويمكن أن توجد في كل أمة. والجواب: أن مواهب النابغين ونبوغ الموهوبين وما يكون منهم من آثار وأفكار كل ذلك له وسائل وعوامل ثم له أشباه معتادة ونظائر في كل أمة وجيل وفي كل عصر ومصر أما المعجزات فلن تجد لها من وسائل ولا عوامل ولن تستطيع أن تصل إلى أشباه معتادة لها ونظائر اللهم إلا إذا خرجنا عن نطاق الكون المعروف وسنن الوجود المألوف. الشبهة الرابعة يقولون: إن خرق الله لعاداته على أيدي رسله كما تقولون يعتبر خروجا عن النظام العام الذي تقتضيه الحكمة وتناط به المصلحة. والجواب: أن المعجزة وإن كانت خارجة عن حدود الأنظمة المعتادة لا تعتبر خروجا على النظام العام الذي تقضي به الحكمة وتناط به المصلحة بل هي من مقتضيات ذلك النظام العام الذي تمليه الحكمة وتوحيه المصلحة. وأي حكمة أجل من تأييد الحق وأهل الحق؟ وأي مصلحة أعظم من اهتداء الخلق إلى طريق سعادتهم؟ بوساطة تلك المعجزات التي يفهمون منها مراد الخالق من تأييد رسله ووجوب تصديقهم لهم واتباعهم إياهم. الشبهة الخامسة يقولون: لو كان الوحي ممكنا لأوحى الله إلى أفراد البشر عامة ولم يخص به شرذمة قليلين يجعلهم واسطة بينه وبين خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 والجواب: أن عامة البشر ليس لديهم استعداد لتلقي الوحي عن الله لا مباشرة ولا بواسطة الملك حتى لو جاءهم ملك لم يستطيعوا رؤيته إلا إذا ظهر في صورة إنسان وحينئذ يعود اللبس ويبقى الإشكال. فقضت الحكمة أن يجعل الله من بني الإنسان طائفة ممتازة لها استعداد خاص يؤهلها لأن تتلقى عن الله الوحي ثم تؤديه في أمانة إلى العامة من إخوانهم في الإنسانية بعد أن وضع الله في أيديهم شواهد الحق الناطقة التي تدل العالم على مراده سبحانه من تصديقهم وبعد أن سلحهم بالآيات التي تطمئن الناس على أنهم رسل لإنقاذهم وإرشادهم من عند ربهم. ثم إن اختصاص بعض أفراد النوع الإنساني بالوحي والنبوة فيه نوع من الاختبار والابتلاء الذي بنى الله عليه هذه الحياة وميز به الخبيث من الطيب. {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وتلك الشبهة يقول الله في مثلها من سورة الأنعام: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} . الشبهة السادسة يقولون: كيف تدل المعجزة على تصديق الله لرسله مع أننا ما رأينا الله وما سمعناه. والجواب: أن دلالة المعجزة على تصديق الرسول كدلالة الكون على خالقه مع أننا ما رأينا الله وما سمعناه ولنضرب لهم المثال كيلا تبقى لهم شبهة ولا يقوم لهم عذر افرض أنك حضرت مجلسا عاما فيه ملك من الملوك وكان من تقاليد هذا الملك ألا يكشف رأسه في مجلس من المجالس العامة وبينما القوم جلوس في حضرة صاحب الجلالة إذ نهض رجل من الحاضرين معروف للجميع بصدقه وأمانته وأدبه واستقامته وحسبه ونسبه. وإذا هذا الرجل يقول على مرأى ومسمع من المليك ورعيته: أيها القوم إن مولاي الملك حملني هذه الرسالة أبلغكم إياها وهي أن تفعلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 كذا وتتركوا كذا ثم سكت الملك ولم يكذبه ثم لم يكتف الرجل بطهارة ماضيه وسكوت مليكه في ترويج دعوته وتأييد رسالته. بل قال إن آية صدقي أن يغير مولاي الملك عادته الآن ويخرج عن تقليد من تقاليده المعروفة لكم جميعا وذلك بأن يعري رأسه في هذا المجلس العام. ثم ما كاد ينتهي حتى عرى المليك رأسه وخلع تاجه. أفلا يعتبر ذلك دليلا كافيا على صدق هذا الرجل وصدق ما جاء به؟ ثم ما بالك إذا هو قد عزز دليله بالتحدي فقال: إني أتحداكم أن يجيبكم الملك إلى مثل ما أجابني إليه. فأخذوا يطلبون ويلحون فلم يستجب لهم الملك ولم يغير عادته معهم ولا مرة واحدة. أفلا يكون ذلك برهانا أبلج من الصبح على أن هذا الداعي هو رسول هذا الملك حقا؟ ثم ألا يكون المكذب بعد ذلك معاندا ومكابرا ويكون بالحيوان الذي لا يفهم ولا يعقل أشبه منه بالإنسان الذي يفهم ويعقل؟ {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . وذلك المثل هو مثل رسل الله تؤيدهم معجزات الله. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . الشبهة السابعة يقولون: إن هذا الوحي للذي تدعونه وتدعون تنجيمه جاء بهذا القرآن غير مرتب ولا منظم فلم يفرد كل غرض من أغراضه بفصل أو باب شأن سائر الكتب المنظمة. بل مزجت أغراضه مزجا غير مراعى فيه نظام التأليف فيبعد أن يكون وحيا من الله. وهذه الشبهة واردة كما ترى على تنجيم القرآن وترتيبه أيضا. والجواب: أن مخالفة القرآن لأنظمة الكتب المؤلفة لا تعتبر عيبا فيه ولا في وحيه وموحيه بل هي على العكس دليل مادي على أنه ليس بكتاب وضعي بشري يجلس إليه واضعه من الناس فيجعل لكل طائفة من معلوماته المتناسبة فصلا ولكل مجموعة من فصوله المتناسقة بابا بل هو مجموع إشراقات من الوحي الإلهي الأعلى. اقتضتها الحكمة ودعت إليها المصلحة. على ما هو مفصل في أسرار تنجيم القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ثم إن هذا المزيج الطريف الذي نجده في كل سورة أو طائفة منه له أثر بالغ في التذاذ قارئه وتشويق سامعه واستفادة المستفيد بأنواع متنوعة منه في كل جلسة من جلساته أو درس من درسه وهذا هو الأسلوب الحكيم في التعليم والإرشاد خصوصا لتلك الأمة الأمية التي نزل عليها. فما أشبه كل مجموعة من القرآن بروضة يانعة يتنقل الإنسان بين أفيائها متمتعا بكل الثمرات أو بمائدة حافلة بشتى الأطعمة يشبع الجائع حاجته بما فيها من جميع الألوان. وهنا دقيقة أحب ألا تعزب عن علمك. وهي أن هذا الروض الرباني اليانع القرآن الكريم يقوم بين جمله وآيه وسوره تناسب بارع وارتباط محكم وائتلاف بديع ينتهي إلى حد الإعجاز خصوصا إذا لاحظنا نزوله منجما على السنين والشهور والأيام. قال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المفرقة. وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا. فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف كما أنزل جملة إلى بيت العزة. ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له. وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لسورة البقرة ما نصه: ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو معجز أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته. ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر الشبهة الثامنة يقولون: إن محمدا كان عصبيا حاد المزاج وكان مريضا بما يسمونه الهستريا فالوحي الذي كان يزعمه ما هو إلا أعراض لتلك الحال التي أصيب بها. والجواب: أن هذه فرية تدل على جهلهم الفاضح بمحمد صلى الله عليه وسلم. فالمعروف عنه بشهادة التاريخ الصحيح والأدلة القاطعة أنه كان وديعا صبورا حليما بل كان عظيم الصبر واسع الحلم فسيح الصدر حتى إنه وسع الناس جميعا ببسطه وخلقه. وكان شجاعا مقداما سليم الجسم صحيح البدن، حتى إنه صارع ركانة المشهور بشجاعته فصرعه وكان يثبت في الميدان حين يفر الشجعان ويفزع الخلق ويشتد الأمر ويقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" ويقول: "إلي عباد الله" ولا يزال كذلك حتى ينقذ الموقف ويكسب المعركة. ولو أفضنا في هذا الموضوع لطال بنا الكلام ولكن موضوعه كتب السيرة والشمائل المحمدية فارجع إليها إن شئت أما مرض الهستريا الذي يصمونه كذبا به فهو داء عصبي عضال أكثر إصاباته في النساء. ومن أعراضه شذوذ في الخلق وضيق في التنفس واضطراب في الهضم. وقد يصل بصاحبه إلى شلل موضعي ثم إلى تشنج ثم إلى إغماء ثم إلى هذيان مصحوب بحركة واضطراب في اليدين والرجلين وقفز من مكان إلى مكان. وقد يزعم المصاب أنه يرى أشباحا تهدده وأعداء تحاربه أو أنه يسمع أصواتا تخاطبه على حين أنه لا وجود لشيء من ذلك كله في الحس والواقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فهل يتفق ذلك وما هو معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان أمة وحده في أخلاقه وثباته وحلمه وعقله ورباطة جأشه وسلامة جسمه وقوة بنائه؟. ثم كيف يتفق ذلك الداء العضال الذي أعيا الأطباء وما انتدب له محمد صلى الله عليه وسلم من تكوين أمة شموس أبية وتربيتها على أسمى نواميس الهداية ودساتير الاجتماع وقوانين الأخلاق وقواعد النهضة والرقي؟. أضف إلى ذلك أنه نجح في هذه المحاولة المعجزة إلى درجة جعلت تلك الأمة بعد قرن واحد من الزمان هي أمة الأمم وصاحبة العلم وربة السيف والقلم. فهل المريض المتهوس الذي لا يصلح لقيادة نفسه يتسنى له أن يقوم بهذه القيادة العالمية الفائقة ثم ينجح فيها هذا النجاح المعجز المدهش؟. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم الشبهة التاسعة يقولون: إنكم تستدلون على الوحي بإعجاز القرآن وتستدلون على إعجاز القرآن بما فيه من أسرار البلاغة ونحن لا ندرك تلك الأسرار ولا نسلمها فلا نسلم الوحي المبني عليها. والجواب: أن للقرآن نواحي أخرى في الإعجاز غير ما يحويه من أسرار البلاغة والبيان ومن السهل معرفتها على من لم يتمهر في علوم العربية واللسان. منها ما يحويه هذا التنزيل من المعارف السامية والتعاليم العالية في العقائد والعبادات وفي التشريعات المدنية والجنائية والحربية والمالية والحقوق الشخصية والاجتماعية والدولية وإن مقارنة بسيطة بين تلك الهدايات القرآنية وبين ما يوجد على وجه الأرض من سائر التشريعات الدينية وغير الدينية توضح لك ذلك الإعجاز الباهر خصوصا إذا لاحظت أن هذا الذي جاء بتلك المعارف الخارقة كان رجلا أميا نشأ وعاش وشب وشاب وحي ومات بين أمة أمية كانت لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 كذلك أنباء الغيب التي تحدث بها القرآن وهي كثيرة يمكن إدراك وجه الإعجاز فيها بيسر وسهولة لكل منصف. اقرأ إن شئت فاتحة سورة الروم لتعرف كيف أخبر القرآن صراحة بأمر كان لا يزال مستترا في ضمائر الغيب بل كانت العوامل والظواهر لا تساعد عليه ذلك أنه أخبر في وقت انتصر فيه الفرس على الروم في أدنى الأرض بأن الروم سيدال لهم على الفرس وينصرون في بضع سنين وكان كما قال. ثم اقرأ قوله سبحانه مخاطبا لنبيه في موقف من مواقف الخصومة والمحاجة بينه وبين أعدائه اليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وهذا من أبرز شواهد الإعجاز والتحدي: إذ كيف يتسنى لرجل عظيم في موقف من المواقف الفاصلة بينه وبين أعدائه أن يجرؤ على تحديهم بشيء هو من شأنهم وحدهم وكان في استطاعتهم عادة بل في استطاعة أقل واحد منهم أن يقول ولو ظاهرا: إني أتمنى الموت ليظفروا بذلك التمني على محمد صلى الله عليه وسلم ويبطلوا به دعوته ويستريحوا منه على زعمهم. ولكن كل ذلك لم يكن فما تمنى أحد منهم الموت بل صرفوا وما زالوا مصروفين عنه أبدا ثم سجل القرآن عليهم ما هو أبعد من ذلك إذ قال عقيب تلك الآية: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ا. هـ من سورة البقرة. أليست تلك أدلة مادية قامت ولا تزال قائمة على أن محمدا صلوات الله وسلامه عليه كان مؤيدا بالوحي من ربه وأنه إنما يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أما إعجاز القرآن من ناحية الأسرار البلاغية فلا يقدح فيه أن جمهرة الناس اليوم لا يدركونها ولا يتذوقونها فإن ذلك لا يرجع إلى خلو القرآن من أسرار البلاغة والبيان إنما يرجع إلى جهل الناس باللغة العربية وأساليبها وإلى فساد ذوقهم من غلبة العجمة عليهم ومعروف أن عدم الإدراك لشيء لا ينهض دليلا على عدم ذلك الشيء. ونظير ذلك أن عدم علمنا بلغة من اللغات الأجنبية مثلا لا يلزم منه أن ننكر أن فلانا متفوق في تلك اللغة بشهادة الأخصائيين فيها والحاذقين لها بل نحن نؤمن بوجود لغات لا نعرف منها شيئا كما نؤمن بوجود نابغين فيها لا نعرفهم ولا نعرف من وجوه نبوغهم شيئا اللهم إلا عن طريق سماعنا لذلك من مصادر نثق بها. كذلكم القرآن الكريم قد شهد الفنيون والأخصائيون من حذاق اللغة العربية في أزهى عصور التوفر عليها والتمهر فيها أنه كتاب فاق الكتب وكلام بز سائر ضروب الكلام وبلغ في سموه وتفوقه حدود الإعجاز والإفحام من ناحية الفصاحة والبلاغة وما يحمل لهما من أسرار. ثم نقل إلينا ذلك كله نقلا متواترا قاطعا لا ظل فيه للشك والنكران. فلماذا لا نقبل هذا الحكم العادل ومصادره كثيرة محترمة كل الاحترام؟. أليس ذلك تعصبا وعنادا على حين أن الباب كان ولا يزال مفتوحا أمام كل من يحذق علوم اللغة العربية وأساليبها أن يتذوق أسرار البلاغة والإعجاز في هذا القرآن وأن يحكم هو نفسه بما حكم به الآلاف المؤلفة في كل زمان ومكان. وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار على أن لإعجاز القرآن ميدانا آخر فاطلبه إن شئت. {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} . الشبهة العاشرة يقولون: إن إعجاز القرآن للعرب لا يدل على أن القرآن كلام الله. بل هو كلام محمد نسبه إلى ربه ليستمد قدسيته من هذه النسبة. وإعجازه جاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ناحية أن محمدا كان الفرد الكامل في بيانه بين قومه لذلك جاء قرآنه الفرد الكامل أيضا بين ما جاء به قومه ولم يستطيعوا لهذا الاعتبار وحده أن يأتوا بمثله شأن الرجل الفذ بين أقرانه في كل عصر. ويجيب على هذه الشبهة بأجوبة خمسة: أولها: أن كل من أوتي حظا من حس البيان وذوق البلاغة يفرق بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي فرقا كبيرا يمثل الفرق الكبير بين مقدور الخالق ومقدور المخلوق. وها هما القرآن والحديث النبوي لا يزالان قائمين بيننا يناديان الناس بهذا الفارق البعيد إن كان لهم إحساس في البيان وذوق في الكلام. ولو كان لهذه الشبهة شيء من الوجاهة لكان أولى الناس أن يرفعوا عقيرتهم بها هم أولئك العرب الخلص الذين شافههم القرآن لأنهم كانوا أحرص على تعجيز محمد وإسكاته للاعتبارات التاريخية المعروفة. لكنهم ما قالوا هذا. بل كانوا أكرم على نفسهم من أن يقولوه إيقانا منهم بظهور المميزات الفائقة بكلام الربوبية عن كلام النبوة بحيث لا يلتبس أحدهما بالآخر في شيء. وهكذا من ذاق عرف ومن حرم انحرف. وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم الجواب الثاني: أن القرآن لم يأت الناس من الخلف بل جاءهم من أوسع الأبواب ودخل عليهم من طريق العرب الخلصاء ذوي اللسن والبيان. وتحداهم من الناحية التي نبغوا فيها وهي صناعة الكلام تلك الصناعة البيانية الفائقة التي وقفوا عليها مواهبهم وأنفقوا فيها حياتهم حتى صارت موضع تنافسهم وسبقهم وموضوع فخرهم وفوقهم. شأن معجزات الله تعالى لم تأت الناس إلا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الناحية المفهومة لهم كل الفهم وذلك ليظهر أمر الله واضحا جليا لا لبس فيه ولا غموض ولا شبهة ولا شكوك {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} . ومن هنا نعلم والتاريخ يشهد أن القرآن لو كان مصدره نفس محمد كما يقول أولئك الملاحدة لأمكن هؤلاء العرب البارزين في البيان أن يعرفوا أنه كلامه بما أوتوا من ملكة النقد وما وهبوا من نباهة الحس والذوق ثم لأمكنهم أن يجاروه ولو شوطا قريبا إن لم يمكنهم مجاراته شوطا بعيدا. لا سيما أن القرآن قد اكتفى منهم في معرض التحدي بأن يأتوا بسورة من مثل أقصر سورة أي بمثل ثلاث آيات قصار من بين تلك الآلاف المؤلفة التي اشتمل عليها الكتاب العزيز. وأنت خبير بأن هؤلاء لم تكن لتعييهم تلك المساجلة وهم فرسان ذلك الميدان. وأئمة الفصاحة والبيان لو كان الأمر من صناعة محمد صلى الله عليه وسلم وإنشائه. كما يزعم أولئك الخراصون فما بالك وقد خرست ألسنتهم وخشعت أصوات الأجيال كلها من بعدهم. ومعلوم أن النابغة الفذ في أي عصر من العصور يستطيع أقرانه بيسر وسهولة أن يحاكوه مجتمعين ومنفردين في الشيء القليل على فرض أنهم لا يستطيعون معارضته في الجميع أو الشيء الكثير. الجواب الثالث: أن القرآن لو كان مصدره نفس محمد لكان من الفخر له أن ينسبه إلى نفسه. ولأمكن أن يدعي به الألوهية فضلا عن النبوة. ولكان مقدسا في نظر الناس وهو إله أكثر من قداسته في نظرهم وهو نبي ولما كان في حاجة إذا إلى أن يلتمس هذه القدسية الكاذبة بنسبته القرآن إلى غيره {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ؟؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الجواب الرابع: أن هؤلاء الملاحدة غاب عنهم أنهم يتحدثون عن أكرم شخصية عرفها التاريخ طهرا ونبلا وذهلوا عن أنهم يمسون أسمى مقام اشتهر أمانة وصدقا. فكان صلى الله عليه وسلم إذا مر بقومه يشيرون إليه بالبنان ويقولون: هذا هو الصادق الأمين. ثم صدروا عن رأيه ورضوا بحكمه. والعقل المنصف قال ولا يزال يقول: ما كان هذا الأمين الصدوق ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} . الجواب الخامس: أن هذه الشبهة وليدة الغفلة عن مضامين القرآن العلمية وأنبائه الغيبية وهداياته الخارجة عن أفق العادة في كافة النواحي البشرية فردية كانت أو اجتماعية. لا سيما أن الآتي بهذا القرآن رجل أمي في أمة أمية كانت في أظلم عهود الجاهلية. أضف إلى ذلك ما سجل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم من أخطاء في بعض اجتهاداته ومن عتاب نحس تارة بلطفه وأخرى بعنفه. ولو كان هذا التنزيل كلامه ما سمح أن يسجل على نفسه ذلك كله. ولكن الملاحدة سفهوا أنفسهم وزعموا رغم هذه البراهين اللائحة أن محمدا افترى القرآن على ربه. كذبوا وضلوا. {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . ذيل لهذه الشبهة: ويتصل بهذه الشبهة شبهة أخرى قد تعرض لبعض المأفونين. وهي أن هذا البعد الشاسع بين القرآن والحديث لم يجيء من ناحية أن القرآن كلام الله والحديث كلام محمد. إنما جاء من ناحية أن محمدا كان له ضربان من الكلام أحدهما يحتفل به كل احتفال ويعنى مزيد العناية بتهذيبه وتنميقه وتحضيره وذلك هو ما سماه بالقرآن ونسبه إلى الله. وثانيهما يرسله إرسالا غير معني بتحبيره وتحريره وهو المسمى بالحديث النبوي. ثم يقولون لترويج شبهتهم هذه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 إن ذلك ليس بدعا فيما نرى من آثار الأدباء والبلغاء بل نحن نلحظ أن الأديب الواحد يعلو كلامه الصادر عن تأمل وعناية وروية علوا كبيرا عن كلامه المرسل على البديهة حتى كأنهما لكاتبين اثنين بينهما بعد ما بين المشرقين. والجواب الأول: أن هذه الشبهة الجديدة مبنية على قياس فاسد وهو تشبيه أدباء ذاك العصر الزاهر الذي نزل فيه القرآن وسلمت فيه السليقة العربية بأدباء هذا العصر المولدين الذين فسدت لغتهم وتبلبلت ألسنتهم. وشتان ما بين الطبقتين ويا بعد ما بين العصرين. أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا ما استقل يمان فالتفاوت البعيد بين الكلام المرسل والكلام المحبر لم يظهر إلا منذ فسد اللسان العربي وتطرقت العجمة إلى المولدين من العرب وأشباههم. أما أولئك العرب الخلص الذين كانوا يتكلمون العربية بالسليقة فلم يك منهج أحدهم البياني مختلفا هذا الاختلاف الكبير تبعا للإرسال والتحبير. بل العربي القح نهجه في الكلام نهج واحد هو نهج السليقة الصافية والطبيعة السليمة. ولم يكن التحبير ليذهب به مذهب الذبذبة التي تجعل له أسلوبين متباينين في كلامه بل قصاراه في تحبيره أن يحيط بأطراف موضوعه دون أن يند عنه مقصد من مقاصده ودون أن يخرج عن أسلوبه الذي ينبع من نفسه وتفيض به سجيته العرباء ذلك الأسلوب الذي يتعب أهل الفن منا أنفسهم في محاكاته وهيهات أن يبلغوا إلا بعد طول عناء. على أن معاناة ذلك العربي القح إذا عانى التنميق والتزويق لم تكن لتزيد كلامه روعة وحسنا بل كانت تنزل به بمقدار ما يظن أحدنا أنها تصعد فيه. ولهذا كان العرب يعافون من الكلام ما ظهرت فيه آثار الصنعة والتكلف ويعدون ذلك من التفاصح النازل إلى مهواة العي والتنطع كما كانوا مأخوذين بالجيد السلس وبالسهل الممتنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد العرب عن هذا التعمل والتصنع والتحبير حتى لقد نهى عن ذلك وناط به الهلاك والخسران. تدبر ما يرويه مسلم وأبو داود من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" والتنطع في الكلام: التعمق فيه والتفاصح. وروى الشيخان أنه جاءه رجل من هذيل يخاصم في دية الجنين فقال: يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل. ولا نطق ولا استهل. فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع. وفي رواية أنه قال: "أسجع كسجع الأعراب". وفي رواية أخرى أنه قال: "أسجع الجاهلية وكهانتها". فأنت ترى أنه ذم هذا السجع المصنوع وجعل صاحبه من إخوان الكهان ومن جهلة الجاهلية. وما ينبغي له أن يذم شيئا ثم يقع فيه. وحاشاه وحاشا بيانه الشريف من هذا الإسفاف والتعمل الخسيس. ودونك السنة النبوية فاقرأ منها ما شئت فلن تجد إلا جيدا مطبوعا ومعاذ الله أن تجد فيها متكلفا مصنوعا. والقرآن أعلى في هذا الباب وأجل. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . الجواب الثاني: أن هذه الشبهة تخالف في أساسها ما هو واقع معروف: ذلك أن القرآن الكريم منه ما نزل مفاجأة على غير انتظار وتفكير وبدون تلبث وتدبير وهو أكثره. ومنه ما نزل بعد تشوف واستشراف وطول انتظار وهو أقله. ومع هذا فأسلوبه الأعلى هو أسلوبه الأعلى ونظمه المعجز هو نظمه المعجز في الحالين على سواء. تأمل ما جاء في سبب نزول قوله سبحانه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وهو أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمدا عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوه فقال: "ائتوني غدا أخبركم" ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه ثم نزلت الآيات جوابا لتلك الأسئلة بعد تلك المدة الطويلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 التي قدرها بعضهم بأربعين يوما وأنت إذا قرأتها لن تجد فرقا بين أسلوبها وأسلوب كثرة القرآن الغامرة التي نزلت مباغتة مفاجئة. وهذا الذي يقال في القرآن يقال مثله في الحديث النبوي. فمنه ما كان وليد التفكير والتدبير والمشاورة والمداولة كحديثه صلى الله عليه وسلم في شؤون الحرب والصلح ومنه ما كان وحي الساعة وإرسال البديهة كحديثه الكثير فيما هو ظاهر من أمور الدين. ومنه ما كان وحي الله إليه يهبط به الأمين جبريل كحديث المعتمر المتضمخ بالطيب وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن طيبه في عمرته هذه. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة حتى جاءه الوحي ولما سري عنه قال: "أين السائل عن العمرة" فجيء به فقال عليه الصلاة والسلام: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات. وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" رواه الشيخان. نعرف هذه الظروف المختلفة لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنها مع اختلافها لم يختلف فيها الأسلوب النبوي بل هو طراز واحد من أرقى الأساليب البشرية إن لم يكن أرقاها وقلما تلحظ فيه تفاوتا كثيرا. لا فرق في ذلك بين ما أرسله على البديهة وما أجال فيه الرأي والاستشارة وما نزل به وحي السنة وما احتفل به احتفالا ممتازا بالمواقف المشهودة والمجامع المحشودة. إذن هما نمطان متمايزان لا يشتبهان نمط القرآن كله ونمط الحديث كله لكل منهما مسحة وبيان ودرجة في الفوق والسبق بينها وبين الأخرى بعد ما بين شأني الخالق والخلق وفرق ما بين مكانتي السيد والعبد فالقرآن يمتاز بمسحة بلاغية خاصة وطابع بياني فريد لا يترك بابا لأن يلتبس بغيره أو يشتبه بسواه ولا يعطي الفرصة لأحد أن يعارضه أو يحوم حول حماه بل من خاصمه خصم ومن عارضه قصم ومن حاربه هزم. أما الحديث الشريف فهو وإن حلق في جو الفصاحة وسما في جملته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 عن أساليب العرب فإنه لا يزال في أرض العبودية لم يصل إلى سماء الإعجاز وتشبهه أساليب بعض خواص أصحابه وبينه وبين حكم العرب المأثورة قرابة ماسة وشبه قريب. بخلاف القرآن فإنه ليس كمثله بيان لأنه كلام من ليس كمثله شيء. وكلام الملوك ملوك الكلام. خاتمة المبحث نحسب أننا أفضنا في هذا المبحث ولكننا نعتقد أن هذه الإفاضة واجب لا بد منه ما دمنا بصدد تسليح طلابنا متخصصي الدعوة والإرشاد وهم على أهبة النزول إلى ميادين الوعظ العامة وفيها المؤمن والجاحد والمتدين والملحد والإلهيون والطبيعيون وفيها ضحايا الطوائف المعادية للإسلام وصرعى المذاهب المتطرفة في العالم. ونلفت نظرك إلى أن بعض ما ذكرناه في أدلة الوحي العلمية قد اعتمدنا فيه على أدلة جدلية يؤمن بها المنكرون أكثر مما يؤمنون بآيات الله. وإن أردت التوسع في هذا فارجع إلى ما كتبه العلامة محمد فريد وجدي في المجلد العاشر من مجلة الأزهر سنة 1358 هـ, وما كتبناه من قبل في المجلد الخامس من مجلة الهدية الإسلامية سنة 1351 هـ, وما كتبه العلامة الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه: النبأ العظيم. وبالله تعالى التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المبحث الرابع: في أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن مدخل ... المبحث الرابع: في أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن مدار هذا المبحث على النقل والتوقيف. ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها. ومن فوائد الإلمام بأول ما نزل وآخره تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات على موضوع واحد وكان الحكم في إحدى هذه الآيات يغاير الحكم في الأخرى ومن فوائده أيضا معرفة تاريخ التشريع الإسلامي ومراقبة سيره التدريجي والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته في أخذه الناس بالهوادة والرفق والبعد بهم عن غوائل الطفرة والعنف سواء في ذلك هدم ما مردوا عليه من باطل وبناء ما لم يحيطوا بعلمه من حق. يضاف إلى هاتين الفائدتين فائدة ثالثة: هي إظهار مدى العناية التي أحيط بها القرآن الكريم حتى عرف فيه أول ما نزل وآخر ما نزل, كما عرف مكيه ومدنيه وسفريه وحضريه إلى غير ذلك. ولا ريب أن هذا مظهر من مظاهر الثقة به ودليل على سلامته من التغيير والتبديل. {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وليس من غرضنا في هذا الباب أن نتحدث عن أول ما نزل وآخر ما نزل في كل تعليم من تعاليم الإسلام فتلك غاية بعيدة المدى ومجهود طويل جدير أن يفرد بالتأليف وله مواضع أخرى يمكن طلبه منها. إنما الميسور لنا أن نحدثك عن أمرين: أحدهما: أول ما نزل من القرآن على الإطلاق وآخر ما نزل منه على الإطلاق وهذا هو المقصود المهم. الثاني: نماذج من أول ما نزل في بعض الأحكام التشريعية وآخر ما نزل منها أي أوائل وأواخر إضافية مخصوصة ومقيدة ببعض الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أول ما نزل على الإطلاق ورد في ذلك أقوال أربعة: القول الأول وهو أصحها: أنه صدر سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله سبحانه: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ودليله ما يأتي: 1- روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: إقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ". فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ". فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ". فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} وفي بعض الروايات حتى بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} . فرجع بها إلى خديجة يرجف فؤاده إلى آخر الحديث وهو طويل. وفلق الصبح: ضياؤه. والتحنث المراد به التعبد وأصله ترك الحنث لأن هذه الصيغة تدل على التجنب والتنحي عن مصادرها ونظيره التهجد والتأثم والتحرج. وغطني بفتح الغين وتشديد الطاء المفتوحة أي ضمني ضما شديدا حتى كان لي غطيط وهو صوت من حبست أنفاسه بما يشبه الخنق. والجهد بفتح الجيم يطلق على المشقة وعلى الوسع والطاقة وبضم الجيم يطلق على الوسع والطاقة لا غير وهما روايتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 2- وصحح الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائله عن عائشة أيضا رضي الله عنها أنها قالت: أول سورة نزلت من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} . 3- وصحح الطبراني في الكبير بسنده عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى يقرئنا فيجلسنا حلقا وعليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال: هذه أول سورة نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم. 4- وردت آثار في هذا المعنى أيضا في بعضها زيادة تعرفها من رواية الزهري وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بحراء إذ أتى الملك بنمط من ديباج مكتوب فيه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ا. هـ. والنمط بفتح النون والميم هو الثياب والديباج هو الحرير. القول الثاني أن أول ما نزل إطلاقا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} . واستدل أصحاب هذا الرأي بما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وفي رواية نبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . فقال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني جاورت بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي" زاد في رواية: "فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو" - يعني جبريل- زاد في رواية: "جالس على عرش بين السماء والأرض فأخذتني رجفة فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} ". لكن هذه الرواية ليست نصا فيما نحن بسبيله من إثبات أول ما نزل من القرآن إطلاقا بل تحتمل أن تكون حديثا عما نزل بعد فترة الوحي وذلك هو الظاهر من رواية أخرى رواها الشيخان أيضا عن أبي سلمة عن جابر أيضا فبينا أنا أمشي إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثثت حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت: "زملوني فزملوني. فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان اهـ قلت: وجثثت على وزن فرحت معناه ثقل جسمي عن القيام وسببه فزع الرسول وخوفه عليه الصلاة والسلام. فظاهر هذه الرواية يدل على أن جابرا استند في كلامه على أن أول ما نزل من القرآن هو المدثر إلى ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي وكأنه لم يسمع بما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوحي قبل فترته من نزول الملك على الرسول في حراء بصدر سورة اقرأ كما روت عائشة فاقتصر في إخباره على ما سمع ظانا أنه ليس هناك غيره اجتهادا منه غير أنه أخطأ في اجتهاده بشهادة الأدلة السابقة في القول الأول ومعلوم أن النص يقدم على الاجتهاد وأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال فبطل إذا القول الثاني وثبت الأول. القول الثالث: أن أول ما نزل هو سورة الفاتحة. وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما رواه البيهقي في الدلائل بسنده عن ميسرة عمر بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت على نفسي أن يكون هذا أمرا". قالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة. فانطلقا فقصا عليه فقال: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأفق". فقال: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى ما يقول. ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد قل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} ولكن هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج به على أولية ما نزل مطلقا وذلك من وجهين: أحدهما أنه لا يفهم من هذه الرواية أن الفاتحة التي سمعها الرسول كانت في فجر النبوة أول عهده بالوحي الجلي وهو في غار حراء بل يفهم منها أن الفاتحة كانت بعد ذلك العهد وبعد أن أتى الرسول إلى ورقة وبعد أن سمع النداء من خلفه غير مرة وبعد أن أشار عليه ورقة أن يثبت عند هذا النداء حتى يسمع ما يلقى إليه. وليس كلامنا في هذا إنما هو فيما نزل أول مرة. الثاني: أن هذا الحديث مرسل سقط من سنده الصحابي فلا يقوى على معارضة حديث عائشة السابق في بدء الوحي وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فبطل إذا هذا الرأي الثالث وثبت الأول أيضا. بيد أن صاحب الكشاف عزا هذا القول الثالث إلى أكثر المفسرين ولكن ابن حجر فنده فيما ذهب إليه من هذا العزو وصرح بأن هذا القول لم يقل به إلا عدد أقل عن القليل. القول الرابع: أن أول ما نزل هو {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} واستدل قائلوه بما أخرجه الواحدي بسنده عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأول سورة اقْرَأْ. وهذا الاستدلال مردود من ناحيتين أيضا إحداهما أن الحديث مرسل كسابقه فلا يناهض المرفوع. الثانية: أن البسملة كانت بطبيعة الحال تنزل صدرا لكل سورة إلا ما استثني. إذن فهي نازلة مع ما نزل من صدر سورة اقرأ فلا يستقيم اعتبار الأولية في نزولها قولا مستقلا برأسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 آخر ما نزل على الإطلاق اختلف العلماء في تعيين آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق واستند كل منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إلى آثار ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فكان هذا من دواعي الاشتباه وكثرة الخلاف على أقوال شتى: الأول: أن آخر ما نزل قول الله تعالى في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . أخرجه النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس وكذلك أخرج ابن أبي حاتم قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية. وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول. الثاني: أن آخر ما نزل هو قول الله تعالى في سورة البقرة أيضا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . أخرجه البخاري عن ابن عباس والبيهقي عن ابن عمر. الثالث: أن آخر ما نزل آية الدين في سورة البقرة أيضا وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله سبحانه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وهي أطول آية في القرآن. أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين. أخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بما قاله السيوطي رضي الله عنه من أن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف لأنها في قصة واحدة فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر وذلك صحيح. أقول: ولكن النفس تستريح إلى أن آخر هذه الثلاثة نزولا هو قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وذلك لأمرين أحدهما: ما تحمله هذه الآية في طياتها من الإشارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 إلى ختام الوحي والدين, بسبب ما تحث عليه من الاستعداد ليوم المعاد وما تنوه به من الرجوع إلى الله واستيفاء الجزاء العادل من غير غبن ولا ظلم وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة في سياقها. ثانيهما التنصيص في رواية ابن أبي حاتم السابقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها تسع ليال فقط ولم تظفر الآيات الأخرى بنص مثله. الرابع: أن آخر القرآن نزولا قول الله تعالى في سورة آل عمران: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الآية. ودليل هذا القول ما أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} إلى آخرها. وذلك أنها قالت: يا رسول الله. أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء فنزلت {1وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} ونزل {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ2} ونزلت هذه الآية فهي آخر الثلاثة نزولا وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة. ومن السهل رد الاستدلال بهذا الخبر على آخر ما نزل مطلقا وذلك لما يصرح به الخبر نفسه من أن الآية المذكورة آخر الثلاثة نزولا وآخر ما نزل بالإضافة إلى ما ذكر فيه النساء أي فهي آخر مقيد لا مطلق وليس كلامنا فيه. الخامس: أنه آية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} واستدلوا بما أخرجه البخاري وغيره   1 من سورة النساء وتمامها: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} . 2 أي من أولها إلى آخرها وهي في سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 عن ابن عباس. قال: هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. ولا يخفى عليك أن كلمة وما نسخها شيء تشير إلى أن المراد من كونها آخر ما نزل أنها آخر ما نزل في حكم قتل المؤمن عمدا لا آخر ما نزل مطلقا. السادس: أن آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وهي خاتمة سورة النساء وأن آخر سورة نزلت سورة براءة. واستند صاحب هذا الرأي إلى ما يرويه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه قال: آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وآخر سورة نزلت براءة. ويمكن نقض هذا الاستدلال بحمل الخبر المذكور على أن الآية آخر ما نزل في المواريث وأن السورة آخر ما نزل في شأن تشريع القتال والجهاد فكلاهما آخر إضافي لا حقيقي. السابع: أن آخر ما نزل سورة المائدة. واحتج صاحب هذا القول برواية للترمذي والحاكم في ذلك عن عائشة رضي الله عنها. ويمكن رده بأن المراد أنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام فلم تنسخ فيها أحكام وعليه فهي آخر مقيد كذلك. الثامن: أن آخر ما نزل هو خاتمة سورة براءة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر السورة. رواه الحاكم وابن مردويه عن أبي بن كعب. ويمكن نقضه بأنها آخر ما نزل من سورة براءة لا آخر مطلق ويؤيده ما قيل من أن هاتين الآيتين مكيتان بخلاف سائر السورة. ولعل قوله سبحانه: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} الخ يشير إلى ذلك من حيث عدم الأمر فيه بالجهاد عند تولي الأعداء وإعراضهم. التاسع: أن آخر ما نزل هو آخر سورة الكهف: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} أخرجه ابن جرير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عن معاوية بن أبي سفيان. قال ابن كثير: هذا أثر مشكل ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها بل هي مثبتة محكمة اهـ. وهو يفيد أنها آخر مقيد لا مطلق. العاشر: أن آخر ما نزل هو سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} رواه مسلم عن ابن عباس. ولكنك تستطيع أن تحمل هذا الخبر على أن هذه السورة آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيده ما روي من أنه قال حين نزلت: "نعيت إلي نفسي" وكذلك فهم بعض كبار الصحابة. كما ورد أن عمر رضي الله عنه بكى حين سمعها وقال: الكمال دليل الزوال ويحتمل أيضا أنها آخر ما نزل من السور فقط ويدل عليه رواية ابن عباس: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} . تلك أقوال عشرة عرفتها وعرفت توجيهها ورأيت أن الذي تستريح إليه النفس منها هو أن آخر القرآن نزولا على الإطلاق قول الله في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وأن ما سواها أواخر إضافية أو مقيدة بما علمت لكن القاضي أبا بكر في الانتصار يذهب مذهبا آخر إذ يقول: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكل قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو اهـ وكأنه يشير إلى الجمع بين تلك الأقوال المتشعبة بأنها أواخر مقيدة بما سمع كل منهم من النبي صلى الله عليه وسلم وهي طريقة مريحة غير أنها لا تلقي ضوءا على ما عسى أن يكون قد اختتم الله به كتابه الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 مثلان من أوائل وأواخر مخصوصة نضع بين يديك هنا مثلين من أوائل وأواخر مخصوصة ببعض الأحكام الشرعية لنلحظ فيهما سير التشريع الإسلامي وتدرجه الحكيم. 1- ما نزل في الخمر روى الطيالسي في مسنده عن ابن عمر قال: نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية1 فقيل: حرمت الخمر فقالوا: يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم. ثم نزلت هذه الآية2 {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقيل حرمت الخمر قالوا: يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم. ثم نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} 3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر". 2- ما نزل في أمر الجهاد والدفاع لم يشرع الجهاد دفاعا في صدر الإسلام على الرغم من أن الأذى كان يصب على المسلمين من أعدائهم صبا. بل كان الله يأمر بالعفو والصفح ومن ذلك قوله   1 وهي في سورة البقرة وتتمتها: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . 2 وهي من سورة النساء وكمالها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . 3 والآية وما يليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وهي من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 سبحانه في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فكانت أمرا صريحا لهم بالعفو والصفح حتى يأتي الله بأمره فيهم من القتال ويتضمن ذلك النهي عن القتال حتى يأتي أمر الله. ثم شرع القتال دفاعا في السنة الثانية من الهجرة بقوله تعالى في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . ثم حض الله عليه حضا شديدا في آخر الأمر فنزلت سورة براءة وهي من آخر ما نزل من القرآن. وفيها قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وقوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . شبهة في هذا المقام بقي أن ندحض شبهة أثيرت حول تعيين آخر ما نزل من القرآن. قالوا: لماذا لا تكون آية المائدة آخر ما نزل من القرآن؟ وهي قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} . مع أنها صريحة في أنها إعلام بإكمال الله لدينه في ذلك اليوم المشهود الذي نزلت فيه وهو يوم عرفة في حجة الوداع بالسنة العاشرة من الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 والظاهر أن إكمال دينه لا يكون إلا بإكمال نزول القرآن وإتمام جميع الفرائض والأحكام. والجواب: أن هناك قرآنا نزل بعد هذه الآية حتى بأكثر من شهرين ولعلك لم تنس أن آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} كانت آخر الآيات نزولا على الإطلاق وأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال فقط. وتلك قرينة تمنعنا أن نفهم إكمال نزول القرآن من إكمال الدين في آية المائدة المذكورة. والأقرب أن يكون معنى إكمال الدين فيها يومئذ هو إنجاحه وإقراره وإظهاره على الدين كله ولو كره الكافرون. ولا ريب أن الإسلام في حجة الوداع كان قد ظهرت شوكته وعلت كلمته وأديل له على الشرك وحزبه والكفر وجنده والنفاق وحسراته حتى لقد أجلي المشركون عن البلد الحرام ولم يخالطوا المسلمين في الحج والإحرام. قال ابن جرير في تفسير الآية المذكورة: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون لا يخالطهم المشركون وأيد هذا التأويل بما رواه عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا فلما نزلت سورة براءة نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين فكان ذلك من تمام النعمة {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} . نسأل الله أن يتم علينا نعمته آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ملاحظة لعلك بعد تحقيق أول ما نزل وآخره تستطيع أن تستدرك على ما أسلفناه في المبحث الثالث تقديرا لمدة نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ناقلين إياه عن بعض محققي تاريخ التشريع الإسلامي. ذلك أنه اعتبر يوم التاسع من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة هو آخر أيام النزول وكأنه اعتمد على ما فهمه في قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية من أنه إكمال للدين بإكمال نزول القرآن. لكنك قد علمت ما فيه. فلتضف أنت إلى تلك المدة التي ذكرها اثنين وسبعين يوما هي عدة الفرق بين التسعة والواحد والثمانين يوما إذ أن آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وثمانين يوما كما روي وآية {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} عاش صلى الله عليه وسلم بعدها تسعة فقط كما عرفت. أما مبدأ نزول الوحي بالقرآن فمعلوم أنه كان في اليوم الذي هبط فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بغار حراء بصدر سورة اقرأ. وقد قالوا: إنه يوافق السابع عشر من رمضان واعتمدوا في ذلك على قوله سبحانه في سورة الأنفال: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} . فجعل يوم الفرقان هو يوم التقاء الجمعين في غزوة بدر. وكان يوافق السابع عشر من رمضان على ما ذكره بعض أصحاب المغازي والسير. ولا ريب أن هذا احتمال في الآية مقبول ولكن هذا الاحتمال لا يكفي في مثل هذا المقام لأنه احتمال مرجوح وظاهر الأدلة على خلافه. ذلك لأن السنة الصحيحة جاء فيها ما يفيد صراحة أن أرجى ما تكون ليلة القدر التي نزل فيها القرآن في الوتر في العشر الأخير من رمضان. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء. بل ثبت من طريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 صحيح يرويه البخاري أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في سابعة تبقى في تاسعة تبقى" أي اطلبوا ليلة القدر ليلة الحادي والعشرين أو ليلة الثالث والعشرين من ذلك الشهر. وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. ولا جدال في أن هذه نصوص تنافي أن تكون ليلة القدر ليلة السابع عشر من رمضان. ثم إن هذه الآية التي استدل بها هؤلاء ليست نصا صريحا في أن المراد بما أنزله الله على عبده يوم الفرقان هو ما أنزله على نبيه ليلة القدر من القرآن. بل الظاهر أن قوله سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} معناه وما أنزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي والملائكة والفتح في ذاك اليوم المشهود الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر في أول موقعة تاريخية انتصف فيها الإسلام من أعدائه وقام للمسلمين بسببها شوكة ودولة وسلطان. وهي غزوة بدر الكبرى. وإلى هذا الرأي جنح أكثر المفسرين. ويؤيده سياق النظم القرآني الكريم فإن الآية نزلت لتروض قلوب المسلمين على الرضا بما شرع الله في قسمة الغنائم وليقطعوا أطماعهم من الخمس الذي قضى الله أن يكون له لا لهم, وليقنعوا بعد ذلك بالأربعة الأخماس الباقية فإن الفضل في هذه الغنائم إنما هو لله قبلهم هو الذي أنزل في هذا اليوم ما أنزل من هدايات وبشائر ثبتت قلوبهم. وهو الذي أنزل مددا من لدنه ملائكة مقربين كثيرين وهو الذي سخر سائر أسباب الانتصار المعروفة في هذه المعركة العظيمة. وإذا كان الفضل يرجع إلى الله في هذا الانتصار فأطيعوا أيها المسلمون أمره في قسمة الغنائم المتخلفة عنه. {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المبحث الخامس: في أسباب النزول مدخل ... المبحث الخامس: في أسباب النزول القرآن الكريم قسمان: قسم نزل من الله ابتداء غير مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة إنما هو لمحض هداية الخلق إلى الحق. وهو كثير ظاهر لا يحتاج إلى بحث ولا بيان. وقسم نزل مرتبطا بسبب من الأسباب الخاصة. وهو موضوع بحثنا الآن. غير أنا لا نريد أن نستعرض جميع الآيات التي جاءت على أسباب فذلك شأو بعيد. وقد انتدب له جماعة أفردوه بالتأليف منهم علي بن المديني شيخ البخاري ومنهم الواحدي والجعبري وابن حجر ومنهم السيوطي الذي وضع فيه كتابا حافلا محررا سماه لباب النقول في أسباب النزول. إنما غرضنا في هذا المبحث أن يحيطك علما بأسباب النزول من أطرافه الأحد عشر وهي معنى سبب النزول وفوائد معرفة أسباب النزول وطريق هذه المعرفة والتعبيرات عن سبب النزول وحكم تعدد الأسباب والنازل واحد وتعدد النازل والسبب واحد والعموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه وتحقيق الخلاف في عموم اللفظ وخصوص سببه وأدلة الجمهور في ذلك وشبهات المخالفين وتفنيدها وشبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 معنى سبب النزول سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أن مبينة لحكمه أيام وقوعه. والمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو سؤال وجه إليه فنزلت الآية أو الآيات من الله تعالى ببيان ما يتصل بتلك الحادثة أو بجواب هذا السؤال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 سواء أكانت تلك الحادثة خصومة دبت كالخلاف الذي شجر بين جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج بدسيسة من أعداء الله اليهود حتى تنادوا: السلاح السلاح ونزل بسببه تلك الآيات الحكيمة في سورة آل عمران من أول قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} إلى آيات أخرى بعدها هي من أروع ما ينفر من الانقسام والشقاق ويرغب في المحبة والوحدة والاتفاق. أم كانت تلك الحادثة خطأ فاحشا ارتكب كذلك السكران الذي أم الناس في صلاته وهو في نشوته ثم قرأ السورة بعد الفاتحة فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} "أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" وحذف لفظ "لا" من {لا أَعْبُدُ} فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} في سورة النساء. أم كانت تلك الحادثة تمنيا من التمنيات ورغبة من الرغبات كموافقات عمر رضي الله عنه التي أفردها بعضهم بالتأليف. ومن أمثلتها ما أخرجه البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقلت يا رسول الله: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب1. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيراً منكن" فنزلت كذلك اهـ. وهذه في سورة التحريم.   1 وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} من سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وسواء أكان ذلك السؤال المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتصل بأمر مضى نحو قوله سبحانه في سورة الكهف: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} الخ. أم يتصل بحاضر نحو قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} أم يتصل بمستقبل نحو قوله جل ذكره في سورة النازعات: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} الخ. والمراد بقولنا أيام وقوعه الظروف التي ينزل القرآن فيها متحدثا عن ذلك السبب سواء أوقع هذا النزول عقب سببه مباشرة أم تأخر عنه مدة لحكمة من الحكم كما حدث ذلك حين سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين. فقال: صلى الله عليه وسلم "غدا أخبركم" ولم يستثن أي لم يقل إلا أن شاء الله فأبطأ عليه الوحي خمسة عشر يوما على ما رواه ابن إسحاق وقيل ثلاثة أيام وقيل أربعين يوما حتى شق عليه ذلك. ثم نزلت أجوبة تلك المقترحات وفي طيها يرشد الله تعالى رسوله إلى أدب الاستثناء بالمشيئة ويقول له في سورة الكهف: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} . ثم إن كلمة أيام وقوعه في تعريف سبب النزول قيد لا بد منه للاحتراز عن الآية أو الآيات التي تنزل ابتداء من غير سبب بينما هي تتحدث عن بعض الوقائع والأحوال الماضية أو المستقبلة كبعض قصص الأنبياء السابقين وأممهم وكالحديث عن الساعة وما يتصل بها وهو كثير في القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 2- فوائد معرفة أسباب النزول زعم بعض الناس أنه لا فائدة للإلمام بأسباب النزول وأنها لا تعدو أن تكون تاريخا للنزول أو جارية مجرى التاريخ وقد أخطأ فيما زعم فإن لأسباب النزول فوائد متعددة لا فائدة واحدة: الأولى: معرفة حكمة الله تعالى على التعيين فيما شرعه بالتنزيل وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيمانا على إيمانه ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام ومن أجلها جاء هذا التنزيل. وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفا حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان لا على الاستبداد والتحكم والطغيان خصوصا إذا لاحظ سير ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد. وحسبك شاهدا على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه وقد مر بك في البحث السابق فلا نعيده ولا تغفل. الفائدة الثانية: الاستعانة على فهم الآية ودفع الإشكال عنها. حتى لقد قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالمسبب يورث العلم بالسبب اهـ. ولنبين لك ذلك بأمثلة ثلاثة: الأول قال الله تعالى في سورة البقرة: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فهذا اللفظ الكريم يدل بظاهره على أن للإنسان أن يصلي إلى أية جهة شاء ولا يجب عليه أن يولي وجهه شطر البيت الحرام لا في سفر ولا حضر. لكن إذا علم أن هذه الآية نازلة في نافلة السفر خاصة أو فيمن صلى باجتهاده ثم بان له خطؤه تبين له أن الظاهر غير مراد إنما المراد التخفيف على خصوص المسافر في صلاة النافلة أو على المجتهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 في القبلة إذا صلى وتبين له خطؤه. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وقيل: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل في الآية غير ذلك ولكن ما ذكرناه يكفيك. المثال الثاني: روي في الصحيح أن مروان بن الحكم أشكل عليه معنى قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من سورة آل عمران. وقال: لئن كان كل امرىء فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. وبقي في إشكاله هذا حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه أي طلبوا منه أن يحمدهم على ما فعلوا. وهنالك زال الإشكال عنه وفهم مراد الله من كلامه هذا ووعيده. المثال الثالث أشكل على عروة بن الزبير رضي الله عنه أن يفهم فرضية السعي بين الصفا والمروة مع قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . وإشكاله نشأ من أن الآية الكريمة نفت الجناح ونفي الجناح لا يتفق والفرضية في رأيه وبقي في إشكاله هذا حتى سأل خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فأفهمته أن نفي الجناح هنا ليس نفيا للفرضية إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين يومئذ من أن السعي بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية نظرا إلى أن الصفا كان عليه صنم يقال له: إساف وكان على المروة صنم يقال له: نائلة. وكان المشركون إذا سعوا بينهما تمسحوا بهما. فلما ظهر الإسلام وكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت الآية. كذلك جاءت بعض الروايات. لكن جاء في رواية صحيح البخاري ما نصه: فقال أي عروة لها أي لعائشة أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} : فو الله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئسما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه ألا يطوف بهما ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قالت عائشة وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما انتهى ما أردنا نقله. ومعنى يهلون: يحجون. ومناة الطاغية: اسم صنم وكان صخرة نصبها عمرو بن لحي بجهة البحر فكانوا يعبدونها. والمشلل بضم الميم واللام الأولى مشددة مفتوحة: اسم موضع قريب من قديد من جهة البحر. وقديد بضم القاف: قرية بين مكة والمدينة. وكلمة سن معناها في هذا الحديث شرع أو فرض بدليل من السنة لا من الكتاب. وهذه الرواية كما ترى تدل على أن عروة فهم من جملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أن الجناح منفي أيضا عن عدم الطواف بهما وعلى ذلك تنتفي الفرضية وكأنه اعتمد في فهمه هذا على أن نفي الجناح أكثر ما يستعمل في الأمر المباح. أما عائشة رضي الله عنها فقد فهمت أن فرضية السعي بين الصفا والمروة مستفادة من السنة وأن جملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 لا تنافي تلك الفرضية كما فهم عروة إنما الذي ينفيها أن يقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وإنما توجه نفي الحرج في الآية عن الطواف بين الصفا والمروة لأن هذا الحرج هو الذي كان واقرا في أذهان الأنصار كما يدل عليه سبب نزول الآية الذي ذكرته السيدة عائشة فتدبر. الفائدة الثالثة: دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر نحو قوله سبحانه في سورة الأنعام: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} . ذهب الشافعي إلى أن الحصر في هذه الآية غير مقصود واستعان على دفع توهمه بأنها نزلت بسبب أولئك الكفار الذين أبوا إلا أن يحرموا ما أحل الله ويحلوا ما حرم الله عنادا منهم ومحادة لله ورسوله فنزلت الآية بهذا الحصر الصوري مشاد لهم ومحادة من الله ورسوله لا قصدا إلى حقيقة الحصر. نقل السبكي عن الشافعي أنه قال ما معناه: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم. فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه. نازلا منزلة من يقول لك: لا تأكل اليوم حلاوة فتقول لا آكل اليوم إلا حلاوة والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ولم يقصد حل ما وراءه إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل اهـ. قال إمام الحرمين: وهذا في غاية الحسن ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية اهـ. الفائدة الرابعة: تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. فآيات الظهار في مفتتح سورة المجادلة- وقد تقدمت- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 سببها أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت حكيم بن ثعلبة والحكم الذي تضمنته هذه الآيات خاص بهما وحدهما على هذا الرأي أما غيرهما فيعلم بدليل آخر قياسا أو سواه. وبدهي أنه لا يمكن معرفة المقصود بهذا الحكم ولا القياس عليه إلا إذا علم السبب وبدون معرفة السبب تصير الآية معطلة خالية من الفائدة. الفائدة الخامسة: معرفة أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية إذا ورد مخصص لها. وذلك لقيام الإجماع على أن حكم السبب باق قطعا. فيكون التخصيص قاصرا على ما سواه. فلو لم يعرف سبب النزول لجاز أن يفهم أنه مما خرج بالتخصيص مع أنه لا يجوز إخراجه قطعا للإجماع المذكور. ولهذا يقول الغزالي في المستصفى: ولذلك يشير إلى امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد غلط أبو حنيفة رحمه الله في إخراج الأمة المستفرشة من قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش". والخبر إنما ورد في وليدة زمعة إذ قال عبد بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. فقال عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فأثبت للأمة فراشا وأبو حنيفة لم يبلغه السبب فأخرج الأمة من العموم اهـ. الفائدة السادسة: معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء ويبرأ المريب مثلا. ولهذا ردت عائشة على مروان حين اتهم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر بأنه الذي نزلت فيه آية {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الخ من سورة الأحقاف. وقالت: والله ما هو به ولو شئت أن أسميه لسميته إلى آخر تلك القصة. الفائدة السابعة: تيسير الحفظ وتسهيل الفهم وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها. وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات والأحكام بالحوادث والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة. كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرر في علم النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 3- طريق معرفة سبب النزول لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح روى الواحدي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الحديث إلا ما علمتم فإنه من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار". ومن هنا لا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها. اهـ. وعلى هذا فإن روي سبب النزول عن صحابي فهو مقبول وإن لم يعتضد أي لم يعزز برواية أخرى تقويه. وذلك لأن قول الصحابي فيما لا مجال للاجتهاد فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يبعد كل البعد أن يكون الصحابي قد قال ذلك من تلقاء نفسه على حين أنه خبر لا مرد له إلا السماع والنقل أو المشاهدة والرؤية. أما إذا روي سبب النزول بحديث مرسل أي سقط من سنده الصحابي وانتهى إلى التابعي فحكمه أنه لا يقبل إلا إذا صح واعتضد بمرسل آخر وكان الراوي له من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 4- التعبير عن سبب النزول تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النزول. فتارة يصرح فيها بلفظ السبب فيقال: سبب نزول الآية كذا وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وتارة لا يصرح بلفظ السبب ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادة نزول الآية عقب سرد حادثة وهذه العبارة مثل تلك في الدلالة على السببية أيضا. ومثاله رواية جابر الآتية قريبا. ومرة يسأل الرسول فيوحى إليه ويجيب بما نزل عليه ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول ولا تعبير بتلك الفاء ولكن السببية تفهم قطعا من المقام كرواية ابن مسعود الآتية عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح. وحكم هذه أيضا حكم ما هو نص في السببية. ومرة أخرى لا يصرح بلفظ السبب ولا يؤتى بتلك الفاء ولا بذلك الجواب المبني على السؤال بل يقال: نزلت هذه الآية في كذا مثلا. وهذه العبارة ليست نصا في السببية بل تحتملها وتحتمل أمرا آخر هو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام. والقرائن وحدها هي التي تعين أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه. ومن هنا نعلم أنه إذا وردت عبارتان في موضوع واحد إحداهما نص في السببية لنزول آية أو آيات والثانية ليست نصا في السببية لنزول تلك الآية أو الآيات هنالك نأخذ في السببية بما هو نص ونحمل الأخرى على أنها بيان لمدلول الآية لأن النص أقوى في الدلالة من المحتمل. مثال ذلك: ما أخرجه مسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} من سورة البقرة. وما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: أنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} في إتيان النساء في أدبارهن. فالمعول عليه في بيان السبب هو رواية جابر الأولى لأنها صريحة في الدلالة على السبب. وأما رواية ابن عمر فتحمل على أنها بيان لحكم إتيان النساء في أدبارهن وهو التحريم. استنباطا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات ليس شيء منها نصا كأن يقول بعض المفسرين نزلت هذه الآية في كذا. ويقول الآخر: نزلت في كذا ثم يذكر شيئا آخر غير ما ذكره الأول وكان اللفظ يتناولهما ولا قرينة تصرف إحداهما إلى السببية فإن الروايتين كلتيهما تحملان على بيان ما يتناوله من المدلولات. ولا وجه لحملهما على السبب. وأما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات كلها نص في السببية فهنا يتشعب الكلام. ولنفرده بعنوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 5- تعدد الأسباب والنازل واحد إذا جاءت روايتان في نازل واحد من القرآن وذكرت كل من الروايتين سببا صريحا غير ما تذكره الأخرى نظر فيهما. فإما أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى غير صحيحة. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولكن لإحداهما مرجح دون الأخرى. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ولكن يمكن الأخذ بهما معا. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح ولا يمكن الأخذ بهما معا. فتلك صور أربع لكل منها حكم خاص نسوقه إليك: أما الصورة الأولى- وهي ما صحت فيه إحدى الروايتين دون الأخرى فحكمها الاعتماد على الصحيحة في بيان السبب. ورد الأخرى غير الصحيحة. مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها وكانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جروا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال: "يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني" فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد1 لحيته وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فأنزل الله: {وَالضُّحَى} إلى قوله {فَتَرْضَى} . فنحن بين هاتين الروايتين نقدم الرواية الأولى في بيان السبب لصحتها دون الثانية لأن في إسنادها من لا يعرف. قال ابن حجر: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية غريب وفي إسناده من لا يعرف فالمعتمد ما في الصحيح اهـ. وأما الصورة الثانية- وهي صحة الروايتين كلتيها ولإحداهما مرجح- فحكمها أن نأخذ في بيان السبب بالراجحة دون المرجوحة. والمرجح أن تكون إحداهما أصح من الأخرى أو أن يكون راوي إحداهما مشاهدا للقصة دون راوي الأخرى. مثال ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وهو يتوكأ على عسيب. فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح. فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} . وما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل. فقالوا: اسألوه عن الروح فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية.   1 قال في القاموس: وقد رعد كنصر ومنع. وقال هامش القاموس: وقد استعمل رعد ثلاثيا أيضا مجهولا دائما, كجن. قالوا: رعد أي اصابته رعدة. قاله الخفاجي في شرح الشفاء اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فهذا الخبر الثاني يدل على أنها بمكة وأن سبب نزولها سؤال قريش إياه. أما الأول فصريح في أنها نزلت بالمدينة بسبب سؤال اليهود إياه وهو أرجح من وجهين: أحدهما أنه رواية البخاري أما الثاني فإنه رواية الترمذي ومن المقرر أن ما رواه البخاري أصح مما رواه غيره. ثانيهما أن راوي الخبر الأول وهو ابن مسعود كان مشاهد القصة من أولها إلى آخرها كما تدل على ذلك الرواية الأولى بخلاف الخبر الثاني فإن رواية ابن عباس لا تدل الرواية على أنه كان حاضر القصة ولا ريب أن للمشاهدة قوة في التحمل وفي الأداء وفي الاستيثاق ليست لغير المشاهدة ومن هنا أعملنا الرواية الأولى وأهملنا الثانية. وأما الصورة الثالثة- وهي ما استوت في الروايتان في الصحة ولا مرجح لإحداهما لكن يمكن الجمع بينهما بأن كلا من السببين حصل ونزلت الآية عقب حصولهما معا لتقارب زمنيهما فحكم هذه الصورة أن نحمل الأمر على تعدد السبب لأنه الظاهر ولا مانع يمنعه. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب. مثال ذلك: ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك". فقال يا رسول الله إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة. وفي رواية أنه قال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} حتى بلغ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} اهـ وهذه الآيات من سورة النور. وأخرج الشيخان واللفظ للبخاري عن سهل بن سعد أن عويمرا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله وفي رواية مسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فجاءه عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبك". فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها اهـ. فهاتان الروايتان صحيحتان ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ومن السهل أن نأخذ بكلتيهما لقرب زمانيهما على اعتبار أن أول من سأل هو هلال بن أمية ثم قفاه عويمر قبل إجابته فسأل بواسطة عاصم مرة وبنفسه مرة أخرى فأنزل الله الآية إجابة للحادثين معا. ولا ريب أن إعمال الروايتين بهذا الجمع أولى من إعمال إحداهما وإهمال الأخرى إذ لا مانع يمنع الأخذ بهما على ذلك الوجه. ثم لا جائز أن نردهما معا لأنهما صحيحتان ولا تعارض بينهما. ولا جائز أيضا أن نأخذ بواحدة ونرد الأخرى لأن ذلك ترجيح بلا مرجح. فتعين المصير إلى أن نأخذ بهما معا. وإليه جنح النووي وسبقه إليه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد اهـ. ويمكن أن يفهم من الرواية الثانية أن آيات الملاعنة نزلت في هلال أولا ثم جاء عويمر فأفتاه الرسول بالآيات التي نزلت في هلال. قال ابن الصباغ: قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعويمر: "إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك" فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس. وأما الصورة الرابعة- وهي استواء الروايتين في الصحة دون مرجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 لإحداهما ودون إمكان للأخذ بهما معا لبعد الزمان بين الأسباب فحكمها أن تحمل الأمر على تكرار نزول الآية بعدد أسباب النزول التي تحدثت عنها هاتان الروايتان أو تلك الروايات لأنه إعمال لكل رواية ولا مانع منه. قال الزركشي في البرهان: وقد ينزل الشيء تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه اهـ. مثال ذلك ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: "لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة وهن ثلاث آيات. وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب قال" لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا به فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين أي لنزيدن عليهم. فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية. فالرواية الأولى تفيد أن الآية نزلت في غزوة أحد والثانية تفيد أنها نزلت يوم فتح مكة على حين أن بين غزوة أحد وغزوة الفتح الأعظم بضع سنين فبعد أن يكون نزول الآية كان مرة عقيبهما معا. وإذن لا مناص لنا من القول بتعدد نزولها مرة في أحد ومرة يوم الفتح. وقد ذهب البعض إلى أن سورة النحل كلها مكية. وعليه فتكون خواتيمها المذكورة نزلت مرة بمكة قبل هاتين المرتين اللتين في المدينة وتكون عدة مرات نزولها ثلاثا. وبعضهم يقول إن سورة النحل مكية ما عدا خواتيمها تلك فإنها مدنية وعليه فعدة مرات نزولها اثنتان فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 شبهة وجوابها وإذا استشكل على تكرار النزول بأنه عبث ما دامت الآية قد نزلت قبل ذلك السبب الجديد وحفظها الرسول صلى الله عليه وسلم واستظهرها الحفاظ من الصحابة ويمكن الرجوع إليها من غير حاجة إلى نزولها مرة أخرى. فالجواب أن هناك حكمة عالية في هذا التكرار وهي تنبيه الله لعباده ولفت نظرهم إلى ما في طي تلك الآيات المكررة من الوصايا النافعة والفوائد الجمة التي هم في أشد الحاجة إليها. فخواتيم سورة النحل التي معنا مثلا نلاحظ أن الحكمة في تكرارها هي تنبيه الله لعباده أن يحرصوا على العمل بما احتوته من الإرشادات السامية في تحري العدالة وضبط النفس عند الغضب ومراقبة الخالق حتى في القصاص من الخلق والتدرع بالصبر والثبات. والاعتماد على الله والثقة بتأييده ونصره لكل من اتقاه وأحسن في عمله جعلنا الله منهم أجمعين آمين. أضف إلى هذه الحكمة ما ذكره الزركشي آنفا من أن تكرار النزول تعظيم لشأن المكرر وتذكير به خوف نسيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 6- تعدد النازل والسبب واحد قد يكون أمر واحد سببا لنزول آيتين أو آيات متعددة على عكس ما سبق ولا مانع من ذلك لأنه لا ينافي الحكمة في إقناع الناس وهداية الخلق وبيان الحق عند الحاجة بل إنه قد يكون أبلغ في الإقناع وأظهر في البيان. مثال السبب الواحد تنزل فيه آيتان ما أخرجه ابن جرير الطبري والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه". فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك؟ " فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عنهم. فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} من سورة التوبة. وأخرج الحاكم وأحمد هذا الحديث بهذا اللفظ وقالا: فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} من سورة المجادلة اهـ. ومثال السبب الواحد ينزل فيه أكثر من آيتين ما أخرجه الحاكم والترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} من سورة آل عمران اهـ. وأخرج الحاكم أيضا عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله: تذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ1} وأنزلت {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى2} .   1 من سورة الأحزاب وتمامها: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . 2 وهي من آية آل عمران السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وأخرج الحاكم أيضا أنها قالت تغزو الرجال ولا تغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث. فأنزل الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1 وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 2.   1 من سورة النساء وتمامها قد تقدم. 2 من سورة الأحزاب، وتمامها قد تقدم أيضا قريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 7- العموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه هذا مبحث أفرده الأصوليون بالكلام لأن مهمتهم الاستدلال بألفاظ الشارع على الأحكام ونحن نلخص لك هنا ما يسمح به المقام لمناسبة أسباب النزول وما ينزل فيها مما يوافقها أو لا يوافقها في العموم والخصوص فنقول: اعلم أن لفظ الشارع الوارد جوابا لسؤال أو سبب قد يكون مستقلا أو مفيدا وحده بقطع النظر عن السبب أو السؤال الوارد فيه. وقد يكون غير مستقل بمعنى أنه لا يفيد إلا إذا لوحظ معه السبب أو السؤال. ولكل من هذين النوعين حكمة: فأما الجواب الذي ليس بمستقل: فحكمه أنه يساوي السؤال في عمومه باتفاق الأصوليين ويساويه أيضا في خصوصه على الرأي السائد عندهم. فلو قال سائل: هل يجوز الوضوء بماء البحر فأجيب بلفظ بنعم أو لفظ يجوز كان المعنى: يجوز الوضوء بماء البحر لكل من أراد من الناس لا لخصوص هذا السائل وذلك لأن السؤال استفهام عن الجواز مطلقا من غير اعتبار خصوص المتكلم فكذلك جوابه لأنه غير مستقل. ولو قال السائل: توضأت بماء البحر فأجيب بلفظ يجزئك كان معناه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أن الوضوء بماء البحر يجزئ السائل وحده لأن السؤال خاص بالمتكلم فكذلك جوابه غير المستقل. أما غير المتكلم فلا يعلم حكمه من هذا الجواب بل يعلم من دليل آخر كالقياس أو كقوله صلى الله عليه وسلم: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". ذلك كله في الجواب غير المستقل. وأما الجواب المستقل: فتارة يكون مثل السبب في أن كلا منهما عام أو خاص. وحكمه إذن أنه يساويه. فاللفظ العام يتناول كل أفراد سببه العام في الحكم واللفظ الخاص مقصور على شخص سببه الخاص في الحكم. وهذا محل اتفاق بين العلماء لمكان التكافؤ والتساوي بين السبب وما نزل فيه. وأمثلة الأول- وهو العام فيهما- كثيرة. منها الآيات النازلة في غزوة بدر والآيات النازلة في غزوة أحد من سورة آل عمران. ومثال الثاني- وهو الخاص فيهما- قوله سبحانه في سورة الليل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} . قال الجلال المحلي: هذا نزل في الصديق رضي الله عنه لما اشترى بلالا المعذب على إيمانه وأعتقه. فقال للكفار: إنما فعل ذلك ليد كانت له عنده فنزلت: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} . واعلم أن هذا التمثيل لا يستقيم إلا على اعتبار أن أل في لفظ {الْأَتْقَى} للعهد والمعهود هو الصديق رضي الله عنه. وتارة يأتي الجواب المستقل غير متكافئ مع السبب في عمومه وخصوصه. وتحت ذلك صورتان: إحداهما عقلية محضة غير واقعة وهي أن يكون السبب عاما واللفظ خاصا. وإنما كانت عقلية محضة وفرضية غير واقعة لأن حكمة الشارع تجل عن أن تأتي بجواب قاصر لا يتناول جميع أفراد السبب. أضف إلى ذلك أنه يخل ببلاغة القرآن القائمة على رعاية مقتضيات الأحوال. وهل يعقل أن يسأل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 سائل فيقول مثلا؟ هل يجوز لجماعة المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم ويقاتلوا من قاتلهم فيأتي الجواب قائلا: لك أنت أن تدافع عن نفسك وتقاتل من قاتلك. الصورة الثانية هي عموم اللفظ وخصوص سببه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 8- عموم اللفظ وخصوص سببه ومعناه أن يأتي الجواب أعم من السبب ويكون السبب أخص من لفظ الجواب. وذلك جائز عقلا وواقع فعلا لأنه لا محظور فيه ولا قصور بل إن عمومه مع خصوص سببه موف بالغاية ومؤد للمقصود وزيادة. بيد أن العلماء اختلفوا في حكمه أعموم اللفظ هو المعتبر أم خصوص السبب؟. ذهب الجمهور إلى أن الحكم يتناول كل أفراد اللفظ سواء منها أفراد السبب وغير أفراد السبب. ولنضرب لك مثلا: حادثة قذف هلال بن أمية لزوجته وقد نزل فيها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الخ نلاحظ فيها أن السبب خاص وهو قذف هلال هذا لكن جاءت الآية النازلة فيه بلفظ عام -كما ترى- وهو لفظ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} . وهو اسم موصول والموصول من صيغ العموم وقد جاء الحكم بالملاعنة في الآية محمولا عليه من غير تخصيص. فيتناول بعمومه أفراد القاذفين في أزواجهم ولم يجدوا شهداء إلا أنفسهم سواء منهم هلال بن أمية صاحب السبب وغيره ولا نحتاج في سحب هذا الحكم على غير هلال إلى دليل من قياس أو سواه بل هو ثابت بعموم هذا النص. ومعلوم أنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص. ذلك مذهب الجمهور. وقال غير الجمهور: إن العبرة بخصوص السبب. ومعنى هذا أن لفظ الآية يكون مقصورا على الحادثة التي نزل هو لأجلها أما أشباهها فلا يعلم حكمها من نص الآية إنما يعلم بدليل مستأنف آخر هو القياس إذا استوفى شروطه أو قوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". فآية القذف السابقة النازلة بسبب حادثة هلال مع زوجه خاصة بهذه الحادثة وحدها على هذا الرأي. أما حكم غيرها مما يشبهها فإنما يعرف قياسا عليها أو عملا بالحديث المذكور. ويجب أن نلاحظ أن هذا الخلاف القائم بين الجمهور وغيرهم محله إذا لم تقم قرينة على تخصيص لفظ الآية العام بسبب نزوله أما إذا قامت تلك القرينة فإن الحكم يكون مقصورا على سببه لا محالة بإجماع العلماء. كما يجب أن نلاحظ أيضا أن حكم النص العام الوارد على سبب يتعدى عند هؤلاء وهؤلاء إلى أفراد غير السبب. بيد أن الجمهور يقولون إنه يتناولهم بهذا النص نفسه وغير الجمهور يقولون إنه لا يتناولهم إلا قياسا أو بنص آخر كالحديث المعروف: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة. وإلى هذا المعنى يشير ابن تيمية بقوله: قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا كقولهم: إن الآية الظهار نزلت في امرأة قيس بن ثابت وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله وإن آية قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نزلت في بني قريظة والنضير ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من اليهود والنصارى أو في قوم من المؤمنين. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه؟ لم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين. وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ولعل ثمرة هذا الخلاف ترجع إلى أمرين: أحدهما أن الحكم على أفراد غير السبب مدلول عليه بالنص النازل فيه عند الجمهور. وذلك النص قطعي المتن اتفاقا وقد يكون مع ذلك قطعي الدلالة. أما غير الجمهور فالحكم عندهم على غير أفراد السبب ليس مدللا عليه بذلك النص بل القياس أو الحديث المعروف وكلاهما غير قطعي. الثاني أن أفراد غير السبب كلها يتناولها الحكم عند الجمهور ما دام اللفظ قد تناولها. أما غير الجمهور فلا يسحبون الحكم إلا على ما استوفى شروط القياس منها دون سواه إن أخذوا فيه بالقياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 د - أدلة الجمهور استدل الجمهور على مذهبهم بأدلة ثلاثة: الأول أننا نعلم أن لفظ الشارع وحده هو الحجة والدليل دون ما احتف به من سؤال أو سبب فلا وجه إذن لأن تخصص اللفظ بالسبب. وكيف يسوغ أن نجعل ما ليس حجة في الشرع متحكما بالتخصيص على ما هو الحجة في الشرع؟ والدليل على أن لفظ الشارع وحده هو الحجة أن الشارع قد يصرف النظر عن السؤال ويعدل بالجواب عن سنن السؤال لحكمة نحو قوله تعالى في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فإن ظاهر هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيان ما ينفقونه فجاء الجواب ببيان من ينفقون عليهم. وذلك من أسلوب الحكيم لأن معرفة مصارف النفقة والصدقة أهم من معرفة المصروف فيهما فإن إصلاح الجماعة البشرية لا يكون إلا عن طريق تنظيم النفقة والإحسان على أساس توجيههما إلى المستحقين دون سواهم. وهذا وجه في الآية نراه وجيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وإن كانت الآية قد أشارت إشارة خفيفة إلى بيان ما ينفقونه بقوله سبحانه {مِنْ خَيْرٍ} غير أنها إشارة إجمالية لا تشبع حاجة السؤال. ويمكن أن تنظم من هذا دليلا منطقيا من باب القياس الاقتراني تقريره هكذا اللفظ العام الوارد على سبب خاص هو الحجة وحده عند الشارع وكل ما كان كذلك يعتبر عمومه فاللفظ العام الوارد على سبب خاص يعتبر عمومه. وهو المطلوب. كما يمكن أن تنظم منه قياسا استثنائيا تقريره: لو لم يكن اللفظ العام الوارد على سبب خاص معتبرا عمومه لما كان لفظ الشارع وحده هو الحجة لكن التالي باطل فبطل ما أدى إليه وهو المقدم وثبت نقيضه وهو أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص يعتبر عمومه وهذا هو المطلوب. الدليل الثاني: أن الأصل هو حمل الألفاظ على معانيها المتبادرة منها عند الإطلاق أي عند عدم وجود صارف يصرف عن ذلك المتبادر ولا صارف للفظ هنا عن إرادة العموم فلا جرم يبقى على عمومه. أما ما يتوهمه المخالفون من أن خصوص السبب صارف عن إرادة العموم فمدفوع بأن مجرد خصوص السبب لا يستلزم إخراج غير السبب من تناول اللفظ العام إياه. فلا يصلح أن يكون قرينة مانعة من إرادة ما وضع له اللفظ العام. وهو العموم الشامل لجميع الأفراد. ويمكن أن تنظم من هذا الدليل قياسا اقترانيا هكذا: اللفظ العام الوارد على سبب خاص يتبادر منه العموم عند الإطلاق وكل ما كان كذلك يبقى على عمومه. فاللفظ العام الوارد على سبب خاص يبقى على عمومه وهو المطلوب. ويمكن أن تنظم من ذلك الدليل قياسا استثنائيا أيضا يقول: لو لم يكن اللفظ العام الوارد على سبب خاص باقيا على عمومه عند الإطلاق للزم استعمال اللفظ في غير ما وضع له بلا قرينة لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو أن اللفظ العام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الوارد على سبب خاص باق على عمومه عند الإطلاق. وذلك هو المطلوب. الدليل الثالث: احتجاج الصحابة والمجتهدين في سائر الأعصار والأمصار بعموم تلك الألفاظ الواردة على أسباب خاصة في وقائع وحوادث كثيرة من غير حاجة إلى قياس أو استدلال بدليل آخر. وكيف ينكر هذا؟ وأكثر أصول الشرع خرجت على أسباب خاصة وبرغم خصوص تلك الأسباب قد فهموا من الألفاظ النازلة فيها حقيقة العموم ثم صاغوا من عموماتها كثيرا من الأصول. فاستدلوا بآية السرقة على وجوب قطع كل يد مع أنها نازلة في خصوص سرقة المجن أو رداء صفوان. واحتجوا بآيات الظهار على وجوب الكفارة المذكورة فيها والعمل بأحكامها على كل من ظاهر مع أنها نازلة في خصوص من عرفت قبل. وكذلك برهنوا بآيات اللعان على شمول حكمه لكل من قذف زوجته ولم يكن معه شهود على حين أنها نازلة في خصوص من ذكرنا سابقا. ويمكن أن تنظم من هذا الدليل قياسا اقترانيا نصه: عموم اللفظ الوارد على سبب خاص قد اعتبره الصحابة والمجتهدون وكل ما كان كذلك فهو المعتبر. فعموم اللفظ الوارد على سبب خاص هو المعتبر. ويمكن أن تنظم منه دليلا استثنائيا نصه لو لم يكن عموم اللفظ الوارد على سبب خاص هو المعتبر لما اعتبره الصحابة والمجتهدون لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب. ملاحظة: لا يبعد عليك أن تستدل للمقدمات الصغرى والكبرى في الأقيسة الاقترانية التي ذكرناها خصوصا بعد أن تنظر فيما نثرناه قبلها من عرض الأدلة بالأسلوب المألوف الخالي من القيود الشكلية في الاصطلاحات المنطقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وبمثل ذلك تستطيع أن تستدل للملازمات وبطلان التوالي فيما نظمناه بين يديك من الأقيسة الاستثنائية. فتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 10- شبهات المخالفين وتفنيدها استند مخالفو الجمهور إلى شبهات خمس لتأييد مذهبهم- وهو أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ- ولكنك سترى مصرع هذه الشبهات بين يديك: الشبهة الأولى يقولون: إن الإجماع قد انعقد على عدم جواز إخراج السبب من حكم العام الوارد على سبب خاص إذا ورد مخصص. وذلك يستلزم أن العام مقصور على أفراد السبب لا يتناول غيرها لأنه لو لم يكن مقصورا عليها لتساوت هي وغيرها في جواز الإخراج عند المخصص. وذلك ممنوع للإجماع المذكور. والجواب: أن الإجماع المذكور لا يستلزم قصر العام على إفراد الخاص كما يقولون بل هو واقف عند حدود معناه من أن أفراد السبب لا تخرج بالمخصص وذلك المعنى محقق لعدم التساوي بين أفراد السبب وغيرها في حالة الإخراج بالمخصص لكنه لا يمنع دخول غير أفراد السبب في حكم العام إذا تناوله اللفظ وذلك لأدلة الجمهور السابقة. ويمكن أن تنظم في هذا قياسا استثنائيا يقول: لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لجاز إخراج أفراد السبب إذا ورد مخصص لكن إخراج أفراد السبب عند وجود المخصص ممنوع لانعقاد الإجماع على امتناعه. فبطل ما أدى إليه وهو المقدم وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب. دليل التلازم أن العام تستوي أفراده فإذا أخذنا بعموم اللفظ ولم نخصصه بالسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 تساوت أفراد السبب وغيرها مما اندرج تحت ذلك العام فإذا جاء مخصص جاز أن يخرج أفراد السبب. ويجاب بإبطال الملازمة ومنع أن أفراد العام متساوية. وسند المنع أن الإجماع منعقد على أن أفراد السبب تمتاز عن غيرها بأنها لا تخرج بالتخصيص. فإن تساوت هي وأفراد غير السبب دخولا فلن يتساوى الجميع خروجا. وإذن يبقى العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب للأدلة السابقة. الشبهة الثانية يقولون: إن الرواة نقلوا أسباب النزول واهتموا بها وبتدوينها. ولا فائدة لذلك إلا ما نذهب إليه من وجوب قصر العام على أفراد سببه الخاص. وهذا معنى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. والجواب: أنه لا وجه لكم في أن تجعلوا فائدة نقل الأسباب هي قصر العام على أفراد سببه فإن لأسباب النزول والإحاطة بها علما عن طريق نقل الرواة فوائد عدة ومزايا جمة وذكرناها في مطلع هذا المبحث وهي غير ما ذكرتم فارجعوا إليها إن شئتم. ويمكن أن ننظم من ذلك قياسا استثنائيا أيضا هكذا لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لما نقله الرواة واهتموا ببيانه وتدوينه لكن التالي باطل بالحس والمشاهدة فثبت نقيض المقدم وهو أن العبرة بخصوص السبب دليل الملازمة أنه لا يفهم لنقل الرواة وعنايتهم ببيان الأسباب فائدة غير التخصيص. والجواب: أننا نمنع دليل الملازمة كيف؟ ولأسباب النزول فوائد متعددة قد قصصناها عليك أول هذا المبحث فحذار أن تنسى. الشبهة الثالثة يقولون: إن تأخير البيان عن وقوع الواقعة وتوجيه السؤال في العام الوارد على سبب يدل على أن العبرة بخصوص السبب لأن تأخير لفظ الشارع إلى ما بعد حدوث سببه يفهم منه أن السبب هو الملحوظ وحده للشارع في الحكم عليه بهذا اللفظ العام النازل فيه وإلا لما ربطه بالسبب بل لأنزله قبله أو أخره عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 والجواب أنه يكفي في حكمة تأخير البيان إلى ما بعد السبب أن يكون اللفظ العام بيانا له ولو مع ما يشابهه من كل ما يندرج تحت اللفظ العام ولا يستلزم أن يكون بيانا له وحده كما ذكرتم. ويمكن أن تصوغ في هذا قياسا هكذا لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لما أخر البيان إلى وقوع الواقعة أو توجيه السؤال. لكن التالي باطل فثبت نقيض المقدم وهو المطلوب. دليل الملازمة أن تأخير لفظ الشارع إلى ما بعد وقوع الواقعة وتوجيه السؤال لا يفهم منه إلا أنه بيان لهذا السبب وحده وذلك معنى أن العبرة بخصوصه. والجواب: أننا نمنع دليل الملازمة أي نمنع أنه لا يفهم من تأخير البيان إلى ما بعد وقوع الواقعة وتوجيه السؤال إلا أن يكون اللفظ العام النازل بسببهما بيانا لهذا السبب وحده. كيف؟ والتأخير يفهم منه أن اللفظ العام جاء بيانا له مع أشباهه من كل ما ينتظم وإياه في سلك العام للأدلة السابقة. الشبهة الرابعة يقولون: قد اتفقت كلمة الفقهاء على أنه إذا دعا رجل رجلا آخر إلى طعام الغداء وقال له: تغد عندي فرفض وقال: والله لا أتغدى ولم يقل عندك ثم تناول الغداء عند غير هذا الداعي فإنه لا يحنث. وما ذاك إلا لأن هذا اللفظ العام قد تخصص بسببه وهو كلمة تغد عندي التي خص بها الداعي نفسه فكأن الحالف قال: لا أتغدى عندك وحدك ولذلك لا يحنث بغدائه عند غيره. والجواب: أن حكم الفقهاء في هذا المثال ليس مبنيا على أن كل عام يتخصص بسببه كما فهمتم بل هو مبني على أن هذا المثال وأشباهه تخصص بقرينة خارجة وهي حكم العرف هنا بأن الحالف إنما يريد ترك الغداء عند داعيه فقط. وليس كلامنا فيما تخصص بقرينة خارجة سواء أكانت العرف أم سواه فذلك محل وفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ونظيره أن يقال لك كلم فلانا في واقعة معينة فتقول والله لا أكلمه أبدا فإنك لا تحنث إذا كلمته في غير تلك الواقعة لأن العرف يحكم أيضا بأنك تريد عدم تكليمه في خصوص تلك الواقعة لا مطلقا. ويمكن أن تنظم من هذا قياسا استثنائيا يقول: لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لكان من قال والله لا أتغدى ولم يقل عندك في إجابة من قال له تغد عندي حانثا إذا تغدى عند غيره. لكن التالي باطل لنص الفقهاء على عدم حنثه حينئذ فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب. دليل الملازمة أن كلمة لا أتغدى شاملة للتغدي عند المخاطب وعند غيره لأن حذف المعمول يؤذن بالعموم. وقد جاءت هذه الكلمة على سبب وهو دعوة المخاطب إياه للغداء. فلو أخذنا بعموم هذا اللفظ وأهملنا خصوص هذا السبب لكان يحنث بغدائه عند غيره لأنه فرد من أفراد ذلك العام. والجواب: أن التخصيص بالسبب هنا لم يجيء من نفس السبب إنما جاء من قرينة خارجة هي حكم العرف بأن حالف مثل هذه اليمين إنما يقصد عدم التغدي عند من دعاه وحده. ولا كلام لنا في ذلك لأن التخصيص بالقرينة الخارجة محل وفاق كما تقدم. الشبهة الخامسة يقولون: إن التطابق بين السؤال وجوابه واجب في نظر الحكمة وبحكم قانون البلاغة. وهذا التطابق لا يستقيم إلا بالتساوي بين لفظ العام وسببه الخاص. والتساوي لا يكون إلا إذا خصصنا اللفظ العام بسببه الخاص. لا سيما إذا وقع ذلك في كلام الشارع الحكيم وجاء في أرقى نصوص البلاغة وواحدها إعجازا وهو القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والجواب: أن طرد العام على عمومه لا يخل بمطابقته لسببه الخاص؟ لأن هذه المطابقة تحصل بكون اللفظ أعم من سببه كما تحصل بمساواته إياه فإن المقصود من المطابقة أن يكون اللفظ مبينا لحكم السبب وغير قاصر عن الوفاء به وهو إذا جاء أعم يكون قد وفى بالمراد وزاد. ويمكن أن تسبك من هذا قياسا استثنائيا صيغته هكذا: لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لكان اللفظ غير مطابق للسبب. لكن التالي باطل فثبت نقيض المقدم. دليل الملازمة: أن الكلام هنا مفروض في سبب خاص ولفظ عام ولا شك أن العام لا يطابق الخاص. ودليل بطلان التالي: أن عدم المطابقة مناف للحكمة ومخل بالبلاغة. والجواب: أننا نبطل تلك الملازمة ونمنع دليلها وهو أن العام لا يطابق الخاص. كيف؟ والمطابقة كما تحصل بمساواة اللفظ للسبب عموما وخصوصا تحصل بكون اللفظ أعم من السبب لأن المراد من الجواب أن يتحدث عن السبب ويبين حكمه وذلك حاصل مع كونه أعم منه ولا يتوقف على مساواته إياه. ملاحظة: يمكنك بعد هذا البيان أن تحول تلك الأقيسة الاستثنائية إلى أقيسة اقترانية ثم تستدل على مقدماتها بسهولة ويسر على نمط ما فعلناه بأدلة الجمهور. فأمامك المجال ولا داعي لإطالة المقال. كما أرجو أن يعذرني القارئ الكريم إذا شق عليه بعض الشيء أن يهضم تلك الصناعة الفنية في صياغة الأدلة بعض الأحيان فإن للوسط قضاء لا يرد وللصناعة حكما لا ينقض. ومن واجبي أن أشبع حاجة هؤلاء وهؤلاء لذلك تراني طورا هنا وطورا هناك. والله هو الفتاح العليم وهو الموفق والمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 11- شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام نوه السيوطي في الإتقان وابن السبكي والمحلي في جمع الجوامع وشرحه بأن القرآن الكريم قد يرد فيه ما يشبه السبب الخاص مع اللفظ العام النازل فيه فيكون لهذا الشبه أثر صالح في تناول الآية العامة للمضمون الخاص في الآية التي معها تناولا ممتازا يجعله أسبق إلى الذهن من غيره وأبعد عن خروجه بالتخصيص إذا ورد مخصص لتلك الآية العامة. فكأنه قطعي الدخول. وكأنه مجمع على عدم خروجه بالمخصص كما أجمعوا على عدم خروج السبب الخاص من لفظ العام النازل فيه. وهاك مثلا يوضح لك المقام: قال الله تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} إلى آخر الآيات الواردة في هذا الموضوع. فأنت ترى أن هذه الآيات شنعت على الخيانة والخائنين من اليهود وتوعدتهم أفظع الوعيد ووبختهم أشد التوبيخ. وذلك في معنى النهي البالغ عن تلك الخيانة أي خيانتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث جعلوا المشركين أهدى سبيلا منهم. ومن المقرر أن النهي عن شيء أمر بضده فلا جرم تضمنت هذه الآيات أيضا أمر اليهود بالأمانة في الحكم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بالصفات الحقيقية. خصوصا أنهم قد مدحوا في كتابهم التوراة كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الخ والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وكما قال في سورة الفتح بعد أن وصف النبي وأصحابه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الخ. ثم جاء عقيب تلك الآيات في الترتيب الوضعي قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فكان التناسب بينهما رائعا والصلة وثيقة والانسجام جميلا لأن هذه الآية تأمر بالأمانة في عمومها كما ترى وتلك الآيات تأمر بأمانة خاصة كما علمت وما أحكم الصلة بين العام والخاص. فكان ذلك شبيها بالسبب الخاص ينزل فيه لفظ عام فإذا كان تناول العام لأفراد الخاص مجمعا عليه ولا يصح خروجه بمخصص فكذلك الأمانة الخاصة التي معنا تنتظم في سلك الأمانة العامة انتظاما ممتازا وتدخل فيها دخولا أوليا حتى لو قيل إنه لا يجمل إخراجها منها بمخصص لم يبعد وذلك ما حدا بابن السبكي أن يجعلها مرتبة دون السبب وفوق التجرد. وإنما لم تجعل في مرتبة السبب لأن الأولى ليست سببا في الثانية ولأن المقارنة بينهما ليست إلا في ترتيب آيات القرآن ووضع بعضها بإزاء بعض وليست مقارنة زمانية في النزول بل إن بينهما مدى بعيدا فالثانية تأخرت عن الأولى بنحو ست سنين ولا يضر ذلك لأن تقارب الزمان ليس شرطا في وضع آية لصق آية تناسبها إنما هو شرط في أسباب النزول مع ما ينزل فيها بحسب. ولعل من تمام الفائدة أن نسوق إليك ما جاء في جمع الجوامع للإمام ابن السبكي وشارحه جلال الدين المحلي في هذه المناسبة ونصه: ويقرب منها أي من صورة السبب حتى يكون قطعي الدخول أو ظنيه خاص في القرآن تلاه في الرسم أي رسم القرآن بمعنى وضعه مواضعه وإن لم يتله في النزول عام للمناسبة بين التالي والمتلو كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الخ فإنه -كما قال أهل التفسير- إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر حرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم فسألوهم: من أهدى سبيلا محمد وأصحابه أم نحن؟ فقالوا: أنتم مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم المنطبق عليه وأخذ المواثيق عليهم ألا يكتموه فكان ذلك أمانة لازمة لهم ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 يؤدوها حيث قالوا للكفار: أنتم أهدى سبيلا حسدا للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية مع هذا القول التوعد عليه المفيد للأمر بمقابله المشتمل على أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم بإفادة أنه الموصوف في كتابهم وذلك مناسب لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فهذا عام في كل أمانة وذلك خاص بأمانة هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم بالطريق السابق والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول بست سنين مدة ما بين بدر في رمضان من السنة الثانية والفتح في رمضان من السنة الثامنة وإنما قال: ويقرب منها كذا لأنه لم يرد العام بسببه بخلافها اهـ والحمد لله أولا وآخرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 المبحث السادس: في نزول القرآن على سبعة أحرف مدخل ... المبحث السادس: في نزول القرآن على سبعة أحرف هذا مبحث طريف وشائق غير أنه مخيف وشائك. أما طرافته وشوقه فلأنه يرينا مظهرا من مظاهر رحمة الله وتخفيفه على عباده وتيسيره لكتابه على كافة القبائل العربية بل على جميع شعوب الأمة الإسلامية من كل جيل وقبيل حتى ينطقوا به لينة ألسنتهم سهلة لهجاتهم برغم ما بينهم من اختلاف في اللغات وتنوع في الخصائص والميزات. ومن طرافة هذا المبحث أيضا أنك تشاهد فيه عرضا عاما لمنتجات أفكار كثيرة وتشهد جيشا جرارا من مذاهب وآراء كلها تحاول العمل لخدمة العلم وإظهار الحق والدفاع عن عرين القرآن والإسلام. وأما مخافة هذا المبحث وشوكه فلأنه كثر فيه القيل والقال إلى حد كاد يطمس أنوار الحقيقة حتى استعصى فهمه على بعض العلماء ولاذ بالفرار منه وقال: إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 مشكل. وحتى اضطر جماعة من كبار المحققين أن يفردوه بالتأليف قديما وحديثا ما بين العلامة المعروف بأبي شامة في القرن السابع الهجري والعلامة الشيخ محمد بخيت في القرن الرابع عشر. أضف إلى ذلك أن الخطأ في هذا الباب قد يتخذ منه أعداء الإسلام سبيلا عوجا إلى توجيه المطاعن الخبيثة إلى القرآن كما وقعت أو وقع علي كتاب لمن يدعون أنفسهم مبشرين أسموه مباحث قرآنية وجعلوا موضوع الجزء الأول منه هل من تحريف في الكتاب الشريف؟ وتصيدوا فيه من الآراء المزيفة ما الحق منه بريء {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} . ونحن نستعين الله ونستهديه أن يخلص لنا الورد من الشوك في هذا الموضوع الشائق الشائك وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا. وسنجول في هذا الميدان إن شاء الله جولات عدة نتحدث فيها عن أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف وعن شواهد بارزة في هذه الأحاديث الواردة بينها فوائد كثيرة لاختلاف الحروف والقراءات وعن معنى نزول القرآن على سبعة أحرف وعن الوجوه السبعة في المذهب المختار وعن تحقيق النسبة بين المذهب المختار وأشباهه وعن وجوه اختيار هذا المذهب وعن دفع الاعتراضات الواردة عليه وعن بقاء هذه الأحرف السبعة في المصاحف وعن الأقوال الأخرى وتفنيدها وعن دفع إجمالي للأقوال الأخيرة منها ثم نختتم المبحث بعلاج الشبهات الواردة على هذا الموضوع والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 1- أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف لا سبيل إلى الاستدلال على هذا إلا مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد جاء هذا النقل الصحيح من طرق مختلفة كثيرة وروي حديث نزول القرآن على سبعة أحرف عن جمع كبير من الصحابة. منهم عمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وأبو بكر وأبو جهم وأبو سعيد الخدري وأبو طلحة الأنصاري وأبي بن كعب وزيد بن أرقم وسمرة بن جندب وسلمان بن صرد وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن أبي سلمة وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وهشام بن حكيم وأنس وحذيفة وأم أيوب امرأة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين. فهؤلاء أحد وعشرون صحابيا ما منهم إلا رواه وحكاه. وروى الحافظ أبو يعلى في مسنده الكبير أن عثمان رضي الله عنه قال يوما وهو على المنبر: أذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف" لما قام. فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف" فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم. وكأن هذه الجموع التي يؤمن تواطؤها على الكذب هي التي جعلت الإمام أبا عبيد بن سلام يقول بتواتر هذا الحديث. لكنك خبير بأن من شروط التواتر توافر جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الرواية. وهذا الشرط إذا كان موفورا هنا في طبقة الصحابة كما رأيت فليس بموفور لدينا في الطبقات المتأخرة. وهاك طائفة من تلك الأحاديث نسوقها إليك استدلالا من ناحية وتنويرا في بيان المعنى وإقامة لمعالم الحق فيه من ناحية ثانية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 1 - روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرأني جبريل على حروف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام. 2- وروى البخاري ومسلم أيضا واللفظ للبخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فانتظرته حتى سلم ثم لببته بردائه أو بردائي فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت له: كذبت فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر": اقرأ يا هشام فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه". 3- وروى مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوق قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا فقال لي: "يا أبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه: أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي. وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم". اهـ. واعلم أن معنى قول أبي بن كعب رضي الله عنه فسقط في نفسي من التكذيب الخ أن الشيطان ألقى إليه من وساوس التكذيب ما شوش عليه حاله حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن القراءتين وصوبهما على ما بينهما من اختلاف وكانتا في سورة واحدة هي سورة النحل على ما رواه الطبري. وكأن الذي مر بخاطره وقتئذ أن هذا الاختلاف في القراءة ينافي أنه من عند الله. لكنه كان خاطرا من الخواطر الرديئة التي لا تنال من نفس صاحبها منالا ولا تفتنها عن عقيدة ولا يكون لها أثر باق ولا عمل دائم. ومن رحمة الله بعباده أنه لا يؤاخذهم بهواجس النفوس وخلجات الضمائر العابرة. ولكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم حين يفتح الإنسان للشبهة صدره يوجه إليها اختياره وكسبه ثم يعقد عليها فؤاده وقلبه. قال القرطبي فكان هذا الخاطر يشير إلى ما سقط في نفس أبي من قبيل ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم حين سألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "أوقد وحدتموه؟ " قالوا: نعم. قال: "ذلك صريح الإيمان". رواه مسلم اهـ. ومن هذا تعلم أن ما خطر لسيدنا أبي بن كعب رضي الله عنه لا يمس مقامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ولا يصادم إيمانه ما دام قد دفعه بإرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا كما في الحديث الشريف. وأي إنسان يستطيع أن يحمي نفسه خواطر السوء الهوجاء ورياح الهواجس الشنعاء إنما الواجب على المؤمن أن يحارب تلك الخواطر الرديئة بأسلحة العلم وتعاليم الشريعة ولا يستسلم لها ولا يسترسل معها. وعلينا أن نتعاون في هذا الميدان كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي إذ ضرب في صدره ليصرفه بشدة عن الاشتغال بهذا الخاطر وليلفته بقوة إلى ما قصه عليه علاجا لشبهته من أن القرآن أنزل على سبعة أحرف تهوينا على أمته وتيسيرا لها. ولقد نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العلاج أيما نجاح حتى قال أبي نفسه: ففضت عرقا وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقا. ذلك ما نراه مخلِّصا في هذا المقام الذي زلت فيه بعض الأقدام وللعلامة الشيخ محمد عبد الله دراز كلام جيد في مثل هذا الموضوع من كتابه المختار فارجع إليه إن أردت التوسع ومزيد البيان. أضف إلى ما ذكرنا أن خصومة أبي بن كعب في أمر إختلاف القراءة على هذا النحو إنما كانت من قبل أن يعلم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف فهو وقتئذ كان معذورا بدليل أنه لما علم بذلك وأطمأنت إليه نفسه عمل بما علم وكان مرجعا مهما من مراجع القرآن على اختلاف رواياته وكان من رواة هذا العلم للناس كما تلاحظه في الحديثين المسندين إليه بعد. 4- روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار. قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف. فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ذلك". ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا اهـ. وأضاة بني غفار بفتح الهمزة في أضاة وبكسر الغين في غفار: مستنقع الماء كالغدير وكان بموضع من المدينة المنورة ينسب إلى بني غفار لأنهم نزلوا عنده. 5 - وروى الترمذي عن أبي بن كعب أيضا قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المروة قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام". قال: فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف" قال الترمذي: حسن صحيح. وفي لفظ: فمن قرأ بحرف منها فهو كما قرأ وفي لفظ حذيفة فقلت: "يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابا قط" قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف". 6- أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أن رجلا قرأ آية من القرآن فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا". اهـ. قال في القاموس: ماراه مماراة ومراء وأمترى فيه وتمارى: شك. والمرية بالكسر والضم: الشك والجدل. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 7- روى الحاكم وابن حبان بسندهما عن ابن مسعود قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم فرحت إلى المسجد فقلت لرجل: أقرأها. فإذا هو يقرؤها حروفا ما أقرؤها. فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فتغير وجهه وقال: "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف" ثم أسر إلى علي شيئا. فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم. قال: فانطلقنا وكل رجل يقرأ حروفا لا يقرؤها صاحبه اهـ. 8- وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود أيضا أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها. قال: فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلاكما محسن فاقرأ" قال شعبة أحد رواة هذا الحديث: أكبر علمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكوا". 9- روى الطبري والطبراني عن زيد بن أرقم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد بن ثابت وأقرأنيها أبي بن كعب فاختلفت قراءتهم فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي إلى جنبه فقال علي: ليقرأ كل إنسان منكم كما علم فإنه حسن جميل. 10- وأخرج ابن جرير الطبري عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 2 - شواهد بارزة في هذه الأحاديث الواردة إن الناظر في هذه الأحاديث الشريفة وما ماثلها يستطيع أن يقيم منها شواهد بارزة تكون منارات هدى ومصادر إشعاع ونور ترشده إلى ما عسى أن يكون هو الحق والصواب في بيان معنى الأحرف السبعة كما يستطيع أن يأخذ منها موازين ومقاييس يحاكم إليها كل ما شجر من هذا الخلاف البعيد في هذا الموضوع الدقيق. الشاهد الأول: أن الحكمة في نزول القرآن على الأحرف السبعة هي التيسير على الأمة الإسلامية كلها خصوصا الأمة العربية التي شوفهت بالقرآن فإنها كانت قبائل كثيرة وكان بينها اختلاف في اللهجات ونبرات الأصوات وطريقة الأداء وشهرة بعض الألفاظ في بعض المدلولات على رغم أنها كانت تجمعها العروبة ويوحد بينها اللسان العربي العام. فلو أخذت كلها بقراءة القرآن على حرف واحد لشق ذلك عليها كما يشق على القاهري منا أن يتكلم بلهجة الأسيوطي مثلا وإن جمع بيننا اللسان المصري العام وألفت بيننا الوطنية المصرية في القطر الواحد. وهذا الشاهد بحده ماثلا بوضوح بين الأحاديث السالفة في قوله صلى الله عليه وسلم في كل مرة من مرات الاستزادة فرددت إليه أن هون على أمتي وقوله أسأل الله معافاته ومغفرته وأن أمتي لا تطيق ذلك ومن أنه صلى الله عليه وسلم لقي جبريل فقال: "يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابا قط" الخ. قال المحقق ابن الجزري: وأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها والتهوين عليها شرفا لها وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق حيث أتاه جبريل فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال صلى الله عليه وسلم: "أسأل الله معافاته ومعونته فإن أمتي لا تطيق ذلك ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف" ثم قال: وكما ثبت أن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف وأن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم وكان العرب الذي نزل القرآن بلغتهم. لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها أو من حرف إلى آخر. بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج لا سيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتابا كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع اهـ. فوائد أخرى لاختلاف القراءة وتعدد الحروف كل ما مر عليك في الشاهد الأول تقرير لحكمة واحدة وفائدة واحدة من فوائد اختلاف القراءات وتعدد الحروف التي نزل عليها القرآن الكريم وهي أبرز الفوائد وأشهرها وأقربها إلى الذهن. ونحيطك علما هنا بأن لهذا الاختلاف والتعدد فوائد أخرى: منها: جمع الأمة الإسلامية الجديدة على لسان واحد يوحد بينها وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن الكريم والذي انتظم كثيرا من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحج وأسواق العرب المشهورة. فكان القرشيون يستملحون ما شاؤوا ويصطفون ما راق لهم من ألفاظ الوفود العربية القادمة إليهم من كل صوب وحدب ثم يصقلونه ويهذبونه ويدخلونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 في دائرة لغتهم المرنة التي أذعن جميع العرب لها بالزعامة وعقدوا لها راية الإمامة. وعلى هذه السياسة الرشيدة نزل القرآن على سبعة أحرف يصطفي ما شاء من لغات القبائل العربية على نمط سياسةالقرشيين بل أوفق. ومن هنا صح أن يقال: إنه نزل بلغة قريش لأن لغات العرب جمعاء تمثلت في لسان القرشيين بهذا المعنى. وكانت هذه حكمة إلهية سامية فإن وحدة اللسان العام من أهم العوامل في وحدة الأمة خصوصا أول عهد بالتوثب والنهوض. ومنها: بيان حكم من الأحكام كقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} قرأ سعد بن أبي وقاص {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} من أم بزيادة لفظ من أم فتبين بها أن المراد بالإخوة في هذا الحكم الإخوة للأم دون الأشقاء ومن كانوا لأب وهذا أمر مجمع عليه. ومثل ذلك قوله سبحانه في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وجاء في قراءة: أو تحرير رقبة مؤمنة بزيادة لفظ مؤمنة فتبين بها اشتراط الإيمان في الرقيق الذي يعتق كفارة يمين. وهذا يؤيد مذهب الشافعي ومن نحا نحوه في وجوب توافر ذلك الشرط. ومنها: الجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين كقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} قرئ بالتخفيف والتشديد في حرف الطاء من كلمة يطهرن ولا ريب أن صيغة التشديد تفيد وجوب المبالغة في طهر النساء من الحيض لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. أما قراءة التخفيف فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 تفيد هذه المبالغة. ومجموع القراءتين يحكم بأمرين: أحدهما أن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر. وذلك بانقطاع الحيض. وثانيهما أنها لا يقربها زوجها أيضا إلا إن بالغت في الطهر وذلك بالاغتسال فلا بد من الطهرين كليهما في جواز قربان النساء. وهو مذهب الشافعي ومن وافقه أيضا. ومنها الدلالة على حكمين شرعيين ولكن في حالين مختلفين: كقوله تعالى في بيان الوضوء {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قرئ بنصب لفظ أرجلكم وبجرها. فالنصب يفيد طلب غسلها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ وجوهكم المنصوب وهو مغسول. والجر يفيد طلب مسحها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ رؤوسكم المجرور وهو ممسوح وقد بين الرسول أن المسح يكون للابس الخف وأن الغسل يجب على من لم يلبس الخف. ومنها دفع توهم ما ليس مرادا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقرئ فامضوا إلى ذكر الله. فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوب السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة ولكن القراءة الثانية رفعت هذا التوهم لأن المضي ليس من مدلوله السرعة. ومنها بيان لفظ مبهم على البعض نحو قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وقرئ كالصوف المنفوش فبينت القراءة الثانية أن العهن هو الصوف. ومنها تجلية عقيدة ضل فيها بعض الناس: نحو قوله تعالى في وصف الجنة وأهلها: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} جاءت القراءة بضم الميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وسكون اللام في لفظ وملكا كبيرا وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم وكسر اللام في هذا اللفظ نفسه فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة لأنه سبحانه هو الملك وحده في تلك الدار {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . والخلاصة: أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات. وذلك ضرب من ضروب البلاغة يبتدئ من جمال هذا الإيجاز وينتهي إلى كمال الإعجاز. أضف إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد ولا إلى تهافت وتخاذل بل القرآن كله على تنوع قراءاته يصدق بعضه بعضا ويبين بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير وهدف واحد من سمو الهداية والتعليم. وذلك من غير شك يفيد تعدد الإعجاز بتعدد القراءات والحروف. ومعنى هذا أن القرآن يعجز إذا قرئ بهذه القراءة ويعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثانية ويعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة وهلم جرا. ومن هنا تتعدد المعجزات بتعدد تلك الوجوه والحروف. ولا ريب أن ذلك أدل على صدق محمد لأنه أعظم في اشتمال القرآن على مناح جمة في الإعجاز وفي البيان على كل حرف ووجه وبكل لهجة ولسان. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} . الشاهد الثاني: أن مرات استزادة الرسول للتيسير على أمته كانت ستا غير الحرف الذي أقرأه أمين الوحي عليه أول مرة فتلك سبعة كاملة بمنطوقها ومفهومها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 تأمل حديث ابن عباس السابق وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى بلغ سبعة أحرف" وكذلك جاء في حديث لأبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة" يضاف إلى ذلك المراجعات الثابتة في الأحاديث الأخرى وإن كانت لم تبلغ ستا صراحة غير أن الحديث جاء بلفظ السبعة فيعلم من مجموع تلك الروايات أن المراد بلفظ سبعة حقيقة العدد المعروف في الآحاد بين الستة والثمانية. الشاهد الثالث: أن من قرأ حرفا من هذه الحروف فقد أصاب شاكلة الصواب أيا كان ذلك الحرف كما يدل عليه فيما مضى قوله صلى الله عليه وسلم: "فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا" وقوله صلى الله عليه وسلم لكل من المختلفين في القراءة "أصبت" وقوله صلى الله عليه وسلم لهما في رواية ابن مسعود: "كلا كما محسن" وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عمرو بن العاص: "فأي ذلك قرأتم أصبتم". وعدم موافقته صلى الله عليه وسلم لعمر وأبي وابن مسعود وعمرو بن العاص على معارضة مخالفيهم بالطرق الآنفة في الأحاديث السالفة. ودفعه في صدر أبي حين استصعب عليه أن يقر هذا الاختلاف في القراءة. ولا ريب أن ذلك كله فيه معنى النهي البالغ عن منع أي أحد من القراءة بأي حرف من الأحرف السبعة النازلة. الشاهد الرابع: أن القراءات كلها على اختلافها كلام الله لا مدخل لبشر فيها. بل كلها نازلة من عنده تعالى مأخوذ بالتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدل على ذلك أن الأحاديث الماضية تفيد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون فيما يقرؤون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون عنه ويتلقون منه كل حرف يقرؤون عليه انظر قوله صلى الله عليه وسلم في قراءة كل من المختلفين: "هكذا أنزلت" وقول المخالف لصاحبه: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ثم أضف إلى ذلك أنه لو صح لأحد أن يغير ما شاء من القرآن بمرادفه أو غير مرادفه لبطلت قرآنية القرآن وأنه كلام الله ولذهب الإعجاز ولما تحقق قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . ثم إن التبديل والتغيير مردود من أساسه بقوله سبحانه في سورة يونس: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . فإذا كان أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قد تحرج من تبديل القرآن بهذا الأسلوب فكيف يسوغ لأحد مهما كان أمره أن يبدل فيه ويغير بمرادف أو غير مرادف؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . الشاهد الخامس: أنه لا يجوز منع أحد من القراءة بأي حرف من تلك الأحرف السبعة النازلة. يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تماروا فيه فإن المراء فيه كفر" وعدم موافقته لعمر وأبي وابن مسعود وعمرو بن العاص على معارضة مخالفيهم بالطرق الآنفة في الأحاديث السالفة. ويدل على ذلك أيضا دفعه في صدر أبي حين استصعب عليه أن يقر هذا الاختلاف في القراءة. ولا ريب أن ذلك كله فيه معنى النهي البالغ عن منع أي أحد من القراءة بأي حرف من الأحرف السبعة النازلة. الشاهد السادس: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا متحمسين في الدفاع عن القرآن مستبسلين في المحافظة على التنزيل متيقظين لكل من يحدث فيه حدثا ولو كان عن طريق الأداء واختلاف اللهجات مبالغين في هذه اليقظة حتى ليأخذون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 في هذا الباب بالظنة وينافحون عن القرآن بكل عناية وهمة. وحسبك استدلالا على ذلك ما فعل عمر بصاحبه هشام بن حكيم على حين أن هشاما كان في واقع الأمر على صواب فيما يقرأ وأنه قال لعمر تسويغا لقراءته: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن عمر لم يقنع بل لببه وساقه إلى المحاكمة ولم يتركه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهشام بأنه أصاب. قل مثل ذلك فيما فعل أبي بن كعب بصاحبه وما كان من ابن مسعود وعمرو بن العاص وصاحبيهما. والأحاديث بين يديك عن كثب فارجع إليها إن أردت. الشاهد السابع: أنه لا يجوز أن نجعل اختلاف القراءات معركة جدال ونزاع وشقاق ولا مثار تردد وتشكيك وتكذيب ولا سلاح عصبية وتنطع وجمود. على حين أن نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كانت حكمته من الله التيسير والتخفيف والرحمة والتهوين على الأمة فما يكون لنا أن نجعل من هذا اليسر عسرا ومن هذه الرحمة نقمة. يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما سبق "فلا تماروا فيه فإن المراء فيه كفر". وكذلك تغير وجهه الشريف عند اختلافهم مع قوله: "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف" وضربه في صدر أبي بن كعب حين جال بخاطره حديث السوء في هذا الموضوع الجليل. الشاهد الثامن: أن المراد بالأحرف في الأحاديث السابقة وجوه في الألفاظ وحدها لا محالة. بدليل أن الخلاف الذي صورته لنا الروايات المذكورة كان دائرا حول قراءة الألفاظ لا تفسير المعاني مثل قول عمر: إذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حكم الرسول أن يقرأ كل منهما وقوله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". وقوله: "أي ذلك قرأتم فقد أصبتم" ونحو ذلك ولا ريب أن القراءة أداء الألفاظ لا شرح المعاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 3- معنى نزول القرآن على سبعة أحرف يهمنا بعد الذي أسلفنا إليك أن نبين لك معنى الجملة الشريفة: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فإليك: أما لفظ القرآن فقد أشبعناه كلاما في المبحث الأول. وأما الإنزال فقد استوفيناه تحقيقا في المبحث الثالث. وأما السبعة فقد علمت في الشاهد الثاني من الشواهد الماضية أن المراد بها حقيقتها وهي العدد المعروف في الآحاد بين الستة والثمانية. وأما الأحرف فجمع حرف والحرف يطلق على معان كثيرة أتى عليها صاحب القاموس إذ يقول ما نصه: الحرف من كل شيء طرفه وشفيره وحده ومن الجبل أعلاه المحدد وواحد حروف التهجي والناقة الضامرة أو المهزولة أو العظيمة ومسيل الماء وآرام سود ببلاد سليم. وعند النحاة ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي وجه واحد وهو أن يعبده على السراء لا على الضراء أو على شك أو على غير طمأنينة من أمره أي لا يدخل في الدين متمكنا. ونزل القرآن على سبعة أحرف: سبع لغات من لغات العرب. وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه وإن جاء على سبعة أو عشرة أو أكثر ولكن معناه أن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن اهـ بتصرف قليل. وهذه الإطلاقات الكثيرة تدل على أن لفظ الحرف من قبيل المشترك اللفظي والمشترك اللفظي يراد به أحد معانيه التي تعينها القرائن وتناسب المقام. وأنسب المعاني بالمقام هنا في إطلاقات لفظ الحرف أنه الوجه بالمعنى الذي سنقصه عليك لا بالمعنى الذي ذهب إليه صاحب القاموس وغيره من أنه اللغة أو غيرها. فسيأتيك تفنيد هذه الآراء بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ثم إن كلمة على في قوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" تشير إلى أن المسألة على هذا الشرط من التوسعة والتيسير أي أنزل القرآن موسعا فيه على القارىء أن يقرأه على سبعة أوجه يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه كأنه قال: أنزل على هذا الشرط وعلى هذه التوسعة. وليس المراد أن كل كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه إذا لقال صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن أنزل سبعة أحرف بحذف لفظ على. بل المراد ما علمت من أن هذا القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه مهما كثر ذلك التعدد والتنوع في أداء اللفظ الواحد ومهما تعددت القراءات وطرقها في الكلمة الواحدة. فكلمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} التي ورد أنها تقرأ بطرق تبلغ السبعة أو العشرة وكلمة {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} التي ورد أنها تقرأ باثنتين وعشرين قراءة وكلمة {أُفٍّ} التي أوصل الرماني لغاتها إلى سبع وثلاثين لغة وكل أولئك وأشباه أولئك لا يخرج التغاير فيه على كثرته عن وجوه سبعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 4- الوجوه السبعة في المذهب المختار بقي علينا أن نتساءل: ما هي تلك الوجوه السبعة التي لا تخرج القراءات عنها مهما كثرت وتنوعت في الكلمة الواحدة؟. هنا يحتدم الجدال والخلاف ويكثر القيل والقال. والذي نختاره بنور الله وتوفيقه من بين تلك المذاهب والآراء هو ما ذهب إليه الإمام أبو الفضل الرازي في اللوائح إذ يقول: الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف: الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث. الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر. الثالث: اختلاف وجوه الإعراب. الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة. الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير. السادس: الاختلاف بالإبدال. السابع: اختلاف اللغات يريد اللهجات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإظهار والإدغام ونحو ذلك اهـ غير أن النقل كما ترى لم يشفع بتمثيل فيما عثرنا. ويمكن التمثيل للوجه الأول منه وهو اختلاف الأسماء. بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} قرئ هكذا: {لِأَمَانَاتِهِمْ} جمعا وقرئ {لأِمَانَتِهِم} بالإفراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ويمكن التمثيل للوجه الثاني وهو اختلاف تصريف الأفعال بقوله سبحانه: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قرئ هكذا بنصب لفظ {رَبَّنَا} على أنه منادى وبلفظ {بَاعِدْ} فعل أمر وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء وقرئ هكذا: {رَبَّنَا بَاعِدْ} برفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعد فعلا ماضيا مضعف العين جملته خبر. ويمكن التمثيل للوجه الثالث وهو اختلاف وجوه الإعراب بقوله سبحانه: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قرئ بفتح الراء وضمها فالفتح على أن لا ناهية فالفعل مجزوم بعدها والفتحة الملحوظة في الراء هي فتحة إدغام المثلين. أما الضم فعلى أن لا نافية فالفعل مرفوع بعدها. ومثل هذا المثال قوله سبحانه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} قرئ برفع لفظ المجيد وجره. فالرفع على أنه نعت لكلمة ذو والجر على أنه نعت لكلمة العرش. فلا فرق في هذا الوجه بين أن يكون اختلاف وجوه الإعراب في اسم أو فعل كما رأيت. ويمكن التمثيل للوجه الرابع: وهو الاختلاف بالنقص والزيادة. بقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} قرئ بهذا اللفظ. وقرئ أيضا والذكر والأنثى بنقص كلمة ما خلق. ويمكن التمثيل للوجه الخامس- وهو الاختلاف بالتقديم والتأخير- بقوله سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت. ويمكن التمثيل للوجه السادس- وهو الاختلاف بالإبدال- بقوله سبحانه: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} بالزاي وقرئ {نُنْشِزُهَا} بالراء وكذلك قوله سبحانه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} بالحاء وقرئ وطلع بالعين. فلا فرق في هذا الوجه أيضا بين الاسم والفعل. ويمكن التمثيل للوجه السابع- وهو اختلاف اللهجات- بقوله سبحانه: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} تقرأ بالفتح والإمالة في أتى ولفظ موسى فلا فرق في هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الوجه أيضا بين الاسم والفعل. والحرف مثلهما نحو بلى قدرين القيامة قرئ بالفتح والإمالة في لفظ بلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 5- لماذا اخترنا هذا المذهب وإنما اخترنا هذا المذهب لأربعة أمور: أحدها: أنه هو الذي تؤيده الأدلة في الأحاديث العشرة الماضية وما شابهها. ثانيها: أنه هو الراجح في تلك الموازين التي أقمناها شواهد بارزة من تلك الأحاديث الواردة. فأرجع النظر إليها ولا داعي لإعادتها. أما المذاهب الأخرى فسترى أن التوفيق أخطأها في رعاية تلك الأدلة أو بعضها وستطيش بين يديك في موازين هذه الشواهد قليلا أو كثيرا. ثالثها: أن هذا المذهب يعتمد على الاستقراء التام لاختلاف القراءات وما ترجع إليه من الوجوه السبعة بخلاف غيره فإن استقراءه ناقص أو في حكم الناقص. فكلمة أف التي أوصلها الرماني إلى سبع وثلاثين لغة يمكن رد لغاتها جميعا إلى هذه الوجوه السبعة ولا تخرج عنها. وكذلك الاختلاف في اللهجات وهو اختلاف شكلي يرد إليها ولا يخرج عنها. بخلاف الآراء الأخرى فإنه يتعذر أو يتعسر الرجوع بالقراءات كلها إليها. وليس من صواب الرأي أن يحصر النبي صلى الله عليه وسلم الأحرف التي نزل عليها القرآن في سبعة ثم نترك نحن طرقا في القراءات المروية عنه دون أن نردها إلى السبعة لأن ذلك يلزمه أحد خطرين: فإما أن تكون تلك الطرق المقروء بها غير نازلة وإما أن يكون هنا حرف نازل وراء السبعة الأحرف التي نزل عليها القرآن ويكون الحصر في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم غير صحيح. وكلا هذين خطأ عظيم وإثم كبير. رابعها: أن هذا الرأي لا يلزمه محذور من المحذورات الآتية التي يستهدف لها الأقوال الأخرى وسنزجيها إليك قريبا فاصبر وما صبرك إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الذين قالوا بهذا المذهب ولا يعزبن عن بالك أن هذا المذهب قد اختاره في جملته فحول من العلماء وقاربه كل القرب مذهب الإمام ابن قتيبة والمحقق ابن الجزري والقاضي ابن الطيب كما يأتي: ولا فرق بين آرائهم وبين هذا الرأي إلا اختلاف في طرق التتبع والاستقصاء والتعبير والأداء. وسيظهر لك أن الرازي كان أهدى منهم سبيلا وأكثر توفيقا حتى لقد ذهب العلامة ابن حجر إلى أن مذهب الرازي هو مذهب ابن قتيبة بعد تنقيحه وتهذيبه فقال ما نصه: وقد أخذ أي الرازي كلام ابن قتيبة ونقحه ا. هـ. وقد اختار هذا المذهب أيضا من المتأخرين بعض أعلام المحققين كالعلامة المرحوم الشيخ الخضري الدمياطي والعلامة المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعي. لكن منهم من تغاضى عن الفروق الدقيقة التي بين الرازي ومذاهب أولئك الثلاثة الذين تشاركت آراؤهم في الجملة ومنهم من صرح بالاتحاد بين هذه المذاهب جميعا وما شابهها واعتبر الخلاف بينها لفظيا فحسب. لهذا نرى أن نسوق إليك في هذا المقام تلك المذاهب الثلاثة أيضا جمعا بين المتشابهات من ناحية وتمهيدا لتحقيق الفرق بينها وبين مذهب الرازي من ناحية أخرى وزيادة في تنوير المذهب المختار وغيره من ناحية ثالثة. أما ابن قتيبة فيقول: إن المراد بالأحرف السبعة الأوجه التي يقع بها التغاير: فأولها: ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ} بفتح الراء وضمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وثانيها ما يتغير بالفعل مثل: بعد وباعد بلفظ الطلب والماضي. وثالثها ما يتغير باللفظ مثل: ننشرها و {نُنْشِزُهَا} بالراء المهملة والزاي المعجمة. ورابعها ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} وطلع منضود. وخامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءت سكرة الحق بالموت. وسادسها: ما يتغير بالزيادة والنقصان مثل: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} . والذكر والأنثى بنقص لفظ ما خلق. وسابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى مثل: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} . وكالصوف المنفوش. وأما ابن الجزري فيقول: قد تتبعت صحيح القراءات وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها. 1- وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو البخل بأربعة أوجه ويحسب بوجهين. 2- أو بتغير في المعنى فقط نحو {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} . برفع لفظ آدم ونصب لفظ كلمات وبالعكس. 3- وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو {تَبْلُو} وتتلو. 4- عكس ذلك نحو بصطة و {بَسْطَةً} ونحو {الصِّرَاطَ} والسراط. 5- أو بتغيرهما نحو فامضوا {فَاسَعَوْا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 -6 وإما في التقديم والتأخير نحو {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} بفتح ياء المضارعة مع بناء الفعل للفاعل في إحدى الكلمتين وبضمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى. 7- أو في الزيادة والنقصان نحو أوصى {وَوَصَّى} . فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها. وأما القاضي ابن الطيب فيقول فيما يحكيه القرطبي عنه: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا: 1- منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته. مثل {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ، وأطهر أي بإسكان الراء وضمها ويضيق صدري، {وَيَضِيقُ صَدْرِي} أي بإسكان القاف وضمها. 2- ومنها ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب مثل: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وباعد أي بصيغة الماضي والطلب. 3- منها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف مثل قوله: ننشرها و {نُنْشِزُهَا} أي بالراء والزاي. 4- ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه مثل: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وكالصوف المنفوش. 5- ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} وطلع منضود. 6- ومنها التقديم والتأخير مثل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءت سكرة الحق بالموت. 7- ومنها الزيادة والنقصان نحو: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} . وله تسع وتسعون نعجة أنثى أي بزيادة لفظ أنثى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 6- النسبة بين هذه المذاهب ومذهب الرازي ويذهب بعض الجهابذة إلى القول بالاتحاد بين هذه المذاهب الثلاثة ومذهب الرازي بل بينها جميعا وبين ما يشابهها ويجعل الخلاف بينها كلها لفظيا لا حقيقيا. وذلك تكلف بعيد فيما أرى لأننا نلاحظ وجها كاملا في كلام الرازي لم ينوه به واحد من أولئك الثلاثة. فهو فضلا عن أنه أدمج وجوههم السبعة في وجوه ستة بطريقته الدقيقة نجده قد عقد الوجه السابع لاختلاف اللهجات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم ونحو ذلك. على حين أننا ما رأينا واحدا من أولئك الأعلام الثلاثة عرض لهذا النوع من الاختلاف. بل وجدنا في كلامهم ما جعلهم يهملون هذا الوجه عن قصد وعمد. فهذا ابن قتيبة يقول: وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام. والروم والإشمام والتخفيف والتسهيل ونحو ذلك فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا اهـ. ولكني أرى أن هذا العذر الذي قدمه ابن قتيبة لإهمال هذا الوجه لا يسوغ ذلك الإهمال. فإن المسألة ليست مسألة أسماء وعناوين يترتب عليها أن اختلاف اللهجات في اللفظ الواحد تخرجه عن أن يكون واحدا أو لا تخرجه بل المسألة مسألة رعاية أمر واقع تختلف به القراءات فعلا ويمكن أن يكون مثار النزاع السابق الذي دب بين الصحابة في اختلاف القراءات كما يكون أيضا مثارا للنزاع في كل عصر ومصر بين القراء إذا لم يعلموا أن الجميع من عداد الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن. وذلك لأن تحريف القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 يحرم بما يمس صورته وطريق أدائه وكيفية لهجاته كما يحرم بما يمس جوهره وتغيير حروفه وكلماته وحركاته وترتيبه. أمر آخر: هو أن التيسير على الأمة وهي الحكمة البارزة في نزول القرآن على سبعة أحرف لا يتحقق على الوجه الأكمل إلا بحسبان هذا الوجه الذي نوه به الرازي وهو اختلاف اللهجات. بل هذا قد يكون أولى بالحسبان وأحرى بالرعاية في باب التخفيف والتيسير لأنه قد يسهل على المرء أن ينطق بكلمة من غير لغته في جوهرها ولا يسهل عليه أن ينطق بكلمة من غير لغته نفسها بلهجة غير لهجته وطريقة في الأداء غير طريقته. ذلك لأن الترقيق والتفخيم والهمز والتسهيل والإظهار والإدغام والفتح والإمالة ونحوها ما هي إلا أمور دقيقة وكيفيات مكتنفة بشيء من الغموض والعسر في النطق على من لم يتعودها ولم ينشأ عليها. واختلاف القبائل العربية فيما مضى كان يدور على اللهجات في كثير من الحالات وكذلك اختلاف الشعوب الإسلامية وأقاليم الشعب الواحد منها الآن يدور في كثير من الحالات أيضا على اختلاف اللهجات. وإذن فتخفيف الله على الأمة بنزول القرآن على سبعة أحرف لا يتحقق إلا بملاحظة الاختلاف في هذه اللهجات. حتى إن بعض العلماء جعل الوجوه السبعة منحصرة في اللهجات لا غير كما يأتي. قال الإمام ابن قتيبة نفسه في كتاب المشكل ما نصه: فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرئ كل أمة لعله يريد بالأمة القبيلة بلغتهم وما جرت به عادتهم فالهذلي يقرأ "عتى حين" يريد {حَتَّى حِينٍ} هكذا يلفظ بها ويستعملها أي يقلب الحاء عينا في النطق. والأسدي يقرأ {يَعْلَمُونَ، وَنَعْلَمَ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، أَلَمْ أَعْهَدْ} بكسر حروف المضارعة في ذلك كله والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز. والآخر يقرأ {قِيلَ لَهُمْ وَغِيضَ الْمَاءُ} بإشمام الضم مع الكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 و {بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} بإشمام الكسر مع الضم. و {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} بإشمام الضم مع الإدغام. ثم قال ابن قتيبة أيضا: ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا ويافعا وكهلا لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ولا يمكن إلا بعد رياضة للنفس طويلة وتذليل للسان وقطع للعادة. فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعا في اللغات ومتصرفا في الحركات كتيسيره عليهم في الدين اهـ. فأنت تراه قد اعتبر اللهجات وطرق الأداء صراحة في هذه الكلمات. وكذلك نجد العلامة ابن الجزري يعترف بهذا الاختلاف في اللهجات ويقول ما نصه: وهذا يقرأ {عَلَيْهِمْ} و {فِيهِمْ} بضم الهاء والآخر يقرأ عليهمو ومنهمو بالصلة. وهذا يقرأ {قَدْ أَفْلَحَ} و {قُلْ أُوحِيَ} {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} بالنقل والآخر يقرأ {مُوسَى} و {عِيسَى} بالإمالة. وغيره يلطف. وهذا يقرأ {خَبِيراً بَصِيراً} بترقيق الراء والآخر يقرأ {الصَّلاةَ} و {الطَّلاقَ} بالتفخيم إلى غير ذلك اهـ. ولكن من العجب العاجب أن هذين الإمامين الجليلين اللذين اعترفا صراحة باختلاف اللهجات وطرق الأداء على هذا الوجه فاتهما أن ينظماه في سلك الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن تيسيرا على الأمة. والعصمة لله وحده. فالأحق والأدق ما ذهب إليه الرازي. ولعل هذه الدقة وهذا الشمول الذي وفق إليه الرازي في الوجوه السبعة هو التنقيح الذي نوه به ابن حجر إذ قال: وقد أخذ أي الرازي كلام ابن قتيبة ونقحه. وليس معناه الاتحاد بينهما لما علمت من وضوح الفرق وأن كلام الرازي أعم من كلام أولئك الثلاثة عموما مطلقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 7- دفع الاعتراضات الواردة على هذا المذهب اعترض على هذا المذهب وما قاربه من مذهب ابن قتيبة وابن الجزري وابن الطيب بجملة اعتراضات نقدمها إليك ثم نفندها بين يديك فيما يأتي: الاعتراض الأول يقولون: إن هذا القول مع اختلاف قائليه في بيانه لم يذكر واحد منهم دليلا إلا أنه تتبع وجوه الاختلاف في القراءة فوجدها لا تخرج عن سبعة. وهذا لا ينهض دليلا لأي واحد منهم على أن المراد بالأحرف السبعة الأوجه التي تختلف فيها القراءة. ونجيب أولا: بأن هذا المذهب الذي اخترناه لم نختلف ولم نتردد في بيانه. ثانيا: أنا أيدناه بعدة أدلة لا بدليل واحد. ثالثا: أنا لا نسلم كون تتبع وجوه الاختلاف في القراءة لا يصلح دليلا لبيان الأحرف السبعة بهذه الوجوه السبعة. كيف؟ والاستقراء التام دليل من جملة الأدلة التي يحترمها المنطق القديم والمنطق الحديث ما دام مستوفيا لشروطه الثلاثة التي أولها أن تكون القضية الاستقرائية متضمنة حكما حقيقيا وثانيها أن تكون كلية حقيقية أي موضوعها كليا حقيقيا صادقا على ما وجد من أفراده فيما مضى وما هو موجود في الحال وما يمكن أن يوجد في المستقبل. وثالثها أن يكون الوصول إلى القضية الاستقرائية بواسطة الملاحظة والتجربة. ولا ريب أن الوجوه السبعة التي ذكرها أبو الفضل الرازي تحقق في استقرائها الشروط الثلاثة لأن الرازي لاحظ كل وجوه الاختلاف فوجدها لا تخرج عن هذه السبعة ثم أصدر بعد هذا الاستقراء التام حكما حقيقيا بأنه لا معنى لهذه الأحرف السبعة في الحديث الشريف سوى تلك الأوجه السبعة. وهو حكم يقوم على قضية كلية سالبة كما ترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الاعتراض الثاني يقولون: إن طريق تتبع أبي الفضل الرازي وابن قتيبة وابن الجزري وابن الطيب يخالف بعضها بعضا. وهذا يدل على أنه يمكن الزيادة على سبعة وجوه. ونجيب: بأن مجرد الاختلاف في طرق استقراء هؤلاء الأئمة لا يلزم منه إمكان الزيادة على سبعة في مذهب كل منهم. إنما يلزم ذلك من كان استقراؤه ناقصا دون من كان استقراؤه تاما. وقد أثبتنا أمامك أن استقراء الرازي تام مستوف لجميع شروط الإنتاج. ولا يضيره أن يسلك في طريقة استقرائه سبيلا لم يسلكها مخالفوه فلكل إنسان أن يختار في استقرائه ما شاء من الطرق التي يراها أصوب وأقرب ما دام ملتزما لشرائط إنتاجه. وإذا كان غيره قد وقع في نقص من تتبعه واستقصائه فلا يضير ذلك مذهب الرازي القائم على الاستقراء التام في قليل ولا كثير. {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . الإعتراض الثالث يقولون: إنك قد علمت أن الزيادة إلى سبعة أحرف كان الغرض منها الرخصة وأكثر الأمة يومئذ أمي لا يكتب ولا يعرف الرسم وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها فحسب والرخصة ليست ظاهرة في قراءة الفعل المبني للمجهول أو للمعلوم أو في إبدال حركة بأخرى أو حرف بآخر أو تقديم وتأخير فإن القراءة بأحدها لا توجب مشقة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم المعافاة منها ويقول: "إن الأمة لا تطيق ذلك" ويطلب التيسير على الأمة بإبدال حرف أو تغيير فعل من المضي إلى الأمر أو من البناء للمعلوم إلى البناء للمجهول هذا لا تفيده الروايات السابقة ولا تدل عليه. ونجيب: بأنا لا نسلم خفاء الرخصة في قراءة الفعل المبني للمجهول أو للمعلوم أو في إبدال حركة بأخرى أو حرف بآخر أو تقديم وتأخير. كيف؟ والرخصة في ذلك ظاهرة أيضا. بل هي ظاهرة فيما كان دونها وهو اختلاف اللهجات مع بقاء الكلمة والحرف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 والحركة والترتيب بين الكلمات والحروف. وهذا نشاهده نحن ونحسه في تيسر أو تعسر بعض صفات الحروف على بعض الناس في النطق دون صفات أخرى. فالبعض يسهل عليه التفخيم دون الترقيق أو الفتحة دون الإمالة أو الإظهار دون الإدغام والبعض يصعب عليه ذلك ويسهل عكسه. فكيف إذا تغيرت الكلمات أو الحروف أو الحركات أو الترتيب. الاعتراض الرابع يقولون: إنه لا يتصور وجود أوجه الخلاف في القراءات المذكورة في كلمة واحدة حتى يكون ذلك تيسيرا وتخييرا كما تقدم. وإن أرادوا أن ذلك متفرق في القرآن جميعه كالقائل باللغات السبع المتفرقة في القرآن لم يكن ثمة رخصة ولا اختلاف بين الصحابة. ونجيب: بأن هذا الإعتراض مبني من أساسه على غفلة عن حقيقة هذا المذهب المختار وأشباهه لأنه عبارة عن وجود سبعة إليها ترجع جميع الاختلافات في القراءة دون أن تلتزم هذه الوجوه السبعة في الكلمة الواحدة ودون أن يقال: إنها موزعة أشتاتا على أبعاض القرآن. وإذا فالرخصة متحققة بل لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا بهذا القول. وماذا عسى أن يبقى من التيسير والتخفيف وقد جمعت هذه الوجوه كل اختلاف في القراءات متواترها وصحيحها وضعيفها وشاذها بكل طريق من طرق الإختلاف حتى ولو كان في اللهجات ولو وصلت لغات الكلمة إلى سبع وثلاثين كما أسلفنا في كلمة {أُفٍّ} حكاية عن الرماني. الاعتراض الخامس يقولون: إن الرخصة قد وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها. وأجيب باحتمال أن يكون الانحصار المذكور وقع اتفاقا وإنما اطلع عليه بالاستقراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والأقعد من هذا في الجواب أن يقال: إن الانحصار المذكور عرف بطريق الاستقراء التام وهو دليل من الأدلة القاطعة كما تقدم الكلام عليه جوابا عن اعتراض سابق. وكون الرخصة وقعت وأكثرهم أميون لا يقدح في بيان الحروف السبعة المذكورة لأن الحاجة لم تكن ماسة إلى تحديد معنى الأحرف السبعة بهذا الوصف العنواني الذي اعتبرت به تلك الوجوه سبعة فحسبهم أن يعلموا أن وجوه الاختلاف بينهم سبعة وجوه ولا يضيرهم ألا يستطيعوا العنونة عنها بما نعنون نحن ما داموا يعرفون السبعة تطبيقا في جميع مفردات القرآن وما داموا يعولون في القراءة على تلقيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يؤمنون بأنه لا يغادر في إبلاغ القرآن وجها من وجوهه السبعة. ونظير ذلك أنهم كانوا لا يعرفون تلك العناوين والأسماء والقوانين التي تتصل بالإعراب والبناء ولكنهم كانوا يعرفون أكثر منا كيف ينطقون نطقا صحيحا فصيحا منطبقا عليه ما عرفنا نحن بعد من تلك الأسماء والقواعد المتصلة بالإعراب والبناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 8- بقاء الأحرف السبعة في المصاحف ننتقل بك إلى نقطة أخرى: هل الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم لها وجود في المصاحف العثمانية. ذهب جماعة من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى أن جميع هذه الأحرف موجودة بالمصاحف العثمانية. واحتجوا بأنه لا يجوز للأمة أن تهمل نقل شيء منها وأن الصحابة أجمعوا على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك. ومعنى هذا أن الصحف التي كانت عند أبي بكر جمعت الأحرف السبعة ونقلت منها المصاحف العثمانية بالأحرف السبعة كذلك. وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل متضمنة لها. وذهب ابن جرير الطبري ومن لفَّ لفَّه إلى أن المصاحف العثمانية لم تشتمل إلا على حرف واحد من الحروف السبعة وتأثروا في هذا الرأي بمذهبهم في معنى الحروف السبعة وما التزموه فيه من أن هذه السبعة كانت في صدر الإسلام أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان. ثم رأت الأمة بقيادة عثمان أن تقتصر على حرف واحد من السبعة جمعا لكلمة المسلمين فأخذت به وأهملت كل ما عداه من الأحرف الستة ونسخ عثمان المصاحف بهذا الحرف الذي استبقته الأمة وحده. وسيأتي بيان هذا المذهب وما ورد عليه من توهين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 والتحقيق أن القول باشتمال المصاحف العثمانية على الأحرف السبعة كلها أو بعضها يتوقف على أمرين: أحدهما تحديد المراد من الأحرف السبعة وثانيهما الرجوع إلى ما هو مكتوب وماثل بتلك المصاحف في الواقع ونفس الأمر. ولقد أسلفنا لك ما اخترنا في تحديد المراد من الأحرف السبعة وأنها الأوجه التي يرجع إليها كل اختلاف في القراءات سواء منها ما كان صحيحا وشاذا ومنكرا وأنها تنحصر في سبعة على ما ذكره الرازي الذي حالفه التوفيق في الدقة والاستقراء التام. ونحن إذا رجعنا بهذه الأوجه السبعة إلى المصاحف العثمانية وما هو مخطوط بها في الواقع ونفس الأمر نخرج بهذه الحقيقة التي لا تقبل النقض ونصل إلى فصل الخطاب في هذا الباب وهو أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها ولكن على معنى أن كل واحد من هذه المصاحف اشتمل على ما يوافق رسمه من هذه الأحرف كلا أو بعضا بحيث لم تخل المصاحف في مجموعها عن حرف منها رأسا. ولنبين ذلك في المذهب الذي اخترناه: أما الوجه الأول: منه وهو اختلاف الأسماء إفراده وجمعا الخ نحو قوله سبحانه {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} المقروءة بجمع الأمانة وإفرادها فقد اشتمل عليهما المصحف إذ كان الرسم العثماني فيه هكذا: {لأمنتهم} برسم المفرد في الحروف ولكن عليها ألف صغيرة لتشير إلى قراءة الجمع وغير منقوطة ولا مشكولة. وأما الوجه الثاني: وهو اختلاف تصريف الأفعال نحو قوله سبحانه {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} المقروءة بكسر الكاف وضمها في الفعل فقد وافقت كلتا القراءتين رسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 المصحف العثماني أيضا لأن هيكل الفعل واحد في الخط لا يتغير في كلتا القراءتين والمصحف العثماني لم يكن معجما ولا مشكولا. وأما الوجه الثالث: وهو اختلاف وجوه الإعراب كقراءة {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ} بفتح الراء وضمها فإن الرسم يحتملهما كالوجه السابق وهو واضح. وأما الوجه الرابع: وهو الاختلاف بالنقص والزيادة فمنه ما يوافق الرسم في بعض المصاحف نحو قوله سبحانه في سورة التوبة: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} وقرئ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} بزيادة لفظ {مِنْ} وهما قراءتان متواترتان وقد وافقت كلتاهما رسم المصحف بيد أن ذات الزيادة توافق رسم المصحف المكي لأن لفظ من ثابتة فيه. أما حذفها فإنه يوافق رسم غير المصحف المكي حيث لم تثبت فيه أي في غير المصحف المكي. ومن هذا الوجه ما لا يوافق رسم المصحف بحال من الأحوال نحو قوله سبحانه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وقرأ ابن عباس هكذا "يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" بزيادة كلمة صالحة فإن هذه الكلمة لم تثبت في مصحف من المصاحف العثمانية فهي مخالفة لخط المصحف وذلك لأن هذه القراءة وما شاكلها منسوخة بالعرضة الأخيرة أي عرض القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل آخر حياته الشريفة. ويدل على هذا النسخ إجماع الأمة على ما في المصاحف فتلخص مما ذكرنا أن بعض هذا الوجه الرابع اشتملت عليه المصاحف وبعضه لم تشتمل عليه لأنه نسخ. وأما الوجه الخامس: وهو الاختلاف بالتقديم والتأخير فهو مثل سابقه. منه ما هو موافق لرسم المصحف نحو قوله سبحانه في سورة التوبة: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} قرئ الفعل بالبناء للفاعل في الأول وللمفعول في الثاني وقرئ بالعكس وهما قراءتان متواترتان ولا يخالف شيء منهما رسم المصحف. ومنه ما خالف رسم المصحف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 نحو قوله سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وقرئ وجاءت سكرة الحق بالموت فإن هذه القراءة الثانية لا يحتملها رسم المصحف وإن كانت منقولة عن أبي بكر الصديق وطلحة بن مطرف وزين العابدين رضي الله عنهم لكنها لم تتواتر فهي منسوخة بالعرضة الأخيرة وبإجماع الصحابة على المصحف العثماني فلا يجوز القراءة بها بخلاف القراءة الأولى لأنها وافقت خط المصحف واستقرت القراءة بها دون نسخ. ومثل ذلك قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وقرئ إذ جاء فتح الله والنصر فالأولى هي التي وافقت الرسم. والثانية لم توافقه فهي منسوخة أيضا لما ذكرنا. وأما الوجه السادس: وهو الاختلاف بالإبطال فقد وافق بعضه رسم المصحف وخالفه البعض أيضا. مثال ما وافق الرسم قوله سبحانه: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وقرئ فتثبتوا وهما قراءاتان متواترتان. وتوافق كلتاهما رسم المصحف. ومثال الثاني قراءة إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله وقراءة "وتكون الجبال كالصوف المنفوش" فإنهما مخالفتان لرسم المصحف. وذلك لنسخهما بالعرضة الأخيرة أيضا واستقرار الأمر على ما وافق الرسم منه وهو قراءة {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقراءة {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} . وأما الوجه السابع: وهو الاختلاف بسبب تباين اللهجات فيوافق رسم المصحف موافقة تامة. لأنه اختلاف شكلي لا يترتب عليه تغيير جوهر الكلمة وهو ظاهر وتجد شواهد كثيرة في خط المصحف تدل على بعض هذا النوع من الاختلاف نحو {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} فإنها رسمت هكذا بياء في الفعل بعد التاء وبقلب ألف موسى ياء ومن غير شكل ولا إعجام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 9- الأقوال الأخرى ودفعها وهاك معرضا عاما تشهد فيه الآراء الأخرى بما لها وما عليها. رأينا من واجبنا أن نسوقها إليك ثم نوهنها بين يديك كيلا يكون منها حجر عثرة في طريقك إلى ما اخترناه وأيدناه. القول الأول إن هذا الحديث مشكل لا سبيل إلى معرفة معناه المقصود. وشبهته أن لفظ أحرف فيه جمع حرف والحرف مشترك لفظي بين معان كثيرة. والمشترك اللفظي لا يدرى أي معانيه هو المقصود؟. ويدفع هذا الرأي بأنا لا نسلم ما قاله على إطلاقه من أن المشترك اللفظي لا يدرى أي معانيه هو المقصود؟ بل المشترك اللفظي يدل على معناه المقصود متى قامت قرينة تعين ذلك المعنى تقول نظرت بالعين المجردة وشربت من عين زبيدة ومعناهما واضح غير مشكل مع أن لفظ العين فيهما مشترك لفظي ولكن مدلوله يتعين في المثال الأول أن يكون جارحة الإنسان الباصرة ومدلوله في المثال الثاني يتعين أن يكون نابعة الماء الجارية وذلك بقرينة لفظ نظرت في المعنى الأول ولفظ شربت في الثاني. وعلى هذا الباب جاء لفظ أحرف في الحديث الشريف فإن سياق الروايات السابقة يدل على أن المراد بالحرف معنى من معانيه السابقة على التعيين وهو الوجه وأن الأحرف هي الأوجه التي يرجع إليها الاختلاف في قراءة ألفاظ القرآن لا معانيه. وقد قام الدليل العقلي وهو الاستقراء التام على أن هذه الوجوه سبعة كما أسلفنا فإياك أن تنسى وتذكر الشاهد الثامن إن نفعت الذكرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 القول الثاني وإليه جنح القاضي عياض ومن تبعه: أن لفظ السبعة في الحديث الشريف ليس مرادا به حقيقة العدد المعروف إنما هو كناية عن الكثرة في الآحاد كما أن السبعين تستعمل كناية عن الكثرة في العشرات وكما أن السبعمائة تستعمل كناية عن الكثرة في المئات. ويدفع هذا بما قدمناه في الشاهد الثاني. فارجع إليه واحرص عليه. القول الثالث والرابع أن المراد بالأحرف السبعة سبع قراءات. ويدفع بأنه إذا كان المراد بهذا أن كل كلمة من كلمات القرآن تقرأ سبع قراءات فذلك ممنوع لأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل. وإذا كان المراد أن غاية ما ينتهي إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة سبعة أحرف فهذا يصح أن يكون قولا رابعا كما قال السبكي ثم هو غير مسلم أيضا لأن في كلمات القرآن ما يقرأ بطرق أكثر كما ورد أن كلمة {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} تقرأ باثنين وعشرين وجها. وأن كلمة {أُفٍّ} الإسراء فيها سبع وثلاثون لغة. وإذا كان المراد أن الاختلاف في القراءات لا يخرج عن سبعة أوجه فعلى صاحب هذا القول البيان فإذا بينها بالوجوه التي ذكرناها كان هذا القول متداخلا معها فلا يستقيم اعتباره قولا مستقلا برأسه. وبعض أكابر العلماء حاول أن يجعله متحدا مع القول الذي اخترناه وما أشبهه ولكنك قد علمت ما فيه. القول الخامس والسادس والسابع ما نقلناه آنفا عن ابن قتيبة وعن ابن الجزري وعن ابن الطيب. وقد بان لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 هناك أن في ثلاثتها قصورا عن أن تشمل جميع القراءات المتواترة وإن كانت قريبة من القول المختار. ثم بينها تداخل يتعذر أو يتعسر معه اعتبارها أقوالا مستقلة. القول الثامن أن المراد بالأحرف السبعة وجوه ترجع إلى كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين. وهو مدفوع بأنه قد زاد فيما عده على سبعة. وإذا أجاب بأن السبعة غير مراد بها حقيقتها وأنها مثل في الكثرة فقد علمت ما فيه. ثم إن الأوجه التي ذكرها واحدا واحدا ترجع كلها إلى نوع واحد هو اختلاف اللهجات وكيفيات النطق وحدها فلا تشمل القراءات التي ترجع إلى اختلاف نفس الألفاظ بالإبدال أو التقديم والتأخير أو النقص والزيادة ونحو ذلك. وفي هذا القصور ما فيه على أكثر مما أسلفنا في رد تلك الآراء القاصرة. القول التاسع وهو أن المراد بالأحرف السبعة أوجه من الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة ومعنى واحدا وإن شئت فقل: سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة ومعنى واحد نحو هلم وأقبل وتعال وعجل وأسرع وقصدي ونحوي فهذه ألفاظ سبعة معناها واحد هو طلب الإقبال. وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث منهم سفيان وابن وهب وابن جرير الطبري والطحاوي. وحجتهم ما جاء في حديث أبي بكرة من قوله صلى الله عليه وسلم: "كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة الله ولا آية رحمة بعذاب" نحو قولك: تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع وعجل. وما جاء في حديث أبي بن كعب أنه كان يقرأ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 مروا فيه سعوا فيه وما جاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} أمهلونا أخرونا. ويدفع هذا القول بوجوه: أحدها: أن ما ذكر في هذه الأحاديث ليس من قبيل حصر الأحرف السبعة فيها وفي نوعها وحده حتى يصح الاستدلال بها على ما ذهبوا إليه بل هو -كما قال ابن عبد البر- من قبيل ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها وأنها معان متفق مفهومها مختلف مسموعها لا يكون في شيء منها معنى وضده. وكيف يكون المراد حصر الأحرف السبعة فيما ذكروه؟ على حين أنه يرجع إلى بعض نوع واحد من أنواع الاختلاف وهو إبدال كلمة بأخرى أعم من أن يكون بمرادف أو غير مرادف. ولا ريب أن مذهبهم المذكور يتلخص في أنه إبدال كلمة بأخرى على شروط الترادف. وهذا بعض ذاك. فأين يذهبون بتلك الوجوه الأخرى وهي باقية إلى اليوم في القراءات المتواترة المكتوبة بين دفتي المصحف على ما بيناه في المذهب المختار. فقصر الحروف السبعة على بعض ذلك النوع وحده فيه ما فيه من القصور الذي أوردنا عليه ما أوردنا في الأقوال السابقة القاصرة بل القصور هنا أشد وأفحش لأنه يرجع إلى بعض نوع واحد لا إلى نوع كامل بل له أنواع متعددة. ثانيها: أن أصحاب هذا المذهب على جلالة قدرهم ونباهة شأنهم قد وضعوا أنفسهم في مأزق ضيق لأن ترويجهم لمذهبهم اضطرهم إلى أن يتورطوا في أمور خطرها عظيم إذ قالوا إن الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل عليها القرآن. أما الستة الأخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود ألبتة. ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم. ثم حاولوا أن يؤيدوا ذلك فلم يستطيعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أن يثبتوا للأحرف الستة التي يقولون بضياعها نسخا ولا رفعا وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة أخرى هي دعوى إجماع الأمة على أن تثبت على حرف واحد وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه من الأحرف الستة وأنى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه؟ هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة وهي القول بأن استنساخ المصاحف في زمن عثمان رضي الله عنه كان إجماعا من الأمة على ترك الحروف الستة والاقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان المصاحف عليه مع أننا أثبتنا لك فيما مر بقاء الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية حرفا حرفا ومثلنا لذلك. وقصارى ما استطاعوا أن يسوغوا به مذهبهم وتورطاتهم هذه أن الأمة على عهد عثمان رضي الله عنه قد اختلفت في قراءات القرآن إلى حد جعلهم يتنازعون ويترامون بتكفير بعضهم بعضا حتى خيفت الفتنة فرأى الصحابة بقيادة خليفتهم الحكيم عثمان رضي الله عنه أن يعالجوا المشكلة ويطفئوا الفتنة بهذه الطريقة من جمع الناس على حرف واحد ونسخ المصاحف على حرف واحد وإهمال كل ما عداه من الحروف والمصاحف المنسوخة عليها. وهذا لعمرك استناد مائل واحتجاج باطل. فقد تنازع الناس على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا في قراءات القرآن على حروف مختلفة كما رأيت في الروايات السابقة ومع ذلك أقرهم الرسول على هذه الحروف المختلفة وقررها فيهم وحملهم على التسليم بها في أساليب متنوعة. وجعل ذلك هو الحل الوحيد لمشكلتهم والعلاج الناجع لنزاعهم. وأفهمهم أن تعدد وجوه القراءة إنما هو رحمة من الله بهم بل بالأمة كلها. وقرر في صراحة وهو يسأل مولاه المزيد من عدد الحروف أن الأمة لا تطيق حصرها في مضيق حرف واحد وقال: "وإن أمتي لا تطيق ذلك" إلى آخر ما عرفت. وأنت خبير بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم القيامة. وهي لا تطيق ذلك كما قرر رسولها المعصوم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه. كما نشاهد نحن الآن من أن بعض الألسنة في بعض الشعوب الإسلامية لا يتيسر لها أن تحسن النطق ببعض الحروف ولا ببعض اللهجات دون بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فكيف يسوغ للصحابة وهم خير القرون أن يغلقوا باب الرحمة والتخفيف الذي فتحه الله لأمة الإسلام مخالفين في ذلك هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في عمله للتخفيف بطلب تعدد الحروف وعلاجه للنزاع بين المختلفين بتقرير هذا التعدد للحروف؟ ألا إن هذه ثغرة لا يمكن سدها وثلمة يصعب جبرها وإلا فكيف يوافق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضياع ستة حروف نزل عليها القرآن دون أن يبقوا عليها مع أنها لم تنسخ ولم ترفع؟ وعلى حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرر بقوله وفعله أنه لا يجوز لأحد أيا كان أن يمنع أحدا أيا كان من القراءة بحرف من السبعة أيا كان. فقد صوب قراءة كل من المختلفين وقال لكل: "هكذا أنزلت" وضرب في صدر أبي بن كعب حين استصعب عليه التسليم بهذا الاختلاف في القراءة. إلى آخر ما شرحنا في الشاهدين الثالث والخامس من الشواهد الماضية. وقصارى القول أننا نربأ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا قد وافقوا أو فكروا فضلا عن أن يتآمروا على ضياع أحرف القرآن الستة دون نسخ لها. وحاشا عثمان رضي الله عنه أن يكون قد أقدم على ذلك وتزعمه. وكيف ينسب إليه هذا؟ والمعروف أنه نسخ المصاحف من الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يدب النزاع في أقطار الإسلام بسبب اختلاف حروف القراءة في القرآن. فكانت تلك الصحف محتملة للأحرف السبعة جميعا وموافقة لها جميعا ضرورة أنه لم يحدث وقتئذ من النزاع والشقاق ما يدعو إلى الاقتصار على حرف واحد في رأيهم. ولم يثبت أن الصحابة تركوا من الصحف المجموعة على عهد أبي بكر حرفا واحدا فضلا عن ستة حروف ولو كان ذلك لنقل إلينا متواترا لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله تواترا. ثم كيف يفعل عثمان رضي الله عنه ذلك وهو الذي عرف أن علاج الرسول لمثل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 النوع الذي دب في زمانه كان بجمع الناس وتقريرهم على الحروف السبعة لا بمنعهم عنها كلا ولا بعضا. ثم كيف يفعل عثمان ذلك وتوافقه الأمة ويتم الإجماع؟ ثم يكون خلاف في معنى الأحرف السبعة مع قيام هذا الإجماع أي كيف نجمع الأمة على ترك ستة أحرف وإبقاء حرف واحد ثم يختلف العلماء في معنى الأحرف السبعة على أربعين قولا ويكادون يتفقون رغم خلافهم هذا على أن الأحرف السبعة باقية مع أن الإجماع حجة عند المسلمين وبه ينجلي ظلام الشك عن وجه اليقين. ولنفرض جدلا أن نزاع المسلمين في أقطار الأرض أيام خلافة عثمان رضي الله عنه قضى عليه أن يجمع المسلمين على حرف واحد في القراءة فلماذا لم تسمح نفسه الكريمة بإبقاء الستة الأحرف الباقية للتاريخ لا للقراءة مع أن الضرورة تقدر بقدرها وهذه الستة الأحرف لم تنسخ لا تلاوة ولا حكما حتى تذهب بجرة قلم كذلك ثم يبخل عليها بالبقاء للتاريخ وحده في أعظم مرجع وأقدس كتاب وهو القرآن الكريم. على حين أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين حفظوا للتاريخ آيات نسخت تلاوتها ونسخت أحكامها جميعا. وعلى حين أنهم حفظوا قراءات شاذة في القرآن ثم نقلت إلينا وكتب لها الخلود إلى اليوم والى ما بعد اليوم. بل نقلوا إلينا أحاديث منسوخة وتناقل العلماء أحاديث موضوعة ونصوا على حكم كل منها وعلى إهمال العمل بها. ثم إن من عرف تحمس الصحابة لدينهم واستبسالهم في الدفاع عن حمى القرآن يستبعد كل البعد بل يحيل كل الإحالة أن يكونوا قد فعلوا ذلك أو أقل من ذلك عاود ما قررناه في الشاهد السادس من شواهدنا الماضية وانظر إلى موقف عمر من هشام وموقف هشام من عمر وموقف أبي وابن مسعود وصاحبيهما وتأمل كيف أن كلا من هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أبى أن يتنازل عن قراءة سمعها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على استمساكهم هذا وحل مشكلتهم بأن أعلمهم أن كلا منهم مصيب ومحسن وأن قراءة كل منهم هكذا أنزلت وأن القرآن أنزل على سبعة أحرف وأن من كفر بحرف منها فقد كفر بها كلها وألا يختلفوا في ذلك فقد أهلك الاختلاف من كانوا قبلهم. وبهذا قطعت جهيزة قول كل خطيب. أمر ثالث هو أن هؤلاء الذين شايعوا ذلك المذهب يلتزمون أن يقولوا: إن اختلاف القراءات الحاصل اليوم يرجع كله إلى حرف واحد وهكذا شاء لهم رأيهم أن يجعلوا تلك الكثرة الغامرة القائمة الآن حرفا واحدا على ما بينها من اختلاف في الوجوه والأنواع وعلى رغم أن من القراءات الحاضرة ما يكون وجه الاختلاف فيه ناشئا عن وجود ألفاظ مترادفة في كلمة واحدة ومعنى واحد ومنها ما هو من لغات قبائل مختلفة كما نص على ذلك السيوطي في النوع السابع والثلاثين. ونقلنا منه شيئا من موضع آخر من هذا المبحث. ولدينا دليل مادي أيضا على بقاء الأحرف السبعة جميعا هو بقاء التيسير والتخفيف وتهوين الأداء على الأمة الإسلامية الذي هو الحكمة في الأحرف السبعة. فها نحن أولاء لا نزال نشاهد عن طريق القراءات المختلفة القائمة الآن سبيلا سهلا قد وسع كافة الشعوب المسلمة سواء منها الأمم العربية وغير العربية والحمد لله على دوام فضله ورحمته وبقاء تخفيفه وتيسيره. وغفر الله لأولئك الأعلام الذين أخطأوا إصابة المرمى فقد اجتهدوا وللمجتهد أجر وإن أخطأ ونسأل الله التوفيق والسداد آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 القول العاشر أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب بمعنى أن القرآن لا يخرج عن سبع لغات من لغات العرب وهي لغة قريش وهذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن وهي أفصح لغات العرب. قال بعضهم: هذا أصح الأقوال وأولاها بالصواب وهو الذي عليه أكثر العلماء وصححه البيهقي واختاره الأبهري واقتصر عليه صاحب القاموس. وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبع مفرقة فيه فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم. قال: وبعض اللغات أسعد به من بعض وأكثر نصيبا وقيل في عد القبائل السبع آراء أخر. ويدفع هذا القول على جميع آرائه بأمرين: أحدهما أن في القرآن الكريم ألفاظا كثيرة من لغات قبائل أخرى غير السبعة التي عدوها. مثل كلمة {سَامِدُونَ} في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} فإنها بالحميرية. ومثل كلمة {خَمْراً} في قوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} فإنها بلغة أهل عمان لأنهم يسمون العنب خمرا أي حقيقة لا مجازا. ومثل كلمة {بَعْلاً} في قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} أي ربا بلغة أزد شنوءة. ومثل كلمة {لا يَلِتْكُمْ} أي لا ينقصكم في قوله تعالى: {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} فإنها بلغة بني عبس. ومثل كلمة {وَبَاءُوا} بمعنى استوجبوا في قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} فإنها بلغة جرهم ومثل كلمة {رَفَثَ} بمعنى جماع في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ} فإنها بلغة مذحج. ومثل كلمة {تُسِيمُونَ} بمعنى ترعون في قوله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} فإنها بلغة خثعم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 غير ذلك. وارجع إلى النوع السابع والثلاثين من إتقان السيوطي إن أردت المزيد. وحسبك في هذا المقام ما نقله الواسطي في كتابه الذي وضعه في القراءات العشر إذ يقول: إن في القرآن من أربعين لغة عربية وهي قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس عيلان وجرهم واليمن وأزد شنوءة وكندة وتميم وحمير ومدين ولخم وسعد العشيرة وحضرموت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبنو حنيفة وثعلب وطي وعامر بن صعصعة وأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلي وعذرة وهوازن والنمر واليمامة اهـ. ولا يغيبن عن بالك أن هذه اللغات كلها تمثلت في لغة قريش باعتبار أن لغة قريش كانت المتزعمة لها والمهيمنة عليها والآخذة منها ما تشاء مما يحلو لها ويرق في ذوقها ثم يأخذه الجميع عنها حتى صح أن يعتبر لسان قريش هو اللسان العربي العام وبه نزل القرآن على ما سبق بيانه فلا تغفل. والله يتولى هدانا أجمعين. ثانيهما أن توجيه هذا المذهب بما قاله أبو عبيد يقتضي أن يكون القرآن أبعاضا منه ما هو بلغة قريش ومنه ما هو بلغة هذيل وهكذا. ولا شك أن ذلك غير محقق لحكمة التيسير الملحوظة للشارع الحكيم في نزول القرآن على سبعة أحرف فإن هذا المذهب يستلزم أن كل شخص لا يمكنه أن يقرأ إلا البعض الذي نزل بلغته دون البعض الذي نزل بلغة غيره. وهذا باطل من ناحية ومخالف للاختلاف الذي صورته لنا الروايات السابقة بين الصحابة في القراءة من ناحية أخرى فإن المقروء فيها كان واحدا لا محالة كسورة الفرقان بين عمر وهشام. وسورة من آل حم بين ابن مسعود وصاحبه وقد صوب الرسول صلى الله عليه وسلم قراءة كل من المختلفين وكلاهما قرشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 القول الحادي عشر أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات قبائل مضر خاصة وأنها متفرقة في القرآن. وأن تلك القبائل السبع هي قريش وكنانة وأسد وهذيل وتميم وضبة وقيس. ونرد هذا بما رددنا به سابقه بل هذا أدنى إلى البطلان لأنه أخص مما قبله الذي دحضناه من جهة خصوصه فكيف هذا؟ تلك ناحية. وثمة ناحية أخرى: وهي أن في قبائل مضر شواذ ينزه عنها القرآن الكريم مثل كشكشة قيس وهي جعل كاف المؤنث شينا فيقولون في قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} قد جعل ربش تحتش سريا. ومثل تمتمة تميم الذين يجعلون السين تاء فيقولون في الناس النات مع أن هذه لغات لم يحفظ منها شيء في القرآن الكريم. القول الثاني عشر إلى الأربعين أن المراد بالأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن سبعة أصناف في القرآن وأصحاب هذه الأقوال يختلفون في تعيين هذه الأصناف. وفي أسلوب التعبير عنها إلى آراء تكمل بها العدة أربعين قولا. فمنهم من يقول: إنها أمر ونهي وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال. ومنهم من يقول: إنها وعد ووعيد وحلال وحرام ومواعظ وأمثال واحتجاج. ومنهم من يقول: إنها محكم ومتشابهة وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ومنهم من يقول: إنها لفظ عام أريد به العام ولفظ خاص أريد به الخاص ولفظ عام أريد به الخاص ولفظ خاص أريد به العام ولفظ يستغنى بتنزيله عن تأويله ولفظ لا يعلم فقهه إلا العلماء ولفظ لا يعلم معناه إلا الراسخون في العلم. ومنهم من يقول: إنها إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية وتعظيم الألوهية والتعبد لله ومجانبة الإشراك والترغيب في الثواب والترهيب من العقاب. ومنهم من يقول: إنها المطلق والمقيد والعام والخاص والنص والمؤول والناسخ والمنسوخ والاستثناء وأقسامه. ومنهم من يقول: إنها الحذف والصلة والتقديم والتأخير والاستعارة والتكرار والكناية والحقيقة والمجاز والمجمل والمفسر والظاهر والغريب. ومنهم من يقول سوى ذلك كله غير أنها من هذا الطراز أو من طراز ما سبق في الأقوال الأخرى حتى أكمل بها بعضهم عدة الأقوال أربعين قولا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 10- ردود إجمالية لهذه الأقوال الأخيرة والكل مردود ردا إجماليا بما يأتي: أولا: أن سياق الأحاديث السابقة لا ينطبق على هذه الأقوال بحال فإن هذه الأصناف التي عينوها لا يتأتى الاختلاف فيها بسبب القراءة. والاختلاف الذي نقلته الروايات السابقة تدل تلك الروايات نفسها على أنه ما كان إلا بسبب القراءة فتعين أن يكون مرجعه التلفظ وكيفية النطق لا تلك الأصناف والأنواع التي سردوها في معرض الآراء. انظر الشاهد الثامن من شواهدنا الماضية إن شئت. ثانيا: أنه لا يوجد لهم سند صحيح يدل على حصر الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن فيما بينوه. وما يكون لنا أن نقبل رأيا غير مدلل ولا مؤيد بحجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثالثا: أن التوسعة الملحوظة للشارع الرحيم في نزول القرآن على الأحرف السبعة لا تتحقق فيما ذكروه من تلك الأصناف والأنواع. رابعا: أن بعض تلك الآراء نلاحظ عليها أنها زادت على السبعة فيما ذكرته من الأصناف والأنواع. فإما أن تكون أخطأت في العد من أول الأمر وإما أن تكون متأثرة بفكرة أن لفظ السبعة كناية لا حقيقة وقد علمت فيما سبق ما فيه من خطأ أيضا راجع الشاهد الثاني من شواهدنا الآنفة إن أردت. خامسا: أن أكثر ما ذكروه في تلك الآراء والأصناف يتداخل بعضه في بعض ويشبه بعضه بعضا فمن المتعسر اعتبارها أقوالا مستقلة. نقل السيوطي عن الشرف المرسي أنه قال: هذه الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت؟ ولا يدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر؟ مع أنها كلها موجودة في القرآن فلا أدري معنى التخصيص. ومنها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة. وأكثرها معارض لحديث عمر وهشام ابن حكيم الذي في الصحيح فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه وإنما اختلفا في قراءة حروفه وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبع وهو جهل قبيح اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 10- علاج الشبهات الواردة على أصل الموضوع أعداء الإسلام في كثرة ونشاط ويقظة وبين المسلمين جهلة يؤذون الإسلام والأمة بأشد مما يؤذيه أعداؤه على حد قول القائل: لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وقد نرى ونسمع اتهامات وشبهات مرة من هنا ومرة من هناك فمن واجب الأمانة في أعناقنا أن نبدد ظلمات هذه الشبهات والتهم بما بين أيدينا من أنوار العلم وأسلحة الحجج. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} . الشبهة الأولى يقولون: إن أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف تثبت الاختلاف في القرآن مع أن القرآن نفسه يرفع الاختلاف عن نفسه إذ يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . وذلك تناقض ولا ندري أيهما يكون الصادق. والجواب: أن الاختلاف الذي تثبته تلك الأحاديث غير الاختلاف الذي ينفيه القرآن. وهذا كاف في دفع التناقض فكلاهما صادق. وبيان ذلك أن الأحاديث الشريفة تثبت الاختلاف بمعنى التنويع في طرق أداء القرآن والنطق بألفاظه في دائرة محدودة لا تعدو سبعة أحرف وبشرط التلقي فيها كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما القرآن فينفي الاختلاف بمعنى التناقض والتدافع بين معاني القرآن وتعاليمه مع ثبوت التنويع في وجوه التلفظ والأداء السابق. ومعنى ذلك أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يلزم منه تناقض ولا تخاذل ولا تضاد ولا تدافع بين مدلولات القرآن ومعانيه وتعاليمه ومراميه بعضها مع بعض. بل القرآن كله سلسلة واحدة متصلة الحلقات محكمة السور والآيات متآخذة المبادئ والغايات مهما تعددت طرق قراءته ومهما تنوعت فنون أدائه. وللمحقق ابن الجزري كلام نفيس يتصل بهذا الموضوع ننقل إليك شيئا منه بقليل من التصرف إذ يقول: قد تدبرنا اختلاف القراءات فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها اختلاف اللفظ لا المعنى. الثاني اختلافهما جميعا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد. الثالث اختلافهما جميعا مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد لكن يتفقان في وجه آخر لا يقتضي التضاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فأما الأول فكالاختلاف في ألفاظ الصراط وعليهم ويؤوده والقدس ويحسب ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط. وأما الثاني فنحو لفظ مالك وملك في الفاتحة لأن المراد في القراءتين هو الله تعالى لأنه مالك يوم الدين وملكه وكذا ننشزها بالزاي وننشرها بالراء لأن المراد بهما هو العظام. وذلك أن الله تعالى أنشرها أي أحياها وأنشزها أي رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت فضمن الله المعنيين في القراءتين. وأما الثالث فنحو قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قرئ بالتشديد والتخفيف في لفظ كذبوا المبني للمجهول. فأما وجه التشديد فالمعنى وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم. وأما وجه التخفيف فالمعنى: وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم أي كذبوا عليهم فيما أخبروهم به. فالظن في الأولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل. والظن في القراءة الثانية شك والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى في كلمة {لِتَزُولَ} وبكسر الأولى وفتح الثانية فيها أيضا. فأما وجه فتح الأولى ورفع الثانية من {لِتَزُولَ} فهو أن تكون كلمة {إِنْ} مخففة من الثقيلة أي وإن مكرهم كامل الشدة تقتلع بسببه الجبال الراسيات من مواضعها. وفي القراءة الثانية {إِنْ} نافية أي ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام. ففي الأولى تكون الجبال حقيقة وفي الثانية تكون مجازا. ثم قال أيضا: فليس في شيء من القرآن تناف ولا تضاد ولا تناقض. وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقد وجب قبوله ولم يسع أحدا من الأمة رده ولزم الإيمان به وأنه كله منزل من عند الله إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها واتباع ما تضمنته علما وعملا ولا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن هذا تعارض اهـ. إلى ذلك أشار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: لا تختلفوا في القرآن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ولا تنازعوا فيه فإنه لا يختلف ولا يتساقط: ألا ترون أن شريعة الإسلام واحدة حدودها وقراءتها وأمر الله فيها واحد. لو كان من الحرفين حرف يأمر بشيء وينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف. ولكنه جامع ذلك كله. ومن قرأ قراءة فلا يدعها رغبة عنها فإنه من كفر بحرف منه كفر به كله اهـ. الشبهة الثانية: يقولون: إن هذا الاختلاف في القراءات يوقع في شك وريب من القرآن خصوصا إذا لاحظنا في بعض الروايات معنى تخيير الشخص أن يأتي من عنده باللفظ وما يرادفه أو باللفظ وما لا يضاده في المعنى كحديث أبي بكرة وفيه كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب نحو قولك: تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع وعجل. جاء بهذا اللفظ من رواية أحمد بإسناد جيد ومثله حديث أبي بن كعب. وأكثر من ذلك ما جاء في فضائل أبي عبيد أن عبد الله بن مسعود أقرأ رجلا: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} فقال الرجل: طعام اليتيم فردها عليه فلم يستقم بها لسانه. فقال: أتستطيع أن تقول: طعام الفاجر قال: نعم. قال: فافعل اهـ. والجواب: أن اختلاف القراءات لا يوقع في شك ولا ريب ما دام الكل نازلا من عند الله. وأما هذه الروايات التي اعتمدت عليها الشبهة فلا نسلم أنه يفهم منها معنى تخيير الشخص أن يأتي من تلقاء نفسه باللفظ وما يرادفه أو باللفظ وما لا يضاده في المعنى حتى يوقع ذلك في ريب من هذا التنزيل. بل قصارى ما تدل عليه هذه الروايات أن الله تعالى وسع على عباده خصوصا في مبدأ عهدهم بالوحي أن يقرؤوا القرآن بما تلين به ألسنتهم. وكان من جملة هذه التوسعة القراءة بمترادفات من اللفظ الواحد للمعنى الواحد مع ملاحظة أن الجميع نازل من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقرأه الرسول على الناس على مكث وسمعوه منه ثم نسخ الله ما شاء أن ينسخ بعد ذلك وأبقى ما أبقى لحكمة سامية تستقبلك في مبحث النسخ. يدل على أن الجميع نازل من عند الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم لكل من المتنازعين المختلفين في القراءة من أصحابه: "هكذا أنزلت" وقول كل من المختلفين لصاحبه: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى لرسوله جوابا لمن سأله تبديل القرآن: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وليس بعد كلام الله ورسوله كلام. كذلك أجمعت الأمة على أنه لا مدخل لبشر في نظم هذا القرآن لا من ناحية أسلوبه ولا من ناحية ألفاظه بل ولا من ناحية قانون أدائه فمن يخرج على هذا الإجماع ويتبع غير سبيل المؤمنين يوله الله ما تولى ويصله جهنم وساءت مصيرا. وها نحن أولاء قد رأينا القرآن في تلك الآية يمنع الرسول من محاولة ذلك منعا باتا مشفوعا بالوعيد الشديد ومصحوبا بالعقاب الأليم. فما يكون لابن مسعود ولا لأكبر من ابن مسعود بعد هذا أن يبدل لفظا من ألفاظ القرآن بلفظ من تلقاء نفسه. انظر ما قررناه في الشاهدين: الرابع والسابع من هذا المبحث. أما هذه الرواية المنسوبة إلى ابن مسعود من أنه أقرأ الرجل بكلمة الفاجر بدلا من كلمة الأثيم في قول الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} فتدل على أن ابن مسعود سمع الروايتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما رأى الرجل قد تعسر عليه النطق بالأولى أشار عليه أن يقرأ بالثانية وكلاهما منزل من عند الله. وكذلك حديث أبي بكرة السابق لا يدل على جواز تبديل الشخص ما شاء من القرآن بما لا يضاده كما زعم الواهم إنما ذلك الحديث وأشباهه من باب الأمثال التي يضربها الرسول صلى الله عليه وسلم للحروف التي نزل عليها القرآن ليفيد أن تلك الحروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 على اختلافها ما هي إلا ألفاظ متوافقة مفاهيمها متساندة معانيها لا تخاذل بينها ولا تهافت ولا تضاد ولا تناقض ليس فيها معنى يخالف معنى آخر على وجه ينفيه ويناقضه كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضدها وتلك الأحاديث بهذا الوجه تقرير لأن جميع الحروف نازلة من عند الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . وهاك برهانا آخر ذكره صاحب التبيان في مثل هذا المقام إذ يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم البراء ابن عازب دعاء فيه هذه الكلمة ونبيك الذي أرسلت فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ورسولك الذي أرسلت فلم يوافقه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بل قال له: "لا. ونبيك الذي أرسلت". وهكذا نهاه عليه الصلاة والسلام أن يضع لفظة رسول موضع لفظة نبي مع أن كليهما حق لا يحيل معنى إذ هو صلى الله عليه وسلم رسول ونبي معا. ثم قال: فكيف يسوغ للجهال المغفلين أن يقولوا: إنه عليه الصلاة والسلام كان يجيز أن يوضع في القرآن الكريم مكان عزيز حكيم غفور رحيم أو سميع عليم. وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا والله يقول مخبرا عن نبيه: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى اهـ بتصرف قليل. الشبهة الثالثة: يقولون: إن نزول القرآن على سبعة أحرف ينافي ما هو مقرر من أن القرآن نزل بلغة قريش وحدها ثم إنه يؤدي إلى ضياع الوحدة التي يجب أن تسود الأمة الواحدة بسبب اجتماعها على لسان واحد. والجواب: أنه لا منافاة ولا ضياع للوحدة فإن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن الكريم واقعة كلها في لغة قريش. ذلك أن قريشا كانوا قبل مهبط الوحي والتنزيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قد داوروا بينهم لغات العرب جميعا وتداولوها وأخذوا ما استملحوه من هؤلاء وهؤلاء في الأسواق العربية ومواسمها ووقائعها وحجها وعمرتها ثم استعملوه وأذاعوه بعد أن هذبوه وصقلوه. وبهذا كانت لغة قريش مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة. وكان هذا سببا من أسباب انتهاء الزعامة إليهم واجتماع أوراع العرب عليهم. ومن هنا شاءت حكمة الحكيم العليم أن يطلع عليهم القرآن من هذا الأفق وأن يطل عليهم من هذه السماء سماء قريش ولغتها التي أعطوها مقادتهم وولوا شطرها وجوههم فخاطبهم بهذا اللسان العام لهم ليضم نشرهم ولينظم نثرهم. وقد تم له ما أراد بهذه السياسة الرشيدة التي جاءتهم بالإعجاز البياني عن طريق اللغة التي انتهت إليها أفصح اللغات وباللسان الذي خضعت له وتمثلت فيه كافة الألسنة العربية. ولو نزل القرآن بغير لغة قريش هذه لكان مثار مشاحنات وعصبيات ولذهب أهل كل قبيلة بلغتهم ولعلا بعضهم على بعض ولما اجتمع عليه العرب أبدا. بل لو نزل القرآن بغير لغة قريش لراجت شبهتهم وافتراؤهم عليه أنه سحر وكهانة وما إليها نظرا إلى أنه قد دخل عليهم من غير بابهم فلا يستطيعون القضاء فيه ولا إدراك الفوارق البعيدة بينه وبين الحديث النبوي مما يجعلهم يذوقون الإعجاز ويلمسونه كما تذوقوه بوضوح حين نزل بلسانهم. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . الشبهة الرابعة: يقولون: إنه لا معنى للأحرف السبعة التي نزل بها القرآن إلا تلك القراءات السبع المنقولة عن الأئمة السبعة المعروفين عند القراء. والجواب: أن هذه شبهة تعرض كثيرا للعامة ومن في حكمهم ممن لم يأخذوا من علوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 القرآن والحديث بخط ولا نصيب. فإن ذلك المعنى الذي زعموه غير صحيح من وجهين: أحدهما: أن الأحرف التي نزل بها القرآن أعم من تلك القراءات المنسوبة إلى الأئمة السبعة القراء عموما مطلقا وأن هذه القراءات أخص من تلك الأحرف السبعة النازلة خصوصا مطلقا. ذلك لأن الوجوه التي أنزل الله عليها كتابه تنتظم كل وجه قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأقرأه أصحابه وذلك ينتظم القراءات السبع المنسوبة إلى هؤلاء الأئمة السبعة القراء كما ينتظم ما فوقها إلى العشرة وما بعد العشرة وما كان قرآنا ثم نسخ ولم يصل إلى هؤلاء القراء جميعا ولهذا نصوا في المذهب المختار على أنه يشمل كل وجوه القراءات صحيحها وشاذها ومنكرها كما سبق. ثانيهما: أن السبعة لم يكونوا قد خلقوا ولا وجدوا حين نطق الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الشريف. ومحال أن يفرض الرسول على نفسه وعلى أصحابه ألا يقرؤوا بهذه الأحرف السبعة النازلة إلا إذا علموا أن هؤلاء القراء السبعة قد اختاروا القراءة بها على حين أن بين العهدين بضعة قرون وعلى حين أن هؤلاء القراء وسواهم إنما أخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أصحابه ومن أخذ عنهم إلى أن وصلوا إليهم. فهذه الشبهة تستلزم الدور الباطل فهي باطلة. وتستلزم أيضا أن يبقى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" عاريا عن الفائدة غير نافذ الأثر حتى يولد القراء السبعة المعروفون وتؤخذ القراءة عنهم. وذلك باطل أيضا يكذبه الواقع من قراءة النبي صلوات الله وسلامه عليه وقراءة أصحابه وتابعيه بالأحرف السبعة من قبل أن يولد القراء السبعة المعروفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قال المحقق ابن الجزري: فلو كان الحديث منصرفا إلى قراءات السبعة المشهورين أو سبعة غيرهم من القراء الذين ولدوا بعد التابعين لأدى ذلك إلى أن يكون الخبر عاريا عن الفائدة إلى أن يولد هؤلاء السبعة فتؤخذ عنهم القراءة وأدى أيضا إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرأ إلا بما يعلم أن هؤلاء السبعة من القراء إذا ولدوا وتعلموا اختاروا القراءة به. وهذا باطل؟ إذ طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن إمام ثقة لفظا عن لفظ إماما عن إمام. إلى أن يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 المبحث السابع: في المكي والمدني من القرآن الكريم مدخل ... المبحث السابع في المكي والمدني من القرآن الكريم ليس من غرضنا في هذا المبحث أن نستقصي بالتفصيل والتدليل آيات القرآن الكريم وسوره. وأن نحقق ما كان منها مكيا وما كان مدنيا فتلك محاولة كبيرة جديرة أن تفرد بالتأليف وقد أفردها فعلا بالتأليف جماعة منهم مكي والعز الدريني. ولكن حسبنا هنا أن نتكلم على الاصطلاحات في معنى المكي والمدني وعلى فائدة العلم بالمكي والمدني وعلى الطريق الموصلة إليه وعلى الضوابط التي يعرف بها وعلى السور المكية والمدنية والمختلف فيها وعلى أنواع السور المكية والمدنية وعلى أوجه تتعلق بالمكي والمدني وعلى فروق أخرى بين المكي والمدني صيغت من بعضها مطاعن في القرآن وعلى دفع تلك المطاعن ونقضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 1- الاصطلاحات في معنى المكي والمدني للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات: الأول أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة. ويدخل في مكة ضواحيها كالمنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وعرفات والحديبية. ويدخل في المدينة ضواحيها أيضا كالمنزل عليه في بدر وأحد. وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما ترى. لكن يرد عليه أنه غير ضابط ولا حاصر لأنه لا يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة وضواحيهما كقوله سبحانه في سورة التوبة: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ} الخ فإنها نزلت بتبوك وقوله سبحانه في سورة الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} الخ فإنها نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. ولا ريب أن عدم الضبط في التقسيم يترك واسطة لا تدخل فيما يذكر من الأقسام وذلك عيب يخل بالمقصود الأول من التقسيم وهو الضبط والحصر. الاصطلاح الثاني أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة. وعليه يحمل قول من قال: إن ما صدر في القرآن بلفظ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهو مكي وما صدر فيه بلفظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة فخوطبوا بيا أيها الناس وإن كان غيرهم داخلا فيهم. ولأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة فخوطبوا بيا أيها الذين آمنوا وإن كان غيرهم داخلا فيهم أيضا. وألحق بعضهم صيغة يا بني آدم بصيغة يأيها الناس. أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن عن ميمون بن مهران قال: ما كان في القرآن يأيها الناس أو يا بني آدم فإنه مكي وما كان يأيها الذين آمنوا فإنه مدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وهذا التقسيم لوحظ فيه المخاطبون كما ترى لكن يرد عليه أمران: أحدهما ما ورد على سابقة من أنه غير ضابط ولا حاصر فإن في القرآن ما نزل غير مصدر بأحدهما نحو قوله سبحانه في فاتحة سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الخ ونحو قوله سبحانه في فاتحة سورة المنافقون: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الخ. ثانيهما: أن هذا التقسيم غير مطرد في جميع موارد الصيغتين المذكورتين بل إن هناك آيات مدنية صدرت بصيغة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهناك آيات مكية صدرت بصيغة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . مثال الأولى سورة النساء فإنها مدنية وأولها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وكذلك سورة البقرة مدنية وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ومثال الثانية سورة الحج فإنها مكية مع أن في أواخرها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} الخ. قال بعضهم: هذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر فإن سورة البقرة مدنية وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إلى آخر ما ذكرناه أمامك. غير أنه قال أخيرا ما نصه: فإن أريد أن الغالب كذلك فصحيح. أقول: ولكن صحة الكلام في ذاته لا تسوغ صحة التقسيم فإن من شأن التقسيم السليم أن يكون ضابطا حاصرا وأن يكون مطردا. وقيد الغالبية المراد لا يحقق الضبط والحصر وإن حقق الاطراد فيبقى التقسيم معيبا. على أنهم قالوا: المراد لا يدفع الإيراد. الاصطلاح الثالث وهو المشهور: أن المكي ما نزل قبل هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإن كان نزوله بغير مكة والمدني ما نزل بعد هذه الهجرة وإن كان نزوله بمكة. وهذا التقسيم كما ترى لوحظ فيه زمن النزول وهو تقسيم صحيح سليم لأنه ضابط حاصر ومطرد لا يختلف بخلاف سابقيه ولذلك اعتمده العلماء واشتهر بينهم. وعليه فآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الْأِسْلامَ دِيناً} مدنية مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع. وكذلك آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فإنها مدنية مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم. وقل مثل ذلك فيما نزل بأسفاره عليه الصلاة والسلام كفاتحة سورة الأنفال وقد نزلت ببدر فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 2- فائدة العلم بالمكي والمدني من فوائد العلم بالمكي والمدني تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات من القرآن الكريم في موضوع واحد وكان الحكم في إحدى هاتين الآيتين أو الآيات مخالفا للحكم في غيرها ثم عرف أن بعضها مكي وبعضها مدني فإننا نحكم بأن المدني منها ناسخ للمكي نظرا إلى تأخر المدني عن المكي. ومن فوائده أيضا معرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم بوجه عام وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد. وسيستقبلك في هذا المبحث فروق بين المكي والمدني تلاحظ فيها جلال هذه الحكمة. ومن فوائده أيضا الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالما من التغيير والتحريف. ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى ليعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر وما نزل بالنهار وما نزل بالليل وما نزل بالشتاء وما نزل بالصيف وما نزل بالأرض وما نزل بالسماء إلى غير ذلك. فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدا يمسه ويعبث به وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتصل به أو يحتف بنزوله إلى هذا الحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 3- الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني لا سبيل إلى معرفة المكي والمدني إلا بما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان للمكي والمدني. وذلك لأن المسلمين في زمانه لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانا. وليس بعد العيان بيان. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه. وقال أيوب: سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل وأشار إلى سلع اهـ. ولعل هذا التوجيه الذي ذكرته أولى مما ذكره القاضي أبو بكر في الانتصار إذ يقول ما نصه: ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول لأنه لم يأمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 4- الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني قد عرفنا فيما مضى أن مرد العلم بالمكي والمدني هو السماع عن طريق الصحابة والتابعين بيد أن هناك علامات وضوابط يعرف بها المكي والمدني. وهاك ضوابط المكي: 1- كل سورة فيها لفظ كلا فهي مكية وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة كلها في النصف الأخير من القرآن. قال الدريني رحمه الله: وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن ... ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى قال العماني: وحكمة ذلك أن نصف القرآن الأخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم بخلاف النصف الأول. وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم اهـ. 2- كل سورة فيها سجدة فهي مكية لا مدنية. 3- كل سورة في أولها حروف التهجي فهي مكية سوى سورة البقرة وآل عمران فإنهما مدنيتان بالإجماع وفي الرعد خلاف. 4- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهي مكية سوى البقرة. 5- كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة أيضا. 6- كل سورة فيها يا أيها الناس وليس فيها يا أيها الذين آمنوا فهي مكية ولكنه ورد على هذا ما تقدم بين يديك من سورة الحج. 7- كل سورة من المفصل فهي مكية. أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: نزل المفصل بمكة فمكثنا حججا نقرؤه ولا ينزل غيره لكن يرد على هذا أن بعض سور المفصل مدني نزل بعد الهجرة اتفاقا كسورة النصر فإنها كانت من أواخر ما نزل بعد الهجرة بل قيل إنها آخر ما نزل كما سبق في مبحث أول ما نزل وآخر ما نزل. فالأولى أن يحمل كلام ابن مسعود هذا على الكثرة الغالبة من سور المفصل لا على جميع سور المفصل والمفصل على وزان معظم: هو السورة الأخيرة من القرآن الكريم مبتدأة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 سورة الحجرات على الأصح وسميت بذلك لكثرة الفصل فيها بين السور بعضها وبعض من أجل قصرها. وقيل: سميت بذلك لقلة المنسوخ فيها فقولها قول فصل: لا نسخ فيه ولا نقض. أما ضوابط المدني: فكما يأتي: 1- كل سورة فيها الحدود والفرائض فهي مدنية. 2- كل سورة فيها إذن بالجهاد وبيان لأحكام الجهاد فهي مدنية. 3- كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ما عدا سورة العنكبوت. والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا الآيات الإحدى عشرة الأولى منها فإنها مدنية. وهي التي ذكر فيها المنافقون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 5- السور المكية والمدنية والمختلف فيها نقل السيوطي في الإتقان أقوالا كثيرة في تعيين السور المكية والمدنية من أوفقها ما ذكره أبو الحسن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ إذ يقول: المدني باتفاق عشرون سورة والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق ثم نظم في ذلك أبياتا رقيقة جامعة وهو يريد بالسور العشرين المدنية بالاتفاق: سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والجمعة والمنافقون والطلاق والتحريم والنصر. ويريد بالسور الاثنتي عشرة المختلف فيها: سورة الفاتحة والرعد والرحمن والصف والتغابن والتطفيف والقدر ولم يكن وإذا زلزلت والإخلاص والمعوذتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ويريد بالسور المكية باتفاق ما عدا ذلك وهي اثنتان وثمانون سورة. وإلى هذا القسم المكي يشير في منظومته بقوله: وما سوى ذاك مكي تنزله ... فلا تكن من خلاف الناس في حصر فليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر وقد جرى هذا البيت مجرى الأمثال عند أهل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 6- أنواع السور المكية والمدنية قد تكون السورة كلها مكية وقد تكون كلها مدنية وقد تكون السورة مكية ما عدا آيات منها وقد تكون مدنية ما عدا آيات منها فتلك أربعة أنواع: مثال النوع الأول سورة المدثر فإنها كلها مكية. ومثال الثاني سورة آل عمران فإنها كلها مدنية ومثال الثالث سورة الأعراف فإنها مكية. ما عدا آية {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} قاله قتادة. واستثنى غيره هذه الآية المذكورة وما بعدها من الآيات إلى قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} وقال: إن تلك الآيات مدنية. ومثال النوع الرابع سورة الحج فإنها مدنية ما عدا أربع آيات منها تبتدئ بقوله سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} إلى قوله {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . واعلم أن وصف السورة بأنها مكية أو مدنية يكون تبعا لما يغلب فيها أو تبعا لفاتحتها فقد ورد أنه إذا نزلت فاتحة سورة بمكة مثلا كتبت مكية ثم يزيد الله فيها ما يشاء. ولعل الأنسب بالاصطلاح المشهور في معنى المكي والمدني أن يقال: إذا نزلت فاتحة سورة قبل الهجرة كتبت مكية وإذا نزلت فاتحة سورة بعد الهجرة كتبت مدنية ثم يذكر المستثنى من تلك السور إن كان هناك استثناء فيقال: سورة كذا مكية إلا آية كذا فإنها مدنية أو سورة كذا مدنية إلا آية كذا فإنها مكية أو نحو ذلك كما تراه في كثير من المصاحف عنوانا للسورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقد بذل العلماء همة جبارة في استقصاء حال ما نزل من السور والآيات حتى لقد قال أبو القاسم النيسابوري في كتاب التنبيه على فضل علوم القرآن ما نصه: من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة والمدينة وما نزل بمكة وحكمه مدني وما نزل بالمدينة وحكمه مكي وما نزل بمكة في أهل المدينة وما نزل بالمدينة في أهل مكة وما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي وما نزل بالجحفة وما نزل ببيت المقدس وما نزل بالطائف وما نزل بالحديبية وما نزل ليلا وما نزل نهارا وما نزل مشيعا وما نزل مفردا والآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكيات في السور المدنية وما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة وما نزل مجملا وما نزل مفسرا وما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مكي وبعضهم مدني فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى ا. هـ. قال السيوطي بعد أن أورد هذا: وقد أشبعت الكلام على هذه الأوجه فمنها ما أفردته بنوع ومنها ما تكلمت عليه في ضمن بعض الأنواع. اهـ وجزاهم الله أحسن الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وجوه تتعلق بالمكي والمدني نبه السيوطي عند كلامه في هذا المبحث إلى أن هناك وجوها في المكي والمدني. منها ما تستطيع أن تفهمه مما قصصناه عليك آنفا. ومنها ما يشبه تنزيل المدني في السور المكية في قوله تعالى في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال السيوطي في توجيهه ما نصه: فإن الفواحش كل ذنب فيه حد والكبائر كل ذنب عاقبته النار واللمم ما بين الحدين من الذنوب ولم يكن بمكة حد ولا نحوه اهـ لكن فيه نظر من وجهين: أحدهما أن تفسير الفواحش بما ذكر غير متفق عليه, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بل فسرها غيره بأنها الكبائر مطلقا. وفسرها آخر بما يكبر عقابه دون تخصيص بحد. وفسرها السيوطي نفسه في سورة الأنعام بأنها الكبائر. والثاني أن بعضهم يستثني هذه الآية من سورة النجم المكية وينص على أنها مدنية. ومنها: ما يشبه تنزيل المكي في السور المدنية نحو سورة {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} وكقوله سبحانه في سورة الأنفال المدنية: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الخ. وفي هذا نظر أيضا فإن المعروف أن سورة والعاديات من السور المكية كما سبق وأن آية {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} الخ منصوص على أنها نزلت بمكة كما نقل السيوطي نفسه عن مقاتل وقال: إنها مستثناة من سورة الأنفال المدنية. بل نص بعضهم على أن هذه الآية مع آيتين قبلها وأربع بعدها كلها مكيات مستثنيات من سورة الأنفال المدنية. ومنها: ما حمل من مكة إلى المدينة نحو سورة يوسف وسورة الإخلاص وسورة سبح. ومنها: ما حمل من المدينة إلى مكة نحو آية الربا في سورة البقرة المدنية وصدر سورة التوبة المدنية. ومنها: ما حمل إلى الحبشة نحو سورة مريم فقد صح أن جعفر بن أبي طالب قرأها على النجاشي. ومنها: ما حمل إلى الروم كقوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية. وأنت خبير بأن الاصطلاح المشهور في المكي والمدني ينتظم كل ما نزل سواء أكان بمكة والمدينة أم بغيرهما كالجحفة والطائف وبيت المقدس والحديبية ومنى وعرفات وعسفان وتبوك وبدر وأحد وحراء وحمراء الأسد. وتفصيل ذلك يخرج بنا إلى حد الإطالة فناهيك ما ذكرنا. واللبيب تكفيه الإشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فروق أخرى بين المكي والمدني توجد فروق أخرى بين المكي والمدني غير ما قدمناه في ضوابطهما وهذه الفروق فيها دقة عن تلك لتعلقها في مجموعها بأمور معنوية وبلاغية. ثم إن أعداء الإسلام قد صاغوا عن طريق بعضها شبهات سددوا سهامها إلى القرآن الكريم لذلك أفردناها بعنوان توطئة لنقض تلك الشبهات وقبل الرمي يراش السهم. ونذكر من خواص القسم المكي أنه قد كثر فيه ما يأتي: أولا: أنه حمل حملة شعواء على الشرك والوثنية وعلى الشبهات التي تذرع بها أهل مكة للإصرار على الشرك والوثنية ودخل عليهم من كل باب وأتاهم بكل دليل وحاكمهم إلى الحس وضرب لهم أبلغ الأمثال حتى انتهى بهم إلى أن تلك الآلهة المزيفة لا تقدر أن تخلق مجتمعة أقل نوع من الذباب بل لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شر عادية الذباب وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . ولما عاندوا واحتجوا بما كان عليه آباؤهم نعى عليهم أن يمتهنوا كرامة الإنسان إلى هذا الحضيض من الذلة للأحجار والأصنام وسفه أحلامهم وأحلام آبائهم الذين أهملوا النظر في أنفسهم وفي آيات الله في الآفاق وقبح إليهم الجمود على هذا التقليد الأعمى للآباد والأجداد {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} . وناقشهم كذلك في عقائدهم الضالة التي نجمت عن تلك الوثنية من جحود الإلهيات والنبوات وإنكار البعث والمسؤولية والجزاء. ثانيا: أنه فتح عيونهم على ما في أنفسهم من شواهد الحق وعلى ما في الكون من أعلام الرشد ونوع لهم في الأدلة وتفنن في الأساليب وقاضاهم إلى الأوليات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والمشاهدات ثم قادهم من وراء ذلك قيادة راشدة حكيمة إلى الاعتراف بتوحيد الله في ألوهيته وربوبيته والإيمان بالبعث ومسؤوليته والجزاء العادل ودقته ثم التسليم بالوحي وبكل ما جاء به الوحي من هدي الله في الإلهيات والنبوات والسمعيات في العقائد على سواء. ثالثا: أنه تحدث عن عاداتهم القبيحة كالقتل وسفك الدماء ووأد البنات واستباحة الأعراض وأكل مال الأيتام. فلفت أنظارهم إلى ما في ذلك من أخطار وما زال بهم حتى طهرهم منها ونجح في إبعادهم عنها. رابعا أنه شرح لهم أصول الأخلاق وحقوق الاجتماع شرحا عجيبا كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وفوضى الجهل وجفاء الطبع وقذارة القلب وخشونة اللفظ وحبب إليهم الإيمان والطاعة والنظام والعلم والمحبة والرحمة والإخلاص واحترام الغير وبر الوالدين وإكرام الجار وطهارة القلوب ونظافة الألسنة إلى غير ذلك. خامسا: أنه قص عليهم من أنباء الرسل وأممهم السابقة ما فيه أبلغ المواعظ وأنفع العبر من تقرير سننه تعالى الكونية في إهلاك أهل الكفر والطغيان وانتصار أهل الإيمان والإحسان مهما طالت الأيام وامتد الزمان ما داموا قائمين بنصرة الحق وتأييد الإيمان. سادسا: أنه سلك مع أهل مكة سبيل الإيجاز في خطابه حتى جاءت السور المكية قصيرة الآيات صغيرة السور. لأنهم كانوا أهل فصاحة ولسن صناعتهم الكلام وهمتهم البيان فيناسبهم الإيجاز والإقلال دون الإسهاب والإطناب. كما أن قانون الحكمة العالية قضى بأن يسلك سبيل التدرج والارتقاء في تربية الأفراد وأن يقدم الأهم على المهم. ولا ريب أن العقائد والأخلاق والعادات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 أهم من ضروب العبادات ودقائق المعاملات لأن الأولى كالأصول بالنسبة للثانية لذلك كثر في القسم المكي التحدث عنها والعناية بها كما علمت في الخواص الماضية جريا على سنة التدرج من ناحية وتقديما للأهم على المهم من ناحية أخرى. أما خواص القسم المدني فنذكر منها أنه قد كثر فيه ما يأتي: أولا: التحدث عن دقائق التشريع وتفاصيل الأحكام وأنواع القوانين المدنية والجنائية والحربية والاجتماعية والدولية والحقوق الشخصية وسائر ضروب العبادات والمعاملات. انظر إن شئت في سورة البقرة والنساء والمائدة والأنفال والقتال والفتح والحجرات ونحوها. ثانيا: دعوة أهل الكتاب من يهود ونصارى إلى الإسلام ومناقشتهم في عقائدهم الباطلة وبيان جناياتهم على الحق وتحريفهم لكتب الله ومحاكمتهم إلى العقل والتاريخ. اقرأ إن شئت سورة البقرة وآل عمران والمائدة والفتح ونحوها. ثالثا: سلوك الإطناب والتطويل في آياته وسوره. وذلك لأن أهل المدينة لم يكونوا يضاهئون أهل مكة في الذكاء والألمعية وطول الباع في باحات الفصاحة والبيان فيناسبهم الشرح والإيضاح وذلك يستتبع كثيرا من البسط والإسهاب لأن دستور البلاغة لا يقوم إلا على رعاية مقتضيات الأحوال وخطاب الأغبياء بغير ما يخاطب به الأذكياء. {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 نقض الشبهات التي أثيرت حول هذا الموضوع مدخل ... نقض الشبهات التي أثيرت حول هذا الموضوع قلنا ونقول: إن أعداء الإسلام كثيرون وإنهم يتربصون به الدوائر وينتهزون كل فرصة ليسددوا إليه سهام المطاعن. وإن من واجبنا أن نحمي العرين ونقوم بواجب الدفاع في هذا المعمعان ولن يتسنى ذلك إلا إذا تسلحنا بجميع الأسلحة وفي مقدمتها دراسة تلك الشبهات التي يحرقون بخورها في مصر وغير مصر حتى لشبابنا المتعلم في بعض الدروس والكتب التي يزعمون أنها أدبية. وقد شهدت مصر وقتا ما معركة حامية الوطيس دارت رحاها حول أمثال هذه الشبهات التي نسوقها إليك فاقتحمها عنوة وخذها بقوة. ولا حول ولا قوة إلا بالله وما أجمل أن نردد قول الشاعر: أنا لا ألوم المستبد ... د إذا تعنت أو تعدى فسبيله أن يستبد ... د وشأننا أن نستعدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الشبهة الأولى وفي طيها شبهات يقولون: إن الباحث الناقد يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثر ببيئات متباينة فنرى أن القسم المكي منه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة كما نشاهد القسم المدني منه تلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة. فالقسم المكي يتفرد بالعنف والشدة والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد مثل سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وسورة {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وسورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ومثل {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . والجواب: أن هذه الشبهة تتألف من شبهات أربع وإن شئت فقل: تتألف من مقدمات ثلاث كواذب تتأدى أو يريد صاحبها أن يتأدى بها إلى نتيجة هي الأخرى كاذبة. فأما المقدمات الثلاث الكواذب فهي أن القسم المكي تفرد بالعنف والشدة وأن فيه سبابا وإقذاعا وأنه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة. وأما النتيجة أو الهدف الذي يرمي إليه فهو أن القرآن مفكك الأجزاء غير متصل الحلقات وأنه خاضع للظروف متأثر بالبيئة. وغرضهم من هذا معروف طبعا وهو أن القرآن ليس كلام الله وليس معجزا إنما هو كلام محمد الذي تأثر أولا بأهل مكة فكان كلامه خشنا بعيدا عن المعارف العالية التي اكتسبها من أهل الكتاب في المدينة. ذلك كله ما يجب أن نحمل عليه انتقاد أولئك المضللين فإن قرينة عداوتهم للحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وخصومتهم للإسلام ونقدهم للقرآن تبعد كلامهم عن كل تأويل حسن وتحمله على أسوأ فروضه. ولنأت لك على بنيان هذه الشبهة من القواعد لتعلم إغراقها في البطلان وإغراق ذويها في الكذب والإسفاف. 1- فأما قولهم: إن القسم المكي قد تفرد بالعنف والشدة فينقضه أن في القسم المدني شدة وعنفا فدعوى تفرد القسم المكي بذلك باطلة قال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقال فيها أيضا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وقال فيها أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . وقال سبحانه في سورة آل عمران وهي مدنية كتلك {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} . وإنما اشتمل القرآن الكريم بقسميه المكي والمدني على الشدة والعنف لأن ضرورة التربية الرشيدة في إصلاح الأفراد والشعوب وسياسة الأمم والدول تقضي أن يمزج المصلح في قانون هدايته بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والشدة واللين. ثم إن دعواهم انفراد المكي بالعنف والشدة يفهم منه دعوى انفراد المدني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 باللين والصفح ودعوى خلو المكي من ذلك اللين والصفح. وهذا المفهوم باطل كمنطوقه أيضا. ودليل ذلك أن بين السور المكية آيات كريمة تفيض لينا وصفحا وتقطر سماحة وعفوا بل تنادي أن تقابل السيئة بالحسنة كما في قوله سبحانه في سورة فصلت المكية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} . وكما في قوله سبحانه في سورة الشورى المكية: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . وكذلك قوله سبحانه في سورة الحجر المكية: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى آخر السورة. ومثله قول الله جلت قدرته في سورة الزمر المكية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 2- وأما زعمهم أن في القسم المكي سبابا ويريدون من السباب معناه المعروف عندهم من القحة والبذاءة والخروج عن حدود الأدب واللياقة فقد {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} . ونحن نتحداهم أن يأتوا بمثال واحد في القرآن كله مكيه ومدنيه يكون من هذا اللون القذر الرخيص. وهل يعقل أن القرآن الذي جاء يعلم الناس أصول الآداب يخرج هو عن أصول الآداب إلى السباب؟ كيف وقد حرم على أتباعه المسلمين أن يسبوا أعداءه المشركين؟ فقال في سورة الأنعام: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} . نعم إن في القرآن كله لا في القسم المكي وحده تسفيها لأحلام المتنطعين الذين يصمون آذانهم ويغمضون أعينهم عن الحق ويهملون الحجج والبراهين وهو في ذلك شديد عنيف بيد أنه في شدته وعنفه لم يخرج عن جادة الأدب ولم يعدل عن سنن الحق ولم يصدف عن سبيل الحكمة. بل الحكمة تتقاضاه أن يشتد مع هؤلاء لأنهم يستحقون الشدة ومن مصلحتهم هم ومن الرحمة بهم والخير لهم أن يشتد عليهم ليرعووا عن باطلهم ويصيخوا إلى صوت الحق والرشد ويسيروا على هدى الدليل والحجة على حد قول القائل: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم أضف إلى ذلك أن هذا التفريع الحكيم تجده في السور المدنية كما تجده في السور المكية. وإن كان في المكي أكثر من المدني لأن أهل مكة كانوا أشداء العارضة صعاب المراس مسرفين في العناد والإباء لم يتركوا بابا من الشر إلا دخلوه على الرسول وأصحابه ولم يكفهم أن يخرج من بلده وأهله بليل بل وجهوا إليه الأذى في مهاجره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والشاهد على أن في السور المدنية تنويعا عنيفا أيضا عند المناسبات قوله سبحانه من سورة البقرة المدنية في شأن المشركين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقوله من سورة البقرة أيضا في شأن المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} إلى تمام ثلاث عشرة آية مليئة بالتوبيخ والتعنيف لتلك الحشرات الآدمية الذين ينفثون سمومهم ويفسدون المجتمع بسلاح خطير ذي حدين هو سلاح النفاق والذبذبة. وكذلك تقرأ في هذه السورة المدنية نفسها في شأن اليهود آيات كثيرة من هذا الطراز تنقدهم وتنعي جرائمهم وتحمل عليهم حملة شعواء تقبيحا لجناياتهم وجنايات آبائهم من قبلهم. مثل قوله سبحانه: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ومثل قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} . ومثل قوله تعالى في شأن النصارى من سورة آل عمران: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} الخ. وقوله فيهم أيضا من هذه السورة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أما السور والآيات التي اعتمدت عليها الشبهة فلا تدل على ذلك السباب الذي زعموه ووصموا به القرآن الكريم لأن سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} غاية ما اشتملت عليه أنها إنذار ووعيد لأبي لهب وامرأته جزاء ما أساءا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه كما يدل على ذلك سبب نزولها: أخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر يا بني عدي" لبطون قريش حتى اجتمعوا. فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي" قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم. وروي عن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة. فهذه الأسباب مجتمعة تفيد أن السورة نزلت لمقابلة أبي لهب بما يستحق من إنذاره بالهلاك والقطيعة وأن ماله لا ينفعه ولا كسبه وأنه خاسر هو وامرأته وأن مصيرهما إلى النار وبئس القرار. ولا ريب أن في هذا الوعيد العنيف ردعا له ولأمثاله وتسلية لمن أصيب بأذاهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وذلك هو اللائق بالعدالة الإلهية والتربية الحكيمة الربانية. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى وأما سورة والعصر فليس فيها سباب ولا ما يشبه السباب. وكل ما عرضت له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 أنها جعلت الناس قسمين: قسما غريقا في الخسران وقسما فاز ونجا من هذا الخسران وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة. اقرأ قوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فهل ترى فيها ظلا للسباب والإقذاع؟ ولكن القوم لا يستحون. وأما سورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} : فمبلغ ما تشير إليه أن المخاطبين شغلتهم الدنيا عن الدين وألهتهم الأموال عن رب الأموال حتى انتهت أعمارهم وهم على هذه الحال. وغدا يسألون عن هذا النعيم ويعاقبون على إهمال شكره بعذاب الجحيم. وأما قوله سبحانه: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} فهي حكاية لما حل بالأمم السابقة كثمود وعاد حين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لأولئك الكفار ومزدجر فلا يقعوا فميا وقع فهي أسلافهم لأن سنة الله واحدة في الأمم وميزان عدالته قائم في كل جيل وقبيل. {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} . الخلاصة والخلاصة أن القرآن كله قام على رعاية حال المخاطبين فتارة يشتد وتارة يلين تبعا لما يقتضيه حالهم سواء منهم مكيهم ومدنيهم بدليل أنك تجد بين ثنايا السور المكية والمدنية ما هو وعد ووعيد وتسامح وتشديد وأخذ ورد وجذب وشد كما سبق لك في الأمثلة والشواهد الكثيرة. وإذا لوحظ أن أهل مكة كثر خطابهم بالشدة والعنف فذلك لما مردوا عليه من أذى الرسول وأصحابه والكيد لهم حتى أخرجوهم من أوطانهم. ولم يكتفوا بذلك بل أرسلوا إليهم الأذى في مهاجرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وكان القرآن في حملته عليهم وعلى أمثالهم بالقول بعيدا عن كل معاني السباب والإقذاع متذرعا بالحكمة والأدب الكامل في الإرشاد والإقناع حاثا على الصبر والعفو والإحسان حتى ليخاطب الله رسوله في سورة الأنعام المكية بقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} . ظاهرة مسكتة على أننا نلاحظ في آفاق الآيات والسور المكية ظاهرة باهرة تسكت كل معاند وتفحم كل مكابر في هذا الموضوع. وهي أن القسم المكي خلا خلوا تاما من تشريع القتال والجهاد والمخاشنة كما خلت أيامه في مكة على طولها من مقاتلة القوم بمثل ما يأتون من التنكيل والمصاولة فلم يسمع للمسلمين فيها صلصلة لسيف ولا قعقعة لسلاح ولا زحف على عدو. إنما هو الصبر والعفو والمجاملة والمحاسنة بالرغم من إيغال الأعداء في أذاهم ولجاجهم في عتوهم وأساهم سبا وطعنا وقتلا ونهبا ومقاطعة ومهاترة ومصاولة ومكابرة. 3- وأما زعمهم أن القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة فهو مردود عليهم باطل من كل باب دخلوه وعلى أي وجه أرادوه لأنهم إن أرادوا بذلك ما توهموه من انفراده بالشدة والعنف أو السباب والإقذاع فقد علمت مبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ما فيه من كذب وافتراء وجهالة بما جاء في القرآن من ترغيب وترهيب في شطريه المكي والمدني على السواء. وإن أرادوا بانحطاطه الإشارة إلى قصر آياته أو إلى خلوه من التشريعات التفصيلية العملية فهذا لا يدل على الانحطاط بل قصر الآيات والخلو من تفاصيل التشريع لهما وجه آخر يظهر عند الكلام عليهما في الشبهات الآتية: وإن أرادوا بما ذكروا أن أهل مكة كانوا منحطين في الفصاحة والبيان والذكاء والألمعية فتلك ثالثة الأثافي لأن التاريخ شاهد عدل بأن قريشا كانت في مركز الزعامة من جميع قبائل العرب يصدرون عن رأيها ويرجعون إلى حكمها ويأخذون عنها ويركبون ظهور الإبل إليها وينزلون على قولها فيما يعلو وينزل من منظوم ومنثور ويذعنون لها بالسبق في مضمار الفصاحة والبلاغة والذكاء والألمعية والشرف والنبل. وكان لها هذا الامتياز من قبل الإسلام. ثم دام لها وزاد عليها في الإسلام. واعترف لها به أهل المدينة وغيرهم من عرب وأعجام. ثم إن وصف القسم المكي بميزات الأوساط المنحطة تهمة جريئة وطعنة طائشة وأكذوبة مكشوفة ما رضيها لأنفسهم أعداء الإسلام في فجر دعوته من مشركين وأهل كتاب وعرب وعجم وأميين ومثقفين على حين أن أولئك العرب كانوا على أميتهم أعرف الناس بانحطاط الكلام ورقيه وعلوه ونزوله. كما كانوا أحرص الناس على إحراج محمد ودحض حجته ونقض دينه والقضاء على الإسلام في مهده. ولكن سجيتهم لم تسمح بهذا الهراء الذي يهرف به الملاحدة في القسم المكي من القرآن. بل نعلم بجانب هذا أن القرآن كان له سلطان على نفوسهم إلى حد خارق مدهش يقودهم بقوته إلى الإسلام ويدفع المعاند منهم إذا استمع إليه أن يسجد لبلاغته ويهتز لفصاحته وأن يأخذ نفسه بالتشاغل عنه مخافة أن يؤمن عن طريق تأثره بسماعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وأما زعمهم انقطاع الصلة بين القسم المكي والمدني والتعارض بين أسلوبيهما فهو زعم ساقط مبني على الاعتبارات الخاطئة الماضية التي أثبتنا بطلانها. ثم هو دعوى ماجنة يكذبها الواقع ويفندها الذوق البلاغي المنصف. وأدل دليل على ذلك أن أساطين البلاغة من أعداء الإسلام في مكة نفسها أيام نزول القرآن لم يستطيعوا أن يتهموا أساليب التنزيل بمثل هذا الاتهام ولا كذبا لأنهم كانوا أعقل من ملاحدة اليوم يرون أن هذا الاتهام يكون كذبا مكشوفا وافتراء مفضوحا. بل هذا وحيدهم الوليد بن المغيرة يقول للملأ من قريش: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى. ولما قالت قريش عندئذ: صبأ والله الوليد واحتالوا عليه أن يطعن في القرآن لم يجد حيلة إلا أن يقول: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} . ولم يستطع أن يرمي القرآن بالتهافت والتخاذل وانقطاع الصلة بين أجزائه وانحطاط شيء من أساليبه على نحو ما يرجف أولئك الخراصون. والله أعلم بما يبيتون. 4- وإذا بطل هذا وما سبقه بطل ما زعموه من تأثر القرآن بالوسط والبيئة وما رتبوه عليه من أنه كلام محمد لا كلام رب العزة. ثم إنها اتهامات سخيفة لا تستحق الرد ما دام إعجاز القرآن قائما يتحدى كل جيل وقبيل ويفحم كل معارض ومكابر. ولمبحث إعجاز القرآن مجال آخر عسى أن يكون قريبا. ولولا أن الشبيبة الحاضرة من أنصاف المتعلمين وأشباههم ينخدعون بمثل هذه الترهات ما أتعبنا أنفسنا في علاجها ولا أتعبناك فاصبر معنا على دفع هذا المصاب والله يتولى هدانا وهداك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الشبهة الثانية يقولون: إن قصر السور والآيات المكية مع طول السور والآيات المدنية يدل على انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني ويدل على أن القسم المكي يمتاز بمميزات الأوساط المنحطة ويدل على أن القرآن في نمطه هذا نتيجة لتأثر محمد بالوسط والبيئة فلما كان في مكة أميا بين الأميين جاءت سور المكي وآياته قصيرة ولما وجد في المدينة بين مثقفين مستنيرين جاءت سور المدني وآياته طويلة وغرضهم من إلقاء هذه الشبهة التشكيك في أن القرآن من عند الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . وننقض شبهتهم هذه بما يأتي: أولا- أن في القسم المكي سورا طويلة مثل سورة الأنعام وفي القسم المدني سورا قصيرة مثل سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فكلاهما لا يسلم على عمومه. ثانيا - إذا أرادوا الكثرة الغالبة لا الكلية الشاملة فهذا نسلمه لهم بيد أنه لا يدل على ما افتروه ورتبوه عليه لأن قصر معظم السور المكية وآياتها وطول معظم السور المدنية وآياتها لا يقطع الصلة بين قسمي القرآن: مكية ومدنية ولا بين سور القرآن وآياته جميعا. بل الصلة كما يحسها كل صاحب ذوق في البلاغة محكمة وشائعة بين كافة أجزاء التنزيل. وقد تفنن العلماء وأشبعوا الحديث عن هذه المناسبات في غضون تفسيرهم لكتاب الله. وتقدم تقرير هذا التناسب البارع في صفحة 81. على أنك تلاحظ آيات مكية منبثة بين آيات سور مدنية وتلاحظ آيات مدنية منبئة بين آيات سور مكية. وبرغم ذلك لا يكاد أحد يحس التفاوت أو التفكك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 والانقطاع بل يروعك ما بين الجميع من جلال الوحدة وكمال الاتصال وجمال التناسق والانسجام مما يجعل القرآن كله على طوله سلسلة واحدة محكمة متصلة الحلقات أو عقدا رائعا أخاذا منتظم الحبات أو قانونا رصينا مترابط المبادئ والغايات. ثالثا - أن قصر السور والآيات المكية لا يدل على ما زعموه من امتياز القسم المكي بمميزات الأوساط المنحطة بل القصر مظهر الإيجاز والإيجاز مظهر رقي المخاطب وآية فهمه وذكائه بحيث يكفيه من الكلام موجزه ومن الخطاب أقصره. أما من كان دونه ذكاء وفهما فلا سبيل إلى إفادته إلا بالإسهاب والبسط إن لم يكن بالمساواة والتوسط. ولهذا المعنى جاء قسم القرآن المكي قصيرا موجزا في معظمه وجاء قسم المدني طويلا مسهبا في أكثره. ويرجع ذلك إلى ما أشرنا إليه قبلا من أن القرشيين في مكة كانوا في الذؤابة من قبائل العرب ذكاء وألميعة وفصاحة وبلاغة وشرفا وشجاعة فلا بدع أن يخاطبهم القرآن بالقصير من سوره وآياته رعاية لحق قانون البلاغة والبيان في خطاب الذكي النابه بغير ما يخاطب به من كان دونه. ولا يقدح في مزايا المكيين هذه أنهم كانوا أميين لم يستنيروا بثقافة المدنيين فللثقافة والاستنارة ميدان وللذكاء والتمهر في البيان ميدان وأهل المدينة لم يكونوا على استنارتهم ليبلغوا شأن قريش في تلك الخصائص والمزايا وكان منهم أهل كتاب درجوا على ألا يستفيدوا إلا بالتطويل ولا يقنعوا إلا ببسط الكلام. ومن هنا تعرف مبلغ ما في هذه الشبهة من زيف وكذب فيما رتبوه على هذا من أن القرآن كان نتيجة لتأثر محمد بانحطاط أهل مكة في القسم المكي وباستنارة أهل المدينة في القسم المدني حتى جاء قرآنه قصيرا في الأول طويلا في الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 رابعا - أن القرآن قد تحدى الناس جميعا مكيهم ومدنيهم وعربيهم وعجميهم أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من تلك السور القصيرة فعجزوا أجمعين وأسلم المنصفون منهم لله رب العالمين. فلو كان القصر أثرا للانحطاط كما يقول أولئك المرجفون لكان في مقدور الممتاز غير المنحط أن يأتي بمثل ذلك المنحط بل بأرقى منه {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . وإذا أراد أولئك المتقولون أن يعللوا القصر والطول بأن المكي لم يتعرض لتفاصيل التشريع بخلاف المدني فإليك هذه الشبهة وتمحيصها فيما يليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الشبهة الثالثة يقولون: إن القسم المكي خلا من التشريع والأحكام بينما القسم المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام وذلك يدل على أن القرآن من وضع محمد وتأليفه تبعا لتأثره بالوسط الذي يعيش فيه فهو حين كان بمكة بين الأميين جاء قرآنه المكي خاليا من العلوم والمعارف العالية ولما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين جاء قرآنه المدني مليئا بتلك العلوم والمعارف العالية. وننقض هذه الشبهة: أولا - بأن القسم المكي لم يخل جملة من التشريع والأحكام بل عرض لها وجاء عليها ولكن بطريقة إجمالية فإن مقاصد الدين خمسة: 1- الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. 2 - وحفظ النفس. 3 - وحفظ العقل. 4 - وحفظ النسل. 5 - وحفظ المال. وقد تحدث القسم المكي عنها إجمالا. اقرأ إن شئت قوله تعالى من سورة الأنعام المكية: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى تمام ثلاث آيات بعدها جمعت الوصايا العشر لهذه المقاصد الخمسة. ولا يخفى عليك أن آيات العقائد في القسم المكي ظاهرة واضحة وكثيرة شائعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ليست من موضوع الاشتباه ولا يختلف اثنان في أنها أكثر من مثيلاتها في السور المدنية بأضعاف الأضعاف. ثانيا - أن كثرة التفاصيل في تشريع الأحكام بالمدينة ليس نتيجة لما زعموه. إنما هو أمر لا بد منه في سياسة الأمم وتربية الشعوب وهداية الخلق. ذلك أن الطفرة حليفة الخيبة والفشل والتدرج حليف التوفيق والنجاح وتقديم الأهم على المهم واجب في نظر الحكمة. لهذا بدأ الله عباده في مكة بما هو أهم: بدأهم بإصلاح القلوب وتطهيرها من الشرك والوثنية وتقويمها بعقائد الإيمان الصحيح والتوحيد الواضح حتى إذا استقاموا على هذا المبدأ القويم وشعروا بمسؤولية البعث والجزاء وتقررت فيهم هذه العقائد الراشدة فطمهم عن أقبح العادات وأرذل الأخلاق وقادهم إلى أصول الآداب وفضائل العادات ثم كلفهم ما لا بد منه من أمهات العبادات. وهذا ما كان في مكة. ولما مرنوا على ذلك وتهيأت نفوسهم للترقي والكمال بتطاول الأيام والسنين وكانوا وقتئذ قد هاجروا إلى المدينة جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام وأتم عليهم نعمته ببيان دقائق الدين وقوانين الإسلام. ونظير ذلك ما تواضع عليه الناس قديما وحديثا في سياسة التعليم من أنهم يلقنون البادئين في مراحل التعليم الأولى أخف المسائل وأوجزها فيما يشبه قصار السور ومختصر القصص حتى إذا تقدمت بهم السن وعظم الاستعداد تلاطم بحر التعليم وزاد على حد قولهم: الإمداد على قدر الاستعداد. أما ما زعموه من أن ذلك كان نتيجة لاختلاط محمد بأهل المدينة المستنيرين فينقضه أن القرآن جاء يصلح عقائد أهل الكتاب وأخطاءهم في التشريع وفي التحليل والتحريم وفي الأخبار والتواريخ فكيف يأخذ المصيب من المخطئ؟ وهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 يستمد الحي حياته من ميت اقرأ إن شئت قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الخ. وقوله جل ذكره: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} ؟ الخ وقوله عز اسمه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} الخ وهذه الآيات من سورة آل عمران. وقوله تعالت قدرته من سورة المائدة {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} الخ. ثالثا: أن ما زعموه لو كان صحيحا لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم من عرب أهل المدينة وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة ولكانوا هم الأحرياء بهذه النبوة والرسالة ولسبق محمدا إليها كثير غيره من فصحاء العرب وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيما اختلاط. رابعا: أن القرآن تحدى الكافة من مكيين ومدنيين بل من جن وإنس فهلا كان أساتذته أولئك يستطيعون أن يجاروه ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة يا لها فرية ثم يا لها صفاقة. هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الشبهة الرابعة يقولون: إن القرآن أقسم كثيرا بالضحى والليل والتين والزيتون وطور سينين وكثير من المخلوقات. ولا ريب أن القسم بالأشياء الحسية يدل على تأثر القرآن بالبيئة في مكة لأن القوم فيها كانوا أميين لا تعدو مداركهم حدود الحسيات. أما بعد الهجرة واتصال محمد بأهل المدينة وهم قوم مثقفون مستنيرون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فقد تأثر القرآن بهذا الوسط الراقي الجديد وخلا من تلك الأيمان الحسية الدالة على البساطة والسذاجة. وهذه الشبهة مدفوعة أولا: بما قدمنا من أن أهل مكة كانوا أرقى ذوقا وأعلى كعبا وأعظم ذكاء من أهل المدينة وأن الخطاب معهم كان ملحوظا فيه اشتماله على أسرار وخصائص لا يدركها إلا المتفوقون والمتمهرون في صناعة البيان. فلا يستقيم إذن ما زعموه من أن مدارك أهل مكة كانت لا تعدو حدود الحسيات. والتاريخ خير شاهد وأعدل حاكم بامتياز العرب في مكة عن سائر القبائل على عهد نزول القرآن. ثانيا: أن القسم بالأمور الحسية في القرآن كالضحى والليل ليس منشؤه انحطاط القوم كما يزعمون إنما منشؤه رعاية مقتضى الحل فيما سبق القسم لأجله وذلك أن القرآن كان بصدد علاج أفحش العقائد فيهم وهي عقيدة الشرك. ولا سبيل إلى استئصال هذه العقيدة وإقامة صرح التوحيد على أنقاضها إلا بلفت عقولهم إلى ما في الكون من شؤون الله وخلق الله وإلا بفتح عيونهم على طائفة كبيرة من نعم الخلق المحيطة بهم ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده ما دام هو الخالق وحده لأنه لا يستحق العبادة عقلا إلا من كان له أثر الخلق في العالم فعلا. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ؟. فعرض بعض المخلوقات على أنظار الجاحدين بالتوحيد بعد إقرارهم أن ليس لها خالق إلا الله إلزام لهم بطرح الشرك وتوحيد الخالق. وهذا مطمح نبيل أجاد القرآن في أساليب عرض نعم الله عليهم من أجله وكان في إجادته هذه موفيا على الغاية وأصلا إلى قمة الإعجاب كعادته متفننا في ذكر النعم منوعا في سردها وبيانها فمرة يحدث عن خلق السماء ومرة عن خلق الأرض وثالثة عن أنفسهم ورابعة عن أنواع الحيوان والنبات والجماد وهلم جرا. وتارة يختار القرآن في عرضه طريقة السرد والشرح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وتارة يختار طريقة الحلف والقسم لأن في الحلف والقسم معنى العظمة التي أودعها الله في هذه النعم دالة على توحيده وعظمته حتى صح أن يدور القسم عليها وأن يجيء الحلف بها. ومن هنا أقسم الله بما أقسم من الأمور الحسية والمعنوية فالأمور الحسية كما ذكرنا والمعنوية مثل القرآن الكريم في قوله سبحانه: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لينبههم إلى مدى إنعامه عليهم بتلك الأقسام كلها حسيها ومعنويها فيرعووا عن شركهم بتلك الآلهة المزيفة التي لا تملك ضرا ولا نفعا وليس لها أي شأن في هذا الخلق. على حد قوله سبحانه في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . وأنت خبير بأن المصاب بداء الشرك لا سبيل إلى إنقاذه منه إلا بمثل هذه الطريقة المثلى التي سلكها القرآن بعرض دلائل التوحيد من آيات الله في الآفاق على أنظار المشركين وهذا سبيل متعين في خطاب كل مشرك ولو كان واحد الفلاسفة ووحيد العباقرة وأستاذ المثقفين والمستنيرين. فحلف القرآن بأمثال هاتيك المخلوقات والحسيات ليس دالا على سذاجة المخاطبين وانحطاطهم وليس بالتالي سبيلا إلى الطعن في القرآن بأنه كلام محمد المتأثر بانحطاط البيئة المكية كما يرجفون: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} . ثالثا: أن في مضامين تلك الأقسام بالحسيات أسرارا تنأى بها عن السذاجة والبساطة وتشهد ببراعة المخاطبين بها وتفوقهم في الفهم والذكاء والفصاحة والبيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ذلك أن القسم بها كما قلنا إشارة إلى الأسرار العظيمة التي وضعها الله في تلك الأمور التي أقسم بها. حتى صح أن يكون مقسما بها. وتلك الأسرار لا يدركها إلا اللبيب لأنها غير مشروحة ولا مفسرة في القرآن الكريم فلا يفهمها إلا من كمل عقله وسلم ذوقه. ولنشرح لك بعض الأسرار ليتبين الحال ولا يبق للشبهة مجال. المثال الأول: أقسم الله سبحانه بالضحى والليل في قوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وسبب نزول هذه الآيات: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتر عنه الوحي مرة لا ينزل بقرآن فرماه أعداؤه بأن ربه ودعه وقلاه أي تركه وأبغضه فنزلت هذه الآيات مصدرة بهذا القسم مشيرة إلى أن ما كان من سطوع الوحي على قلبه صلى الله عليه وسلم بمنزلة الضحى تقوى به الحياة وتنمى به الناميات وما عرض بعد ذلك من فترة الوحي فهو بمنزلة الليل إذا سجى لتستريح فيه القوى وتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لاقى من الوحي شدة أول أمره حتى جاء إلى خديجة رضي الله عنها ترجف بوادره كما هو معروف في حديث الصحيحين. فكانت فترة الوحي لتثبيته عليه الصلاة والسلام وتقوية نفسه على احتمال ما يتوالى عليه منه حتى تتم به حكمة الله في إرساله إلى الخلق. ولهذا قال له: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} أي إن كرة الوحي ثانيا سيكمل بها الدين وتتم بها نعمة الله على أهله وأين بداية الوحي من نهايته؟ وأين إجمال الدين الذي جاء في قوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} الخ من تفصيل العقائد والأحكام الذي جاء في مثاني القرآن ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . فمن هذا نعلم أن الحلف بالضحى والليل في هذا المقام ليس مجرد تذكير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 بآياته ونعمه فحسب. بل هو أيضا إقامة دليل على أن تنزل الوحي أشبه بضحوة النهار وأن فترة الوحي أشبه بهدأة الليل فإذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالرضا والتسليم لما فيهما من نفع الإنسان بالسعي والحركة والحياة بالنهار والنوم والاستجمام بالليل يجب أن يتقبلوا أيضا ما يجري على محمد صلى الله عليه وسلم من نزول الوحي وفترته للمعنى الذي سلف. المثال الثاني: أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون في قوله جل ذكره: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره لهذه السورة ما نصه: وقد يرجح أنهما أي التين والزيتون النوعان من الشجر ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا بل لما يذكران به من الحوادث العظيمة التي لها الآثار الباقية في أحوال البشر. قال صاحب هذا القول: إن الله تعالى أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل فإنه كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها بورق التين وعندما بدت له ولزوجته سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين. والزيتون إشارة إلى عهد نوح عليه السلام وذريته وذلك أنه بعد أن فسد البشر وأهلك من أهلك منه بالطوفان ونجى نوح في سفينته واستقرت السفينة نظر نوح إلى ما حوله فرأى المياه لا تزال تغطي وجه الأرض فأرسل بعض الطيور لعله يأتي إليه بخبر انكشاف الماء عن بعض الأرض فغاب ولم يأت بخبر فأرسل طيرا آخر فرجع إليه يحمل ورقة من شجر الزيتون فاستبشر وسر وعرف أن غضب الله قد سكن وقد أذن للأرض أن تعمر ثم كان منه ومن أولاده تجديد القبائل البشرية العظيمة في الأرض التي امحى عمرانها فعبر عن ذلك الزمن بزمن الزيتون. والإقسام هنا بالزيتون للتذكير بتلك الحادثة وهي من أكبر ما يذكر من الحوادث. {وَطُورِ سِينِينَ} إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية وظهور نور التوحيد في العالم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية وقد استمر الأنبياء بعد موسى يدعون قومهم إلى التمسك بتلك الشريعة إلى أن كان آخرهم عيسى صلى الله عليه وسلم جاء مخلصا لروحها مما عرض عليه من البدع. ثم طال الأمد على قومه فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الاختلاف في الدين وحجب نوره بالبدع وإخطاء معناه بالتأويل وإحداث ما ليس منه بسبيل فمن الله على البشر ببداية تاريخ ينسخ جميع تلك التواريخ ويفصل بين ما سبق من أطوار الإنسانية وبين ما يلحق وهو عهد ظهور النور المحمدي من مكة المكرمة. وإليه أشار بذكر البلد الأمين. وعلى هذا القول الذي فصلنا بيانه يتناسب القسم والمقسم عليه. ا. هـ ما أردنا نقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الشبهة الخامسة يقولون إن القسم المكي من القرآن قد اشتمل على لغو من الكلام في كثير من فواتح السور مثل الم وكهيعص. وذلك يبطل دعوى المسلمين أن القرآن بيان للناس وهدى وأنه كلام الله. وأي بيان وأي هدى في قوله: {الم} وقوله: {كهيعص} ؟ بل هذه الأحرف وأمثالها في غاية البعد عن الهدى بدليل أنه لم يهتد أحد منهم ولا الراسخون في العلم لإدراك معناها فالخطاب بها كالخطاب بالمهمل وإنما هذه الألفاظ من وضع كتبه محمد من اليهود تنبيها على انقطاع كلام واستئناف آخر ومعناها أوعز إلي محمد أو أمرني محمد يشيرون بذلك إلى براءتهم من الإيمان بما يأمرهم بكتابته. وقريب من هذا قول بعضهم: إن الحروف العربية غير المفهومة المفتتح بها أوائل بعض السور إما أن يكون قصد منها التعمية أو التهويل أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف أو هي رمز للتمييز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وننقض هذه الشبهة بأمور: أولها: أنه لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم كتبة من اليهود أبدا. وها هو التاريخ حاكم عدل لا يرحم ولا يحابي فليسألوه إن كانوا صادقين. ثانيا: أنه لا دليل لهم أيضا على أن فواتح هذه السور تستعمل في تلك المعاني التي زعموها وهي أوعز إلي محمد أو أمرني محمد لا عند اليهود ولا عند غيرهم في أية لغة من لغات البشر. ثالثها: أن اليهود لم يعرف عنهم الطعن في القرآن بمثل هذا. ولو كان هذا مطعنا عندهم لكانوا أول الناس جهرا به وتوجيها له لأنهم كانوا أشد الناس عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين يتمنون أن يجدوا في القرآن مغمزا من أي نوع يكون ليهدموا به دعوة الإسلام. كيف وهم يكفرون به حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق؟ رابعها: أن اشتمال القرآن على كلمات غير ظاهرة المعنى لا ينافي وصف القرآن بأنه بيان للناس وهدى ورحمة فإن هذه الأوصاف يكفي في تحققها ثبوتها للقرآن باعتبار جملته ومجموعة لا باعتبار تفصيله وعمومه الشامل لكل لفظ فيه. ولا ريب أن الكثرة الغامرة في القرآن كلها بيان للتعاليم الإلهية وهداية للخلق إلى الحق ورحمة للعالم من وراء تقرير أصول السعادة في الدنيا والآخرة. وهذا الجواب مبني على أحد رأيين للعلماء في فواتح تلك السور وهو أن المعنى المقصود غير معلوم لنا بل هو من الأسرار التي استأثر الله بعلمها ولم يطلع عليها أحد من خلقه. وذلك لحكمة من حكمة تعالى السامية وهي ابتلاؤه سبحانه وتمحيصه لعباده حتى يميز الخبيث من الطيب وصادق الإيمان من المنافق بعد أن أقام لهم أعلام بيانه ودلائل هدايته وشواهد رحمته في غير تلك الفواتح من كتابه بين آيات وسور كثيرة لا تعتبر تلك الفواتح في جانبها إلا قطرة من بحر أو غيضا من فيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فأما الذين آمنوا فيعلمون أن هذه الفواتح حق من عند ربهم ولو لم يفهموا معناها ولم يدركوا مغزاها ثقة منهم بأنها صادرة من لدن حكيم عليم عمت حكمته ما خفي وما ظهر من معاني كتابه ووسع علمه كل شيء عرفه الخلق أو لم يعرفوه من أسرار تنزيله. {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} . {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} . ونظير ذلك أن يكون لك أصدقاء تريد أن تعرفهم أو تعرف منهم مدى صداقتهم لك فتبتليهم بأمور يزل عندها المزيفون ويظهر الصادقون. على حد قول القائل: وعلى حد المثل القائل: إن أخاك من واساك. ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن فعالهم وتفقد فإذا ظفرت بذي اللبانة والتقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد ونظير ذلك أيضا أن تكون أستاذا معلما وتريد أن تقف على مدى انتباه تلاميذك ومبلغ ثقتهم فيك وفي علمك بعد أن زودتهم منك بدراسات واسعة وتعاليم واضحة فإنك تختبرهم في بعض الأوقات بكلمات فيها شيء من الإلغاز والخفاء ليظهر الذكي من الغبي والواثق بك الوامق لك من المتشكك فيك المتردد في علمك وفضلك. فأما الواثق فيك فيعرف أن تلك الألغاز والمعميات صدرت عن علم منك بها وإن لم يعلم هو تفسيرها ويعرف أن لك حكمة في إيرادها على هذه الصورة من الخلفاء وهي الاختبار والابتلاء. وأما المتشكك فيك فيقول: ماذا أراد بهذا؟ وكيف ساغ له أن يورده؟ وما مبلغ العلم الذي فيه؟ ثم ينسى تلك المعارف الواسعة الواضحة التي زودته بها من قبل ذلك وكلها من أعلام العلم وآيات الفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ولا يفوتنك في هذا المقام أن تعرف أن إبتلاء الله لعباده ليس المراد منه أن يعلم سبحانه ما كان جاهلا منهم حاشاه حاشاه فقد وسع كل شيء علما. إنما المقصود منه إظهار مكنونات الخلق وإقامة الحجج عليهم من أنفسهم فلا يتهمون الله في عدله وجزائه إذا جعل من الناس أهلا لثوابه وآخرين لعقابه. {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} . الرأي الثاني في فواتح السور أن لها معنى مقصودا معلوما. قالوا: لأن القرآن كتاب هداية والهداية لا تتحقق إلا بفهم المعنى خصوصا أننا أمرنا بتدبر القرآن والاستنباط منه وهذا لا يكون إلا إذا فهم المعنى أيضا. غير أن أصحاب هذا الرأي تشعبت أقوالهم في بيان هذا المعنى المقصود بفواتح تلك السور فذهب بعضهم إلى أن فاتحة كل سورة اسم للسورة التي افتتحت بها واستدلوا بآثار تفيد ذلك منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يس قلب القرآن" وقوله: "من قرأ السجدة حفظ إلى أن يصبح". ومنها اشتهار بعض السور بالتسمية بها. ثم إن ورودها في فواتح سور مختلفة بلفظ واحد ينافي كونها أسماء للسور. بل شأنها في ذلك شأن الأعلام المشتركة اشتراكا لفظيا كلفظ محمد المسمى به أشخاص كثيرون. فيضم إلى اسم كل منهم ما يميز مسماه عن غيره فيقال: محمد المصري ومحمد الشامي مثلا. وكذلك فواتح السور يقال فيها: الم البقرة والم آل عمران وحم السجدة وهلم جرا. وبعضهم ذهب إلى أنها للحروف الهجائية التي وضعت بإزائها. وهؤلاء منهم من قال: إن المقصود من ذلك هو إفهام المخاطبين أن الذي سيتلى عليهم من الكلام الذي عجزوا عن معارضته والإتيان بمثله إنما تركب من مثل هذه الحروف التي في الفواتح وهي معروفة لهم يتخاطبون بما يدور عليها ولا يخرج عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ومنهم من قال: إن المقصود منها هو الدلالة على انتهاء سورة والشروع في أخرى. ومنهم من قال: إن المقصود منها القسم بها لإظهار شرفها وفضلها إذ هي مبنى كتبه المنزلة. ومنهم من قال: إن المقصود منها بيان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من ناحية أنه ينطق بأسامي الحروف مع أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب والمعروف أن النطق بأسامي الحروف من شأن القارئ وحده لا سبيل للأمي إلى معرفتها ولا النطق بها فإتيانه بها وترديده لها دليل مادي أمامهم على أنه لا يأتي بهذا القرآن من تلقاء نفسه إنما يتلقاه من لدن حكيم عليم. ومنهم من قال: إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم. وذلك أن قرع السمع في أول الكلام بما يعيي النفوس فهمه أو بالأمر الغريب دافع لها أن تصغي وتتيقظ وتتأمل وتزداد إقبالا: فهي كوسائل التشويق التي تعرض في مقدمة الدرس على منهج التربية الحديثة في التعليم. ومنهم من قال: إن المقصود منها سياسة النفوس المعرضة عن القرآن واستدراجها إلى الاستماع إليه. والمعروف أن أعداء الإسلام في صدر الدعوة كان يقول بعضهم لبعض: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} . فلما أنزلت السور المبدوءة بحروف الهجاء وقرع أسماعهم ما لم يألفوا التفتوا وإذا هم أمام آيات بينات استهوت قلوبهم واستمالت عقولهم فآمن من أراد الله هدايته وشارف الإيمان من شاء الله تأخيره وقامت الحجة في وجه الطغاة المكابرين وأخذت عليهم الطرق فلا عذر لهم في الدنيا ولا يوم الدين. وقال العلامة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره لسورة آل عمران ما نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 اعلم أن القرآن كتاب سماوي. والكتب السماوية تصرح تارة وترمز تارة أخرى. والرمز والإشارة من المقاصد السامية والمعاني والمغازي الشريفة. وقديما كان ذلك في أهل الديانات ألم تر إلى اليهود الذين كانوا منتشرين في المدينة وفي بلاد الشرق أيام النبوة كيف كانوا يصطلحون فيما بينهم على أعداد الجمل المعروفة اليوم في الحروف العربية فيجعلون الألف بواحد والباء باثنين والجيم بثلاثة والدال بأربعة وهكذا مارين على الحروف الأبجدية إلى الياء بعشرة والكاف بعشرين وهكذا إلى القاف بمائة والراء بمائتين وهكذا إلى الغين بألف كما ستراه في هذا المقام. كذلك ترى أن النصارى في إسكندرية ومصر وبلاد الروم وفي سوريا قد اتخذوا الحروف رموزا دينية معروفة فيما بينهم أيام نزول القرآن. وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية في مصر. وكانوا يرمزون بلفظ إكسيس لهذه الجملة: يسوع المسيح ابن الله المخلص فالألف من إكسيس هي الحرف الأول من لفظ إيسوس يسوع. والكاف منها هي الحرف الأول من كرستوس المسيح. والسين منها هي حرف الثاء التي تبدل منها في النطق في لفظ ثبو الله. والياء منها تدل على ايوث ابن. والسين الثانية منها تشير إلى ثوتير المخلص. ومجموع هذه الكلمات: يسوع المسيح ابن الله المخلص. ولفظ إكسيس اتفق أنه يدل على معنى سمكة فأصبحت السمكة عند هؤلاء رمزا لإلههم. فانظر كيف انتقلوا من الأسماء إلى الرمز بالحرف ومن الرمز بالحرف إلى الرمز بحيوان دلت عليه الحروف. قال الحبر الإنجليزي صموئيل موننج: إنه كان يوجد كثيرا في قبور رومة صور أسماك صغيرة مصنوعة من الخشب والعظم. وكان كل مسيحي يحمل سمكة إشارة للتعارف فيما بينهم اهـ. فإذا كان ذلك من طبائع الأمم التي أحاطت بالبلاد العربية وتغلغلت فيها ونزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 القرآن لجميع الناس من عرب وعجم كان لا بد أن يكون على منهج يلذه الأمم ويكون فيه ما يألفون وستجد أنه لا نسبة بين الرموز التي في أوائل السور وبين الجمل عند اليهود ورموز النصارى إلا كالنسبة بين علم الرجل العاقل والصبي أو بين علم العلماء وعلم العامة. وبهذا تبين لك أن اليهود والنصارى كان لهم رموز وكانت رموز اليهود هي حروف الجمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو سورة البقرة: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ثم أتى أخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن {الم} وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم كذلك نزلت". فقال حيي: إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين. ثم قالوا: كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. فقال حيي: فهل غير هذا؟ فقال: "نعم {المص} ". فقال حيي: هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة فهل غير هذا؟ قال: "نعم {الر} " فقال حيي: هذا أكثر من الأولى والثانية فنحن نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة. فهل غير هذا؟ فقال: "نعم {المر} ". قال حيي: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون؟ فإن كان محمد صادقا فيما يقول إني لأراه سيجتمع له هذا كله. فقام اليهود وقالوا اشتبه علينا أمرك كله فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فبهذا تعرف أيها الذكي أن الجمل كانت للتعارف عند اليهود وهو نوع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الرموز الحرفية فكانت هذه الحروف لا بد من نزولها في القرآن ليأخذ الناس في فهمها كل مذهب ويتصرف الفكر فيها. ولأقتصر لك مما قرأته على ثلاث طرائق فيما ترمز إليه هذه الحروف: الطريقة الأولى: أن تكون هذه الحروف مقتطعات من أسماء الله كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه. وعنه أن آلر وحم ون مجموعها الرحمن. وعنه أن آلم معناه أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح. وعنه أن الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد أي القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام. أقول: إنما أراد ابن عباس بذلك أن تكون الحروف مذكرة بالله عز وجل في أكثر الأحوال وذكر الله أجل شيء. ويرجع الأمر إلى أنها أسماء مرموز لها بالحروف كما تقدم عن الأمم السالفة من النصارى في اسكندرية ورومة. ولكن لا بد أن يكون هناك ما هو أعلى وأجل. الطريقة الثانية: أن هذه الحروف من أعجب المعجزات والدلالات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مما ترضاه النفوس. ألا ترى أن حروف الهجاء لا ينطق بها إلا من تعلم القراءة. وهذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي قد نطق بها. والذي في أول السور أربعة عشر حرفا منها وهي كلها ثمانية وعشرون حرفا إن لم تعد الألف حرفا برأسه فالأربعة عشر نصفها. وقد جاءت في تسع وعشرين سورة وهي عدد الحروف الهجائية إذا عدت فيها الألف. وقد جاءت من الحروف المهموسة العشرة وهي فحثه شخص سكت بنصفها وهي الحاء والهاء والصاد والسين والكاف. ومعلوم أن الحروف إما مهموسة أي يضعف الاعتماد عليها وهي ما تقدم وإما مجهورة وهي ثمانية عشر نصفها وهو تسعة ذكرت في فواتح السور ويجمعها "لن يقطع أمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 والحروف الشديدة ثمانية وهي أجدت طبقك أربعة منها في الفواتح وهي "أقطك". والحروف الرخوة عشرون وهي الباقية نصفها عشرة وهي في هذه الفواتح. يجمعها "حمس على نصره". والحروف المطبقة أربعة الصاد والضاد والطاء والظاء. وفي الفواتح نصفها: الصاد والطاء. وبقية الحروف وهي أربعة وعشرون حرفا تسمى منفتحة نصفها وهو اثنا عشر في الفواتح المذكورة. فانظر كيف أتى في هذه الفواتح بنصف الحروف الهجائية إن لم تعد الألف وجعلها في تسع وعشرون سورة عدد الحروف وفيها الألف؟ وكيف أتى بنصف المهموسة ونصف المجهورة ونصف الشديدة ونصف الرخوة ونصف المطبقة ونصف المنفتحة؟. ولقد ذكرت لك قلا من كثر مما ذكره العلماء في هذا المقام ولا أطيل عليك خيفة السآمة والملل وكفاك ما أمليته عليك في هذه الطريقة الثانية لتعرف كيف أتى بهذه الأوصاف؟ وكيف وضعت الحروف على هذا النظام؟. وإني موقن أن المتعلم لو طلب منه أن يأتي بهذه الحروف منصفة على هذا الوجه ما استطاع إلى ذلك سبيلا فإنه إن راعى نصف الحروف المطبقة فكيف يراعي الحروف الشديدة؟ وكيف يراعي نصف المجهورة في نفس العدد؟. إن ذلك دلائل على صدق صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم. ففائدة هذا الوجه أهم من الوجه الأول فالأول فائدته تذكير الإنسان بأسماء الله تعالى. وأما الوجه الثاني ففيه إعجاز للعقول وحيرة. فيقال: كيف تنصف الحروف الهجائية وتنصف أنواعها من مهموسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وشديدة الخ. وهذه الأنواع لم يدرسها أحد في العالم أيام النبوة. ثم لما ظهرت تلك الدراسات وافقت تلك الحروف بأنصافها. إن ذلك ليعطي العقول مثلا من الغرابة الدالة على أن هذا لا يقدر عليه المتعلمون فإذا هو من الوحي. وهذا الوجه على قوته يفضله ما بعده. الطريقة الثالثة: أن الله تعالى خلق العالم منظما محكما متناسقا متناسبا. والكتاب السماوي إذا جاء مطابقا لنظامه موافقا لإبداعه سائرا على منهاجه دل ذلك على أنه من عنده. وإذا جاء الكتاب السماوي مخالفا لنهجه منافرا لفعله منحرفا عن سننه كان ذلك الكتاب مصطنعا مفتعلا منقولا مكذوبا {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . والعالم المشاهد فيه عدد الثمانية والعشرين. وذلك فيما يأتي: 1- مفاصل اليدين في كل يد أربعة عشر. 2- خرزات عمود ظهر الإنسان منها أربع عشرة في أسفل الصلب وأربع عشرة في أعلاه. 3- خرزات العمود التي في أصلاب الحيوانات التامة الخلقة كالبقر والجمال والحمير والسباع وسائر الحيوانات التي تلد أولادها منها أربع عشرة في مؤخر الصلب وأربع عشرة في مؤخر البدن. 4- عدد الريشات التي في أجنحة الطير المعتمدة عليها في الطيران أربع عشرة ريشة ظاهرة في كل جناح. 5- عدد الخرزات التي في أذناب الحيوانات الطويلة الأذناب كالبقر والسباع. 6- عمود صلب الحيوانات الطويلة الخلقة كالسمك والحيات وبعض الحشرات. 7- عدد الحروف التي في لغة العرب التي هي أتم اللغات ثمان وعشرون حرفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 منها أربعة عشرة يدغم فيها لام التعريف وهي: ت ث د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ل ن. وأربعة عشر لا تدغم اللام فيها وهي: أب ج ح خ ع غ ف ق ك م هـ وي. 8- والحروف التي تخط بالقلم قسمان: منها أربعة عشر معلمة بالنقط وهي: ب ت ث ج خ ذ ز ش ض ظ غ ف ق ن وأربعة عشر غير معلمة وهي: اح د ر س ص ط ع ك وهـ ل م لا. وهذا الحرف هو الألف التي هي من حروف العلة. أما الأولى فهي الهمزة. فهذه أربعة عشر حرفا. وبقيت الياء وهي تنقط في وسط الكلمة ولا تنقط في آخرها. فأصبحت الحروف المعلمة أربعة عشر وغير المعلمة أربع عشر والحرف التاسع والعشرون معلم وغير معلم لتكون القسمة عادلة. والفضل في هذا العدل للحكيم الذي وضع حروف الهجاء العربية فإنه كان حكيما والحكيم هو الذي يتشبه بالله بقدر الطاقة البشرية. وهذا جعل ثمانية وعشرين حرفا مقسمة قسمين كل منها أربعة عشر كما في مفاصل اليدين وفقرات بعض الحيوانات. 9- منازل القمر ثمان وعشرون منزلة في البروج الشمالية أربع عشرة وفي الجنوبية أربع عشرة. فهذا يفيد أن الموجودات التي عددها ثمانية وعشرون تكون قسمين كل منهما أربعة عشر. فهكذا هنا في القرآن جاءت الحروف العربية مقسمة قسمين قسم منهما أربعة عشر منطوق به في أوائل السور وقسم منهما أربعة عشر غير منطوق به في أوائلها. وكأنه تعالى يقول أي عبادي إن منازل القمر ثمان وعشرون وهي قسمان ومفاصل الكف ثمانية وعشرون وهي قسمان وهكذا. والحروف التي تدغم في حرف التعريف والتي هي معلمة كل منها أربعة عشر. وضدها أربعة عشر فلتعلموا أن هذا القرآن هو تنزيل مني لأني نظمت حروفه على هذا النمط الذي أخترته في صنع المنازل والأجسام الإنسانية والأجسام الحيوانية ونظام الحروف الهجائية فمن أين لبشر كمحمد أو غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أن ينظم هذا النظام ويجعل هذه الأعداد موافقة للنظام الذي وضعته والسنن الذي رسمته والنهج الذي سلكته؟ إن القرآن تنزيل مني وقد وضعت هذه الحروف في أوائل السور لتستخرجوا منها ذلك فتعلموا أني ما خلقت السموات والأرض وما بينهما باطلا بل جعلت النظام في العالم وفي الوحي متناسبا. وهذا الكتاب سيبقى إلى آخر الزمان ولغته ستبقى معه إلى آخر الأجيال. إن اللغات متغيرة وليس في العالم لغة تبقى غير متغيرة إلا التي حافظ عليها دين. وهل غير اللغة العربية حافظ عليها دين؟. هذا ولا يخفى عليك أن ذاك الرأي الثاني في فواتح السور أبلغ في نقض الشبهة من الرأي الأول لأنه ينفي ما زعموه من أساس الاتهام وهو أنه ليس لهذه الفواتح معنى مفهوم ويقرر أن معانيها مفهومة على ما تبين في تلك الوجوه السابقة. وإذا كان بعض الناس لا يفهم تلك المعاني فليس ذلك عيبا في القرآن إنما هو عيب في استعداد بعض أفراد الإنسان. وكتاب الله خوطب به الخواص كما خوطب به العوام فلا بدع أن يكون فيه ألفاظ لا يفهمها إلا الخاصة دون العامة. وعلى كلا هذين الرأيين يتضح لك أن اشتمال القرآن على هذه الألفاظ ليس من قبيل اشتماله على لغو الكلام أو إظهار القرآن بمظهر عميق مخيف ولا يفهم منه أنها رموز للمصاحف ألحقها مرور الزمن بالقرآن إلى غير ذلك من الهذيان. بل ثبوت هذه الفواتح لا يقدح في كون القرآن من عند الله سواء أفادت معنى ظاهرا أم لم تفد على ما بيناه من حكمة الله البالغة في إيرادها. والله هو الحكيم العليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الشبهة السادسة يقولون: إن القرآن في قسمه المكي قد خلا من الأدلة والبراهين بخلاف قسمه المدني فإنه مليء بالأدلة مدعم بالحجة وهذا برهان جديد على تأثر القرآن بالوسط الذي كان فيه محمد. وننقض شبهتهم: أولا: بما أسلفنا من أن القرآن لو كان نتيجة تأثر محمد بالوسط الذي يعيش فيه لكان الوسط أولى بتوجيه هذا المطعن عليه ولكان أعرف بهذا النقض فيه فيظفر عليه ويدخل إلى إبطال دعوته من هذا الباب الواسع لا سيما أن الرسول في مكة والمدينة كان له أعداء ألداء ليس لعداوتهم دواء. ثانيا: أنه لو صح هذا لبطلت نبوته ولصح أن تكون النبوة لهم باعتبار أنهم مصدرها وأنهم أساتذته فيها. وهذا النقض يقال في رد شبهاتهم الماضية الساقطة التي تدل على فساد فطرتهم وعلى مقدار تبجحهم وتجنبهم على الحقيقة والتاريخ والاستخفاف بعقول الناس. ثالثا: أن كذبهم في هذه الشبهة صريح مكشوف لأن القسم المكي حافل بأقوى الأدلة وأعظم الحجج على عقيدة الإسلام في الإلهيات والنبوات والسمعيات. استمع إليه في سورة المؤمنون المكية وهو يرفع قواعد التوحيد ويزلزل بنيان الشرك إذ يقول: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . وإذ يقول في سورة الأنبياء المكية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ. هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} . وأنصت إليه في سورة العنكبوت المكية وهو يدلل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ. وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وتدبر حجته التي أقامها لتقرير اقتداره على البعث بعد الموت في قوله سبحانه من سورة ق المكية: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ, وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ, رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} وقوله فيها أيضا: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} . وانظر إليه يقيم الدليل العقلي على البعث والجزاء في سورة المؤمنون المكية إذ يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وفي سورة السجدة إذ يقول: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الخ. وفي سورة الجاثية المكية إذ يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وتأمل مناقشته ونقضه بالحجة أوهام المشركين في احتجاجهم لأباطيلهم بالمشيئة الإلهية إذ يقول في سورة الأنعام المكية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . إلى غير ذلك من أدلة ساطعة وبراهين بارعة لا تكاد تخلو منها سورة من السور المكية. ولكن القوم استحبوا العمى على الهدى فاستمرؤوا هذا الكذب والافتراء. نسأل الله أن يكفينا شر الفتنة وأن يثبتنا على الحق فإن قلوب الخلق بيديه والأمر كله منه وإليه. {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ. وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 المبحث الثامن: في جمع القرآن وتاريخه والرد على ما يثار حوله من شبه ونماذج من الروايات الواردة في ذلك مدخل ... المبحث الثامن: في جمع القرآن وتاريخه والرد على ما يثار حوله من شبه ونماذج من الروايات الواردة في ذلك كلمة جمع القرآن تطلق تارة ويراد منها حفظه واستظهاره في الصدور. وتطلق تارة أخرى ويراد منها كتابته كله حروفا وكلمات وآيات وسورا. هذا جمع في الصحائف والسطور وذاك جمع في القلوب والصدور ثم إن جمعه بمعنى كتابته حدث في الصدر الأول ثلاث مرات: الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والثانية في خلافة أبي بكر والثالثة على عهد عثمان وفي هذه المرة الأخيرة وحدها نسخت المصاحف وأرسلت إلى الآفاق. وقد أثيرت في هذا الموضوع شبه باردة لا مناص لنا من أن نكشف عنها اللثام ثم نعرضها لحرارة الحقائق العلمية الصحيحة حتى تذوب وتنماع, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أو تذهب وتتبخر فأما الزبد فيذهب جفاء {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت همته بادئ ذي بدء منصرفة إلى أن يحفظه ويستظهره ثم يقرأه على الناس على مكث ليحفظوه ويستظهروه ضرورة أنه نبي أمي بعثه الله في الأميين. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} اهـ من سورة الجمعة. ومن شأن الأمي أن يعول على حافظته فيما يهمه أمره ويعنيه استحضاره وجمعه. خصوصا إذا أوتي من قوة الحفظ والاستظهار ما ييسر له هذا الجمع والاستحضار. وكذلك كانت الأمة العربية على عهد نزول القرآن وهي متمتعة بخصائص العروبة الكاملة التي منها سرعة الحفظ وسيلان الأذهان حتى كانت قلوبهم أناجيلهم وعقولهم سجلات أنسابهم وأيامهم وحوافظهم دواوين أشعارهم ومفاخرهم. ثم جاء القرآن فبهرهم بقوة بيانه وأخذ عليهم مشاعرهم بسطوة سلطانه وأستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روح الحياة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فبلغ من حرصه على استظهار القرآن وحفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه وشدته وهو يعاني ما يعانيه من الوحي وسطوته وجبريل في هبوطه عليه بقوته. يفعل الرسول كل ذلك استعجالا لحفظه وجمعه في قلبه مخافة أن تفوته كلمة أو يفلت منه حرف. وما زال صلى الله عليه وسلم كذلك حتى طمأنه ربه بأن وعده أن يجمعه له في صدره وأن يسهل له قراءة لفظه وفهم معناه فقال له في سورة القيامة {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وقال له في سورة طه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} . ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم جامع القرآن في قلبه الشريف وسيد الحفاظ في عصره المنيف. ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القرآن وعلوم القرآن. وكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه على الناس على مكث كما أمره مولاه وكان يحيي به الليل ويزين الصلاة. وكان جبريل يعارضه إياه في كل عام مرة. وعارضه إياه في العام الأخير مرتين. قالت عائشة وفاطمة رضي الله عنهما: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي". وأما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان كتاب الله في المحل الأول من عنايتهم. يتنافسون في استظهاره وحفظه. ويتسابقون إلى مدارسته وتفهمه. ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه. وربما كانت قرة عين السيدة منهم أن يكون مهرها في زواجها سورة من القرآن يعلمها إياها زوجها. وكانوا يهجرون لذة النوم وراحة الهجود إيثارا للذة القيام به في الليل والتلاوة له في الأسحار والصلاة به والناس نيام حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويا كدوي النحل بالقرآن وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكي فيهم روح هذه العناية بالتنزيل يبلغهم ما أنزل إليه من ربه. ويبعث إلى من كان بعيد الدار منهم من يعلمهم ويقرئهم كما بعث مصعب بن عمير وابن ام مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته يعلمانهم الإسلام ويقرئانهم القرآن وكما أرسل معاذ بن جبل إلى مكة بعد هجرته للتحفيظ والإقراء. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ومن هنا كان حفاظ القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم جما غفيرا منهم الأربعة الخلفاء وطلحة وسعد وابن مسعود وحذيفة وسالم مولى أبي حذيفة وأبو هريرة وابن عمر وابن عباس وعمرو بن العاص وابنه عبد الله ومعاوية وابن الزبير وعبد الله ابن السائب وعائشة وحفصة وام سلمة وهؤلاء كلهم من المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين. وحفظ القرآن من الأنصار في حياته صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو الدرداء ومجمع بن حارثة وأنس بن مالك وأبو زيد الذي سئل عنه أنس فقال أنه أحد عمومتي رضي الله عنهم أجمعين. وقيل إن بعض هؤلاء إنما أكمل حفظه للقرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وأيا ما تكن الحال فإن الذين حفظوا القرآن من الصحابة كانوا كثيرين حتى كان عدد القتلى منهم ببئر معونة ويوم اليمامة أربعين ومائة. قال القرطبي قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء. وقتل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد. قال المحقق ابن الجزري: ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب. وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي قال لي قم في قريش فأنذرهم فقلت له: أي رب إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة. فقال: إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان فابعث جندا أبعث مثلهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك. وأنفق ينفق عليك" فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرأ في كل حال كما جاء في صفة أمته أناجيلهم صدورهم وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرؤونه كله إلا نظرا لا عن ظهر قلب. اهـ ما أردنا نقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ولا يشكلن عليك في هذا المقام ما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد. قال: ونحن ورثناه وأبو زيد هذا أسمه قيس بن السكن كما رواه أبو داود بإسناد على شرط الشيخين. وإنما قلنا لا يشكلن عليك هذا الحديث لأن الحصر الذي تلمحه فيه حصر نسبي وليس حصرا حقيقيا حتى ينفي أن يكون غير هؤلاء الأربعة قد جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والدليل على أن هذا الحصر إضافي لا حقيقي هو ما رواه البخاري عن أنس نفسه أيضا وقد سأله قتادة عمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد اهـ. فأنت ترى أن أنسا في هذه الرواية ذكر من الأربعة أبي بن كعب بدلا من أبي الدرداء في الرواية السابقة. وهو صادق في كلتا الروايتين لأنه ليس بمعقول أن يكذب نفسه فتعين أنه يريد من الحصر الذي أورده الحصر الإضافي بأن يقال إن أنسا رضي الله عنه تعلق غرضه في وقت ما بأن يذكر الثلاثة ويذكر معهم أبي بن كعب دون أبي الدرداء حاصرا الجمع فيهم ثم علق غرضه في وقت آخر بأن يذكر الثلاثة ويذكر معهم أبا الدرداء دون أبي بن كعب. وهذا التوجيه وإن كان بعيدا إلا أنه يتعين المصير إليه جمعا بين هاتين الروايتين وبينهما وبين روايات أخرى ذكرت غير هؤلاء. ومن هنا قال الماوردي: لا يلزم من قول أنس رضي الله عنه لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع كذلك في نفس الأمر لأنه لا يمكن الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد ولا يتم له ذلك إلا إذا كان قد لقي كل واحد منهم وأخبر عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا في غاية البعد في العادة. وكيف يكون الواقع ما ذكر وقد جاء في صحيح البخاري أيضا من طريق حفص بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 القرآن عن أربعة: عن عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب" والأربعة المذكورون منهم اثنان من المهاجرين وهما الأولان واثنان من الأنصار وهما الأخيران. اهـ. ولعل مراد الماوردي بهذا نفي الحصر الحقيقي وتوجيه الحصر الإضافي على نحو ما بينا مستدلين بحديث أنس نفسه كما رأيت وبالروايات الأخرى التي حكى بعضهم فيها التواتر وهي تصرح بأسماء أخرى غير أسماء هؤلاء الأربعة المذكورين في رواية أنس هذه. من تلك الروايات ما أخرجه النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "اقرأه في شهر" إلى آخر الحديث. ومنها ما أخرجه ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري. وذهب بعضهم إلى أن الجمع في حديث أنس المذكور مراد به الكتابة لا الحفظ. وبعضهم ذهب إلى أن المراد به الجمع بوجوه القراءات كلها أو تلقيا ومشافهة عن الرسول أو الجمع شيئا فشيئا حتى تكامل نزوله. وللإمام أبي بكر الباقلاني أجوبة ثمانية يحاول بها دفع إشكال هذا الحديث. لكن ابن حجر ضعفها وغيره فندها. والخطب سهل على كل حال وفيما ذكرناه كفاية للخروج من هذا الإشكال. غير أنه لا يفوتني أن أقضي لك على هذا الإشكال بكلمة أعجبتني عن المازري إذ يقول ما نصه: وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره: سلمناه. ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألا يكون حفظ مجموعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الجم الغفير. وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى وقال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد. قال: وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم اهـ. ثم إن ما ذكرناه في هذا المقام لا يتجاوز دائرة الصحابة الذين جمعت صدورهم كتاب الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فقد أتم حفظ القرآن آلاف مؤلفة من الصحابة واشتهر بإقراء القرآن من بينهم سبعة: عثمان وعلي وأبي بن كعب وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري. كلهم جمعوا التنزيل بين حنايا صدورهم وأقرؤوه لكثير غيرهم. جازاهم الله أحسن الجزاء. آمين. ولعلك أيها القارئ الكريم لا تستكثر منا هذا المجهود الطويل في حديث أنس السابق فإن بعض الملاحدة قد أتخذ منه مثارا للطعن في تواتر القرآن. ومن وظيفتنا أن نرد المطاعن ونفحم الطاعن. فأردنا أن نشبع الكلام في هذا الموضوع عند هذه المناسبة أداء للواجب من ناحية ولنستغني عن إيراده في الشبهات الآتية من ناحية أخرى. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: إن همة الرسول وأصحابه كان متصرفة أول الأمر إلى جمع القرآن في القلوب بحفظه واستظهاره ضرورة أنه نبي أمي بعثه الله في الأميين. أضف إلى ذلك أن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم في ذلك العهد ومن هنا كان التعويل على الحفظ في الصدور يفوق التعويل على الحفظ بين السطور. على عادة العرب أيامئذ من جعل صفحات صدورهم وقلوبهم دواوين لأشعارهم وأنسابهم ومفاخرهم وأيامهم. ولكن القرآن حظي بأوفى نصيب من عناية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم تصرفهم عنايتهم بحفظه واستظهاره عن عنايتهم بكتابته ونقشه ولكن بمقدار ما سمحت به وسائل الكتابة وأدواتها في عصرهم. فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اتخذ كتابا للوحي كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته مبالغة في تسجيله وتقييده. وزيادة في التوثق والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى حتى تظاهر الكتابة الحفظ ويعاضد النقش اللفظ. وكان هؤلاء الكتاب من خيرة الصحابة فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبان بن سعيد وخالد ابن الوليد وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس وغيرهم. وكان صلى الله عليه وسلم يدلهم على موضع المكتوب من سورته. ويكتبونه فيما يسهل عليهم من العسب1 واللخاف2,   1 العسب بضم العين والسين- جمع عسيب- وهو جريد النخل, كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. 2 اللخاف- بكسر اللام- جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء وهي الحجارة الرقيقة. وقال الخطابي: صفائح الحجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 والرقاع1 وقطع الأديم2 وعظام الأكتاف والأضلاع. ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا انقضى العهد النبوي السعيد والقرآن مجموع على هذا النمط بيد أنه لم يكتب في صحف ولا في مصاحف. بل كتب منثورا كما سمعت بين الرقاع والعظام ونحوها مما ذكرنا. روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: "ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا". وعن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع. وكان هذا التأليف عبارة عن ترتيب الآيات حسب إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا الترتيب بتوقيف من جبريل عليه السلام فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان يقول: ضعوا كذا في موضع كذا. ولا ريب أن جبريل كان لا يصدر في ذلك إلا عن أمر الله عز وجل. أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان منهم من يكتبون القرآن ولكن فيما تيسر لهم من قرطاس أو كتف أو عظم أو نحو ذلك بالمقدار الذي يبلغ الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يلتزموا توالي السور وترتيبها وذلك لأن أحدهم كان إذا حفظ سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتبها ثم خرج في سرية مثلا فنزلت في وقت غيابه سورة فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته ثم يستدرك ما كان قد فاته في غيابه فيجمعه ويتتبعه على حسب ما يسهل له فيقع فيما يكتبه تقديم وتأخير بسبب ذلك. وقد كان من الصحابة من يعتمد على حفظه فلا يكتب   1 الرقاع: جمع رقعة, وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد. 2 الأديم: الجلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 جريا على عادة العرب في حفظ أنسابها واستظهار مفاخرها وأشعارها من غير كتابة. صفوة المقال: وصفوة المقال أن القرآن كان مكتوبا كله على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت كتابته ملحوظا فيها أن تشمل الأحرف السبعة التي نزل عليها غير أن بعض الصحابة كان قد كتب بعض منسوخ التلاوة وبعض ما هو ثابت بخبر الواحد وربما كتبه غير مرتب ولم يكن القرآن على ذلك العهد مجموعا في صحف ولا مصاحف عامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 لماذا لم يجمع القرآن أيامئذ في صحف ولا مصاحف؟ وإنما لم يجمع القرآن في صحف ولا مصاحف لاعتبارات كثيرة: أولها: أنه لم يوجد من دواعي كتابته في صحف أو مصاحف مثل ما وجد على عهد أبي بكر حتى كتبه في صحف. ولا مثل ما وجد على عهد عثمان حتى نسخه في مصاحف. فالمسلمون وقتئذ بخير والقراء كثيرون والإسلام لم يستبحر عمرانه بعد والفتنة مأمونة والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة وأدوات الكتابة غير ميسورة وعناية الرسول باستظهار القرآن تفوق الوصف وتوفي على الغاية حتى في طريقة أدائه على حروفه السبعة التي نزل عليها. وثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله من آية أو آيات. ثالثها: أن القرآن لم ينزل مرة واحدة بل نزل منجما في مدى عشرين سنة أو أكثر. رابعها: أن ترتيب آياته وسوره ليس على ترتيب نزوله فقد علمت أن نزوله كان على حسب الأسباب أما ترتيبه فكان لغير ذلك من الاعتبارات. وأنت خبير بأن القرآن لو جمع في صحف أو مصاحف والحال على ما شرحنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 لكان عرضة لتغيير الصحف أو المصاحف كلما وقع نسخ أو حدث سبب. مع أن الظروف لا تساعد وأدوات الكتابة ليست ميسورة والتعويل كان على الحفظ قبل كل شيء. ولكن لما استقر الأمر بختام التنزيل ووفاة الرسول وأمن النسخ وتقرر الترتيب ووجد من الدواعي ما يقتضي نسخه في صحف أو مصاحف وفق الله الخلفاء الراشدين فقاموا بهذا الواجب حفظا للقرآن وحياطة لأصل التشريع الأول مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 جمع القرآن على عهد أبي بكر رضي الله عنه ألقت الخلافة قيادها إلى أبي بكر رضي الله عنه بعد غروب شمس النبوة وواجهت أبا بكر في خلافته هذه أحداث شداد ومشاكل صعاب. منها موقعة اليمامة سنة 12 اثنتي عشرة للهجرة. وفيها دارت رحى الحرب بين المسلمين وأهل الردة من أتباع مسيلمة الكذاب وكانت معركة حامية الوطيس استشهد فيها كثير من قراء الصحابة وحفظتهم للقرآن ينتهي عددهم إلى السبعين وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة من أجلهم سالم مولى أبي حذيفة. ولقد هال ذلك المسلمين وعز الأمر على عمر فدخل على أبي بكر وأخبره الخبر وأقترح عليه أن يجمع القرآن خشية الضياع بموت الحفاظ وقتل القراء. فتردد أبو بكر أول الأمر لأنه كان وقافا عند حدود ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يجره التجديد إلى التبديل أو يسوقه الإنشاء والاختراع إلى الوقوع في مهاوي الخروج والابتداع. ولكنه بعد مفاوضة بينه وبين عمر تجلى له وجه المصلحة فاقتنع بصواب الفكرة وشرح الله لها صدره وعلم أن ذلك الجمع الذي يشير به عمر ما هو إلا وسيلة من أعظم الوسائل النافعة إلى حفظ الكتاب الشريف والمحافظة عليه من الضياع والتحريف وأنه ليس من محدثات الأمور الخارجة ولا من البدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 والإضافات الفاسقة. بل هو مستمد من القواعد التي وضعها الرسول بتشريع كتابة القرآن واتخاذ كتاب للوحي وجمع ما كتبوه عنده حتى مات صلوات الله وسلامه عليه. قال الإمام أبو عبد الله المحاسبي في كتاب فهم السنن ما نصه: كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشرا فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء اهـ. تنفيذ أبي بكر للفكرة: اهتم أبو بكر بتحقيق هذه الرغبة ورأى بنور الله أن يندب لتحقيقها رجلا من خيرة رجالات الصحابة هو زيد بن ثابت رضي الله عنه لأنه اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن ما لم يجتمع في غيره من الرجال إذ كان من حفاظ القرآن ومن كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته صلى الله عليه وسلم. وكان فوق ذلك معروفا بخصوبة عقله وشدة ورعه وعظم أمانته وكمال خلقه واستقامة دينه. فاستشار أبو بكر عمر في هذا فوافقه. وجاء زيد فعرض أبو بكر عليه الفكرة ورغب إليه أن يقوم بتنفيذها فتردد زيد أول الأمر ولكن أبا بكر ما زال به يعالج شكوكه ويبين له وجه المصلحة حتى اطمأن واقتنع بصواب ما ندب إليه وشرع يجمع وأبو بكر وعمر وكبار الصحابة يشرفون عليه ويعاونونه في هذا المشروع الجلل حتى تم لهم ما أرادوا {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . وفي ذلك يروي البخاري في صحيحه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة أي عقب استشهاد القراء السبعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 في واقعة اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد أستحر أي اشتد يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر اهـ. فهذا الحديث كما ترى يدل على مبلغ اهتمام كبار الصحابة بالمحافظة على القرآن وعلى مبلغ ثقة أبي بكر وعمر بزيد بن ثابت وعلى جدارة زيد بهذه الثقة لتوافر تلك المناقب التي ذكرها فيه أبو بكر. ويؤيد ورعه ودينه وأمانته قوله: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ويشهد بوفرة عقله تردده وتوقفه أول الأمر ومناقشته لأبي بكر حتى راجعه أبو بكر وأقنعه بوجه الصواب. وينطق بدقة تحريه قوله: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال اهـ. رضي الله عنه وأرضاه ورضي عنهم وعنا أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 دستور أبي بكر في كتابة الصحف: وانتهج زيد في القرآن طريقة دقيقة محكمة وضعها له أبو بكر وعمر فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبت بالغ وحذر دقيق وتحريات شاملة فلم يكتف بما حفظ في قلبه ولا بما كتب بيده ولا بما سمع بأذنه. بل جعل يتتبع ويستقصي آخذا على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين: أحدهما ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: ما كان محفوظا في صدور الرجال. وبلغ من مبالغته في الحيطة والحذر أنه لم يقبل شيئا من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدلان أنه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان. ويدل عليه ما أخرجه أبو داود أيضا ولكن من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه اهـ وهو حديث رجاله ثقات وإن كان منقطعا. قال ابن حجر: المراد بالشاهدين: الحفظ والكتابة. وقال السخاوي في جمال القراء ما يفيد أن المراد بهما رجلان عدلان إذ يقول ما نصه: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يعتمد زيد على الحفظ وحده ولذلك قال في الحديث الذي رواه البخاري سابقا إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة. أي لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري مع أن زيدا كان يحفظها وكان كثيرا من الصحابة يحفظونها. ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة زيادة في التوثق ومبالغة في الاحتياط. وعلى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الدستور الرشيد تم جمع القرآن بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير. وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف ولعمر في الاقتراح ولزيد في التنفيذ وللصحابة في المعاونة والإقرار. قال علي كرم الله وجهه: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن. وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بما تستحق من عناية فائقة فحفظها أبو بكر عنده. ثم حفظها عمر بعده. ثم حفظتها أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر. حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القرآن. ثم ردها إليها كما يأتيك بيانه إن شاء الله. مزايا هذه الصحف: وامتازت هذه الصحف: أولا: بأنها جمعت القرآن على أدق وجوه البحث والتحري وأسلم أصول التثبيت العلمي كما سبق شرحه لك في الدستور السابق. ثانيا: أنه أقتصر فيها على ما لم تنسخ تلاوته. ثالثا: أنها ظفرت بإجماع الأمة عليها وتواتر ما فيها. ولا يطعن في ذلك التواتر ما مر عليك من أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبي خزيمة فإن المراد أنه لم يوجد مكتوبا إلا عنده وذلك لا ينافي أنه وجد محفوظا عند كثرة غامرة من الصحابة بلغت حد التواتر وقد قلنا غير مرة: إن المعول عليه وقتئذ كان هو الحفظ والاستظهار. وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر زيادة في الاحتياط ومبالغة في الدقة والحذر. ولا يعزبن عن بالك أن هذا الجمع كان شاملا للأحرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 السبعة التي نزل بها القرآن تيسيرا على الأمة الإسلامية كما كانت الأحرف السبعة في الرقاع كذلك. ملاحظة: جمع القرآن في صحف أو مصحف على ذلك النمط الآنف بمزاياه السابقة التي ذكرناها بين يديك لم يعرف لأحد قبل أبي بكر رضي الله عنه. وذلك لا ينافي أن الصحابة كانت لهم صحف أو مصاحف كتبوا فيها القرآن من قبل. لكنها لم تظفر بما ظفرت به الصحف المجموعة على عهد أبي بكر من دقة البحث والتحري ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته ومن بلوغها حد التواتر ومن إجماع الأمة عليها ومن شمولها للأحرف السبعة كما تقدم. وإذن لا يضيرنا في هذا البحث أن يقال إن عليا رضي الله عنه أول من جمع القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعكر صفو موضوعنا أن يستدلوا على ذلك بما نقله السيوطي عن ابن الغرس من حديث محمد بن سيرين عن عكرمة قال: لما كان بدء خلافة أبي بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته فقيل لأبي بكر: قد كره بيعتك. فأرسل إليه فقال: أكرهت بيعتي؟ فقال: رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدثت نفسي ألا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر: فإنك نعم ما رأيت. قال محمد: فقلت لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا. اهـ وأخرج ابن أشته من وجه آخر عن ابن سيرين هذا الأثر وفيه أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ وأن ابن سيرين قال: فطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه. اهـ. نقول إن هذه الرواية وأشباهها لا تغير بحثنا ولا تعكر صفو موضوعنا فقصاراها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 أنها تثبت أن عليا أو بعض الصحابة كان قد كتب القرآن في مصحف. لكنها لا تعطي هذا المصحف تلك الصفة الإجماعية ولا تخلع عليه تلك المزايا التي للصحف أو المصحف المجموع في عهد أبي بكر. بل هي مصاحف فردية ليست لها تلك الثقة ولا هذه المزايا. وإذا كانت قد سبقت في الوجود وتقدم بها الزمان فإن جمع أبي بكر هو الأول من نوعه على كل حال. وقد اعترف علي بن أبي طالب نفسه بهذه الحقيقة في الحديث الذي أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن آنفا إذ قال: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. فهذا اعتراف صريح من أبي الحسن بالأولية لجمع أبي بكر على النحو الآنف رضوان الله عليهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه اتسعت الفتوحات في زمن عثمان واستبحر العمران وتفرق المسلمون في الأمصار والأقطار ونبتت ناشئة جديدة كانت بحاجة إلى دراسة القرآن. وطال عهد الناس بالرسول والوحي والتنزيل. وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة فأهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب وأهل الكوفة يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود وغيرهم يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري. فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة بطريقة فتحت باب الشقاق والنزاع في قراءة القرآن أشبه بما كان بين الصحابة قبل أن يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف بل كان هذا الشقاق أشد لبعد عهد هؤلاء بالنبوة وعدم وجود الرسول بينهم يطمئنون إلى حكمه ويصدرون جميعا عن رأيه. واستفحل الداء حتى كفر بعضهم بعضا وكادت تكون فتنة في الأرض وفساد كبير. ولم يقف هذا الطغيان عند حد, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 بل كاد يلفح بناره جميع البلاد الإسلامية حتى الحجاز والمدينة وأصاب الصغار والكبار على سواء. أخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كانت خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بعضا فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا. وصدق عثمان فقد كانت الأمصار النائية أشد اختلافا ونزاعا من المدينة والحجاز. وكان الذين يسمعون اختلاف القراءات من تلك الأمصار إذا جمعتهم المجامع أو التقوا على جهاد أعدائهم يعجبون من ذلك وكانوا يمعنون في التعجب والإنكار كلما سمعوا زيادة في اختلاف طرق أداء القرآن. وتأدى بهم التعجب إلى الشك والمداجاة ثم إلى التأثيم والملاحاة. وتيقظت الفتنة التي كادت تطيح فيها الرؤوس وتسفك الدماء وتقود المسلمين إلى مثل اختلاف اليهود والنصارى في كتابهم. كما قال حذيفة لعثمان في الحديث الآتي قريبا. أضف إلى ذلك أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن لم تكن معروفة لأهل تلك الأمصار ولم يكن من السهل عليهم أن يعرفوها كلها حتى يتحاكموا إليها فيما يختلفون. إنما كان كل صحابي في إقليم يقرئهم بما يعرف فقط من الحروف التي نزل عليها القرآن. ولم يكن بين أيديهم مصحف جامع يرجعون إليه فيما شجر بينهم من هذا الخلاف والشقاق البعيد. لهذه الأسباب والأحداث رأى عثمان بثاقب رأيه وصادق نظره أن يتدارك الخرق قبل أن يتسع على الراقع وأن يستأصل الداء قبل أن يعز الدواء فجمع أعلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الصحابة وذوي البصر منهم وأجال الرأي بينه وبينهم في علاج هذه الفتنة ووضع حد لذلك الاختلاف وحسم مادة هذا النزاع. فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف يرسل منها إلى الأمصار وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها وألا يعتمدوا سواها. وبذلك يرأب الصدع ويجبر الكسر وتعتبر تلك المصاحف العثمانية الرسمية نورهم الهادي في ظلام هذا الإختلاف ومصباحهم الكشاف في ليل تلك الفتنة وحكمهم العدل في ذاك النزاع والمراء وشفاءهم الناجع من مصيبة ذلك الداء. تنفيذ عثمان لقرار الجمع: وشرع عثمان في تنفيذ هذا القرار الحكيم حول أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين من الهجرة فعهد في نسخ المصاحف إلى أربعة من خيرة الصحابة وثقات الحفاظ وهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وهؤلاء الثلاثة الأخيرون من قريش. وأرسل عثمان إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر فبعثت إليه بالصحف التي عندها وهي الصحف التي جمع القرآن فيها على عهد أبي بكر رضي الله عنه. وأخذت لجنة الأربعة هؤلاء في نسخها وجاء في بعض الروايات أن الذين ندبوا لنسخ المصاحف كانوا اثني عشر رجلا. وما كانوا يكتبون شيئا إلا بعد أن يعرض على الصحابة ويقروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على هذا النحو الذي نجده الآن في المصاحف. دستور عثمان في كتابة المصاحف: ومما تواضع عليه هؤلاء الصحابة أنهم كانوا لا يكتبون في هذه المصاحف إلا ما تحققوا أنه قرآن وعلموا أنه قد استقر في العرضة الأخيرة وما أيقنوا صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم ينسخ. وتركوا ما سوى ذلك نحو قراءة فامضوا إلى ذكر الله بدل كلمة {فَاسَعَوْا} ونحو {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 بزيادة كلمة صالحة إلى غير ذلك. وإنما كتبوا مصاحف متعددة لأن عثمان رضي الله عنه قصد إرسال ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين وهي الأخرى متعددة وكتبوها متفاوتة في إثبات وحذف وبدل وغيرها لأنه رضي الله عنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة. وجعلوها خالية من النقط والشكل تحقيقا لهذا الاحتمال أيضا. فكانت بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل نحو {فَتَبَيَّنُوا} من قوله تعالى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فإنها تصلح أن تقرأ فتثبتوا عند خلوها من النقط والشكل وهي قراءة أخرى وكذلك كلمة ننشرها من قوله تعالى {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} فإن تجردها من النقط والشكل كما ترى يجعلها صالحة عندهم أن يقرؤوها {نُنْشِزُهَا} بالزاي وهي قراءة واردة أيضا وكذلك كلمة {أُفٍّ} التي ورد أنها تقرأ بسبعة وثلاثين وجها. أما الكلمات التي لا تدل على أكثر من قراءة عند خلوها من النقط والشكل مع أنها واردة بقراءة أخرى أيضا فإنهم كانوا يرسمونها في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة وفي بعض آخر برسم آخر يدل على القراءة الثانية كقراءة وصى بالتضعيف وأوصى بالهمز وهما قراءتان في قوله سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} وكذلك قراءة تحتها الأنهار وقراءة {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بزيادة لفظ {مِنْ} في قوله تعالى في سورة التوبة: {لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وهما قراءتان أيضا. وصفوة القول: أن اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات كانوا يرسمونه بصورة واحدة لا محالة. أما الذي تختلف فيه وجوه القراءات فإن كان لا يمكن رسمه في الخط محتملا لتلك الوجوه كلها فإنهم يكتبونه برسم يوافق بعض الوجوه في مصحف ثم يكتبونه برسم آخر يوافق بعض الوجوه الأخرى في مصحف آخر. وكانوا يتحاشون أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 يكتبوه بالرسمين في مصحف واحد خشية أن يتوهم أن اللفظ نزل مكررا بالوجهين في قراءة واحدة وليس كذلك. بل هما قراءتان نزل اللفظ في إحداهما بوجه واحد وفي الثانية بوجه آخر من غير تكرار في واحدة منهما. وكذلك كانوا يتحاشون أن يكتبوا هذا اللفظ في مصحف واحد برسمين: أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية لئلا يتوهم أن الثاني تصحيح للأول. أضف إلى ذلك أن كتابة أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية دون العكس تحكم أو ترجيح بلا مرجح وذلك نحو كلمة وصى بالتضعيف وأوصى بالهمز كما سبق. أما اللفظ الذي تختلف فيه القراءات ويدل عليه الرسم بصورة واحدة تحتمل هذا الاختلاف ويساعدهم عليه ترك الإعجام والشكل نحو {فَتَبَيَّنُوا} وننشرها كما سلف بيانه فتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين شبيهة بدلالة المشترك اللفظي على كلا المعنيين المعقولين. والذي دعا الصحابة إلى انتهاج هذه الخطة في رسم المصاحف وكتابتها أنهم تلقوا القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع وجوه قراءاته وبكافة حروفه التي نزل عليها فكانت هذه الطريقة أدنى إلى الإحاطة بالقرآن على وجوهه كلها حتى لا يقال: إنهم أسقطوا شيئا من قراءاته أو منعوا أحدا من القراءة بأي حرف شاء على حين أنها كلها منقولة نقلا متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا" وكان من الدستور الذي وضعه عثمان رضي الله عنه لهم في هذا الجمع أيضا أنه قال لهؤلاء القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وفي ذلك يروي البخاري في صحيحه بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق اهـ. تحريق عثمان للمصاحف والصحف المخالفة: بعد أن أتم عثمان نسخ المصاحف بالصورة السابقة عمل على إرسالها وإنقاذها إلى الأقطار وأمر أن يحرف كل ما عداها مما يخالفها سواء كانت صحفا أم مصاحف. وذلك ليقطع عرق النزاع من ناحية وليحمل المسلمين على الجادة في كتاب الله من ناحية أخرى فلا يأخذوا إلا بتلك المصاحف التي توافر فيها من المزايا ما لم يتوافر في غيرها. وهذه المزايا هي: 1- الاقتصار على ما ثبت بالتواتر دون ما كانت روايته آحادا. 2- وإهمال ما نسخت تلاوته ولم يستقر في العرضة الأخيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 3- وترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن. بخلاف صحف أبي بكر رضي الله عنه فقد كانت مرتبة الآيات دون السور. 4- وكتابتها بطريقة كانت تجمع وجوه القراءات المختلفة والأحرف التي نزل عليها القرآن على ما مر بك من عدم إعجامها وشكلها ومن توزيع وجوه القراءات على المصاحف إذا لم يحتملها الرسم الواحد. 5- وتجريدها من كل ما ليس قرآنا كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحا لمعنى أو بيانا لناسخ ومنسوخ أو نحو ذلك. وقد استجاب الصحابة لعثمان فحرقوا مصاحفهم واجتمعوا جميعا على المصاحف العثمانية. حتى عبد الله بن مسعود الذي نقل عنه أنه أنكر أولا مصاحف عثمان وأنه أبى أن يحرق مصحفه رجع وعاد إلى حظيرة الجماعة حين ظهر له مزايا تلك المصاحف العثمانية واجتماع الأمة عليها وتوحيد الكلمة بها. وبعدئذ طهر الجو الإسلامي من أوبئة الشقاق والنزاع وأصبح مصحف ابن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف عائشة ومصحف علي ومصحف سالم مولى أبي حذيفة. أصبحت كلها وأمثالها في خبر كان مغسولة بالماء أو محروقة بالنيران. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} . ورضي الله عن عثمان فقد أرضى بذلك العمل الجليل ربه وحافظ على القرآن وجمع كلمة الأمة وأغلق باب الفتنة ولا يبرح المسلمون يقطفون من ثمار صنيعه هذا إلى اليوم وما بعد اليوم. ولن يقدح في عمله هذا أنه أحرق المصاحف والصحف المخالفة للمصاحف العثمانية فقد علمت وجهة نظره في ذلك. على أنه لم يفعل ما فعل من هذا الأمر الجلل إلا بعد أن استشار الصحابة واكتسب موافقتهم بل وظفر بمعاونتهم وتأييدهم وشكرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 روى أبو بكر الأنباري عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: "يا معشر الناس: اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حراق مصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان" رضي الله عن الجميع وجزاهم أحسن الجزاء على هذا الصنيع. فذلكة: تستطيع مما سبق أن تفرق بين مرات جمع القرآن في عهوده الثلاثة: عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعهد عثمان رضي الله عنهما فالجمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان عبارة عن كتابة الآيات وترتيبها ووضعها في مكانها الخاص من سورها ولكن مع بعثرة الكتابة وتفرقها بين عسب وعظام وحجارة ورقاع ونحو ذلك حسبما تتيسر أدوات الكتابة وكان الغرض من هذا الجمع زيادة التوثق للقرآن وإن كان التعويل أيامئذ كان على الحفظ والاستظهار. أما الجمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقد كان عبارة عن نقل القرآن وكتابته في صحف مرتب الآيات أيضا مقتصرا فيه على ما لم تنسخ تلاوته مستوثقا له بالتواتر والإجماع. وكان الغرض منه تسجيل القرآن وتقييده بالكتابة مجموعا مرتبا خشية ذهاب شيء منه بموت حملته وحفاظه. وأما الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه فقد كان عبارة عن نقل ما في تلك الصحف في مصحف واحد إمام واستنساخ مصاحف منه ترسل إلى الآفاق الإسلامية ملاحظا فيها تلك المزايا السالف ذكرها مع ترتيب سوره وآياته جميعا. وكان الغرض منه إطفاء الفتنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 التي اشتعلت بين المسلمين حين اختلفوا في قراءة القرآن وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم والمحافظة على كتاب الله من التغيير والتبديل. {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الرد على ما يثار حول جمع القرآن من شبه الشبهة الأولى ... الرد على ما يثار حول جمع القرآن من شبه كان القرآن ولا يزال هدفا لأعداء الإسلام يسددون إليه سهام المطاعن ويتخذون من علومه مثارا للشبهات يلفقونها زورا وكذبا ويروجونها ظلما وعدوانا. من ذلك ما نقصه عليك في موضوعنا هذا مشفوعا بالتفنيد فيما يأتي: الشبهة الأولى وهي تعتمد على سبع شبه يقولون إن في طريقة كتابة القرآن وجمعه دليلا على أنه قد سقط منه شيء وأنه ليس اليوم بأيدينا على ما زعم محمد أنه أنزل عليه. واعتمدوا في هذه الشبهة على المزاعم الآتية: أولا: أن محمدا قال: رحم الله فلانا لقد أذكرني كذا وكذا آية. كنت أسقطتهن ويرى أنسيتهن. فهذا الحديث فيه اعتراف من النبي نفسه بأنه أسقط عمدا بعض آيات القرآن أو أنسيها. ثانيا: أن ما جاء في سورة الأعلى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الأعلى يدل بطريق الاستثناء الواقع فيه على أن محمدا قد أسقط عمدا أو أنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها: ثالثا: أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما رأوا المصلحة في حذفه فمن ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 آية المتعة أسقطها علي بن أبي طالب بتة وكان يضرب من يقرؤها. وهذا مما شنعت عائشة به عليه فقالت: إنه يجلد على القرآن وينهى عنه وقد بدله وحرفه. رابعا: أن أبي بن كعب حذف من القرآن ما كان يرويه ولا نجده اليوم في المصحف وهو: اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله. نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق. خامسا: أن كثيرا من آياته لم يكن لها قيد سوى تحفظ الصحابة وكان بعضهم قد قتلوا في مغازي محمد وحروب خلفائه الأولين وذهب معهم ما كانوا يتخطفونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمعه فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يتحفظه الأحياء. سادسا: أن ما كان مكتوبا منه على العظام وغيرها فإنه كان مكتوبا عليها بلا نظام ولا ضبط وقد ضاع بعضها. وهذا ما حدا العلماء إلى الزعم أن فيه آيات نسخت حرفا لا حكما. وهو من غريب المزاعم. وحقيقة الأمر فيها أنها سقطت بتة بضياع العظم الذي كانت مكتوبة عليه ولم يبق منها سوى المعنى محفوظا في صدورهم. سابعا: لما قام الحجاج بنصرة بني أمية لم يبق مصحفا إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة قد نزلت فيهم وزاد فيه أشياء ليست منه وكتب ستة مصاحف جديدة بتأليف ما أراده ووجه بها إلى مصر والشام ومكة والمدينة والبصرة والكوفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وهي القرآن المتداول اليوم. وعمد إلى المصاحف المتقدمة فلم يبق منها نسخة إلا أغلى لها الخل وطرحها فيه حتى تقطعت. وإنما رام بما فعله أن يتزلف إلى بني أمية فلم يبق في القرآن ما يسوءهم. نقض هذه المزاعم الباطلة ملخص هذه الشبهة أن القرآن الذي بأيدينا ناقص سقط منه ماسقط بدليل المزاعم السبعة التي سقناها أمامك. وإذن فلنمحص بين يديك هذه المزاعم لنأتي بنيان هذه الشبهة من القواعد. 1- أما احتجاجهم الأول وهو الحديث الذي أوردوه فإنه لا ينهض حجة لهم فيما زعموا من الشك في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه. بل الأصل سليم قويم وهو وجود هذه الآيات مكتوبة في الوثائق التي استكتبها الرسول ووجودها محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر وأجمعوا جميعا على صحته. كما عرف ذلك في دستور جمع القرآن. إنما قصارى هذا الخبر أنه يدل على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم إياها وكان قد أنسيها أو أسقطها أي نسيانا. وهذا النوع من النسيان لا يزعزع الثقة بالرسول ولا يشكك في دقة جمع القرآن ونسخه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد حفظ هذه الآيات من قبل أن يحفظها ذلك الرجل ثم استكتبها كتاب الوحي وبلغها الناس فحفظوها عنه ومنهم رجل الرواية عباد بن بشار رضي الله عنه على ما روي. وليس في ذلك الخبر الذي ذكروه رائحة أن هذه الآيات لم تكن بالمحفوظات التي كتبها كتاب الوحي وليس فيه ما يدل على أن أصحاب الرسول كانوا قد نسوها جميعا حتى يخاف عليها وعلى أمثالها الضياع ويخشى عليها السقوط عند الجمع واستنساخ المصحف الإمام, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 كما يفتري أولئك الخراصون. بل الرواية نفسها تثبت صراحة أن في الصحابة من كان يقرؤها وسمعها الرسول منه. ثم إن دستور جمع القرآن وقد مر آنفا يؤيد أنهم لم يكتبوا في المصحف إلا ما تظاهر الحفظ والكتابة والإجماع على قرآنيته: ومنه هذه الآيات التي يدور عليها الكلام هنا من غير ما شك. ولا يفوتنك في هذا المقام أمران: أحدهما: أن كلمة أسقطتهن في بعض روايات هذا الحديث معناها أسقطتهن نسيانا كما تدل على ذلك كلمة أنسيتهن في الرواية الأخرى. ومحال أن يراد بها الإسقاط عمدا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينبغي له ولا يعقل منه أن يبدل شيئا في القرآن بزيادة أو نقص من تلقاء نفسه وإلا كان خائنا أعظم الخيانة. والخائن لا يمكن أن يكون رسولا. هذا هو حكم العقل المجرد من الهوى وهو أيضا حكم النقل في كتاب الله إذ يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وإذ يقول جل ذكره: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} . الأمر الثاني: أن روايات هذا الخبر لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من عباد بن بشار قد امحت من ذهنه الشريف جملة غاية ما تفيده أنها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة عباد. وغيبة الشيء عن الذهن أو غفلة الذهن عن الشيء غير محوه منه. بدليل أن الحافظ منا لأي نص من النصوص يغيب عنه هذا النص إذا اشتغل ذهنه بغيره وهو يوقن في ذلك الوقت بأنه مخزون في حافظته بحيث إذا دعا إليه داع استعرضه واستحضره ثم قرأه. أما النسيان التام المرادف لامحاء الشيء من الحافظة فإن الدليل قام على استحالته على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخل بوظيفة الرسالة والتبليغ. وإذا عرض له نسيان فإنه سحابة صيف لا تجيء إلا لتزول. ولا ريب أن نسيان الرسول هنا كان بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أن أدى وظيفته وبلغ الناس وحفظوا عنه. فهو نسيان لم يخل بالرسالة والتبليغ. قال البدر العيني في باب نسيان القرآن من شرحه لصحيح البخاري ما نصه: وقال الجمهور: جاز النسيان عليه أي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ والتعليم بشرط ألا يقر عليه بل لا بد أن يذكره. وأما غيره فلا يجوز قبل التبليغ وأما نسيان ما بلغه كما في هذا الحديث فهو جائز بلا خلاف اهـ. هذا. ولقد كنت في الطبعة الأولى تابعت بعض الكاتبين هنا في اتهام هذه الرواية بالدس والوضع ولكن تبين لي بعد إعادة النظر وتنبيه بعض ذوي الفطن أن الخبر صحيح رواه الشيخان ففي صحيح البخاري عن هشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد. فقال: "يرحمه الله. لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا". زاد في رواية أخرى وقال: "أسقطتهن من سورة كذا وكذا". وفي صحيح مسلم عن هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال: "يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا". وقال النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن ما نصه: وثبت في الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ فقال: "رحمه الله لقد أذكرني آية كنت أسقطتها". وفي رواية في الصحيح "كنت أنسيتها" اهـ. سبحان ربي {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} . 2- وأما احتجاجهم الثاني وهو الاسثناء الذي في قوله سبحانه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فلا يدل على ما زعموا لأنه استثناء صوري لا حقيقي. والحكمة فيه أن يعلن الله عباده أن عدم نسيانه صلى الله عليه وسلم الذي وعده الله إياه في قوله: {فَلا تَنْسَى} إنما هو محض فضل من الله وإحسان ولو شاء سبحانه أن ينسيه لأنساه. وفي ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الاستثناء الصوري فائدتان: إحداهما ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث يشعر دائما أنه مغمور بنعمة الله وعنايته ما دام متذكرا للقران لا ينساه والثانية تعود على أمته حيث يعلمون أن نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما خصه الله به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية فلا يفتنون فيه كما فتن النصارى في المسيح ابن مريم. والدليل على أن هذا الاستثناء صوري لا حقيقي أمران: أحدهما ما جاء في سبب النزول وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعب نفسه بكثرة قراءة القرآن حتى وقت نزول الوحي مخافة أن ينساه ويفلت منه فاقتضت رحمة الله بحبيبه أن يطمئنه من هذه الناحية وأن يريحه من هذا العناء فنزلت هذه الآية. كما نزلت آية {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وآية {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} . ثانيهما أن قوله {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} يعلق وقوع النسيان على مشيئة الله إياه. والمشيئة لم تقع بدليل ما مر بك من نحو قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . وإذا فالنسيان لم يقع للعلم بأن عدم حصول المعلق عليه يستلزم عدم حصول المعلق. فالذي عنده ذوق لأساليب اللغة ونظر في وجوه الأدلة لا يتردد في أن الآية وعد من الله أكيد بأن الرسول يقرئه الله فلا ينسى وعدا منه على وجه التأييد من غير استثناء حقيقي لوقت من الأوقات. وإلا لما كانت الآية مطمئنة له عليه الصلاة والسلام ولكان نزولها أشبه بالعبث ولغو الكلام. قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره للاستثناء في هذه الآية ما نصه: ولما كان الوعد على وجه التأبيد واللزوم ربما يوهم أن قدرة الله لا تسع غيره وأن ذلك خارج عن إرادته جل شأنه جاء بالاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإنه إذا أراد أن ينسيك شيئا لم يعجزه ذلك فالقصد هو نفي النسيان رأسا. وقالوا: إن ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله لا يقصد استثناء شيء وهو من استعمال القلة في معنى النفي. وعلى ذلك جاء الاستثناء في قوله تعالى في سورة هود {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع. فالاستثناء في مثل هذا للتنبيه على أن ذلك التأبيد والتخليد بكرم من الله وسعة جود لا بتحتيم عليه وإيجاب وأنه لو أراد أن يسلب ما وهب لم يمنعه من ذلك مانع. وما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم نسي شيئا كان يذكره فذلك إن صح فهو في غير ما أنزل الله من الكتاب والأحكام التي أمر بتبليغها. وكل ما يقال غير ذلك فهو من مدخلات الملحدين التي جازت على عقول المغفلين فلوثوا بها ما طهره الله فلا يليق بمن يعرف قدر صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم ويؤمن بكتاب الله أن يتلق بشيء من ذلك اهـ. ذلك رأي في معنى الاستثناء وثمة وجه آخر فيه وهو أنه استثناء حقيقي غير أن المراد به منسوخ التلاوة دون غيره ويكون معنى الآية أن الله تعالى يقرئ نبيه فلا ينسيه إلا ما شاءه وهو ما نسخت تلاوته لحكمة من الحكم التي بينها العلماء في مبحث النسخ. والدليل على هذا قوله سبحانه في سورة البقرة: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قال العلامة أبو السعود في تفسيره: وقرئ ما ننسخ من آية أو ننسكها وقرئ ما ننسك من آية أو ننسخها والمعنى أن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي نوع آخر هو خير للعباد بحسب الحال في النوع والثواب من الذاهبة. وقرئ بقلب الهمزة ألفا أو مثلها أي فيما ذكر من النفع والثواب اهـ ما أردنا نقله. وأيا ما يكن معنى الاستثناء في آية {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإنه لا يفهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسي حرفا واحدا مما أمر بتلاوته وتبليغه للخلق, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وإبقاء التشريع على قراءته وقرآنيته من غير نسخ. وذلك على أن المراد من النسيان المحو التام من الذاكرة أما إن أريد به غيبة الذهن عنه فقد سبق القول فيه قريبا. ولا تحسبن أن دواعي سهو الرسول ونسيانه تنال من مقامه فإنه دواع شريفة على حد ما قيل: ياسائلي عن رسول الله كيف سها؟ ... والسهو من كل قلب غافل لاهي سها عن كل شيء سره فسها ... عما سوى الله فالتعظيم لله 4,3- وأما احتجاجهم الثالث والرابع بأن الصحابة قد حذفوا من القرآن عند جمعه ما رأوا المصلحة في حذفه ومنه آية المتعة وصيغة القنوت فهو احتجاج باطل قائم على إهمال النصوص الصحيحة المتضافرة على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أحرص الناس على الاحتياط للقرآن وكانوا أيقظ الخلق في حراسة القرآن ولهذا لم يعتبروا من القرآن إلا ما ثبت بالتواتر وردوا كل ما لم يثبت تواتره لأنه غير قطعي ويأبى عليهم دينهم وعقلهم أن يقولوا بقرآنية ما ليس بقطعي. وقد سبق لك ما وضعوه من الدساتير المحكمة الرشيدة في كتابة الصحف على عهد أبي بكر وكتابة المصاحف على عهد عثمان. فارجع إليها إن شئت لتعرف مدى إمعان هؤلاء المبطلين في التجني والضلال. وإذا كان هؤلاء الطاعنون يريدون أن يلمزوا الصحابة ويعيبوهم بهذه الحيطة البالغة لكتاب الله حتى أسقطوا ما لم يتواتر وما لم يكن في العرضة الأخيرة وما نسخت تلاوته وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ نقول: إذا كانوا يريدون أن يلمزوا الصحابة والقرآن بذلك فالأولى لهم أن يلمزوا أنفسهم وأن يواروا سوأتهم. لأن المسلمين كانوا ولا يزالون أكرم على أنفسهم من أن يقولوا في كتاب الله بغير علم وأن ينسبوا إلى الله ما لم تقم عليه حجة قاطعة وأن يسلكوا بالقرآن مسلك الكتب المحرفة والأناجيل المبدلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وإننا نذكر هؤلاء بتلك الكلمة التي يرددونها هم وهي: من كان بيته من زجاج فلا يرجمن الناس بالحجارة. وكلمة الفصل في هذا الموضوع: أن آية المتعة التي يزعمون وصيغة القنوت التي يحكمون لم يثبت قرآنيتهما حتى يكونا في عداد القرآن وإن ادعوا قرآنيتهما فعليهم البيان: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . قال صاحب الانتصار ما نصه: إن كلام القنوت المروي أن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل بل هو ضرب من الدعاء وأنه لو كان قرآنا لنقل إلينا نقل القرآن وحصل العلم بصحته ثم قال ويمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ثم نسخ وأبيح الدعاء به وخلط بما ليس بقرآن. ولم يصح ذلك عنه إنما روي عنه إنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء أو تأويل اهـ. وهذا الدعاء هو القنوت الذي أخذ به السادة الحنفية. وبعضهم ذكر أن أبيا رضي الله عنه كتبه في مصحفه وسماه سورة الخلع والحفد لورود مادة هاتين الكلمتين فيه وقد عرفت توجيه ذلك. والخلاصة أن بعض الصحابة الذين كانوا يكتبون القرآن لأنفسهم في مصحف أو مصاحف خاصة بهم ربما كتبوا فيها ما ليس بقرآن مما يكون تأويلا لبعض ما غمض عليهم من معاني القرآن أو مما يكون دعاء يجري مجرى أدعية القرآن في أنه يصح الإتيان به في الصلاة عند القنوت أو نحو ذلك وهم يعلمون أن ذلك كله ليس بقرآن. ولكن ندرة أدوات الكتابة وكونهم يكتبون القرآن لأنفسهم وحدهم دون غيرهم هون عليهم ذلك لأنهم أمنوا على أنفسهم اللبس واشتباه القرآن بغيره. فظن بعض قصار النظر أن كل ما كتبوه فيها إنما كتبوه على أنه قرآن مع أن الحقيقة ليست كذلك إنما هي ما علمت. أضف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه حين من الدهر نهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 عن كتابة غير القرآن إذ يقول فيما يرويه مسلم: "لا تكتبوا عني ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه" وذلك كله مخافة اللبس والخلط والاشتباه في القرآن الكريم. 5- وأما احتجاجهم الخامس بأن كثيرا من آيات القرآن لم يكن لها قيد سوى تحفظ الصحابة وقد قتل بعضهم وذهب معهم ما كانوا يتحفظونه فلا يسلم لهم لأن نفس ما كان يتحفظه الشهداء من القراء كان يتحفظه كثير غيرهم أيضا من الأحياء الذين لم يستشهدوا ولم يموتوا بدليل قول عمر: وأخشى أن يموت القراء من سائر المواطن ومعنى هذا أن القراء لم يموتوا كلهم. إنما المسألة مسألة خشية وخوف. ومعلوم أن أبا بكر كان من الحفاظ وكذلك عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم وهؤلاء عاشوا حتى جمع القرآن في الصحف وعاش منهم من عاش حتى نسخ في المصاحف وحينئذ فكتابة زيد ما كتبه هي كتابة لكل القرآن لم تفلت منه كلمة ولا حرف. وكان القرآن كله مكتوبا كما سبق شرحه وبيانه حتى إن الصحابة في جمعه كانوا يستوثقون له بأن يعتمدوا على الحفظ والكتابة معا دون الاكتفاء بأحدهما وكانوا فيما يعتمدون عليه من الكتابة يتأكدون من أنه كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون على ذلك شاهدين كما سلف إيضاحه. 6- وأما احتجاجهم السادس بأن ما كان مكتوبا من القرآن على العظام ونحوها كان غير منظم ولا مضبوط الخ فينقضه ما أثبتناه آنفا في جمع القرآن من أن ترتيب آياته كان توقيفيا وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرشد كتاب الوحي أن يضعوا آية كذا في مكان كذا من سورة كذا. وكان يقرئها أصحابه كذلك ويحفظها الجميع ويكتبها من ساء منهم لنفسه على هذا النحو حتى صار ترتيب القرآن وضبط آياته معروفا مستفيضا بين الصحابة حفظا وكتابة. ووجدوا ما كتب عند الرسول من القرآن, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 مرتب الآيات كذلك في كل رقعة أو عظمة وإن كانت العظام والرقاع منتشرة وكثيرة مبعثرة. على أننا قررنا غير مرة أن التعويل كان على الحفظ والتلقي قبل كل شيء ولم يكن التعويل على المكتوب وحده فلا جرم كان في الحفظ والكتابة معا ضمان للنظام والترتيب والضبط والحصر. وأما قولهم في هذا الاحتجاج: وقد ضاع بعضها فيظهر أنهم استندوا في ذلك إلى ما ورد من أنه فقدت آية من آخر سورة براءة فلم يجدوها إلا عند خزيمة بن ثابت فظن هؤلاء أن هذا اعتراف منا بضياع شيء من مكتوب القرآن. وليس الأمر كما فهموا بل المعنى أن الصحابة لم يجدوا تلك الآية مكتوبة إلا عند خزيمة بخلاف غيرها من الآيات فقد كانت مكتوبة عند عدة من الصحابة ومع ذلك فقد كان الصحابة يقرؤونها ويحفظونها ويعرفونها بدليل قولهم: فقدت آية. وإلا فما أدراهم أنها فقدت من الكتابة لو لم يحفظوها؟ وأما قولهم في هذا الاحتجاج أيضا: إن ضياع ذلك البعض دعا الصحابة إلى دعوى النسخ وهو من غريب المزاعم فهو قول أثيم أرادوا به الطعن على النسخ وإنكاره وسيأتيك الكلام على النسخ وحكمته ودفع الشبه عنه في مبحث خاص إن شاء الله. 7- وأما احتجاجهم السابع بما نسبوه إلى الحجاج فهي نسبة كاذبة لا برهان لهم بها ولا دليل عليها. وها هو التاريخ فليأتوا لنا منه بسلطان مبين على أن الحجاج جمع المصاحف فضلا عن أنه نقص منها أو زاد فيها ولو أنه فعل ذلك لنقل إلينا متواترا لأن هذا مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره وكيف يفعل ذلك والأمة كلها تقره وأئمة الدين الموجودون في عهده كالحسن البصري يسكتون ولا ينكرون ولا يدافعون ولا يستقتلون؟ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ثم إن الحجاج كان عاملا من العمال على بعض أقطار الإسلام فأنى له أن يجمع المصاحف ويحرقها فيما عدا ولايته التي هو عامل عليها؟ وإذا فرضنا أن الحجاج كان له من القوة والشوكة ما أسكت به كل الأمة في زمانه على هذا الخرق الواسع في الإسلام والقرآن فما الذي أسكت المسلمين بعد انقضاء عهد الحجاج؟ وإذا كان الحجاج قد استطاع التحكم في المصاحف والتلاعب فيها بالزيادة والنقص فكيف استطاع أن يتحكم في قلوب الحفاظ وهم آلاف مؤلفة في ذلك العهد حتى يمحو منها ما شاء ويثبت ما أراد؟. هذه دعاوى ساقطة تحمل أدلة سقوطها في ألفاظها وتدل على جرأة القوم وإغراقهم في الجهل والضلال. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . نسأل الله السلامة بمنه وكرمه. آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الشبهة الثانية يقولون: إن القرآن كما حصل فيه نقص عند الجمع حصلت فيه زيادة. والدليل على ذلك إنكار ابن مسعود أن المعوذتين من القرآن وأن في القرآن ما هو من كلام أبي بكر وكلام عمر. وننقض هذه الشبهة أولا: بأن ابن مسعود لم يصح عنه هذا النقل الذي تمسكتم به من إنكاره كون المعوذتين من القرآن. والمسألة مذكورة في كثير من كتب التفسير وعلوم القرآن مع تمحيصها والجواب عليها. وخلاصة ما قالوه: أن المسلمين أجمعوا على وجوب تواتر القرآن. ويشكل على هذا ما نقل من إنكار ابن مسعود قرآنية الفاتحة والمعوذتين. بل روي أنه حك من مصحفه المعوذتين زعما منه أنهما ليستا من القرآن. وقد أجابوا عن ذلك بمنع صحة النقل قال النووي في شرح المهذب ما نصه: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد شيئا منها كفر. وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح اهـ وقال ابن حزم في كتاب القدح المعلى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع. بل صح عن ابن مسعود نفسه قراءة عاصم وفيها المعوذتان والفاتحة. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قرأهما في الصلاة. زاد ابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر أيضا: فإن استطعت ألا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل وأخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأنا المعوذتين وقال له: "إذا أنت صليت فاقرأ بهما". وإسناده صحيح. ثانيا: يحتمل أن إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين والفاتحة على فرض صحته, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 كان قبل علمه بذلك فلما تبين له قرآنيتهما بعد تم التواتر وانعقد الإجماع على قرآنيتهما كان في مقدمة من آمن بأنهما من القرآن. قال بعضهم: يحتمل أن ابن مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتواترا عنده فتوقف في أمرهما. وإنما لم ينكر ذلك عليه لأنه كان بصدد البحث والنظر والواجب عليه التثبت في هذا الأمر اهـ. ولعل هذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس لأن قراءة عاصم عن ابن مسعود ثبت فيها المعوذتان والفاتحة وهي صحيحة ونقلها عن ابن مسعود صحيح وكذل إنكار ابن مسعود للمعوذتين جاء من طريق صححه ابن حجر. إذا فليحمل هذا الإنكار على أولى حالات ابن مسعود جمعا بين الروايتين. وما يقال في نقل إنكاره قرآنية المعوذتين يقال في نقل إنكاره قرآنية الفاتحة بل نقل إنكاره قرآنية الفاتحة أدخل في البطلان وأغرق في الضلال باعتبار أن الفاتحة أم القرآن وأنها السبع المثاني التي تثنى وتكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة على لسان كل مسلم ومسلمة. فحاشى لابن مسعود أن يكون قد خفي عليه قرآنيتها فضلا عن إنكاره قرآنيتها. وقصارى ما نقل عنه أنه لم يكتبها في مصحفه وهذا لا يدل على الإنكار. قال ابن قتيبة ما نصه: وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن معاذ الله ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان اهـ ومعنى هذا أن عدم كتابة ابن مسعود للفاتحة في مصحفه كان سببه وضوح أنها من القرآن وعدم الخوف عليها من الشك والنسيان والزيادة والنقصان. ثالثا: أننا إن سلمنا أن ابن مسعود أنكر المعوذتين وأنكر الفاتحة بل أنكر القرآن كله فإن إنكاره هذا لا يضرنا في شيء لأن هذا الإنكار لا ينقض تواتر القرآن ولا يرفع العلم القاطع بثبوته القائم على التواتر. ولم يقل أحد في الدنيا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 إن من شرط التواتر والعلم اليقيني المبني عليه ألا يخالف فيه مخالف. وإلا لأمكن من هدم كل تواتر وإبطال كل علم قام عليه بمجرد أن يخالف فيه مخالف ولو لم يكن في العير ولا في النفير. قال ابن قتيبة في مشكل القرآن: ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن. لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين فأقام على ظنه ولا نقول إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار اهـ. رابعا أن ما زعموه من أن آية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الخ من كلام أبي بكر فهو زعم باطل لا يستند إلى دليل ولا شبه دليل. وقد جاء في الروايات الصحيحة أنها نزلت في واقعة أحد لعتاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما صدر منهم وأنها ليست من كلام أبي بكر. وذلك أنه لما أصيب المسلمون في غزوة أحد بما أصيبوا به وكسرت رباعية1 النبي صلى الله عليه وسلم وشج2 وجهه الشريف وجحشت3 ركبته وشاع بين المقاتلة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. هنالك قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال أناس من المنافقين: إن كان محمد قد قتل فألحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل. وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما قال هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه. وروي أن أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك فقد ورد أنه قال:   1 الرباعية: هي السن التي بين الناب والثنية. 2 شج الوجه: جرحه. 3 جحش الركبة: خدشها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عرفت عينيه تحت المغفرة تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه رضي الله عنهم ينافحون عنه. ثم لام النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الفرار. فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا. أتانا الخبر أنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} الخ من سورة آل عمران. والظاهر أن هؤلاء الطاعنين بزيادة هذه الآية وأنها من كلام أبي بكر يعتمدون فيما طعنوا على ما كان من عمر يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رد أبي بكر عليه بهذه الآية فزعموا أنها من كلام أبي بكر وما هي من كلام أبي بكر. إنما هي من كلام رب العزة أنزلها قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ببضع سنين والمسلمون جميعا ومنهم أبو بكر وعمر يحفظونها ويعرفونها. غير أن منهم من ذهب عنها كعمر لهول الحادث وشدة الصدمة وتصدع قلبه بموت رسول الرحمة وهادي الأمة صلى الله عليه وسلم. وكان من آثار ذلك أن عمر رضي الله عنه غفل عن هذه الآية يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يومئذ وقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات. ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: مات. والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات. هنالك نهض أبو بكر ينقذ الموقف فقال: على رسلك يا عمر أنصت فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى آخرها. قال الراوي: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ فأخذها الناس من أبي بكر. وقال عمر: ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت1 حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات اهـ. وهذه الآية كما ترى لا يشم منها رائحة أنها من كلام أبي بكر بلى هي تحمل في طيها أدلة كونها من كلام الله وأن الصحابة يعلمون أنها من كلام الله نزلت قبل أن ينزل بهم هذا الخطب الفادح ببضع سنين. ولكن ما الحيلة فيمن أعماهم الهوى والتعصب؟ {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . خامسا: أن ما ادعوه من أن آية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} من كلام عمر مردود أيضا بمثل ما رددنا به زعمهم السابق في آية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} الخ. بل زعمهم هذا أظهر في البطلان لأن الثابت عن عمر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} في سورة البقرة. وهناك فرق بين كلمة عمر في تمنيه الذي هو سبب النزول وبين كلمة القرآن النازلة بذلك السبب فأنت ترى أن الآية جاء فيها الفعل بصيغة الأمر ولم يقرن بلفظ لو. أما تمني عمر فجاء الفعل فيه بصيغة الماضي وقرن بلفظ لو. وتحقيق القرآن أمنية أو أمنيات لعمر لا يدل على أن ما نزل تحقيقا لهذه التمنيات يعتبر من كلام عمر. بل البعد بينهما شاسع والبون بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الشبهة الثالثة يزعم بعض غلاة الشيعة أن عثمان ومن قبله أبو بكر وعمر أيضا حرفوا القرآن وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره. ورووا عن هشام بن سالم من أبي عبد الله: أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد كان سبعة عشر ألف آية1. وروى محمد بن نصر عنه أنه قال: كان في سورة لم يكن اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. وروى محمد بن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أن لفظ {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} في سورة النحل ليس كلام الله بل هو محرف عن موضعه وحقيقة المنزل أئمة هي أزكى من أئمتكم. ومنهم من قال: إن القرآن كانت فيه سورة تسمى سورة الولاية وأنها أسقطت بتمامها وأن أكثر سورة الأحزاب سقط إذ أنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقطوا منها فضائل أهل البيت. وكذلك ادعوا أن الصحابة أسقطوا لفظ {وَيْلَكَ} من قبل {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وأسقطوا لفظ عن ولاية علي من بعد {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} وأسقطوا لفظ بعلي بن أبي طالب من بعد {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} وأسقطوا لفظ آل محمد من بعد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلى غير ذلك. فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقا وغربا أشد تحريفا عند هؤلاء الشيعيين من التوراة والإنجيل وأضعف تأليفا منهما وأجمع للأباطيل {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ؟. وننقض هذه الشبهة بما يأتي:- أولا: أنها اتهامات مجردة عن السند والدليل وكانت لا تستحق الذكر لولا   1 مع العلم بأن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية ومئتا آية وكسور كما يأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أن رددها بعض الملاحدة وربما يخدع بها بعض المفتونين. ويكفي في بطلانها أنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يقيموا عليها برهانا ولا شبه برهان. والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء ولكن هكذا شاءت حماقتهم وسفاهتهم {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} . ثانيا: أن بعض علماء الشيعة أنفسهم تبرأ من هذا السخف ولم يطق أن يكون منسوبا إليهم وهو منهم فعزاه إلى بعض من الشيعة جمع بهم التفكير وغاب عنهم الصواب قال الطبرسي1 في مجمع البيان ما نصه: أما الزيادة فيه أي القرآن فمجمع على بطلانها. وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من الحشوية. والصحيح خلافه. وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء اهـ. وقال الطبرسي أيضا في مجمع البيان ما نصه: أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة. ثم قال: إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء فيما ذكرناه لأن القرآن مفخرة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟ اهـ. ثالثا: أن التواتر قد قام والإجماع قد انعقد على أن الموجود بين دفتي المصحف كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ولا تبديل. والتواتر طريق   1 الطبرسي من رؤساء الشيعة, وكتابه مجمع البيان هو المرجع عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 واضحة من طرق العلم. والإجماع سبيل قويم من سبل الحق. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} . رابعا: أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو الذي يزعمون أنهم يناصرونه ويتشيعون له بهذه الهذيانات صح النقل عنه بتحبيذ جمع القرآن على عهد أبي بكر ثم عهد عثمان. ولعلك لم تنس أنه قال في جمع أبي بكر ما نصه: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. وكذلك قال في جمع عثمان ما نصه: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حراق مصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان وبهذا قطع الإمام ألسنة أولئك المفترين ورد كيدهم في نحورهم مخذولين. فأين يذهبون؟ {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} ؟. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . خامسا: أن الخلافة قد انتهت إلى علي كرم الله وجهه بعد أبي بكر وعمر وعثمان فماذا منعه أن يجهر وقتئذ بالحق في القرآن وأن يصحح للناس ما أخطأ فيه أسلافه على هذا الزعم والبهتان؟ مع أنه الإمام المعصوم في عقيدة أولئك المبطلين ومع أنه كان من سادات حفظة القرآن ومن أشجع خلق الله في نصرة الدين والإسلام. ولقد صار الأمر بعده إلى ابنه الحسن رضي الله عنه فماذا منعه الآخر من انتهاز هذه الفرصة كي يظهر حقيقة كتاب الله للأمة. هذه مزاعم لا يقولها إلا مجنون ولا يصدق بها إلا مأفون!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الشبهة الرابعة يقولون: ورد أن عبد الله بن مسعود قال: يا معشر المسلمين. أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟ اهـ. قالوا: وهو يعني بهذا الرجل زيد بن ثابت ويريد بذلك الكلام الطعن على جمع القرآن. وهذا يدل بالتالي على أن القرآن الموجود بين أيدينا ليس موضع ثقة ولم يبلغ حد التواتر. وننقض شبهتهم هذه. أولا: بأن كلام ابن مسعود هذا إذا صح لا يدل على الطعن في جمع القرآن إنما يدل على أنه كان يرى في نفسه أنه هو الأولى أن يسند إليه هذا الجمع لأنه كان يثق بنفسه أكثر من ثقته بزيد في هذا الباب. وذلك لا ينافي أنه كان يرى في زيد أهلية وكفاية للنهوض بما أسند إليه وإن كان هو في نصر نفسه أكفأ وأجدر. غير أن المسألة تقديرية ولا ريب أن تقدير أبي بكر وعمر وعثمان لزيد أصدق من تقدير ابن مسعود له. كيف وقد عرفت فيما سبق مجموعة المؤهلات والمزايا التي توافرت فيه حتى جعلته الجدير بتنفيذ هذه الغاية السامية. أضف إلى ذلك أن عثمان ضم إليه ثلاثة ثم كان هو وجمهور الصحابة مشرفين عليهم مراقبين لهم وناهيك في عثمان أنه كان من حفاظ ومعلمي القرآن! وخلاصة هذا الجواب أن اعتراض ابن مسعود على فرض صحته كان منصبا على طريقة تأليف لجنة الجمع لا على صحة نفس الجمع. مع أن كلمة ابن مسعود السالفة لا تدل على أكثر من أنه كان يكبر زيدا بزمن طويل إذ كان عبد الله مسلما وزيد لا يزال ضميرا مستترا في صلب أبيه. وليس هذا بمطعن في زيد فكم ترك الأول للآخر. ولو كان الأمر بالسن لاختل كثير من نظام الكون. ثم إن كلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ابن مسعود ربما يفهم منها الطعن في زيد من ناحية أن أباه كان كافرا ولكن هذا ليس بمطعن فكثير من أكابر الصحابة كانوا في مبدأ أمرهم كفارا وخرجوا من أصلاب آباء كافرين. والله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ويقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . ثانيا: أننا إذا سلمنا صحة ما نقل عن ابن مسعود وسلمنا أنه أراد الطعن في صحة جمع القرآن لا نسلم أنه دام على هذا الطعن والإنكار بدليل ما صح عنه أنه رجع إلى ما في مصحف عثمان وحرق مصحفه في آخرة الأمر حين تبين له أن هذا هو الحق وبدليل ما صح عنه من قراءة عاصم عن زرعة وقد تقدم. ثالثا: أن كلام ابن مسعود هذا على تسليم صحته وأنه أراد به الطعن في صحة الجمع وأنه دام عليه ولم يرجع عنه لا نسلم أنه يدل على إبطال تواتر القرآن فإن التواتر كما أسلفنا يكفي في القطع بصحة مرويه أن ينقل عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب بشروطه وليس من شروطه ألا يخالف فيه مخالف حتى يقدح في تواتر القرآن أن يخالف فيه ابن مسعود أو غير ابن مسعود ما دام جم غفير من الصحابة قد أقروا جمع القرآن على هذا النحو في عهد أبي بكر مرة وفي عهد عثمان مرة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الشبهة الخامسة يقولون: كيف يكون القرآن متواترا. مع ما يروى عن زيد بن ثابت أنه قال في الجمع على عهد أبي بكر ما نصه: فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره وهما {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ثم كيف يكون القرآن متواترا مع ما يروى أيضا عن زيد بن ثابت أنه قال في الجمع على عهد عثمان ما نصه: فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ؟. والجواب على هذه الشبهة: أولا: أن كلام زيد بن ثابت هذا لا يبطل التواتر. وبيان ذلك أن الآيتين ختام سورة التوبة لم تثبت قرآنيتهما بقول أبي خزيمة وحده. بل ثبتت بأخبار كثرة غامرة من الصحابة عن حفظهم في صدورهم وإن لم يكونوا كتبوه في أوراقهم. ومعنى قول زيد: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين لم أجدهما عند غيره أنه لم يجد الآيتين اللتين هما ختام سورة التوبة مكتوبتين عند أحد إلا عند أبي خزيمة فالذي انفرد به أبو خزيمة هو كتابتهما لا حفظهما وليس الكتابة شرطا في المتواتر بل المشروط فيه أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب ولو لم يكتبه واحد منهم فكتابة أبي خزيمة الأنصاري كانت توثقا واحتياطا فوق ما يطلبه التواتر ويقتضيه فكيف نقدح في التواتر بانفراده بها. ثانيا: يقال مثل ذلك فيما روي عن زيد في آية سورة الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فإن معناه أن زيدا لم يجدها مكتوبة عند أحد إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري. ويدل على أن هذا هو المعنى الذي أراده زيد بعبارته تلك قول زيد نفسه فقدت آية من سورة الأحزاب الخ فإن تعبيره بلفظ فقدت يشعر بأنه كان يحفظ هذه الآية وأنها كانت معروفة له غير أنه فقد مكتوبها فلم يجده إلا مع خزيمة وإلا فمن الذي أنبأ زيدا أنه فقد آية؟ ثالثا: أن كلام زيد فيما مضى من ختام التوبة وآية الأحزاب لا يدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 عدم تواترهما حتى على فرض أنه يريد انفراد أبي خزيمة وخزيمة بذكرهما من حفظهما. غاية ما يدل عليه كلامه أنهما انفردا بذكرهما ابتداء ثم تذكر الصحابة ما ذكراه وكان هؤلاء الصحابة جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب فدونت تلك الآيات في الصحف والمصحف بعد قيام هذا التواتر فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الشبهة السادسة يقولون: كانت الآيات تكتب على الحجارة وسعف النخل والعظام خوفا عليها من الضياع وبقي جانب كبير منها محفوظا في صدور الرجال. وقد نشأ عن ذلك عدة مشاكل يعتبرها الباحثون فيه كافية لإثبات كون القرآن الحالي لا يحتوي جميع الآيات التي نطق بها محمد وبعضها يختلف في القراءة واللفظ والمعنى. ويقولون بعبارة أخرى إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل إذ من المؤكد أنه ذهب منه جانب ليس بقليل وأنسي منه جانب آخر قال ابن عمر: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله. قد ذهب منه كثير. ولكن ليقل: قد أخذت ما ظهر منه. فهذا يثبت ان القرآن الحالي لا يتضمن جميع ما كان مسطورا في اللوح المحفوظ. ولا هو طبق ما نطقت به شفتا محمد سيما أن في آيات عديدة منه اختلافات مدهشة ولا يعلم نصها الصحيح أحد اهـ. وننقض هذه الشبهة بما يأتي: أولا: أن كتابة القرآن على الحجارة والسعف والعظام وبقاء جانب كبير منه محفوظا في صدور الرجال لا يلزم منه مشكلة واحدة فضلا عن عدة مشاكل إنما هو وهم من الأوهام تخيلوه فخالوه وبدليل أنهم لم يذكروا سندهم فيما ذهبوا إليه من هذا الشطط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ثانيا: أن الحجارة وسعف النخل والعظام التي كتب عليها بعض آيات القرآن لم تكن بحيث يمكن أن يتخيل أولئك الطاعنون أو يخيلوا إلى الناس أنها لا تصلح للكتابة عليها بل كانت العرب لبداوتها ولبعدها عن وسائل الحضارة والعمران تصطفي من أنواع الحجارة الموفورة عندها نوعا رقيقا يكون كالصحيفة يصلح للكتابة وللبقاء أشبه بما نراه اليوم من الكتابة الجميلة المنقوشة على صفحات مصنوعة مما نسميه الجبس. وكذلك سعف النخل يكشطون الخوص عنه ويكتبون في الجزء العريض منه بعد أن يصقلوه ويهذبوه فيكون أشبه بالصحيفة. وقل مثل هذا في العظام بدليل أن الروايات الواردة في ذلك نصت على نوع خاص منه وهو عظام الأكتاف وذلك لأنها عريضة رقيقة ومصقولة صالحة للكتابة عليها بسهولة. ثالثا: أن استنتاجهم من هذا كون القرآن الحالي لا يحتوي جميع الآيات التي نطق بها محمد استنتاج معكوس وفهم منكوس لأن كتابة القرآن وحفظه في آن واحد في صدور آلاف مؤلفة من الخلق أدعى إلى بقاء ذلك القرآن وأدل على أنه لم تفلت منه كلمة ولا حرف. كيف وأحد الأمرين من الكتابة والحفظ كاف في هذه الثقة فما بالك إذا كان القرآن كله مكتوبا بخطوط أشخاص كثيرين ومحفوظا في صدور جماعات كثيرين. رابعا: قولهم: وبعضها يختلف في القراءة واللفظ والمعنى إن أرادوا به الطعن في تعدد القراءات واختلاف وجوه الأداء فقد سبق في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف ما يكفيك في الرد عليهم وسيأتيك في مبحث القراءات ما يزيدك تنورا في هذا الموضوع وإن أرادوا به شيئا آخر فعليهم البيان. وحسبك أن تعرف أن اختلاف حروف القرآن أمر تقتضيه الحكمة ويوجبه عموم الدعوة الإسلامية. خصوصا لمن شافههم الرسول عليه الصلاة والسلام وهم على اختلاف قبائلهم وتنوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 لهجاتهم وتباين وجوه نطقهم عرب تؤلف بينهم العروبة الواحدة ويجمعهم اللسان العربي العام. فأي عيب على القرآن إذا اختلفت حروف أدائه وكيفيات النطق بكلماته ليسع القبائل العربية جميعا وليتسنى لها تلاوة ألفاظه وتفهم معانيه؟ ولئلا يقول أحد منها: لو جاء القرآن بلغتنا لكان لنا معه شأن ولأتينا بمثله وعارضنا بلاغته! {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . خامسا: قولهم إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل الخ كلام مجرد من السند والحجة لا يستحق الرد فإن استندوا فيه إلى ما سبق فقد استندوا إلى أوهن من بيت العنكبوت وقد عرفت وجوه الوهن التي فيه. وإن استندوا إلى ما ذكروه بعد مما نسبوه لابن عمر فقد زادوا الطين بلة لأن هذه النسبة إلى ابن عمر نسبة خاطئة كاذبة وعلى فرض صحتها فهي موقوفة وليست بمرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى فرض رفعها فهي معارضة للأدلة القاطعة المتوافرة في تواتر القرآن وسلامته من التغيير والزيادة والنقصان ومعارض القاطع ساقط مهما كانت قيمة سنده في خبر الواحد. سادسا: أن نهايتهم التي ختموا بها هذه الشبهة أقبح من بدايتهم لأنهم رتبوها على تلك الأكاذيب والمهاترات ثم زادوا فيها اتهاما جديدا مجردا من السند والحجة أيضا وهو أن في آيات عديدة من القرآن اختلافات مدهشة ولا يعلم نصها الصحيح أحد وهكذا خرجوا من اتهام إلى اتهام واحتجوا بكذب على كذب وهانت عليهم كرامتهم وعقولهم فقالوا ما شاء لهم الهوى والتعصب إلى هذا الحد وأنت خبير بأن القرآن الحالي وصل إلينا محفوظا من كل عبث كما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم وكما خطه الله تعالى بقلمه في لوحه. {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ, تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أما زعمهم أن فيه اختلافات مدهشة فقد علمت في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف مدى اختلاف وجوه القراءات وحكمته وأنه لا يؤدي إلى تخاذل وتناقض حتى يكون مدهشا. وأما نصوص القرآن الصحيحة فقد علمها وحفظها جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الأمة. من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم. فادعاء هؤلاء الجهلة الدجالين أنه لا يعلم نصوص القرآن الصحيحة أحد ادعاء مفضوح وكذب مكشوف. قال صاحب مسلم الثبوت وهو من أشهر الكتب في أصول الفقه الإسلامي: ما نقل آحادا فليس بقرآن قطعا ولم يعرف في هذا خلاف لواحد من أهل المذاهب. والدليل على ذلك أن القرآن مما تتوافر الدواعي على نقله لتضمنه التحدي ولأنه أصل الأحكام باعتبار المعنى واللفظ جميعا ولذلك علم جهد الصحابة في حفظه بالتواتر القاطع وكل ما تتوافر الدواعي على نقله ينقل متواترا عادة فوجوده ملزوم التواتر عند الكل عادة فإذا انتفى اللازم وهو التواتر انتفى الملزوم قطعا. والمنقول آحادا ليس متواترا فليس قرآنا اهـ بتصرف قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 خط منيع من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة مدخل ... خط منيع من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة أو الدواعي والعوامل التي توافرت في الصحابة حتى استظهروا القرآن والحديث النبوي وتثبتوا فيهما إن الناظر في الشبهات السالفة وأمثالها يبدو له في وضوح أن القوم يحاولون الطعن في القرآن عن طريق النيل من الصحابة فطورا يقولون: إن الصحابة حين جمع القرآن لم يكونوا يستظهرونه وإن الذين استظهروه منهم ماتوا قبل جمعه واستشهدوا وطورا يقولون: إن الصحابة لم يتثبتوا في جمع القرآن بل حطبوا فيه بليل وزادوا فيه ونقصوا منه ما شاءوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقد كثرت هجمات أعداء الإسلام من هذه الناحية كثرة فاحشة بحيث إذا استقصينا شبهاتهم كلها ضاق بنا نطاق هذا التأليف وخرجنا جملة من الجو العلمي الهادىء اللذيذ إلى ميدان صاخب بالقيل والقال والصيال والجدال والدفاع والنضال. وكذلك كثرت هجمات أعداء الإسلام على السنة النبوية من ناحية الصحابة أيضا فتارة يستكثرون عليهم أن يكونوا قد حفظوا الحديث الشريف وهو موسوعات كبيرة وتارة يتهمونهم بالخيانة والتزيد وعدم التثبت والتحري ويبنون على ذلك مفتريات ما أنزل الله بها من سلطان. يريدون بهذه الاتهامات الجريئة للصحابة أن يزعزعوا ثقة الناس بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يفتنوا المسلمين عن دينهم وحتى يقيموا الحواجز والعواثير في طريق غير المسلمين مخافة أن يجتذبهم الإسلام إليه بمحاسنه الأخاذة وقوته المحولة وتعاليمه الوضاءة. وبرغم أن شبهات القوم كلها متشابهة وطرق دفعها هي الأخرى متشابهة فإن واجب الحيطة والحذر يقتضينا بعد ما تقدم أن نقيم خطا منيعا من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة وأن نؤلف هذا الخط من جبهتين قويتين الجبهة الأولى تطاول السماء بتجلية الدواعي والعوامل التي توافرت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت منهم كثرة غامرة يحفظون القرآن والحديث وينقلونهما نقلا متواترا مستفيضا. والجبهة الثانية تفاخر الجوزاء بنظم الدواعي والعوامل التي توافرت فيهم رضوان الله عليهم حتى جعلتهم يتثبتون أبلغ تثبت وأدقه في القرآن وجمع القرآن وكل ما يتصل بالقرآن وفي الحديث الشريف وكل ما يتصل بالحديث الشريف. وإني أستمنح الله فتوحا وتوفيقا في هذه المحاولة الجليلة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ا - الجبهة الأولى: أو الدواعي والعوامل في حفظ الصحابة للكتاب والسنة ونقلهم لهما ولنبدأ بشرح العوامل والدواعي التي يسرت للصحابة حفظ الكتاب والسنة ونقلهما حتى لا يستبعد ذلك عليهم أحد ولا يطعن في الكتاب والسنة عن هذا الطريق أحد: العامل الأول أنهم كانوا أميين لا يعرفون القراءة ولا يحذقون الخط والكتابة اللهم إلا نزر يسير لا يصاغ منهم حكم على المجموع. وترجع هذه الأمية السائدة فيهم إلى غلبة البداوة عليهم وبعدهم عن أسباب المدنية والحضارة وعدم اتصالهم اتصالا علميا وثيقا بالأمتين المتحضرتين في العالم لذلك الحين: أمة الفرس في الشرق وأمة الروم في الغرب. ومعلوم أن الكتابة والقراءة وامحاء الأمية في أية أمة رهين بخروجها من عهد السذاجة والبساطة إلى عهد المدنية والحضارة. ثم إن هذه الأمية تجعل المرء منهم لا يعول إلا على حافظته وذاكرته فيما يهمه حفظه وذكره. ومن هنا كان تعويل الصحابة على حوافظهم يقدحونها في الإحاطة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن الحفظ هو السبيل الوحيدة أو الشبيهة بالوحيدة إلى إحاطتهم بهما. ولو كانت الكتابة شائعة فيهم لاعتمدوا على النقش بين السطور بدلا من الحفظ في الصدور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 نعم. عمل الرسول على كتابة القرآن وكان له كتاب يكتبون الوحي كما سبق وكان بعض الصحابة يكتبون القرآن لأنفسهم كذلك غير أن هؤلاء وهؤلاء كانوا فئة قليلة بجانب الجم الغفير من سواد الأمة الكثير. ولعلك لم تنس أن كتابة القرآن في عهد الرسول كان الغرض منها زيادة التوثق والاحتياط للقرآن الكريم بتقييده وتسجيله بالنقش فوق تقييده وتسجيله بالحفظ. أما السنة النبوية فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن كتابتها أول الأمر مخافة اللبس بالقرآن إذ قال عليه الصلاة والسلام: " لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني فلا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري. نعم. خشي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختلط القرآن بالسنة إذا هم كتبوا السنة كما كانوا يكتبون القرآن أو أن تتوزع جهودهم وهي لا تحتمل أن يكتبوا جميع السنة وجميع القرآن فقصرهم على الأهم أولا وهو القرآن. خصوصا إذا لاحظنا أن أدوات الكتابة كانت نادرة لديهم إلى حد بعيد حتى كانوا يكتبون في اللخاف والسعف والعظام كما علمت. فرحمة بهم من ناحية وأخذا لهم بتقديم الأهم على المهم من ناحية ثانية وحفظا للقرآن أن يشتبه بالسنة إذا هم كتبوا السنة بجانب القرآن نظرا إلى عزة الورق وندرة أدوات الكتابة رعاية لهذه الغايات الثلاث نهى الرسول عن كتابة السنة. أما إذا أمن اللبس ولم يخش الاختلاط وكان الأمر سهلا على الشخص فلا عليه أن يكتب الحديث الشريف كما يكتب القرآن الكريم. وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الإذن بكتابة السنة آخر الأمر والواردة في الإذن لبعض الأشخاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 كعبد الله بن عمرو رضي الله عنه ولهذا الموضوع مبحث خاص به فاطلبه إن شئت في علوم الحديث. وأيا ما تكن كتابة القرآن والسنة النبوية فإن التعويل قبل كل شيء كان على الحفظ والاستظهار ولا يزال التعويل حتى الآن على التلقي من صدور الرجال ثقة عن ثقة وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن الرجل الأمي والأمة الأمية يكونان أسبق من غيرهما إلى الحفظ للمعنى الذي أسلفناه لك. العامل الثاني أن الصحابة كانوا أمة يضرب بها المثل في الذكاء والألمعية وقوة الحافظة وصفاء الطبع وسيلان الذهن وحدة الخاطر وفي التاريخ العربي شواهد على ذلك يطول بنا تفصيلها ولعلها على بال منك. حتى لقد كان الرجل منهم ربما يحفظ ما يسمعه لأول مرة مهما كثر وطال وربما كان من لغة غير لغته ولسان سوى لسانه وحسبك أن تعرف أن رؤوسهم كانت دواوين شعرهم وأن صدورهم كانت سجل أنسابهم وأن قلوبهم كانت كتاب وقائعهم وأيامهم كل أولئك كانت خصائص كامنة فيهم وفي سائر الأمة العربية من قبل الإسلام ثم جاء الإسلام فأرهف فيهم هذه القوى والمواهب وزادهم من تلك المزايا والخصائص بما أفاد طبعهم من صقل ونفوسهم من طهر وعقولهم من سمو خصوصا إذا كانوا يسمعون لأصدق الحديث وهو كتاب الله ولخير الهدى وهو هدي محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 العامل الثالث بساطة هذه الأمة العربية واقتصارها في حياتها على ضروريات الحياة من غير ميل إلى الترف ولا إنفاق جهد أو وقت في الكماليات. فقد كان حسب الواحد منهم لقيمات يقمن صلبه وكان يكفيه من معيشته ما يذكره شاعرهم في قوله:- وما العيش إلا نومة وتبطح ... وتمر على رأس النخيل وماء ومثلك يعلم أن هذه الحياة الهادئة الوادعة وتلك العيشة الراضية القاصدة توفر الوقت والمجهود وترضي الإنسان بالموجود ولا تشغل البال بالمفقود. ولهذا أثره العظيم في صفاء الفكرة وقوة الحافظة وسيلان الأذهان خصوصا أذهان الصحابة في اتجاهها إلى حفظ القرآن وحديث النبي عليه الصلاة والسلام وذلك على حد قول القائل:- " .... فصادف قلبا خاليا فتمكنا". العامل الرابع حبهم الصادق لله ولرسوله حبا ملك مشاعرهم واحتل مكان العقيدة فيهم. وأنت تعرف من دراسة علم النفس أن الحب إذا صدق وتمكن حمل المحب حملا على ترسم آثار محبوبه والتلذذ بحديثه والتنادر بأخباره ووعي كل ما يصدر عنه ويبدر منه. ومن هنا كان حب الصحابة لله ورسوله من أقوى العوامل على حفظهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حد قول القائل: لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 إذا شكت من كلال السير واعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد أما حب الصحابة العميق لله تعالى فلا يحتاج إلى شرح وبيان ولا إلى إقامة دليل وبرهان فهم خير القرون بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم خير القرون قرني ثم الذين يلونهم وهم الذين بذلوا نفوسهم ونفائسهم رخيصة في سبيل رضاه وهم الذين باعوا الدنيا بما فيها يبتغون فضلا من الله وهم الذين حملوا هداية الإسلام إلى الشرق والغرب وأتوا بالعجب العجاب في نجاح الدعوة الإسلامية بالحضر والبدو وكانوا أحرياء بامتداح الله إياهم غير مرة في القرآن وبثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم في أحاديث عظيمة الشأن! وأما مظاهر حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم فما حكاه التاريخ الصادق عنهم من أنه ما كان أحد يحب أحدا مثل ما كان يحب أصحاب محمد محمدا. دم الرجل منهم رخيص في سبيل أن يفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شوكة يشاكها في أسفل قدمه. وماء وضوئه يبتدرونه في اليوم الشديد البرد يتبركون به وأب الواحد منهم وأبناؤه من ألد أعدائه ما داموا يعادون محمدا وحديث محمد موضع التنافس من رجالهم ونسائهم حتى إذا أعيا الواحد منهم طلابه تناوب هو وزميل له الاختلاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقوم أحدهما بعمل الآخر عند ذهابه ويقوم الآخر برواية ما سمعه وعرفه من الرسول بعد إيابه1. وهذه وافدة النساء تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله إلى غير ذلك من شواهد ومظاهر تدل على مبلغ هذا الحب السامي الشريف ويرحم الله القائل:-   1 انظر باب التناوب في طلب العلم من صحيح البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أسرت قريش مسلما في غزوة ... فمضى بلا وجل إلى السياف سألوه هل يرضيك أنك سالم ... ولك النبي فدى من الإتلاف فأجاب كلا لا سلمت من الردى ... ويصاب أنف محمد برعاف ولقد كان من مظاهر هذا الحب كما رأيت تسابقهم إلى كتاب الله يأخذونه عنه ويحفظونه منه. ثم إلى سنته الغراء يحيطون بأقوالها وأفعالها وأحوالها وتقريراتها. بل كانوا يتفننون في البحث عن هديه وخبره والوقوف على صفته وشكله كما تجد ذلك واضحا من سؤال الحسن والحسين عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجيبا به من تجلية تلك الصور المحمدية الرائعة ورسمها بريشة المصور الماهر والصناع القادر على يد أبيهما علي بن أبي طالب وخالهما هند بن أبي هالة رضي الله عنهم أجمعين1. العامل الخامس بلاغة القرآن الكريم إلى حد فاق كل بيان وأخرس كل لسان وأسكت كل معارض ومكابر وهدم كل مجادل ومهاتر حتى قام ولا يزال يقوم في فم الدنيا معجزة من الله لحبيبه وآية من الحق لتأييد رسوله. وبعد كلام الله في إعجازه وبلاغته كلام محمد صلى الله عليه وسلم في إشراقه وديباجته وبراعته وجزالة ألفاظه وسمو معانيه وهدايته. فقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأبلغ الناس وكان العرب إلى جانب ذلك مأخوذين بكل فصيح بليغ متنافسين في حفظ أجود المنظوم والمنثور. فمن هنا هبوا هبة واحدة يحفظون القرآن ويفهمون القرآن ويعملون بالقرآن وينامون ويستيقظون على القرآن. وكذلك   1 انظر في ذلك ما يرويه محمد أبو عيسى الترمذي متفرقا في كتاب الشمائل من طريق سفيان بن وكيع, رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 السنة النبوية كانت عنايتهم بحفظها والعمل بها تلي عنايتهم بالقرآن الكريم يتناقلونها ويتبادرونها كما سمعت. والكلام في أسرار بلاغة القرآن ووجوه إعجازه وفي بلاغة كلام النبوة وامتيازه وفي تنافس العرب في ميدان البيان كل ذلك مما لا يحتاج إلى شرح ولا تبيان فهذا كتاب الله ينطق علينا بالحق ويتحدى بإعجازه كافة الخلق. وهذا بحر النبوة يفيض بالدراري واللآلئ ويزخر بالهدايات البالغة والحكم الغوالي. وهذا تاريخ الأدب العربي يسجل لأولئك العرب فوقهم في صناعة الكلام وسبقهم في حلبة الفصاحة كافة الأنام وامتيازهم في تذوق أسرار البلاغة خصوصا بلاغة القرآن!!. العامل السادس الترغيب في الإقبال على الكتاب والسنة علما وعملا وحفظا وفهما وتعليما ونشرا وكذلك الترهيب من الإعراض عنهما والإهمال لهما. نقرأ في القرآن الكريم قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ, لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . فتأمل كيف قدم تلاوة القرآن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ ونقرأ قوله جل ذكره: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . فانظر كيف حث بهذا الأسلوب البارع على تدبر القرآن والتذكر والاتعاظ به؟ ونقرأ قوله عز اسمه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . فتدبر كيف يكون وعيد من كتم القرآن وهدي القرآن؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ثم نقرأ في السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده".رواه مسلم وأبو داود وغيرهما. ونقرأ في صحيح البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". ونقرأ لأبي داود والترمذي وابن ماجه قوله صلى الله عليه وسلم: " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها". أليس ذلك وأمثال ذلك وهو كثير يحفز الهمم ويحرك العزائم إلى حفظ القرآن واستظهاره والمداومة على تلاوته مخافة الوقوع في وعيد نسيانه وهو وعيد كما سمعت شديد؟. أما السنة النبوية فقد جاء في شأنها عن الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . وجاء ترغيبا في السنة النبوية من الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله أمرأ أسمع منا حديثا فأداه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" وهو حديث متواتر وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "ألا: فليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه" رواه الشيخان. وجاء ترهيبا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الإعراض عن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني". رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرمه الله" أخرجه أبو داود والترمذي. زاد أبو داود في أوله: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ". فأنت ترى في أمثال هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما يحفز همة المؤمن الضعيف إلى الإقبال على روائع النبوة يستهديها وبدائع النبي صلى الله عليه وسلم يستظهرها فكيف أنت والصحابة الذين كانوا لا يضارعون طول باع ولا علو همة في هذا الميدان!!. العامل السابع منزلة الكتاب والسنة من الدين فالكتاب هو أصل التشريع الأول والدستور الجامع لخير الدنيا والآخرة والقانون المنظم لعلاقة الإنسان بالله وعلاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه. ثم السنة هي الأصل الثاني للتشريع وهي شارحة للقرآن الكريم مفصلة لمجمله مقيدة لمطلقه مخصصة لعامه مبينة لمبهمه مظهرة لأسراره كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . ومن هنا يقول يحيى بن كثير: السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاضيا على السنة يريد بهذه الكلمة ما وضحه السيوطي بقوله: والأصل أن معنى احتياج القرآن إلى السنة أنها مبينة له ومفصلة لمجملاته لأن لو جازته كنوزا تحتاج إلى من يعرف خفايا خباياها فيبرزها وذلك هو المنزل عليه صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وهو معنى كون السنة قاضية على الكتاب وليس القرآن مبينا للسنة ولا قاضيا عليها لأنها بينة بنفسها إذ لم تصل إلى حد القرآن في الإعجاز والإيجاز لأنها شرح له وشأن الشرح أن يكون أوضح وأبين وأبسط من المشروح اهـ. ولا ريب أن الصحابة كانوا أعرف الناس بمنزلة الكتاب والسنة فلا غرو أن كانوا أحرص على حذقهما وتحفظهما والعمل بهما. العامل الثامن ارتباط كثير من كلام الله ورسوله بوقائع وحوادث وأسئلة من شأنها أن تثير الاهتمام. وتنبه الأذهان وتلفت الأنظار إلى قضاء الله ورسوله فيها وحديثهما عنها وإجابتهما عليها وبذلك يتمكن الوحي الإلهي والكلام النبوي في النفوس فضل تمكن وينتقش في الأذهان على مر الزمان. تجول مرة في رياض القرآن الكريم تجده يساير الحوادث والطوارئ في تجددها ووقوعها فتارة يجيب السائلين على أسئلتهم بمثل قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} وتارة يفصل في مشكلة قامت ويقضي على فتنة طغت بمثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهن ست عشرة آية من سورة النور نزلن في حادث من أروع الحوادث هو اتهام أم المؤمنين السيدة الجليلة عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنت الصديق أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها. وفي هذه الآيات دروس اجتماعية قرئت ولا تزال تقرأ على الناس إلى يوم الساعة ولا تزال تسجل براءة هذه الحصان الطاهرة من فوق سبع سموات. وتارة يلفت القرآن أنظار المسلمين إلى تصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 أغلاطهم التي وقعوا فيها ويرشدهم إلى شاكلة الصواب. كقوله سبحانه في سورة آل عمران {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إلى آيات كثيرة بعدها. وكلها نزلت في غزوة أحد تدل المسلمين على خطئهم في هذا الموقف الرهيب وتحذرهم أن يقعوا حينا آخر في مثل ذاك المأزق العصيب. وعلى هذا النمط نزلت سور في القرآن وآيات تفوت العدد وتجاوز الإحصاء. وإذا تجولت في رياض الحديث النبوي الشريف يطالعك منه العجب العاجب في هذا الباب. انظر قصة المخزومية التي سرقت وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن شفع فيها: "وايم الله لو أن بنت محمد سرقت لقطعت يدها" رواه أصحاب الكتب الستة. ثم تأمل حادث تلك المرأة الجهنية التي أقرت بزناها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا كيف أمر الرسول فكفلها وليها حتى وضعت حملها ثم أتى بها فرجمت ثم صلى رسول الرحمة عليها. ولما سئل صلوات الله وسلامه عليه كيف تصلي عليها وهي زانية. قال: "إنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم". وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟ رواه مسلم. وتدبر الحديث المعروف بحديث جبريل وفيه يسأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها على مرأى ومسمع من الصحابة. وقد قال لهم أخيرا: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". أخرجه الخمسة غير البخاري. والناظر في السنة يجدها في كثرتها الغامرة تدور على مثل تلك الوقائع والحوادث والأسئلة. وقد قرر علماء النفس أن ارتباط المعلومات بأمور مقارنة لها في الفكر تجعلها أبقى على الزمن وأثبت في النفس فلا بدع أن يكون ما ذكرنا داعية من دواعي حفظ الصحابة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حين أنهم هم المشاهدون لتلك الوقائع والحوادث المشافهون بخطاب الحق المواجهون بكلام سيد الخلق في هذه المناسبات الملائمة والأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 القائمة التي تجعل نفوسهم مستشرفة لقضاء الله فيها متعطشة إلى حديث رسوله عنها فينزل الكلام على القلوب وهي متشوفة كما ينزل الغيث على الأرض وهي متعطشة تنهله بلهف وتأخذه بشغف وتمسكه وتحرص عليه بيقظة وتعتز به وتعتد عن حقيقة وتنتفع به وتنفع بل تهتز به وتربو وتنبت من كل زوج بهيج!!. العامل التاسع اقتران القرآن دائما بالإعجاز واقتران بعض الأحاديث النبوية بأمور خارقة للعادة تروع النفس وتشوق الناظر وتهول السامع. وإنما اعتبرنا ذلك الإعجاز وخرق العادة من عوامل حفظ الصحابة لأن الشأن فيما يخرج على نواميس الكون وقوانينه العامة أن يتقرر في حافظة من شاهده وأن يتركز في فؤاد كل من عاينه فردا كان أو أمة حتى لقد يتخذ مبدأ تؤرخ بحدوثه الأيام والسنون وتقاس بوجوده الأعمار والآجال. أما القرآن الكريم فإعجازه سار فيه سريان الماء في العود الأخضر لا تكاد تخلو سورة ولا آية منه. وأعرف الناس بوجوه إعجازه وأعظمهم ذوقا لأسرار بلاغته هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يصدرون في هذه المعرفة وهذا الذوق عن فطرتهم العربية الصافية وسليقتهم السليمة السامية وتمهرهم في فنون البيان وصناعة اللسان. ومن هذا كان القرآن حياتهم الصحيحة به يقومون ويقعدون وينامون ويستيقظون ويعيشون ويتعاملون ويلتذون ويتعبدون. وهذا هو معنى كونه روحا في قول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} وليست هناك طائفة في التاريخ تمثل فيها القرآن روحا كما تمثل في هذه الطبقة العليا الكريمة طبقة الصحابة الذين وهبوه حياتهم فوهبهم الحياة وطبعهم طبعة جديدة حتى صاروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أشبه بالملائكة وهكذا سواهم الله بكتابه خلقا آخر {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} !!. وأما السنة النبوية فقد اقترن بعضها بمعجزات خارقة وأمامك أحاديث المعجزات وهي كثيرة فيها المعجب والمطرب. غير أن نربأ بك أن تكون فيها كحاطب ليل على حين أن بين أيدينا في الصحيح منها ألجم الغفير والعدد الكثير {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . وهاك نموذج واحدا رواه البخاري ومسلم عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية غدا رجل يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فبات الناس يدوكون أي يخوضون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقيل يا رسول الله هو يشتكي مرضا بعينيه قال: "فأرسلوا إليه". فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع. فأعطاه الراية فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: "أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم". وهذه الوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي في هذا المقام جديرة وحدها أن تقطع ألسنة أولئك الأفاكين الذين يزعمون ان الإسلام قام على السيف والقوة واعتمد على البطش والقسوة ولم ينتشر بالدليل والحجة ولم يجيء بالسلام والرحمة. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} !. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 العامل العاشر حكمة الله ورسوله في التربية والتعليم وحسن سياستهما في الدعوة والإرشاد مما جعل الكتاب والسنة يتقرران في الأذهان ويسهلان على الصحابة في الحفظ والاستظهار. أما القرآن الكريم فحسبك أن تعرف من حكمة الله به في التربية والتعليم أنه أنزله على الأمة الإسلامية باللغة الحبيبة إلى نفوسهم وبالأسلوب الخلاب والنظم المعجز الآخذ بقلوبهم وأنه تدرج بهم في نزوله فلم ينزل جملة واحدة يرهقهم به ويعجزون عنه بل أنزله منجما في مدى عشرين أو بضع وعشرين سنة ثم ربطه بالحوادث والأسباب الخاصة في كثير من سوره وآياته ودعمه بالدليل والحجة وخاطب به العقول والضمائر وناط به مصلحتهم وخيرهم وسعادتهم وصدر في ذلك كله عن رحمة واسعة بهم يكادون يلمسونها باليد ويرونها بالعين! {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . وأما السنة النبوية فقد ضربت الرقم القياسي في باب هذه السياسة التعليمية الراشدة حتى إذا كان علماء التربية في العصور الحديثة قد عدوا من الحكمة في التعليم والتربية الاستعانة بوسائل الإيضاح وألوان التشويق فإن محمدا صلى الله عليه وسلم النبي الأمي كان من قبل أربعة عشر قرنا ومن قبل أن يولد علم التربية وعلم النفس كان هو المعلم الأول في رعاية تلك الوسائل الموضحة وهاتيك المشوقات الرائعة حتى تفتحت قلوب سامعيه للهداية وامتلأت صدور أصحابه بتعاليمه كأنما كتبت فيها كتابا بالكلمة والحرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ذلك لأنه كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس لسانا وأوضحهم بيانا وأجودهم إلقاء ينتقي عيون الكلام وهو الذي أوتي جوامع الكلم ويفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ويفصله تفصيلا يراعي فيه المقام والأفهام ولا يسرد الحديث سردا يزري برونقه أو يذهب بشيء منه بل يتكلم كلاما لو عده العاد لأحصاه. وكان يعيد الكلمة ثلاثا أو أكثر من ثلاث عند الحاجة كيما تحفظ عنه كما جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا. وكما جاء في حديث البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" ثلاثا قلنا: بلى يا رسول الله قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وقول الزور وشهادة الزور" - وكان متكئا فجلس- فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا1 فإلي وعلي" رواه مسلم. ومن وسائل إيضاحه صلى الله عليه وسلم أنه كان يضرب لهم الأمثال الرائعة التي تجلي لهم المعاني كأنها العروس بارعة ليلة الزفاف أو الشمس ساطعة ليس دونها سحاب. تأمل قوله وهو يضرب المثل في ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطر إهمالهما ثم قل لي بربك: هل يبارح ذاكرتك هذا التمثيل البديع؟.   1 الضياع بفتح الضاد: يستعمل مصدرا لضاع, ويستعمل اسما بمعنى العيال أو الضائعين منهم. قال في القاموس: والضياع أيضا العيال, أو ضيعهم ا. هـ ولا يخفى أن المعنى المصدري غير مراد هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 يروي البخاري عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذي في أسفلها إذا استقو من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا. وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا". ومن وسائل إيضاحه صلى الله عليه وسلم أسئلته التي كان يلقيها على أصحابه فيوقظ بها انتباههم ويرهف بسببها شعورهم حتى يستقبلوا هديه بنفوس عطاش وقلوب ظماء فيستقر فيها أثبت استقرار ويعلق بها علوق الروح بالأجسام. وإليك مثلا واحدا: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" رواه مسلم. ومن العجائب في وسائل إيضاحه عليه الصلاة والسلام أنه كان يستعين برسم يديه الكريمتين على توضيح المعاني وتقريبها إلى الأذهان مع أنه النبي الأمي الذي لم يقرأ كتابا ولم يجلس إلى أستاذ ولم يذهب إلى مدرسة ولم يدرس الرسم ولا الهندسة. نقرأ في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط وسطه خطا وخط خطوطا إلى جنب الخط أي الذي في الوسط وخط خطا خارجا. فقال: "أتدرون ما هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا الإنسان يريد الخط الذي في الوسط وهذا الأجل محيط به يريد الخط المربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وهذه الأعراض تنهشه يشير إلى الخطوط التي حوله إن أخطأه هذا نهشه هذا وهذا الأمل يعني الخط الخارج". ومن سياسته الحكيمة في التعليم والتربية أنه كان ينتهز فرصة الخطأ في أفهامهم فيصحح لهم الفكرة في حينها ويلقنهم تعاليمه السامية ونفوسهم مستشرفة لها. من ذلك ما يقصه علينا البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها أي رأوها قليلة وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدا. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم لله ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". وكان من وسائل إيضاحه تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعمل. يصلي ويقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويحج ويقول: "خذوا عني مناسككم" ويشير بأصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" كما تقدم في رواية مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 العامل الحادي عشر الترغيب والترهيب اللذان يفيض بهما بحر الكتاب والسنة ولا ريب أن غريزة حب الإنسان لنفسه تدفعه إلى أن يحقق لها كل خير وأن يحميها من كل شر سواء ما كان فيهما من عاجل وما كان من آجل ومن هنا تحرص النفوس الموفقة على وعي هداية القرآن وهدي الرسول وتعمل جاهدة على أن تحفظ منهما ما وسعها الإمكان. أما النفوس الضالة المخذولة فإنها مصروفة عن هذه السعادة بصوارف الهوى والشهوة أو محجوبة عن هذا المقام بحجاب التعصب والجمود على الفتنة أو مرتطمة بظلام الجهل في أوحال الضلال والنكال. ولسنا بحاجة أن نلتمس شواهد الترغيب والترهيب من الكتاب والسنة فمددها فياض بأوفى ما عرف العلم من ضروب الترغيب والترهيب وفنون الوعد والوعيد وأساليب التبشير والإنذار على وجوه مختلفة واعتبارات متنوعة في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق على سواء. وهاك نموذجا من ترغيبات القرآن وترهيباته على سبيل التذكير والذكرى تنفع المؤمنين. يقول تبارك اسمه في سورة واحدة هي سورة السجدة {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ، وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} . فانظر بعين بصيرتك في أساليب هذه الترغيبات وفنون تلك الترهيبات التي احتوتها هذه الآيات والقرآن مليء كله من هذه الأنوار على هذا الغرار. ولا تحسبن السنة النبوية إلا بحرا متلاطم الأمواج في هذا الباب. وهاك نموذجا بل نماذج منها تدلك على مدى ما تتأثر به النفوس البشرية عند ما يمر بها الوعد والوعيد وما يتركه هذا التأثر من ثبات الأوامر والنواهي واستقرارها في الذهن وانتقاشها في صحيفة الفكر ثم اندفاع الإنسان من ورائها إلى العمل والاتباع. ها هو صلى الله عليه وسلم يبشر واصل رحمه بسعة الرزق والبركة في العمر فيقول: "من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه" أخرجه البخاري والترمذي. وها هو صلى الله عليه وسلم يتحدث بالوعد لمن جعل الآخرة همه وبالوعيد لمن جعل الدنيا همه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فيقول: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه جعل الله الفقر بين عينيه وفرق الله عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" رواه الترمذي. وها هو صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على القتال ويحثهم على الدفاع والنضال فيقول: "تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل" أخرجه الثلاثة والنسائي. فأنت ترى في هذه الكلمات النبوية قوة هائلة محولة تجعلها ماثلة في الأذهان كما تجعل النفوس رخيصة هينة في سبيل الدفاع عن الدين والأوطان. حتى لقد كان الرجل يستمع إلى هذه المرغبات والمشوقات وهو يأكل فما يصبر حتى يتم طعامه بل يرمي بما في يده ويقوم فيجاهد متشوقا إلى الموت متلهفا على أن يستشهد في سبيل الله. كذلك أخرج مالك عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد وذكر الجنة ورجل من الأنصار يأكل تمرات فقال: إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن فرمى ما في يده وحمل بسيفه فقاتل حتى قتل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 العامل الثاني عشر اهتداء الصحابة رضوان الله عليهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يحلون ما فيهما من حلال ويحرمون ما فيهما من حرام ويتبعون ما جاء فيهما من نصح ورشد ويتعهدون ظواهرهم وبواطنهم بالتربية والآداب الإسلامية دستورهم القرآن وإمامهم الرسول عليه الصلاة والسلام. وما من شك أن العمل بالعلم يقرره في النفس أبلغ تقرير وينقشه في صحيفة الفكر أثبت نقش على نحو ما هو معروف في فن التربية وعلم النفس من أن التطبيق يؤيد المعارف والأمثلة تقيد القواعد ولا تطبيق أبلغ من العمل ولا مثال أمثل من الاتباع خصوصا المعارف الدينية فإنها تزكو بتنفيذها وتزيد باتباعها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} الأنفال أي هداية ونورا تفرقون به بين الحق والباطل وبين الرشد والغي كما جاء في بعض وجوه التفاسير. وذلك أن المجاهدة تؤدي إلى المشاهدة والعناية بطهارة القلوب وتزكية النفوس تفجر الحكمة في قلب العبد. قال الغزالي رحمه الله: أما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك أي بالحكمة تتفجر في القلب بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد إنما تتفتح بالمجاهدة ومراقبة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله عز وجل في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة والانقطاع إلى الله عز وجل عما سواه فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف؟ فكم من متعلم طال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة. وكم من مقتصر على المهم في التعليم ومتوفر على العمل ومراقبة القلب فتح الله له من لطائف الحكمة ما تحار فيه عقول ذوي الألباب. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم" 1.   1 قال الحافظ العراقي في هذا الحديث: رواه أبو نعيم في الحلية لكن بسند ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 العامل الثالث عشر وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يحفظهم من الكتاب والسنة ما لم يحفظوه ويعلمهم ما جهلوه ويجيبهم إذا سألوه ويريهم شاكلة الصواب فيما أخطؤوه ويقفهم على حقيقة الأمر إذا تشككوه في صبر وأناة وسعة صدر وكرم نفس وطيب قلب. ولا ريب أن هذا عامل مهم ييسر لهم الحفظ ويهون عليهم الاستظهار ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم مرجع واضح ومنهم عذب لا سيما إذا لاحظنا أنه صلى الله عليه وسلم كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب وأن من جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس علم وحياء وأمانة وصبر يدرس فيه القرآن وتذاع فيه السنة ويعبق منه أريج الهداية. عوامل خاصة بالقرآن الكريم. تلك العوامل التي ذكرناها عوامل مشتركة بين الكتاب والسنة طوعت للصحابة حفظهما واستظهارهما والإحاطة بهما وحذقهما. بيد أن هناك عوامل خاصة توافرت في حفظ الصحابة للقرآن دون السنة. أولها: أن الله تعالى تحدى بالقرآن أمة العرب بل كافة الخلق فقال سبحانه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} ولما عجزوا قال: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} ولما عجزوا أيضا قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} ولما عجزوا الثالثة سجل عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 هزيمتهم وأعلن فلج القرآن بالإعجاز في هذا الميدان إذ قال عز اسمه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . هذا التحدي الذي امتاز به القرآن فتح عيون الناس جميعا ولفتهم بقوة إليه لا فرق بين أوليائه وأعدائه. أما أولياؤه ومتبعوه فقرؤوه من هذه الناحية ليفحموا به أعداءهم ويؤيدوا بإعجازه دينهم ونبيهم. وأما أعداؤه ومخالفوه فاقتفوا أثره وتتبعوه أملا في أن يجدوا فيه مغمزا ويأخذوا عليه مطعنا. فلا جرم كان هذا التحدي من الدواعي التي توافرت على نقل القرآن وتواتره وجريانه على كل لسان. ثانيها: عنايته صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن فيما تيسر من أدوات الكتابة إذ اتخذ كتابا للوحي من أصحابه. وأقر كل من يكتب القرآن لنفسه في الوقت الذي نهى فيه عن كتابة السنة في الحديث الذي أسلفناه من رواية مسلم لا تكتبوا عني ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه. وغني عن البيان أن الكتابة من عوامل تيسير الحفظ والاستظهار. ثالثها: تشريع قراءة القرآن في الصلاة فرضا كان أو نفلا سرا أو جهرا ليلية أو نهارية حتى صلاة الجنازة ومثل الصلاة في ذلك خطبة الجمعة. وتلك وسيلة فعالة جعلت الصحابة يقرؤونه ويسمعونه ثم جعلتهم عن هذا الطريق يتحفظونه ويستظهرونه لا فرق بين رجل وامرأة وصغير وكبير وغني وفقير على قدر ما سمح به استعداد كل منهم. رابعها: الترغيب في تلاوة القرآن ولو في غير صلاة ومن غير وضوء. اقرأ إن شئت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ, لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة. والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" رواه البخاري ومسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن وهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" رواه الشيخان أيضا. ويقول صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: آلم حرف. ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ويقول صلى الله عليه وسلم: "يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؟ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" رواه أبو داود والترمذي والنسائي. ويقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه البخاري. فهل يعقل أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين سمعوا ذلك وأمثال ذلك يتوانون لحظة عن قراءة القرآن؟ ثم ألا تكون تلك التلاوة سبيلا إلى أن يحذقوه ويحرزوه؟. خامسها: عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم القرآن وإذاعته ونشره إذ كان يقرؤه على الناس على مكث كما أمره الله. وكان يسمعهم إياه في الخطبة والصلاة وفي الدروس والعظات وفي الدعوة والإرشاد وفي الفتوى والقضاء وكان يرغب في تعليمه ونشره كما سمعت. وكان يرسل بعثات القراء إلى كل بلد يعلمون أهله كتاب الله كما أرسل مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته صلى الله عليه وسلم إليها وكما أرسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 معاذ بن جبل إلى مكة بعد الفتح للإقراء. قال عبادة بن الصامت: كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن. سادسها: القداسة التي امتاز بها كتاب الله عن كل ما سواه حيث اجتمع فيه من المزايا ما قصصنا عليك وما لم نقصص عليك. كنسبته إلى الله تعالى وكحرمة قراءته على الجنب والحائض والنفساء وكحرمة مس مصحفه وحمله على أولئك جميعا وعلى المحدث حدثا أصغر أيضا إلى غير ذلك. ولا شك أن هذه القداسة تلفت الأنظار إليه وتخلع همم المؤمنين به عليه فيحيطون به علما ويخضعون لتعاليمه عملا. وذلك ما حدا المسلمين في كل عصر ومصر أن يعنوا بحفظ كتاب الله حتى عصرنا الذي نعيش فيه فما بالك بعصر الصحابة وهو عصر العلم والنور والتقوى والهداية والنشر والدعوة؟. أما بعد: فهذه بضعة عشر عاملا توافرت في أصحاب الرسول الأكرم حتى حفظوا الكتاب والسنة وقد جمعناها لك هذا الجمع معتقدين أن من ورائها عوامل شخصية توافرت في بعض القراء وبعض المحدثين منهم دون بعض. والسبيل إلى تلك العوامل الشخصية دراسة تراجم أولئك القراء والمتصدرين لرواية الحديث من الصحابة فارجع إليها إن شئت واحرص على ما ذكرنا لك وصغ منها أسلحة علمية مرهفة تشهرها في وجه أولئك الخونة الذين يخوضون في الصحابة بغير علم ويطعنون في الكتاب والسنة عن طريق الطعن فيهم بعد الحفظ والضبط. ونحن نتحدى أمم العالم بهذه الدواعي التي توافرت في الصحابة حتى نقلوا الكتاب والسنة وتواتر عنهم ذلك خصوصا القرآن الكريم. أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع! غمرهم الله برحمته ورضوانه وصب عليهم شآبيب جوده وإحسانه. آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ب - الجبهة الثانية: أو عوامل تثبت الصحابة في الكتاب والسنة الآن وقد فرغنا من عوامل حفظ الصحابة للكتاب والسنة نعرج على عوامل تثبتهم رضوان الله عليهم فيهما فنذكر أن الناظر في تاريخ الصحابة يروعه ما يعرفه عنهم في تثبتهم أكثر مما يروعه عنهم في حفظهم لأن التثبت فضيلة ترجع إلى الأمانة الكاملة والعقل الناضج من ناحية ثم هو في الصحابة بلغ القمة من ناحية أخرى إذ كان تثبتا بالغا وحذرا دقيقا وحيطة نادرة وتحريا عميقا لكتاب الله تعالى وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يتصل بهما عن قرب أو بعد. ولهذا التثبت النادر في دقته واستقصائه بواعث ودواع أو أسباب وعوامل يجمل بنا أن نقدمها إليك كأسلحة ماضية تنافح بها عن الكتاب والسنة وعن الصحابة في أدائهم للكتاب والسنة. العامل الأول أن الله تعالى أمر في محكم كتابه بالتثبت والتحري وحذر من الطيش والتسرع في الأنباء والأخبار بله القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . وكذلك نهى الله عن اتباع ما لا دليل عليه إلا أن تسمع الأذن أو ترى العين أو يعتقد القلب عن برهان فقال عز من قائل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وقد عاب القرآن على من يأخذون بالظن فيما لا يكفي فيه الظن فقال الله جل شأنه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} إلى غير ذلك من أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تأمر بالنظر وكان الصحابة هم المخاطبين بهذه التعاليم والمشافهين بها فلا ريب أن تكون تلك الآداب الإسلامية من أهم العوامل في تثبتهم وحذرهم خصوصا فيما يتصل بكتاب ربهم وسنة نبيهم. وبعيد كل البعد بل محال كل الاستحالة أن يكونوا قد أهملوا هذا النصح السامي وهم خير طبقة أخرجت للناس. العامل الثاني ما سمعوه من الترهيب الشديد ومن التهديد والوعيد لمن يكذب على الله أو يفتري على رسوله ومصطفاه. قال الله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ؟ فانظر كيف سلك الله من افترى الكذب عليه في سلك من {قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ثم انظر كيف قدمه عليهما في الذكر وصدره في الوعيد ونعته أول من نعت بالإغراق في الظلم. وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ} وقال سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} ؟. ونقرأ في السنة النبوية أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وهو حديث مشهور بل متواتر ورد أنه قد رواه اثنان وستون صحابيا منهم العشرة المبشرون بالجنة ولا يعرف حديث اجتمع عليه العشرة المبشرون بالجنة إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 هذا ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا. ولقد سمع الصحابة هذه الترهيبات وأمثالها. وما أمثالها في القرآن والسنة بقليل بل لقد سمع الأصحاب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عما دون الكذب وما كان أقل من التزيد إذ حذرهم رواية الضعفاء والمدخولين فقال: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم" رواه مسلم. بل حذرهم صلى الله عليه وسلم رواية المجهولين فقال: "إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أعرف اسمه يحدث كذا وكذا". رواه مسلم. فهل يستبيح عاقل منصف لنفسه أن يقول: إن الصحابة الذين سمعوا هذه النصائح وتلك الزواجر عن التزيد والافتراء يقدمون على كذب في القرآن والسنة أو يقصرون في التثبت والتحري والاحتياط في نقل الذكر الحكيم والهدي النبوي الكريم؟. العامل الثالث أن الإسلام أمرهم بالصدق ونهاهم عن الكذب إطلاقا فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وأنت خبير بأن هذا الخطاب بهذه الصيغة في هذا المقام مع تقديم الأمر بالتقوى فيه إشارة إلى أن الصدق المأمور به من مقتضيات الإيمان ومن دعائم التقوى ويفهم من هذا أن من كذب وافترى فسبيله سبيل من كفر وطغى. كما صرح سبحانه بذلك في قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة. وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار" رواه ابن ماجه. وعن صفوان بن سليم رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله أيكون المؤمن جبانا؟ قال: "نعم". قلنا: أفيكون بخيلا؟ قال: "نعم". قلنا: أفيكون كذابا؟ قال: "لا" أخرجه مالك. فانظر إلى الحديث الأول كيف جعل الصدق هاديا إلى البر وإلى الجنة وجعل الكذب هاديا إلى الفجور وإلى النار. ثم انظر إلى الحديث الثاني كيف اعتبر الكذب أفحش من الجبن والبخل وأخرجه في هذه الصورة الشنيعة التي لا تجتمع هي والإيمان في نفس واحدة أبدا. وستقضي العجب حين تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بالغ في تقبيح الكذب حتى في توافه الأشياء ومحقرات الأمور استمع إليه صلى الله عليه وسلم وهو ينهى عن الكذب في المزاح بهذه الطريقة الرادعة فيقول: "ويل للذي يحدث ليضحك منه القوم فيكذب ويل له ويل له" رواه أبو داود والترمذي. ثم استمع إليه وهو يتوعد من يكذب في منامه ويقول من كذب في حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد بينهما أبدا. قل لي بربك: هل تلك الطبقة الأولى الممتازة التي سمعت ذلك وأضعاف ذلك بآذانها من فم رسولها والتي اعتنقت الإيمان بعد البحث والنظر واعتقدته طريقا إلى سعادتها وعزها والتي باعت أنفسها وأموالها لله بأن لها الجنة في نعيمها وخلودها. نقول: هل تلك الطبقة الكريمة ترضى بعد ذلك كله أن تركب رأسها وتنكص على أعقابها؟ فتكذب على الله ورسوله أو لا تتحرى الصدق في كتاب الله وسنة رسوله ذلك شطط بعيد لا يجوز إلا على عقول المغفلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 العامل الرابع أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مغرمين بالتفقه والتعلم مولعين بالبحث. والتنقيب مشغوفين بكلام الله وكلام رسول الله يعقدون المجالس لمدارسة القرآن وفهمه ويركبون ظهور المطايا لطلب العلم وأخذه. وكانت عناية الرسول بتعليمهم القرآن تفوق كل عناية يقرؤه عليهم ويخطبهم به ويزين إمامته لهم بقراءته في صلاته وفي دروسه وعظاته. وكان فوق ذلك يحب أن يسمعه منهم كما يحب أن يقرأه عليهم. روى البخاري ومسلم أن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي القرآن". قلت: يا رسول الله. أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري". فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} قال: "حسبك الآن" فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. وكذلك كان الصحابة همتهم أن يقرؤوا القرآن ويستمعوه. روى الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار". وروى الدارمي وغيره بأسانيدهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا فيقرأ عنده القرآن. قال النووي: وقد مات جماعات من الصالحين بسبب قراءة من سألوه القراءة. وقد سبق في عوامل حفظ الصحابة للسنة مدى عنايتهم بالإقبال عليها والاهتمام بلقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 رسول الله صلى الله عليه وسلم للتعلم منه والأخذ عنه. وروى مكحول عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال: حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كنا ندرس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تعلموا ما شتئم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا". رواه الدارمي موقوما على معاذ بسند صحيح. وكلمة العلم في هذا الحديث شاملة لعلم الكتاب وعلم السنة. أليس هذا الولوع بالكتاب والسنة من دواعي تثبتهم فيهما كما هو من دواعي حفظهم لهما لأن اشتهار الشيء وذيوعه ولين الألسنة به يجعله من الوضوح والظهور بحيث لا يشوبه لبس ولا يخالطه زيف ولا يقبل فيه دخيل. العامل الخامس يسر الوسائل لدى الصحابة إلى أن يتثبتوا وسهولة الوصول عليهم إلى أن يقفوا على جلية الأمر فيما استغلق عليهم معرفته من الكتاب والسنة. وذلك لمعاصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصلون به في حياته فيشفي صدورهم من الريبة والشك ويريح قلوبهم بما يشع عليهم من أنوار العلم وحقائق اليقين. أما بعد غروب شمس النبوة وانتقاله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه. فقد كان من السهل عليهم أيضا أن يتصلوا بمن سمعوا بآذانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسامعون يومئذ عدد كثير وجم غفير يساكنونهم في بلدهم ويجالسونهم في نواديهم فإن شك أحدهم في آية من كتاب الله أو خبر عن رسول الله أمكنه التثبت من عشرات سواه دون عنت ولا عسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 العامل السادس شجاعة الأصحاب شجاعة فطرية وصراحتهم صراحة طبيعية نشؤوا عليهما منذ حداثتهم وطبعوا عليهما بفطرتهم وبيئتهم كأمة متبدية لا تعرف ختل الحضارة الملوثة ولا تألف نفاق المدنية المذبذبة. ثم جاء الإسلام فعزز فيهم هذا الخلق الفاضل وزادهم منه وبنى حضارته الصحيحة ومدنيته الطاهرة عليه بمثل ما سمعت في أصدق الحديث وخير الهدى. حتى لقد كان الرجل منهم يقف في وسط الجمهور يرد على أمير المؤمنين وهو يلقي خطاب عرشه ردا قويا صريحا خشنا. بل كانت المرأة تقف في بهرة المسجد الجامع فتقاطع خليفة المسلمين وهو يخطب وتعارض رأيه برأيها وتقرع حجته بحجتها فيما تعتقد أنه أخطأ فيه شاكلة الصواب وأمير المؤمنين في الحالين يغتبط بهاتيك الصراحة ويسر بتلك الشجاعة ويعلن اغتباطه بموقف ذلك العربي الخشن الذي رد عليه كما يعلن رجوعه عن رأيه إلى رأي هذه السيدة التي حاجته بين يديه وما أمر عمر ببعيد عنكم ولا مجهول لكم لا عند ولايته الخلافة وهو قائم يلقي خطاب عرشه ولا عند ما وقف على منبره ينهى عن التغالي في مهور النساء. فهل يرضى العقل والمنطق أن تجرح هذه الأمة الصريحة القوية وتتهم بالكذب أو بالسكوت على الكذب في كلام الله وفي سنة رسول الله؟. ثم ألا يحملهم هذا الخلق المشرق فيهم على كمال التثبت ودقة التحري في كتاب الله وسنة رسول الله؟ لقد أسفر الصبح لذي عينين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 العامل السابع تكافل الصحابة تكافلا اجتماعيا فرضه الإسلام عليهم فجعل عيونهم مفتحة لكل من يكذب على الله أو يفتري على رسول الله أو يخوض في الشريعة بغير علم أو يفتي في الدين بغير حجة. أجل لقد كان كل واحد منهم يعتقد أنه عضو في جسم الأمة عليه أن يتعاون هو والمجموع في المحافظة على الملة ويعتقد أنه لبنة في بناء الجماعة عليه أن يعمل على سلامتها من الدغل والزغل والافتراء والكذب خصوصا في أصل التشريع الأول وهو القرآن وأصله الثاني وهو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. وبين يديك الكتاب والسنة فاقرأ فيهما إن شئت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجدها كثيرة متآخذة تقرر ذاك التكافل الاجتماعي الإسلامي بين آحاد الأمة بما لا يدع مجالا لمفتر على الله ولا يترك حيلة لحاطب ليل في حديث رسول الله. استمع إلى كلام الحق وهو يحض على دعوة الخير وفضيلة النصح إذ يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} إلى أن قال جل ذكره: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وهكذا قدم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان به تنويها بجلالتهما. وحثا على التمسك بحبلهما وإشارة إلى أن الإيمان بالله لا يصان ولا يكون إلا بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وتدبر قول الله تعالى في سورة المائدة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . ثم تأمل حكم الله على بني الإنسان جميعا بأنهم غريقون في الخسران إلا من جمع عناصر السعادة الأربعة وهي الإيمان والعمل الصالح والتوصية بالحق والتوصية بالصبر في قوله سبحانه: {والعصر إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وشوفهوا بخطابه من فم رسول الله عن جبريل عن الله ثم سمعوا بعد ذلك من كلام رسول الله أمثال ما يأتي:- 1- يقول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". رواه الترمذي بسند حسن عن حذيفة رضي الله عنه. 2- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا أي ظاهرا عندكم من الله تعالى فيه برهان وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم رواه الشيخان. فهل بعد هذا كله يعقل أن يعبث الصحابة أو يقروا من يعبث بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 العامل الثامن تعويدهم الصدق وترويضهم عليه عملا كما أرشدوا إليه وأدبوا به فيما سمعت علما. وأنت خبير بأن التربية غير التعليم وأن العلم غير العمل وأن نجاح الفرد والأمة مرهون بمقدار ما ينهلان من رحيق التربية وما يقطفان من ثمرات الرياضة النفسية والقوانين الخلقية. أما العلم وحده فقد يكون سلاح شقاء ونذير فناء كما نرى ونسمع ويا لهول ما نرى وما نسمع. ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الجليلة في بناء الأمم فأعارها كل اهتمام وعني بالتنفيذ والعمل أكثر مما عني بالعلم والكلام. ولعلك لم تنس أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن يدرسون العلم في مسجد قباء تلك النصيحة الذهبية الحكيمة: "تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا". ولعلك لم تنس أيضا أن الإسلام شرع عقوبة من أشنع العقوبات لمن أقترف نوعا من الكذب وهو نوع الخوض في الأعراض تلك العقوبة هي حد القذف الذي يقول الحق جل شأنه فيه من سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . فتأمل كيف عاقب هذا القاذف الكاذب بالجلد ثمانين ورد شهادته وحكم بأنه من الفاسقين بل قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي لا فاسق سواهم ولا خارج عن حدود الدين والأدب إلا هم. ثم شنف مسمعيك بما يرويه أبو داود في سننه من أن عبد الله بن عامر قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير فذهبت لألعب فقالت أمي: تعال حتى أعطيك. فقال صلى الله عليه وسلم. "وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا. فقال: أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة" تصور في هذه التربية السامية كيف لم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم لأم أن تعد طفلها الصغير وعدا غير صادق بل يسائلها: ما الذي كانت تعطيه لو جاء؟ ثم يقرر أنها لو خاست بعهدها هذا لكتبها الله عليها كذبة وهكذا يكتفي بذكر كلمة كذبة في هذا المقام ردعا لها وزجرا ومنه تعلم أن لفظ الكذب كان سوط عذاب يخيف الصحابة رجالا ونساء. وذلك لما يسمعون عنه من شناعة ولما يعرفون فيه من بشاعة ولما تأصل في نفوسهم من فضيلة الصدق وشرف الحق أفبعد هذه التربية العالية يصح أن يقال: إن الصحابة يكذبون على الله ورسوله ولا يتثبتون ألا إن هؤلاء من إفكهم ليهرفون بما لا يعرفون ويسرفون في تجريح الفضلاء واتهام الأبرياء ولا يستحون فويل لهم من يومهم الذي يوعدون. العامل التاسع القدوة الصالحة والأسوة الحسنة التي كانوا يجدونها في رسول الله صلى الله عليه وسلم ماثلة كاملة جذابة أخاذة. ولا يعزبن عن بالك أن القدوة الصالحة خير عامل من عوامل التعليم والتربية والتأديب والتهذيب خصوصا بين نبي ومتبعيه وأستاذ ومتعلميه ورئيس ومرؤوسيه وراع ورعيته. وها نحن أولاء نرى علماء النفس والاجتماع وأقطاب التربية والتعليم وبناة الأخلاق والأمم: نراهم لا يزالون يتحدثون في القدوة الصالحة ويوصون بالقدوة الصالحة ويبحثون عن القدوة الصالحة وذلك لمكانتها من التأثير والإصلاح والتقويم والنجاح في الأفراد والأمم على سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ولم يعرف التاريخ ولن يعرف قدوة أسمى ولا أسوة أعلى ولا إمامة أسنى من محمد صلى الله عليه وسلم في كافة مناحي الكمال البشري خصوصا خلقه الرضي وأدبه السني ولا سيما صدقه وأمانته وتحريه ودقته. أجل فقد كان صلى الله عليه وسلم مشهورا بالصدق معروفا بالأمانة حتى من قبل بعثته ورسالته فكان إذا سار أشاروا إليه بالبنان وقالوا هذا هو الصادق وإذا حكم رضوا حكومته وقالوا هذا هو الأمين. وكانت هذه الفضائل المشرقة فيه من بواعث إيمان المنصفين من أهل الجاهلية به. ولقد اضطر أن يشهد له بها أعداؤه الألداء كما آمن بها أتباعه الأوفياء. فهذا أبو سفيان بن حرب زعيم حزب المعارضة له يقر بين يدي قيصر الروم بصدق محمد وأنهم لم يحفظوا عليه كذبة واحدة قبل رسالته ويكاد يؤمن القيصر متأثرا في جملة ما تأثر بهذه الشهادة التي انطلق بها لسان ألد خصوم محمد يومئذ ثم يقول في التعليق على كلام أبي سفيان والتنويه بصدق محمد عليه الصلاة والسلام: ما كان أي محمد ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله والحديث طويل مشهور يرويه البخاري في صحيحه. فراجعه إن شئت. وهذا قائل قريش يقول للنبي صلى الله عليه وسلم في معرض من المعارض: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به". وبسبب ذلك أنزل الله تعالى {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} . ومما يذكر بالإعجاب والفخر لنبي الإسلام أنه عرض الإسلام صلى الله عليه وسلم على بني عامر بن صعصعة وذلك قبل الهجرة وقبل أن تقوم للدين شوكة فقال كبيرهم: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بتلك الكلمة الحكيمة الخالدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 "الأمر لله يضعه حيث يشاء" فقال له كبيرهم أفتهدف1 نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك. وهنا تتجلى سياسة الإسلام وأنها سياسة صريحة مكشوفة ورشيدة شريفة لا تعرف اللف والدوران ولا تعتمد الكذب والتضليل كما تتجلى صراحة نبي الإسلام وصدق نبي الإسلام وشرف نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. نعم لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم في ضيق أي ضيق يحتاج إلى أقل معاونة من عدو أو صديق وهذا حي من العرب يستطيع أن يكتسبه ويتقوى به ولكنه عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يعد فيخلف ولا أن يحدث فيكذب ولا أن يعاهد فيغدر. يسألونه أن يكونوا الخلفاء من بعده إذا أسلموا فيقول بملء فيه: "الأمر لله يضعه حيث يشاء" ولو أنه قال: إن شاء الله مثلا لدانوا له أجمعين وأصبحوا من حزبه وجنده المسلمين. مرحى مرحى لسياسة الإسلام. وأخلاق نبي الإسلام. وإذا كانت هذه الأخلاق العليا هي منار القدوة للصحابة في رسول الله فكيف لا يقتبسون من هذه الأنوار ولا يضربون في حياتهم على هذه الأوتار؟ فضلا   1 في القاموس: أهدف له الشيء عرض اهـ. وقال في لسان العرب, الإهداف: الدنو. أهدف له القوم أي قربوا.. وكل شيء قد استقبلك استقبالا فهو مهدف ومستهدف. اهـ. وقال الزمخشري في أساس البلاغة: أهدف له الشيء واستهدف: انتصب وعرض. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر لأبيه أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: لقد أهدفت لي يوم بدر فصغت عنك اهـ فالفعل لازم غير متعد. ومعنى صغت عنك: ملت وأعرضت. تدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 عن أن يقال عنهم: إنهم يكذبون أو لا يتحرون في كتاب الله وسنة رسول الله {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . العامل العاشر سمو تربية الصحابة على فضائل الإسلام كلها وكمال تأدبهم بآداب هذا الدين الحنيف وشده خوفهم من الله وصفاء نفوسهم إلى حد لا يتفق والكذب خصوصا الكذب على الله تعالى والتجني على أفضل الخليقة صلوات الله وسلامه عليه. يقول علماء الأخلاق والمشتغلون بعلم النفس وعلوم الاجتماع إن الكذب جناية قبيحة لا يمكن أن يصدر إلا عن نفس ساقطة لم تتأدب ولا يتصور أن يفشوا إلا في شعب شاذ لم يتهذب. ونحن إذا استعرضنا تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم نشاهد العجب في عظمة تأديب الإسلام لهم وتربيته إياهم تربية سامية جعلتهم أشباه الملائكة يمشون على الأرض لا سيما ناحية الصدق والأمانة والتثبت والتحري والاحتياط. وذلك من كثرة ما قرر القرآن فيهم لهذه الفضائل ومن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بهم علما وعملا ومراقبة حتى أصبحوا بنعمة من الله وفضل منطبعة قلوبهم على هذه الجلائل متشبعة نفوسهم بمبادىء الشرف والنبل تأبى عليهم كرامتهم أن يقاربوا الكذب أو يقارفوا التهجم. لا سيما التهجم على مقام الكتاب العزيز وكلام صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله عنها: "ما كان خلق أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه أحدث توبة لله عز وجل" رواه مسلم في مقدمة صحيحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 عوامل أخرى إذا استعرضت بعض العوامل السابقة في حفظ الصحابة للكتاب والسنة تجد منها عوامل صالحة أيضا لأن تكون دواعي تثبتهم في الكتاب والسنة ولهذا اكتفي بالإشارة إليها دون إعادتها: 1- فذكاء العرب وقوة حوافظهم وصفاء طبعهم إلى آخر ما ذكرنا في العامل الثاني هناك. لا شك أنه داعية من دواعي تثبتهم أيضا لأن الشأن فيمن نشأ على هذه الصفات أن يكون واثقا مما حفظ فلا يحتاج إلى تزيد ولا يقع في تهجم. 2- وحب الصحابة لله ولرسوله عامل كذلك من عوامل التثبت لأن المحب الصادق لا يقنع إلا بما يثق أنه كلام حبيبه من غير لبس ولا شك ولا يرضى أن يفتري الكذب على حبيبه ولا يقبل أن يتقول عليه أو يتهجم في كلامه خصوصا إذا عرف أنه يكره ذلك منه. انظر العامل الرابع من عوامل الحفظ. 3- وموقف الصحابة في محراب الفصاحة والبيان وعلو كعبهم في نقد الكلام وكمال ذوقهم في إدراك إعجاز القرآن وبلاغة النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام كل أولئك ييسر عليهم التثبت ويهون عليهم أن يردوا ما ليس من كلام الله وكلام رسوله ضرورة أنهم يدركون الفوارق بين الأساليب الفاضلة والمفضولة ويزنون كلامهم بموازينهم البلاغية الصادقة. انظر العامل الخامس من عوامل الحفظ. 4- وعلم الصحابة بمنزلة الكتاب والسنة من الدين يجعلهم بلا شك يهتمون بالتثبت منهما والحيطة لهما. انظر العامل السابع من عوامل الحفظ. 5- واقتران الكتاب بالإعجاز واقتران السنة ببعض المعجزات والغرائب ثم ارتباط كثير من آيات القرآن وأحاديث الرسول بالحوادث والوقائع كل أولئك مما يجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 النفوس تتوثق منهما ولا تشتبه فيهما ولا تقبل التزيد والكذب عليهما. انظر العامل الثامن والتاسع من عوامل الحفظ. إذا جمعت هذه العوامل وأمثالها إلى العشرة المسطورة بين يديك رأيت بضعة عشر عاملا من الدواعي المتوافرة والأدلة القائمة على أمانة الصحابة وتثبتهم من الكتاب والسنة. مظاهر هذا التثبت وهكذا نتصفح تاريخ الصحابة ونقتفي آثارهم فإذا هي شواهد حق على تغلغل فضيلة الصدق فيهم وشدة نفورهم ونقاء ساحتهم من الكذب وما يشبه الكذب. هذا عمر رضي الله عنه يقول: أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم اسما فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقا فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثا. وهذا علي كرم الله وجهه يقول: أعظم الخطايا عند الله عز وجل اللسان الكذوب. ويقول مرة أخرى: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه. وإن شئتم فاعجبوا من سعيد بن المسيب وهو أحد من رباهم الصحابة: رمدت عيناه مرة حتى بلغ الرمد خارجهما والرمد وسخ أبيض من مجرى الدمع من العين فقيل له: لو مسحت عينيك. فقال: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك فأقول: لا أفعل؟. وتدبروا ما رواه مسلم بسنده عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 لا يأذن له ولا ينظر إليه. فقال يا بن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف. ومن هذا الورع البالغ والحذر الدقيق تحرج كثير من أكابر الصحابة عن الرواية والتحديث فلم يسمع منهم إلا النزر اليسير مع أن لديهم من رسول الله الغمر الكثير. يحدث ابن الزبير رضي الله عنه فيقول: قلت لأبي: ما لي لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ فقال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت ولكني سمعته يقول: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". رواه البخاري وأبو داود. وإذا كان هذا مظهرا من مظاهر حذرهم واحتياطهم للسنة النبوية فماذا تقدر من مظاهر حذرهم واحتياطهم لكتاب الله العزيز؟ إني أعتقد أنك إذا رجعت إلى أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف تشاهد العجب العاجب من روائع هذه المظاهر. فهذا عمر يأخذ بخناق هشام بن حكيم ويسوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما نقم عليه إلا أنه قرأ سورة الفرقان على وجه لم يقرأه عمر ولم يكن يعرف عمر أنه هكذا نزل ولم يرسل عمر هشاما حتى انتهى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره الرسول أن يرسله ثم استقرأهما عليه الصلاة والسلام وقال في قراءة كليهما: "هكذا أنزلت". وقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه" هذا ملخص ما كان بين عمر وهشام ومثل ذلك وقع من أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وغيرهما مع أصحابهم مما تعرضه عليك الروايات المبسوطة هناك في هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أضف إلى هذا تلك الدقة البالغة التي أجملناها لك في دستور أبي بكر ودستور عثمان رضي الله عنهما في جمع القرآن بالصحف والمصاحف وهي على مقربة منك. فارجع إليها إن شئت. ويشبه هذين الدستورين في جمع القرآن دستور أبي بكر في حماية السنة والحيطة لها والتثبت منها إذ جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاورهم في الأمر ثم انتهوا إلى اتباع ما يأتي:- أن ينظروا في خبر الواحد نظرة فاحصة يعرضونه على كتاب الله تعالى وما تواتر أو اشتهر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خالف شيئا منها زيفوه وردوه وإن لم يخالف نظروا نظرة ثانية فيمن جاء به فلا يقبلون إلا ممن عرف بالعدالة والضبط والصدق والتحري وإلا طالبوه بالتزكية من طريق آخر يشهد معه ويروي ما رواه وبرغم هذا وذاك فقد التزموا التقليل من الرواية لأن الإكثار مظنة الخطأ ومثار الاشتباه. نعم: حداهم ورعهم وشدة خوفهم من الله أن يحصنوا حديث رسول الله بهذا الدستور الدقيق الرشيد القائم على رعاية هذه القواعد الثلاث: النظر في الخبر والنظر في المخبر والإقلال من الرواية. ويرحم الله ابن الخطاب فقد أخذ بالأسس التي وضعها أبو بكر لحياطة الكتاب والسنة ثم بنى عليها وشمخ بها وزاد فيها حتى تشدد مع الأمناء الموثقين وضيق الخناق على الصحابة المكثرين حتى روي أنه حبس ثلاثة من مشاهير الصحابة سنة كاملة وما نقم منهم إلا أنهم أكثروا الرواية. وإذا صح هذا فهو درس قاس من الفاروق لعامة الشعب في الاحتياط لأصول التشريع والتبصر والتدقيق في الرواية تحملا وأداء على حد قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 إني وقتلى سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر ثم جاء دور عثمان وعلي فحذوا حذو أبي بكر وعمر إذ أوى الكتاب في كنفهما إلى ركن ركين وظل ظليل وبقيت السنة في عهدهما رفيعة العماد قوية السناد حتى تلقاها بنو أمية على ما تركها الخلفاء بيضاء مشرقة ليلها كنهارها. ولبثت السنة في العهد الأموي معتصمة بعزتها ومنعتها حتى طلع نجم الملك العادل عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الثانية فردد صدى جده عمر بن الخطاب في ضرورة صون السنة ووعيها ولكن رأى أن يكون ذلك عن طريق الكتابة والنقش في السطور بعد أن وعيت في العهد الماضي عن طريق الحفظ في القلوب والصدور. وبذلك انتقل الحديث النبوي إلى دور جديد سعيد هو دور التأليف والكتابة والتقييد مما كان له أبلغ الأثر في وصوله إلينا موزونا بأدق موازين العلم والبحث الدقيق. نتيجة ذلك ولقد كان من نتيجة ذلك كله أن أحيط الكتاب والسنة بسياج من الفولاذ والحديد وأن حفظ الدين من العبث بأصول التشريع وأن أخذ خلف الأمة درسا قيما عن سلفهم الصالح في ضرورة الاستبراء للدين واليقظة في حراسة الكتاب والسنة ووجوب نقد الرواة وفحص المرويات. وبهذا أيضا أخذ الطريق على الدس والدساسين وحيكت الشباك للدجالين والوضاعين وأصبح الدين الإسلامي منيع الحوزة محفوظ الذمار إلى درجة تفاخر بها شعوب العالم وأمم الأرض وأديان الدنيا مما لا يكاد يوجد مثله ولا قريب منه في تاريخ أية شريعة من الشرائع السماوية والوضعية منذ خلق الله السموات والأرض إلى يوم الناس هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الموقف خطير ولا تحسبن أيها القارئ الكريم أني بالغت أو أسرفت وإن كنت قد أطلت وأكثرت فإن هذا البحث جليل وخطير يتصل في جلالته وخطورته بتلك الطائفة الممتازة التي اختارها الله لتلقي كتابه ومعاصرة رسوله صلى الله عليه وسلم وحسن النيابة عنه في نشر هداية الإسلام والدفاع عن حمى الدين الحنيف. أولئك هم حجر الزاوية في بناء هذه الأمة المسلمة عنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله وحذقت سنة رسول الله وعرفت تعاليم الإسلام فالغض من شأنهم والتحقير لهم بل النظر إليهم بالعين المجردة من الاعتبار لا يتفق والمركز السامي الذي تبوؤوه ولا يوائم المهمة الكبرى التي انتدبوا لها ونهضوا بها كما أن الطعن فيهم والتجريح لهم يزلزل بناء الإسلام ويقوض دعائم الشريعة ويشكك في صحة القرآن ويضيع الثقة بسنة سيد الأنام. ومن أشد ما يجرح به الصحابة اتهامهم بسوء الحفظ وعدم الضبط ولمزهم بالكذب والافتراء على الله ورسوله ونبزهم بعدم التثبت والتحري في نقلهم كتاب الله وسنة رسوله إلى الأمة. لذلك عني علماء الإسلام قديما وحديثا بالدفاع عن عرين الصحابة لأنه كما رأيت دفاع عن عرين الإسلام ولم يكن ذلك الدفاع نزوة هوى ولا نبوة عصبية بل كان نتيجة لدراسات تحليلية وأبحاث تاريخية وتحقيقات بارعة واسعة أحصتهم عددا ونقدتهم فردا فردا وعرضتهم على أدق موازين الرجال مما تباهي به الأمة الإسلامية كافة الأمم والأجيال. وبعد هذا التحقيق والتدقيق خرج الصحابة رضي الله عنهم من بوتقة هذا البحث وإذا هم خير أمة أخرجت للناس وأسمى طائفة عرفها التاريخ وأنبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 أصحاب لنبي ظهر على وجه الأرض وأوعى وأضبط جماعة لما استحفظوا عليه من كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اضطر أهل السنة والجماعة أن يعلنوا رأيهم هذا كعقيدة وقرروا أن الصحابة عدول. ولم يشذ عن هذا الرأي إلا المبتدعة والزنادقة قبحهم الله. قال أبو زرعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك لأن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى ذلك إلينا كله الصحابة. وهؤلاء يعني الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة اهـ. شهادة عليا من الله للصحابة وفوق ما تقدم نجد الحق سبحانه وتعالى يمتدح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم غير مرة ونرى الرسول صلى الله عليه وسلم يطري صحابته في غير موضع. اقرأ إن شئت قوله جل جلاله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى آخر سورة الفتح. ثم اقرأ إن شئت قوله عز اسمه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وقوله جلت حكمته: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في سورة الحشر. وتأمل قوله عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الخ وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ولا ريب أن الصحابة هم المشافهون بهذا الخطاب فهم داخلون في مضمونة بادئ ذي بدء متحققون بمزاياه أول الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 شهادة الرسول لأصحابه وكذلك نقرأ في صحيح السنة ما يشهد بفضل الصحابة وكمال امتيازهم على الثقلين سوى النبيين والمرسلين. روى الترمذي وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه". وروى البزار في مسنده برجال كلهم موثقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين" وجاء في صحيح البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال في شأن أصحابه: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". وتواتر عنه أنه قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم". فأنت ترى من هذه الشهادات العالية في الكتاب والسنة ما يرفع مقام الصحابة إلى الذروة وما لا يترك لطاعن فيهم دليلا ولا شبه دليل. حكمة الله في اختيار الصحابة والواقع أن العقل المجرد من الهوى والتعصب يحيل على الله في حكمته ورحمته أن يختار لحمل شريعته الختامية أمة مغموزة أو طائفة ملموزة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة طبقة الصحابة يعتبر دفاعا عن الكتاب والسنة وأصول الإسلام من ناحية ويعتبر إنصافا أدبيا لمن يستحقونه من ناحية ثانية ويعتبر تقديرا لحكمة الله البالغة في اختيارهم لهذه المهمة العظمى من ناحية ثالثة. كما أن توهينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 والنيل منهم يعد غمزا في هذا الاختيار الحكيم ولمزا في ذلك الاصطفاء والتكريم فوق ما فيه من هدم الكتاب والسنة والدين. على أن المتصفح لتاريخ الأمة العربية وطبائعها ومميزاتها يرى من سلامة عنصرها وصفاء جوهرها وسمو مميزاتها ما يجعله يحكم مطمئنا بأنها صارت خير أمة أخرجت للناس بعد أن صهرها الإسلام. وطهرها القرآن ونفى خبثها سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. ولكن الإسلام قد ابتلي حديثا بمثل أو بأشد مما ابتلي به قديما فانطلقت ألسنة في هذا العصر ترجف في كتاب الله بغير علم وتخوض في السنة بغير دليل وتطعن في الصحابة دون استحياء وتنال من حفظة الشريعة بلا حجة وتتهمهم تارة بسوء الحفظ وأخرى بالتزيد وعدم التثبت وقد زودناك وسلحناك فانزل في الميدان ولا تخش عداك. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} نصرنا الله بنصرة الإسلام وثبت منا الأقدام والأقلام والحمد لله في البدء وفي الختام وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته الأعلام آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 المبحث التاسع: في ترتيب آيات القرآن وسوره معنى الآية: آيات القرآن جمع آية والآية تطلق في لسان اللغة بإطلاقات: أولها: المعجزة. ومنه قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} أي معجزة واضحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ثانيها: العلامة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي علامة ملكه. ثالثها: العبرة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي عبرة لمن يعتبر. رابعها: الأمر العجيب. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} . خامسها: الجماعة. ومنه قولهم: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم. والمعنى أنهم لم يدعوا وراءهم شيئا. سادسها: البرهان والدليل نحو قوله جل ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} والمعنى أن من براهين وجود الله واقتداره واتصافه بالكمال خلق عوالم السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان تلك كلها إطلاقات لغوية وقد يستلزم بعضها بعضا. ثم خصت الآية في الاصطلاح بأنها طائفة ذات مطلع ومقطع مندرجة في سورة من القرآن والمناسبة بين هذا المعنى الاصطلاحي والمعاني اللغوية السالفة واضحة لأن الآية القرآنية معجزة ولو باعتبار انضمام غيرها إليها ثم هي علامة على صدق من جاء بها صلى الله عليه وسلم وفيها عبرة وذكرى لمن أراد أن يتذكر وهي من الأمور العجيبة لمكانها من السمو والإعجاز وفيها معنى الجماعة لأنها مؤلفة من جملة كلمات وحروف وفيها معنى البرهان والدليل على ما تضمنته من هداية وعلم وعلى قدرة الله وعلمه وحكمته وعلى صدق رسوله في رسالته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 طريقة معرفة الآية : لا سبيل إلى معرفة آيات القرآن إلا بتوقيف من الشارع لأنه ليس للقياس والرأي مجال فيها إنما هو محض تعليم وإرشاد بدليل أن العلماء عدوا {المص} آية ولم يعدوا نظيرها وهو {المر} آية وعدوا {يس} آية ولم يعدوا نظيرها وهو {طس} آية وعدوا {حم عسق} آيتين ولم يعدوا نظيرها وهو {كهيعص} آيتين بل آية واحدة فلو كان الأمر مبنيا على القياس لكان حكم المثلين واحدا فيما ذكر ولم يجيء هكذا مختلفا. ذلك مذهب الكوفيين لأنهم عدوا كل فاتحة من فواتح السور التي فيها شيء من حروف الهجاء آية سوى حمعسق فإنهم عدوها آيتين وسوى طس. ولم يعدوا من الآيات ما فيه ر وهو الر والمر وما كان مفردا وهو ق ص ن أي لم يعدوا شيئا منها آية. وغير الكوفيين لا يعتبرون شيئا من الفواتح آية إطلاقا. وحيث قلنا: إن المسألة توقيفية فلا يشتبهن عليك هذا الخلاف. لأن كلا وقف عند حدود ما بلغه أو علمه. ولا تقولن كيف عدوا ما هو كلمة واحدة آية؟ لأن الوارد عن الشارع هو هذا كما عدت كلمة {الرَّحْمَنُ} في صدر سورة الرحمن آية وكما عدت كلمة {مُدْهَامَّتَانِ} آية وقوفا عند الوارد. أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي. فقال: "ألم يقل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} . ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" اهـ. فهذا الحديث يدل على أن الفاتحة سبع آيات وعلى أنها هي المرادة بالسبع المثاني في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي هريرة أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي" اهـ. وأخرج مسلم والترمذي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم"؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم فضرب في صدري وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر" اهـ. وأخرج الخمسة إلا النسائي عن أبي مسعود البدري أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" اهـ. وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من الثلاثين من آل حم قال: يعني الأحقاف لأن السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين. وقال ابن العربي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الفاتحة سبع آيات وسورة الملك ثلاثون آية اهـ. رأي آخر: وبعض العلماء يذهب إلى أن معرفة الآيات منه ما هو سماعي توقيفي ومنها ما هو قياسي ومرجع ذلك إلى الفاصلة وهي الكلمة التي تكون آخر الآية نظيرها قرينة السجع في النثر وقافية البيت في الشعر. يقولون: فما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وقف عليه دائما تحققنا أنه فاصلة وما وصله دائما تحققنا أنه ليس فاصلة وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة واحتمل الوصل أن يكون غير فاصلة أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها وفي هذا مجال للقياس وهو ما ألحق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه لأمر يقتضي ذلك. ولا محظور فيه لأنه لا يؤدي إلى زيادة ولا نقصان في القرآن وإنما غايته تعيين محل الفصل أو الوصل. وقد يلاحظ في الكلمة الواحدة من القرآن أمران يقتضي أحدهما عدها من الفواصل والآخر يقتضي خلاف ذلك. مثال ذلك كلمة {عَلَيْهِمْ} الأولى في سورة الفاتحة منهم من يعتبرها رأس آية ومنهم من لا يراها كذلك. وسبب هذا أنهم اختلفوا في البسملة أهي آية من الفاتحة أم لا؟ مع اتفاقهم على أن عدد آيات الفاتحة سبع. فالذين ذهبوا إلى أن البسملة آية من الفاتحة جعلوا {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخر السور آية واحدة. والذين ذهبوا إلى أن البسملة ليست آية منها جعلوا الآية السابعة ما بعد كلمة {عَلَيْهِمْ} الأولى واعتبروا هذه الكلمة فاصلة لوقوعها في آخر الآية السادسة. ومن المرجحات لعدها فاصلة تحقق التناسب بين الآيات في المقدار بخلاف ما إذا لم يعتبر فاصلة فإن هذه الآية الأخيرة تطول وتزيد على ما سواها كثيرا. ومن المرجحات لعدم عدها فاصلة أنها لا تشاكل فواصل الفاتحة فإنه جاء في كل واحدة منها قبل الحرف الأخير ياء مد بخلاف هذه. أضف إلى ذلك أنه لم تجيء فاصلة على هذا النمط في سورة من السور. واعلم أنه قد تطلق الآية القرآنية ويراد بعضها أو أكثر. ولكن على ضرب من المجاز والتوسع فلا تتوقفن فيه. مثال إطلاق الآية على بعضها قول ابن عباس: أرجى آية في القرآن: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} فإن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الجملة الكريمة بعض آية باتفاق. ومثال إطلاق الآية على أكثر منها قول ابن مسعود: أحكم آية {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . فإنهما آيتان باتفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 عدد آيات القرآن : قال صاحب التبيان ما نصه: وأما عدد آي القرآن فقد اتفق العادون على أنه ستة آلاف ومائتا آية وكسر إلا أن هذا الكسر يختلف مبلغه باختلاف أعدادهم: ففي عدد المدني الأول سبع عشرة وبه قال نافع. وفي عدد المدني الأخير أربع عشرة عند شيبة وعشر عند أبي جعفر. وفي عدد المكي عشرون. وفي عدد الكوفي ست وثلاثون. وهو مروي عن حمزة الزيات. وفي عدد البصري خمس وهو مروي عن عاصم الجحدري. وفي رواية عنه أربع وبه قال أيوب بن المتوكل البصري وفي رواية عن البصريين أنهم قالوا: تسع عشرة وروي ذلك عن قتادة. وفي عدد الشامي ست وعشرون وهو مروي عن يحيى بن الحارث الذماري اهـ. وقال صاحب التبيان أيضا قبل ذلك ما نصه: عدد المكي منسوب إلى عبد الله بن كثير أحد السبعة وهو يروي ذلك عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب. وعدد المدني على ضربين: عدد المدني الأول وعدد المدني الأخير. فعدد المدني الأول غير منسوب إلى أحد بعينه. وإنما نقله أهل الكوفة عن أهل المدينة مرسلا ولم يسموا في ذلك أحدا وكانوا يأخذون به وإن كان لهم عدد مخصوص. وعدد المدني الأخير منسوب إلى أبي جعفر بن يزيد بن القعقاع أحد العشرة وشيبة بن نصاح. وقد رواه عنهما إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري بواسطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 سليمان بن جماز. وقد وهم من نسب عدد المدني الأول إلى أبي جعفر وشيبة وعدد المدني الأخير إلى إسماعيل ابن جعفر. وكأن الذي أوقعه في ذلك ما ذكر في بعض الكتب من أن نافعا روى عنهما عدد المدني الأول وأن أبا عمرو عرض العدد المذكور على أبي جعفر فإن رواية ذلك عنهما لا تقتضي نسبته إليهما. وأما نسبة عدد المدني الأخير إليهما فهو مما لا ريب فيه اهـ. ما أردنا نقله تنويرا في هذا الموضوع الذي اضطربت فيه بعض النقول. سبب هذا الاختلاف: سبب هذا الاختلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رؤوس الآي تعليما لأصحابه أنها رؤوس آي حتى إذا علموا ذلك وصل صلى الله عليه وسلم الآية بما بعدها طلبا لتمام المعنى فيظن بعض الناس أن ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فاصلة فيصلها بما بعدها معتبرا أن الجميع آية واحدة والبعض يعتبرها آية مستقلة فلا يصلها بما بعدها. وقد علمت أن الخطب في ذلك سهل لأنه لا يترتب عليه في القرآن زيادة ولا نقص. وآيات القرآن مختلفة في الطول والقصر فأطول آية هي الدين في سورة البقرة التي هي أطول سورة وأقصر آية كلمة {يس} الواقعة في صدر سورة يس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 فوائد معرفة الآيات : يزعم بعض الناس أنه لا فائدة من معرفة آيات القرآن. وللرد عليهم نذكر لهذه المعرفة ثلاث فوائد لا فائدة واحدة: الفائدة الأولى: العلم بأن كل ثلاث آيات قصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي حكمها الآية الطويلة التي تعدل بطولها تلك الثلاث القصار. ووجه ذلك أن الله تعالى أعلن التحدي بالسورة الواحدة فقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} والسورة تصدق بأقصر سورة كما تصدق بأطول سورة. وأقصر سورة في القرآن هي سورة الكوثر وهي ثلاث آيات قصار. فثبت أن كل ثلاث آيات قصار معجزة وفي قوتها الآية الواحدة الطويلة التي تكافئها. الفائدة الثانية: حسن الوقف على رؤوس الآي عند من يرى أن الوقف على الفواصل سنة بناء على ظاهر الحديث الذي استدلوا به فيما يرويه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف. قال صاحب التبيان في موضع آخر ما نصه: قال بعض العلماء: وفي الاستدلال به أي بذلك الحديث على ما ذكر نظر وذلك لأنه حديث غريب غير متصل الإسناد. رواه يحيى بن سعد الأموي وغيره عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة. والأصح ما رواه الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مالك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته فقالت: ما لكم وصلاته؟ ثم نعتت قراءته مفسرة حرفا حرفا. ذكر ذلك الترمذي اهـ. أقول: ويمكن الجمع بين هذين الحديثين بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان تارة يقف على كل فاصلة ولو لم يتم المعنى بيانا لرؤوس الآي. وكان تارة يتبع في الوقف تمام المعنى فلا يلتزم أن يقف على رؤوس الآي لتكون قراءته مفسرة حرفا حرفا. وعلى هذا يمكن أن يقال: حيثما كان الناس في حاجة إلى بيان الآيات حسن الوقف على رؤوس الآي ولو لم يتم المعنى وحيثما كان الناس في غنى عن معرفة رؤوس الآي لم يحسن الوقف إلا حيث يتم المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ويحتمل أن كلمة مفسرة حرفا حرفا في الحديث الآنف يراد بها الترتيل وإخراج الحروف من مخارجها فلا تعارض الحديث الأول. الفائدة الثالثة: اعتبار الآيات في الصلاة والخطبة قال السيوطي ما نصه: يترتب على معرفة الآي وعددها وفواصلها أحكام فقهية منها اعتبارها فيمن جهل الفاتحة فإنه يجب عليه بدلها سبع آيات. ومنها اعتبارها في الخطبة فإنه يجب فيها قراءة آية كاملة ولا يكفي شطرها إن لم تكن طويلة وكذا الطويلة على ما حققه الجمهور. ثم قال: ومنها اعتبارها في السورة التي تقرأ في الصلاة أو ما يقوم مقامها وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة. ومنها اعتبارها في قراءة قيام الليل إلى آخر ما قال. أ. هـ. ما أردنا نقله. بيد أنه نقل عن الهذلي في كامله ما نصه: اعلم أن قوما جهلوا العدد وما فيه من الفوائد حتى قال الزعفراني: إن العدد ليس بعلم وإنما اشتغل به بعضهم ليروج به سوقه. قال: وليس كذلك ففيه من الفوائد معرفة الوقف ولأن الإجماع انعقد على أن الصلاة لا تصح بنصف آية. وقال جمع من العلماء: تجزيء بآية وآخرون بثلاث آيات وآخرون لا بد من سبع. والإعجاز لا يقع بدون آية. فللعدد فائدة عظيمة في ذلك اهـ غير أنا لا ندري ما الذي أراده الهذلي على التعيين من كلامه هذا؟ ولا عن أي مذهب يتحدث؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ترتيب آيات القرآن انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذي نراه اليوم بالمصاحف كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه. بل كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها. ثم يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ويأمر كتاب الوحي بكتابتها معينا لهم السورة التي تكون فيها الآية وموضع الآية من هذه السورة. وكان يتلوه عليهم مرارا وتكرارا في صلاته وعظاته وفي حكمه وأحكامه. وكان يعارض به جبريل كل عام مرة وعارضه به في العام الأخير مرتين. كل ذلك كان على الترتيب المعروف لنا في المصاحف. وكذلك كان كل من حفظ القرآن أو شيئا منه من الصحابة حفظه مرتب الآيات على هذا النمط. وشاع ذلك وذاع وملأ البقاع والأسماع يتدارسونه فيما بينهم ويقرؤونه في صلاتهم ويأخذه بعضهم عن بعض ويسمعه بعضهم من بعض بالترتيب القائم الآن فليس لواحد من الصحابة والخلفاء الراشدين يد ولا تصرف في ترتيب شيء من آيات القرآن الكريم. بل الجمع الذي كان على عهد أبي بكر لم يتجاوز نقل القرآن من العسب واللخاف وغيرها في صحف والجمع الذي كان على عهد عثمان لم يتجاوز نقله من الصحف في مصاحف. وكلا هذين كان وفق الترتيب المحفوظ المستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى. أجل: انعقد الإجماع على ذلك تاما لا ريب فيه. وممن حكى هذا الإجماع جماعة منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر في المناسبات إذ يقول ما نصه: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين. واستند هذا الإجماع إلى نصوص كثيرة منها ما سبق لك قريبا ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} " إلى آخرها. ومنها ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بسور عديدة كسورة البقرة وآل عمران والنساء ومن قراءته لسورة الأعراف في صلاة المغرب وسورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وسورة الروم في صلاة الصبح وقراءة سورة السجدة وسورة {هَلْ أَتَى عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الْأِنْسَانِ} في صبح يوم الجمعة وقراءته سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة وقراءته سورة ق في الخطبة وسورة اقتربت وق في صلاة العيد كان يقرأ ذلك كله مرتب الآيات على النحو الذي في المصحف على مرأى ومسمع من الصحابة. ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها والمعنى لماذا تكتبها؟ أو قال لماذا تتركها مكتوبة؟ مع أنها منسوخة قال يا بن أخي لا أغير شيئا من مكانه. فهذا حديث أبلج من الصبح في أن إثبات هذه الآية في مكانها مع نسخها توقيفي لا يستطيع عثمان باعترافه أن يتصرف فيه لأنه لا مجال للرأي في مثله. ومنها: ما رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء". فأنت ترى أنه صلى الله عليه وسلم دله على موضع تلك الآية من سورة النساء وهي قوله سبحانه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الخ. ملاحظة: ذكر بعضهم أن كلمات القرآن 77934 أربع وثلاثون وتسعمائة وسبعة وسبعون ألف كلمة وذكر بعضهم غير ذلك. قيل وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار كل منها جائز وكل من العلماء اعتبر أحد ما هو جائز قال السخاوي: لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان. والقرآن لا يمكن فيه ذلك اهـ ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ورد من الأحاديث في اعتبار الحروف ما أخرجه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة. والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" وأخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب مرفوعا: "القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكل حرف زوجة من الحور العين". قال السيوطي بعد أن أورده: رجاله ثقات إلا شيخ الطبراني محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس تكلم فيه الذهبي ثم قال: وقد حمل ذلك أي العدد المذكور في هذا الحديث على ما نسخ رسمه من القرآن إذ الموجود الآن لا يبلغ هذا العدد وهو يريد أن هذا الرقم الكبير الذي روي في هذا الحديث ملحوظ فيه جميع الحروف النازلة من القرآن ما نسخ منها وما لم ينسخ والله تعالى أعلم. شبهة وتفنيدها يقولون: إن ابن أبي داود أخرج بسنده عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين في آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله ووعيتهما. فقال عمر: أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال: لو كانتا ثلاث آيات لجعلتها على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوهما في آخرها يقولون: هذا الحديث يدل على أن ترتيب الآيات لم يكن في القرآن كله بتوقيف إنما كان عن هوى من الصحابة وعن تصرف منهم ولو في البعض. ونجيب: أولا: بأن هذا الخبر معارض للقاطع وهو ما أجمعت عليه الأمة. ومعارض القاطع ساقط عن درجة الاعتبار فهذا خبر ساقط مردود على قائله. ثانيا: أنه معارض لما لا يحصى من الأخبار الدالة على خلافه وقد تقدم كثير منها. بل لابن أبي داود مخرجه خبر يعارضه ذلك أنه أخرج أيضا عن أبي أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ظنوا أن هذه آخر ما نزل فقال أبي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ترتيب السور معنى السورة: السورة في اللغة تطلق على ما ذكره صاحب القاموس بقوله: والسورة: المنزلة ومن القرآن معروفة لأنها منزلة بعد منزلة: مقطوطة عن الأخرى والشرف وما طال من البناء وحسن والعلامة وعرق من عروق الحائط اهـ. ويمكن تعريفها اصطلاحا بأنها طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. قالوا: وهي مأخوذة من سور المدينة. وذلك إما لما فيها من وضع كلمة بجانب كلمة وآية بجانب آية كالسور توضع كل لبنة فيه بجانب لبنة ويقام كل صف منه على صف. وإما لما في السورة من معنى العلو والرفعة المعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته الحسية وإما لأنها حصن وحماية لمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من كتاب الله القرآن ودين الحق الإسلام باعتبار أنها معجزة تخرس كل مكابر ويحق الله بها الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. أشبه بسور المدينة يحصنها ويحميها غارة الأعداء وسطوة الأشقياء. وسور القرآن مختلفة طولا وقصرا. فأقصر سورة فيه سورة الكوثر وهي ثلاث آيات قصار. وأطول سورة فيه سورة البقرة وهي خمس وثمانون أو ست وثمانون ومائتا آية. وأكثر آياتها من الآيات الطوال. بل فيها آية الدين التي هي أطول آية في القرآن كما سبق. وبين سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثيرة تختلف طولا وتوسطا وقصرا ومرجع الطول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والقصر والتوسط وتحديد المطلع والمقطع إلى الله وحده لحكم سامية علمها من علمها وجهلها من جهلها. حكمة تسوير السور: لتجزئة القرآن إلى سور فوائد وحكم: منها: التيسير على الناس وتشويقهم إلى مدارسة القرآن وتحفظه لأنه لو كان سبيكة واحدة لا حلقات بها لصعب عليهم حفظه وفهمه وأعياهم أن يخوضوا عباب هذا البحر الخضم الذي لا يشاهدون فيه عن كثب مرافئ ولا شواطئ. ومنها: الدلالة على موضوع الحديث ومحور الكلام فإن في كل سورة موضوعا بارزا تتحدث عنه كسورة البقرة وسورة يوسف وسورة النمل وسورة الجن. ومنها: الإشارة إلى أن طول السورة ليس شرطا في إعجازها بل هي معجزة وإن بلغت الغاية في القصر كسورة الكوثر. قال صاحب الكشاف في فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة ما نصه: منها: أي الفوائد أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا. ومنها: أن القارئ إذا أتم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ومثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفس ذلك عنه ونشط للسير ومن ثم جزيء القرآن أجزاء وأخماسا. ومنها: أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيعظم عنده ما حفظه ومنه حديث أنس: كان الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا". ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل. ومنها: أن التفصيل بحسب تلاحق الأشكال والنظائر وملائمة بعضها لبعض وبذلك تتلاحق المعاني والنظم إلى غير ذلك من الفوائد اهـ. أقسام السور: قسم العلماء سور القرآن إلى أربعة أقسام خصوا كلا منها باسم معين وهي: الطوال والمئين والمثاني والمفصل. فالطوال سبع سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف. فهذه ستة واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا لعدم الفصل بينهما بالبسملة أم هي سورة يونس؟؟. والمئون: هي السور التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها. والمثاني: هي التي تلي المئين في عدد الآيات. وقال الفراء: هي السور التي آيها أقل من مائة آية لأنها تثنى أي تكرر أكثر مما تثنى الطوال والمئون. والمفصل: هو أواخر القرآن واختلفوا في تعيين أوله على اثني عشر قولا فقيل أوله ق وقيل غير ذلك وصحح النووي أن أوله الحجرات. وسمي بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة وقيل لقلة المنسوخ منه ولهذا يسمى المحكم أيضا كما روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم. والمفصل ثلاثة أقسام: طوال وأوساط وقصار. فطواله من أول الحجرات إلى سورة البروج. وأوساطه من سورة الطارق إلى سورة لم يكن. وقصاره من سورة إذا زلزلت إلى آخر القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 المذاهب في ترتيب السور: اختلف في ترتيب السور على ثلاثة أقوال: الأول أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان باجتهاد من الصحابة. وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه. وإلى هذا المذهب يشير ابن فارس في كتاب المسائل الخمس بقوله: جمع القرآن على ضربين: أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو الذي تولته الصحابة رضي الله عنهم. وأما الجمع الآخر وهو الآيات في السور فذلك شيء تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه عز وجل. وقد استدلوا على رأيهما هذا بأمرين: أحدهما أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن في عهد عثمان فلو كان هذا الترتيب توقيفيا منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجازوه ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذي تصوره لنا الروايات. فهذا مصحف أبي بن كعب روي أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام. وهذا مصحف ابن مسعود كان مبدوءا بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران الخ على اختلاف شديد. وهذا مصحف علي كان مرتبا على النزول فأوله اقرأ ثم المدثر ثم ق ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني. الدليل الثاني: ما أخرجه ابن أشته في المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحيى عن أبي محمد القرشي قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم اهـ ولعله يشير بهذا إلى ما رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول: " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا". وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا. وكانت قصتها شبيهة بقصتها. فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما. ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال ا. هـ. ويمكن أن يناقش هذا المذهب بالأحاديث الدالة على التوقيف وستأتيك في الاحتجاج للقول الثاني. ويمكن أيضا مناقشة دليلهم الأول باحتمال أن اختلاف من خالف من الصحابة في الترتيب إنما كان قبل علمهم بالتوقيف أو كان في خصوص ما لم يرد فيه توقيف دون ما ورد فيه. ويمكن مناقشة دليلهم الثاني بأنه خاص بمحل وروده وهو سورة الأنفال والتوبة ويونس فلا يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن كله. القول الثاني: أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم. واستدل أصحاب هذا الرأي بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد. وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم. لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعا. ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف. إلى أن جاء في هذه الرواية ما نصه: فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طرأ علي حزب من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه" فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة وحزب المفصل من ق حتى نختم. قالوا: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن هذه الدلالة غير ظاهرة فيما نفهم اللهم إلا في ترتيب حزب المفصل خاصة بخلاف ما سواه. واحتجوا لمذهبهم أيضا بأن السور المتجانسة في القرآن لم يلتزم فيها الترتيب والولاء ولو كان الأمر بالاجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما لكن ذلك لم يكن بدليل أن سور المسبحات لم ترتب على التوالي بينما هي متماثلة في افتتاح كل منها بتسبيح الله. بل فصل بين سورها بسورة قد سمع والممتحنة والمنافقين وبدليل أن طسم الشعراء وطسم القصص لم يتعاقبا مع تماثلهما بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهي طس. وقد أيد هذا المذهب أبو جعفر النحاس فقال: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث واثلة: {أعطيت مكان التوراة السبع الطوال} . وكذلك انتصر أبو بكر الأنباري لهذا المذهب فقال: أنزل الله القرآن إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين سنة فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر ويقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآيات والحروف. كله من النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن. وأخرج ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل لم قدمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع وثمانون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 سورة بمكة وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به. إلى أن قال: فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه اهـ. ويمكن مناقشة هذا المذهب أولا: بأن الرواية التي ساقوها وأمثالها خاصة بمحالها فلا ينسحب حكم التوقيف على الكل. ثم هي ظنية في إفادة كون الترتيب عن توقيف. ثانيا: أن حديث ابن عباس السابق في القول الأول صريح في أن عثمان كان قد اجتهد في ترتيب الأنفال والتوبة ويونس. ثالثا: أن الإجماع الذي استندوا إليه لا يدل على توقيف في ترتيب جميع السور لأنه لا يشترط أن يستند الإجماع إلى نص في ترتيب جميع السور فحسب الصحابة أن يحملهم الاجتهاد الموفق على أن يجمعوا على ترتيب عثمان للسور ويتركوا ترتيب مصاحفهم توحيدا لكلمة الأمة وقطعا لعرق النزاع والفتنة إذا ترك كل ورأيه في هذا الترتيب. القول الثالث: أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة وقد ذهب إلى هذا الرأي فطاحل من العلماء. ولعله أمثل الآراء لأنه وردت أحاديث تفيد ترتيب البعض كما مر بك من الرأي الثاني القائل بالتوقيف وخلا البعض الآخر مما يفيد التوقيف. بل وردت آثار تصرح بأن الترتيب في البعض كان عن اجتهاد كالحديث الآنف في القول الأول المروي عن ابن عباس. بيد أن المؤيدين لهذا المذهب اختلفوا في السور التي جاء ترتيبها عن توقيف والسور التي جاء ترتيبها عن اجتهاد. فقال القاضي أبو محمد بن عطية: إن كثيرا من السور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 قد علم ترتيبها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل. وأما ما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده. وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى فيها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف كقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران" رواه مسلم. وكحديث سعيد بن خالد: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في ركعة رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وفيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة وروى البخاري عن ابن مسعود أنه قال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي"1 فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها. وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين. وقال السيوطي ما نصه: الذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال. ولا ينبغي أن يستدل بقراءة سور أولا على أن ترتيبها كذلك. وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء   1 العتاق: جمع عتيق, وهو القديم من كل شيء, والمراد بالعتاق هنا ما نزل أولا. والتلاد- بكسر التاء وفتحها- ضد الطارف وهو المستحدث من المال ونحوه. والمراد بالتلاد هنا, ما نزل أولا أيضا. قال في المختار: وفي الحديث هن من تلادي يعني السور, أي من الذي أخذته من القرآن قديما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 قبل آل عمران لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب. ولعله فعل ذلك لبيان الجواز اهـ. والأمر على كل حال سهل حتى لقد حاول الزركشي في البرهان أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيا فقال: والخلاف بين الفريقين أي القائلين بأن الترتيب عن اجتهاد والقائلين بأنه عن توقيف لفظي لأن القائل بالثاني يقول: إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور كان باجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد إسناد فعلي بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر وسبقه في ذلك جعفر بن الزبير اهـ. احترام هذا الترتيب: وسواء أكان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة. ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب. أما ترتيب السور في التلاوة فليس بواجب إنما هو مندوب. وإليك ما قاله الإمام النووي في كتابه التبيان إذ جاء في هذا الموضوع بما نصه: قال العلماء: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم ما بعدها على الترتيب سواء أقرأ في الصلاة أم في غيرها حتى قال بعض أصحابنا: إذا قرأ في الركعة الأولى سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 قال بعض أصحابنا: ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها. ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة فينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى سورة السجدة وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} . وصلاة العيد في الأولى {ق} وفي الثانية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . وركعتي الفجر في الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وركعات الوتر في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلي الأولى أو خالف الترتيب فقرأ سورة قبلها جاز فقد جاءت بذلك آثار كثيرة. وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الركعة الأولى من الصبح بالكهف وفي الثانية بيوسف. وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف. وروى ابن أبي داود عن الحسن أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه في المصحف. وبإسناده الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا فقال: ذلك منكوس القلب. وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا متأكدا لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز ويزيل حكمة ترتيب الآيات. وقد روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخعي الإمام التابعي الجليل وعن الإمام مالك بن أنس أنهما كرها ذلك وأن مالكا كان يعيبه ويقول: هذا عظيم. وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن وليس هذا من الباب فإن ذلك قراءة متفاضلة في أيام متعددة على ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم والله أعلم اهـ رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 شبهتان خفيفتان: الشبهة الأولى يقولون: كيف كان ترتيب القرآن توقيفيا مع أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة؟. والجواب أن هذه الشبهة لا ترد على القائلين بأن ترتيب السور كلها اجتهادي أما القائلون بأن منه اجتهاديا ومنه توقيفيا فمن السهل الجواب عنهم بأن الاختلاف بين الصحابة وقع في القسم الاجتهادي لا التوقيفي. وأما القائلون بأن ترتيب السور كله توقيفي فيمكن الجواب عنهم بأنهم اختلفوا فيما اختلفوا قبل أن يعلموا التوقيف فيه. ولما جمع عثمان القرآن على هذا الترتيب علموا ما لم يكونوا يعلمونه ولذلك تركوا ترتيب مصاحفهم وأخذوا بترتيب عثمان. ويهون الأمر في اختلاف مصاحفهم أنها كانت مصاحف فردية لم يكونوا يكتبونها للناس إنما كانوا يكتبونها لأنفسهم فبدهي أن الواحد منها لم يثبت فيها إلا ما وصل إليه بمجهوده الفردي وقد يفوته ما لم يفت سواه من تحقيق أدق أو علم أوسع. ولهذا كان يوجد بتلك المصاحف الفردية بعض آيات قد تكون منسوخة وربما لم يبلغ صاحب ذاك المصحف نسخها. وقد يهمل صاحب المصحف إثبات صورة لشهرتها وغناها بهذه الشهرة عن الإثبات كما ورد أن مصحف ابن مسعود لم تكن به الفاتحة. وقد يكتب صاحب المصحف ما يرى أنه بحاجة إليه من غير القرآن في نفس المصحف كما تقدم ذلك في قنوت الحنفية الذي روى أن بعض الصحابة كان قد كتبه بمصحفه وسماه سورة الخلع والحفد. الشبهة الثانية يقولون: كيف يكون ترتيب القرآن توقيفيا على حين أن رواية ابن عباس السابقة تصرح بأن عثمان لم يسمع في شأن ترتيب الأنفال مع براءة شيئا إنما هو اجتهاد ونظر منه؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والجواب: أن هذه الشبهة لا ترد على القول بأن الترتيب اجتهادي ولا على القول بأن منه اجتهاديا ومنه توقيفيا. أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن اجتهاد عثمان كان فيما لم يرد فيه توقيف من الشارع. أما القول بأن ترتيب السور كله توقيفي فقد أجابوا على هذه الشبهة بجوابين: أولهما: أن حديث ابن عباس هذا غير صحيح لأن الترمذي وهو راويه قال في تخريجه: إنه حسن غريب لا يعرف إلا من طريق يزيد الفارسي عن ابن عباس. ويزيد هذا مجهول الحال فلا يصح الاعتماد على حديثه الذي انفرد به في ترتيب القرآن. ثانيهما: أنه على فرض صحته يجوز أن جواب عثمان لابن عباس كان قبل أن يعلم بالتوقيف ثم علمه بعد ذلك. لكن يرد على هذا الجواب ان الرواية تفيد أن جواب عثمان هذا كان بعد جمع القرآن وترتيب سوره فكيف كان توقيفيا وعثمان هو الجامع والمرتب ولا يعلم دليل التوقيف؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 المبحث العاشر: في كتابة القرآن ورسمه ومصاحفه وما يتعلق بذلك 1- الكتابة معروف أن الأمة العربية كانت موسومة بالأمية مشهورة بها لا تدري ما الكتابة ولا الخط. وجاء القرآن يتحدث عن أميتها هذه فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . ولن يشذ عن هذه القاعدة إلا أفراد قلائل في قريش تعلموا الخط ودرسوه قبيل الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وكأن ذلك كان إرهاصا من الله وتمهيدا لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير دين الإسلام وتسجيل الوحي المنزل عليه بالقرآن لأن الكتابة أدعى إلى حفظ التنزيل وضبطه وأبعد عن ضياعه ونسيانه. وكادت تتفق كلمة المؤرخين على أن قريشا في مكة لم تأخذ الخط إلا عن طريق حرب بن أمية بن عبد شمس. لكنهم اختلفوا فيمن أخذ عنه حرب. فرواية أبي عمرو الداني تذكر أنه تعلم الخط من عبد الله بن جدعان وفيها يقول زياد بن أنعم قلت لابن عباس معاشر قريش هل كنتم تكتبون في الجاهلية بهذا الكتاب العربي تجمعون فيه ما اجتمع وتفرقون فيه ما افترق هجاء بالألف واللام والميم والشكل والقطع وما يكتب به اليوم؟ قال ابن عباس: نعم. قلت: فمن علمكم الكتابة؟ قال حرب بن أمية قلت: فمن علم حرب بن أمية؟ قال عبد الله بن جدعان قلت: فمن علم عبد الله بن جدعان؟ قال: أهل الأنبار قلت: فمن علم أهل الأنبار؟ قال: طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن من كندة قلت: فمن علم ذلك الطارئ؟ قال: الخلجان بن الموهم كان كاتب هود نبي الله عز وجل. أما رواية الكلبي فتقص علينا أن حربا تعلم الكتابة من بشر بن عبد الملك وفيها يقول عوانة: أول من كتب بخطنا هذا وهو الجزم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وكذا عامر بن جدرة وهم من عرب طيىء تعلموه من كاتب الوحي لسيدنا هود عليه السلام ثم علموه أهل الأنبار ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرهما. فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق فتعلم حرب منه الكتابة ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان فتعلم منه جماعة من أهل مكة اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ومن هنا وجد عدد يحذق الخط والكتابة قبيل الإسلام ولكنهم نزر يسير بجانب تلك الكثرة الغامرة من الأميين. وفي ذلك يمتن رجل من أهل دومة الجندل على قريش فيقول: لا تجحدوا نعماء بشر عليكمو ... فقد كان ميمون النقيبة أزهرا أتاكم بخط الجزم1 حتى حفظتمو ... من المال ما قد كان شتى مبعثرا فأجريتم الأقلام عودا وبدأة ... وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا وأغنيتمو عن مسند الحي حمير ... وما زبرت في الصحف أقلام حميرا أولئك أهل مكة. أما أهل المدينة فكان بينهم أهل الكتاب من اليهود وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها يهودي يعلم الصبيان الكتابة وكان فيها بضعة عشر رجلا يحذقون الكتابة منهم المنذر بن عمرو وأبي بن وهب وعمرو بن سعيد وزيد بن ثابت الذي تعلم كتابة اليهود بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم. شأن الكتابة في الإسلام: ثم جاء الإسلام فحارب فيما حارب أمية العرب وعمل على محوها وطفق يرفع من شأن الكتابة ويعلي من مقامها. وإن كنت في شك فهذه أوائل آيات نزلن من القرآن الكريم يشيد الحق فيها بالقلم وما يعلم الله عباده بوساطة القلم إذ يقول جلت حكمته: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى أن قال: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وهذه سورة ن يحلف العلي الأعلى فيها بالقلم وما يسطرون إذ يقول: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . وهذا من أروع ألوان التنبيه إلى جلال الخط والكتابة ومزاياهما.   1 سمي بالجزم لأنه جزم- أي قطع- من الخط المسمى بالمسند, وهو خط حمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع أصحابه دفعا إلى أن يتعلموا الخط ويحذقوا الكتابة ويهيىء لهم السبل بكل ما يستطيع من وسيلة مشروعة. حتى لقد ورد أن المسلمين في غزوة بدر أسروا ستين مشركا فكان مما يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم في فداء الواحد منهم أن يعلم عشرة من أصحابه الكتابة والخط. وهكذا أعلن الرسول بعمله هذا أن القراءة والكتابة عديلان للحرية وهذا منتهى ما تصل إليه الهمم في تحرير شعب أمي من رق الأمية. وبمثل هذه الطريقة أخذت ظلمات الأمية تتبدد بأنوار الإسلام شيئا فشيئا وحل محلها العلم والكتابة والقراءة. وهذا من أدل الأدلة على أن الإسلام دين العلم والحضارة والمدنية. النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب: حتى لقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرف القراءة والكتابة في آخر أمره بعد أن قامت حجته. وعلت كلمته وعجز العرب في مقام التحدي عن أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الذي جاء به وكأن الحكمة في ذلك هي الإشارة إلى شرف الخط والكتابة. وأن أمية الرسول صلى الله عليه وسلم في أول أمره إنما كانت حالا وقتية اقتضاها إقامة الدليل والإعجاز واضحا على صدق محمد في نبوته ورسالته وأنه مبعوث الحق إلى خليقته ولو كان وقتئذ كاتبا قارئا وهم أميون لراجت شبهتهم في أن ما جاء به نتيجة اطلاع ودرس وأثر نظر في الكتب وبحث. وفي هذا المعنى يقول سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} . قال العلامة الألوسي بعد تفسيره لهذه الآية ما نصه: واختلف في أنه صلى الله عليه وسلم أكان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا فقيل إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب وقال: إنه الأصح. وادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب1 تعرف الكتابة حينئذ. وروى ابن أبي شيبة وغيره: ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال: سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه. وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر". ثم قال: ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث. وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة وحكاه عن السمناني. وصنف فيه كتابا وسبقه إليه ابن منية. ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاه وكتب به إلى علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه ومعرفة الكتاب بعد أميته صلى الله عليه وسلم لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم.   1 لعل مراده بهذه الكلمة, ظهور فساد الارتياب وأنه لا قيمة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وقد رد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله كتب فمعناه أمر بالكتابة كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان. وتقديم قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِ} على قوله سبحانه: {وَلا تَخُطُّهُ} كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا. وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد. وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده فقال: يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة. وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيته. ثم قال الألوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه: ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام. ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتبة فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض إن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب كالنص في أنه صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا. فالله تعالى أعلم اهـ. وأقول إن التشنيع ليس من دأب العلماء ولا من أدب الباحثين. والمسألة التي نحن بصددها مسألة نظرية. والحكم في أمثالها يجب أن يكون لما رجح من الأدلة لا للهوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 والشهوة. ونحن إذا استعرضنا حجج هؤلاء وهؤلاء نلاحظ أن أدلة أميته صلى الله عليه وسلم قطعية يقينية. وأن أدلة كونه كتب وخط بيمينه ظنية غير يقينية ولم يدع أحد أنها قطعية يقينية. ثم إن التعارض ظاهر فيما بين هذه وتلك. غير أنه تعارض ظاهري يمكن دفعه بأن نحمل أدلة الأمية على أولى حالاته صلى الله عليه وسلم وأن نحمل أدلة كتابته على أخريات حالاته وذلك جمعا بين الأدلة. ولا ريب أن الجمع بينها أهدى سبيلا من إعمال البعض وإهمال البعض ما دام في كل منها قوة الاستدلال وما دام الجمع ممكنا على أية حال. أما لو لم يمكن الجمع فلا مشاحة حينئذ في قبول القطعي ورد الظني لأن الأول أقوى من الثاني {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . هذا هو الميزان الصحيح لدفع التعارض والترجيح فاحكم به عند الاختلاف والاشتباه {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . كتابة القرآن: بعد ما قصصنا عليك من تلك الفذلكة التاريخية في الخطوط والكتابة العربية نلفت نظرك إلى أن كتابة القرآن وفيناها بحثها في مبحث جمع القرآن من ص 232 إلى ص 256 وذكرنا هناك كيف كتب القرآن؟ وفيم كتب؟ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم على عهد عثمان رضي الله عنهما. ومنه تعلم أن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكتابة القرآن كانت عناية فائقة يدلك على هذه العناية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب يكتبون الوحي منهم الأربعة الخلفاء ومعاوية وأبان بن سعيد وخالد بن الوليد وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس وأرقم بن أبي وحنظلة بن الربيع وغيرهم. فكان صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه شيء يدعو أحد كتابه هؤلاء ويأمره بكتابة ما نزل عليه ولو كان كلمة كما روي أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 لما نزل عليه قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} قال ابن أم مكتوم وعبد الله بن جحش: يا رسول الله إنا أعميان فهل لنا رخصة؟ فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بالكتف والدواة" وأمر زيدا أن يكتبها. فكتبها فقال زيد كأني أنظر إلى موضعها عند صدع الكتف. ورواية البخاري اقتصرت هنا على عبد الله بن أم مكتوم وليس فيها ابن جحش. ولعلك لم تنس حديث ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: "ضعوا هذه في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا". وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه" وقول أبي بكر لزيد بن ثابت: إنك رجل شاب لا نتهمك. وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أضف إلى ذلك أن الصحابة كانوا يكتبون القرآن فيما يتيسر لهم حتى في العظام والرقاع وجريد النخل ورقيق الحجارة ونحو ذلك مما يدل على عظيم بلائهم في هذا الأمر الجلل رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ب - رسم المصحف رسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن وحروفه. والأصل في المكتوب أن يكون موافقا تمام الموافقة للمنطوق من غير زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تغيير. لكن المصاحف العثمانية قد أهمل فيها هذا الأصل فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها مخالفا لأداء النطق وذلك لأغراض شريفة ظهرت وتظهر لك فيما بعد. وقد عني العلماء بالكلام على رسم القرآن وحصر تلك الكلمات التي جاء خطها على غير مقياس لفظها. وقد أفرده بعضهم بالتأليف منهم الإمام أبو عمرو الداني إذ ألف فيه كتابه المسمى المقنع. ومنهم العلامة أبو عباس المراكشي إذ ألف كتابا أسماه: عنوان الدليل في رسوم خط التنزيل. ومنهم العلامة الشيخ محمد بن أحمد الشهير بالمتولي إذ نظم أرجوزة سماها اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم ثم جاء العلامة المرحوم الشيخ محمد خلف الحسيني شيخ المقارىء بالديار المصرية فشرح تلك المنظومة وذيل الشرح بكتاب سماه مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن. قواعد رسم المصحف: وللمصحف العثماني قواعد في خطه ورسمه حصرها علماء الفن في ست قواعد وهي الحذف والزيادة والهمز والبدل والفصل والوصل وما فيه قراءتان فقرئ على إحداهما. وهاك شيئا عنها بالإجمال ليكون الفرق بينها وبين مصطلح الخطوط في عصرنا على بال منك:- قاعدة الحذف: خلاصتها أن الألف تحذف من ياء النداء نحو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ومن ها التنبيه نحو {هَا أَنْتُمْ} ومن كلمة نا إذا وليها ضمير نحو {أَنْجَيْنَاكُمْ} 1 ومن لفظ الجلالة {اللَّهِ} ومن كلمة {إِلَهَ} ومن لفظي {الرَّحْمَنِ وَسُبْحَانَ} وبعد لام نحو كلمة {خَلائِفَ} وبين اللامين في نحو {الْكَلالَةِ} ومن كل مثنى نحو {رَجُلانِ} ومن كل جمع تصحيح لمذكر أو لمؤنت نحو {سَمَّاعُونَ} {الْمُؤْمِنَاتِ} ومن كل جمع على وزن مفاعل وشبهه نحو {الْمَسَاجِدِ} {وَالنَّصَارَى} ومن كل عدد نحو {ثَلاثَ} . ومن البسملة ومن أول الأمر من سأل وغير ذلك إلا ما استثني من هذا كله. وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا نحو {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} . ومن هذه الكلمات {وَأَطِيعُونِ, وَاتَّقُونِ, وَخَافُونِ, فَارْهَبُونِ, فَأَرْسِلُونِ, فَاعْبُدُونِ} إلا ما استثني. وتحذف الواو: إذا وقعت مع واو أخرى في نحو: {لا يَسْتَوُونَ, فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} . وتحذف اللام: إذا كانت مدغمة في مثلها نحو: الليل والذي إلا ما استثني. وهناك حذف لا يدخل تحت قاعدة كحذف الألف من كلمة مالك وكحذف الياء من إبراهيم وكحذف الواو من هذه الأفعال الأربعة: ويدعو الإنسان ويمحو الله الباطل يوم يدعو الداع سندعو الزبانية. قاعدة الزيادة. خلاصتها أن الألف تزاد بعد الواو في آخر كل اسم مجموع أو في حكم المجموع نحو: ملاقوا ربهم بنوا إسرائيل أولوا الألباب وبعد الهمزة المرسومة واوا نحو {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} فإنها ترسم هكذا: تالله تفتؤا. وفي كلمات مائة ومائتين والظنون والرسول والسبيل في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} . {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} . {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} .   1 كل هذه الأمثلة ترسم بدون ألف هكذا: أنجينكم. الله. إله. الرحمن. الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وتزاد الياء في هذه الكلمات: {نَبَأَ, آنَاءَ, مِنْ تِلْقَاءِ, بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ, بِأَيْدٍ} من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} . وتزاد الواو في نحو {أُولُو, أُولَئِكَ, أُولاءِ, أُولاتِ} . قاعدة الهمز خلاصتها أن الهمزة إذا كانت ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها نحو {ائْذَنْ, اؤْتُمِنَ, الْبَأْسَاءِ} إلا ما استثني. أما الهمزة المتحركة فإن كانت أول الكلمة واتصل بها حرف زائد كتبت بالألف مطلقا سواء أكانت مفتوحة أم مكسورة نحو {أَيُّوبَ, أُولُو, إِذَا, سَأَصْرِفُ, سَأُنْزِلُ, فَبِأَيِّ} إلا ما استثني. وإن كانت الهمزة وسطا فإنها تكتب بحرف من جنس حركتها نحو {سَأَلَ, سُئِلَ, تَقْرَأَهُ} إلا ما استثني. وإن كانت متطرفة كتبت بحرف من جنس حركة ما قبلها نحو {سَبَأٍ, شَاطِئِ, لُؤْلُؤٌ} إلا ما استثني وإن سكن ما قبلها حذفت1 نحو {مِلءُ الْأَرْضِ, يُخْرِجُ الْخَبْءَ} إلا ما استثني. والمستثنيات كثيرة في الكل. قاعدة البدل: خلاصتها أن الألف تكتب واوا للتفخيم في مثل الصلاة والزكاة والحياة إلا ما استثني وترسم ياء إذا كانت منقلبة عن ياء نحو {يَتَوَفَّاكُمْ يَا حَسْرَتَى يَا أَسَفَىْ} . وكذلك ترسم الألف ياء في هذه الكلمات: {إِلَى, عَلَى, أَنَّى -بمعنى كيف- مَتَى, بَلَى, حَتَّى, لَدَى} ما عدا {لَدَى الْبَابِ} في سورة يوسف فإنها ترسم ألفا. وترسم النون ألفا في نون التوكيد الخفيفة وفي كلمة إذن. وترسم هاء التأنيث تاء مفتوحة في كلمة {رَحْمَتَ} بالبقرة والأعراف وهود ومريم والروم والزخرف. وفي كلمة {نِعْمَةَ} بالبقرة وآل عمران والمائدة وإبراهيم والنحل ولقمان وفاطر والطور. وفي كلمة {لَعْنَةُ اللَّهِ} . وفي كلمة   1 أي حذفت من الحرف ورسمت مفردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 معصية بسورة قد سمع. وفي هذه الكلمات: إن شجرة الزقوم قرة عين جنة نعيم بقية الله وفي كلمة امرأة أضيفت إلى زوجها نحو امرأة عمران امرأة نوح وفي غير ذلك. قاعدة الوصل والفصل: خلاصتها أن كلمة أن بفتح الهمزة توصل بكلمة لا إذا وقعت بعدها. ويستثنى من ذلك عشرة مواضع. منها: أن لا تقولوا أن لا تعبدوا إلا الله. وكلمة من توصل بكلمة ما إذا وقعت بعدها. ويستثنى {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} في النساء والروم و {مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} في سورة المنافقين. وكلمة من توصل بكلمة من مطلقا. وكلمة عن توصل بكلمة ما. إلا قوله سبحانه {عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} . وكلمة إن بالكسر توصل بكلمة ما التي بعدها إلا قوله سبحانه: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ} . وكلمة أن بالفتح توصل بكلمة ما مطلقا من غير استثناء. وكلمة كل توصل بكلمة ما التي بعدها إلا قوله سبحانه {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ} , {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} . وتوصل كلمات {نِعِمَّا, ورُبَمَا, وكَأَنَّمَا, وَيْكَأَنَّهُ} ونحوها. قاعدة ما فيه قراءتان: خلاصتها أن الكلمة إذا قرئت على وجهين تكتب برسم أحدهما كما رسمت الكلمات الآتية بلا ألف في المصحف وهي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ, يُخَادِعُونَ اللَّهَ, وَوَاعَدْنَا مُوسَى, تُفَادُوهُمْ} ونحوها وكلها مقروءة بإثبات الألف وحذفها. وكذلك رسمت الكلمات الآتية بالتاء المفتوحة وهي غيابة الجب أنزل عليه آية في العنكبوت ثمرة من أكمامها في فصلت وهم في الغرفة آمنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 في سبأ. وذلك لأنها جمعاء مقروءة بالجمع والإفراد. وغير هذا كثير وحسبنا ما ذكرناه للتمثيل والتنوير. مزايا الرسم العثماني: لهذا الرسم مزايا وفوائد: الفائدة الأولى: الدلالة في القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة بقدر الإمكان وذلك أن قاعدة الرسم لوحظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر كتبت بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر. فإن كان الحرف الواحد لا يحتمل ذلك بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل وذلك ليعلم جواز القراءة به وبالحرف الذي هو الأصل. وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة بحرف الأصل رسمت به. مثال الكلمة تكتب بصورة واحدة وتقرأ بوجوه متعددة قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} رسمت في المصحف العثماني هكذا: إن هدان لساحران من غير نقط ولا شكل ولا تشديد ولا تخفيف في نوني إن وهذان ومن غير ألف ولا ياء بعد الذال من هذان. ومجيء الرسم كما ترى كان صالحا عندهم لأن يقرأ بالوجوه الأربعة التي وردت كلها بأسانيد صحيحة. أولها: قراءة نافع ومن معه إذ يشددون نون إن ويخففون هذان بالألف. ثانيها: قراءة ابن كثير وحده إذ يخفف النون في إن ويشدد النون في هذان. ثالثها: قراءة حفص إذ يخفف النون في إن وهذان بالألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 رابعها: قراءة أبي عمرو بتشديد إن وبالياء وتخفيف النون في هذين فتدبر هذه الطريقة المثلى الضابطة لوجوه القراءة لتعلم أن سلفنا الصالح كان في قواعد رسمه للمصحف أبعد منا نظرا وأهدى سبيلا. الفائدة الثانية: إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة وذلك نحو قطع كلمة أم في قوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} ووصلها في قوله تعالى: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إذ كتبت هكذا أمن بإدغام الميم الأولى في الثانية وكتابتهما ميما واحدة مشددة فقط أم الأولى في الكتابة للدلالة على أنها أم المنقطعة التي بمعنى بل ووصل أم الثانية للدلالة على أنها ليست كتلك. الفائدة الثالثة: الدلالة على معنى خفي دقيق كزيادة الياء في كتابة كلمة أيد من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} إذ كتبت هكذا {بِأَيْدٍ} وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ومن هذا القبيل كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي: ويدعو الإنسان ويمحو الله الباطل يوم يدعو الداع سندعوا الزبانية فإنها كتبت في المصحف العثماني هكذا: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ, وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ, يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ, سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 قالوا: والسر في حذفها من {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ} هو الدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير بل إثبات الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير. والسر في حذفها من {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله. والسر في حذفها من {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين. والسر في حذفها من {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش ويجمع هذه الأسرار قول المراكشي: والسر في حذفها من هذه الأربعة سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود اهـ. الفائدة الرابعة: الدلالة على أصل الحركة مثل كتابة الكسرة ياء في قوله سبحانه {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} إذ تكتب هكذا وإيتاءى ذي القربى ومثل كتابة الضمة واوا في قوله سبحانه: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} إذ كتبت هكذا سأوريكم ومثل ذلك الدلالة على أصل الحرف نحو الصلاة والزكاة إذ كتبا هكذا: الصلوة الزكوة ليفهم أن الألف فيهما منقلبة عن واو. من غير نقط ولا شكل كما سبق. الفائدة الخامسة: إفادة بعض اللغات الفصيحة مثل كتابة هاء التأنيث تاء مفتوحة دلالة على لغة طيىء وقد تقدمت الأمثلة لهذا النوع. ومثل قوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} كتبت بحذف الياء هكذا يأت للدلالة على لغة هذيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الفائدة السادسة: حمل الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال ولا يتكلوا على هذا الرسم العثماني الذي جاء غير مطابق للنطق الصحيح في الجملة. وينضوي تحت هذه الفائدة مزيتان إحداهما التوثق من ألفاظ القرآن وطريقة أدائه وحسن ترتيله وتجويده. فإن ذلك لا يمكن أن يعرف على وجه اليقين من المصحف مهما تكن قاعدة رسمه واصطلاح كتابته. فقد تخطئ المطبعة في الطبع وقد يخفى على القارئ بعض أحكام تجويده كالقلقلة والإظهار والإخفاء والإدغام والروم والإشمام ونحوها فضلا عن خفاء تطبيقها. ولهذا قرر العلماء أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها. بل لا بد من التثبت في الأداء والقراءة بالأخذ عن حافظ ثقة. وإن كنت في شك فقل لي بربك: هل يستطيع المصحف وحده بأي رسم يكون أن يدل قارئا أيا كان على النطق الصحيح بفواتح السور الكريمة؟ مثل {كهيعص، حم، عسق طسم} ؟ ومن هذا الباب الروم والإشمام في قوله سبحانه {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} من كلمة {لا تَأْمَنَّا} . المزية الثانية اتصال السند برسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك خاصة من خواص هذه الأمة الإسلامية امتازت بها على سائر الأمم. قال ابن حزم: نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل. وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من كتب اليهود ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد صلى الله عليه وسلم. بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرا. إنما يبلغون إلى شمعون ونحوه. ثم قال: وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق. وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 النقل المشتمل على طريق فيه كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى. وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا صاحب نبي أو تابعي ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص. اهـ. هل رسم المصحف توقيفي؟ للعلماء في رسم المصحف آراء ثلاثة: الرأي الأول: أنه توقيفي لا تجوز مخالفته. وذلك مذهب الجمهور. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب يكتبون الوحي وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم وأقرهم الرسول على كتابتهم ومضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل. بل ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الدستور لكتاب الوحي في رسم القرآن وكتابته. ومن ذلك قوله لمعاوية وهو من كتبة الوحي: "ألق الدواة وحرف القلم وأنصب الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك". ثم جاء أبو بكر فكتب القرآن بهذا الرسم في صحف ثم حذا حذوه عثمان في خلافته فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف على تلك الكتبة وأقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين وانتهى الأمر بعد ذلك إلى التابعين وتابعي التابعين فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم ولم ينقل أن أحدا منهم فكر أن يستبدل به رسما آخر من الرسوم التي حدثت في عهد ازدهار التأليف ونشاط التدوين وتقدم العلوم. بل بقي الرسم العثماني محترما متبعا في كتابة المصاحف لا يمس استقلاله ولا يباح حماه. وملخص هذا الدليل أن رسم المصاحف العثمانية ظفر بأمور كل واحد منها يجعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 جديرا بالتقدير ووجوب الاتباع. تلك الأمور هي إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وأمره بدستوره. وإجماع الصحابة وكانوا أكثر من اثني عشر ألف صحابي عليه ثم إجماع الأمة عليه بعد ذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين. وأنت خبير بأن اتباع الرسول واجب فيما أمر به أو أقر عليه لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والاهتداء بهدي الصحابة واجب خصوصا الخلفاء الراشدين لحديث العرباض بن سارية وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" ولا ريب أن إجماع الأمة في أي عصر واجب الاتباع خصوصا العصر الأول. قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . وممن حكى إجماع الأمة على ما كتب عثمان صاحب المقنع إذ يروي بإسناده إلى مصعب بن سعد قال: أدركت الناس حين شقق عثمان رضي الله عنه المصاحف فأعجبهم ذلك ولم يعبه أحد وكذلك يروي شارح العقيلة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عثمان أرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين مصحفا وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف الذي أرسل إليهم. ولم يعرف أن أحدا خالف في رسم هذه المصاحف العثمانية. وانعقاد الإجماع على تلك المصطلحات في رسم المصحف دليل على أنه لا يجوز العدول عنها إلى غيرها. ويرحم الله الإمام الخراز إذ يقول: وبعده جرده الإمام ... في مصحف ليقتدي الأنام ولا يكون بعده اضطراب ... وكان فيما قد رأى صواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وقصة اختلافهم شهيره ... كقصة اليمامة العسيره فينبغي لأجل ذا أن نقتفي ... مرسوم ما أصله في المصحف ونقتدي بفعله وما رأى ... في جعله لمن يخط ملجأ أقوال العلماء في التزام الرسم العثماني: روى السخاوي بسنده أن مالكا رحمه الله سئل: أرأيت من استكتب مصحفا أترى أن يكتب على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم. فقال: لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى. قال السخاوي: والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى ولا شك أن هذا هو الأحرى بعد الأخرى. إذ في خلاف ذلك تجهيل الناس بأولية ما في الطبقة الأولى. وقال أبو عمرو الداني: لا مخالف لمالك من علماء الأمة في ذلك. وقال أبو عمرو الداني أيضا: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو: يعني الألف والواو المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولوا. وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك. وجاء في حواشي المنهج في فقه الشافعية ما نصه: كلمة الربا تكتب بالواو والألف كما جاء في الرسم العثماني ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف لأن رسمه سنة متبعة. وجاء في المحيط البرهاني في فقه الحنفية ما نصه: إنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وقال العلامة نظام الدين النيسابوري ما نصه: وقال جماعة من الأئمة إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتابة أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه. وقال البيهقي في شعب الإيمان: من كتب مصحفا ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه شيئا فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم اهـ. ويمكن مناقشة هذا الرأي الأول بأن الأدلة التي ساقوها لا تدل على تحريم كتابة القرآن بغير هذا الرسم إذ ليس فيها زجر الإثم ووعيده ولا نهي الحرام وتهديده. إنما قصاراها الدلالة على جواز الكتابة بالرسم العثماني ووجاهته ودقته. وذلك محل اتفاق وتسليم. الرأي الثاني: أن رسم المصاحف اصطلاحي لا توقيفي وعليه فتجوز مخالفته. وممن جنح إلى هذا الرأي ابن خلدون في مقدمته. وممن تحمس له القاضي أبو بكر في الانتصار إذ يقول ما نصه: وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف. وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود لا يجوز تجاوزه ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلت عليه القياسات الشرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته. ولذلك اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول وأن يجعل اللام على صورة الكاف وأن تعوج الألفات وأن يكتب على غير هذه الوجوه وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة وجاز أن يكتب بين ذلك. وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة وكان الناس قد أجازوا ذلك وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته وما هو أسهل وأشهر وأولى من غير تأثيم ولا تناكر علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص كما أخذ عليهم في القراءة والأذان. والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أي صورة كانت. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه. وأنى له ذلك؟ اهـ بتلخيص. ونوقش هذا المذهب: أولا: بالأدلة التي ساقها جمهور العلماء لتأييد مذهبهم. وها هي بين يديك عن كثب بعضها من السنة وبعضها من إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم. ثانيا: أن ما ادعاه من أنه ليس في نصوص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه مردود بما سبق من إقرار الرسول كتاب الوحي على هذا الرسم ومنهم زيد بن ثابت الذي كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 المصحف لأبي بكر وكتب المصاحف لعثمان والحديث الآنف وفيه يقول الرسول لمعاوية: "ألق الدواة وحرف القلم" الخ. فإنه حجة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واضع دستور الرسم لهم. ثالثا: أن قول القاضي أبي بكر: ولذلك اختلفت خطوط المصاحف الخ لا يسلم له بعد قيام الإجماع وانعقاده ومعرفة الناس بالرسم التوقيفي وهو رسم عثمان على ما قرروه هناك. ونزيدك هنا ما ذكره العلامة ابن المبارك نقلا عن العارف بالله شيخه عبد العزيز الدباغ إذ يقول في كتابه الإبريز ما نصه: رسم القرآن سر من أسرار الله المشاهدة وكمال الرفعة قال ابن المبارك فقلت له: هل رسم الواو بدل الألف في نحو "الصلاة، والزكاة، والحياة، ومشكاة". وزيادة الواو في "سأوريكم، وأولئك، وأولاء، وأولات". وكالياء في نحو "هديهم، وملائه، وبأبيكم، وبأييد". هذا كله صادر من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة؟ فقال: هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الكتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن جماعة من العلماء ترخصوا في أمر الرسم وقالوا: إنما هو اصطلاح من الصحابة مشوا فيه على ما كانت قريش تكتب عليه في الجاهلية. وإنما صدر ذلك من الصحابة لأن قريشا تعلموا الكتابة من أهل الحيرة وأهل الحيرة ينطقون بالواو في الربا فكتبوا على وفق منطقهم. وأما قريش فإنهم ينطقون فيه بالألف وكتابتهم له بالواو على منطق غيرهم وتقليد لهم حتى قال القاضي أبو بكر الباقلاني: كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على ذلك؟. فقال:- ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 لا تهتدي إليها العقول وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة. وإلى سر زيادة الياء في "بأييد وبأبيكم"؟ أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في "سعوا" بالحج ونقصانها من "سعو" بسبأ؟ وإلى سر زيادتها في "عتوا" حيث كان ونقصانها من "عتو" في الفرقان؟ وإلى سر زيادتها في "آمنوا" وإسقاطها من "باؤ، جاؤ، تبوؤ فاؤ" بالبقرة؟ والى سر زيادتها في {يَعْفُوا الذي} ونقصانها من {يَعْفُو عنهم} في النساء؟ أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض كحذف الألف من "قرءانا" بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع؟ وإثبات الألف بعد واو "سموات" في فصلت وحذفها من غيرها. وإثبات الألف في "الميعاد" مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال وإثبات الألف في "سراجا" حيثما وقع وحذفه من موضع الفرقان وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض؟ فكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية. وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المتقطعة التي في أوائل السور فإن لها أسرارا عظيمة ومعاني كثيرة. وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف. وأما قول من قال: إن الصحابة اصطلحوا على أمر الرسم المذكور فلا يخفى ما في كلامه من البطلان لأن القرآن كتب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه. وحينئذ فلا يخلو ما اصطلح عليه الصحابة إما أن يكون هو عين الهيئة أو غيرها فإن كان عينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 بطل الاصطلاح لأن أسبقية النبي صلى الله عليه وسلم تنافي ذلك وتوجب الاتباع. وإن كان غير ذلك فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم كتب على هيئة كهيئة الرسم القياسي مثلا والصحابة خالفوا وكتبوا على هيئة أخرى فلا يصح ذلك لوجهين: أحدهما نسبة الصحابة إلى المخالفة وذلك محال ثانيهما: أن سائر الأمة من الصحابة وغيرهم أجمعوا على أنه لا يجوز زيادة حرف في القرآن ولا نقصان حرف منه. وما بين الدفتين كلام الله عز وجل فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ألف الرحمن والعالمين مثلا ولم يزد الألف في مائة ولا في ولأوضعوا ولا الياء في بأيد ونحو ذلك والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه لزم أنهم وحاشاهم من ذلك تصرفوا في القرآن بالزيادة والنقصان ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على ما لا يحل لأحد فعله ولزم تطرق الشك إلى جميع ما بين الدفتين لأنا مهما جوزنا أن تكون فيه حروف ناقصة أو زائدة على ما في علم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما عنده وأنها ليست بوحي ولا من عند الله ولا نعلمها بعينها شككنا في الجميع. ولئن جوزنا لصحابي أن يزيد في كتابته حرفا ليس بوحي لزمنا أن نجوز لصاحبي آخر نقصان حرف من الوحي إذ لا فرق بينهما وحينئذ تنحل عروة الإسلام بالكلية. ثم قال ابن المبارك بعد كلام.. فقلت له: فإن كان الرسم توقيفيا بوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كألفاظ القرآن فلم لم ينقل تواترا حتى ترتفع عنه الريبة وتطمئن به القلوب كألفاظ القرآن؟ فإنه ما من حرف إلا وقد نقل تواترا لم يقع فيه اختلاف ولا اضطراب. وأما الرسم فإنه إنما نقل بالآحاد كما يعلم من الكتب الموضوعة فيه. وما نقل بالآحاد وقع الاضطراب بين النقلة في كثير منه. وكيف تضيع الأمة شيئا من الوحي؟. فقال: ما ضيعت الأمة شيئا من الوحي والقرآن بحمد الله محفوظ ألفاظا ورسما. فأهل العرفان والشهود والعيان حفظوا ألفاظه ورسمه ولم يضيعوا منها شعرة واحدة وأدركوا ذلك بالشهود والعيان الذي هو فوق التواتر. وغيرهم حفظوا ألفاظه الواصلة إليهم بالتواتر واختلافهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 في بعض حروف الرسم لا يقدح ولا يصير الأمة مضيعة كما لا يضر جهل العامة بالقرآن وعدم حفظهم لألفاظه اهـ. الرأي الثالث: يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان إلى ما يفهم من كلام العز ابن عبد السلام من أنه يجوز بل تجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن يجب في الوقت نفسه المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار النفيسة الموروثة عن سلفنا الصالح فلا يهمل مراعاة لجهل الجاهلين بل يبقى في أيدي العارفين الذي لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان في هذا المقام إذ يقول ما نصه: وأما كتابته أي المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل المشرق بناء على كونها أبعد من اللبس وتحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك وقد سئل. هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال: لا: إلا على الكتبة الأولى. قال في البرهان: قلت: وهذا كان في الصدر الأول والعلم حي غض. وأما الآن فقد يخشى الالتباس ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى دروس العلم. وشيء قد أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين. ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة اهـ. أقول: وهذا الرأي يقوم على رعاية الاحتياط للقرآن من ناحيتين: ناحية كتابته في كل عصر بالرسم المعروف فيه إبعادا للناس عن اللبس والخلط في القرآن وناحية إبقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 رسمه الأول المأثور يقرؤه العارفون ومن لا يخشى عليهم الالتباس. ولا شك أن الاحتياط مطلب ديني جليل خصوصا في جانب حماية التنزيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ج - الشبهات التي أثيرت حول كتابة القرآن ورسمه الشبهة الأولى: يقولون: روي عن عثمان أنه حين عرض عليه المصحف قال: أحسنتم وأجملتم إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها. ويقولون: روي عن عكرمة أنه قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال: ستعربها بألسنتها. لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف. أورد أعداء الإسلام هاتين الروايتين وقالوا: إنهما طعنان صريحان في رسم المصحف فكيف يكون مصحف عثمان وجمعه للقرآن موضع ثقة وإجماع من الصحابة؟ وكيف يكون توقيفيا؟ وهذا عثمان نفسه يقول بملء فيه: إن فيه لحنا. ونجيب على هذه الشبهة أولا: بأن ما جاء في هاتين الروايتين ضعيف الإسناد وأن فيهما اضطرابا وانقطاعا.. قال العلامة الألوسي في تفسيره: إن ذلك لم يصح عن عثمان أصلا اهـ ولعلك تلمح معي دليل سقوط هاتين الروايتين ماثلا فيهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 من جراء هذا التناقض الظاهر بين وصفهما نساخ المصحف بأنهم أحسنوا وأجملوا ووصفهما المصحف الذي نسخوه بأن فيه لحنا. وهل يقال للذين لحنوا في المصحف: أحسنتم وأجملتم؟. اللهم إلا إذا كان المراد معنى آخر. ثانيا: أن المعروف عن عثمان في دقته وكمال ضبطه وتحريه يجعل صدور أمثال هاتين الروايتين من المستحيل عليه. انظر إلى ما سبق من دستوره في جمع القرآن. ثم انظر إلى ما أخرجه أبو عبيد عن عبد الرحمن بن هانئ مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها لم يتسن وفيها لا تبديل للخلق وفيها فأمهل الكافرين فدعا بدواة فمحا أحد اللامين وكتب لخلق الله ومحا فأمهل وكتب فمهل وكتب لم يتسنه فألحق فيها الهاء. قال ابن الأنباري: فكيف يدعى عليه أنه رأى فسادا فأمضاه؟ وهو يوقف على ما يكتب ويرفع الخلاف الواقع من الناسخين فيه فيحكم بالحق ويلزمهم إثبات الصواب وتخليده اهـ. ثالثا: على فرض صحة ما ذكر يمكن أن نؤوله بما يتفق والصحيح المتواتر عن عثمان من نسخ المصاحف وجمع القرآن ومن نهاية التثبت والدقة والضبط. وذلك بأن يراد بكلمة لحنا في الروايتين المذكورتين قراءة ولغة. والمعنى أن في القرآن ورسم مصحفه وجها في القراءة لا تلين به ألسنة العرب جميعا ولكنها لا تلبث أن تلين به ألسنتهم جميعا بالمران وكثرة تلاوة القرآن بهذا الوجه. وقد ضرب بعض أجلاء العلماء لذلك مثلا كلمة "الصراط" بالصاد المبدلة من السين فتقرأ العرب بالصاد عملا بالرسم وبالسين عملا بالأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الشبهة الثانية: يقولون: روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} ويقول هو من لحن الكتاب. والجواب: على غرار ما سبق أي أن ابن جبير لا يريد بكلمة لحن الخطأ. إنما يريد بها اللغة والوجه في القراءة على حد قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . والدليل على هذا التوجيه أن سعيد بن جبير نفسه كان يقرأ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} فلو كان يريد باللحن الخطأ ما رضي لنفسه هذه القراءة. وكيف يرضى ما يعتقد أنه خطأ؟ وهذه الكلمة في آية من سورة النساء ونصها: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} فكلمة {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} قرأها الجمهور بالياء منصوبا كما ترى. وقرأها جماعة بالواو منهم أبو عمرو في رواية يونس وهارون عنه. ولكل من القراءتين وجه صحيح فصيح في اللغة العربية فالنصب مخرج على المدح والتقدير وأمدح المقيمين الصلاة. والرفع مخرج على العطف والمعطوف عليه مرفوع كما ترى. الشبهة الثالثة: يقولون: ألا يكفي في الطعن على جمع القرآن ورسمه ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى. {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} أنه قال: إن الكاتب أخطأ والصواب: حتى تستأذنوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ونجيب: أولا: بما أجاب به أبو حيان إذ يقول ما نصه: إن من روي عن ابن عباس أنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس بريء من ذلك القول اهـ. ثانيا: بما أخرجه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه فسر {تَسْتَأْنِسُوا} فقال: أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها يعني أصحاب البيوت. ثالثا: أن القراء لم يرووا غير قراءة {تَسْتَأْنِسُوا} فلو كان ذاك النقل صحيحا عن ابن عباس لنقلوا عنه أنه قرأ تستأذنوا. رابعا: إذا سلمنا للحاكم أن هذا الخبر صحيح عن ابن عباس فإننا نرده برغم دعوى هذه الصحة لأنه معارض للقاطع المتواتر وهو قراءة {تَسْتَأْنِسُوا} والقاعدة أن معارض القاطع ساقط وأن الرواية متى خالفت رسم المصحف فهي شاذة لا يلتفت إليها ولا يعول عليها. الشبهة الرابعة: يقولون: ألا يكفي في الطعن على جمع القرآن ورسمه ما روي عن ابن عباس أيضا أنه قرأ "أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا". فقيل له: إنها في المصحف {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} فقال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس. ونجيب: بأنه لم يصح ذلك عن ابن عباس. قال أبو حيان: بل هو قول ملحد زنديق. وقال الزمخشري: ونحن ممن لا يصدق هذا في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكيف يخفى هذا؟ حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام أي المصحف الإمام وهو مصحف عثمان وكان متقلبا بين أيدي أولئك الأعلام المحتاطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 لدين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع والقاعدة التي أقيم عليها البناء؟ هذا والله فرية ما فيها مرية اهـ. وقال الفراء: لا يتلى إلا كما أنزل: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} اهـ. وعلى ذلك تكون رواية ذلك في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس رواية غير صحيحة. ومعنى {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} : أفلم يعلموا قال القاسم بن معن: هي لغة هوازن. وجاء بها الشعر العربي في قول القائل: أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم1 أي ألم تعلموا. الشبهة الخامسة: يقولون: من وجوه الطعن أيضا ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إنما هي ووصى ربك التزقت الواو بالصاد وكان يقرأ: ووصى ربك ويقول: أمر ربك إنهما واوان التصقت إحداهما بالصاد وروي عنه أنه قال: أنزل الله هذا الحرف على لسان نبيكم. ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه. فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس: {وَقَضَى رَبُّكَ} ولو نزلت على القضاء ما أشرك أحد. ونجيب: عن ذلك كله أولا بما أجاب به ابن الأنباري إذ يقول: إن هذه الروايات ضعيفة.   1 قال في القاموس: زهدم كجعفر: فرس لعنترة, وفرس لبشر بن عمرو الرياحي- إلى أن قال- والزهدمان أخوان من عبس: زهدم, وكردم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ثانيا: أن هذه الروايات معارضة للمتواتر القاطع وهو قراءة وقضى ومعارض القاطع ساقط. ثالثا: أن ابن عباس نفسه وقد استفاض عنه أنه قرأ: وقضى وذلك دليل على أن ما نسب إليه في تلك الروايات من الدسائس الرخيصة التي لفقها أعداء الإسلام. قال أبو حيان في البحر: والمتواتر هو {وَقَضَى} وهو المستفيض عن ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر. وقال ابن مسعود وأصحابه بمعنى وصى اهـ إذن رواية وقضى هي التي انعقد الإجماع عليها من ابن عباس وابن مسعود وغيرهما فلا يتعلق بأذيال مثل هذه الرواية الساقطة إلا ملحد ولا يرفع عقيرته بها إلا عدو من أعداء الإسلام. الشبهة السادسة: يقولون: إن ابن عباس روي عنه أيضا أنه كان يقرأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً1} ويقول خذوا هذه الواو واجعلوها في {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} . وروي عنه أيضا أنه قال: انزعوا هذه الواو واجعلوها في {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} . ونجيب: أولا: بأن هذه الروايات ضعيفة؟ لم يصح شيء منها عن ابن عباس. ثانيا: أنها معارضة للقراءة المتواترة المجمع عليها فهي ساقطة. ثالثا: أن بلاغة القرآن قاضية بوجود الواو لا بحذفها لأن ابن عباس نفسه فسر الفرقان في الآية المذكورة بالنصر وعليه يكون الضياء بمعنى التوراة أو الشريعة. فالمقام للواو لأجل هذا التغاير.   1 الآية في سورة الأنبياء- لكن اتصال الواو بكلمة {ضِيَاءً} . ونص الآية الكريمة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الشبهة السابعة: يقولون: روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} أنه قال: هي خطأ من الكاتب. هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة. إنما هي: مثل نور المؤمن كمشكاة. ونجيب: أولا: بأنها رواية معارضة للقاطع المتواتر فهي ساقطة. ثانيا: أنه لم ينقل عن أحد من القراء أن ابن عباس قرأ: مثل نور المؤمن فكيف يقرأ رضي الله عنه بما يعتقد أنه خطأ ويترك ما يعتقد أنه صواب؟ ألا إنها كذبة مفضوحة ولو أنهم نسبوها لأبي بن كعب لكان الأمر أهون لأنه روي في الشواذ أن أبي بن كعب قرأ: مثل نور المؤمن. والذي ينبغي أن تحمل عليه هذه الروايات أن أبيا رضي الله عنه. أراد تفسير الضمير في القراءة المعروفة المتواترة وهي مثل نوره. فهي روايات عنه في التفسير لا في القراءة بدليل أنه كان يقرأ: {مَثَلُ نُورِهِ} . دفع عام عن ابن عباس كل ما روي عن ابن عباس في تلك الشبهات يمكن دفعه دفعا عاما بأن ابن عباس قد أخذ القرآن عن زيد بن ثابت وأبي بن كعب وهما كانا في جمع المصاحف. وزيد بن ثابت كان في جمع أبي بكر أيضا. وكان كاتب الوحي وكان يكتب ما يكتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره. وابن عباس كان يعرف ذلك ويوقن به فمحال إذن أن ينطق لسانه بكلمة تحمل رائحة اعتراض على جمع القرآن ورسم القرآن وإلا فكيف بأخذ عن زيد وابن كعب ثم يعترض على جمعهما ورسمهما؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الشبهة الثامنة: يقولون: روي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وعن قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وعن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} . فقالت: يا بن أخي هذا من عمل الكتاب قد أخطئوا في الكتاب. قال السيوطي في هذا الخبر إسناده صحيح على شرط الشيخين. ويقولون أيضا: روي عن أبي خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة فقال: جئت أسألك عن آية في كتاب الله كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها؟ قالت: أية آية؟ قال: {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} أو "الّذِينَ يَأتُون مَا أَتوا". قالت: أيهما أحب إليك؟ قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعا. قالت: أيهما؟ قلت: "الذين يأتون ما أتوا". فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها وكذلك أنزلت ولكن الهجاء حرف. ونجيب: أولا: بأن هذه الروايات مهما يكن سندها صحيحا فإنها مخالفة للمتواتر القاطع ومعارض القاطع ساقط مردود فلا يلتفت إليها ولا يعمل بها. ثانيا: أنه قد نص في كتاب إتحاف فضلاء البشر على أن لفظ هذان قد رسم في المصحف من غير ألف ولا ياء ليحتمل وجوه القراءات الأربع فيها كما شرحنا ذلك سابقا في فوائد رسم المصحف. وإذن فلا يعقل أن يقال أخطأ الكاتب فإن الكاتب لم يكتب ألفا ولا ياء. ولو كان هناك خطأ تعتقده عائشة ما كانت تنسبه للكاتب بل كانت تنسبه لمن يقرأ بتشديد إن وبالألف لفظا في هذان. ولم ينقل عن عائشة ولا عن غيرها تخطئة من قرأ بما ذكر وكيف تنكر هذه القراءة وهي متواترة مجمع عليها؟ بل هي قراءة الأكثر ولها وجه فصيح في العربية لا يخفى على مثل عائشة. ذلك هو إلزام المثنى الألف في جميع حالاته. وجاء منه قول الشاعر العربي:- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 واها لسلمى ثم واها واها ... يا ليت عيناها لنا وفاها وموضع الخلخال من رجلاها ... بثمن يرضى به أباها إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها فبعيد عن عائشة أن تنكر تلك القراءة ولو جاء بها وحدها رسم المصحف. ثالثا: أن ما نسب إلى عائشة رضي الله عنها من تخطئة رسم المصحف في قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بالياء مردود بما ذكره أبو حيان في البحر إذ يقول ما نصه: وذكر عن عائشة رضي الله عنها وعن أبان بن عثمان أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف. ولا يصح ذلك عنهما لأنها عربيان فصيحان وقطع النعوت مشهور في لسان العرب. وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره. وقال الزمخشري: لا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه خطأ في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب يريد كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان وخفي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحقهم. رابعا: أن قراءة والصابئون بالواو لم ينقل عن عائشة أنها خطأت من يقرأ بها ولم ينقل أنها كانت تقرأ بالياء دون الواو. فلا يعقل أن تكون خطأت من كتب بالواو. خامسا: أن كلام عائشة في قوله تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} لا يفيد إنكار هذه القراءة المتواترة المجمع عليها. بل قالت للسائل: أيهما أحب إليك؟ ولا تحصر المسموع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قرأت هي به. بل قالت: أنه مسموع ومنزل فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وهذا لا ينافي أن القراءة الأخرى مسموعة ومنزلة كتلك. خصوصا أنها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما قولها: ولكن الهجاء حرف فكلمة حرف مأخوذة من الحرف بمعنى القراءة واللغة والمعنى أن هذه القراءة المتواترة التي رسم بها المصحف لغة ووجه من وجوه الأداء في القرآن الكريم. ولا يصح أن تكون كلمة حرف في حديث عائشة مأخوذة من التحريف الذي هو الخطأ وإلا كان حديثا معارضا للمتواتر ومعارض القاطع ساقط. الشبهة التاسعة: يقولون: روي عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه قال: قالوا لزيد يا أبا سعيد أوهمت إنما هي ثمانية أزواج من الضأن اثنين1 اثنين ومن المعز اثنين اثنين ومن الإبل اثنين اثنين ومن البقر اثنين اثنين. فقال: لا. إن الله تعالى يقول: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} فهما زوجان كل واحد منهما زوج. الذكر زوج والأنثى زوج اهـ. قال أعداء الإسلام: فهذه الرواية تدل على تصرف نساخ المصحف واختيارهم ما شاءوا في كتابة القرآن ورسمه. والجواب أن كلام زيد هذا لا يدل على ما زعموا. إنما يدل على أنه بيان لوجه ما كتبه وقرأه سماعا وأخذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصرفا وتشهيا من تلقاء نفسه. وكيف يتصور هذا من الصحابة في القرآن وهم مضرب الأمثال في كمال ضبطهم وتثبتهم في الكتاب والسنة. لا سيما زيد بن ثابت وقد عرفت فيما سبق من هو زيد في حفظه   1 يريدون آية سورة الأنعام ونصها: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ} الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وأمانته ودينه وورعه؟ وعرفت دستوره الدقيق الحكيم في كتابة الصحف والمصاحف فأنى يؤفكون؟ الشبهة العاشرة: يقولون: إن مروان هو الذي قرأ ملك يوم الدين من سورة الفاتحة بحذف الألف من لفظ مالك. ويقولون: إنه حذفها من تلقاء نفسه دون أن يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن أن يتواتر عنه قراءة ولفظا أو يصح كتابة ورسما. والجواب: أن هذا كذب فاضح أولا لأنه ليس لهم عليه حجة ولا سند. ثانيا أن الدليل قام والتواتر تم والإجماع انعقد على أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ لفظ مالك يوم الدين بإثبات الألف وحذفها وأخذ أصحابه عنه ذلك. فممن قرأ بهما علي وابن مسعود وأبي بن كعب. وممن قرأ بالقصر أي حذف الألف أبو الدرداء وابن عباس وابن عمر. وممن قرأ بالمد أي إثبات الألف أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. وهؤلاء كلهم كانوا قبل أن يكون مروان وقبل أن يولد مروان وقبل أن يقرأ مروان. وقصارى ما في الأمر أن مروان اتفق أن روايته كانت القصر فقط. وذلك لا يضرنا في شيء. كما اتفق أن رواية عمر بن عبد العزيز كانت المد فقط. ثالثا أن كلمة مالك رسمت في المصحف العثماني هكذا ملك كما سبق. خلاصة الدفاع: والخلاصة أن تلك الشبهة وما ماثلها مدفوعة بالنصوص القاطعة والأدلة الناصعة على أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثباته ورسمه ولم ينسخه ناسخ في تلاوته وهو هذا الذي حواه مصحف عثمان بين الدفتين لم ينقص منه شيء ولم يزد فيه شيء بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 إن ترتيبه ونظمه كلاهما ثابت على ما نظمه الله سبحانه وتعالى ورتبه رسوله من آي وسور. لم يقدم من ذلك مؤخر ولم يؤخر منه مقدم. وقد ضبطت الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترتيب آي كل سورة ومواقعها كما ضبطت منه نفس القراءات وذات التلاوة على ما سبق وما سيجيء في الكلام على القراءات إن شاء الله. فليلاحظ دائما في الرد على أمثال تلك الشبهات أمران: أولهما: تلك القاعدة الذهبية التي وضعها العلماء: وهي أن خبر الآحاد إذا عارض القاطع سقط عن درجة الاعتبار وضرب به عرض الحائط مهما تكن درجة إسناده من الصحة. ثانيهما: خط الدفاع الذي أقمناه في المبحث الثامن حصنا حصينا دون النيل من الصحابة واتهامهم بسوء الحفظ أو عدم التثبت والتحري خصوصا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. شبهة على التزام الرسم العثماني في هذا العصر: يقولون: إن كثيرا من المتعلمين لا يحفظون القرآن ولا يحسنون قراءته في المصحف لعدم معرفتهم الرسم العثماني. فلماذا نتقيد بهذا الرسم ولا نكتب المصاحف اليوم باصطلاح الكتابة المعروف تسهيلا على الناشئة وتيسيرا على الناس؟ والجواب: أولا: أن للعلماء آراء في ذلك بالجواز بل قال بعضهم وهو العز بن عبد السلام بوجوب كتابة المصحف للعامة باصطلاح كتابتهم الحديث خشية الالتباس كما يجب كتابته بالرسم العثماني محافظة على هذا التراث العزيز. وقد سبق شرح آراء العلماء قريبا. وما هي منك ببعيد. ثانيا: أن في الرسم العثماني مزايا وفوائد ذكرناها سابقا. ثالثا: أن مذهب الجمهور قائم على أدلة متوافرة على وجوب التزام هذا الرسم عندهم. وقد تقدمت تلك الأدلة أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 رابعا: أن مصطلح الخط والكتابة في عصرنا عرضة للتغيير والتبديل. ومن المبالغة في قداسة القرآن حمايته من التغيير والتبديل في رسمه. خامسا: أن إخضاع المصحف لمصطلحات الخط الحديثة ربما يجر إلى فتنة أشبه بالفتنة التي حدثت أيام عثمان وحملته على أن يجمع القرآن. فربما يقول بعض الناس لبعض أو بعض الشعوب لبعض عند اختلاف قواعدهم في رسم المصحف: رسمي خير من رسمك أو مصحفي خير من مصحفك أو رسمي صواب ورسمك خطأ. وقد يجر ذلك إلى أن يؤثم بعضهم بعضا أو يقاتل بعضهم بعضا. ومن المقرر أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. سادسا: أن الرسم العثماني أشبه بالرسم العام الذي يجمع الأمة على كتابة كتاب ربها في سائر الأعصار والأمصار كاللغة العربية فإنها اللسان العام الذي يجمع الأمة على قراءة كتاب ربها في سائر الأعصار والأمصار. وما يكون لنا أن نفرط في أمر هذا شأنه يجمع الشتات وينظم الأمة في سلك واحد لا فرق بين ماض وحاضر وآت. سابعا: أنه يمكن تسهيل القراءة على الناس بإذاعة القرآن كثيرا إذاعة مضبوطة دقيقة وبإذاعة من التجويد في المدارس وفي أوساط المتعلمين وأخيرا يمكن -كما قالت مجلة الأزهر- أن ننبه في ذيل كل صفحة من صفحات المصحف على ما يكون فيها من الكلمات المخالفة للرسم المعروف والاصطلاح المألوف. لا سيما أن رسم المصاحف العثمانية لا يخالف قواعدنا في الخط والإملاء إلا قليلا وفي كلمات معدودة: أضف إلى ذلك أن الفرق بين الرسمين لا يوقع القارئ اليقظ في لبس عند تأمله وإمعانه غالبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ولقد مرت على الأمة أجيال وقرون وما شعرت بغضاضة في التزامها الرسم العثماني. على أن المعول عليه أولا وقبل كل شيء هو التلقي من صدور الرجال. وبالتلقي يذهب الغموض من الرسم كائنا ما كان. وليس بعد العيان بيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 د - المصاحف تفصيلا لعلك لم تنس ما ذكرناه في المباحث السابقة عن نشأة المصاحف العثمانية وكتابتها ورسمها وتحريق عثمان ما سواها من المصاحف الفردية التي كانت لبعض الصحابة والتي كان يخالف بعضها بعضا على مقدار ما وصل إليه علم الواحد منهم بأحرف القراءات وبما نسخ وما لم تنسخ تلاوته في العرضة الأخيرة. ولأجل الإحاطة بما يتصل بالمصاحف العثمانية يجدر بنا أن نتحدث عما يأتي: الحروف السبعة في المصاحف العثمانية: المصاحف التي نسخها عثمان رضي الله عنه كان مجموعها مشتملا على الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن كما بينا ذلك أو في بيان تحت عنوان خاص في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف فارجع إليه إن شئت. ويؤيده هنا أن هذه المصاحف نسخت من الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة. ومن المتفق عليه أن هذه الصحف كتب فيها القرآن بحروفه السبعة التي نزل عليها ولم يرد أن عثمان أمرهم أن يتركوا ستة أحرف منها ويبقوا حرفا واحدا كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء. فلنستمسك بالمتفق عليه حتى يثبت لدينا ما ينفيه. فما يكون لنا أن نترك اليقين للشك. ثم إن دفع الفتنة وتوحيد الكلمة بين المسلمين لا يتوقف على ترك ستة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 أحرف وإبقاء حرف واحد من الأحرف التي نزل عليها القرآن بل إن الذي يدفع الفتنة ويوحد الكلمة هو إقرار النازل كما نزل من تعدد حروفه إلى سبعة رحمة بهذه الأمة. غاية ما يجب في هذا الباب هو إحاطة المسلمين علما بهذه الحروف حتى يتركوا ما عداها ولا يعتمدوا سواها وحتى يعتمد كل منهم صواب قراءة غيره ما دامت قراءته لا تتعداها. ومن هنا تجتمع كلمتهم وتنطفئ فتنتهم على نمط ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتعلت مثل هذه الفتنة بين بعض الصحابة فعالجهم بأن أفهمهم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف وقرر فيهم هذا المعنى وحكم بأن كلا من المختلفين على صواب في قراءته وأنها هكذا أنزلت. وما كان لعثمان وجمهور الصحابة وجميع الأمة أن يتركوا هدي الرسول في هذا وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. بقي أن نفسر لك معنى قول عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا فقد فهم بعضهم من هذه الجملة أن عثمان أمر أن يتركوا ستة أحرف ويقتصروا في نسخ المصاحف على حرف قريش ولغتهم وحدهم. وهذا مردود بوجوه: أحدها: أن اللفظ لا يؤدي ذلك المعنى. ثانيها: أن القرآن فيه كلمات كثيرة من لغات قبائل أخرى وليست من لغة قريش: انظر في ذلك ما قدمناه في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف أيضا وما ذكره السيوطي في الإتقان في النوع السابع والثلاثين. ثالثها: أن المصاحف العثمانية كانت مشتملة على الأحرف السبعة كما بينا آنفا. رابعها: أنه لم ينقل إلينا نقلا صحيحا صريحا أنهم تركوا من الأحرف السبعة شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فضلا عن أن يتركوها ما عدا واحدا ولو فعلوا ذلك لنقل متواترا لأن هذا الأمر الجلل مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره. وقصارى ما وصلنا من بعض الطرق أنهم اختلفوا في كلمة التابوت في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الخ أيكتبونها بالتاء المفتوحة أم بالهاء فأمرهم عثمان أن يكتبوها بالتاء المفتوحة لأنها كذلك في لغة قريش. وهذا يوضح لنا أن عثمان في كلمته تلك إنما يريد الاختلاف في الكتابة والرسم لا في الألفاظ واللغات والحروف. أو يريد أن لغة قريش متوافر فيها التواتر أكثر من غيرها فليأخذوا بها عند الاختلاف لهذا الغرض وحده وهو التواتر الذي شرطوه في دستور كتابتهم وجمعهم. أضف إلى ذلك أن المصاحف نقلت من الصحف التي جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن فيها والتي ظفرت بالتواتر وإجماع الأمة كما قدمنا. فهل يرضى عثمان ويوافقه الصحابة جميعا على أن يخرقوا هذا الإجماع ويعبثوا بذلك التواتر في أمر جعل الله تعدد الوجوه والحروف فيه رحمة بالأمة إلى هذا اليوم؟ ذلك فهم بعيد. الصحف والمصاحف قلنا: إن أبا بكر رضي الله عنه جمع القرآن في صحف وإن عثمان جمعه ونسخه في مصاحف. والفرق بين الصحف والمصاحف في الأصل أن الصحف جمع صحيفة وهي القطعة من الورق أو الجلد يكتب فيها. أما المصحف فهو بزنة اسم المفعول من أصحفه أي جمع فيه الصحف. فكأن المصحف ملحوظ في معناه اللغوي دفتاه وهما جانباه أو جلداه اللذان يتخذان جامعا لأوراقه ضابطا لصحفه حافظا لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ولا يلحظ هذا في معنى الصحف وإن كان يصح استعمال كلا اللفظين في كلا المعنيين استعمالا متوسعا فيه. هذا في أصل اللغة أما في الاصطلاح فالمراد بالصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر وكانت سورا مرتبة آياتها فقط كل سورة على حدة لكن لم يترتب بعضها إثر بعض. والمراد بالمصحف اصطلاحا الأوراق التي جمع فيها القرآن مع ترتيب آياته وسوره جميعا على الوجه الذي أجمعت عليه الأمة أيام عثمان رضي الله عنه. وقد أطلق بعضهم لفظ المصحف على صحف أبي بكر وتوجيهه لا يخفى. ولقد بقيت الصحف عند أبي بكر حتى حضرته الوفاة فدفعها إلى عمر لأنه وصى له بالعهد ولما مات عمر انتقلت إلى ابنته أم المؤمنين حفصة بوصية من عمر ثم طلبها عثمان ونسخ المصاحف منها وردها إليها وبقيت عندها حتى توفيت رضي الله عنها. وقد حضر جنازتها مروان والي المدينة وقتئذ ورغب إلى أخيها عبد الله بن عمر أن يبعث إليه بالصحف فبعثها إليه وكان مروان قد طلبها من السيدة حفصة من قبل فأبت رضي الله عنها. أخرج ابن أبي داود في رواية أن مروان أحرق هذه الصحف؟ وفي رواية أنه غسلها وفي رواية شققها. ولا مانع من الجمع بين هذه الروايات الثلاث بأنه غسلها أولا ثم شققها ثانيا ثم أحرقها أخيرا مبالغة في التكريم والمحو كما روي أنه قال: إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب أي يظن أن فيها ما يخالف المصاحف فإنها كانت صحفا منثورة لا تأخذ شكل المصاحف المجموعة المنظومة. عدد المصاحف اختلفوا في عدد المصاحف التي استنسخها عثمان رضي الله عنه فصوب ابن عاشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أنها ستة: المكي والشامي والبصري والكوفي والمدني العام الذي سيره عثمان رضي الله عنه من محل نسخه إلى مقره والمدني الخاص به الذي حبسه لنفسه وهو المسمى بالإمام. وقال صاحب زاد القراء: لما جمع عثمان القرآن في مصحف سماه الإمام ونسخ منه مصاحف فأنفذ منها مصحفا إلى مكة ومصحفا إلى الكوفة ومصحفا إلى البصرة ومصحفا إلى الشام وحبس مصحفا بالمدينة وهذا القول كسابقه في أنها ستة وذهب السيوطي وابن حجر إلى أنها خمسة. ولعلمهما أرادا بالخمسة ما عدا المصحف الإمام فيكون الخلاف لفظيا بينه وبين سابقيه. وقيل إنها ثمانية خمسة متفق عليها وهي الكوفي والبصري والشامي والمدني العام والمدني الخاص وثلاثة مختلف فيها وهي المكي ومصحف البحرين ومصحف اليمن. وقيل إن عثمان رضي الله عنه أنفذ إلى مصر مصحفا. ولعل القول بأن عددها ستة هو أولى الأقوال بالقبول. والمفهوم على كل حال أن عثمان رضي الله عنه قد استنسخ عددا من المصاحف يفي بحاجة الأمة وجمع كلمتها وإطفاء فتنتها. ولا يتعلق بتعين العدد كبير غرض فيختلفوا في هذا التعيين وما وسعتهم أدلة ذاك الاختلاف. والله تعالى أعلم بالحقيقة. كيف أنفذ عثمان المصاحف العثمانية؟ كان الاعتماد في نقل القرآن - ولا يزال- على التلقي من صدور الرجال ثقة عن ثقة وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم. لذلك اختار عثمان حفاظا يثق بهم وأنفذهم إلى الأقطار الإسلامية واعتبر هذه المصاحف أصولا ثواني مبالغة في الأمر وتوثيقا للقرآن ولجمع كلمة المسلمين. فكان يرسل إلى كل إقليم مصحفه مع من يوافق قراءته في الأكثر الأغلب روي أن عثمان رضي الله عنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني وبعث عبد الله بن السائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 مع المكي والمغيرة بن شهاب مع الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي وعامر بن عبد القيس مع البصري. ثم نقل التابعون عن الصحابة فقرأ أهل كل مصر بما في مصحفهم تلقيا عن الصحابة الذين تلقوه من فم النبي صلى الله عليه وسلم فقاموا في ذلك مقام الصحابة الذين تلقوه من فم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تفرغ قوم للقراءة والأخذ والضبط حتى صاروا في هذا الباب أئمة يرحل إليهم ويؤخذ عنهم وأجمع أهل بلدهم على تلقي قراءتهم واعتماد روايتهم. ومن هنا نسبت القراءة إليهم وأجمعت الأمة - وهي معصومة من الخطأ في إجماعها- على ما في هذه المصاحف وعلى ترك كل ما خالفها من زيادة ونقص وإبدال لأنه لم يثبت عندهم ثبوتا متواترا أنه من القرآن. أين المصاحف العثمانية الآن؟ وليس بين أيدينا دليل قاطع على وجود المصاحف العثمانية الآن فضلا عن تعيين أمكنتها. وقصارى ما علمناه أخيرا أن ابن الجزري رأى في زمانه مصحف أهل الشام ورأى في مصر مصحفا أيضا. أما المصاحف الأثرية التي تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر ويقال عنها إنها مصاحف عثمانية فإننا نشك كثيرا في صحة هذه النسبة إلى عثمان رضي الله عنه لأن بها زركشة ونقوشا موضوعة كعلامات للفصل بين السور ولبيان أعشار القرآن ومعلوم أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا ومن النقط والشكل أيضا كما علمت. نعم إن المصحف المحفوظ في خزانة الآثار بالمسجد الحسيني والمنسوب إلى عثمان رضي الله عنه مكتوب بالخط الكوفي القديم مع تجويف حروفه وسعة حجمه جدا. ورسمه يوافق رسم المصحف المدني أو الشامي حيث رسم فيه كلمة من يرتدد من سورة المائدة بدالين اثنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 مع فك الإدغام وهي فيها بهذا الرسم. فأكبر الظن أن هذا المصحف منقول من المصاحف العثمانية على رسم بعضها. وكذلك المصحف المحفوظ بتلك الخزانة ويقال إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتبه بخطه يلاحظ فيه أنه مكتوب بذلك الخط الكوفي القديم. بيد أنه أصغر حجما وخطه أقل تجويفا من سابقه ورسمه يوافق غير المدني والشامي من المصاحف العثمانية حيث رسمت فيه الكلمة السابقة من يرتد بدال واحدة مع الإدغام وهي في غيرهما كذلك. فمن الجائز أن يكون كاتبه عليا أو يكون قد أمر بكتابته في الكوفة. ثم إن عدم بقاء المصاحف العثمانية قاطبة لا يضرنا شيئا ما دام المعول عليه هو النقل والتلقي ثقة عن ثقة وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك متواتر مستفيض على أكمل وجه في القرآن حتى الآن. على أن المصاحف العثمانية نسخت على غرارها الآلاف المؤلفة في كل عصر ومصر مع المحافظة على الرسم العثماني كما سيجيء إن شاء الله فاصبر {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} . المصاحف في دور التجويد والتحسين: كانت المصاحف العثمانية أشبه بماء نزل من السماء فأصاب أرضا خصبة صالحة ولكنها ظامئة متعطشة. فما كاد يصل إليها الماء حتى اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج كذلك المصاحف الشريفة ما كاد عثمان يرسلها إلى الآفاق الإسلامية حتى أقبلت عليها الأمة من كل صوب وحدب وحتى اجتمعت عليها الكلمة في الشرق والغرب وحتى نسخت على غرارها آلاف مؤلفة من المصاحف المقدسة في كل جيل وقبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ومما يلفت النظر أن يد التجويد والصقل والتحسين أخذت تتناول المصاحف على ألوان شتى وضروب متنوعة فهناك تحسينات مادية أو شكلية ترجع إلى النسخ والطبع والحجم والورق والتجليد والتذهيب ونحو ذلك. وهذه لا تعنينا كثيرا لأن أمرها هين وإن كان فيها بعض التيسير أو التشويق إلى القرآن الكريم. وهناك تحسينات معنوية أو جوهرية ترجع إلى تقريب نطق الحروف وتمييز الكلمات وتحقيق الفروق بين المتشابهات عن طريق الإعجام والشكل ونحوهما. وفي هذه نسوق الحديث. الإعجام: إعجام الكتاب: نقطه. قال في القاموس: أعجم فلان الكلام: ذهب به إلى العجمة والكتاب: نقطه كعجمه وعجمه أي بتخفيف الجيم وتضعيفها. والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطا وذلك للمعنى الذي أسلفناه وهو بقاء الكلمة محتملة لأن تقرأ بكل ما يمكن من وجوه القراءات فيها. بيد أن المؤرخين يختلفون فمنهم من يرى أن الإعجام كان معروفا قبل الإسلام ولكن تركوه عمدا في المصاحف للمعنى السابق. ومنهم من يرى أن النقط لم يعرف إلا من بعد على يد أبي الأسود الدؤلي. وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في عهد عبد الملك بن مروان إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت واختلط العرب بالعجم وكادت العجمة تمس سلامة اللغة وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يلح بالناس حتى ليشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة. هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم للإنقاذ فأمر الحجاج أن يعنى بهذا الأمر الجلل وندب الحجاج - طاعة لأمير المؤمنين- رجلين يعالجان هذا المشكل هما نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني. وكلاهما كفء قدير على ما ندب له, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 إذ جمعا بين العلم والعمل والصلاح والورع والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن. وقد اشتركا أيضا في التلمذة والأخذ عن أبي الأسود الدؤلي. ويرحم الله هذين الشيخين فقد نجحا في هذه المحاولة وأعجما المصحف الشريف لأول مرة ونقطا جميع حروفه المتشابهة والتزما ألا تزيد النقط في أي حرف على ثلاث. وشاع ذلك في الناس بعد فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف. وقيل إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي وإن ابن سيرين كان له مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر. ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية ثم تبعه ابن سيرين وأن عبد الملك أول من نقط المصحف ولكن بصفة رسمية عامة ذاعت وشاعت بين الناس دفعا للبس والإشكال عنهم في قراءة القرآن. شكل المصاحف: شكل الكتاب في اللغة رديف لإعجامه. وقد عرفت أن الإعجام هو النقط. قال صاحب القاموس ما نصه:. . والكتاب أي وشكل الكتاب: أعجمه كأشكله كأنه أزال عنه الإشكال اهـ. ثم شاع استعمال الشكل في خصوص ما يعرض للحروف من حركة أو سكون. والمناسبة بين المعنيين ظاهرة لأن في كل منهما إزالة لإشكال الحرف ودفعا للبس عنه. واتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول لم يكونوا يعرفون شكل الحروف والكلمات فضلا عن أن يشكلوها. ذلك لأن سلامة لغتهم وصفاء سليقتهم وذلاقة ألسنتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 كل أولئك كان يغنيهم عن الشكل. ولكن حين دخلت الإسلام أمم جديدة منهم العجم الذي لا يعرفون العربية بدأت العجمة تحيف على لغة القرآن. بل قيل إن أبا الأسود الدؤلي سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} . فقرأها بجر اللام من كلمة رسوله. فأفزع هذا اللحن الشنيع أبا الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله. ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له وقد أجبتك إلى ما سألت. وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث. وهنا جد جده وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف وجعل علامة الكسر نقطة أسفله وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف وجعل علامة السكون نقطتين. طفق الناس ينهجون منهجه ثم امتد الزمان بهم فبدؤوا يزيدون ويبتكرون حتى جعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة. ودامت الحال على هذا حتى جاء عبد الملك بن مروان فرأى بنافذ بصيرته أن يميز ذوات الحروف من بعضها وأن يتخذ سبيله إلى ذلك التمييز بالإعجام والنقط على نحو ما تقدم تحت العنوان السابق. وهنالك اضطر أن يستبدل بالشكل الأول الذي هو النقط شكلا جديدا هو ما نعرفه اليوم من علامات الفتحة والكسرة والضمة والسكون. والذي اضطره إلى هذا الاستبدال أنه لو أبقى العلامات الأولى على ما هي عليه نقطا ثم جاءت هذه الأخرى نقطا كذلك لتشابها واشتبه الأمر. فميز بين الطائفتين بهذه الطريقة. ونعما فعل. حكم نقط المصحف وشكله كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف وشكله مبالغا منهم في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف وخوفا من أن يؤدي ذلك إلى التغيير فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وما روي عن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم إلى غير ذلك. ولكن الزمان تغير- كما علمت- فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكله لنفس ذلك السبب أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف وخوفا من أن يؤدي تجرده من النقط والشكل إلى التغيير فيه. فمعقول حينئذ أن يزول القول بكراهة ذينك الإعجام والشكل ويحل محله القول بوجوب أو باستحباب الإعجام والشكل. لما هو مقرر من أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. قال النووي في كتابه التبيان ما نصه: قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله فإنه صيانة من اللحن فيه. وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه. وقد أمن ذلك اليوم فلا يمنع من ذلك لكونه محدثا فإنه من المحدثات الحسنة فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك. والله أعلم اهـ. تجزئة القرآن: كانت المصاحف العثمانية مجردة من التجزئة التي نذكرها كما كانت مجردة من النقط والشكل. ولما امتد الزمان بالناس جعلوا يفتنون في المصاحف وتجزئتها عدة تجزئات مختلفة الاعتبارات. فمنهم من قسم القرآن ثلاثين قسما وأطلقوا على كل قسم منها اسم الجزء بحيث لا يخطر بالبال عند الإطلاق غيره حتى إذا قال قائل: قرأت جزءا من القرآن تبادر إلى الذهن أنه قرأ جزءا من الثلاثين جزءا التي قسموا المصحف إليها. وجرى على ذلك أصحاب الربعات إذ طبعوا كل جزء نسخة مستقلة ومجموع النسخ الجامعة للقرآن كله يسمونه ربعة ويوجد من هذا القبيل أجزاء مستقلة بالطبع بأيدي صغار التلاميذ في المدارس وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ومن الناس من قسموا الجزء إلى حزبين ومن قسموا الحزب إلى أربعة أجزاء سموا كل واحد منها ربعا. ومن الناس من وضعوا كلمة خمس عند نهاية كل خمس آيات من السورة وكلمة عشر عند نهاية كل عشر آيات منها فإذا انقضت خمس أخرى بعد العشر أعادوا كلمة خمس فإذا صارت هذه الخمس عشرا أعادوا كلمة عشر وهكذا دواليك إلى آخر السورة. وبعضهم يكتب في موضع الأخماس رأس الخاء بدلا من كلمة خمس ويكتب في موضع الأعشار رأس العين بدلا من كلمة عشر. وبعض الناس يرمز إلى رؤوس الآي برقم عددها من السورة أو من غير رقم. وبعضهم يكتب فواتح للسور كعنوان ينوه فيه باسم السورة وما فيها من الآيات المكية والمدنية إلى غير ذلك. وللعلماء في ذلك كلام طويل بين الجواز بكراهة والجواز بلا كراهة ولكن الخطب سهل على كل حال ما دام الغرض هو التيسير والتسهيل وما دام الأمر بعيدا عن اللبس والتزيد والدخيل. {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} . احترام المصحف: ليس فيما نرى ونسمع كتاب أحيط بهالة من الإجلال والتقديس كالقرآن الكريم. حتى لقد وصفه الحق جل شأنه بأنه كتاب مكنون وحكم بأنه لا يمسه إلا المطهرون وأقسم على ذلك إذ يقول: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وحتى نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى أرض العدو إذا خيف وقوع المصحف في أيديهم. والحديث مروي في الصحيحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وحتى أفتى العلماء بكفر من رمى به في قاذورة وبحرمة من باعه لكافر ولو ذميا وقالوا بوجوب الطهارة لمسه وحمله وكذلك ما يتصل به من خريطة وغلاف وصندوق على الصحيح. واستحبوا تحسين كتابته وإيضاحها وتحقيق حروفها. قال النووي: ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه لأن القيام يستحب للعلماء والأخيار فالمصحف أولى اهـ. رزقنا الله الأدب معه ومع كتابه ومع كافة من اصطفاهم من عباده آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 المبحث الحادي عشر: في القراء ات والقراء والشبهات التي أثيرت في هذا المقام -1 القراءات القراءات جمع قراءة وهي في اللغة مصدر سماعي لقرأ. وفي الاصطلاح مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها. قال السيوطي عند كلامه على تقسيم الإسناد إلى عال ونازل ما نصه: ومما يشبه هذا التقسيم الذي لأهل الحديث تقسيم القراء أحوال الإسناد إلى قراءة ورواية وطريق ووجه. فالخلاف إن كان لأحد الأئمة السبعة أو العشرة أو نحوهم واتفقت عليه الروايات والطرق عنه فهو قراءة. وإن كان للراوي عنه فرواية. أو لمن بعده فنازلا فطريق. أو لا على هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه فوجه. اهـ. وفي منجد المقرئين لابن الجزري ما نصه: القراءات علم بكيفيات أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة1 ... والمقرئ: العالم بها رواها مشافهة فلو حفظ التيسير مثلا ليس له أن يقرئ بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة. والقارئ المبتدئ من شرع في الإفراد إلى أن يفرد ثلاثا من القراءات. والمنتهي من نقل من القراءات أكثرها وأشهرها اهـ. نشأة علم القراءات: قلنا غير مرة: إن المعول عليه في القرآن الكريم إنما هو التلقي والأخذ ثقة   1 في القاموس: الناقلة: ضد القاطنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 عن ثقة وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن المصاحف لم تكن ولن تكون هي العمدة في هذا الباب. إنما هي مرجع جامع للمسلمين على كتاب ربهم ولكن في حدود ما تدل عليه وتعينه دون ما لا تدل عليه ولا تعينه. وقد عرفت أن المصاحف لم تكن منقوطة ولا مشكولة وأن صورة الكلمة فيها كانت لكل ما يمكن من وجوه القراءات المختلفة وإذا لم تحتملها كتبت الكلمة بأحد الوجوه في مصحف ثم كتبت في مصحف آخر بوجه آخر وهلم جرا. فلا غرو أن كان التعويل على الرواية والتلقي هو العمدة في باب القراءة والقرآن. وقلنا: إن عثمان رضي الله عنه حين بعث المصاحف إلى الآفاق أرسل مع كل مصحف من يوافق قراءته في الأكثر الأغلب وهذه القراءة قد تخالف الذائع الشائع في القطر الآخر عن طريق المبعوث الآخر بالمصحف الآخر. ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلف أخذهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرف واحد ومنهم من أخذه عنه بحرفين ومنهم من زاد. ثم تفرقوا في البلاد وهم على هذه الحال فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم وأخذ تابع التابعين عن التابعين وهلم جرا حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات يضبطونها ويعنون بها وينشرونها كما يأتي: هذا منشأ علم القراءات واختلافها وإن كان الاختلاف يرجع في الواقع إلى أمور يسيرة بالنسبة إلى مواضع الاتفاق الكثيرة كما هو معلوم: لكنه - على كل حال- اختلاف في حدود السبعة الأحرف التي نزل عليها القرآن كلها من عند الله لا من عند الرسول ولا أحد من القراء أو غيرهم. وللنويري كتاب مخطوط بدار الكتب في مصر وضعه شرحا للطيبة في القراءات العشر يجمل بي أن أنقل إليك منه هنا الكلمة الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 والاعتماد في نقل القرآن على الحفاظ. ولذلك أرسل أي عثمان رضي الله عنه كل مصحف مع من يوافق قراءته في الأكثر وليس بلازم. وقرأ كل مصر بما في مصحفهم وتلقوا ما فيه من الصحابة الذين تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تجرد للأخذ عن هؤلاء قوم أسهروا ليلهم في ضبطها وأتعبوا نهارهم في نقلها حتى صاروا في ذلك أئمة للاقتداء وأنجما للاهتداء وأجمع أهل بلدهم على قبول قراءتهم ولم يختلف عليهم اثنان في صحة روايتهم ودرايتهم. ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم وكان المعول فيها عليهم. ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا وفي البلاد انتشروا وخلفهم أمم بعد أمم وعرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم فكان منهم المتقن للتلاوة المشهورة بالرواية والدراية ومنهم المحصل لوصف واحد. ومنهم المحصل لأكثر من واحد فكثر بينهم لذلك الاختلاف وقل منهم الائتلاف. فقام عند ذلك جهابذة الأمة وصناديد الأئمة فبالغوا في الاجتهاد بقدر الحاصل وميزوا بين الصحيح والباطل وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الأوجه والروايات وبينوا الصحيح والشاذ والكثير والفاذ بأصول أصلوها وأركان فضلوها الخ اهـ. طبقات الحفاظ المقرئين الأوائل: ولقد اشتهر في كل طبقة من طبقات الأمة جماعة بحفظ القرآن وإقرائه. فالمشتهرون من الصحابة بإقراء القرآن عثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وسائر أولئك الذين أرسلهم عثمان بالمصاحف إلى الآفاق الإسلامية. والمشتهرون من التابعين ابن المسيب وعروة وسالم وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار وأخوه عطاء وزيد بن أسلم ومسلم بن جندب وابن شهاب الزهري, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وعبد الرحمن بن هرمز ومعاذ بن الحارث المشهور بمعاذ القارئ. وكل هؤلاء كانوا بالمدينة. وعطاء ومجاهد وطاوس وعكرمة وابن أبي مليكة وعبيد بن عمير وغيرهم وهؤلاء كانوا بمكة. وعامر بن عبد القيس وأبو العالية وأبو رجاء ونصر بن عاصم ويحيى بن يعمر1 وجابر بن زيد والحسن وابن سيرين وقتادة وغيرهم. وهؤلاء كانوا بالبصرة. وعلقمة والأسود ومسروق وعبيدة والربيع بن خيثم والحارث بن قيس وعمر بن شرحبيل وعمرو بن ميمون وأبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وعبيد بن نضلة وأبو زرعة بن عمرو وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي. وهؤلاء كانوا بالكوفة. والمغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب مصحف عثمان وخليد بن سعيد صاحب أبي الدرداء وغيرهما وهؤلاء كانوا بالشام. ثم تفرغ قوم للقراءات يضبطونها ويعنون بها. فكان بالمدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع ثم شيبة بن نصاح2 ثم نافع بن أبي نعيم. وكان بمكة عبد الله بن كثير وحميد بن قيس الأعرج ومحمد بن محيصن. وكان بالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود وسليمان الأعمش ثم حمزة ثم الكسائي.   1 قال في القاموس: يعمر كيفعل أسماء. 2 قال في القاموس: ونصاحه والد شيبة القارى هكذا بالتاء المربوطة. ولكن الذي في كتب القراء كالنشر وطبقات القراء نصاح من غير تاء مربوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وكان بالبصرة عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو وأبو عمرو بن العلاء وعاصم الجحدري ثم يعقوب الحضرمي. وكان بالشام عبد الله بن عامر وعطية بن قيس الكلابي وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر. ثم يحيى بن الحارث الذماري ثم شريح بن يزيد الحضرمي. وقد لمع في سماء هؤلاء القراء نجوم عدة مهروا في القراءة والضبط حتى صاروا في هذا الباب أئمة يرحل إليهم ويؤخذ عنهم. أعداد القراءات: ثم اشتهرت عبارات تحمل أعداد القراءات فقيل القراءات السبع والقراءات العشر والقراءات الأربع عشرة. وأحظى الجميع بالشهرة ونباهة الشأن القراءات السبع. وهي القراءات المنسوبة إلى الأئمة السبعة المعروفين وهم: نافع وعاصم وحمزة وعبد الله بن عامر وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وعلي الكسائي. والقراءات العشر هي هذه السبع وزيادة قراءات هؤلاء الثلاثة: أبي جعفر ويعقوب وخلف. وعلم القراءات أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا. ثم أهل عهد التدوين للقراءات ولم يكن لهذه السبعة بهذا العنوان وجود أيضا بل كان أول من صنف في القراءات أمثال أبي عبيد القاسم بن سلام وأبي حاتم السجستاني وأبي جعفر الطبري وإسماعيل القاضي. وقد ذكروا في القراءات شيئا كثيرا وعرضوا روايات تربي على أضعاف قراءة هؤلاء السبعة. ثم اشتهرت قراءات هؤلاء السبعة بعد ذلك على رأس المائتين في الأمصار الإسلامية. فكان الناس في البصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم وبالشام على قراءة ابن عامر وبمكة على قراءة ابن كثير وبالمدينة على قراءة نافع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ومكثت القراءات السبع على هذه الحال دون أن تأخذ مكانها من التدوين حين خاتمة القرن الثالث إذ نهض ببغداد الإمام ابن مجاهد أحمد بن موسى بن عباس فجمع قراءات هؤلاء الأئمة السبعة غير أنه أثبت اسم الكسائي وحذف يعقوب. وجاء اقتصاره على هؤلاء السبعة مصادفة واتفاقا من غير قصد ولا عمد. ذلك أنه أخذ على نفسه ألا يروي إلا عمن اشتهر بالضبط والأمان وطول العمر في ملازمة القراءة واتفاق الآراء على الأخذ عنه والتلقي منه. فلم يتم له ما أراده هذا إلا عن هؤلاء السبعة وحدهم. وإلا فأئمة القراءة لا يحصون كثرة وفيهم من هو أجل من هؤلاء قدرا وأعظم شأنا. وإذن فليس اقتصار ابن مجاهد على هؤلاء السبعة بحاصر للقراء فيهم ولا بملزم أحدا أن يقف عند حدود قراءاتهم. بل كل قراءة توافرت فيها الأركان الثلاثة للضابط المشهور وجب قبولها1. ومن هنا كانت القراءات العشر بزيادة قراءات: يعقوب وأبي جعفر وخلف. على قراءات أولئك السبعة. وكانت القراءات الأربع عشرة بزيادة أربع على قراءات هؤلاء العشرة وهي قراءات الحسن البصري وابن محيصن ويحيى اليزيدي والشنبوذي.   1 أي إن وجدت الآن. ولكن هيهات أن توجد, بعد أن استقر الأمر في الواقع وعرف أنه ليس في القراءات العشر التي بين أيدينا قراءة أخرى متواترة. وسيستقبلك حقيقه فيما بعد فانتظره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 فوائد اختلاف القراءات: استوفينا هذه النقطة بيانا في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف من ص 138- ص142. أنواع اختلاف القراءات: تكلمنا على هذا الموضوع في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف أيضا من ص 178- ص180. ضابط قبول القراءات: لعلماء القراءات ضابط مشهور يزنون به الروايات الواردة في القراءات فيقول: كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا ووافقت العربية ولو بوجه وصح إسنادها ولو كان عمن فوق العشرة من القراء فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن. وهذا الضابط نظمه صاحب الطيبة فقال: وكل ما وافق وجه النحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل ركن أثبتِ ... شذوذه لو أنه في السبعة والمراد بقولهم: ما وافق أحد المصاحف العثمانية أن يكون ثابتا ولو في بعضها دون بعض. كقراءة ابن عامر: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} من سورة البقرة بغير واو. وكقراءته: {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} بزيادة الباء في الاسمين فإن ذلك ثابت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 المصحف الشامي. وكقراءة ابن كثير {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في الموضع الأخير من سورة التوبة بزيادة كلمة من فإن ذلك ثابت في المصحف المكي. والمراد بقولهم: ولو تقديرا أنه يكفي في الرواية أن توافق رسم المصحف ولو موافقة غير صريحة نحو: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإنه رسم في جميع المصاحف بحذف الألف من كلمة مالك. فقراءة الحذف تحتمله تحقيقا كما كتب ملك الناس وقراءة الألف تحتمله تقديرا كما كتب: {مَالِكَ الْمُلْكِ} فتكون الألف حذفت اختصارا كما حذفت في حالات كثيرة ألمعنا إليها سابقا في قواعد رسم المصحف. أما الموافقة الصريحة فكثيرة نحو قوله سبحانه: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} فإنها كتبت في المصحف بدون نقط. وهنا وافقت قراءة {نُنْشِزُهَا} بالزاي وقراءة ننشرها بالراء. ومن بعد نظر الصحابة في رسم المصحف أن الكلمة التي رويت على الأصل وعلى خلاف الأصل كانوا يكتبونها بالحرف الذي يخالف الأصل ليتعادل مع الأصل الذي لم يكتب في دلالة الصورة الواحدة على القراءتين إذ يدل على إحداهما بالحروف وعلى الثانية بالأصل. نحو كلمتي الصراط والمصيطرون بالصاد المبدلة بالسين فإنهم كتبوهما بالصاد وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم قد أتت على الأصل فيعتدلان وتكون قراءة الإشمام أيضا محتملة. ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات هذا الاحتمال وعدت قراءة غير السين مخالفة للرسم والأصل كليهما. ولذلك كان الخلاف المشهور في بصطة الأعراف دون بسطة البقرة لكون حرف البقرة كتب بالسين وحرف الأعراف كتب بالصاد. وللعلامة النويري على الطيبة كلمة نفيسة في هذا الموضوع إذ يقول ما نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 اعلم أن الرسم هو تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها والوقف عليها والعثماني هو الذي رسم في المصاحف العثمانية. وينقسم إلى قياسي وهو ما وافق اللفظ وهو معنى قولهم: تحقيقا. وإلى سماعي وهو ما خالف اللفظ وهو معنى قولهم: تقديرا وإلى احتمالي وسيأتي. ومخالفة الرسم اللفظ محصورة في خمسة أقسام وهي الدلالة على البدل نحو: {الصِّرَاطَ} وعلى الزيادة نحو: {مَالِكِ} وعلى الحذف نحو: {لَكِنَّا هُوَ} وعلى الفصل نحو: {فَمَالِ هَؤُلاءِ} وعلى أن الأصل الوصل نحو: {أَلَّا يَسْجُدُوا} فقراءة الصاد والحذف والإثبات والفصل والوصل خمستها وافقها الرسم تحقيقا وغيرها تقديرا لأن السين تبدل صادا قبل أربعة أحرف منها الطاء كما سيأتي وألف {مَالِكِ} عند المثبت زائدة وأصل {لَكِنَّا} الإثبات وأصل {فَمَالِ} الفصل وأصل {أَلَّا يَسْجُدُوا} الوصل. فالبدل في حكم المبدل منه وكذا الباقي. وذلك ليتحقق الوفاق التقديري لأن اختلاف القراءتين إذا كان يتغاير دون تضاد ولا تناقض فهو في حكم الموافق وإذا كان بتضاد أو تناقض ففي حكم المخالف. والواقع الأول فقط وهو الذي لا يلزم من صحة أحد الوجهين فيه بطلان الآخر. وتحقيقه: أن اللفظ تارة يكون له جهة واحدة فيرسم على وفقها فالرسم هنا حصر جهة اللفظ فمخالفه مناقض. وتارة يكون له جهات فيرسم على إحداها فلا يحصر جهة اللفظ فاللافظ به موافق تحقيقا وبغيره تقديرا لأن البدل في حكم المبدل منه. وكذا بقية الخمسة. والقسم الثالث ما وافق الرسم احتمالا. ويندرج فيه ما وقع الاختلاف فيه بالحركة والسكون نحو {الْقُدُسِ} وبالتخفيف والتشديد نحو ينشرلكم بيونس وبالقطع والوصل المعبر عنه بالشكل نحو {ادْخُلُوا} بغافر وباختلاف الإعجام نحو {يَعْلَمُونَ} و {يَفْتَحُ} وبالإعجام والإهمال نحو {نُنْشِزُهَا} وكذا المختلف في كيفية لفظها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 كالمدغم والمسهل والممال والمرقق والمدور فإن المصاحف العثمانية هكذا كلها لتجردها عن أوصافها. فقول الناظم: وكان للرسم احتمالا دخل فيه ما وافق الرسم تحقيقا بطريق الأولى وسواء وافق كل المصاحف أو بعضها كقراءة ابن عامر {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ} فإنه ثابت بالشامي وكابن كثير في {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بالتوبة فإنه ثابت في الكوفي إلى غير ذلك. وقوله احتمالا يحتمل أن يكون جعله مقابلا للتحقيقي. فتكون القسمة عنده ثنائية وهو التحقيقي والاحتمالي ويكون قد أدخل التقديري في الاحتمالي وهو الذي فعله في نشره. ويحتمل أن يكون ثلث القسمة ويكون حكم الأولين ثابتا بالأولوية. ولولا تقدير موافقة الرسم للزم الكل مخالفة الكل في نحو {السَّمَاوَاتِ والصَّالِحَاتِ واللَّيْلِ} . ثم إن بعض الألفاظ يقع فيه موافقة إحدى القراءتين أو القراءات تحقيقا والأخرى تقديرا نحو ملك وبعضها يقع فيه موافقة القراءتين أو القراءات تحقيقا نحو أنصارا لله {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ, ويَغْفِرْ لَكُمْ, وهَيْتَ لَكَ} . واعلم أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت مشهورة. ألا ترى أنهم يعدون إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء {تَسْأَلْنِي} بالكهف وقراءة وأكون من الصالحين ونحو ذلك من مخالف الرسم غير مردود لرجوعه لمعنى واحد وتمشيه مع صحة القراءة وشهرتها. بخلاف زيادة كلمة ونقصانها وتقديمها وتأخيرها حتى ولو كانت حرف معنى فإن له حكم الكلمة ولا نسوغ مخالفة الرسم فيه. وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وقولهم في الضابط المذكور: وافق العربية ولو بوجه يريدون وجها من وجوه قواعد اللغة سواء أكان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية. هاك الحافظ أبا عمرو الداني في كتابه جامع البيان بعد ذكره إسكان كلمة {بَارِئْكُمْ} و {يَأمُرْكُمْ} في قراءة أبي عمرو وبعد حكاية إنكار سيبويه لذلك يقول ما نصه: والإسكان أصح في النقل وأكثر في الأداء. وهو الذي أختاره وآخذ به إلى أن قال: وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها ا. هـ. قلت وهذا كلام وجيه فإن علماء النحو إنما استمدوا قواعده من كتاب الله تعالى وكلام رسوله وكلام العرب فإذا ثبتت قرآنية القرآن بالرواية المقبولة كان القرآن هو الحكم على علماء النحو وما قعدوا من قواعد ووجب أن يرجعوا هم بقواعدهم إليه لا أن نرجع نحن بالقرآن إلى قواعدهم المخالفة نحكمها فيه وإلا كان ذلك عكسا للآية وإهمالا للأصل في وجوب الرعاية. وقولهم في ذلك الضابط: وصح إسناده يريدون به أن يروي تلك القراءة عدل ضابط عن مثله وهكذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من غير شذوذ ولا علة قادحة. بل شرطوا فوق هذا أن تكون الرواية مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط ولا مما شذ به بعضهم. والمحقق ابن الجزري يشترط التواتر ويصرح به في هذا الضابط ويعتبر أن ما اشتهر واستفاض موافقا الرسم والعربية في قوة المتواتر في القطع بقرآنيته وإن كان غير متواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 منطوق هذا الضابط ومفهومه: يدل هذا الضابط بمنطوقه على أن كل قراءة اجتمع فيها هذه الأركان الثلاثة يحكم بقبولها بل لقد حكموا بكفر من جحدها1. سواء أكانت هذه تلك القراءة مروية عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين. ويدل هذا الضابط بمفهومه على أن كل قراءة لم تتوافر فيها هذه الأركان الثلاثة. يحكم بعدم قبولها. وبعدم كفر من يجحدها. سواء أكانت هذه القراءة مروية عن الأئمة السبعة أم عن غيرهم ولو كان أكبر منهم مقاما وأعظم شأنا. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف كما صرح به الداني ومكي والمهدوي وأبو شامة. وناهيك بهؤلاء الأربعة أنهم أئمة في قراءات القرآن وعلوم القرآن. قال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز ما نصه: فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وأنها كذلك أنزلت إلا إذا دخلت في ذلك الضابط. وحينئذ فلا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه. والقراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ. غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءاتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيره ا. هـ. لكن رأى أبي شامة وأضرابه في القراءات السبع غير سديد كما سيجيء.   1 قد يقال: لا يسلم لهم ذلك إلا إن كانت القراءة متواترة معلومة من الدين بالضرورة, ويمكن أن يجاب بأن هذه الأركان الثلاثة أمارة التواتر والعلم من الدين بالضرورة. كما يأتي تفصيله. وإذن يكون الحكم صحيحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ثم إن مفهوم هذا الضابط المحكوم عليه بما ترى تنضوي تحته بضع صور يخالف بعضها حكم بعض تفصيلا وإن اشتركت كلها في الحكم عليها إجمالا بعدم قبولها كما علمت. ذلك أن الضابط المذكور يصدق مفهومه بنفي الأركان الثلاثة ويصدق بنفي واحد واثنين منها. ولكل حالة حكم خاص تعلمه من عبارة الإمام مكي التي نسوقها إليك ونصها: فإن سأل سائل: ما الذي يقبل من القراءات الآن فيقرأ به؟ وما الذي يقبل ولا يقرأ به؟ وما الذي لا يقبل ولا يقرأ به فالجواب أن جميع ما روي من القراءات على أقسام: قسم يقرأ به اليوم: وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال وهن أن ينقل عن الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغا ويكون موافقا لخط المصحف. فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قرئ به وقطع على تعينه وصحته وصدقه لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المصحف وكفر من جحده. قال: والقسم الثاني: ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف. فهذا يقبل ولا يقرأ به1 لعلتين: إحداهما أنه لم يؤخذ عن إجماع إنما أخذ أخبار الآحاد ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر الواحد. والعلة الثانية أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على تعينه وصحته وما لم يقطع على صحته لا تجوز القراءة به ولا يكفر من جحده,   1 ومعنى هذا أنه يقبل على اعتبار أنه خبر شرعي يصح الاحتجاج به عند من يرى ذلك وهم الحنفية دون الشافعية, ولا يقرأ به على أنه قرآن, ولا ليوم القارئ أحدا أنه قرآن. قال النويري: اعلم أن الذي استقرت عليه المذاهب وآراء العلماء أن من قرأ بها أي الشواذ غير معتقد أنها قرآن ولا موهم أحدا ذلك لما فيها من الأحكام الشرعبة عند من يحتج بها أو الأحكام الأدبية؛ فلا كلام في جواز قراءتها. وعلى هذا يحمل حال من قرأ بها عند المتقدمين. وكذلك أيضا يجوز تدوينها في الكتب والتكلم على ما فيها. وإن قرأها باعتقاد قرآنيتها أو لإيهام قرآنيتها حرم ذلك. ونقل ابن عبد البر في تمهيده إجماع المسلمين عليه اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ولبئس ما صنع إذا جحده. والقسم الثالث: هو ما نقله غير ثقة أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف. قال: ولكل صنف من هذه الأقسام تمثيل تركنا ذكره اختصارا اهـ. ثم انبرى المحقق ابن الجزري لذاك التمثيل الذي تركه مكي اختصارا فقال:- مثال القسم الأول: ملك ومالك ويخدعون ويخادعون وأوصى ووصى ويطوع وتطوع ونحو ذلك من لقراءات المشهورة. ومثال الثاني قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء: والذكر والأنثى في قوله تعالى {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} بحذف لفظ ما خلق. وقراءة ابن عباس: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا بإبدال كلمة أمام من كلمة وراء وبزيادة كلمة صالحة وأما الغلام فكان كافرا بزيادة كلمة كافرا ونحو ذلك مما ثبت برواية الثقات إلى أن قال: ومثال القسم الثالث مما نقله غير ثقة كثير كما في كتب الشواذ مما غالب إسناده ضعيف كقراءة ابن السميفع وأبي السمال وغيرهما في {نُنَجِّيكَ1 بِبَدَنِكَ} بالجيم المعجمة ولمن خلفك آية بفتح اللام أي من قوله خلفك بسكونها. وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه والتي جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي ونقلها عنه أبو القاسم الهذلي وغيره إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ   1 هنا سقط. والصواب ننحيك بالحاء المهملة في {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الْعُلَمَاءُ برفع الهاء ونصب الهمزة يعني برفع لفظ الجلالة ونصب لفظ العلماء. وقد راج ذلك على أكثر المفسرين ونسبها إليه فتكلف توجيهها فإنها لا أصل لها وإن أبا حنيفة لبريء منها. ومثال ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية- ولا يصدر هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط يعرفه الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون وهو قليل جدا بل لا يكاد يوجد. وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع معائش بالهمز ثم قال: ويدخل في هذين القسمين ما يذكره بعض المتأخرين من شراح الشاطبية في وقف حمزة نحو: أسمائهم وأولئك بياء خالصة ونحو شركاؤهم وأحباؤهم بواو خالصة. ونحو بدأكم وأخاه بألف خالصة ونحو را في رأى وترى في تراءى واشمزت في اشمأزت وفاداراتم في فادارأتم بحذف الهمزة في ذلك كله مما يسمونه التخفيف الرسمي ولا يجوز في وجه من وجوه العربية فإنه إما أن يكون منقولا عن ثقة - ولا سبيل إلى ذلك- فهو مما لا يقبل إذ لا وجه له. وإما أن يكون منقولا عن غير ثقة فمنعه أحرى ورده أولى. مع أني تتبعت ذلك فلم أجده منصوصا لحمزة لا بطريق صحيحة ولا ضعيفة. ثم قال: ويبقى قسم مردود أيضا وهو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة. فهذا رده أحق ومنعه أشد ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر. وقد ذكر جواز ذلك عن محمد بن الحسن بن مقسم البغدادي المقرئ النحوي وكان بعد الثلاثمائة. قال الإمام أبو طاهر بن أبي هاشم في كتابه البيان: وقد نبغ نابغ في عصرنا فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية بحرف من القرآن يوافق المصحف فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها. فابتدع بدعة ضل بها قصد السبيل قلت: وقد عقد له بسبب ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 مجلس ببغداد حضره الفقهاء والقراء وأجمعوا على منعه وأوقف للضرب ورجع وكتب عليه محضر بذلك. كما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد وأشرنا إليه في الطبقات اهـ. ملاحظة: إنما اكتفى القراء في ضابط القراءة المشهورة بصحة الإسناد مع الركنين الآخرين ولم يشترطوا التواتر: مع أنه لا بد منه في تحقق القرآنية لأسباب ثلاثة:- أحدها: أن هذا ضابط لا تعريف والتواتر قد لوحظ في تعريف القرآن على أنه شطر أو شرط على الأقل. ولم يلحظ في الضابط لأنه يغتفر في الضوابط ما لا يغتفر في التعاريف. فالضوابط ليست لبيان الماهية والحقيقة. ثانيها: التيسير على الطالب في تمييز القراءات المقبولة من غيرها فإنه يسهل عليه بمجرد رعايته لهذا الضابط أن يميز القراءات المقبولة من غير المقبولة. أما إذا اشترط التواتر فإنه يصعب عليه ذلك التمييز لأنه يضطر في تحصيله إلى أن يصل إلى جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الرواية. وهيهات أن يتيسر له ذلك. ثالثها: أن هذه الأركان الثلاثة تكاد تكون مساوية للتواتر في إفادة العلم القاطع بالقراءات المقبولة. بيان هذه المساواة أن ما بين دفتي المصحف متواتر ومجمع عليه من الأمة في أفضل عهودها وهو عهد الصحابة فإذا صح سند القراءة ووافقت قواعد اللغة ثم جاءت موافقة لخط هذا المصحف المتواتر كانت هذه الموافقة قرينة على إفادة هذه الرواية للعلم القاطع وإن كانت آحادا. ولا تنس ما هو مقرر في علم الأثر من أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفت به قرينة توجب ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فكأن التواتر كان يطلب تحصيله في الإسناد قبل أن يقوم المصحف وثيقة متواترة بالقرآن. أما بعد وجود هذا المصحف المجمع عليه فيكفي في الرواية صحتها وشهرتها ما وافقت رسم هذا المصحف ولسان العرب. قال صاحب الكواكب الدرية نقلا عن المحقق ابن الجزري ما نصه: قولنا: وصح سندها نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله وهكذا حتى ينتهي وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ به بعضهم. وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر1. وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن. وهذا مما لا يخفى ما فيه فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من موافقة الرسم وغيره. إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه اهـ. وبهذا التوجيه الذي وجهنا به الضابط المذكور يهون اعتراض العلامة النويري في شرحه على الطيبة إذ يقول ما نصه: وقوله: وصح إسنادا ظاهره أن القرآن يكتفي في ثبوته مع الشرطين المتقدمين بصحة السند فقط ولا يحتاج إلى تواتر. وهذا قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم كما ستراه إن شاء الله تعالى. ولقد ضل بسبب هذا القول قوم فصاروا يقرؤون أحرفا لا يصح لها سند أصلا ويقولون: التواتر   1 أي في هذا الضابط الذي لوحظ فيه وجود الركنيين الآخرين مع هذا الركن. وإنما فسرنا كلامه بذلك لأن التواتر مجرد شرط أو شطر في القرآن كما هو التحقيق. ولأن موضوع حديثه هنا إنما هو اشتراط التواتر في هذا الركن الذي هو جزء من الضابط, كما صرح به أولا, كما يرشد إليه كلامه آخرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ليس بشرط. وإذا طولبوا بسند صحيح لا يستطيعون ذلك. ولا بد لهذه المسألة من بعض بسط فلذلك لخصت فيها مذاهب القراء والفقهاء الأربعة المشهورين وما ذكر الأصوليون والمفسرون وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وذكرت في هذا التعليق المهم من ذلك لأنه لا يحتمل التطويل فأقول: القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة منهم الغزالي وصدر الشريعة وموفق الدين المقدسي وابن مفلح والطوفي هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا. وقال غيرهم: هو الكلام المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه. وكل من قال بهذا الحد اشترط التواتر كما قال ابن الحاجب رحمه الله تعالى للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله. والقائلون بالأول لم يحتاجوا للعادة لأن التواتر عندهم جزء من الحد فلا تتصور ماهية القرآن إلا به. وحينئذ فلا بد من التواتر عند أئمة المذاهب الأربعة ولم يخالف منهم أحد فيما علمت بعد الفحص الزائد. وصرح به جماعات لا يحصون كابن عبد البر وابن عطية وابن تيمية والتونسي في تفسيره والنووي والسبكي والإسنوي والأذرعي والزركشي والدميري وابن الحاجب والشيخ خليل وابن عرفة وغيرهم رحمهم الله تعالى. وأما القراء فأجمعوا في أول الزمان على ذلك وكذلك في آخره لم يخالف من المتأخرين إلا أبو محمد مكي وتبعه بعض المتأخرين. وهذا كلامهم الخ اهـ. ثم ساق نقولا كثيرة عزاها إليهم يقصر المقام هنا عن عرضها. وفيما ذكرناه كفاية. وهذا التوجيه الذي وجهنا به الضابط السالف يجعل الخلاف كأنه لفظي ويسير بجماعات القراء على جدد الطريق في تواتر القرآن ومن سلك الجدد أمن العثار. أنواع القراءات من حيث السند: ينقل السيوطي عن ابن الجزري أن أنواع القراءات ستة:- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الأول المتواتر: وهو ما رواه جمع عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم: مثاله ما اتفقت الطرق في نقله عن السبعة. وهذا هو الغالب في القراءات. الثاني المشهور: هو ما صح سنده بأن رواه العدل الضابط عن مثله وهكذا ووافق العربية ووافق أحد المصاحف العثمانية سواء أكان عن الأئمة السبعة أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ إلا أنه لم يبلغ درجة المتواتر. مثاله: ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض. ومن أشهر ما صنف في هذين النوعين التيسير للداني والشاطبية وطيبة النشر في القراءات العشر. وهذان النوعان هما اللذان يقرأ بهما مع وجوب اعتقادهما ولا يجوز إنكار شيء منهما. النوع الثالث: ما صح سنده وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر الاشتهار المذكور. وهذا النوع لا يقرأ به ولا يجب اعتقاده. من ذلك ما أخرجه الحاكم من طريق عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: متكئين على رفارف خضر وعباقري حسان. ومنه قراءة لقد جاءكم رسول من أنفسكم بفتح الفاء. الرابع الشاذ: وهو ما لم يصح سنده كقراءة ابن السميفع: فاليوم ننحيك ببدنك بالحاء المهملة "لتكون لمن خلفك آية" بفتح اللام من كلمة {خَلَفَكَ} . الخامس الموضوع: وهو ما نسب إلى قائله من غير أصل. مثال ذلك القراءات التي جمعها محمد بن جعفر الخزاعي ونسبها إلى أبي حنيفة. وقد سبق الكلام عليها في شرح الضابط الآنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 النوع السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث. وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير كقراءة سعد ابن أبي وقاص "وله أخ أو أخت من أم" بزيادة لفظ "من أم". وقراءة: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" بزيادة لفظ "في مواسم الحج" وقراءة الزبير: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم بزيادة لفظ ويستعينون بالله على ما أصابهم. وإنما كان شبيها ولم يكن مدرجا لأنه وقع خلاف فيه. قال عمر رضي الله عنه: فما أدري أكانت قراءاته يعني الزبير أم فسر أخرجه سعيد بن منصور وأخرجه ابن الأنباري وجزم بأنه تفسير. وكان الحسن يقرأ: "وإن منكم إلا واردها" الورود: الدخول قال ابن الأنباري: قوله الورود: الدخول تفسير من الحسن لمعنى الورود. وغلط فيه بعض الرواة فأدخله في القرآن. قال ابن الجزري في آخر كلامه: وربما كانوا يدخلون التفسير في الكلام إيضاحا لأنهم متحققون لما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس انتهى بتصرف تبعنا فيه صاحب الكواكب الدرية. تواتر القرآن: أكتفي في هذا الموضوع بأن أسوق إليك نقولا ثلاثة فوق ما نقلته عن النويري من قبل: أولها: يقول الإمام الغزالي في المستصفى ما نصه: حد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا. ونعني بالكتاب القرآن المنزل. وقيدناه بالمصحف لأن الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله حتى كرهوا التعاشير والنقط, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره ونقل إلينا متواترا فنعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن وأن ما هو خارج عنه فليس منه إذ يستحيل في العرف والعادة مع توافر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه. ثم قال: فإن قيل: لم شرطتم التواتر؟ قلنا ليحصل العلم به لأن الحكم بما لا يعلم جهل وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي حتى يتعلق بظننا فيقال: إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم فيكون التحريم معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة لتعلق التحريم به. إلى أن قال: ويتشعب عن حد الكلام مسألتان: إحداهما مسألة التتابع في صوم كفارة اليمين: فإنه ليس بواجب على قول وإن قرأ ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات لأن هذه الزيادة لم تتواتر فليست من القرآن فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار. وقال أبو حنيفة: يجب التتابع لأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا والعمل يجب بخبر الواحد. وهذا ضعيف لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه وهو1 إن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به. وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له لدليل قد دله عليه واحتمل أن يكون خبرا. وما تردد بين   1 كذا بالأصل الذي نفلت عنه. ولعل الواو في لفظ وهو زادتها المطبعة خطأ. وجملة لا دليل على كذبه حالية من لفظ الواحد, والمعنى هكذا: لأن خبر الواحد هنا حال كونه لا دليل على كذبه, ولفظ هو ضمير فصل أو عائد على خبر الواحد, إن جعله أبو حنيفة من القرآن الخ. ويمكن أن تكون كلمة وهو كلها مدرجة في الطبع أو النسخ فتدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 أن يكون خبرا أو لا يكون فلا يجوز العمل به وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما المسألة الثانية فهي أن البسملة آية من القرآن لكن هل هي آية من أول كل سورة؟ فيه خلاف. وميل الشافعي -رحمه الله- إلى أنها آية من سورة الحمد وسائر السور لكنها في أول كل سورة آية برأسها أو هي مع أول آية من سائر السور آية هذا مما نقل عن الشافعي فيه تردد. وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة؟ بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن اهـ ما أردنا نقله بتصرف طفيف. ثانيها: يقول صاحب مسلم الثبوت وشارحه ما نصه: ما نقل آحادا فليس بقرآن قطعا ولم يعرف فيه خلاف لواحد من أهل المذاهب واستدل بأن القرآن مما تتوافر الدواعي على نقله لتضمنه التحدي ولأنه أصل الأحكام باعتبار المعنى والنظم جميعا حتى تعلق بنظمه أحكاما كثيرة ولأنه يتبرك به في كل عصر بالقراءة ولذا علم جهد الصحابة من حفظه بالتواتر القاطع. وكل ما تتوافر دواعي نقله ينقل متواترا عادة. فوجوده ملزوم التواتر عند الكل عادة فإذا انتفى اللازم وهو التواتر انتفى الملزوم قطعا. والمنقول آحادا ليس متواترا فليس قرآنا اهـ. ثالثها: يقول الحافظ جلال الدين في الإتقان ما نصه: لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه. وأما في محله ووضعه وترتيبه فكذلك عند محققي أهل السنة للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم مما تتوافر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله فما نقل آحادا ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وذهب كثير من الأصوليين إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله. وليس بشرط في محله ووضعه وترتيبه. بل يكثر فيها نقل الآحاد. قيل وهو الذي يقتضيه صنع الشافعي في إثبات البسملة من كل سورة. ورد هذا المذهب بأن الدليل السابق يقتضي التواتر في الجميع ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر وثبوت كثير مما ليس بقرآن منه. أما الأول فلأنا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز ألا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن. {مثل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وأما الثاني فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد. وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة. وكره ذلك أهل الحق وامتنعوا منه وقال قوم من المتكلمين: إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف إذا كانت تلك الأوجه صوابا في العربية وإن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها. وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه وخطؤوا من قال به. اهـ. وقد بنى المالكية وغيرهم ممن قال بإنكار البسملة قولهم على هذا الأصل وقرروا أنها لم تتواتر في أوائل السور وما لم يتواتر فليس بقرآن. وأجيب من قبلنا بمنع كونها لم تتواتر فرب متواتر عند قوم دون آخرين وفي وقت دون آخر. ويكفي في تواترها إثباتها في مصاحف الصحابة فمن بعدهم بخط المصحف مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه كأسماء السور وآمين والأعشار. فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخطه من غير تمييز لأن ذلك يحمل على اعتقاد كونها قرآنا. فيكونون مغررين بالمسلمين حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا وهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة. فإن قيل: لعلها أثبتت للفصل بين السور. أجيب بأن هذا فيه تغيير, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ولا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل ولو كانت له لكتبت بين براءة والأنفال. اهـ كلام السيوطي. وهذه النقول الثلاثة كافية في الموضوع كما ترى لأن عبارتي المستصفى ومسلم الثبوت يقيمان الدليل واضحا على تواتر القرآن وإن اختلف طريقهما في الاستدلال. وعبارة السيوطي تذكر الخلاف في عموم هذا التواتر لما كان أصلا وغير أصل وتؤيد هذا العموم وترد على من قصر التواتر على أصل القرآن دون محله ووضعه وترتيبه. الآراء في القراءات السبع: هنا يجد الباحث نفسه في معترك مليء بكثرة الخلافات واضطراب النقول واتساع المسافة بين المختلفين إلى حد بعيد. وإليك صورة مصغرة تشهد فيها حرب الآراء والأفكار مشبوبة بين الكاتبين في هذا الموضوع: 1- يبالغ بعضهم في الإشادة بالقراءات السبع ويقول: من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة. ويعزى هذا الرأي إلى مفتي البلاد الأندلسية الأستاذ أبي سعيد فرج بن لب وقد تحمس لرأيه كثيرا وألف رسالة كبيرة في تأييد مذهبه والرد على من رد عليه. ولكن دليله الذي استند إليه لا يسلم له فإن القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن. كيف؟ وهناك فرق بين القرآن والقراءات السبع بحيث يصح أن يكون القرآن متواترا في غير القراءات السبع أو في القدر الذي اتفق عليه القراء جميعا أو في القدر الذي اتفق عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قراء كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أو غير قراء بينما تكون القراءات السبع غير متواترة وذلك في القدر الذي اختلف فيه القراء ولم يجتمع على روايته عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة وإن كان احتمالا ينفيه الواقع كما هو التحقيق الآتي. 2- يبالغ بعضهم في توهين القراءات السبع والغض من شأنها فيزعم أنه لا فرق بينها وبين سائر القراءات ويحكم بأن الجميع روايات آحاد. ويستدل على ذلك بأن القول يتواترها منكر يؤدي إلى تكفير من طعن في شيء منها مع أن الطعن وقع فعلا من بعض العلماء والأعلام. ونناقش هذا الدليل بأنا لا نسلم أن إنكار شيء من القراءات يقتضي التكفير على القول بتواترها. وإنما يحكم بالتكفير على من علم تواترها ثم أنكره. والشيء قد يكون متواترا عند قوم غير متواتر عند آخرين وقد يكون متواترا في وقت دون آخر فطعن من طعن منهم يحمل على ما لم يعلموا تواتره منها وهذا لا ينفي التواتر عند من علم به {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} . ويمكن مناقشة هذا الدليل أيضا بأن طعن الطاعنين إنما هو فيما اختلف فيه وكان من قبيل الأداء. أما ما اتفق عليه فليس بموضع طعن. ونحن لا نقول إلا بتواتر ما اتفق عليه دون ما اختلف فيه. 3- يقول ابن السبكي في جمع الجوامع وشارحه ومحشيه: القراءات السبع متواترة تواترا تاما أي نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب لمثلهم وهلم جرا. ولا يضر كون أسانيد القراء آحادا إذ تخصيصها بجماعة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم بل هو الواقع فقد تلقاها عن أهل كل بلد بقراءة إمامهم الجم الغفير عن مثلهم وهلم جرا. وإنما أسندت إلى الأئمة المذكورين ورواتهم المذكورين في أسانيدهم لتصديهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 لضبط حروفها وحفظ شيوخهم الكمل فيها اهـ. وقد يناقش هذا بأنها لو تواترت جميعا ما اختلف القراء في شيء منها لكنهم اختلفوا في أشياء منها فإذا لا يسلم أن تكون كلها متواترة. ويجاب عن هذا بأن الخلاف لا ينفي التواتر بل الكل متواتر وهم فيه مختلفون فإن كل حرف من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جماعة يؤمن تواطئهم على الكذب حفظا لهذا الكتاب وهم بلغوه إلى أمثالهم وهكذا. ولا شك أن الحروف يخالف بعضها بعضا فلا جرم تواتر كل حرف عند من أخذ به وإن كان الآخر لم يعرفه ولم يأخذ به. وهنا يجتمع التخالف والتواتر. وهنا يستقيم القول بتواتر القراءات السبع بل القراءات العشر كما يأتي. 4- ويذهب ابن الحاجب إلى تواتر القراءات السبع غير أنه يستثني منها ما كان من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة. قال البناني على جمع الجوامع: وكأن وجه ذلك أن ما كان من قبيل الأداء بأن كان هيئة للفظ يتحقق اللفظ بدونها كزيادة المد على أصله وما بعده من الأمثلة وما كان من هذا القبيل لا يضبطه السماع عادة لأنه يقبل الزيادة والنقصان بل هو أمر اجتهادي. وقد شرطوا في التواتر ألا يكون في الأصل عن اجتهاد. فإن قيل قد يتصور الضبط في الطبقة الأولى للعلم بضبطها ما سمعته منه صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي صدر منه من غير تفاوت بسبب تكرر عرضها ما سمعته منه صلى الله عليه وسلم. قلنا إن سلم وقوع ذلك لم يفد إذ لا يأتي نظيره في بقية الطبقات فإن الطبقة الأولى لا تقدر عادة على القطع بأن ما تلقته الثانية جار على الوجه الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم. وبما تقرر علم أن الكلام فيما زاد على أصل المد وما بعده لا في الأصل فإنه متواتر. الحاصل أنه إن أريد بتواتر ما كان من قبيل الأداء تواتره باعتبار أصله كأن يراد تواتر المد من غير نظر لمقداره وتواتر الإمالة كذلك فالوجه خلاف ما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ابن الحاجب للعلم بتواتر ذلك. وإن أريد تواتر الخصوصيات الزائدة على الأصل فالوجه ما قاله ابن الحاجب قاله ابن قاسم اهـ بقليل من التصرف. لكننا إذا رجعنا لعبارة ابن الحاجب نجدها كما يقول في مختصر الأصول له: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه اهـ وهذا زعم صريح منه بأن المد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها من قبيل الأداء وأنها غير متواترة. وهذا غير صحيح كما يأتيك نبؤه في مناقشة ابن الجزري له طويلا. 5- يذهب أبو شامة إلى أن القراءات السبع متواترة فيما اتفقت الطرق على نقله عن القراء أما ما اختلفت الطرق في نقله عنهم فليس بمتواتر سواء أكان الاختلاف في أداء الكلمة كما ذهب ابن الحاجب أم في لفظها. فالاستثناء هنا أعم مما استثناه ابن الحاجب. وعبارة أبي شامة في كتابه المرشد الوجيز نصها ما يأتي: ما شاع على ألسنة جماعة من متأخري المقرئين وغيرهم من أن القراءات السبع متواترة ونقول به فيما اتفقت الطرق على نقله عن القراء السبعة دون ما اختلفت فيه بمعنى أنه نفيت نسبته إليهم في بعض الطرق. وذلك موجود في كتب القراءات لا سيما كتب المغاربة والمشارقة فبينهما تباين في مواضع كثيرة. والحاصل أنا لا نلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء. أي بل منها المتواتر وهو ما اتفقت الطرق على نقله عنهم وغير المتواتر وهو ما اختلفت فيه بالمعنى السابق. وهذا بظاهره يتناول ما ليس من قبيل الأداء وما هو من قبيله اهـ. نقلا عن الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع بتذييل منه. ورأي أبو شامة هذا كنت أقول في الطبعة الأولى إنه أمثل الآراء فيما أرى وذلك لأمور أربعة: أولها: أنه رأي سليم من التوهينات التي نوقشت بها الآراء السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ثانيها: أن يستند إلى الواقع في دعواه وفي دليله. ذلك أن القراءات السبع وقع اختلاف بعضها حقيقة في النطق بألفاظ الكلمات تارة وبأداء تلك الألفاظ تارة أخرى. ومن هنا كانت الدعوى مطابقة للواقع ثم إن دليله يقوم على الواقع أيضا في أن بعض الروايات مضطربة في نسبتها إلى الأئمة القراء فبعضهم نفاها وبعضهم أثبتها. وذلك أمارة انتفاء التواتر لأن الاتفاق في كل طبقة من الجماعة الذين يؤمن تواطؤهم على الكذب لازم من لوازم التواتر. وقد انتفى هذا الاتفاق هنا فينتفي التواتر لما هو معلوم من أنه كلما انتفى اللازم انتفى الملزوم. ثالثها: أن هذا الرأي صادر عن إخصائي متمهر في القراءات وعلوم القرآن وهو أبو شامة وصاحب الدار أدرى بما فيها. رابعها: أن هذا الرأي يتفق وما هو مقرر لدى المحققين من أن القراءات قد تتوافر فيها الأركان الثلاثة المذكورة في ذلك الضابط المشهور وقد تنتفي هذه الأركان الثلاثة كلا أو بعضا لا فرق في هذا بين القراءات السبع وغير السبع على نحو ما تقدم. ويتفق هذا الرأي أيضا وما صرحوا به من تقسيم القراءات باعتبار السند إلى ستة أقسام كما سبق. استدراك: لكني بعد معاودة البحث والنظر واتساع أفق اطلاعي فيما كتب أهل التحقيق في هذا الشأن تبين لي أن أبا شامة أخطأه الصواب أيضا فيمن أخطأ وأنني أخطأت في مشايعته وتأييده. ويضطرني إنصاف الحق أن أكر على الوجوه التي أيدته بها بين يديك فأنقضها وجها وجها. والرجوع إلى الحق فضيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 1- فرأي أبي شامة المسطور لم يسلم من مثل تلك التوهينات التي نوقشت بها الآراء السابقة وسترى قريبا شدة مناقشته الحساب في كلام ابن الجزري. 2- ثم إن الغطاء قد انكشف عن أن القراءات السبع بل القراءات العشر كلها متواترة في الواقع وأن الخلاف بينها لا ينفي عنها التواتر فقد يجتمع التواتر والتخالف كما بينا عند عرض رأي ابن السبكي وكما يستبين لك الأمر فيما يأتي من تحقيق ابن الجزري. 3- أما أن أبا شامة أخصائي متمهر فسبحان من له العصمة والكمال لله تعالى وحده. على أن الذي رد عليه واخترنا رأيه -وهو ابن الجزري- أخصائي متمهر أيضا وإليه انتهت الزعامة في هذا الفن حتى إذا أطلق لقب المحقق لم ينصرف إلا إليه وكم ترك الأول للآخر. 4- وأما ما قرره المحققون من تقسيم القراءات إلى متواتر وغير متواتر فهو تقسيم لا يغني عن أبي شامة شيئا في رأيه هذا لأن كلامهم هناك كان في مطلق القراءات أما كلامنا وكلام أبي شامة هنا فهو في خصوص القراءات السبع. وبينهما برزخ لا يبغيان. الآراء في القراءات الثلاث المتممة للعشر: لقد علمت فيما سبق ما قيل في القراءات السبع من أنها متواترة أو غير متواترة. أما القراءات الثلاث المكملة للعشر فقيل فيها بالتواتر ويعزى ذلك إلى ابن السبكي. وقيل فيها بالصحة فقط ويعزى ذلك إلى الجلال المحلي. وقيل فيها بالشذوذ ويعزى ذلك إلى الفقهاء الذين يعتبرون كل ما وراء القراءات السبع شاذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 التحقيق تواتر القراءات العشر كلها: والتحقيق الذي يؤيده الدليل هو أن القراءات العشر كلها متواترة وهو رأي المحققين من الأصوليين والقراء كابن السبكي وابن الجزري والنويري بل هو رأي أبي شامة في نقل آخر صححه الناقلون عنه وجوزوا أن يكون الرأي الآنف مدسوسا عليه أو قاله أول أمره ثم رجع عنه بعد. ولعل من الصواب والحكمة أن أترك الكلام هنا للمحقق ابن الجزري يصول فيه ويجول ويسهب ويطرب واضعا للحق في نصابه دافعا للخطأ وشبهاته. فاقرأه واصبر على الإكثار والتطويل فإن المقام دقيق وجليل {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . قال -رحمه الله- في كتابه منجد المقرئين ابتداء من الصفحة السابعة والخمسين ما نصه: الفصل الثاني في أن القراءات العشر متواترة فرشا وأصولا حال اجتماعهم وافتراقهم وحل مشكل ذلك اعلم أن العلماء بالغوا في ذلك نفيا وإثباتا وأنا أذكر أقوال كل ثم أبين الحق من ذلك. أما من قال بتواتر الفرش1 دون الأصول فابن الحاجب. قال في مختصر الأصول له: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه اهـ. فزعم أن المد والإمالة وما أشبه ذلك من الأصول كالإدغام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات ونقل الحركة وتسهيل الهمزة من قبيل الأداء وأنه غير متواتر. وهذا قول غير صحيح كما سنبينه.   1 يراد بالفرش الجزئيات التي يقع الخلاف في قراءتها ولا يقاس عليها. كقراءة يخدعون في سورة البقرة لا يقاس عليها ما جاء في سورة النساء من كلمة {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} مع أن الخلاف وقع في قراءة الأولى. ويراد بالأصول الكليات التي تندرج تحتها الجزئيات المتماثلة, كقواعد المد والهمز والإمالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 أما المد فأطلقه وتحته ما يسكب العبرات فإنه إما أن يكون طبيعيا أو عرضيا. والطبيعي هو الذي لا تقوم ذات حروف المد بدونه كالألف من قال والواو من يقول والياء من قيل. وهذا لا يقول مسلم بعدم تواتره إذ لا تمكن القراءة بدونه. والمد العرضي هو الذي يعرض زيادة على الطبيعي لموجب إما سكون أو همز. فأما السكون فقد يكون لازما كما في فواتح السور وقد يكون مشددا نحو آلم ق ن ولا الضالين ونحوه فهذا يلحق بالطبيعي لا يجوز فيه القصر لأن المد قام مقام حرف توصلا للنطق بالساكن. وقد أجمع المحققون من الناس على مده قدرا سواء. وأما الهمز فعلى قسمين: الأول إما أن يكون حرف المد في كلمة والهمز في أخرى وهذا تسميه القراء منفصلا واختلفوا في مده وقصره وأكثرهم على المد فادعاؤه عدم تواتر المد فيه ترجيح بلا مرجح ولو قال العكس لكان أظهر لشبهته لأن أكثر القراء على المد. الثاني أن يكون حرف المد والهمز في كلمة واحدة وهو الذي يسمى متصلا. وقد أجمع القراء سلفا وخلفا من كبير وصغير وشريف وحقير على مده لا خلاف بينهم في ذلك إلا ما روي عن بعض من لا يعول عليه بطريق شاذة فلا تجوز القراءة به. حتى إن إمام الرواية أبا القاسم الهذلي - الذي دخل المشرق والمغرب وأخذ القراءة عن ثلاثمائة وخمسة وستين شيخا وقال: رحلت من آخر المغرب إلى فرغانة يمينا وشمالا وجبلا وبحرا وألف كتابه الكامل الذي جمع فيه بين الذرة وأذن الجرة من صحيح وشاذ ومشهور ومنكر- قال في باب المد في فصل المتصل: لم يختلف في هذا الفصل أنه ممدود على وتيرة واحدة فالقراء فيه على نمط واحد وقدروه بثلاث ألفات- إلى أن قال- وذكر العراقي أن الاختلاف في مد كلمة واحدة كالاختلاف في مد كلمتين ولم أسمع هذا لغيره. وطالما مارست الكتب والعلماء فلم أجد من يجعل مد الكلمة الواحدة كمد الكلمتين إلا العراقي. قلت: والعراقي هو منصور بن أحمد المقرئ كان بخراسان. ولقد أخطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 في ذلك وشيوخه الذين قرأ عليهم نعرفهم الإمام أبو بكر بن مهران وأبو الفرج الشنبوذي وإبراهيم بن أحمد المروزي ولم يرو عنهم شيء من ذلك في طريق من الطرق. فإذا كان ذلك يجسر ابن الحاجب أو من هو أكبر منه على أن يقدم على ما أجمع عليه فيقول: هو غير متواتر فهذه أقسام المد العرضي أيضا متواترة: لا يشك في ذلك إلا جاهل. وكيف يكون المد غير متواتر وقد أجمع عليه الناس خلفا عن سلف؟ فإن قيل: قد وجدنا القراء في بعض الكتب كالتيسير للحافظ الداني وغيره جعل لهم فيما مد للهمز مراتب في المد إشباعا وتوسطا وفوقه ودونه وهذا لا ينضبط إذ المد لا حد له. وما لا ينضبط كيف يكون متواترا؟ قلت: نحن لا ندعي أن مراتبه متواترة وإن كان قد ادعاه طائفة من القراء والأصوليين. بل نقول: إن المد العرضي من حيث هو متواتر مقطوع به قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى عليه وأنه ليس من قبيل الأداء فلا أقل من أن نقول القدر المشترك متواتر. وأما ما زاد على القدر المشترك كعاصم وحمزة وورش فهو إن لم يكن متواترا فصحيح مستفاض1 متلقى بالقبول. ومن ادعى تواتر الزائد على القدر المشترك فليبين. وأما الإمالة على نوعيها فهي وضدها لغتان فاشيتان من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن مكتوبتان في المصاحف متواترتان وهل يقول أحد في لغة أجمع الصحابة والمسلمون على كتابتها في المصاحف إنها من قبيل الأداء؟ وقد نقل الحافظ الحجة أبو عمرو الداني في كتابه إيجاز البيان الإجماع على أن الإمالة لغة لقبائل العرب دعاهم إلى الذهاب إليها التماس الخفة. وقال الإمام أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل: إن الإمالة والتفخيم لغتان ليست إحداهما أقدم من الأخرى: بل نزل القرآن بهما جميعا - إلى أن قال- والجملة   1 كذا بالأصل. ولعل صوابه مستفيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 بعد التطويل أن من قال إن الله تعالى لم ينزل القرآن بالإمالة أخطأ وأعظم الفرية على الله تعالى وظن بالصحابة خلاف ما هم عليه من الورع والتقى. قلت: كأنه يشير إلى كونهم كتبوا بالإمالة في المصاحف نحو يحيى وموسى وهدى ويسعى والهدى ويغشيها وجليها وآسى وآتينكم وما أشبه ذلك مما كتبوه بالياء على لغة الإمالة وكتبوا مواضع تشبه هذا بالألف على لغة الفتح منها قوله عز وجل في سورة إبراهيم: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حتى إنهم كتبوا {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} في البقرة بالياء وكتبوا {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} بالألف وأي دليل أعظم من ذلك؟ قال الهذلي: وقد أجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على الأخذ والقراءة والإقراء بالإمالة والتفخيم. وذكر أشياء ثم قال: وما أحد من القراء إلا رويت عنه إمالة قلت أو كثرت إلى أن قال وهي يعني الإمالة لغة هوازن وبكر بن وائل وسعد بن بكر. وأما تخفيف الهمزة ونحوه من النقل والإدغام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات فمتواتر قطعا معلوم أنه منزل من الأحرف السبعة ومن لغات العرب الذين لا يحسنون غيره وكيف يكون غير متواتر أو من قبيل الأداء؟ وقد أجمع القراء في مواضع على الإدغام في مثل {مُدَّكِرٍ, أَثْقَلَتْ1 دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا, مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} وكذلك أجمع القراء في مواضع على تخفيف الهمز نحو {آلْآنَ, آللَّهُ, آلذَّكَرَيْنِ} في الاستفهام وفي مواضع على النقل نحو {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ويرى ونرى وعلى ترقيق الراءات في مواضع نحو {فِرْعَوْنَ، مِرْيَةٍ} وعلى تفخيم اللامات في مواضع نحو اسم الجلالة بعد الضمة والفتحة.   1 لعله يريد إدغام التاء في الدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على كتابة الهمزة الثانية من قوله تعالى في آل عمران {أَؤُنَبِّئُكُمْ} بواو. قال أبو عمرو الداني وغيره: إنما كتبوا ذلك على إرادة تسهيل الهمزة بين بين اهـ. وكيف يكون ما أجمع عليه القراء أمما عن أمم غير متواتر. وإذا كان المد وتخفيف الهمز والإدغام غير متواتر على الإطلاق فما الذي يكون متواترا؟ أقصر آلم ودابة وأولئك الذي لم يقرأ به أحد من الناس؟ أم تخفيف همزة {آلذَّكَرَيْنِ, آللَّهُ} الذي أجمع الناس على أنه لا يجوز وأنه لحن؟ أم إظهار {مُدَّكِرٍ} الذي أجمع الصحابة والمسلمون على كتابته وتلاوته بالإدغام؟ فليت شعري من الذي تقدمه قبل بهذا القول فقفى أثره والظاهر أنه لما سمع قول الناس: إن التواتر فيما ليس من قبيل الأداء ظن أن المد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه من قبيل الأداء فقال غير مفكر فيه. وإلا فالشيخ أبو عمرو لو فكر فيه لما أقدم عليه أو لو وقف على كلام إمام الأصوليين من غير مدافعة القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني في كتاب الانتصار حيث قال: جميع ما قرأ به قراء الأمصار مما اشتهر عنهم استفاض نقله. ولم يدخله في حكم الشذوذ بل رآه سائغا جائزا من همز وإدغام ومد وتشديد وحذف وإمالة أو ترك ذلك كله أو شيء منه أو تقديم أو تأخير فإنه كله منزل من عند الله تعالى ومما وقف الصحابة على صحته وخير بينه وبين غيره وصوب للجميع القراءة به قال: ولو سوغنا لبعض القراء إمالة ما لم يمله الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أو غير ذلك لسوغنا لهم جميع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أطال -رحمه الله- الكلام على تقدير ذلك وجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ واحدا بعض القرآن بحرف وبعضه بحرف آخر على ما قد يراه أيسر على القارئ اهـ. قلت: وظهر من هذا إن اختلاف القراء في الشيء الواحد مع اختلاف المواضع قد أخذه الصحابي كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأه كذلك إلى أن اتصل بالقراء. نحو قراءة حفص مجريها بالإمالة فقط ولم يمل في القرآن غيره وقراءة ابن عامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 إبراهام في مواضع محصورة وقراءة أبي جعفر يحزن في الأنبياء فقط بضم الياء وكسر الزاي وفي باقي القرآن بفتح الياء وضم الزاي وقراءة نافع عكسه في جميع القرآن بضم الياء وكسر الزاي إلا في الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي وشبه ذلك مما يقول القراء عنه: جمع بين اللغتين. وليت الإمام ابن الحاجب أخلى كتابه من ذكر القراءات وتواترها كما أخلى غيره كتبهم منها. وإذ قد ذكرها فليته لم يتعرض إلى ما كان من قبيل الأداء. وإذ قد تعرض فليته سكت عن التمثيل فإنه إذا ثبت أن شيئا من القراءات من قبيل الأداء لم يكن متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم كتقسيم وقف حمزة وهشام وأنواع تسهيله فإنه وإن تواتر تخفيف الهمز في الوقف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتواتر أنه وقف على موضع بخمسين وجها ولا بعشرين ولا بنحو ذلك. وإنما إن صح شيء منها فوجه والباقي لا شك أنه من قبيل الأداء1. ولما قال ابن السبكي في كتابه جمع الجوامع: والسبع متواترة قيل: فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه وسئل عن زيادته على ابن الحاجب قيل المقتضية لاختياره أن ما هو من قبيل الأداء كالمد والإمالة إلى آخره متواتر فأجاب -رحمه الله- في كتابه منع الموانع: أعلم أن السبع متواترة والمد متواتر والإمالة متواترة كل هذا بين لا شك فيه. وقول ابن الحاجب: فيما ليس من قبيل الأداء صحيح لو تجرد عن قوله: كالمد والإمالة. لكن تمثيله بهما أوجب فساده كما سنوضحه من بعد فلذلك قلنا: قيل ليتبين أن القول بأن المد والإمالة والتخفيف غير متواترة   1 لعلك فهمت أن مرادهم بكلمة من قبيل الأداء ما يتصل بتقدير الأصول المتواترة. مثلا المد للهمز أصل جاء متواترا. أما تقديره بأربع حركات أو ست فليس بمتواتر, لأنه لا يسهل ضبطه. وقيل فيه بالتواتر أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ضعيف عندنا بل هي متواترة. ثم أخذ يذكر المد والإمالة والتخفيف - إلى أن قال- فإذا عرفت ذلك فكلامنا قاض بتواتر السبع. ومن السبع مطلق المد والإمالة وتخفيف الهمز بلا شك. أما من قال: إن القراءات متواترة حال اجتماع القراء لا حال افتراقهم فأبو شامة قال في المرشد الوجيز في الباب الخامس منه: فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيرهم. فمما نسب إليهم وفيه إنكار أهل اللغة وغيرهم الجمع بين الساكنين في تاءات البزي وإدغام أبي عمرو وقراءة حمزة فما "استطاعوا" وتسكين من أسكن "بارئكم" ونحوه "وسبأ ويا بني ومكر السيئ" وإشباع الياء في "يرتقي ويتقي ويبصر1 وأفئدة من الناس" وقراءة ملائكة بفتح الهمزة وهمز ساقها2 وخفض والأرحام في أول النساء ونصب كن فيكون والفصل بين المتضايفين في الأنعام وغير ذلك إلى أن قال: فكل ذلك محمول على قلة ضبط الرواة فيه ثم قال: إن صح النقل فيه فهو من بقايا الأحرف السبعة التي كانت القراءة المباحة عليه على ما هو جائز في العربية فصيحا كان أو دون ذلك. وأما بعد كتابة المصاحف على اللفظ المنزل فلا ينبغي قراءة ذلك اللفظ إلا على اللغة الفصحى من لغة قريش وما نسبها حملا لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم والسادة من أصحابه على ما هو اللائق فإنهم إنما كتبوه على لغة قريش فكذا قراءتهم به. قال: وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين: أن القراءات السبع كلها متواترة أي في   1 كذا بالأصل فتأمله. 2 لعل الصواب سوقه من قوله سبحانه: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} فتدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 كل فرد فرد ممن روى عن هؤلاء الأئمة السبعة. قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله تعالى واجب. قال: ونحن بهذا نقول لكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها. فانظر يا أخي إلى هذا الكلام الساقط الذي خرج من غير تأمل المتناقض في غير موضع في هذه الكلمات اليسيرة أوقفت عليه شيخنا الإمام ولي الله تعالى أبا محمد بن محمد بن محمد الجمالي رضي الله عنه فقال: ينبغي أن يعدم هذا الكتاب من الوجود ولا يظهر ألبتة وإنه طعن في الدين. قلت: ونحن يشهد الله أننا لا نقصد إسقاط الإمام أبي شامة إذ الجواد قد يعثر ولا يجهل قدره. بل الحق أحق أن يتبع. ولكن نقصد التنبيه على هذه الزلة المزلة ليحذر منها من لا معرفة له بأقوال الناس ولا اطلاع له على أحوال الأئمة. أما قوله: فمما نسب إليهم وفيه إنكار أهل اللغة الخ فغير لائق بمثله أن يجعل ما ذكره منكرا عند أهل اللغة. وعلماء اللغة والإعراب الذين عليهم الاعتماد سلفا وخلفا يوجهونها ويستدلون بها. وأنى يسعهم إنكار قراءة تواترت أو استفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نويس لا اعتبار بهم لا معرفة لهم بالقراءات ولا بالآثار جمدوا على ما علموا من القياسات وظنوا أنهم أحاطوا بجميع لغات العرب أفصحها وفصيحها حتى لو قيل لأحدهم شيء من القرآن على غير النحو الذي أنزل الله يوافق قياسا ظاهرا عنده ولم يقرأ بذلك أحد لقطع له بالصحة. كما أنه لو سئل عن قراءة متواترة لا يعرف لها قياسا لأنكرها ولقطع بشذوذها حتى إن بعضهم قطع في قوله عز وجل: {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} بأن الإدغام الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم والمسلمون لحن وأنه لا يجوز عند العرب لأن الفعل الذي هو تأمن مرفوع فلا وجه لسكونه حتى يدغم في النون التي تليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 فانظر يا أخي إلى قلة حياء هؤلاء من الله تعالى. يجعلون ما عرفوه من القياس أصلا والقرآن العظيم فرعا حاشا العلماء المتقدى بهم من أئمة اللغة والإعراب من ذلك. بل يجيئون إلى كل حرف مما تقدم ونحوه يبالغون في توجيهه والإنكار على من أنكره. حتى إن إمام اللغة والنحو أبا عبد الله محمد بن مالك قال في منظومته الكافية الشافية في الفصل بين المتضايفين: وعمدتي قراءة ابن عامر ... فكم لها من عاضد وناصر ولولا خوف الطول وخروج الكتاب عن مقصوده لأوردت ما زعم أن أهل اللغة أنكروه وذكرت أقوالهم فيها ولكن إن مد الله في الأجل لأضعن كتابا مستقلا في ذلك يشفي القلب ويشرح الصدر أذكر فيه جميع ما أنكره من لا معرفة له بقراءة السبعة والعشرة. ولله در الإمام أبي نصر الشيرازي حيث حكى في تفسيره عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} كلام الزجاجي في تضعيف قراء الخفض. ثم قال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم واستقبح ما قرأ به. وهذا مقام محظور لا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو. ولعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح وإن كان غيره أفصح منه فإنا لا ندعي أن كل ما في القراءات على أرفع الدرجات من الفصاحة. وقال الإمام الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه جامع البيان عند ذكر إسكان بارئكم ويأمركم لأبي عمرو بن العلاء: وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية. بل على الأثبت في الأثر والأصح في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 النقل. والرواية إذا ثبتت عندهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة فلزم قبولها والمصير إليها. قلت: ثم لم يكف الإمام أبا شامة حتى قال: فكل ذلك يعني ما تقدم محمول على قلة ضبط الرواة لا والله. بل كله محمول على كثرة الجهل ممن لا يعرف لها أوجها وشواهد صحيحة تخرج عليها كما سنبينه إن شاء الله تعالى في الكتاب الذي وعدنا به آنفا إذ هي ثابتة مستفاضة ورواتها أئمة ثقات. وإن كان ذلك محمولا على قلة ضبطهم فليت شعري أكان الدين قد هان أهله؟ حتى يجيء شخص في ذلك الصدر يدخل في القراءة بقلة ضبطه ما ليس منها فيسمع منه ويأخذ عنه ويقرأ به في الصلاة وغيرها ويذكره الأئمة في كتبهم ويقرؤون به ويستفاض ولم يزل كذلك إلى زماننا هذا لا يمنع أحد من أئمة الدين القراءة به مع أن الإجماع منعقد على أن من زاد حركة أو حرفا في القرآن أو نقص ما تلقاء نفسه مصرا على ذلك يكفر والله جل وعلا تولى حفظه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} . وأعظم من ذلك تنزله إذ قال: وعلى تقدير صحتها وأنها من الأحرف السبعة لا ينبغي قراءتها حملا لقراء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ما هو اللائق بهم. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم لم يقرؤوا بها مع تقدير صحتها وأنها من الأحرف السبعة فمن أوصلها إلى هؤلاء الذين قرؤوا بها. ثم يقول: فلا أقل من اشتراط ذلك يعني اشتراط الشهرة والاستفاضة. قلت: ألا تنظرون إلى هذا القول؟ ثم أأحد في الدنيا يقول: إن قراءة ابن عامر وحمزة وأبي عمرو ومن اجتمع عليه أهل الحرمين والشام أبي جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وقراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 البزي وقنبل وهشام إن تلك غير مشهورة ولا مستفاضة وإن لم تكن متواترة؟ هذا كلام من لم يدر ما يقول حاشا الإمام أبا شامة منه. وأنا من فرط اعتقادي فيه أكاد أجزم بأنه ليس من كلامه في شيء. ربما يكون بعض الجهلة المتعصبين ألحقه بكتابه أو أنه ألف هذا الكتاب أول أمره كما يقع لكثير من المصنفين. وإلا فهو في غيره من مصنفاته كشرحه على الشاطبية بالغ في الانتصار والتوجيه لقراءة حمزة والأرحام بالخفض والفصل بين المتضايفين. ثم قال في الفصل: ولا التفات إلى قول من زعم أنه لم يأت في الكلام مثله لأنه ناف ومن أسند هذه القراءة مثبت والإثبات مرجح على النفي بالإجماع. قال: ولو نقل إلى هذا الزاعم عن العرب أنه استعمله في النثر لرجع عن قوله. فما باله ما يكتفي بناقلي القراءة من التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم ثم أخذ في تقرير ذلك. قلت: هذا الكلام مباين لما تقدم وليس منه في شيء. وهو الأليق بمثله رحمه الله. ثم قال أبو شامة في المرشد بعد ذلك القول: فالحاصل أنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها. قلت: ونحن كذلك لكن في القليل منها كما تقدم في الباب الثاني1. قال: وغاية ما يبديه مدعي تواتر المشهور منها كإدغام أبي عمرو ونقل الحركة لورش وصلة ميم الجمع وها الكناية لابن كثير أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة إلا أنه بقي عليه التواتر   1 يشير بذلك إلى مثل قراءة هشام {أَفْئِدَةُ} بياء بعد الهمز. فإنه اعتبره صحيحا مقطوعا به وإن لم يتواتر, لأن استفاضته وموافقته الرسم والعربية قرائن مثلها يفيد العلم في غير المتواتر. انظر المنجد ص 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 من ذلك الإمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل فرد فرد من ذلك. ومن ثم تسكب العبرات فإنها من ثم لم ينقلها إلا آحاد إلا اليسير منها. قلت: هذا من جنس ذلك الكلام المتقدم. أوقفت عليه شيخنا الإمام واحد زمانه شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب بيبرود الشافعي فقال لي: معذور أبو شامة حيث إن القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية وخفي عليه أنها نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحا وإلا فكل أهل بلدة كانوا يقرؤونها أخذوها أمما عن أمم. ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلده لم يوافقه على ذلك أحد بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها. قلت: صدق. ومما يدل على هذا ما قال ابن مجاهد: قال لي قنبل: قال القواس في سنة سبع وثلاثين ومائتين. الق هذا الرجل يعني البزي فقل له: هذا الحرف ليس من قراءتنا. يعني {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} مخففا. وإنما يخفف من الميت من قد مات ومن لم يمت فهو مشدد. فلقيت البزي فأخبرته فقال له: قد رجعت عنه وقال محمد ابن صالح: سمعت رجلا يقول لأبي عمرو: كيف تقرأ {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ؟ فقال: {لا يُعَذِّبُ} بالكسر. فقال له الرجل: كيف؟ وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعذب بالفتح. فقال له أبو عمرو: لو سمت الرجل الذي قال: سمت النبي صلى الله عليه وسلم ما أخذته عنه. أو تدري ما ذاك؟ لأني أتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة. قال الشيخ أبو الحسن السخاوي: وقراءة الفتح أيضا ثابتة بالتواتر. قلت: صدق لأنها قراءة الكسائي. قال السخاوي: وقد تواتر الخبر عند قوم دون قوم. وإنما أنكرها أبو عمرو لأنها لم تبلغه على وجه التواتر. قلت: وهذا كان من شأنهم على أن تعيين هؤلاء القراء ليس بلازم ولو عين غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 هؤلاء لجاز. وتعيينهم إما لكونهم تصدو للإقراء أكثر من غيرهم أو لأنهم شيوخ المعين كما تقدم. ومن ثم كره من كره من السلف أن تنسب القراءة إلى أحد. روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكوهون سند فلان وقراءة فلان. قلت: وذلك خوفا مما توهمه أبو شامة من القراءة إذا نسبت إلى شخص تكون آحادية. ولم يدر أن كل قراءة نسبت إلى قارئ من هؤلاء كان قراؤها زمن قارئها وقبله أكثر من قرائها في هذا الزمن وأضعافهم. ولو لم يكن انفراد القراء متواترا لكان بعض القرآن غير متواتر لأنا نجد في القرآن أحرفا تختلف القراء فيها وكل منهم على قراءة لا توافق الآخر كأرجه وغيرها فلا يكون شيء منها متواترا. وأيضا قراءة من قرأ مالك ويخادعون فكثير من القرآن غير متواتر لأن التواتر لا يثبت باثنين ولا بثلاثة. قال الإمام الجعبري في رسالته: وكل وجه من وجوه قراءته كذلك يعني متواترا لأنها أبعاضه. ثم قال: فظهر من هذا فساد قول من قال: هو متواتر دونها إذ هو عبارة عن مجموعها. ثم قال ابن الجزري: ومما يحقق لك أن قراءة أهل كل بلد متواترة بالنسبة إليهم أن الإمام الشافعي رضي الله عنه جعل البسملة من القرآن مع أن روايته عن شيخه مالك تقتضي عدم كونها من القرآن لأنه من أهل مكة وهم يثبتون البسملة بين السورتين ويعدونها من أول الفاتحة آية وهو قرأ قراءة ابن كثير على إسماعيل القسط عن ابن كثير فلم يعتمد في روايته عن مالك في عدم البسملة لأنها آحاد واعتمد على قراءة ابن كثير لأنها متواترة وهذا لطيف فتأمله فإنني كنت أجد في كتب أصحابنا يقولون: إن الشافعي رضي الله عنه روى حديث عدم البسملة عن مالك ولم يعول عليه فدل على أنه ظهرت له فيه علة وإلا لما ترك العمل به. قلت: ولم أر أحدا من أصحابنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 بين العلة فبينا أنا ليلة مفكر إذ فتح الله تعالى بما تقدم - والله تعالى أعلم- أنها هي العلة مع أني قرأت القرآن برواية إمامنا الشافعي عن ابن كثير كالبزي وقنبل. ولما علم بذلك بعض أصحابنا من كبار الأئمة الشافعية قال لي: أريد أن أقرأ عليك القرآن بها. ومما يزيدك تحقيقا ما قاله أبو حاتم السجستاني قال: أول من تتبع بالبصرة وجوه القراءات وألفها وتتبع الشاذ منها هارون بن موسى الأعور. قال: وكان من القراء. فكره الناس ذلك وقالوا: قد أساء حين ألفها. وذلك أن القراءة إنما يأخذها قرون وأمة عن أفواه أمة ولا يلتفت منها إلا ما جاء من راو راو. قلت: يعني آحادا آحادا. وقال الحافظ العلامة أبو سعيد خليل كيكلدي العلائي في كتابه المجموع المذهب: وللشيخ شهاب الدين أبي شامة في كتابه المرشد الوجيز وغيره كلام في الفرق بين القراءات السبع1 والشاذة منها. و2كلام غيره من متقدمي القراء ما يوهم أن القراءات السبع ليست متواترة كلها وأن أعلاها ما اجتمع فيه صحة السند وموافقة خط المصحف الإمام والفصيح من لغة العرب وأنه يكفي فيها الاستفاضة وليس الأمر كما ذكر هؤلاء. والشبهة دخلت عليهم مع انحصار أسانيدها في رجال معروفين وظنوها كاجتهاد الآحاد3.   1 كذا بالأصل. ولعله قد سقطت هنا كلمة المتواتر, ولعل كلمة والشاذة أصلها والشاذ بدون تاء مربوطة. فتدبر. 2 كذا بالأصل. ولعله قد سقطت هنا كلمة في ويكون الصواب: وفي كلام غيره فتأمل. 3 لعل أصله: فظنوها كأخبار الآحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 قلت: وقد سألت شيخنا إمام الأئمة أبا المعالي رحمه الله تعالى عن هذا الموضع فقال: انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القرآن عن غيرهم. فلقد كان يتلقاه أهل كل بلد يقرؤه منهم الجم الغفير عن مثلهم وكذلك دائما. والتواتر حاصل لهم. ولكن الأئمة الذين تصدوا لضبط الحروف وحفظوا شيوخهم منها وجاء السند من جهتهم1. وهذه الأخبار الواردة في حجة الوداع ونحوها أجلى2 ولم تزل حجة الوداع منقولة فمن3 يحصل بهم التواتر عن مثلهم في كل عصر فهذه كذلك. وقال هذا موضع ينبغي التنبه له. انتهى والله أعلم. ذلك ما قاله العلامة ابن الجزري في هذا المقام من كتابه المنجد ولعله فصل الخطاب في هذا الموضوع ولذلك آثرنا أن ننقله إليك محاولين حسن عرضه وضبطه والتعليق عليه مختصرا بقدر الإمكان. ولقد كنت أود أن تكون النسخة التي نقلت منها أكثر تحريرا مما رأيت ولكن ما الحيلة؟ وهي أول طبعة عن نسخة مخطوطة برواق المغاربة من الأزهر الشريف ومن شأن البدايات أن يكون فيها نقص ثم تصير إلى الكمال في النهاية إن شاء الله.   1, 2 لعل في هذين الموضعين سقطا. 3 صواب هذه الفاء أن تكون عينا أو ميما أو باء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ب - القراء القراء جمع قارئ وهو في اللغة اسم فاعل من قرأ. ويطلق في الاصطلاح على أمام من الأئمة المعروفين الذين تنسب إليهم القراءات السابقة. وقد سردنا عليك أسماءهم. ونتحفك هنا بنبذة قصيرة عن كل واحد من مشهوريهم وعن بعض من اشتهر بالرواية عنه لتطلع على لمحة من فضلهم ولتتصل اتصالا علميا بهذه الفئة الكريمة التي لها هذا الأثر الرائع في المحافظة على أداء القرآن الكريم بتلك الطرق المدوية في جميع أنحاء العالم الإسلامي مدى تلك القرون الطويلة. ونحن لا نريد بهذه الكلمات استقصاء تاريخهم ولا الأدوار التي مرت قراءاتهم. فذلك شوط واسع. أفرده بالتأليف جماعة منهم الذهبي وابن الجزري في طبقات القراء1. القراء السبعة رحمهم الله: 1- ابن عامر اسمه عبد الله اليحصبي نسبة إلى يحصب وهو فخذ من حمير ويكنى أبا نعيم وأبا عمران. وهو تابعي جليل لقى وائلة بن الأسقع والنعمان بن بشير وقد أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي عن عثمان بن عفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إنه   1 طبقات القراء لابن الجزري عولت عليها في تراجم القراء خصوصا عند الاختلاف بين المراجع, لأنه هو المعروف بالمحقق. وبهذه المناسبة أريد أن تقضى العجب أو الأسف معي على أن الذي عنى بطبع هذا الكتاب ونشره هو المستشرق الألماني ج. برجستراسر كما سمعت أنه طبع كتابا بمصر أيضا في القراءات لابن خالويه, ثم نقله إلى بلاده, ومصر كلها محرومة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 قرأ على عثمان نفسه وقد توفي بدمشق سنة 118 ثماني عشرة ومائة وقد اشتهر برواية قراءته هشام وابن ذكوان ولكن بواسطة أصحابه. فأما هشام فقد أخذ القراءة عن عراك بن خالد المزي عن يحيى بن الحارث الذماري عن ابن عامر. وكان هشام قاضيا فقيها محدثا ثقة ضابطا توفي بدمشق سنة خمس وأربعين ومائتين. وأما ابن ذكوان فهو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي الدمشقي. أخذ القراءة عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث الذماري عن ابن عامر يقول أبو زرعة فيه: إنه الحافظ الدمشقي لم يكن بالعراق ولا بالحجاز ولا بالشام ولا بمصر ولا بخراسان في زمن ابن ذكوان عندي أقرأ منه توفي سنة 242 اثنتين وأربعين ومائتين. وفي ابن عامر وراوييه يقول صاحب الشاطبية:- وأما دمشق الشام دار ابن عامر ... فتلك بعبد الله طابت محللا هشام وعبد الله وهو انتسابه ... لذكوان بالإسناد عنه تنقلا 2- ابن كثير هو أبو محمد أو أبو معبد عبد الله بن كثير الداري. كان إمام الناس في القراءة بمكة تحفه السكينة ويحوطه الوقار. لقى من الصحابة عبد الله بن الزبير وأبا أيوب الأنصاري وأنس بن مالك. وروي عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ على عبد الله بن السائب المخزومي. وقرأ عبد الله هذا على أبي بن كعب وعمر بن الخطاب. وكلاهما قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفي سنة 120 عشرين ومائة بمكة المكرمة. وقد اشتهر بالرواية عنه ولكن بواسطة أصحابه البزي وقنبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 أما البزي فهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة. فالبزي نسبة إلى بزة هذا وهو جده الأعلى. كان إماما ضابطا ثقة انتهت إليه مشيخة الإقراء بمكة روي عن عكرمة بن سليمان عن شبل بن عباد وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين عن ابن كثير. وكان إمام المسجد الحرام ومقرئه ومؤذنه توفي سنة 250 خمسين ومائتين. وأما قنبل فهو محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن محمد المخزومي المكي يكنى أبا عمر ويلقب بقنبل لشدته1. كان إماما في القراءة ضابطا ثقة يؤمه الناس من أقطار الأرض. أخذ القراءة عن أبي الحسن أحمد القواس عن وهب عن القسط عن شبل ومعروف وكلاهما قرأ على ابن كثير. توفي سنة 291 إحدى وتسعين ومائتين. وفي ابن كثير وراوييه يقول صاحب الشاطبية: ومكة عبد الله فيها مقامه ... هو ابن كثير كاثر القوم معتلا روى أحمد البزي له ومحمد ... على سند وهو الملقب قنبلا 3- عاصم هو أبو بكر عاصم بن أبي النجود الأسدي والنجود بفتح النون وضم الجيم مأخوذ من نجدت الثياب إذا سويت بعضها ببعض. كان قارئا متقنا آية في التحرير والإتقان والفصاحة وحسن الصوت بقراءة القرآن قرأ على زر بن حبيش على عبد الله بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ أيضا على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي معلم الحسن والحسين. وقرأ عبد الرحمن هذا على الإمام علي وأخذ الإمام علي قراءته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي بالكوفة أو بالسماوة سنة 127 سبع وعشرين ومائة. روى عنه شعبة وحفص كلاهما بدون واسطة.   1 قنبل كقنفذ: الغلام الحاد الرأس الخفيف الروح. ذلك أصل معناه, ثم سمى به محمد بن عبدا لرحمن القارئ. انظر القاموس إن شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 أما شعبة فهو المشهور بابن عياش بن سالم الأسدي وقيل اسمه محمد وقيل مطرق ويكنى أبا بكر لأن شعبة اسم مشترك بينه وبين أبي بسطاط شعبة بن الحجاج البصري. كان إماما عالما كبيرا. توفي بالكوفة سنة 193 ثلاث وتسعين ومائة. وأما حفص فهو أبو عمرو حفص بن سليمان بن المغيرة البزاز كان ربيب عاصم: تربى في حجره وقرأ عليه وتعلم منه كما يتعلم الصبي من معلمه فلا جرم كان أدق إتقانا من شعبة. توفي سنة 180 ثمانين ومائة. وفي عاصم وراوييه يقول صاحب الشاطبية: وبالكوفة الغراء منهم ثلاثة ... أذاعوا فقد ضاعت شذى وقرنفلا فأما أبو بكر وعاصم اسمه ... فشعبة راويه المبرز أفضلا وذاك ابن عياش أبو بكر الرضا ... وحفص وبالإتقان كان مفضلا 4- أبو عمرو هو أبو عمرو زبان بن العلا عمار البصري. كان من أعلم الناس بالقراءة مع صدق وأمانة وثقة في الدين. روى عن مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقرأ على جماعة منهم أبو جعفر وزيد بن القعقاع والحسن البصري. وقرأ الحسن على حطان وأبي العالية. وقرأ أبو العالية على عمر بن الخطاب. توفي سنة 154 أربع وخمسين ومائة. وممن اشتهر بالرواية عنه الدوري والسوسي ولكن بواسطة اليزيدي أبي محمد يحيى بن المبارك العدوي المتوفى سنة 202 اثنتين ومائتين. وسمي باليزيدي نسبة إلى يزيد بن منصور خال الخليفة المهدي لأنه كان يؤدب ولده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 أما الدوري فهو أبو عمر حفص بن عمر المقري الضرير ولقب بالدوري نسبة إلى الدور وهو موضع بالجانب الشرقي من بغداد كان ثقة ضابطا أول من جمع القراءات. روي عن اليزيدي عن أبي عمرو وتوفي سنة 246 ست وأربعين ومائتين. وأما السوسي فهو أبو شعيب صالح بن زياد روي عن اليزيدي عن أبي عمرو. وكان ثقة ضابطا. توفي سنة 261 إحدى وستين ومائتين. وفي أبي عمرو وراوييه يقول صاحب الشاطبية: وأما الإمام المازني صريحهم ... أبو عمرو البصري فوالده العلا أفاض على يحيى اليزيدي سيبه ... فأصبح بالعذب الفرات معللا أبو عمر الدوري وصالحهم أبو ... شعيب هو السوسي عنه تقبلا 5- حمزة هو أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات الكوفي مولى عكرمة بن ربيع التيمي. قرأ على أبي محمد سليمان بن مهران الأعمش على يحيى بن وثاب على زر بن حبيش على عثمان وعلي وابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم. كان ورعا بكتاب الله مجودا له عارفا بالفرائض والعربية حافظا للحديث. توفي بحلوان سنة 156 ست وخمسين ومائة. وممن اشتهر بالرواية عنه خلف وخلاد لكن بواسطة أبي عيس سليم بن عيسى الحنفي الكوفي المتوفى سنة 188 ثمان وثمانين ومائة. أما خلف فهو أبو محمد خلف بن هشام بن طالب بن البزار. كان زاهدا عابدا. روى عن سليم بن عيسى الحنفي عن حمزة. وتوفي سنة 229 تسع وعشرين ومائتين. وأما خلاد فهو أبو عيسى خلاد بن خالد الأحول الصيرفي. روى عن سليم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 عيسى عن حمزة. وكان أضبط أصحاب سليم وأجلهم عرفانا وتحقيقا. توفي بالكوفة سنة 220 عشرين ومائتين. وفي ذلك يقول صاحب الشاطبية: وحمزة ما أزكاه من متورع ... إماما صبورا للقرآن مرتلا روى خلف عنه وخلاد الذي ... رواه سليم متقنا ومحصلا 6- نافع هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني. أخذ القراءة عن أبي جعفر القاري وعن سبعين من التابعين وهم أخذوا عن عبد الله بن عباس وأبي هريرة عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانتهت إليه رياسة الإقراء بالمدينة المنورة. توفي سنة 169 تسع وستين ومائة. وممن اشتهر بالرواية عنه قالون وورش: أما قالون فهو أبو موسى عيسى بن مينا النحوي. ولقب بقالون لجودة قراءته لأن قالون معناه الجيد في أصل وضعها. قرأ على نافع واختص به كثيرا وقال: قرأت على نافع غير مرة وكتبت عنه. توفي سنة 220 عشرين ومائتين. وأما ورش فهو عثمان بن سعيد المصري يكنى أبا سعيد ويلقب بورش لشدة بياضه1. رحل إلى المدينة فقرأ على نافع ختمات سنة 155 خمس وخمسين ومائة ثم رجع إلى مصر فانتهت إليه رياسة الإقراء بها وكان حسن الصوت جيد القراءة. توفي سنة سبع وتسعين ومائة. وفي ذلك يقول صاحب الشاطبية:   1 الورش في أصل اللغة: يطلق على شيء يصنع من اللبن. فيصح أن يضرب به المثل في البياض. انظر القاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 فأما الكريم السر في الطيب1 نافع ... فذاك الذي أختار المدينة منزلا وقالون عيسى ثم عثمان ورشهم ... بصحبته المجد الرفيع تأثلا 7- الكسائي هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي. لقب بالكسائي لأنه كان في الإحرام لابسا كساء قال أبو بكر الأنباري: اجتمعت في الكسائي أمور: كان أعلم الناس بالنحو وأوحدهم بالغريب وكان أوحد الناس بالقرآن فكانوا يكثرون عليه حتى يضطر أن يجلس على الكرسي ويتلوا القرآن من أوله إلى آخره وهم يسمعون منه ويضبطون عنه. توفي سنة 189 تسع وثمانين ومائة. وقد اشتهر بالرواية عنه أبو الحارث والدوري. أما أبو الحارث فهو الليث بن خالد المروزي. كان من أجلاء أصحاب الكسائي ثقة وضبطا. توفي سنة 240 أربعين ومائتين. وأما الدوري فهو أبو عمر حفص بن عمر الدوري الذي ألمعنا إليه في الرواية عن أبي عمرو. وفي الكسائي وراوييه يقول صاحب الشاطبية: وأما علي فالكسائي نعته ... لما كان في الإحرام فيه تسربلا روى ليثهم عنه أبو الحارث الرضا ... وحفص هو الدوري وفي الذكر قد خلا   1 يشير بهذه الكلمة إلى ما روى عنه أنه كان إذا تكلم يشم من فيه ريح المسك بسبب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في فيه مناما؛ كما أخبر نافع بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 تمام القراء العشرة: وهاك كلمة عن الثلاثة الذين إذا أضيفوا إلى السبعة السابقين تكمل بهم عدة القراء العشرة أصحاب القراءات العشر المعروفة والتي سبق الكلام عليها قريبا. 8- أبو جعفر هو يزيد بن القعقاع القاري نسبة إلى موضع بالمدينة يسمى قارا. وقد سبق أنه أخذ عن عبد الله بن عباس وأبي هريرة عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي أبو جعفر سنة 130 ثلاثين ومائة وكان تابعيا جليل القدر رفيع المنزلة. وقد اشتهر بالرواية عنه أبو موسى عيسى بن وردان الحذاء وأبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز. أما ابن وردان فهو أبو موسى عيسى بن وردان المدني الحذاء من أصحاب نافع في القراءة على أبي جعفر. كان مقرئا ضابطا ثقة. وتوفي سنة 160 ستين ومائة. وأما ابن جماز فهو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز. قرأ على أبي جعفر وشيبة بن نصاحة ونافع. وتوفي بعد سنة 170 سبعين ومائة بالمدينة المنورة. 9- يعقوب هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمي. قرأ على أبي المنذر سلام بن سليمان الطويل. وقرأ سلام على عاصم وعلى أبي عمرو. توفي يعقوب سنة 205 خمس ومائتين. وممن اشتهر بالرواية عنه روح بن عبد المؤمن ومحمد بن المتوكل اللؤلؤي الملقب برويس وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 أما روح فهو أبو الحسن روح بن عبد المؤمن بن عبدة بن مسلم الهذلي النحوي قرأ على إمام البصرة أبي محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وكان إماما جليلا ثقة روى عنه البخاري. وتوفي سنة 234 أربع أو خمس وثلاثين ومائتين. وأما رويس فهو أبو عبد الله محمد بن المتوكل اللؤلؤي البصري المعروف برويس. كان من أحذق أصحاب يعقوب. وتوفي بالبصرة سنة 238 ثمان وثلاثين ومائتين. 10- خلف هو أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب بن خلف بن ثعلب قرأ على سليم عن حمزة وعلى يعقوب بن خليفة الأعشى وعلى أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري صاحب المفضل الضبي وعلى أبان العطار وهم عن عاصم. وتوفي خلف سنة 229 تسع وعشرين ومائتين كما سبق في ترجمة حمزة. وممن اشتهر بالرواية عنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عثمان بن عبد الله المروزي ثم البغدادي الوراق المتوفى سنة 286 ست وثمانين ومائتين. وممن اشتهر بالرواية عنه أيضا أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم الحداد البغدادي المتوفى سنة 292 اثنتين أو ثلاث وتسعين ومائتين. تمام القراء الأربعة عشر: وهاك كلمة مختصرة عن الأربعة الذين إذا أضيفوا إلى العشرة السابقين كملت عدة القراء الأربعة عشر الذين تنسب إليهم القراءات المعروفة بالقراءات الأربع عشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 11- الحسن البصري هو السيد الإمام الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد البصري الغني بشهرته عن تعريفه. المتوفى سنة 110 عشر ومائة. 12- ابن محيصن هو محمد بن عبد الرحمن السهمي المكي مقرئ أهل مكة مع ابن كثير. المتوفى سنة 123 ثلاث وعشرين ومائة. 13- يحيى اليزيدي هو يحيى بن المبارك بن المغيرة الإمام أبو محمد العدوي البصري المعروف باليزيدي. المتوفى سنة 202 اثنتين ومائتين. -14 الشنبوذي هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن يوسف بن العباس بن ميمون أبو الفرج الشنبوذي الشطوي البغدادي. المتوفى سنة 388 ثمان وثمانين وثلاثمائة. هؤلاء الأئمة وأضرابهم هم الذين خدموا الأمة والملة وحافظوا على الكتاب والسنة وفيهم يقول السيوطي بإتقانه: ثم لما اتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق قام جهابذة الأمة وبالغوا في الاجتهاد وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الوجوه والروايات وميزوا الصحيح والمشهور والشاذ بأصول أصلوها وأركان فصلوها. فأول من صنف في القراءات أبو عبيد القاسم بن سلام ثم أحمد بن جبير الكوفي ثم إسماعيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 ابن إسحاق المالكي صاحب قالون ثم أبو جعفر بن جرير الطبري ثم أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الدجوني ثم أبو بكر مجاهد ثم قام الناس في عصره وبعده بالتأليف في أنواعها جامعا ومفردا موجزا ومسهبا. وأئمة القراءات لا تحصى. وقد صنف طبقاتهم حافظ الإسلام أبو عبد الله الذهبي ثم حافظ القرآن أبو الخير بن الجزري اهـ. أسأل الله تعالى أن يغمر الجميع بواسع رحماته وأن يجزيهم أفضل الجزاء على خدمتهم لكتابه. آمين. حكم ما وراء العشر: وقع الخلاف أيضا في القراءات الأربع التي تزيد على العشر وتكمل الأربع عشرة: فقيل بتواتر بعضها. وقيل بصحتها. وقيل: بشذوذها إطلاقا في الكل. وقيل: إن المسألة ليست مسألة أشخاص ولا أعداد بل هي قواعد ومبادئ. فأيما قراءة تحققت فيها الأركان الثلاثة لذلك الضابط المشهور فهي مقبولة وإلا فهي مردودة. لا فرق بين قراءات القراء السبع والقراء العشر والقراء الأربعة عشر وغيرهم فالميزان واحد في الكل والحق أحق أن يتبع. قال صاحب الشافي: التمسك بقراء سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشروا. ووهم من قال: إنه لا تجوز الزيادة على ذلك. وذلك لم يقل به أحد اهـ بشيء من التصرف. وقال الكواشي: كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة. يريد السبعة الأحرف في الحديث النبوي المعروف ثم قال: وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن انحصار القراءات المشهورة في مثل ما في التيسير والشاطبية اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وهذا رأي قريب من الصواب لولا أنه لم يقصر نظره على ما هو الواقع القائم بيننا اليوم من القراءات ولم يطبق الحكم ولم يفصله فيه بل ساق الكلام عاما كما ترى. والتحقيق هو ما ذهب إليه أبو الخير بن الجزري من أن القراءات العشر التي بين أيدينا اليوم متواترة دون غيرها. قال في منجد المقرئين ما يفيد أن الذي جمع في زمننا هذه الأركان الثلاثة أي في ذلك الضابط المشهور مع ملاحظة إبدال شرط صحة الإسناد بتواتره هو قراءة الأئمة العشرة التي أجمع الناس على تلقيها بالقبول. أخذها الخلف عن السلف إلى أن وصلت إلى زماننا. فقراءة أحدهم كقراءة الباقين في كونها مقطوعا بها. أما قول من قال: إن القراءات المتواترة لا حد لها فإن أراد القراءات المعروفة في زماننا فغير صحيح لأنه لا يوجد اليوم قراءة متواترة وراء القراءات العشر. وإن أراد ما يشمل قراءات الصدر الأول فمحتمل. ثم إن غير المتواتر من القراء على قسمين: القسم الأول ما صح سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه ووافق العربية والرسم. وهذا ضربان ضرب استفاض نقله وتلقته الأمة بالقبول كما انفرد به الرواة وبعض الكتب المعتبرة أو كمراتب القراء في المد ونحو ذلك فهذا صحيح مقطوع به وبأنه منزل من عند الله على النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرف السبعة. وهذا الضرب يلحق بالقراءة المتواترة وإن لم يبلغ مبلغها لأنه من قبيل أخبار الآحاد التي احتفت بها قرائن تفيد العلم. والضرب الثاني لم تتلقه الأمة بالقبول ولم يستفض. وهذا فيه خلاف العلماء: منهم من يجوز القراءات والصلاة به ومنهم من يمنع القراءة بما وراء العشر منع تحريم لا كراهة. قال ابن السبكي في جمع الجوامع: ولا تجوز القراءة بالشاذ: والصحيح أن ما وراء العشر فهو شاذ وفاقا للبغوي والشيخ الإمام. ويريد بالشيخ الإمام والده مجتهد العصر أبا الحسن علي بن عبد الكافي السبكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 القسم الثاني من القراءة الصحيحة ما وافق العربية وصح سنده وخالف الرسم كالذي يرد عن طريق صحيح من زيادة ونقص وإبدال كلمة بأخرى مما جاء عن أبي الدرداء وعمر وابن مسعود وغيرهم فهذه القراءة تسمى اليوم شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحا. فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها. قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد: وقال مالك إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصل وراءه. وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك إلا قوما شذوا لا يعرج عليهم. وحكى ابن عبد البر الإجماع أيضا على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ. وقال ابن الجزري: قال أصحابنا من الشافعية وغيره: لو قرأ بالشاء في صلاته بطلت صلاته إن كان عالما. وإن كان جاهلا لم تبطل ولكن لا تحسب له تلك القراءة. واتفق علماء بغداد على تأديب الإمام ابن شنبوذ واستتابته على قراءته وإقرائه بالشاذ. ذلك كله فيما صح فيه النقل والعربية ولكنه خالف الرسم. أما ما لم يصح فيه نقل فهو أقل من أن يسمى شاذا ولو وافق العربية والرسم. بل هو قراءة مكذوبة يكفر متعمدها. حكى المحقق ابن الجزري ان استفتاء رفع من العجم إلى دمشق في حدود الأربعين والستمائة صورته: هل تجوز القراءة بالشاذ؟ وهل يجوز أن يقرأ القارئ عشرا كل آية بقراءة ورواية؟. فأجاب عليه الإمامان: أبو عمرو بن الصلاح وأبو عمرو بن الحاجب. أما ابن الصلاح فقال: يشترط أن يكون المقروء به تواتر نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا واستفاض نقله كذلك. وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع لأن المعتبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول. فما لم يوجد فيه ذلك كما عدا السبع أو كما عدا العشر فممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارج الصلاة وممنوع من عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك وواجب على من قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك. وإنما نقلها من نقلها من العلماء لفوائد فيها تتعلق بعلم العربية لا للقراءة بها. هذا طريق من استقام سبيله. -ثم قال- والقراءة الشاذ ما نقل قرآنا من غير تواتر ولا استفاضة متلقاة بالقبول من الأمة كما اشتمل عليه المحتسب لابن جنى وغيره. وأما القراءة بالمعنى من غير أن ينقل قرآنا فليس ذلك من القراءات الشاذة أصلا. والمجترئ على ذلك مجترئ على عظيم وضال ضلالا بعيدا فيعزر ويمنع بالحبس ونحوه ولا يخلى ذو ضلالة ولا يحل ذلك للمتمكن من ذلك إمهاله. ويجب منع القارئ بالشاذ وتأثيمه بعد تعريفه وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه. وإذا شرع القارئ بقراءة ينبغي ألا يزال يقرأ بها ما بقي للكلام تعلق بما ابتدأ به. وما خالف هذا فمنه جائز وممتنع. وعذر المرض مانع من بيانه بحقه. والعلم عند الله تعالى. اهـ. وأما ابن الحاجب فقال: لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها عالما كان بالعربية أو جاهلا. وإذا قرأ بها قارئ فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به وأمر بتركها وإن كان عالما أدب بشرطه وإن أصر على ذلك أدب على إصراره وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك. وأما تبديل آتنا بأعطنا وسولت بزينت ونحوه فليس هذا من الشواذ وهو أشد تحريما والتأديب عليه أبلغ والمنع منه أوجب اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 فذلكة البحث. يخلص لنا من هذا البحث بعد تحقيق وجوه الخلاف فيه أمور مهمة يجدر بنا أن نوليها الالتفات والانتباه الخاص: أولها - أن القراءة لا تكون قرآنا إلا إن كانت متواترة لأن التواتر شرط في القرآنية. ثانيها - أن القراءات العشر الذائعة في هذه العصور متواترة على التحقيق الآنف. وإذن هي قرآن. وكل واحدة منها يطلق عليها أنها قرآن. ثالثها - أن ما وراء القراءات العشر مما صحت روايته آحادا ولم يستفض ولم تتلقه الأمة بالقبول شاذ وليس بقرآن وإن وافق رسم المصحف وقواعد العربية. رابعها - أن ركن صحة الإسناد المذكور في ضابط القرآن المشهور لا يراد بالصحة فيه مطلق صحة بل المراد صحة ممتازة تصل بالقراءة إلى حد الاستفاضة والشهرة وتلقي الأمة لها بالقبول حتى يكون هذا الركن بقرينة الركنين الآخرين في قوة التواتر الذي لا بد منه في تحقق القرآنية. كما فصلنا ذلك من قبل. خامسها - أن القراءة قد تكون متواترة عند قوم غير متواترة عند آخرين. والمأمور به ألا يقرأ المسلم إلا بما تواتر عنده ولا يكتفي بما روي له آحادا وإن كان متواترا عند الراوي له كما رد الشافعي رواية مالك مع صحتها لمخالفتها ما تواتر عنده. ولا تنس ما قاله ابن الجزري في ذلك آنفا. سادسها - أن هذا الذي روي من طريق الآحاد المحضة ولم يصل إلى حد الاستفادة والشهرة هو أصل الداء ومثار كثير من الشبهات والخلاف. أما الشبهات فقد مر عليك منها نماذج وأما الخلافات فقد شاهدت منها في هذا البحث ما شاهدت وستشاهد ما تشاهد وإني أسترعي نظرك إلى أمرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 أولهما - أن طريق الآحاد المحضة هذا هو الذي فتح باب المطاعن لبعض الأئمة في بعض الروايات الواردة في القراءات السبع كابن جرير الطبري الذي ذكر في تفسيره شيئا من ذلك وألف كتابا كبيرا في القراءات وعللها وضمنه بعض تلك المطاعن. وثانيهما - أن وجود هذه الروايات على ندرتها جعل البعض يشتط ويسرف فسحب حكمها على الجميع وقال: إن القراءات السبع وغيرها كلها قراءة آحاد. وهذا قول في نهاية الإسفاف والخطر أما إسفافه فلأنه لا يليق مطلقا أن يسحب حكم الأقل الضئيل على الأكثر الجليل وأما خطره فلأنه يؤدي إلى نقض تواتر القرآن أو إلى عدم وجود القرآن الآن ما دام القرآن مشروطا فيه التواتر ولا تواتر على رأيهم. ولا يعقل أن يكون القرآن المفروض فيه التواتر موجودا على حين أن وجوه قراءاته كلها غير متواترة ضرورة أنه لا يتحقق قرآن بدون أوجه للقراءة. ذلك ما وصلنا إليه بعد إعادة النظر في هذا الموضوع. والحمد لله الذي هدانا لهذا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ج - نقض الشبهات التي أثيرت في هذا المقام هناك شبهات أثيرت حول القراءات في اختلافها وتعددها ثم في صحتها وتواتر المتواتر منها وفي القرآن الكريم وتواتره وإجماع الأمة عليه. من تلك الشبهات ما تجده مذكورا في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف. ومنها ما تجده مذكورا في مبحث جمع القرآن. فارجع إليها ان شئت ولا داعي إلى التطويل بإعادتها. بيد أن الرواية التي نسبوها لابن مسعود في إنكاره قرآنية المعوذتين تكاد تكون أقوى هذه الشبهات من جهة أنها وردت بأسانيد صححها بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 أعلام الحديث كابن حجر. وقد سبق عرضها من توجيهها وتمحيصها حتى على هذا الاحتمال. ونزيدك هنا في توهين هذه الشبهة أمورا: أولها: أن عاصما وهو أحد القراء السبعة قرأ القرآن كله وفيه المعوذتان بأسانيد صحيحة بعضها يرجع إلى ابن مسعود نفسه. ذلك أن عاصما قرأ على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب وقرأ على أبي مريم زر بن حبيش الأسدي وعلى سعيد بن عياش الشيباني. وقرأ هؤلاء على ابن مسعود نفسه وقرأ ابن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيها: أن حمزة وهو من القراء السبعة أيضا قرأ القرآن كله بأسانيده الصحيحة وفيه المعوذتان عن ابن مسعود نفسه. ذلك أن حمزة قرأ على الأعمش أبي محمد سليمان بن مهران وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب وقرأ يحيى على علقمة الأسود وعبيد بن نضلة الخزاعي وزر بن حبيش وأبي عبد الرحمن السلمي. وهم قرؤوا على ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم. ولحمزة سند آخر بهذه القراءة إلى ابن مسعود أيضا. ذلك أنه قرأ على أبي إسحاق السبيعي وعلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعلى الإمام جعفر الصادق. وهؤلاء قرؤوا على علقمة بن قيس وعلى زر بن حبيش وعلى زيد بن وهب وعلى مسروق. وهم قرؤوا على المنهال وغيره وهم على ابن مسعود وأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وهما على النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثها: أن الكسائي قرأ القرآن وفيه المعوذتان بسنده إلى ابن مسعود أيضا. ذلك أنه قرأ على حمزة الذي انتهى بين يديك سنده إلى ابن مسعود من طريقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 رابعها: أن خلفا يقرأ المعوذتين في ضمن القرآن الكريم بسنده إلى ابن مسعود أيضا. وذلك أنه قرأ على سليم وهو على حمزة. وهذه القراءات كلها التي رويت بأصح الأسانيد وبإجماع الأمة فيها المعوذتان والفاتحة على اعتبار أن هذه السور الثلاث أجزاء من القرآن وداخلة فيه. فالقول ببقاء ابن مسعود على إنكار قرآنية هذه السورة محض افتراء عليه. وكل ما في الأمر أنه لم يكتب الفاتحة في مصحفه اتكالا على شهرتها وعدم الخوف عليها من النسيان حتى تكتب. وكذلك القول في المعوذتين. وقيل إنه لم يكن يعلم أول الأمر أن المعوذتين من القرآن بل كان يفهم أنهما رقية يعوذ بهما الرسول الحسن والحسين. ومن هنا جاءت روايات إنكاره أنهما من القرآن. ثم علم بعد ذلك قرآنيتهما. ومن هنا جاءت الروايات عنه بقرآنيتهما. كما سقناه بين يديك عن أربعة من القراء السبعة بأسانيد هي من أصح الأسانيد المؤيدة بما تواتر واستفاض وبما أجمعت الأمة عليه من قرآنية الفاتحة والمعوذتين منذ عهد الخلافة الراشدة إلى يوم الناس هذا. أما بعد فيصح أن نعتبر ما كتب في هذا الموضوع هنا كلاما عن الشبهة الأولى التي أثيرت فيه. الشبهة الثانية: يقولون: إن التواتر في جميع القرآن غير مسلم لأن الدواعي التي ذكرتموها في دليل تواتره لا تتوافر في جميع أجزاء القرآن. وآية ذلك أن البسملة على رأي من يجعلها من القرآن لا يجري فيها التحدي ولا يتحقق فيها أنها أصل لأحكام حتى يكون ذلك من الدواعي المتوافرة على نقلها وتواترها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 ونجيب أولا بأن التحدي يجري فيها باعتبار انضمامها إلى غيرها من آيتين أخريين ليتألف من الجميع ثلاث آيات يقوم بهن الإعجاز. وذلك كاف في أن يكون من دواعي الاعتناء بها ونقلها تواترا. ثانيا أنه يتعلق بنظمها تلك الأحكام المعروفة من أن لقارئها أجرا عظيما إن كان طاهرا ووعيدا شديدا إن كان جنبا وقرأها بقصد القرآنية أو مسها ونحو ذلك. وهذا من الدواعي المتوافرة على نقلها وتواترها. الشبهة الثالثة: يقولون: لو كان القرآن متواترا لوقع التكفير في البسملة على معنى أن من يقول بقرآنيتها يحكم بكفر منكرها ومن لا يقول بقرآنيتها يحكم بكفر مثبتها. وعلى ذلك يكفر المسلمون بعضهم بعضا. والجواب: أن قرآنية البسملة في أوائل السور اجتهادية مختلف فيها. وكل ما كان من هذا القبيل لا يكفر منكره ولا مثبته شأن كل أمر اجتهادي. إنما يكفر من أنكر متواترا معلوما من الدين بالضرورة. وقرآنية البسملة في أوائل السور ليست متواترة معلومة من الدين بالضرورة. أما منكر البسملة التي في قصة كتاب سليمان من سورة النمل. فهو كافر قطعا لأن قرآنيتها متواترة معلومة من الدين بالضرورة ولا خلاف بين المسلمين في قرآنيتها حتى يكفر بعضهم بعضها كما يزعم أولئك المعترضون. الشبهة الرابعة: يقولون: إن استدلالكم على تواتر القرآن بتوافر الدواعي على نقله منقوض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 بالسنة النبوية فإنها غير متواترة مع ذلك تتوافر الدواعي على نقلها فإنها أصل الأحكام كما أن القرآن أصل الأحكام. ونجيب: أولا: بأن توافر الدواعي على نقل القرآن متواترا لم يجئ من ناحية أصالة الأحكام فحسب. بل جاء منها ومن نواحي الإعجاز والتحدي والتعبد بتلاوته والتبرك به في كل عصر وقراءته في الصلاة ونحو ذلك. والسنة النبوية لا يجتمع فيها كل هذا. بل يوجد فيها بعضه فقط وذلك لا يكفي في توافر الدواعي على نقلها متواترة. ثانيا: أن المراد بأصالة الأحكام الفرد الكامل الذي لا يوجد إلا في القرآن. ذلك لأن أصالة الأحكام فيه ترجع إلى اللفظ والمعنى جميعا. أما المعنى فواضح. وأما اللفظ فمن ناحية الحكم بإعجازه وبثواب من قرأه. وبالوعود الكريمة والعطايا العظيمة لمن حفظه وبالوعيد الشديد لمن نسيه بعد حفظه ولمن مسه أو قرأه جنبا إلى غير ذلك والسنة النبوية ليس للفظها شيء من هذه الأحكام. ولهذا تجوز روايتها بالمعنى. أما معناها فإن كان مما تتوافر الدواعي على نقله وجب تواتره وإلا فلا. ولهذا يقطع بكذب نقل الروافض ما نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه نص على أن الإمامة العظمى من بعده محصورة في علي وولده. رضي الله عنهم. بيان ذلك أنه لو صح ما زعموه لنقل متواترا فإنه مما تتوافر الدواعي على نقله لتعلقه بأمر يتصل بمستقبل الحكم الأعلى والولاية العظمى في الإسلام لجميع بلاد الإسلام. الشبهة الخامسة: يقولون: إن تواتر القرآن منقوض بأن ابن مسعود وهو من أجلاء الصحابة لم يوافق على مصحف عثمان بدليل الروايات الآتية وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 1- أن شقيق بن سلمة يقول: خطبنا عبد الله بن مسعود على المنبر فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . غلوا مصاحفكم. أي اخفوها حتى لا تحرق وكيف تأمرونني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله؟ رواه النسائي وأبو عوانة وابن أبي داود. 2- أن خير بن مالك يقول: لما أمر بالمصاحف أن تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود فقال: من استطاع أن يغل مصحفه أي يخفيه حتى لا يحرق فليفعل. وقال في آخره: أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 3- أن الحاكم يروي من طريق أبي ميسرة قال: رحت فإذا أنا بالأشعري وحذيفة وابن مسعود. فقال ابن مسعود: والله لا أدفعه يعني مصحفه. أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. ونجيب: أولا: بأن هذه الروايات لا تدل أبدا على عدم تواتر القراءات ولا على عدم تواتر ما جاء في مصحف عثمان. غاية ما تدل عليه أن ابن مسعود لم يوافق أول الأمر على إحراق مصحفه. وهذا لا ينقض تواتر ما جاء في مصحف عثمان. لأنه ليس من شرط التواتر على ما في مصحف عثمان أن يحرق ابن مسعود مصحفه ولا أن يحرق أحد مصحفه. بل المحقق للتواتر أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة. وهذا موجود في مصحف عثمان لأن ما فيه رواه ووافق عليه جموع عظيمة من الصحابة محال أن تكذب وحسبك عثمان ودستوره في جمع القرآن. فارجع إليه إن شئت. ثانيا: أنه على فرض مخالفة ابن مسعود لمصحف عثمان فإن هذه المخالفة لا تذهب بتواتر القرآن. لأن أركان التواتر متحققة في المصحف العثماني على رغم هذه المخالفة المفروضة ولم يقل أحد في الدنيا: إن من شرط التواتر ألا يخالف فيه مخالف حتى تكون مخالفة ابن مسعود لمصحف عثمان ناقضة لتواتر القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ثالثا: أن هذه الروايات التي ساقوها طعنا في تواتر القرآن لا تدل على أن ابن مسعود يخالف في القراءة بمصحف عثمان. بل هو يقرأ به كما يقرأ بروايته التي انفرد بها وسمعها وحده من فم النبي صلى الله عليه وسلم. ألا ترى إلى قوله: وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله فإن كلمة مثله فيها اعتراف منه بأن زيد بن ثابت قرأ مثله من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن ما انفرد ابن مسعود به تعتبر روايته آحادية. وأنت خبير بأن رواية الآحاد لا تكفي في ثبوت القرآنية. لذلك لم يوافق الصحابة على ما انفرد به ابن مسعود بخلاف مصحف عثمان فقد وافقه عدد التواتر وظفر بإجماع الأمة ولم يكتب فيه إلا ما استقر في العرضة الأخيرة من غير نسخ لتلاوته على ما سبق بيانه هناك في مبحث جمع القرآن. رابعا: أن عدم دفع ابن مسعود مصحفه ليحرق كان توقفا منه في أول الأمر. ثم عاد بعد ذلك وحرقه حين بلغه أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا ذلك في مقالته كما جاء في حديث شقيق من رواية ابن أبي داود عن طريق الزهري. وبهذا اتحدت الصفوف واتفقت الكلمة وتم للمصاحف العثمانية الظفر من كل وجه بإجماع الأمة حتى ابن مسعود. والحمد لله على هذا الكرم والجود. حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ويستنزل رضاه آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 المجلد الثاني المبحث الثاني عشر: في التفسير والمفسرين وما يتعلق بهما التفسير ... المبحث الثاني عشر في التفسير والمفسرين وما يتعلق بهما 1 - التفسير التفسير في اللغة: الإيضاح والتبيين ومنه قوله تعالى: في سورة الفرقان: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} . والتفسير في الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. والمراد بكلمة علم المعارف التصورية قال عبد الحكيم على المطول: إن علم التفسير من قبيل التصورات لأن المقصود منه تصور معاني ألفاظه وذلك من قبيل التعاريف لكن أكثرها بل كلها من قبيل التعاريف اللفظية وذهب السيد إلى أن التفسير من قبيل التصديقات لأنه يتضمن حكما على الألفاظ بأنها مفيدة لهذه المعاني التي تذكر بجانبها في التفسير. وخرج بقولنا يبحث فيه عن أحوال القرآن العلوم الباحثة عن أحوال غيره. وخرج بقولنا من حيث دلالته على مراد الله تعالى العلوم التي تبحث عن أحوال القرآن من جهة غير جهة دلالته كعلم القراءات فإنه يبحث عن أحوال القرآن من حيث ضبط ألفاظه وكيفية أدائها ومثل علم الرسم العثماني فإنه يبحث عن أحوال القرآن الكريم من حيث كيفية كتابة ألفاظه. وخرج بهذه الحيثية أيضا المعارف التي تبحث عن أحوال القرآن من حيث إنه مخلوق أو غير مخلوق فإنها من علم الكلام وكذلك المعارف الباحثة عن أحوال القرآن من حيث حرمة قراءته على الجنب ونحوها فإنها من علم الفقه. وقولنا بقدر الطاقة البشرية لبيان أنه لا يقدح في العلم بالتفسير عدم العلم بمعاني المتشابهات ولا عدم العلم بمراد الله في الواقع ونفس الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وعرفوا علم التفسير أيضا بأنه علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله وسنده وأدائه وألفاظه ومعانيه المتعلقة بالألفاظ والمتعلقة بالأحكام. والمراد بكلمة نزوله ما يشمل سبب النزول ومكانه وزمانه. والمراد بكلمه سنده ما يشمل كونه متواترا وآحادا أو شاذا. والمراد بكلمة أدائه ما يشمل كل طرق الأداء كالمد والإدغام. والمراد بكلمة ألفاظه ما يتعلق باللفظ من ناحية كونه حقيقة أو مجازا أو مشتركا أو مرادفا أو صحيحا أو معتلا أو معربا أو مبنيا. والمراد بمعاينه المتعلقة بألفاظه ما يشبه الفصل الموصل. والمراد بمعاينه المتعلقة بأحكامه ما هو من قبيل العموم والخصوص والإحكام والنسخ. وهذا التعريف كما ترى يشمل كثيرا من جزئيات ما يندرج في قواعد علم القراءات وعلم الأصول وعلم قواعد اللغة من نحو وصرف ومعان وبيان وبديع. وعرفوا التفسير تعريفا ثالثا بأنه علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب وغير ذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول وما به توضيح المقام كالقصة والمثل. وهذا تعريف وسط بين التعريفين ومن السهل رجوعه إلى التعريف الأول لأن ما ذكر هنا بالتفصيل يعتبر بيانا لمراد الله من كلامه بقدر الطاقة البشرية في شيء من التفصيل. التأويل: والتأويل مرادف للتفسير في أشهر معانيه اللغوية قال صاحب القاموس أول الكلام تأويلا وتأوله دبره وقدره وفسره ومنه قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وكذلك جاءت آيات كثيرة فيها لفظ التأويل ومعناه في جميعها البيان والكشف والإيضاح. أما التأويل في اصطلاح المفسرين1 فإنه يختلف معناه فبعضهم يرى أنه مرادف للتفسير وعلى هذا فالنسبة بينهما التساوي ويشيع هذا المعنى عند المتقدمين ومنه قول مجاهد إن العلماء يعلمون تأويله يعني القرآن وقول ابن جرير في تفسيره القول في تأويل قوله تعالى: كذا واختلف أهل التأويل في هذه الآية. وبعضهم يرى أن التفسير يخالف التأويل بالعموم والخصوص فقط ويجعل التفسير أعم مطلقا وكأنه يريد من التأويل بيان مدلول اللفظ بغير المتبادر منه لدليل ويريد من التفسير بيان مدلول اللفظ مطلقا أعم من أن يكون بالمتبادر أو بغير المتبادر. وبعضهم يرى أن التفسير مباين للتأويل فالتفسير هو القطع بأن مراد الله كذا والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع وهذا هو قول الماتريدي أو التفسير بيان اللفظ عن طريق الرواية والتأويل بيان اللفظ عن طريق الدراية أو التفسير هو بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة وقد اشتهر هذا عند المتأخرين كما نبه إليه العلامة الألوسي إذ قال بعد استعراضه للآراء في هذا الموضوع ما نصه كل ما قيل مما ذكرنا وما لم نذكر مخالف للعرف اليوم إذ قد تعورف عند المؤلفين من غير نكير أن التأويل معان قدسية ومعارف ربانية تنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين والتفسير غير ذلك اهـ بتصرف فأنت   1 وإنما قلنا في الاصطلاح المفسرين ليخرج اصطلاح المتكلمين ومن جارهم فإنهم يريدون من التأويل ما ذهب إليه الخلف من صرف نصوص ما تشابه من الكتاب والسنة عن ظاهره إلى معان تتفق وتنزيه الله تعالى عن المشابهة والمماثلة. بخلاف ما ذهب إليه السلف من التفويض والإمساك عن تعيين معنى خاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ترى أنه جعل التأويل خاصا بما كان مأخوذا بالإشارة والتفسير بما كان مفهوما من العبارة التفسير تفسيران: لكن التفسير على نوعين بالإجمال أحدهما تفسير جاف لا يتجاوز حل الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما يحتويه نظم القرآن الكريم من نكات بلاغية وإشارات فنية وهذا النوع أقرب إلى التطبيقات العربية منه إلى التفسير وبيان مراد الله من هداياته. النوع الثاني تفسير يجاوز هذه الحدود ويجعل هدفه الأعلى تجلية هدايات القرآن وتعاليم القرآن وحكمه الله فيما شرع للناس في هذا القرآن على وجه يجتذب الأرواح ويفتح القلوب ويدفع النفوس إلى الاهتداء بهدي الله وهذا هو الخليق باسم التفسير وفيه يساق الحديث إذا تكلمنا عن فضله والحاجة إليه. فضل التفسير والحاجة إليه: نهضة الأفراد والأمم لا يمكن أن تكون صحيحة عن تجربة ولا سهلة متيسرة ولا رائعة مدهشة إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن ونظمه الحكيمة التي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للنوع البشري على ما أحاط به علم خالقه الحكيم وبدهي أن العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبره والوقوف على ما حوى من نصح ورشد والإلمام بمبادئه عن طريق تلك القوة الهائلة التي يحملها أسلوبه البارع المعجز وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدل عليه ألفاظ القرآن وهو ما نسميه بعلم التفسير خصوصا في هذه العصور الأخيرة التي فسدت فيها ملكة البيان العربي وضاعت فيها خصائص العروبة حتى من سلائل العرب أنفسهم. فالتفسير هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر التي احتواها هذا الكتاب المجيد النازل لإصلاح البشر وإنقاذ الناس وإعزاز العالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وبدون التفسير لا يمكن الوصول إلى هذه الكنوز والذخائر مهما بالغ الناس في ترديد ألفاظ القرآن وتوفروا على قراءته كل يوم ألف مرة بجميع وجوهه التي نزل عليه. ا وهنا تلمح السر في تأخر مسلمة هذا الزمن على رغم وفرة المصاحف في أيديهم ووجود ملايين الحفاظ بين ظهرانيهم وعلى رغم كثرة عددهم واتساع بلادهم في حين أن سلفنا الصالح نجحوا بهذا القرآن نجاحا مدهشا كان وما زال موضع إعجاب التاريخ والمؤرخين مع أن أسلافنا أولئك كانوا في قلة من العدد وضيق من الأرض وخشونة من العيش ومع أن نسخ القرآن ومصاحفه لم تكن ميسورة لهم ومع أن حفاظه لم يكونوا بهذه الكثرة الغامرة. أجل إن السر في ذلك هو أنهم توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته يستعينون على هذه الثقافة العليا بمواهبهم الفطرية وملكاتهم السليمة العربية من ناحية وبما يشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبينه لهم بأقواله وأعماله وأخلاقه وسائر أحواله كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . وعلى ذلك كان همهم الأول هو القرآن الكريم يحفظونه ويفهمونه قبل أن يحفظوه ثم يعملون بتعاليمه بدقة ويهتدون بهدية في يقظة. بهذا وحده صفت أرواحهم وطهرت نفوسهم وعظمت آثارهم لأن الروح الإنساني هو أقوى شيء في هذا الوجود فمتى صفا وتهذب وحسن توجيهه وتأدب أتى بالعجب العجاب {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} . وكذلك أتت الأمة العربية بالعجب العاجب في الهداية والإرشاد وإنقاذ العالم وإصلاح البشر وكتب الله لهم النصر والتأييد والدولة والظفر حتى على أقوى الدول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 المعادية لدعوة الحق والإصلاح في ذلك العهد ودولة الفرس في الشرق ودولة الرومان في الغرب تلك محوها من لوح الوجود بهدم طغيانها وإسلام شعبها وهذه سلبوها ما كان في حوزتها من ممالك الشرق وشعوبه الكثيرة ثم دانت لهم فاستولوا على بعض بلاد أوربة وأقاموا فيها دولة عربية شامخة البنيان كانت بهجة الدنيا وزينة الحياة ومنها شع النور على الشعوب الأوربية وكانت النواة الناجحة في نهضتهم الحديثة الحاضرة تلك هي فردوس الأندلس المفقود. أما غالب مسلمة اليوم فقد اكتفوا من القرآن بألفاظ يرددونها وأنغام يلحنونها في المآتم والمقابر والدور وبمصاحف يحملونها أو يودعونها تركة في البيوت ونسوا أن بركة القرآن العظمى إنما هي في تدبره وتفهمه وفي الجلوس إليه والاستفادة من هديه وآدابه ثم في الوقوف عند أوامره ومراضيه والبعد عن مساخطه ونواهيه والله تعالى يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ويقول سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ويقول جل ذكره: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . فما أشبه المسلمين اليوم بالعطشان يموت من الظمأ والماء بين يديه والحيوان يهلك من الإعياء والنور من حوله يهديه السبيل لو فتح عينيه: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . ألا إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها وهو أن يعودوا إلى كتاب الله يستلهمونه الرشد ويستمنحونه الهدى ويحكمونه في نفوسهم وفي كل ما يتصل بهم كما كان آباؤنا الأولون يتلونه حق تلاوته بتدبر وتفكر في مجالسهم ومساجدهم وأنديتهم وبيوتهم وفي صلواتهم المفروضة والنافلة وفي تهجدهم بالليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 والناس نيام حتى ظهرت آثاره الباهرة عاجلا فيهم فرفع نفوسهم وانتشلها من حضيض الوثنية وأعلى هممهم وهذب أخلاقهم وأرشدهم إلى الانتفاع بقوى الكون ومنافعه وكان من وراء ذلك أن مهروا في العلوم والفنون والصناعات كما مهروا في الأخلاق والآداب والإصلاح والإرشاد ووصلوا إلى غاية تروا فيها كل أمم الدنيا حتى قال بعض فلاسفة الغرب في كتابه تطور الأمم ما نصه إن ملكة الفنون لا تستحكم في أمة من الأمم إلا في ثلاثة أجيال جيل التقليد وجيل الخضرمة وجيل الاستقلال وبذ العرب وحدهم فاستحكمت فيهم ملكة الفنون في جيل واحد اهـ. قال السيوطي في بيان الحاجة إلى التفسير ما ملخصه القرآن إنما أنزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه. أما دقائق باطنه فلا تظهر لهم إلا بعد البحث والنظر وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولهم: "وأينا لم يظلم نفسه?" حينما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك واستدل بقوله سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . وكذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب" سألته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} وينقلب إلى أهله مسرورا فقال صلى الله عليه وسلم ذلك العرض وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأبيض والخيط الأسود ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه بل نحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير لقصورنا عن مدارك اللغة وأسرارها بغير تعلم اهـ. مما تقدم يتبين أن فائدة التفسير هي التذكر والاعتبار ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ليفوز الأفراد والمجاميع بخير العاجلة والآجلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ويتبين أيضا أن هذا العلم من أشرف العلوم الدينية والعربية إن لم يكن أشرفها جميعا وذلك لسمو موضوعه وعظم فائدته. وسمي علم التفسير لما فيه من الكشف والتبيين واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين لأنه لجلالة قدره واحتياجه إلى زيادة الاستعداد وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه كان كأنه هو التفسير وحده دون ما عداه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 ب - أقسام التفسير ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن التفسير أربعة حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العرب بألسنتها وتفسير تفسره العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله اهـ. قال الزركشي في البرهان ما ملخصه هذا تقسيم صحيح فأما الذي تعرفه العرب بألسنتها فهو ما يرجع إلى لسانهم من اللغة والإعراب فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما يتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان يوجب العلم أي الاعتقاد لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليوصل المفسر إلى معرفة الحكم ويسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر لوصوله إلى المقصود بدونه وأما ما لا يعذر أحد بجهله فهو ما تبادر إلى الأفهام معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا يعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 أنه مراد الله تعالى فهذا القسم لا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أنه لا شريك له في الألوهية وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا موضوعة للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ونحوه طلب إيجاب المأمور به وإن لم يعلم أن صيغة افعل للوجوب. وأما ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجري مجرى الغيوب كالآيات التي تذكر فيها الساعة والروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف بنص من القرآن أو الحديث أو إجماع الأمة على تأويله. وأما مما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم فهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وذلك باستنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه اعتمادا على الدلائل والشواهد دون مجرد الرأي اهـ المقصود منه لكنه لم يلتزم فيه ترتيب الأقسام على ما روي عن ابن عباس ولا ضير في ذلك ما دام أنه قد استوعب عدتها الأربعة كما رأيت. وقسم بعضهم التفسير باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام: تفسير بالرواية ويسمى التفسير بالمأثور وتفسير بالدراية ويسمى التفسير بالرأي وتفسير بالإشارة ويسمى التفسير الإشاري وسنتحدث عن كل واحد منها إن شاء الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 ج - التفسير المأثور هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة بيانا لمراد الله تعالى من كتابه. 1 - مثال ما جاء في القرآن قوله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فإن كلمة من الفجر بيان وشرح للمراد من كلمة الخيط الأبيض التي قبلها وكذلك قوله سبحانه: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فإنها بيان للفظ كلمات من قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمت فتاب عليه على بعض وجوه التفاسير وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية فإنها بيان للفظ ما يتلى عليكم من قوله سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية فإنها بيان للعهدين في قوله سبحانه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الأول للأول والثاني للثاني وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} فإن كلمة {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} بيان لكلمة الطارق التي قبلها وغير ذلك كثير يعلم بالتدبر لكتاب الله تعالى. 2 - ومثال ما جاء في السنة شرحا للقرآن أنه فسر الظلم بالشرك في قوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وأيد تفسيره هذا بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وفسر الحساب اليسير بالعرض حين قال: "من نوقش الحساب عذب" فقالت له السيدة عائشة أو ليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} فقال صلى الله عليه وسلم: "ذلك العرض" بيانا للحساب اليسير وكذلك فسر الرسول صلى الله عليه وسلم: "القوة بالرمي" في قوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وفي صحيح كتب السنة من ذلك شيء كثير. وكلا هذين القسمين لا شك في قبوله أما الأول فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره وأصدق الحديث كتاب الله تعالى وأما الثاني فلأن خير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ووظيفته البيان والشرح مع أنا نقطع بعصمته وتوفيقه قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . 3 - بقي القسم الثالث وهو بيان القرآن بما صح وروده عن الصحابة رضوان الله عليهم قال الحاكم في المستدرك إن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم المرفوع كذلك أطلق الحاكم وقيده بعضهم بما كان في بيان النزول ونحوه مما لا مجال للرأي فيه وإلا فهو من الموقوف. ووجهة نظر الحاكم ومن وافقه أن الصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف لهم النقاب عن معاني الكتاب ولهم من سلامة فطرتهم وصفاء نفوسهم وعلو كعبهم في الفصاحة والبيان ما يمكنهم من الفهم الصحيح لكلام الله وما يجعلهم يوقنون بمراده من تنزيله وهداه. أما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف العلماء منهم من اعتبره من المأثور لأنهم تلقوه من الصحابة غالبا ومنهم من قال إنه من التفسير بالرأي. وفي تفسير ابن جرير الطبري كثير من النقول عن الصحابة والتابعين في بيان القرآن الكريم. بيد أن الحافظ ابن كثير يقول إن أكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب قال بعضهم وجل ذلك في قصص الرسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 مع أقوامهم وما يتعلق بكتبهم ومعجزاتهم وفي تاريخ غيرهم كأصحاب الكهف ومدينة إرم ذات العماد وسحر بابل وعوج بن عنق وفي أمور الغيب من أشراط الساعة وقيامتها وما يكون فيها وبعدها وجل ذلك خرافات ومفتريات صدقهم فيها الرواة حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم ولذلك قال الإمام أحمد "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي"1 وكان الواجب جمع الروايات المفيدة في كتب مستقلة كبعض كتب الحديث وبيان قيمة أسانيدها ثم يذكر في التفسير ما يصح منها بدون سند كما يذكر الحديث في كتب الفقه لكن يعزى إلى مخرجه اهـ ما أردنا نقله.   1 لعل مراد الإمام أحمد المبالغة تنبيها للأذهان إلى الصحيح قليل بالنسبة إلى غير الصحيح. وليس مراده عموم النفي فإن هناك روايات في التفسير التي رواها علي بن أبي طالب عن ابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 د - المفسرون من الصحابة قال السيوطي في الإتقان اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والرواية عن الثلاثة قليلة جدا وكأن السبب في ذلك تقدم وفاتهم اهـ. ومعنى هذا السبب في إقلال الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان من التفسير أنهم كانوا في وسط أغلب أهله علماء بكتاب الله واقفون على أسرار التنزيل عارفون بمعانيه وأحكامه مكتملة فيهم خصائص العروبة أما الإمام علي رضي الله عنه فقد عاش بعدهم حتى كثرت حاجة الناس في زمانه إلى من يفسر لهم القرآن وذلك من اتساع رقعة الإسلام ودخول عجم في هذا الدين الجديد كادت تذوب بهم خصائص العروبة ونشأ جيل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 أبناء الصحابة كان في حاجة إلى علم الصحابة فلا جرم كان ما نقل عن علي أكثر مما نقل عن غيره أضف إلى ذلك ما امتاز به الإمام من خصوبة الفكر وغزارة العلم وإشراق القلب ثم أضف أيضا سبق اشتغالهم بمهام الخلافة وتصريف الحكم دونه. روى معمر عن وهب بن عبد الله بن أبي الطفيل قال شهدت عليا رضي الله عنه يخطب ويقول سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أفي سهل أم في جبل. وفي رواية عنه قال والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين أنزلت إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا اهـ. وقد كثرت الروايات أيضا عن ابن مسعود وحسبك في معرفة خطره وجلالة قدره ما رواه أبو نعيم عن أبي البحتري قال قالوا لعلي أخبرنا عن ابن مسعود قال علم القرآن والسنة ثم انتهى وكفى بذلك علما. وأما ابن عباس فهو ترجمان القرآن بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن مجاهد قال قال ابن عباس قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ترجمان القرآن أنت" وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس" وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وروي أن رجلا أتى ابن عمر يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما أي من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} فقال اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرني فذهب فسأله فقال كانت السماوات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات فرجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 إلى ابن عمر فأخبره فقال قد كنت أقول ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن فالآن قد علمت أنه أوتي علما اهـ. لكن يجب الحيطة فيما عزي إلى ابن عباس من التفسير فقد كثر عليه فيه الدس والوضع كما سيأتي. وكذلك أبي بن كعب رضي الله عنه ابن قيس الأنصاري أحد كتاب الوحي فقد كان رضي الله عنه من المكثرين في التفسير المبرزين فيه كما اشتهر في القراءة وبرز فيها روى له في التفسير أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب وإسناده صحيح. وأما الباقي من العشرة وهم زيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير فمع شهرتهم في التفسير كانوا أقل من الأربعة الذين قبلهم وقد ورد عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء العشرة شيء من التفسير بيد أنه قليل منهم أنس وأبو هريرة وابن عمر وجابر وعمرو بن العاص وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 هـ - تفسير ابن عباس الرواية عنه واختلاف الرواة فيها أكثر الصحابة تفسيرا ابن عباس ذلك لما عرفت من أنه ترجمان القرآن ولتأخر الزمان به حتى اشتدت حاجة الناس إلى الأخذ عنه بعد اتساع الإسلام واستبحار العمران ولانقطاعه وتفرغه للنشر والدعوة والتعليم دون أن تشغله خلافة أو تصرفه سياسية وتدبير لشؤون الرعية غير أن الرواية عنه مختلفة الدرجات. قال السيوطي في الإتقان ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة بروايات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وطرق مختلفة فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه قال أحمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا أسنده أبو جعفر النحاس. قال ابن حجر وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه كثيرا فيما يعلق عن ابن عباس وقال قوم لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير ثم قال ابن حجر بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك اهـ. وأخرج منها ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر كثيرا ولكن بوسائط بينهم وبين أبي صالح. ومن جيد الطرق عن ابن عباس طريق قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين وكذا طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عنه هكذا بالترديد وإسنادها حسن وقد أخرج فيها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا. وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وكذا طريق مقاتل بن سليمان وطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه وبالجملة فقد روي عن الشافعي أنه قال لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 و - الرواية عن غير ابن عباس من الصحابة نحدثك عن ثلاثة أعلام من الصحابة في التفسير غير ابن عباس: أولهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم سواهم وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه نعليه ويمشي معه وأمامه فكان له من هذه الصلة النبوية خير مثقف ومؤدب لذلك عدوه من أعلم الصحابة بكتاب الله ومعرفة محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه قال في الإتقان قد روي عن ابن مسعود في التفسير أكثر مما روي عن علي كرم الله وجهه وأخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال: والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته روى عنه كثيرون ولكن تتبعهم العلماء بالنقد والتجريح. ثانيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره على ابنته السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها والخليفة الرابع من بعده ولد رضي الله عنه وشب ودرج في الإسلام فلم يسجد لصنم قط وكان لصلته الوثيقة برسول الله صلى الله عليه وسلم أثر عظيم في استنارة نفسه وغزارة مادته وسعة علمه بله ما وهبه الله من فطرة صافية وذكاء نادر وعقل موهوب حتى ضرب به المثل في حل المشاكل فقيل قضية ولا أبا حسن لها قال ابن عباس ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب اهـ وحسبك هذه الشهادة من ترجمان القرآن لكن ابتلي علي رضي الله عنه بشيعة أسرفوا في حبه وجاوزوا الحد في تقديره فنسبوا إليه ما هو منه بريء وقولوه ما لم يقل لذلك يلاحظ أن المروي عن علي فيه دس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 كثير تصدى له صيارفة النقد من رجال الرواية حتى مازوا ما صح مما لم يصح ولا ينبئك مثل خبير. ثالثهم أبي بن كعب الأنصاري كان من أعلام القراء ومن كتاب الوحي وممن شهد بدرا ورد فيه: وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل أبي بن كعب روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب نسخة كبيرة في التفسير أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم منها كثيرا وكذا أخرج الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 ز - المفسرون من التابعين طبقاتهم ونقد المروي عنهم نستطيع أن نعتبر التابعين طبقات ثلاثا طبقة أهل مكة وطبقة أهل المدينة وطبقة أهل العراق طبقة أهل مكة: أما طبقة أهل مكة من التابعين فقد كانوا أعلم الناس بالتفسير نقل السيوطي عن ابن تيمية أنه قال أعلم الناس بالتفسير أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس. أما مجاهد فقد كان أوثق من روى عن ابن عباس ولذا يعتمد على تفسير الشافعي والبخاري وغيرهما من أقطاب العلم وأئمة الدين قال النووي إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به وقال الفضيل بن ميمون سمعت مجاهدا يقول عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة وعنه أيضا قال عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 أقف عند كل آية منه أسأله عنها فيم أنزلت وكيف كانت؟. ولا تعارض بين هاتين الروايتين فالإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير ويحتمل أن عرضه القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة كان طلبا لضبطه وتجويده وحسن أدائه وأما عرضه إياه ثلاث مرات فكان طلبا لتفسيره ومعرفة أسراره وحكمه وأحكامه كما يدل عليه قوله اقف عند كل آية منه أسأله عنها فيم أنزلت وكيف أنزلت؟؟. وأما عطاء وسعيد فقد كان كل منهما ثقة ثبتا في الرواية عن ابن عباس. قال سفيان الثوري خذوا التفسير عن أربعة عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك وقال قتادة أعلم التابعين أربعة كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير الخ وقال أبو حنيفة ما لقيت أحدا أفضل من عطاء. وأما عكرمة مولى ابن عباس فقد قال الشافعي فيه ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة اهـ وقال عكرمة كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل1 ويعلمني القرآن والسنة وكان يقول لقد فسرت ما بين اللوحين لعله يريد ما بين دفتي المصحف وكل شيء أحدثكم في القرآن فهو عن ابن عباس اهـ. وأما طاوس بن كيسان اليماني فقد كان من رجال العلم والعمل وأدرك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نحو الخمسين ورد أنه حج بيت الله الحرام أربعين مرة وكان مجاب الدعوة قال فيه ابن عباس إني لأظن طاوسا من أهل الجنة اهـ رضي الله عنهم أجمعين.   1 الكبل "بقتح الكاف وكسرها مع سكون الباء": القيد, انظر القاموس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 طبقة أهل المدينة: منهم زيد بن أسلم وقد أخذ عنه ابنه عبد الرحمن ومالك بن أنس إمام دار الهجرة. ومنهم أبو العالية وهو من رواة أبي بن كعب وقد روى عن الربيع بن أنس. منهم محمد بن كعب القرظي الذي قال فيه ابن عون ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي. طبقة أهل العراق: منهم مسروق بن الأجدع كان ورعا زاهدا صحب ابن مسعود قال ابن معين فيه ثقة لا يسأل عنه وكان القاضي شريح يستشيره في معضلات المسائل روى عنه الشعبي وأبو وائل وآخرون لصدق روايته وأمانته. ومنهم قتادة بن دعامة هو من رواة ابن مسعود شهد له ابن سيرين بالضبط والحفظ وقال فيه ابن المسيب ما رأيت عراقيا أحفظ من قتادة غير أنه كان يخوض في القضاء والقدر فتحرج بعض الناس من الرواية عنه وقد احتج به أرباب الكتب الصحيحة. منهم أبو سعيد الحسن البصري قال ابن سعد فيه كان ثقة مأمونا وعالما جليلا وفصيحا جميلا وتقيا نقيا حتى قيل إنه سيد التابعين. ومنهم عطاء بن أبي مسلم الخراساني أصله من البصرة لكنه أقام بخراسان بعد أن دخلها لذلك نسب إليها كان من أجلاء العلماء غير أنه كان مصابا بسوء الحفظ لذلك اختلفوا في توثيقه. ومنهم مرة الهمذاني الكوفي لكثرة عبادته قيل له مرة الطيب ومرة الخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 أخذ عن أبي كعب وعمر بن الخطاب وغيرهما من الصحابة وروى عنه الشعبي وغيره. هؤلاء هم أعلام المفسرين من التابعين استمدوا آرائهم وعلومهم مما تلقوه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وعنهم أخذ تابعو التابعين وهكذا حتى وصل إلينا دين الله وكتابه وعلومه ومعارفه سليمة كاملة عن طريق التلقي والتلقين جيلا عن جيل مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". نقد المروي عن التابعين: يلاحظ على ما روي عن التابعين اعتبارات مهمة تثير الطعن فيه وتوجه النقد إليه: منها أنهم لم يشاهدوا عهد النبوة ولم يتشرفوا بأنوار الرسول فيغلب على الظن أن ما يروى عنهم من تفسير القرآن إنما هو من قبيل الرأي لهم فليس له قوة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أنه يندر فيه الإسناد الصحيح. ومنها اشتماله على إسرائيليات وخرافات انسابت إليه تارة من زنادقة الفرس وأخرى من بعض مسلمة أهل الكتاب إما بحسن نية وإما بسوء نية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 ح - ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه علمنا أن الرواية بالمأثور تتناول ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن وما كان تفسيرا للقرآن بالسنة وما كان تفسيرا للقرآن بالموقوف على الصحابة أو التابعين على رأي. أما تفسير بعض القرآن ببعض وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في وجاهته وقبوله وأما تفسير القرآن بما يعزى إلى الصحابة والتابعين فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه: أولها ما دسه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود والفرس فقد أرادوا هدم هذا الدين المتين عن طريق الدس والوضع حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة وعن طريق الدليل والحجة. ثانيها ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجا لتطرفهم كشيعة علي المتطرفين الذين نسبوا إليه ما هو منه بريء وكالمتزلفين الذين حطبوا في حبل العباسيين فنسبوا إلى ابن عباس ما لم تصح نسبته إليه تملقا لهم واستدرارا لدنياهم. ثالثها اختلاط الصحيح بغير الصحيح ونقل كثير من الأقوال المعزوة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحر مما أدى إلى التباس الحق بالباطل زد على ذلك أن من يرى رأيا يعتمده دون أن يذكر له سندا ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلا ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية ولا من يرجع إليه هذا القول. رابعها أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات ومنها كثير من الخرافات التي يقوم الدليل على بطلانها ومنها ما يتعلق بأمور العقائد التي لا يجوز الأخذ فيها بالظن ولا برواية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الآحاد بل لا بد من دليل قاطع فيها كالروايات التي تتحدث عن أشراط الساعة وأهوال القيامة وأحوال الآخرة تذكر على أنها اعتقاديات في الإسلام. خامسها أن ما نقل نقلا صحيحا عن الكتب السابقة التي عند أهل الكتاب كالتوارة والإنجيل أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتوقف فيه فلا نصدقهم لاحتمال أنه مما حرفوا في تلك الكتب ولا نكذبهم لاحتمال أنه مما حفظوه منها فقد قال تعالى فيهم:إنهم {أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والاختلاف في التفسير على نوعين منه ما مستنده النقل فقط ومنه ما يعلم بغير ذلك والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ومنه ما لا يمكن ذلك وهذا القسم أي الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته ما لا فائدة فيه ولا حاجة بنا إلى معرفته وذلك كاختلافهم في لون كلب أهل الكهف واسمه وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة وفي قدر سفينة نوح وخشبها وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك فهذه الأمور طريقة العلم بها النقل فما كان منها منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض وما نقل عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم. وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثيرا ولله الحمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل. وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ... ثم ذكر الجهتين اللتين هما مثار الخطأ فقال إحداهما حمل ألفاظ القرآن على معان اعتقدوها لتأييدها به والثانية التفسير بمجرد دلالة اللغة العربية من غير مراعاة المتكلم بالقرآن وهو الله عز وجل والمنزل عليه والمخاطب به اهـ أردنا نقله بتصرف قليل. قال بعضهم هذا وإن كلام ابن تيمية لا ينقض قول الإمام أحمد فإنه لم يعن به أنه لا يوجد في تلك الثلاثة رواية صحيحة ألبتة وإنما يعني أن أكثرها لا يصح له سند متصل وما صح سنده إلى بعض الصحابة يقل فيه المرفوع الذي يحتج به. إلى أن قال: ثم إن أكثر ما روي في التفسير المأثور أو كثيره حجاب على القرآن وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس المنورة للعقول فالمفضلون للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التي لا قيمة لها سندا ولا موضوعا اهـ ما أردنا نقله. وكلمة الإنصاف في هذا الموضوع أن التفسير بالمأثور نوعان أحدهما ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله وهذا لا يليق بأحد رده ولا يجوز إهماله وإغفاله ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدي القرآن بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن. ثانيهما ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها وهذا يجب رده لا يجوز قبوله ولا الاشتغال به اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه إلى ضلاله وخطئه حتى لا يغتر به أحد ولا يزال كثير من أيقاظ المفسرين كابن كثير يتحرون الصحة فيما ينقلون ويزيفون ما هو باطل أو ضعيف ولا يحابون ولا يجبنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 ولعل الذين أطلقوا القول في رد المأثور إنما أرادوا المبالغة كما علمت في توجيه كلمة الإمام أحمد بن حنبل وعذرهم أن الصحيح منه قليل نادر ونزر يسير حتى لقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث أي مع كثرة ما روي عنه وقد أشار ابن خلدون إلى أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم إلى أن قال وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم وتلقيت بالقبول لما كان لهم من المكانة السامية ولكن الراسخين في العلم قد تحروا الصحة وزيفوا ما لم تتوافر أدلة صحته اهـ بتصرف. ملحوظة: إياك أن تفهم هنا من عبارة ابن خلدون أو ابن تيمية أو غيرهما ما يجعلك تخوض مع الخائضين في هؤلاء الأعلام الثلاثة عبد الله بن سلام ووهب بن منبه وكعب الأحبار فقد ضل بعض الأدباء والمؤرخين من كبار الكتاب في هذا العصر حين زعموا ذلك حتى لقد سلكوا عبد الله بن سلام الصحابي الجليل في سلك واحد مع عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث الذي تظاهر بالإسلام ثم كاد له شر الكيد فتشيع لعلي وزعم أن الله حل فيه وطعن على عثمان وأظهر الرفض عند حكم الحكمين بصفين ودعا الناس إلى ضلاله الأثيم حتى نفي مرارا. والحقيقة أن ثلاثتنا هؤلاء عدول ثقات: أما ابن سلام فحسبك أنه صحابي من خيرة الصحابة ومن المبشرين بالجنة يروي الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 عاشر عشرة في الجنة" وفيه نزلت آية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} وآية: {عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} على ما جاء في بعض الروايات. وأما وهب بن منبه فقد كان تابعا ثقة واسع العلم روى عن أبي هريرة كثيرا وله حديث في الصحيحين عن أخيه همام بلغ من تنسكه وصلاحه أنه لبث عشرين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء رضي الله عنه. وأما كعب فقد كان تابعا جليلا أسلم في خلافة أبي بكر وناهيك أن الصحابة أخذوا عنه كما أخذ هو عن الصحابة وروى عنه جماعة من التابعين مرسلا وله شيء في صحيح البخاري وغيره. ولكن يجب أن نفرق في هذا المقام بين ما يصح أن يقال فيهم وما يصح أن ينقل عنهم فأما ما يصح أن يقال فيهم فهو الثقة والتقدير على نحو ما ألمعناه وأما الذي ينقل عنهم فمنه الصحيح وغير الصحيح لكن عدم صحة ما لم يصح لا يعلل باتهامهم وجرحهم فقد علمت من هم إنما يعلل بأحد أمرين: أولهما رجال السند الذين ينقلون عنهم فقد يكون بينهم متهم في عدالته أو ضبطه ولهذا يجب النظر في سلسلة الرواة عنهم رجلا رجلا ولدينا من كتب الجرح والتعديل ما يفي بهذه الغاية ولا يكفي الاعتماد على ذكر السند في كتاب كبير كتفسير ابن جرير فقد يذكر ابن جرير أو غيره أشياء غير صحيحة ويسوق أسانيدها ثم لا يبين المجروح من رجال السند ولا المعدل فيهم وعذرة في ذلك أن أحوال الرجال كانت معروفة لأهل ذلك الزمان فيستطيعون أن يحكموا في ضوء هذه المعرفة بقبول الخبر أو برده أما نحن في هذا الزمان المتأخر فقد أهملنا هذا الميزان ولم نعن بمعرفة حال الأسانيد والرجال فاللوم علينا لا على أولئك الأعلام ولا معدى لنا عن الاسترشاد بكتب الجرح والتعديل في هذا المقام. الأمر الثاني أن يكون أولئك الثلاثة قد رووا ما رووه على أنه مما كان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 الإسرائيليات فتقبلها الآخذون على أنها من الإسلاميات ولهذا يجب النظر في هذه المرويات فإن كانت مما يقرره الإسلام قبلناها وإن كانت مما يرده رددناها وإن كانت مما سكت عنه سكتنا عنها عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهمولا تكذبوهم" رواه البخاري بهذا اللفظ ورواه أحمد والبزار من حديث جابر بلفظ: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي" وسبب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن عمر كتب شيئا من التوراة عن اليهود فغضب صلى الله عليه وسلم وقاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ط - تدوين التفسير بالمأثور وخصائص الكتب المؤلفة في ذلك جاء قرن تابعي التابعين وفيه ألفت تفاسير كثيرة جمعت من أقوال الصحابة والتابعين كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وإسحاق بن راهوية وروح بن عبادة وعبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن أبي طلحة والبخاري وآخرين ومن بعدهم ألف ابن جرير الطبري كتابه المشهور وهو من أجل التفاسير ثم ابن أبي حاتم وابن ماجه والحاكم وابن مردويه وابن حبان وغيرهم. وليس في تفاسير هؤلاء إلا ما هو مسند إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم ما عدا ابن جرير فإنه تعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وذكر الإعراب والاستنباط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 1 - تفسير ابن جرير: ابن جرير هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري ولد سنة 224 أربع وعشرين ومائتين وتوفي سنة 310 عشر وثلاثمائة كان فريد عصره ووحيد دهره علما وعملا وحفظا لكتاب الله وخبرة بمعانيه وإحاطة بالآيات ناسخها ومنسوخها وبطرق الرواية صحيحها وسقيمها وبأحوال الصحابة والتابعين. لذلك كان تفسيره من أجل التفاسير بالمأثور وأصحها وأجمعها لما ورد عن الصحابة والتابعين عرض فيه لتوجيه الأقوال ورجح بعضها على بعض وذكر فيه كثيرا من الإعراب واستنباط الأحكام وقد شهد العارفون بأنه لا نظير له في التفاسير: قال النووي في تهذيبه: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله وقال أبو حامد الأسفراييني شيخ الشافعية لو رحل أحد إلى الصين ليحصل تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا عليه. ومن مزاياه أنه حرر الأسانيد وقرب البعيد وجمع ما لم يجمعه غيره غير أنه قد يسوق أخبارا بالأسانيد غير صحيحة ثم لا ينبه على عدم صحتها وقلنا إن عذره في ذلك هو ذكر السند في زمن توافر الناس فيه على معرفة حال السند من غير توقف على تنبيه منه وهذا التفسير موجود إلى اليوم ومنتشر مطبوع وهو عمدة لأكثر المفسرين. 2 - تفسير أبي الليث السمرقندي: هو تفسير بالمأثور يذكر فيه كثيرا من أقوال الصحابة والتابعين غير أنه لا يذكر الأسانيد وهو مخطوط في مجلدين وموجود في مكتبة الأزهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 3 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور هو للإمام جلال الدين السيوطي قال في مقدمته إنه لخصه من كتب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مطبوع بمصر وقد ذكر في كتابه الإتقان أنه شرع في تفسير جامع لما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة والأقوال المعقولة والاستنباط والإشارات والأعاريب واللغات ونكت البلاغة ومحاسن البديع وسماه مجمع البحرين ومطلع البدرين وذكر أنه جعل كتاب الإتقان مقدمة له وذكر في خاتمة كتاب الإتقان نبذة صالحة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى سورة الناس. 4 - تفسير ابن كثير ابن كثير هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر القرشي الدمشقي الشافعي المولود سنة 705المتوفي سنة 774 وتفسيره هذا من أصح التفاسير بالمأثور إن لم يكن أصحها جميعا نقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعين وقد أخرجته مطبعة المنار بمصر في تسعة أجزاء ومعه بأسفل الصفحات تفسير البغوي الآتي ذكره وبآخره كتاب فضائل القرآن الذي يعتبر متمما له. 5 - تفسير البغوي هو العلامة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الفقيه الشافعي كان إماما في التفسير والحديث له التصانيف المفيدة ومنها معالم التنزيل أتى فيه بالمأثور ولكن مجردا عن الأسانيد. 6 - تفسير بقي بن مخلد ذكر الإمام السيوطي في طبقات المفسرين أن بقي بن مخلد بن يزيد بن عبد الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 الأندلسي القرطبي أحد الأعلام وصاحب التفسير والسند أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي ورحل إلى المشرق ولقي الكبار بالحجاز ومصر وبغداد وسمع من أحمد بن حنبل وسمع بالكوفة أبا بكر بن أبي شيبة وسمع بمصر يحيى بن بكير وسمع بالحجاز أبا مصعب الزهري وسمع بدمشق هشام بن عمار وشيوخه مائتان وأربعة وثمانون رجلا وكان إماما زاهدا صواما صادقا مجاب الدعوة قليل المثل بحرا في العلم مجتهدا لا يقلد أحدا عني بالأثر وليس لأحد مثل سنده في الحديث ولا في التفسير. قال ابن حزم: أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره لا تفسير ابن جرير ولا غيره ولد سنة 204 أربع ومائتين للهجرة وتفسيره الموصوف بما ترى يؤسفنا أنه لم يكتب له البقاء ولم يظفر بما ظفر به تفسير ابن جرير من هذا الخلود وكم في الخدر أبهى من عروس ... ولكن للعروس الدهر ساعد 7 - أسباب النزول للواحدي هو أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري اقتصر في تفسيره على بيان أسباب النزول بالمأثور وهذا نوع من التفسير لا مجال للتأويل فيه وهو من أعظم ما ألف في موضوعه على رغم توسط حجمه. 8 - الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: هو كتاب نفيس تحدث فيه مؤلفه عن الناسخ وذكر أقوال العلماء في ذلك مسندة وقد استوعب ما قيل في النسخ ولو لم يكن عنده صحيحا وهذا نوع لا مجال للرأي فيه أيضا بل سبيله الوحيدة هي الرواية وهو معدود هنا من التفسير بالمأثور على ضرب التوسع كما لا يخفى. طريق المفسرين بعد العصر الأول: ثم إن كتب التفسير بالمأثور موسوعات كبيرة لا نستطيع الإحاطة بها ولا بأسماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 جميع مؤلفيها ولا بطرق كل مؤلف فيها غير أنا نستطيع أن نجمل القول في طرق المفسرين بعد العصر الأول فنقول: بعد عصر الأولين الذين ألفوا في التفسير بالمأثور والتزموا ذكر السند بجملته جاء قوم صنفوا في التفسير واختصروا الأسانيد ولم ينسبوا الأقوال لقائليها فالتبس بذلك الصحيح وغيره وصار الناظر في تلك الكتب يظنها كلها صحيحة بينما هي مفعمة بالقصص وبالإسرائيليات على وجه لا تمييز فيه كأنها كلها حقائق ومن هنا استهدفت رواياتهم للتجريح والطعن ولولا ما يقوم به المحققون في كل عصر من إحقاق الحق ودحض الباطل لانطمست المعالم واختلط الحابل بالنابل ولكان ذلك مثار مطاعن توجه بلا حساب إلى الإسلام والمسلمين فقد ذكروا في قصص الأنبياء وفي بدء الخليقة والزلازل ويأجوج ومأجوج وبرودة الماء الذي في الآبار زمن الصيف وحرارته في الشتاء ذكروا في ذلك كله ما يندى له الجبين خجلا وما لا يتفق والحقائق العلمية أبدا ويا ليتهم نبهوا على وضعه لو أنهم فعلوا لكان الأمر هينا ولكنهم لم يذكروا السند كما ذكر الأولون ليستطيع المطلع عليه نقده بالرجوع إلى كتب الجرح والتعديل ثم لم يكلفوا أنفسهم الحكم على السند بعد محاكمته إلى كتب العدل والتجريح وتلك ثالثة الأثافي. وقد عني بعض المفسرين بأن يسرد شتات الأقوال حتى أنه ذكر في تفسير قوله سبحانه: غير المغضوب عليهم ولا الضالين نحو عشرة أقوال مع أن الوارد الصحيح تفسير المغضوب عليهم باليهود وتفسير الضالين بالنصارى ولكن الولوع بكثرة النقول نأى بهم عن الاقتصار على التفسير المقبول. وكذلك نلاحظ أن كل بارع في فن يقتصر غالبا في تفسيره على الفن الذي برع فيه فالمبرز في العلوم العقلية كالفخر الرازي أغرم باستعراض أقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها في تفسيره والمبرز في الفقه كالقرطبي أولع بتقرير الأدلة للفروع الفقهية والرد على المخالفين والمبرز في النحو كالزجاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر يهتم أعظم الاهتمام بالإعراب ووجوهه ونقل قواعد النحو وفرعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وأصحاب المذاهب المتطرفة والنحل الضالة يقصدون إلى تأويل الآيات على ما يروج مذاهبهم في التطرف والضلال. والأخباريون يعنيهم أن يستقصوا القصص والأخبار عمن سلف صحيحة كانت أو باطلة. والإشاريون وأرباب التصوف تهمهم ناحية الترغيب والترهيب والزهد والقناعة والرضا فيفسرون القرآن بما يوافق مشاربهم وأذواقهم وعلى الإجمال نرى كل نابغة في فن أو داعية إلى مذهب أو فكرة يجتهد في تفسير الآيات بما يوافق فنه ويلائم مشربه ويناصر مذهبه ولو كان بعيدا كل البعد عن المقصد الذي نزل من أجله القرآن ولقد غالى بعضهم فجعل القرآن مشتملا على العلوم الكونية كالطبيعة والكيمياء والحساب والجبر وما إلى ذلك وقد سبق أن حققنا ذلك في المبحث الأول فارجع إليه إن شئت وربما نعود إلى القول في هذا الموضوع مرة أخرى. والخلاصة هنا: أنه يجب على المفسر ملاحظة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز وأن يجعل هدفه الأعلى ومقصده الأسمى إظهار هدايات الله من كلامه وبيان وجوه إعجازه في كتابه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} التفسير المحمود والتفسير المذموم تفسير الصحابة والتابعين وتفسير الذين اعتمدوا على أقوال الصحابة والتابعين بالأسانيد الصحيحة وتفسير أهل الرأي الموفق الذين جمعوا بين المأثور الصحيح مع حذف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 أسانيده وبين آرائهم العلمية المعتدلة كل هذه الثلاثة من التفسير المحمود ويغلب هذا النوع الثالث في عصرنا الحاضر إذ تجمع التفاسير لدينا بين معان مأثورة ومعان توسعوا في ذكرها عن طريق الرأي والاجتهاد المعتمد على العلم والاعتدال. وهناك نوع رابع هو تفسير أهل الأهواء والبدع وحكمه أنه مذموم قالوا وأشهر الغارقين في هذا الضلال الرماني والجبائي والقاضي عبد الجبار ثم اختلفوا في الزمخشري فمنهم من عد تفسيره من هذا النوع لما فيه من مناحي الاعتزال ومنهم من قال إن فيه فوائد مهمة يريد بذلك أن يلتمس له المعاذير وأن يغلب جانب الفوائد التي فيه على جانب الاعتزال الذي يحتويه ولكن عدالة الأحكام تقضي بأن نسوي بين جميع التفاسير وأن نحاكمها إلى مبدأ واحد فما وافق منها وجه الصواب وكان بمنأى عن البدع والأهواء فهو محمود وما تورط منها في الخطأ وتخبط في الهوى والبدعة فهو مذموم لا فرق بين الزمخشري وغير الزمخشري ولا بين معتزلي وغير معتزلي. ميزان المدح والذم ثم إن هناك ميزانا لما يحمد من التفسير وما يذم وهو الفيصل الذي يجب أن نحكمه ونزن كل تفسير به فما رجح في هذا الميزان قبلناه وحمدناه وما طاش رفضناه وذممناه والمدح والذم درجات بعضها فوق بعض على حسب استيفاء التفسير لوجوه المدح والذم أو نقصها قليلا أو كثيرا وسنضع هذا الميزان بين يديك تحت عنوان منهج المفسرين بالرأي فانتظره رويدا. غير أنا نسترعي نظرك هنا إلى كلمة أهل البدع والأهواء ونريد أن تكون موفقا في حكمك على أية طائفة أو أي شخص ببدعة أو هوى وإلا خيف عليك أن تكون أنت صاحب البدعة والهوى في حكمك {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . غلطة التعصب للرأي: واعلم أن هناك أفرادا بل أقواما تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب كان مبتدعا متبعا لهواه ولو كان متأولا تأويلا سائغا يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام وهكذا استزلهم الشيطان وأعماهم الغرور. ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة أن تفرق كثير من المسلمين شيعا وأحزابا وكانوا حربا على بعضهم وأعداء وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام أوسع من مذاهبهم وآرائهم وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام وأن في ميدان الحنيفية السمحة متسعا لحرية الأفكار واختلاف الأنظار ما دام الجميع معتصما بحبل من الله ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ويقول جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ويقول تقدست أسماؤه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ} . لمثل هذا أربأ بنفسي وبك أن نتهم مسلما بالكفر أو البدعة والهوى لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجها ثم احتملت الإيمان من وجه واحد حملت على أحسن المحامل وهو الإيمان وهذا موضوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 مفروغ منه ومن التدليل عليه لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ويحمي الأخوة ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ووجهه الجميل من السماحة واليسر واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد والتأويل الرشيد. ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فما تنازعوا من أجله بل أخذ كل برأيه وهو يحترم الآخر ورأيه وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يعب أحدا منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهادا منه إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم الله يوما لفئة من أصحابه: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" فسافروا وجدوا ولكن الغزالة تدلت للغروب وهم لا يزالون ضاربين في الأرض ولما يصلوا هنالك اجتهدوا فمنهم من وقف عند ظاهر النص فترك العصر حتى خرج وقته ما دام لم يصل إلى بني قريظة ومنهم من تأول النص وحمله على الكناية في الإسراع فصلى حين خاف على الوقت من قبل أن يصل إلى بني قريظة. نقول إن مثل هذا الخلاف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقره تيسيرا على المسلمين وإعلاما بأن الإسلام دين الكافة يسع جميع البشر في كل العصور والأحوال وشهد المسلمون بعد ذلك عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه يختلفون فيما بينهم كثيرا ولكنهم كانوا بجانب هذا يتكارمون ويتعاونون ويتراحمون كثيرا. وإن كنت في شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعي واحترام الشافعي لأحمد بن حنبل حتى ورد أنه كان يتبرك بغسالة قميصه أي يتبرك الأستاذ الإمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 بغسالة قميص تلميذه المخالف له في الرأي والاجتهاد ثم سل التاريخ عن معاونة صاحب أبي حنيفة للشافعي ودفعه إليه كتبه في كرم وحسن ضيافة وصدق محبة ولا تنس إباء مالك على الرشيد أن يحمل الناس في بلاد الإسلام كلها على موطئه ومذهبه ويعتذر إليه بأن الإسلام أوسع من موطئه ومذهبه وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد ولكل وجهة. أرأيت هذا النبل: والطهر أجل أجل ولكنك ستقضي الأسف حين ترى بجانبه فئات من المسلمين أيضا تراشقوا بالكفر وتراموا بالشرك وتقاذفوا بالتبدع والهوى لمجرد تأويل يستسيغه النظر ويتسع له صدر الاستدلال ثم اتسع الخرق على الراقع في بعض الظروف حتى دارت معارك طاحنة بين صفوف كلها مسلمة وأريقت دماء زكية كلها إسلامية ولا نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما كان أغنانا عنها وما كان أحرانا بالحذر منها خصوصا بعد ما سمعنا من الآيات وبعد أن أقر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثال هذه الخلافيات وبعد أن قال في حديث واحد ثلاث مرات: "هلك المتنطعون" وهي كلمة صغيرة ولكنها كبيرة تحذر وتنذر وتمثل الهلاك جاثما في التنطع بأشكاله وألوانه في الأنفس والأعراض والأموال وفي الجماعات والأفراد على سواء. لا أريد أن أطيل في هذا ولكني أريد أن أقرر وأكرر أن الحكم على فرد أو جماعة بالبدعة والهوى لا يجوز أن يكون مبنيا على غير بدعة أو هوى. ونرى أن من أمثلة هذا التعصب والسير مع الهوى أن يرمي بعض المغالين في الاعتزال إخوانهم من أهل السنة بأنهم حمير في جهالتهم وبأنهم على هوى في عقيدتهم ولم يكفهم أن يقولوا ذلك نثرا بل رددوه شعرا وأنشدوا سامحهم الله لجماعة سموا هواهم سنة ... وجماعة حمر لعمري موكفه الخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وكذلك نرى من أمثلة هذا التعصب والسير مع الهوى أن يرمي بعض المغالين من أهل السنة إخوانهم المعتزلة بالشرك والوثنية لاعتقادهم أن العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية. ونعتقد أن كلتا الطائفتين لو أنصتت إلى وجهة نظر صاحبتها في هدوء ونصفة لاجتمعنا على الإنسانية التي تجمع الجميع وعلى الإسلام الذي يؤلف بين الجميع وعلى الاحترام الذي يجب أن يسود الجميع فإن لكل شرعة ومنهاجا في حدود الإسلام وأدلة الإسلام. ولنقف برهة بجانب هذا المثال مثال خلق الأفعال ليتضح الحال ولنقيس عليه النظائر والأشباه عند الاختلاف والاشتباه ولنعلم أن المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم إخوانا مسلمين تظلهم راية القرآن ويضمهم لواء الإسلام. في القرآن الكريم والسنة النبوية نصوص كثيرة على أن الله تعالى خالق كل شيء وأن مرجع كل شيء إليه وحده وأن هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه مثل قوله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل" ويقول: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" ويقول: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" إلى غير ذلك. هذه النصوص وأمثالها إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلا أن يرد الأمور كلها إلى الله معتقدا أنه الواحد الأحد لا شريك له في ملكه ولا في ناحية من ملكه وهي أفعال التكليف من عباده وكأن نسبة الأفعال إلى العباد هي الأخرى محض فضل من الله على حد ما قال إبن عطاء الله من فضله وكرمه عليك أن خلق العمل ونسبه إليك. ويظاهر هذه الأدلة النقلية أدلة أخرى عقلية ناطقة بوحدانية الله في كل شيء وبأن العبد لا يعقل أن يكون خالقا لما اختاره من أفعاله لأنه لو كان خالقا لها لكان عالما بتفاصيلها ولكنه يشعر من نفسه بأنه تصدر عنه أشياء كثيرة جدا من عمله الاختياري دون أن يعرف تفاصيلها كخطوات المشي وحركات المضغ في الأكل ونحوها وإذا فليس العبد هو الخالق لها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} . بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضا من الكتاب والسنة تنسب أعمال العباد إليهم وتعلن رضوان الله وجبه للمحسنين فيها كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين منهم ومن ذلك قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 أَنْ يَسْبِقُونَا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وكذلك نقرأ في السنة النبوية: "اعلموا فكل ميسر لما خلق له بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت يا عباس بن عبد المطلب اعمل لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد اعملي لا أغني عنك من الله شيئا" إلى غير ذلك. وهذه نصوص إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلا أن يرد أعمال العباد الاختيارية إليهم معتقدا أنهم يستحقون ثوابها إن أحسنوا وعقابها إن أساؤوا ويظاهر هذه الأدلة النقلية أدلة عقلية أيضا شاهدة بعدالة الله وحكمته لأن العبد لو لم يكن موجدا لما اختار من أعماله لما كان ثمة وجه لاستحقاقه المثوبة أو العقوبة وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه. غيري جنى وأنا المعذب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 أهل السنة بهرتهم النصوص الأولى والأدلة العقلية التي بجانبها فرجحوها وقالوا إن العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية إنما هي خلق الله وحده وإذا قيل لهم كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو وكيف يتفق هذا وما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه قالوا إن العباد وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم كاسبون لها وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب وبه يتحقق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلفين. وهكذا حملوا النصوص الأولى على الخلق وحملوا الثانية على الكسب جمعا بين الأدلة ثم إذا قيل لهم ما هذا الكسب اختلف الأشعري والماتريدي في تحديده أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمم ولكل وجهة نظر يطول شرحها وتوجيهها. أما المعتزلة فقد بهرتهم النصوص الثانية وما يظاهرها من برهان النقل فرجحوها وقالوا إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية وإذا قيل لهم أليس الله خالق كل شيء ومنها أعمال العباد قالوا بلى إنه خالق كل شيء حتى أعمال عباده الاختيارية بيد أنه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة وأعمال المكلفين من القبيل الثاني خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكل من الطرفين وليس لنا من حول ولا قوة سوى أننا استعملناها على أحد وجهيها إما بحسن الاختيار وإما بسوء الاختيار ثم لا مانع عندنا من القول بأنه سبحانه خالق لأفعال عباده ولكن على سبيل المجاز باعتبار أنه خالق أسبابها ووسائلها. وإذا قيل لهم إن مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله وهم عباده المكلفون وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية قالوا لا نسلم هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 ولا نقول به فإن الوحدانية ليس معناها نفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره إنما معناها نفي أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله وأنتم يا أهل السنة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم فإنها لا تشبه أفعال الله بحال. هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلا سائغا فيما تؤوله من النصوص المقابلة للنصوص التي بهرتها فرجحتها ونجد أيضا أن كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التي تحاول الأخرى أن تلزمها إياه في مقام الحجاج والجدال بل توجه رأيها توجيها ينأى بها عن الوقوع في المحظور ثم نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيرا بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقاد السديد بوحدانية الله وحكمة الله ولكن على الوجه الذي استبان لها وراج عندها. فكيف يرضى منصف إذا بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو شرك أو هوى وماذا علينا أن نرجح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر بل ماذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكون فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة والمسالك الملتوية البعيدة لا سيما أن الرحمن الرحيم لم يكلفنا بها ولم يفرضها علينا. ولقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله ويؤمنون بقدره وأمره ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ويؤمنون بأن العبد يعمل ما يعمل وأن الله خالق كل شيء ويؤمنون بأنه تعالى تنزه في قدره عن أن يكون مغلوبا أو عاجزا وتنزه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالما أو عابثا ثم بعد ذلك يصمتون فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ونصيبه من قدرة العبد ولا يتعرضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ولا لبيان مدى ما يبلغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 فعل العبد في أمثال أمره ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه لأنهم لم يكلفوه وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلفهم إياه لأنه من أسرار القدر أو يكاد والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. لم يمتحنا بما تعيا العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم واجبنا إزاء الخلافيات ليس من شأني هنا أن أفصل القول في هذه المسألة ولا في أشباهها فلهذا التفصيل علم آخر إنما هو ضرب من التمثيل يجتزئ فيه بالقليل لنخلص منه بعظة مهمة هي أن المسلمين لا يجوز لهم أن ينقسموا شيعا وأحزابا لأمر ليس من الدين فضلا عن أن يكون من أصول الدين وإذا التمسنا المعاذير لخوض من خاضوا أو يخوضون فيه دفعا لشبهات المشتبهين أو ضلال المضللين فلن نستطيع التماس عذر واحد لمن شنوها حربا شعواء بينهم وبين إخوانهم في الدين وما كان لهم أن يخرجوا من مثل هذا البحث أعداء متخاذلين وقد كانوا بالأمس إخوانا متفاهمين متعاونين. وإذا فلنستمسك بالعروة الوثقى ولنفسح صدورنا للخلافيات ما دام صدر الإسلام قد وسعها ولنعلم أن الإسلام أوسع من المذاهب والآراء ولئن ضقت ذرعا برأي أخيك اليوم فقد ترى أنت رأيه غدا عندما تقتنع بوجهة نظره فقد رجع كثير من أعلام الأئمة عن آراء رأوها بل عن مذاهب كانوا قد ذهبوا إليها ولعلك لا تجهل أن للشافعي مذهبا قديما ومذهبا جديدا وأن الخلاف في لواحق العقائد والأصول كثير الشبه بالخلاف في الأحكام والفروع. لهذا كله تراني لا أذهب مع الذاهبين في تضليل المعتزلة وتسفيه أحلامهم ونبزهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 بألقاب الكفر والفسوق كما لا أذهب مع الذاهبين في تجهيل أهل السنة وتحقيرهم ونبزهم بالجهالة والجمود والهوى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . تحذير: وأحب ألا يفهم القاريء الكريم أنني أريدها فوضى لكل متأول في القرآن متلاعب بالنصوص عابث بتعاليم الدين بل الذي أريده وأرجوه أن نفرق بين متأول ومتأول ثم ننظر أهذا التأويل سائغ أم غير سائغ أي تساعد عليه قوانين اللغة العربية ومقررات الإسلام المقطوع بها المعلومة من الدين بالضرورة وبراهين العقل والمنطق أم لا. فالسائغ نقبله ونرحب به وإن خالف رأينا وغير السائغ نرده في غير تردد ونحاربه في غير هوادة لأن تاريخ الإسلام لم يشهد أعداء كانوا أخطر عليه من أولئك العابثين الذين تلاعبوا بنصوصه وعبثوا بمقرراته سواء منهم من ذهب به الماضي كالباطنية ومن برم به الحاضر كالبهائية وقد تسمع قريبا شيئا عن أمثالهم. سماحة الإسلام ويسر تعاليمه بان لك مما ذكرنا أن الإسلام دين سمح وأن الله تعالى لم يكلف الخلق من تعاليم دينه إلا ما جاء به كتابه الكريم وشرحه نبيه العظيم على تلك الطريقة السهلة الواضحة البعيدة عن التدقيقات الفلسفية والتعقيدات الفنية. ولعل من تمام الفائدة في هذا الموضوع الخطير أن نقتطف لك كلمة قالها حجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 الإسلام الغزالي في الإحياء عند بيانه لما بدل الناس من ألفاظ العلوم إذ قال تغمده الله برحمته. اللفظ الثالث أي من الأسماء المحمودة التي نقلت بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول التوحيد وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسمي المتكلمون بعلماء التوحيد مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والمماراة فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تستبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع فقد كان ذلك معلوما للكل وكان العلم بالقرآن هو العلم كله وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله إلى أن قال: والتوحيد جوهر نفيس وله قشران أحدهما أبعد عن اللب من الآخر فخصص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية فالقشر الأول هو أن تقول بلسانك لا إله إلا الله وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث الذي صرح به النصارى ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره والقشر الثاني ألا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده والتصديق به وهو توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 تشويش المبتدعة والثالث وهو اللباب أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره ويخرج عن هذا التوحيد أتباع الهوى فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وقال صلى الله عليه وسلم1: "أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى" وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم وإنما يعبد هواه إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى ويخرج من هذا التوحيد التسخط على الخلق والالتفات إليهم فإنه من يرى الكل من الله عز وجل كيف يتسخط على غيره فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصديقين فانظر إلى ماذا حول وبأي قشر قنع منه وكيف اتخذوا هذا معتصما في التمدح والتفاخر بما اسمه محمود مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحق الحمد الحقيقي وذلك كإفلاس من يصبح بكرة ويتوجه إلى القبلة ويقول: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً} وهو أول كذب يفاتح الله به كل يوم إن لم يكن توجه قلبه توجها إلى الله تعالى على الخصوص فإنه إن أراد بالوجه وجه الظاهر فما وجهه إلا إلى الكعبة وما صرفه إلا عن سائر الجهات والكعبة ليست جهة للذي فطر السماوات والأرض حتى يكون المتوجه إليها متوجها إليه تعالى عن أن تحده الجهات والأقطار وإن أراد به وجه القلب وهو المطلوب التعبد به فكيف يصدق في قوله وقوله متردد في أوطاره وحاجاته الدنيوية ومتصرف في طلب الحيل في جمع الأموال والجاه واستكثار الأسباب ومتوجه بالكلية إليها فمتى وجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض وهذه الكلمة خبر عن حقيقة التوحيد فالموحد   1 قال العراقي في تخريج هذا الحديث: رواه الطبراني من الحديث أبي أمامة بإسناد ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 هو الذي لا يرى إلا الواحد ولا يوجه وجهه إلا إليه وهو امتثال قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} وليس المراد به القول باللسان فإنما اللسان ترجمان يصدق مرة ويكذب أخرى وإنما موقع نظر الله المترجم عنه وهو القلب وهو معدن التوحيد ومنبعه اهـ. وإياك أن تفهم منه الغض من علم التوحيد خصوصا بعد أن صرح هنا بأنه يحمي قشرة العقيدة عن تشويش المبتدعة ولكن نقده ينصب على الإسراف في القشور وإهمال اللباب كما سمعت. تحقيق للأستاذ الإمام وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كلام في هذه المسألة بحاشيته على العقائد العضدية توسع فيه كثيرا مع الفرق المخالفة حين عرض لحديث الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فزقة كلها في النار إلا واحدة" قيل ومن هم؟ قال: "الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي" ثم ختم الشيخ بحثه فقال: والحق الذي يرشد إليه الشرع والعقل أن يذهب الناظر المتدين إلى إقامة البراهين الصحيحة على إثبات صانع واجب الوجود ثم منه إلى إثبات النبوات ثم يأخذ كل ما جاءت به النبوات بالتصديق والتسليم بدون فحص فيما تكنه الألفاظ إلا فيما يتعلق بالأعمال على قدر الطاقة ثم يأخذ طريق التحقيق في تأسيس جميع عقائده بالبراهين الصحيحة كان ما أدت إليه ما كان لكن بغاية التحري والاجتهاد. ثم إذا فاء من فكره إلى ما جاء من عند ربه فوجده بظاهره ملائما لما حققه فليحمد الله على ذلك وإلا فليطرق عن التأويل ويقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 فإنه لا يعلم مراد الله ونبيه إلا الله ونبيه على هذا المنوال يكون نسجه فيبوء من الله برضوان حيث أسس عقائده على السديد من البراهين واستقبل الأخبار الإلهية بالقبول والتسليم وتناولها بقلب سليم. وإن أراد التأويل لغرض كدفع معاند أو إقناع جاحد فلا بأس عليه إذا سلم برهانه من التقليد والتشويش وهذا هو دأب مشايخنا كالشيخ الأشعري والشيخ أبي منصور ومن مائلهم لا يأخذون قولا حتى يسددوه ببراهينهم القوية على حسب طاقتهم وهذا ما يعني باسم السني والصوفي والحكيم وكل متحزب مجادل فإنما يبغي العنت وتشتيت الكلمة فهو في النار وكل مقصر فعليه العار والشنار فاسلك سبيل السلف واحذر فقد خلف من بعدهم خلف. ولا بد في كمال النجاة ونيل العادة الأبدية من أن ينضم إلى ذلك التخلي عن الرذائل والتحلي بالأخلاق الكاملة والأعمال الفاضلة ومن تلك الأخلاق والأعمال تكميل قوة النظر وارتكاب طريق العدل في كل شيء إذ لا ريب أن كل من خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهمة والسداد والعدل والأنصاف وسلوك طريق الاستقامة في جميع الأخلاق والأعمال ونور البصيرة فيما يأخذ ويعطي فهو في النار ومن كان على ما كانوا عليه فهو في أعلى غرف الجنان. وسالك هذا الطريق إما أن يكون سلوكه من قبل الالتفات إلى ما جاء في الكتاب والسنة وكلام أولي الفضل من الراشدين قديما وحديثا فذلك هو الحكيم العلي والمؤمن المتوسط وإما أن يكون مع ذلك قد سلك بنفسه مدارج الأنوار ووقف على ما في ذلك من دقائق الأسرار حتى جلس في حياته هذه في مقعد صدق عند مليك مقتدر فهو الصوفي وهو صاحب المقصد الأسنى والمطلوب الأعلى وفي هذا مراتب لا تحصى ومراق لا تستقصى وهذا وما قبله يشملها اسم المؤمن الصادق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 فمن تحقق بهذا النور فله النجاة والحبور كان ما كان فإن هذا هو المتحقق فيه ما كان النبي عليه وأصحابه. ولنمسك القلم حيث أن المقصود هو الإيجاز والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب فاسلك بنفسك طريق السداد وانظر فيما يكون لك بعين الرشاد اهـ. وهنا أمسك أنا القلم أيضا مؤملا أن أكون قد وفيت هذا المقام المهم حقه وأن أكون قد نجحت في تجلية مبدأ من المبادئ الإسلامية الرشيدة عند اختلاف وجهات الأنظار وتباين منازع الأفكار كفانا الله شر العناد والغرور والفتنة وجمع صفوف الأمة على حقائق الكتاب والسنة آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 ي - التفسير بالرأي الجائز منه وغير الجائز المراد بالرأي هنا الاجتهاد فإن كان الاجتهاد موفقا أي مستندا إلى ما يجب الاستناد إليه بعيدا عن الجهالة والضلالة فالتفسير به محمود وإلا فمذموم والأمور التي يجب استناد الرأي إليها في التفسير نقلها السيوطي في الإتقان عن الزركشي فقال ما ملخصه للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة: الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف والوضوع. الثانية: الأخذ بقول الصحابي فقد قيل إنه في حكم المرفوع مطلقا وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه. الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلا ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". فمن فسر القرآن برأيه أي باجتهاده ملتزما الوقوف عند هذه المآخذ معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم. فالتفسير بالرأي الجائز يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما ينير السبيل للمفسر برأيه وأن يكون صاحبه عارفا بقوانين اللغة خبيرا بأساليبها وأن يكون بصيرا بقانون الشريعة حتى ينزل كلام الله على المعروف من تشريعه. أما الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي فمن أهمها التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة ومنها حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة ومنها الخوض فيما استأثر الله بعلمه ومنها القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل ومنها السير مع الهوى والاستحسان. ويمكن تلخيص هذه الأمور الخمسة في كلمتين هما الجهالة والضلالة. وينبغي أن يعلم أن في القرآن علوما تتنوع إلى ثلاثة: الأول: علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه بل استأثر به وحده كمعرفة حقيقة ذاته وصفاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو وهذا النوع لا يجوز الكلام فيه لأحد إجماعا. الثاني: ما أطلع الله عليه نبيه واختص به وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام ولمن أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم قيل ومنه أوائل السور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 الثالث: العلوم التي علمها الله تعالى لنبيه مما أمر بتبليغه وهذا النوع قسمان قسم لا يجوز الكلام فيه بطريق السمع كالكلام في الناسخ والمنسوخ والقراءات وقصص الأمم الماضية وأسباب النزول وأخبار الحشر والنشر المعاد وقسم يعرف بطريق النظر والاستدلال وهذا منه المختلف في جوازه وهو ما يتعلق بالآيات المتشابهات ومنه المتفق على جوازه وهو ما يتعلق بآيات الأحكام والمواعظ والأمثال والحكم ونحوها لمن له أهلية الاجتهاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 العلوم التي يحتاجها المفسر وقد بين العلماء أنواع العلوم التي يجب توافرها في المفسر فقالوا هي اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة وعلم أصول الفقه وعلم التوحيد ومعرفة أسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ولا يناله من في قلبه بدعة أو كبر أو حب دنيا أو ميل إلى المعاصي قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال الإمام الشافعي. شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي ملاحظة: هذه الشروط التي ذكرناها وهذه العلوم كلها إنما هي لتحقيق أعلى مراتب التفسير مع إضافة تلك الاعتبارات المهمة المسطورة في الكلمات القيمة الآتية أما المعاني العامة التي يستشعر منها المرء عظمة مولاه والتي يفهمها الإنسان عند إطلاق اللفظ الكريم فهي قدر يكاد يكون مشتركا بين عامة الناس وهو المأمور به للتدبر والتذكر لأنه سبحانه سهله ويسره وذلك أدنى مراتب التفسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده ما خلاصته: للتفسير مراتب: أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلى الخير وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكل أحد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور: أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة غير مكتف بقول فلان وفهم فلان فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد ومن ذلك لفظ التأويل اشتهر بمعنى التفسير مطلقا أو على وجه مخصوص ولكنه جاء في بمعان أخرى كقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} . فإن المراد به العاقبة وما يعد به القرآن من المثوبة والعقوبة أي ما يؤدي إليه الأمر في وعده ووعيده فعلى المحقق المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره ويحقق كيف يتفق معناه مع جملته من الآية فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه وقد قالوا إن القرآن يفسر بعضه بعضا وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول واتفاقه مع جملة المعنى وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته. ثانيها: الأساليب فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه والوقوف على مراد المتكلم منه نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 والتمام ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة ويحتاج في هذه إلى علم الإعراب وعلم الأساليب المعاني والبيان ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب ترون في كتب العربية ان العرب كانوا مسددين في النطق يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع أتحسبون ان ذلك كان طبيعيا لهم كلا وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة لذلك صار أبناء العرب أشد عجمة من العجم عندما اختلطوا بهم لو كان طبيعيا ذاتيا لهم لما فقدوه في مدة خمسين سنة من بعد الهجرة. ثالثها: علم أحوال البشر فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبين فيه ما لم يبينه في غيره وبين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعه وسننه الإلهية في البشر وقص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها فلا بد للنظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ومناشىء اختلاف أحوالهم من قوة وضعف وعز وذل وعلم وجهل وإيمان وكفر ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه. أجمل القرآن الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهية وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علما وأمرنا بالنظر والتفكر والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة. رابعها: العلم يوجه هداية البشر كلهم القرآن فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به لهدايتهم وإسعادهم وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه.. يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال إن أجهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذي يخشى ان ينقض عرى الإسلام عروة عروة اهـ بالمعنى والمراد أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور. ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو لأنه من ضروريات الحياة عندهم ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر وتأثير تلك الآداب من اين جاء؟. خامسها العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشؤون دنيويها وأخرويها انتهى من تفسير المنار بتصرف قليل. الاختلاف في جواز التفسير بالرأي: يختلف العلماء في التفسير بالرأي بين مجيز ومانع والتحقيق ما قدمناه بين يديك من الجواز بشروطه والمنع عند عدم توافر شروطه وأن ذلك في غير أدنى مراتب التفسير أما هذا الأدنى فهو جائز من غير اعتبار تلك الشروط لأن الله يسره حتى للعامة كما أسلفنا ونسوق إليك هنا أدلة المانعين والمجيزين لتزداد بصيرة وتنورا في هذا الموضوع: أدلة المعانعين: يستدل المانعون بأدلة الأول أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم والقول على الله بغير علم منهي عنه فالتفسير بالرأي منهي عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 دليل الصغرى أن المفسر بالرأي ليس متيقنا أنه مصيب وقصارى أمره أنه يظن والقائل بالظن قائل على الله بغير علم ودليل الكبرى قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} المعطوف على ما قبله من المحرمات في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . لكن أجاب المجيزون عن هذا الدليل بمنع الكبرى لأن القائل بالظن فيما لا يوجد عليه نص قاطع ولا دليل عقلي إنما يستند إلى علم الله أي إلى دليل قطعي منه سبحانه على صحة العمل بهذا الظن كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وكقوله صلى الله عليه وسلم ما معناه "من اجتهد وأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران". الدليل الثاني الحديثان الآتيان: 1 - ما يرويه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار". 2 - ما يرويه أبو داود عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ". وأجيب عن هذين الحديثين بأجوبة ثلاثة: أولها أنهما محمولان على من قال برأيه في نحو مشكل القرآن ومتشابهه مما لا يعلم إلا من طريق النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 ثانيها أنهما محمولان على من قال في القرآن قولا وهو يعلم أن الحق خلافه كأصحاب المذاهب الفاسدة الذي يتأولون القرآن على وفق هواهم ليحتجوا به على صحة آرائهم. ثالثها أنهم محمولان على قول من يأخذ بظاهر الكلام من غير أن يستند إلى نقل أو يكلف نفسه البحث عن مبهمات القرآن وما فيه من حذف وإضمار وتقديم وتأخير ونحو ذلك فالنقل لا بد منه بكل مفسر كيلا يقع في الخطأ أما التوسع في الفهم واستنباط صحيح الآراء فهو خطوة أخرى بعد النقل لأن الأخذ بظاهر العربية وحده غير كاف ولا سديد تأمل قوله سبحانه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} فإن معناه وآتينا ثمود الناقة معجزة واضحة وبينة لائحة تدلهم على صدق صالح عليه الصلاة والسلام وصدق ما جاء به فظلموا بعقرها أنفسهم. والواقف عند ظاهر اللغة العربية يظن أن المراد من الإبصار نظر العين ولا يدري بماذا ظلموا أظلموا أنفسهم بعقرها أم غيرهم؟. هذه احتمالات في الحديثين والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ويجاب عن حديث جندب زيادة على سابقه بأنه حديث لم يثبت صحته وعلى فرض فإنه يحتمل أن يكون معناه فقد أخطأ طريق التماس المعنى ذلك لأن السبيل في معرفة ألفاظ القرآن إنما هي اللغة وعلومها والسبيل إلى معرفة أسباب نزوله وتمييز ناسخه ومنسوخه ونحو ذلك إنما هو النقل الصحيح والسبيل إلى القطع بمراد الله إنما هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يظفر بوارد فلا بأس من أن يقيس ويجتهد ويستدل بما ورد على ما لم يرد. الدليل الثالث: ما ورد عن الصحابة والتابعين من أنهم كانوا يتحرجون عن القول في القرآن بآرائهم ومن ذلك ما روي عن الصديق رضي الله عنه أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم وما ورد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال أنا لا أقول في القرآن شيئا وروي عن الشعبي أنه قال ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت القرآن والروح والرؤى أي تأويل الأحلام إلى غير ذلك من الأخبار التي تدل على امتناعهم من أن يقولوا في القرآن بآرائهم. وأجيب عن ذلك أولا: بأن إحجامهم عن القول ورعا خشية ألا يصيبوا عين اليقين والورع ترك ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما به بأس. ثانيا: أن إحجامهم يحتمل أنه مقيد بما لم يعرفوا وجه الصواب فيه أما إذا عرفوا وجه الصواب فإنهم لا يمتنعون ولو كان وجه الصواب ظنيا لا قطيعا هذا أبو بكر نفسه يفتي في الكلالة حين سئل عنها من الآية الكريمة, َ {سْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الخ ويقول أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان الكلالة كذا وكذا ومثل هذا ورد عن علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين. ثالثا: أن إحجامهم يحتمل أيضا التقييد بما كان من التفسير على وجه قاطعا فيما لم يقم دليل قاطع. رابعا: ان إحجامهم يحتمل أيضا التقييد بما إذا قام غيرهم عنهم بواجب تفسير القرآن وبيانه أما إذا انحصرت المسؤولية فيهم فمعقول أنهم لا يمتنعون وقتئذ وإلا كانوا كاتمين للعلم وآثمين حاشاهم من ذلك حاشاهم رحمهم الله وأحسن جزاءهم ومثواهم. أدلة المجيزين للتفسير بالرأي: استدل المجيزون للتفسير بالرأي استدلالات عدة أيضا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 أولها أن الله تعالى يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ويقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ويقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وجه الاستدلال أن الله تعالى حث على تدبر القرآن والاعتبار بآياته والاتعاظ بمواعظه وهذا يدل على أن أولي الألباب بما لهم من العقل السليم واللب الصافي عليهم أن يتأولوا ما لم يستأثر الله بعلمه إذا التدبر والاتعاظ فرع الفهم والتفقه في كتاب الله والآية الكريمة تدل على أن في القرآن ما يستنبطه أي يستخرجه أولو الألباب والفهم الثاقب. ثانيها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في دعائه لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فلو كان التأويل مقصورا على السماع والنقل للفظ التنزيل لما كان هناك فائدة لتخصيصه فدل على أن التأويل خلاف النقل وإذن فهو التفسير بالاجتهاد والرأي. ثالثها: لو كان التفسير بالرأي غير جائز لتعطل كثير من الأحكام واللازم باطل ووجه الملازمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر تفسير كل آية والمجتهد مأجور وإن أخطأ ما دام أنه قد استفرغ وسعه ولم يهمل الوسائل الواجبة في الاجتهاد وكان غرضه الوصول إلى الحق والصواب. ويمكن أن يجعل الخلاف لفظيا بأن يحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأي على التفسير بالرأي المستوفي لشروطه الماضية فإنه يكون حينئذ موافقا لكتب الله وسنة رسوله كلام العرب وهذا جائز ليس بمذموم ولا منهي عنه ثم يحمل كلام المانعين للتفسير بالرأي على ما فقدت شروطه السابقة فإنه يكون حينئذ مخالفا للأدلة الشرعية واللغة العربية وهذا غير جائز بل هو محط النهي ومصب الذم. وعليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 يحمل كلام ابن مسعود إذا قال ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتقطع وكذلك يحمل قول عمر أيضا إنما أخاف عليكم رجلين رجلا يتأول القرآن على غير تأويله ورجلا ينافس الملك على أخيه. وقول عمر أيضا ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ولا من فاسق بين فسقه ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله. فكل هذا محمول على ما لم يوافق تفسيره الأدلة الشرعية ولا قواعد اللغة العربية ولا يخفى أن القول في القرآن بالرأي معناه ان الله أراد بكلامه كذا وهذا أمر له خطره الخطير ومسؤوليته الجسيمة نسأل الله تعالى السلامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 ل - منهج المفسرين بالرأي وخلاصة ما مضى أنه يجب على من يحاول أعلى مراتب التفسير بالرأي أن يأخذ حذره وأن يتذرع بكل العلوم التي نوهنا بها ليكون قد أصاب المراد أو كاد ووجب عليه أن ينهج منهج الصواب والسداد باتباع ما يأتي: أولا: أن يطلب المعنى من القرآن فإن لم يجده طلبه من السنة لأنها شارحة للقرآن فإن أعياه الطلب رجع إلى قول الصحابة فإنهم أدرى بالتنزيل وظروفه وأسباب نزوله شاهدوه حين نزل فوق ما امتازوا به من علم وعمل وخير ما فسرته بالوارد. ثانيا: إن لم يظفر بالمعنى في الكتاب والسنة ومأثورات الصحابة وجب عليه أن يجتهد وسعه متبعا ما يأتي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 1 - البدء بما يتعلق بالألفاظ المفردة من اللغة والصرف والاشتقاق ملاحظا المعاني التي كانت مستعملة زمن نزول القرآن الكريم. 2 - إرداف ذلك بالكلام على التراكيب من جهة الإعراب والبلاغة على أن يتذوق ذلك بحاسته البيانية. 3 - تقديم المعنى الحقيقي على المجازي بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة. 4 - ملاحظة سبب النزول فإن لسبب النزول مدخلا كبيرا في بيان المعنى المراد كما سبق تحقيقه في مبحث أسباب النزول. 5 - مراعاة التناسب بين السابق واللاحق بين فقرات الآية الواحدة وبين الآيات بعضها وبعض. 6 - مراعاة المقصود من سياق الكلام. 7 - مطابقة التفسير للمفسر من غير نقص ولا زيادة. 8 - مطابقة التفسير لما هو معروف من علوم الكون وسنن الاجتماع وتاريخ البشر العام وتاريخ العرب الخاص أيام نزول القرآن. 9 - مطابقة التفسير لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته لأنه هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته. 10 - ختام الأمر ببيان المعنى والأحكام المستنبطة منه في حدود قوانين اللغة والشريعة والعلوم الكونية. 11 - رعاية قانون الترجيح عند الاحتمال وهو ما يأتي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 م - قانون الترجيح عند الاحتمال قال السيوطي في الإتقان ما نصه كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعليهم اعتماد الدلائل دون مجرد الرأي. فإن كان أحد المعنيين أوضح وجب الحمل عليه إلا أن يقوم الدليل على إرادة غيره. وإذا تساويا والاستعمال فيهما حقيقة لكن في أحدهما لغوية أو عرفية وفي الآخر شرعية فالحمل على الشرعية أولى إلا أن يدل الدليل على إرادة اللغوية كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وإن كانت في أحدهما عرفية والآخر لغوية فالحمل على العرفية أولى. وإن اتفقا في ذلك أيضا فإن تنافى اجتماعهما ولم يكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء للحيض والطهر اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه فما ظنه فهو مراد الله تعالى في حقه. وإن لم يظهر له شيء فهل يتخير أو يأخذ بالأغلظ أو بالأخف أقوال وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 ن - أوجه بيان السنة للقرآن سبق غير مرة أن بينا أن السنة شارحة للقرآن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وظيفته التبليغ والبيان بمثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته - وجاء في رواية - متكىء على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه.. الخ". ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتيت الكتاب ومثله معه" أنه أوتي من الوحي غير المتلو مثل الوحي المتلو تبينا له وتوضيحا وكل من عند الله قال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . وقوله في هذا الحديث يوشك رجل الخ يدل على أنه سيأتي قوم يتمسكون بظاهر القرآن كالروافض والخوارج ويتركون الاستدلال بالسنة المبينة للقرآن فضلوا وأضلوا. والمراد بقوله على أريكته وهي السرير أنه ممن أطغته النعمة وألهته عن السعي في طلب العلم والبحث عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث يدل على أن ما صح ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا فهو حجة بنفسه كالقرآن الكريم. ثم إن بيان السنة على وجوه شتى: أحدها بيان المجمل في القرآن كبيان مواقيت الصلوات الخمس وعدد ركعاتها وكيفية ركوعها وسجودها وغير ذلك وبيان مقادير الزكاة وأوقاتها وأنواعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وبيان مناسك الحج ونحوها مما ورد في القرآن مجملا وبينته السنة ولذا قال صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم", وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". قال أحمد بن حنبل السنة تفسير الكتاب وتبينه. ثانيها بيان أحكام زائدة على ما جاء به القرآن كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وتحريم أكل الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع والقضاء باليمين والشاهد وغير ذلك مما هو مقرر في علم الأصول والفقه. ثالثها بيان معنى لفظ أو متعلقة كتفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى وبيان قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} بأنها مطهرة من الحيض والغائط والنخامة والبزاق وتفسير قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} بأنهم يزحفون على أستاههم ويقولون: حبة في شعيرة بدلا من امتثال قوله تعالى لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} وقولوا حطة وغير ذلك مما خصص به العام أو قيد به المطلق وهو كثير في كتب السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 س - التعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور وما يتبع في الترجيح بينهما ينبغي أن يعلم ان التفسير بالرأي المذموم ليس مرادا هنا لأنه ساقط من أول الأمر فلا يقوى على معارضة المأثور. ثم ينبغي أن يعلم أن التعارض بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي المحمود معناه التنافي بينهما بأن يدل أحدهما على إثبات والآخر على نفي كأن كلا من المتنافيين وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه. وأما إذا لم يكن هناك تناف فلا تعارض وإن تغايرا كتفسيرهم الصراط المستقيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 بالقرآن أو بالسنة أو بطريق العبودية أو طاعة الله ورسوله فهذه المعاني غير متنافية وإن تغايرت وكذا ما قيل في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} مما هو مذكور في كتب التفسير فليس بمتناف فلا يكون متعارضا ولا متناقضا. قيل في تفسير هذه الآية: الظالم هو المرجأ إلى أمر الله والمقتصد هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا والسابق للخيرات بإذن الله هو الذي تمحض للخير وقيل: السابق المخلص والمقتصد المرائي والظالم كافر النعمة غير الجاحد لها وقيل: السابق من رجحت حسناته والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته والظالم من رجحت سيئاته وقيل: السابق العالم والمقتصد المتعلم والظالم الجاهل وقيل: الظالم الذي يعبده على الرغبة والرهبة والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق وقيل: الظالم من أخذ الدنيا حلالا كانت أو حراما والمقتصد من يجتهد ألا يأخذها إلا من حلال والسابق من أعرض عنها جملة وقيل الظالم طالب الدنيا والمقتصد طالب العقبي والسابق طالب المولى وقيل غير ذلك وفي دار الكتب المصرية بمصر مجلد مخطوط لعلي بن محمد بن عمر التونسي اسمه تحفة الأحباب في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} . إذا تقرر هذا فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي لأن الرأي إما ظني وإما قطعي أي مستند إلى دليل قطعي من عقل أو نقل فإن كان قطعيا فلا تعارض بين قطعيين بل يؤول المأثور ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله جمعا بين الدليلين وإن لم يكن تأويله حمل اللفظ الكريم على ما يقتضيه الرأي والاجتهاد تقديما للأرجح على المرجوح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 أما إذا كان الرأي ظنيا بأن خلا من الدليل القاطع واستند إلى الأمارات والقرائن الظاهرة فقط فإن المأثور القطعي يقدم على الرأي الظني ضرورة أن اليقين أقوى من الظن. هذا كله فيما إذا كان المأثور قطعيا أما إذا كان المأثور غير قطعي في دلالته لكونه ليس نصا أو في متنه لكونه خبر آحاد ثم عارضه التفسير بالرأي فلا يخلو الحال إما أن يكون ما حصل فيه التعارض مما لا مجال للرأي فيه وحينئذ فالمعول عليه المأثور فقط ولا يقبل الرأي. وإن كان للرأي فيه مجال فإن أمكن الجمع فبها ونعمت وإن لم يكن قدم المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة لأنهم شاهدوا الوحي وبعيد عليهم ان يتكلموا في القرآن بمجرد الهوى والشهوة. أما المأثورعن التابعين فإذا كان منقولا عن أهل الكتاب قدم التفسير بالرأي عليه وأما إذا لم ينقل عنهم رجعنا به إلى السمع فما أيده السمع حمل النظم الكريم عليه فإن لم يترجح أحدهما بسمع ولا بغيره من المرجحات فإننا لا نقطع بأن أحدهما هو المراد بل ننزل اللفظ الكريم منزلة المجمل قبل تفصيله والمشتبه أو المبهم قبل بيانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 ع - أهم كتب التفسير بالرأي قد علم مما سبق منه الممدوح الجائز ومنه المذموم غير الجائز وهاك بيانا بأشهر من ألف في القسم الأول من أهل السنة ومؤلفاتهم: 1 - الإمامان الجليلان جلال الدين محمد المحلي وجلال الدين عبد الرحمن السيوطي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وهما صاحبا التفسير المعروف بتفسير الجلالين. 2 - الإمام البيضاوي ناصر الدين بن سعيد صاحب التفسير المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل. 3 - الإمام فخر الدين الرازي محمد ابن العلامة ضياء الدين عمر المشهور بخطيب الري صاحب التفسير المسمى مفاتيح الغيب. 4 - أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى الطحاوي صاحب التفسير المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم. 5 - العلامة شهاب الدين الألوسي صاحب التفسير المسمى روح المعاني. 6 - نظام الدين الحسن محمد النيسابوري صاحب التفسير المسمى غرائب القرآن ورغائب الفرقان. 7 - العلامة الشيخ محمد الشربيني الخطيب صاحب التفسير المسمى السراج المنير في الإعانة على معرفة كلام ربنا الخبير. 8 - أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي صاحب التفسير المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل. 9 - علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي صاحب التفسير المعروف بتفسير الخازن. تفسير الجلالين: أما تفسير الجلالين فكتاب قيم سهل المأخذ إلى حد ما مختصر العبارة كثيرا يكون أعظم التفاسير انتشارا ونفعا وإن كان أصغرها أو من أصغرها شرحا وحجما تداولته طبقات مختلفة من أهل العلم وغيرهم وطبع طبعات كثيرة متنوعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 طبع مرة وحده مجردا وأخرى بحاشية المصحف وثالثة مع حاشية الصاوي ورابعة مع حاشية الجمل وأوسع حواشيه حاشية الجمل والعجيب أن كثيرا من فطاحل العلماء كانوا يختارونه لأعلى دراسة عرفت في التفسير كمادة أساسية يدورون حولها ويستلهمون وحيها حتى إن دروس التفسير الشهيرة للعلامة المرحوم الشيخ محمد عبده كانت مادته فيها تفسير الجلالين على ما سمعت. تفسير البيضاوي: وأما تفسير البيضاوي فهو كتاب جليل دقيق جمع بين التفسير والتأويل على قانون اللغة العربية وقرر الأدلة على أصول أهل السنة وقد التزم أن يختم كل سورة بما يروى في فضلها من الأحاديث غير أنه لم يتحر فيها الصحيح وأحسن حواشيه المتداولة حاشية الشهاب الخفاجي وإن كان له حواش أخرى كثيرة منها حاشية سعدي أفندي وحاشية الروشني وحاشية الششتري وحاشية الشيرواني وحاشية السمرقندي على تفسير الفاتحة وحاشية الإسفرايني على جزء عم وحاشية ابن أمير خان على سورة الملك. تفسير الفخر الرازي: سيأتي الكلام عليه تحت عنوان تفاسير أهل الكلام. تفسير أبي السعود: تفسير رائع ممتاز يستهويك حسن تعبيره ويروقك سلامة تفكيره ويروعك ما أخذ نفسه به من تجلية بلاغة القرآن والعناية بهذه الناحية المهمة في بيان إعجازه, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 مع سلامة في الذوق وتوفيق في التطبيق ومحافظة على عقائد أهل السنة وبعد عن الحشو والتطويل. تفسير النيسابوري: يمتاز بسهولة عبارته وبتحقيق ما يحتاج إلى تحقيق مع قصد وخلو من الحشو وقد عني بأمرين يلتزمهما الكلام على القراءات والأوقف في أول كل مرحلة من مراحل التفسير والكلام على التأويل الإشاري في آخر كل مرحلة من تلك المراحل وهو مطبوع طبعة شهيرة على هامش تفسير ابن جرير وهو مختصر لتفسير الفخر الرازي مع تهذيب كبير. تفسير الألوسي: سيأتي الكلام عليه عند التفسير الإشاري. تفسير النسفي: كتاب جليل متداول مشهور سهل ودقيق قال فيه صاحب كشف الظنون هو كتاب وسط في التأويلات جامع لوجوه الإعراب والقراءات متضمن لدقائق علم البديع والإشارات مرشح لأقاويل أهل السنة والجماعة خال من أباطيل أهل البدع والضلالة ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل اهـ. تفسير الخطيب: كتاب عظيم يعني بثلاثة أشياء تقرير الأدلة وتوجيهها والكلام على المناسبات بين السور والآيات وسرد كثير من القصص والروايات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 تفسير الخازن: مشهور يعنى بالمأثور بيد أنه لا يذكر السند وله ولوع بالتوسع في الروايات والقصص ومن مزاياه أن يتبع القصة ببيان ما فيها من باطل حتى لا ينخدع بها غر ولا يفتن جاهل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 ف - تفاسير الفرق المختلفة كالتفسير الإشاري وتفاسير أهل الكلام وأشهر الكتب في ذلك منيت الأمة بأن تفترق أكثر من سبعين فرقة وأن يلبسها الله شيعا ويذيق بعضها بأس بعض وإن كانت لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وقد تناولت كل طائفة كتاب الله تفسره بما ارتضته لنفسها من اعتدال أو تطرف فظهرت مجموعة التفاسير كالمرايا المجلوة تنطبع فيها صور المفسرين لها على اختلاف مشاربهم وتباين منازعهم ولا غرو فكل إناء بما فيه ينضح وكل يغني على ليلاه. ومن هنا تجد تفاسير أهل السنة تظهر فيها عقيدة أهل السنة و تفاسير المعتزلة تظهر فيها عقيدة الاعتزال والشيعة تظهر في تفاسيرهم عقيدة التشيع وهلم وهلم وقد تكلمنا تحت العنوان السابق على نماذج من تفاسير أهل السنة فلنتكلم هنا على نماذج من تفاسير الفرق المختلفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 ص - تفاسير المعتزلة ولنبدأ بكتاب الكشاف للزمخشري ثم كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار وهما نموذجان من تفاسير أهل الكلام من المعتزلة. كتاب الكشاف: أما كتاب الكشاف فصاحبه هو محمود بن عمر بن محمد بن عمر النحوي اللغوي المعتزلي الملقب بجار الله ولد سنة 467 هـ سبع وستين وأربعمائة وتوفي سنة 538 ثمان وثلاثين وخمسمائة بعد أن برع في اللغة والأدب والنحو ومعرفة أنساب العرب حتى فاق أقرانه ثم تظاهر بالاعتزال ودعا إليه وكتابه خير كتاب أو من خير الكتب التي يرجع إليها في التفسير من ناحية البلاغة رغم نزعته الاعتزالية وأغلب التفاسير من بعده أخذت منه واعتمدت عليه. ويمتاز الكشاف بأمور منها خلوه من الحشو والتطويل ومنها سلامته من القصص والإسرائيليات ومنها اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم ومنها عنايته بعلمي المعاني والبيان والنكات البلاغية تحقيقا لوجوه الإعجاز ومنها سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال والجواب كثيرا ويعنون السؤال بكلمة إن قلت بفتح التاء ويعنون الجواب بكلمة قلت بضم التاء وللكشاف حواش كثيرة منها حاشية ابن كمال باشا زادة وحاشية علاء الدين المعروف بالبهلوان وحاشية الشيخ حيدر وحاشية الرهاوي. وإليك مواضع من كتابه ينحو فيها نحو الاعتزال ويقرر عقيدة القول بالمنزلة بين المنزلتين وبأن أفعال العباد مخلوقة لهم وبأن رؤية الله في الدار الآخرة مستحيلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 1 - يقول عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الخ ما نصه فإن قلت ما الإيمان الصحيح قلت أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ومن أخل بالشهادة فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اهـ فأنت تراه فسر الإيمان بما يثبت به المنزلة بين المنزلتين ... وهي منزلة الفاسق بين منزلة المؤمن ومنزلة الكافر فينفي الإيمان عن سليم العقيدة ما دام أنه قد أخل بواجب العمل وهو محجوج من أهل السنة بأن هذا التفسير لا يوافق اللغة ولا الشرع أما اللغة فلأن معنى الإيمان التصديق لا غير وكذا الشرع بدليل عطف العمل عليه والعطف يقتضي المغايرة بين المتعاطفين. 2 - ويقول في تفسير قوله سبحانه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ما نصه وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله اهـ وهذا منه إيماء ورمز إلى أن الرزق الحلال من الله وأن الرزق الحرام من العبد. ويرد عليه أهل السنة بقوله سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فالله هو الخالق الرازق لا غيره سواء أكان الرزق حلالا أم حراما. 3 - في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الخ ما نصه: فإن قلت لم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح والله تعالى منزه عن فعل القبيح بدليل: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} . {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الخ ما قال: ثم أول إسناد الختم إلى الله بأن الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 استعارة أو مجاز على معنى أن الشيطان هو الخاتم أو الكافر وأسند إلى الله تعالى لأنه هو الذي أقدره ومكنه وهذا المذهب يلزمه في نظر أهل السنة أمور كلها باطلة: منها مخالفة الدليل العقلي القائم على وحدانية الله تعالى وأنه لا شيء من الكائنات إلا وهو أثر من آثار القادر لا غيره. ومنها مخالفة الدليل النقلي كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . ومنها القول بأن هذه الأشياء نفذ فيها مراد الشيطان أو الكافر بخلاف مراد الله وهذا أشنع ما يقال. ومنها قياس الغائب على الشاهد إذ جعلوا المنع من قبول الحق قبيحا من الله قياسا على قبحه منا. ومنها الجهل بحقيقة الظلم وحقيقته أنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه ولا ملك إلا الله {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فلا ظلم في فعله تعالى على أي وجه كان. ومنها أن ما تمسكوا به من أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها عليهم ولما عاقبهم بها ولما قامت له حجة عليهم كل ذلك مبني على قاعدتهم الخاطئة من التحسين والتقبيح العقليين وعلى قياسهم الغائب على الشاهد كما سبق وكلا هذين لا يسلم لهم ثم يرد عليهم بالمثل فيقال لهم يقبح من الشاهد أن يمكن غيره من فعل شيء ثم يعاقبه عليه فكذلك الغائب وأنتم تقولون إن القدرة التي يخلق بها العبد فعله في زعمكم هي مخلوقة لله تعالى مع علمه بما سيفعله العبد بها ولا يخفى أن ذلك بمثابة إعطاء سيف لمن يبغي به على الناس وذلك قبيح في الشاهد فهو قبيح في الغائب وما تجيبون به عن هذه نجيبكم به عن تلك فالجواب هو الجواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 4 - ويقول في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ما نصه: ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدي رضوان الله والنعيم المخلد اهـ وأنت ترى أن في ذلك تعريضا بإنكار رؤية الله إذ يصرح بأن النجاة والرضوان والنعيم لا غاية للفوز وراءها مع أنه لم يذكر الرؤية وقد صرح بإنكارها في سورة الأنعام إذ قال في تفسير قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ما نصه البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر به تدرك المبصرات فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال عن أن يكون مبصرا في ذاته إذ الأبصار إنما يتعلق بما كان في جهة أصالة أو تبعا وذلك كالأجسام والهيئات اهـ. ويرد عليه أهل السنة أولا بأن الإدراك المنفي عبارة عن الإحاطة ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي أحاط به وقوله سبحانه حكاية عن قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي محاط بنا فالمنفي إذن عن الأبصار إحاطتها به عز وجل لا مجرد الرؤية ومن المعلوم أنه تعالى لا تحيط به الأفهام وهذا لا يمنع أن تعرفه فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للبصر وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للبصر ثابت غير منفي. ثانيا أن الزمخشري لم يذكر على إحاطة الرؤية عقلا دليلا ولا شبه دليل سوى أنه يكون المرئي لا في جهة وهذا نعارضه بالمثل فنقول يلزمكم استبعاد أن يكون الموجود لا في جهة إذ الاتباع للوهم ببعدهما جميعا والانقياد للعقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معا. وحسبنا هذا فحبل النقاش بين أهل السنة والمعتزلة طويل وميدان الأخذ والرد بينهما علم الكلام فارجع إليه إن شئت المزيد عصمني الله وإياك من الزلل ووفقنا للقصد في الاعتقاد والعمل آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن: مؤلفه هو القاضي عبد الجبار بن أحمد بن الخليل وكنيته أبو الحسن البغدادي برع في علم الكلام وفاق أهل زمانه ووضع كتبا جليلة وإليه انتهت رياسة المعتزلة ومشيختها فصاروا يأخذون برأيه ويعتمدون على كتبه إلى أن توفى سنة 415 خمس عشرة وأربعمائة وله مصنفات كثيرة من أهمها كتابه هذا تنزيه القرآن عن المطاعن. وهو مرتب على مسائل تتضمن سؤالا وجوابه ولم تكن همته تفسير القرآن بل كان كل همه موجها نحو تأييد مذهبه لذلك تراه لم يفسر جميع القرآن بل يذكر من السورة الآية التي يستطيع أن يؤولها على مقتضى عقيدته ويؤيد بها مذهب المعتزلة على نمط ما فعل الزمخشري في الأمثلة التي بين يديك وهذا الكتاب يحتوي كثيرا من الفوائد على رغم تعصبه المذهبي وعدم عنايته بالتفسير كما يجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ق - تفاسير الباطنية الباطنية قوم رفضوا الأخذ بظاهر القرآن وقالوا للقرآن ظاهر وباطن والمراد منه باطنه دون ظاهره ويستدلون بقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهم فرق متعددة على المثال الآتي: 1 – القرامطة: نسبة إلى حمدان قرمط إحدى قرى واسط وهو الذي تزعمهم فيما ذهبوا إليه. 2 – الإسماعيلية: نسبة إلى إسماعيل أكبر أولاد جعفر الصادق وذلك لأنهم كانوا يعتقدون الإمامة فيه وقيل إنهم سموا إسماعيلية لانتسابهم إلى محمد بن إسماعيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 3 – السبعية: نسبة إلى عدد السبعة ذلك لأنهم يعتقدون أن في كل سبعة إماما يقتدى به. 4 - الحرمية نسبة إلى الحرمة وذلك لأنهم يستبيحون الحرمات. 5 - البابكية نسبة إلى زعيمهم بابك الخرمي الذي خرج بأذربيجان. 6 - المحمرة سموا بذلك للبسهم الحمرة. ومذهب الباطنية على عمومه وباء انتقل إليهم بطريق العدوى من المجوس ومن تأويلاتهم الفاسدة في القرآن أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} إن الإمام عليا ورث النبي في علمه. ويقولون معنى الجنابة أنها مبادرة المستجيب بإفشاء السر قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى الطهارة التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام ومعنى التيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي الإمام ومعنى الصيام الإمساك عن كشف السر. ويقولون إن الكعبة هي النبي صلى الله عليه وسلم والباب علي والصفا هو النبي صلى الله عليه وسلم والمروة علي ونار إبراهيم هي غصب النمروذ عليه وعصا موسى هي حجته إلى غير ذلك من الخرافات التي لا يقبلها عقل ولا يؤيدها نقل. وهذه التأويلات الفاسدة من أشد وأنكى ما يصاب به الإسلام والمسلمون لأنها تؤدي إلى نقص بناء الشريعة حجرا حجرا وإلى الخروج من ربقة الإسلام وحل عراه عروة عروة ولأنها تجعل القرآن والسنة فوضى فاحشة يقال فيهما ما شاء الهوى أن يقال كأنهما لغو من الكلام أو كلأ مباح للبهائم والأنعام وأخيرا ينفرط عقد المسلمين ويكون بأسهم بينهم من جراء هذا العبث بتلك الضوابط الدينية الكبرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 والحوافظ الأدبية العظمى وما دام لكل واحد أن يفهم من القرآن ما شاء له الهوى والشهوة دون اعتصام بالشريعة ولا التزام لقواعد اللغة لم يعد القرآن قرآنا وإنما هما الهوى والشهوة فحسب. لهذا شرطنا في التفسير ما شرطنا وفي مقدمة شروطه التزام قوانين الشريعة والتزام قواعد اللغة العربية أما التزام قوانين الشريعة فلكيلا تتهافت النصوص وتتناقض التعاليم. وأما التزام قواعد اللغة فلأن القرآن نزل بلسان عربي مبين ويقول منزله جل شأنه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقضية عروبته هذه أن يفهم على قوانين لغة العرب وإلا فلا يرجى أن يعقل ما فيه ولا أن يفهم ما يحويه وذلك معنى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} بعد قوله: {عَرَبِيّاً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ر - تفاسير الشيعة الشيعة طائفة كبيرة بالغت في حبها للإمام علي وتقديرها إياه والمبالغة والإسراف حتى في الفضائل يعود بما إلى الرذائل. ولهذا يقول علماء الأخلاق الفضيلة وسط بين رذيلتين ويقولون إذا خرج الشيء عن حده عاد إلى ضده. ومن هنا أمر الإسلام بالاعتدال حتى في حب النبي صلى الله عليه وسلم وتقديره. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ولكن الشيعة بالغوا وأسرفوا في حب الإمام وتقديره وهم فرق فمنهم من أغرق في نفس التشيع حتى كفر وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن سبأ اليهودي عدو الله الذي ما أظهر الإسلام إلا بقصد الكيد له والإفساد فيه ولهذا كانت تلك الفرقة في موقف خصومة وحرب من المسلمين حتى ورد أن الإمام عليا نفسه شن الغارة عليهم وحاربهم وطاردهم. ومنهم قوم معتدلون لم يسقطوا في هاوية الكفر وإن خالفوا أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وتقديمهم على الإمام علي في الخلافة رضي الله عنهم أجمعين ولهؤلاء مذاهب ودراسات وكتب وتفسيرات وأدلة وتأويلات. ومن تفاسير الشيعة كتاب يسمى: مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار. مؤلفه يدعى المولى عبد اللطيف الكازلاني من النجف وهذا التفسير مشتمل على تأويلات تشبه تأويلات الباطنية السابقة فالأرض يفسرها بالدين وبالأئمة عليهم السلام وبالشيعة وبالقلوب التي هي محل العلم وقراره وبأخبار الأمم الماضية الخ فيقول في قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} المراد دين الله وكتاب الله ويقول في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} المراد أو لم ينظروا في القرآن الخ فأنت ترى أنه قد حمل اللفظ الذي لا يجهله أحد على معان غريبة من غير دليل وما حمله على ذلك إلا مركب الهوى والتعصب الأعمى لمذهبه وذلك لا شك ضلال لا يقل عن ضلال الباطنية ولا البهائية. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 ش - التفسير الإشاري هو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر والمراد أيضا. وقد اختلف العلماء في التفسير المذكور فمنهم من أجازه ومنهم من منعه وإليك شيئا من أقوال العلماء لتعرف وجه الحق في ذلك: قال الزركشي في البرهان كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل إنه ليس بتفسير وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة كقول بعضهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} إن المراد النفس يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه. وقال ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر قال ابن الصلاح وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا من ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس. وقال النسفي في عقائده النصوص على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل البطل إلحاد اهـ قال التفتازاني في شرحه سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 بالكلية قال وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان. ومن هنا يعلم الفرق بين تفسير الصوفية المسمى بالتفسير الإشاري وبين تفسير الباطنية الملاحدة فالصوفية لا يمنعون إرادة الظاهر بل يحضون عليه ويقولون لا بد منه أولا إذ من ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم الظاهر كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن يجاوز الباب. وأما الباطنية فإنهم يقولون: إن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن وقصدهم نفي الشريعة. ونقل السيوطي في الإتقان عن ابن عطاء الله في لطائف المنن ما نصه اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان ولهم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه وقد جاء في الحديث لكل آية ظهر وبطن فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا لا معنى للآية إلا هذا وهم يقولون ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله ما ألهمهم اهـ. ملحوظة: لعل من المناسب هنا أن نسوق إليك عبارة عن السيوطي في بيان معنى ظهر الآية وبطنها وحد الحرف ومطلع الحد قال نور الله ضريحة فإن قلت فقد قال الفريابي حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع قلت أما الظهر والبطن ففي معناه أوجه: أحدها أنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها. الثاني أنه ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعلمون بها كما قال ابن مسعود. الثالث أن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها. الرابع قال أبو عبيدة وهو أشبهها بالصواب إن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين وحديث حدث به عن قوم وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم فيحل بهم مثل ما حل بهم. وحكى ابن النقيب قولا خامسا أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق. ومعنى قوله ولكل حرف حد أي منتهى فيما أراد الله من معناه وقيل لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب. ومعنى قوله ولكل حد مطلع لكل غاية من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ويوقف على المراد به وقيل كل ما يستحق من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة وقال بعضهم الظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد أحكام الحلال والحرام والمطلع الإشراف على الوعد والوعيد. قلت يؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء اهـ غير أن الوجه الأول الذي نقله السيوطي في معنى الظهر والبطن ليس بواضح وإذا التمسنا له بعض الاحتمالات تشابه أو اتحد بما بعده من الأقوال والقول الخامس متحد كذلك مع الثالث أو قريب منه فتأمل. شروط قبول التفسير الإشاري: مما تقدم يعلم أن التفسير الإشاري لا يكون مقبولا إلا بشروط خمسة وهي: ألا يتنافى وما يظهر من معنى النظم الكريم. ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر. ألا يكون تأويلا بعيدا سخيفا كتفسير بعضهم قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بجعل كلمة {لَمَعَ} ماضيا وكلمة {الْمُحْسِنِينَ} مفعوله. ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي. أن يكون له شاهد شرعي يؤيده. كذلك اشترطوا بيد أن هذه الشروط متداخلة فيمكن الاستغناء بالأول عن الثالث وبالخامس عن الرابع ويحسن ملاحظة شرطين بدلهما أحدهما بيان المعنى الموضوع له اللفظ الكريم أولا ثانيهما ألا يكون من وراء هذا التفسير الإشاري تشويش على المفسر له وسيأتيك في نصيحتي وفي كلام الغزالي ما يقرر هذين الشرطين. ثم إن هذه شروط لقبوله بمعنى عدم رفضه فحسب وليست شروطا لوجوب اتباعه والأخذ به ذلك لأنه لا يتنافى وظاهر القرآن ثم إن له شاهدا يعضده من الشرع وكل ما كان كذلك لا يرفض وإنما لم يجب الأخذ به لأن النظم الكريم لم يوضع للدلالة عليه بل هو من قبيل الإلهامات التي تلوح لأصحابها غير منضبطة بلغة ولا مقيدة بقوانين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أهم كتب التفسير الإشاري وأهم كتب التفسير الإشاري أربعة تفسير النيسابوري وتفسير الألوسي وتفسير التستري وتفسير محيي الدين بن عربي. 1 - أما تفسير النيسابوري فقد تقدم الكلام عليه وبقي أن نذكر لك عنه أنه بعد أن يوفي الكلام على ظاهر معنى الآية أو الآيات يقول قال أهل الإشارة أو يقول التأويل ثم يسوق المعنى الإشاري لتلك الآية أو الآيات تحت هذا العنوان مثال ذلك أنه قال بعد التفسير الظاهر لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآيات قال ما نصه التأويل ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا. اقتلوني يا ثقاتي ... إن في قتلي حياتي وحياتي في مماتي ... ومماتي في حياتي مت بالإرادة تحي بالطبيعة وقال بعضهم مت بالطبيعة تحي بالحقيقة ما هي إنها بقرة نفس تصلح للذبح بسيف الصدق {لا فَارِضٌ} في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل الصوفي بعد الأربعين بارد {وَلا بِكْرٌ} في سن شرخ الشباب يستهويه سكره عوان بين ذلك لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} . {بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضات {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيما الصالحين {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} ولا يسقى حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق {مُسَلَّمَةٌ} من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} بمقتضى الطبيعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 لولا فضل الله وحسن توفيقه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} يعني القلب {فَادَّارَأْتُمْ} فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أم من النفس {الأمارة فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} ضرب لسان البقرة المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله وقال {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} . {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} مراتب القلب في القسوة مختلفة فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها لغليان أنوار الروح بترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرف العادات كما يكون لبعض الرهبان والهنود والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية. وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدون في قربهم وقلوبهم ودرجاتهم ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم والمسلمون مختصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه. فإراءة الآيات للخواص {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} . {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما جاء في حق يوسف {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} . سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال واردات ترد على القلوب فتعجز القلوب عن تكذيبها والله أعلم اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 مثال ثان قال النيسابوري أيضا بعد تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ما نصه التأويل مساجد الله التي يذكر فيها اسمه عند أهل النظر النفس والقلب والروح والسر والخفي وهو سر السر وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة وذكر مسجد الروح بالشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات وذكر مسجد الخفي وهو سر السر بذل الوجود وترك الموجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات الخ ما قال 2 - وأما تفسير الألوسي فاسمه روح المعاني ومؤلفه العلامة المحقق شهاب الدين السيد محمد الألوسي البغدادي مفتي بغداد المتوفي سنة 1270 سبعين ومائتين وألف وهذا التفسير من أجل التفاسير وأوسعها وأجمعها نظم فيه روايات السلف بجانب آراء الخلف المقبولة وألف فيه بين ما يفهم بطريق العبارة وما يفهم بطريق الإشارة رحمه الله وتجاوز عنه. ومما قاله في التفسير الإشاري بعد أن فسر قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إلى آخر الآيات بعدها قال ما نصه: ومن مقام الإشارة في الآيات وإذا قلتم يا موسى القلب لن نؤمن الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان فأخذتكم صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي وأنتم تراقبون أو تشاهدون ثم بعثناكم بالحياة الحقيقة والبقاء بعد الفناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز وجل وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات لكونها حجبت شمس الذات الخ ما قال. مثال ثان قال بعد تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} خذوا ما ءاتينكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قال ما نصه. وإذ أخذنا ميثاقكم المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال والصفات ورفعنا فوقكم طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها أو أشار سبحانه بالطور إلى موسى القلب وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله بإمهاله وحكمه بإفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة. إلى الله يدعى بالبراهين من أبى ... فإن لم يجب بادته بيض الصوارم فهذه الإشارة إنما يعرفها ذو الوجد والمشاهدة وهي لأصحابها رياض يانعة وأنوار لامعة اهـ. 3 - تفسير التستري هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري المتوفي سنة 383 ثلاث وثمانين وثلثمائة وتفسيره هذا لم يستوعب كل الآيات وإن استوعب السور وقد سلك في مسلك الصوفية مع موافقته لأهل الظاهر وإليك نموذجا منه إذ يقول في تفسير البسملة ما نصه: الباء بهاء الله عز وجل والسين سناء الله عز وجل والميم مجد الله عز وجل والله هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها وبين الألف واللام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 منه حرف مكنى غيب إلى غيب وسر من سر إلى سر وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة لا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان. والرحمن اسم فيه خاصة من الحرف المكنى بين الألف واللام والرحيم هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع والابتداء في الأصل رحمة لسابق علمه القديم قال أبو بكر أي بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الرحمن الرحيم اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر فنفى الله بهما القنوط عن المؤمنين من عباده اهـ. ومن تفسيره بما هو قريب من المعنى الظاهر قوله في تفسير الآية الكريمة. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الخ ما نصه: أفكان شاكا في إيمانه حتى سأل ربه أن يريه آية معجزة ليصح معها إيمانه فقال سهل لم يكن سؤاله ذلك عن شك وإنما كان طالبا زيادة اليقين يقينا في قدرة الله وتمكينا في خلقه ألا تراه كيف قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} فلو كان شاكا لم يجب ببلى ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ببلى وستر الشك لكشف الله ذلك إذ كان مثله مما لا يخفى اهـ. وهذا الكتاب صغير الحجم غير أنه غزير المادة في موضوعه مشتمل على كثير من علاج الشبهات ودفع الإشكالات يقع في نحو من 314 أربع عشرة وثلاثمائة صفحة وهو مطبوع بمصر. 4 - تفسير ابن عربي هو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله محيي الدين بن عربي الحاتمي الصوفي الفقيه المحدث ولد بمرسية سنة 560 ستين وخمسمائة وتوفي في دمشق سنة 638 ثمان وثلاثين وستمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ومن مصنفاته كتاب الجمع والتفصيل في إبداء معاني التنزيل ومنها إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن وقد طبع تفسيره في جزأين بالمطبعة الأميرية سنة 1287 سبع وثمانين ومائتين بعد الالف وقد قال في خطبته ما نصه: قد تذكرت خبرا قد أتاني فازدهاني مما وراء المقاصد والأماني قول النبي الأمي الصادق عليه أفضل الصلوات من كل صامت وناطق: "ما من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع" وفهمت منه أن الظهر هو التفسير والبطن هو التأويل والحد ما يتناهى إليه المفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام. وقد نقل عن الإمام المحقق السابق جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: لقد تجلى الله تعالى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون. وروى عنه عليه السلام أنه خر مغشيا عليه وهو في الصلاة فسئل عن ذلك فقال: "ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها". قال: فرأيت أن أعلق بعض ما يسنح لي في الأوقات من أسرار حقائق البطون وأنوار شوارق الكائنات دون ما يتعلق بالظواهر والحدود فإنها قد عين لها حد محدود وقد قيل من فسر القرآن برأيه فقد كفر وأما التأويل فلا يبقى ولا يذر فإنه باختلاف أحوال المستمع وأوقاته في مراتب سلوكه وتفاوت درجاته كلما ترقى عن مقام انفتح له باب فهم جديد واطلع به على لطيف معنى عتيد إلى أن قال وكل ما لا يقبل التأويل عندي أو لا يحتاج إليه فما أوردته أصلا الخ اهـ. ومن تفسيره الإشاري لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ما نصه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هي النفس الحيوانية وذبحها قمع هواها الذي هو حياتها ومنبعها من الأفعال الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة وقال في تفسير آية {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} إلى قوله: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} من سورة الأنبياء قال ما نصه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي سخرنا لسليمان العقل العملي والمتمكن على عرش النفس في الصدر ريح الهوى {عَاصِفَةً} في هبوبها {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} مطيعة له {إِلَى الْأَرْضِ} أرض البدن المتدرب بالطاعة والأدب {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بتمييز الأخلاق والملكات الفاضلة والأعمال الصالحة {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ} من أسباب الكمال {عَالِمِينَ} {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ} شياطين الوهم والتخييل {مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} في بحر الهيولي الجثمانية ويستخرجون درر المعاني الجزئية {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} من التركيب والتفصيل والمصنوعات وتهييج الدواعي المكسوبات وأمثالها {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} عن الزيغ والخطأ والتسويل الباطل والكذب {وَأَيُّوبَ} النفس المطمئنة الممتحنة بأنواع البلاء في الرياضة البالغة كمال الزكاء في المجاهدة {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} ند شدة الك رب في الجد وبلوغ الطاقة والوسع في الجهد {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} من الضعف والانكسار والعجز {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} بالتوسعة والروح {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} بروح الأحوال عن كد الأعمال عند كمال الطمأنينة ونزول السكينة {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} من ضر الرياضة بنور الهداية ونفسنا عنه ظلمة الكرب بإشراق نور القلب {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} القوى النفسية التي ملكناها وأمتناها بالرياضة بإحيائها بالحياة الحقيقة {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} من إمداد القوى الروحانية وأنوار الصفات القلبية ووفرنا عليهم أسباب الفضائل الخلقية وأحوال العلوم النافعة الجزئية {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ت - نصيحة خالصة بيد أن هذا التفسير كما ترى جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان المعاني الوضعية للنصوص القرآنية وهنا الخطر كل الخطر فإنه يخاف على مطالعه أن يفهم أن هذه المعاني الإشارية هي مراد الخالق إلى خلقه في الهداية إلى تعاليم الإسلام والإرشاد إلى حقائق هذا الدين الذي ارتضاه لهم. ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأدهى من ذاك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله إتصالا أسقط عنهم التكليف وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب وهذا لعمر الله هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام كما يهدموا التشريع من أصوله ويأتوا بنيانه من قواعده {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذرهم الوقوع في هذه الشباك ونشير عليهم أن ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية ولا يعولوا على أشباهها مما ورد في كلام القوم بالكتب الصوفية لأنها كلها أذواق ومواجيد خارجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 عن حدود الضبط والتقليد وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل وإذا تجردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل وإذا ظهر فقد يكون من الكفريات الفاحشة التي نستبعد صدورها من العلماء والمتصوفة بل من صادقي عامة المسلمين والتي نرى الطعن فيها بالدس والوضع أقرب وأسلم من الطعن فيمن عزيت إليه بالكفر والفسق. فالأحرى بالفطن العاقل أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق وأن يفر بدينه من هذه الشبهات وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات. {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} ؟!. قال صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". وقال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وبالله تعالى توفيقي وتوفيقك نسأله تعالى أن يخرجنا من ظلمات الأوهام وأن يحققنا بحقائق الدين وتعاليم الإسلام آمين كلمة لحجة الإسلام الغزالي: وأختم نصيحتي هذه بكلمة قيمة تتصل بموضوعنا اتصالا ماسا وهي مدبجة ببراعة الإمام الغزالي حين عرض في كتابة الإحياء للذكر والتذكير وما أدخله الناس فيهما فقال بلل الله ثراه: وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثهما بعض الصوفية: أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغنى عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون قيل لنا كذا وقلنا كذا ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ويستشهدون بقوله: أنا الحق وربما حكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: سبحاني سبحاني! وهذا فن من الكلام عظيم ضرره على العوام حتى لقد ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوي فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا هذا إنكار مصدره العلم والجدل والعلم حجاب والجدل عمل النفس وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه فعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه كما لو سمع وهو يقول إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية. الصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل وتلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان أو يحمل على أن يفهم منها معان ما أريدت ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 فتنة عليهم1" وقال صلى الله عليه وسلم: "كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله2" وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع فكيف فيما لا يفهمه قائله فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحل ذكره وقال: عيسى عليه السلام لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء وفي لفظ آخر من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل ومن منعها أهلها فقد ظلم إن للحكمة حقا وإن لها أهلا فأعط كل ذي حق حقه. وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضا حرام وضرره عظيم فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها من غير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة له وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم كما حكيناه من مذاهبهم في كتاب المستظهري المصنف في الرد على الباطنية.   1 هذا الحديث رواه مسلم في مقدمة صحيحة, موقوفا على ابن مسعود. ورواه العقيلي في الضعفاء. 2 هذا الحديث رواه البخاري موقوفا على علي ورفعه أبو منصور الدليمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} إنه إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان وفي قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي كل ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة"1 أراد به الاستغفار في الأسحار وأمثال ذلك حتى ليحرفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعا كتنزيل فرعون على القلب فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى له كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار وليس من جنس الشياطين والملائكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه وكذلك حمل السحور على الاستغفار فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتناول الطعام ويقول: "تسحروا2" "وهلموا إلى الغذاء المبارك"3 فهذه أمور يدرك بالتواتر والحس بطلانها نقلا وبعضها يعلم بغالب الظن وذلك في أمور لا يتعلق بها الإحساس فكل ذلك حرام وضلالة وإفساد للدين على الخلق ولم ينقل شيء من ذلك عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الحسن البصري مع إكبابه على دعوة الخلق ووعظهم فلا يظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" 4 معنى إلا هذا   1 هذ الحديث رواه البخاري زمسلم. 2 هذا الحديث رواه البخاري. 3 هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث العباش بن ساؤية. زضعفه ابن القطان. 4 روه البخاري ومسلم وقيل بتواتره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 النمط وهو أن يكون غرضه ورأيه تقرير أمر وتحقيقه فيستجر شهادة القرآن إليه ويحمله عليه من غير أن يشهد لتنزيله عليه دلالة لفظية لغوية أو نقلية. ولا ينبغي أن يفهم منه أنه يجب ألا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر فإن من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة والمفسرين خمسة معان وستة وسبعة وعلم أن جميعها غير مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم فإنها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع فيكون ذلك مستنبطا بحسن الفهم وطول الفكر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ ويزعم أنه يقصد بها دعوة الخلق إلى الخالق يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع على رسول صلى الله عليه وسلم لما هو في نفسه حق ولكن لم ينطق به. كمن يضع في كل مسألة يراها حقا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فذلك ظلم وضلال ودخول في الوعيد المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم لأنه مبطل للثقة بالألفاظ وقاطع طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية فقد عرفت كيف صرف الشيطان دواعي الخلق عن القوانين المحمودة إلى المذمومة فكل ذلك من تلبيس علماء السوء بتبديل الأسامي فإن اتبعت هؤلاء اعتمادا على الاسم المشهور من غير التفات إلى ما عرف في العصر الأول كنت كمن طلب شرف الحكمة باتباع من يسمى حكيما فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم في هذا العصر وذلك بالغفلة عن تبديل الألفاظ. ثم قال اللفظ الخامس أي من الألفاظ التي وقع فيها التلبيس لفظ الحكمة فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم حتى على الذي يدحرج القرعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 على أكف السوادية في شوارع الطرق والحكمة هي التي أثنى الله عز وجل عليها فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وقال صلى الله عليه وسلم: "كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا وما فيها1" فانظر ما الذي كانت الحكمة عبارة عنه؟ وإلى ماذا نقل وقس به من بقية الألفاظ واحترز عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء فإن شرهم على الدين أعظم من شر الشياطين إذ الشياطين بواسطتهم يتدرج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شر الخلق أبى وقال: "اللهم غفرا2" حتى كرروا عليه فقال: "هم علماء السوء". فقد عرفت العلم المحمود والعلم المذموم ومثار الالتباس وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف فكل ما ارتضاه السلف من العلم قد اندرس وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع ومحدث وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" فقيل يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: "الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذي يحيون ما أماتوه من سنتي3" وفي خبر آخر: "هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم4" وفي حديث آخر: "الغرباء ناس قليل صالحون بين ناس كثير من يبغضهم في الخلق أكثر ممن يحبهم5".   1 هذ الحديث روى ابن المبارك في الزهد والرقائق مرسلا, وفي مسند الفردوس بسند ضعيف. 2 هذا الحديث رواه البزار في مسنده بسند ضعيف. 3 هذا الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا. وهو بتمامه عند الترمذي من حديث عمرو بن عوف وحسنه. 4 هذا الحديث يقول الحافظ العراقي في تخريجه: لم أر له أصلا. 5 هذا الحديث رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذكراها ولذلك قال الثوري رحمه الله: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط لأنه إن نطق بالحق أبغضوه انتهى كلام الإمام الغزالي ضاعف الله أجره وأحسن ذخره ووهبنا السلامة والعافية بمنه وكرمه آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 ت - تفاسير أهل الكلام كل إنسان تغلب عليه نزعته في كتابته وتلوح عقيدته من خلال تأليفه وتحديثه كما قلنا وذلك هو الشأن في علماء الكلام حين تصدوا لتفسير كتاب الله فالسني لاحت على تفسيره أنوار أهل السنة والمعتزلي فاحت من جوانب بيانه روائح الاعتزال والشيعي هبت من نواحي تأويله ريح التشيع وهكذا. بيد أن الفرق بينهم كبير في التعصب أو القصد وفي الإيجاز أو البسط. وقد مضى بك الحديث في تفاسير المعتزلة والشيعة ورأيت كيف كان الزمخشري في اعتزاله مقتصدا مستخفيا وكيف كان القاضي عبد الجبار متعصبا مستعلنا وكيف كان المولى عبد اللطيف متشيعا مسرفا. وكذلك تجد في أهل السنة أنفسهم من هو قاصد في تأييد عقيدته بتفسيره كأولئك الذين ترجمناهم وترجمنا تفاسيرهم من قبل عند الكلام على أشهر كتب التفسير بالرأي المحمود. ومن أهل السنة من استبسل في الدفاع عن عقيدتهم في تفسيره وعلى رأس هؤلاء الإمام فخر الدين الرازي الذي شنها حربا شعواء في كل مناسبة على أهل الزيغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 والانحراف في العقيدة وقد سلك في تفسيره مفاتيح الغيب المشهور بتفسير الفخر مسلك الحكماء الإلهيين فصاغ أدلته في مباحث الإلهيات على نمط استدلالاتهم العقلية ولكن مع تهذيبها بما يوافق أصول أهل السنة وكذلك تعرض لشبههم بالنقض والتفنيد في كثير من المواضع. كما أنه سلك طريقة الطبيعيين في الكونيات فتكلم في الأفلاك والأبراج وفي السماء والأرض وفي الحيوان والنبات وفي أجزاء الإنسان وغير ذلك مما جر إليه الاستدلال على وجود الله جل جلاله غفر الله له وشكر صنيعه والله خير الشاكرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 خ - مزج العلوم الأدبية والكونية وغيرها بالتفسير وسبب ذلك وأثره القرآن كتاب هداية وإعجاز وهدايته وإعجازه يصورهما المفسر ويشرحهما في تفسيره على قدر ما فيه من استعداد ومقدرة وعلى قدر ما عند الناس من علوم ومعارف وأفكار. ولقد مرت على القرآن الكريم منذ نزوله إلى الآن عصور وقرون وأمم وأجيال والقرآن كما كان وكما سيبقى كتاب ينشر نور الهداية ويرفع لواء الإعجاز وكان الذين شوفهوا به لأول مرة عربا اكتملت فيهم خصائص العروبة وإن كانوا مع ذلك أميين لا إلمام لهم بالقراءة والكتابة ولا شأن لهم بعلوم تدرس ولا بكتب تقرأ. لهذا وذاك كان فهمهم لهداية هذا الكتاب وإعجازه وتصويرهم لهما بالتفسير والبيان من الأمور الهينة السهلة الجارية على الفطرة والبساطة لا يحتاجون في ذلك إلى اصطلاحات فنية ولا إلى قواعد نحوية وبلاغية ولا إلى نظريات علمية. أما إعجازه فكان معروفا لهم بمحض السليقة العربية السليمة والذوق البلاغي الرقيق وأما هدايته فكانوا يفهمونها كذلك بعقولهم الصافية وذكائهم الموهوب ولغتهم العربية الفصحى التي نزل بها القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وإذا استعانوا فبالنظر في كتاب الكون وآيات الله في الآفاق وبما خلق الله فيهم وحولهم من عجائب السماوات والأرض ثم بما يسمعون من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم. مضى الأمر على ذلك مدة ثم جاء نصر الله والفتح ووطأت الأرض أكنافها للمسلمين وأظلت راية الإسلام أمما وشعوبا لم تكن تعرف العربية ولكنها كانت على ثقافة في العلوم والفنون والفلسفة وقد اختلطت هذه الأمم المفتوحة بتلك الأمم الفاتحة فكان من نتائج هذا الاتصال مع امتداد الزمان أمران. أحدهما أن فسدت اللغة العربية وأصبح الجميع بحاجة إلى ضوابط تضبطها وتضمن سلامتها وتعصم الناس من الخطأ في فهم الكتاب والسنة فنشأت بسبب ذلك العلوم الأدبية أو علوم اللغة العربية. ثانيهما أن ترجمت علوم هذه الأمم الداخلة في الإسلام وهذبت ونقحت وذاعت ثقافتها بين المسلمين على اختلاف أجناسهم فكان من مقتضيات الحكمة التوفيق بينها وبين القرآن من ناحية وفهم القرآن في ضوئها من ناحية أخرى وإنما كان ذلك من مقتضيات الحكمة لأن الإسلام ليس عدوا للعلم كما يزعم الأفاكون بل هو صديق العلم وحليفه إن لم نقل كأنه هو!. بهذه الأسباب بدأت العلوم الأدبية والعلوم الكونية تتدخل في تفسير القرآن وتمتزج به على اعتبار أن هدايته وإعجازه لا يفهمان فهما صحيحا كاملا بالنسبة إليهم إلا عن طريق هذه العلوم والمعارف. أما علوم اللغة والأدب فلأن بها يعرف ضبط الكلمات أبنيتها وهيئاتها وأواخرها ومدلولات الألفاظ على اختلاف أنواعها والإحاطة بمعاني التراكيب والتمييز بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 العالي والنازل من الأساليب ولا ريب أن إدراك معاني القرآن وذوق بلاغته وإعجازه لا يتأتي لغير العرب الخلص إلا عن هذا الطريق. وأما العلوم الكونية فلأن الله تعالى دعا الناس كثيرا أن ينظروا في هذا الكون وحضهم بقوة أن يقرؤوا صحيفة هذا الوجود ليصلوا من الكون إلى مكونه وليستدلوا بالوجود على موجده ولينتفعوا أبلغ انتفاع بتلك القوى العظيمة التي خلقها لأجلهم وسخرها لنفعهم قال تعالى في سورة الجاثية: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . فلا عجب إذا فهموا تلك الألفاظ الكونية التي في القرآن على النحو الذي هداهم إليه العلم والثقافة التي تثقفوها في علوم الكون. ومعلوم أن المفسر لا يفسر لنفسه إنما يفسر للناس فكان من الواجب أن يساير أفكارهم ويشرح ألفاظ القرآن في الظواهر الطبيعية والعلمية وسنن الله الكونية وقوانين الاجتماع والسياسة وقواعد الاقتصاد والأخلاق وسائر التشريعات الشخصية والمدنية والجنائية والحربية, نقول يجب على المفسر أن يشرح ألفاظ القرآن في ذلك كله وفيما يشبهه بالطريقة العلمية المألوفة لهم وبالأفكار الغالبة عليهم الملائمة لأذواقهم وإلا فما بلغ رسالته ولا أدى أمانته وكيف يخاطب العالم بغير ما يفهمون ويدخل إليهم من غير الباب الذي يدخلون. هذه هي الأسباب التي جعلت التفسير يمتزج بالعلوم الأدبية والكونية وغيرها وجعلت العلوم الأدبية والكونية تحتل مكانها في كتب التفسير وإن كان هذا الامتزاج يختلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 ضعفا وقوة وقلة وكثرة وتوفيقا وخذلانا باختلاف مواهب المفسرين واستعداد الجمهور وتقدم الزمان وتأخره في هذه العلوم. فتفاسير الزجاج وأبي حبان وأضرابهما مليئة بالمباحث النحوية وتفاسير الزمخشري وأبي السعود وأشباههما مليئة بالمباحث البلاغية وتفسير الخازن ومن لف لفه مليء بالأخبار والقصص وتفسير الجواهر للعلامة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري مليء بالعلوم الكونية وهو تفسير حديث يشتمل كما قال صاحبه على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات يقع في خمسة وعشرين مجلدا وقد تم طبعه بمصر عام 1352 اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة رحم الله مؤلفه وجزاه خيرا. آثار هذا الامتزاج: أما آثار امتزاج العلوم الأدبية بالتفسير فيمكن تلخيصها فيما يأتي: 1 - بيان معاني القرآن وهداياته. 2 - إظهار فصاحة القرآن وبلاغته. 3 - الدلالة على وجوه إعجاز القرآن من ناحية الأسلوب والبيان. وأما آثار امتزاج العلوم الكونية بالتفسير فيمكن تلخيصها فيما يلي: 1 - مسايرة أفكار الناس ومعارفهم وتفسير القرآن لهم تفسيرا يشبع حاجتهم من الثقافة الكونية. 2 - إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية ما يحويه أو يرمز إليه من علوم الكون والاجتماع. 3 - دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين العلم والدين. 4 - استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق العلمي الذي يخضعون له دون سواه في هذه الأيام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 5 - الحث على الانتفاع بقوى الكون ومواهبه. 6 - امتلاء النفس إيمانا بعظمة الله وقدرته حينما يقف الإنسان في تفسير كلام الله على خواص الأشياء ودقائق المخلوقات حسب ما تصورها علوم الكون. هذا وإن لامتزاج العلوم الكونية والأدبية بالتفسير آثارا أخرى مشتركة بينهما نجملها فيما يأتي: 1 - زيادة الثقة بالقرآن وعروبته ومعارفه وإعجازه. 2 - والإيمان بأنه كتاب غني بكل ما يحتاج إليه البشر من ألوان السعادة. 3 - والإيمان بأنه كتاب الساعة ودستور الناس إلى يوم القيامة يصلح لكل زمان ومكان ولا يستغني عن كنوزه وذخائره إنسان. شروط لا بد منها: تلك الآثار الجليلة التي ألمعنا إليها لا تتحقق جلالتها إلا إذا روعيت فيها الأمور الآتية: 1 - ألا تطغى تلك المباحث عن المقصود الأول من القرآن وهو الهداية والإعجاز أما إن أسرف المفسر واشتغل بتفريعات العلوم الأدبية ونظريات الفنون الكونية فقد انعكست الآية ولم يعد التفسير تفسيرا بل يكون أشبه بكتب العلوم والفنون منه بكتب التفسير كما قال بعض العلماء الظرفاء يصف تفسيرا مشهورا بالاستطراد والتطويل والضرب في كثير من العلوم قال لقد حوى هذا التفسير كل شيء إلا التفسير. 2 - أن يلاحظ في امتزاج التفسير بتلك العلوم ما يلائم العصر ويوائم الوسط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 لأن تلك الأبحاث الكونية والأدبية قد تكون ضرورية ومفيدة أيما فائدة إذا شرح بها القرآن في عصر من عصور الثقافة أو لجمهور من المفتونين بالمادة وعلوم الكون أو لطائفة من المتأدبين المشغوفين بفنون البلاغة في القول بينما تكون هذه الأبحاث نفسها نكبة وفتنة إذا شرح بها القرآن في عصر من عصور الجهالة أو لفئة أخرى من فئات الناس وما من أحد يخاطب قوما بغير ما تسعه عقولهم إلا كان فتنة عليهم. 3 - أن تذكر تلك الأبحاث على وجه يدفع المسلمين إلى النهضة ويلفتهم إلى جلال القرآن ويحركهم إلى الانتفاع بقوى هذا الكون العظيم الذي سخره الله لنا انتفاعا بعيد لأمة الإسلام نهضتها ومجدها. وهاك نموذجا على سبيل التمثيل وإن أسرف في هذا السبيل إسرافا أنساه نفس التفسير والتأويل. قال العلامة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه القرآن والعلوم العصرية ما نصه: قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} عبر الله تعالى بكاف الخطاب ست مرات فجعل الماء لنا وتسخير الشمس والقمر لنا وتسخير الليل والنهار لنا وقد آتانا من كل ما سألناه في ضمائرنا وما تمنته نفوسنا. فهل هذا الخطاب استثنى منه المسلمون فهل جعل الله الثمرات في الأرض خاصة بغير المسلمين أم الخطاب عام وهل الفلك التي تجري في البحر ما بين آسيا وإفريقيا وأوروبة في المحيط الهندي والهادي والبحر الأحمر وبحر الظلمات بين أوروبة وأمريكا هل هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 السفن خاصة بالإفرنج وكيف نام المسلمون عن علوم التجارة فأصبحت بأيدي غيرهم من الفرنجة وأهل أمريكا وهم صفر اليدين فالسفن التي تمخر عباب الأنهار والبحار في سائر أنحاء كرتنا الأرضية بيد الفرنجة وهم هم الذي يدرسون علوم المعادن والكهرباء والبخار والتلغراف البرق الذي له سلك والبرق الذي بلا سلك أليس من العار عليكم أيها المسلمون أن تكونوا 350 مليونا1 ولا سفن لكم في البحار كما لغيركم وقد خاطبكم الله تعالى فقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} على قواعد علمية بعد معرفة صناعة الحديد لبنائها والخشب لتكميلها والبخار لتسييرها والكهرباء والمغناطيس لمعرفة الأخبار فيها وقراءة علم الفلك والكواكب السيارة والثابتة للاهتداء بها في طرق البحار ودرس علوم البحار وطرقها ومناطقها وما فيها من مسالك حتى لا تضل السفن سواء السبيل فتغرق ويهلك ما فيها وبعد دراسة علوم السحب والرياح والعواصف حتى يلبس الربان لكل حال لبوسها وينهج النهج الذي ينجي السفينة ثم قال {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} ولا جرم أن الأنهار تسقي الزروع ولها في جريانها قوة تستخرج منها الكهرباء فتغني عن الفحم والبترول والمسلمون في بقاع الأرض غافلون عن أنهارهم وتكاد تصبح بيد غيرهم {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} والليل والشمس والقمر لها حساب دقيق لا يهتدى إليه إلا بعلم الحساب والهندسة والجبر ثم الفلك فلا تطلع الشمس ولا تغرب ولا يشرق النجم ولا يغرب ولا يطلع سيار ولا يأفل إلا بمواعيد موقوتة لا تنقص ثانية بل كل ذلك بمقدار ولو حرم البشر ذلك يوما واحدا لاختل أمر حياتهم فها هي سفن البحار وقطرات اليابسة كلها تسير بحساب الشمس والكواكب ولو أغفل الناس بعض ذلك لاختلت مواعيدهم,   1 جاء في بعض الصادر الموثوق بها أن عدد المسلمين يزيد الآن كثيرا على أربعمائة مليون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 ولتصادمت قطراتهم ولمات كثير منهم ويعرف ذلك كل من اطلع على طرف من علم الفلك في هذه الأيام انتهى ما أردنا نقله بقليل من التصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 كلمة ختامية لا تحسبن أن ما نوهنا به في هذا الحديث قد أحاط بما كتب من تفاسير القرآن ولا تحسبن أن ما كتب من جميع التفاسير قد أحاط بكل ما أودعه الله القرآن من أحكام وحكم ومعارف وأسرار بل إن ما ذكرناه هنا من التفسير قل من كثر ثم إن ما حوته تلك الموسوعات التفسيرية على كثرتها لم تأخذ من القرآن إلا كما يأخذ المخيط إذا أدخل البحر ويروقني ما قاله بعض الأعلام حين سئل ما خير تفسير للقرآن فأجاب الدهر يعني أن العلوم والمعارف والأفكار والحوادث والتجارب التي تجد في الزمن عوامل مهمة في شرح القرآن وكل حقبة من سلسلة هذه الأزمان الطويلة تكشف عن بعض مخبوءات أسراره التي لم تكن معروفة من قبل. وإن كنت في شك فهاك دور الكتب ومكتبات العالم فإنها لا تزال على كثرة ما ضاع واندثر زاخرة بأمواج كالجبال من التفاسير مما لا يمكن أن يحيط به إلا العليم الخبير وإنه ليعييك استقصاء أسمائها فضلا عن استقراء مسمياتها وإنك لتجد فيها فنونا وألوانا وشؤونا مما فتح الله على العلماء في بيان كتابه منها تفاسير بالمأثور وتفاسير بالرأي ومنها تفاسير ظواهر العبارة وتفاسير غوامض الإشارة ومنها تفاسير يغلب عليها صنعة الكلام وأخرى يغلب عليها صنعة البلاغة وثالثة يغلب عليها النحو والإعراب ورابعة يغلب عليها تفاريع الأحكام وخامسة يغلب عليها علوم الكون إلى غير ذلك ومنها تفاسير كل القرآن وتفاسير جزء منه أو سورة أو آية. ولقد اطلعت وأنا قصير الباع قليل الاطلاع على فهارس تفاسير خاصة بكل مما يأتي وقد يكون مع ذلك تنوع التأليف وتعدد المؤلفين في الشيء الواحد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 منها تفاسير لجزء عم ولجزء تبارك ولسورة الفاتحة ولسورة يوسف ولسورة الرعد ولسورة الكهف ولسورة يس ولسورة الحجرات ولسورة الحديد ولسورة القدر ولسورة الفيل ولسورة التكاثر ولسورة الكوثر ولسورة الإخلاص وحدها ولسورة الإخلاص مع المعوذتين. ومنها تفاسير للبسملة ولآية الكرسي ولأول سورة الأنبياء ولأول سورة الفتح ولحروف المعجم في فواتح السور ولآية {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} ولآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} . ولآية {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ولآية {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ولآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} ولآية {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ولآية {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ولآية {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} ولآية {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} ولآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} ولآية {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ولآية {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ولآية {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} ولآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} ولآية {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} ولآية {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} بغير ما قاله المفسرون من قبل وهو تفسير للعلامة الجليل الشيخ يوسف الدجوي وإن تعجب فهناك رسالة في معنى حرف الواو أو وجه ثبوت الواو في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} من أواخر سورة الزمر. أرأيت ذلك وأضعاف ذلك إنه قبس من نور القرآن وشعاع من شمس الحقيقة الكبرى وبصيص من تجليات هدايات الله لبعض عباده!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 أما النور كله والهدى كله فذلك سر من أسرار الربوبية وكنز من كنوز الألوهية وشتان ما بين علم الخالق وعلم الخلق وأين كمال السيد من نقص العبد؟!. نهاية القول: ونهاية القول أن هذا فن جديد أيضا من فنون إعجاز القرآن حيث أقام الله كتابه آيات بينات للناس في معارفه ومعانيه كما أقامه آيات بينات لهم في ألفاظه ومبانيه!. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} . {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} اللهم أتمم علينا نعمتك ولا تحرمنا هدايتك واسلكنا بالقرآن في سلك المهديين الهادين وارفعنا به إلى أعلى عليين آمين آمين. و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا} , والصلاة والسلام على أشرف الخلق ومبعوث الحق سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا مدخل ... المبحث الثالث عشر: في ترجمة القرآن وحكمها تفصيلا أهمية هذا المبحث. نوجه الأذهان في فاتحة هذا المبحث إلى أهميته وخطره من نواح ثلاث: أولاها دقته وغموضه إلى حد جعل علماءنا يختلفون فيه قديما وحديثا وجعل مصرنا العزيزة منذ أعوام ميدانا لتطاحن الأفكار والآراء فيه منعا وتجويزا. ثانيها أن كثيرا من الناس قاموا في زعمهم بنقل القرآن إلى لغات كثيرة وترجمات متعددة بلغت بإحصاء بعض الباحثين مائة وعشرين ترجمة في خمس وثلاثين لغة ما بين شرقية وغربية وتكرر طبع هذه الترجمات حتى إن ترجمة واحدة هي ترجمة جورج سيل الانجليزي طبعت أربعا وثلاثين مرة. وأوفر هذه الترجمات وأكثرها طبعا هي الترجمات الانكليزية فالفرنسية فالألمانية فالإيطالية وهناك خمس ترجمات في كل من اللغتين الفارسية والتركية وأربع ترجمات باللغة الصينية وثلاث باللاتينية واثنتان بالأفغانية وواحدة بالجاوية وأخرى بالأوردية. ومن هؤلاء الذين ترجموه من يحمل للإسلام عداوة ظاهرة ومنهم من يحمل حبا له ولكنه جاهل به وعدو عاقل خير من صديق جاهل. ثالثتها وقوع أغلاط فاحشة في هذه التي سموها ترجمات وكان وجودها معولا هداما لبناء مجد الإسلام ومحاولة سيئة لزلزلة الوحدة الدينية واللغوية والاجتماعية لأمتنا الإسلامية صانها الله. أمام هذه الوقائع القائمة والحقائق الماثلة والمحاولات الخطيرة ما كان ينبغي لنا أن نقف مكتوفي الأيدي مكممي الأفواه كأن الأمر لا يعنينا في قليل ولا كثير على حين أن الذي وضع منهم فكرة هذه الترجمات وتولي كبر هذه المؤامرة رجل من رجال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 دينهم ومطران من مطارنتهم يدعى يعقوب بن الصليبي إذ خيل إلى قومه أنه ترجم آيات جمة من القرآن باللسان السرياني في القرن الثاني عشر الميلادي ثم نشرت خلاصتها في هذا القرن سنة 1925 خمس وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية نقلا عن نسخة مخطوطة بالمتحف البريطاني بلندن مشفوعة بترجمة إنكليزية لها وتابع هذا المطران أحبار ورهبان كانوا أسبق من غيرهم في هذا الميدان. وأنت خبير بما يريدون والله أعلم بما يبيتون. راجع في ذلك محاضرات الفيكنت دي طرازي1 ثم انظر ما كتبه العلامة أبو عبد الله الزنجاني في كتابه تاريخ القرآن إذ يقول: ربما كانت أول ترجمة إلى اللغة اللاتينية لغة العلم في أوربا وذلك سنة 1143 بقلم كنت الذي استعان في عمله ببطرس الطليطلي وعالم ثان عربي فيكون القرآن قد دخل أوربا عن طريق الأندلس وكان الغرض من ترجمته عرضه على دي كلوني بقصد الرد عليه ونجد فيما بعد أن القرآن ترجم ونشر باللاتينية 1509 ولكن لم يسمح للقراء أن يقتنوه ويتداولوه لأن طبعته لم تكن مصحوبة بالردود وفي عام 1594 أصدر هنكلمان ترجمته وجاءت على الأثر 1598 طبعة مراتشي مصحوبة بالردود انتهى ما أردنا نقله أفلا ترى معي أنه يجب علينا بإزاء ذلك أن ندلي برأي سديد في هذا الأمر الجلل لنعلم ما يراد بنا وبقرآننا ولننظر إلى أي طريق نحن مسوقون عسى أن يدفعنا هذا التحري والتثبت إلىاتخاذ إجراء حازم نتصف فيه للحق من الباطل ونؤدي به رسالتنا في نشر هداية الإسلام والقرآن على بصيرة ونور. ثم ألا ترى معي أنه يجب علينا بإزاء ذلك أيضا أن نتجرد في هذا البحث عن العصبية   1 هي محاضرات ظفرت بها عليننا في نسخة مخطوطة تحت عنوان "القرآن: محاضرات علمية تاريخية" ألقاها سنة 1941م الفيكنت فليب طرازي مؤسس دار الكتب في بيروت. والعضو في عدة مجامع علمية شرقية وغربية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 والغايات الشخصية فنمسه مسا رفيقا هادئا وندرسه دراسة واسعة منظمة ونلتزم فيه أدب البحث وإنصاف الباحث ونجعل الله وحده غايتنا فيما نحاول ونعالج؟ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ولنبدأ الكلام ببيان معنى الترجمة لغة وعرفا ثم بتقسيمها إلى حرفية وتفسيرية ثم ببيان الفرق بين الترجمة والتفسير فإن تحديد معاني الألفاظ وتحقيق المراد منها مجهود مهم ومفيد لا سيما ما كان من الأبحاث الخلافية كهذا البحث الذي نعانيه فلقد هدانا الاستقراء إلى أن تحديد معاني الأمور الخلافية أو تحرير محل النزاع بعبارة فنية أزهرية كثيرا ما قرب بين وجهات النظر المختلفة وطالما أظهر أن خلاف المختلفين كان لفظيا لا حقيقيا لأن النفي والإثبات بينهم لم يتواردا على أمر واحد بل إن ما أثبته بعضهم لم يخالف أحد في إثباته بالمعنى الذي أراده وما نفاه البعض الآخر لم يخالف أحد في نفيه بالمعنى الذي أراده كذلك ورجع الأمر أخيرا إلى مجرد اختلاف في العبارات لاختلاف في الاعتبارات ولو أنهم اتفقوا بادئ ذي بدء على هذه الاعتبارات لما اختلفت العبارات ولما حدث خلاف ألبتة. إذن فإننا نستميح قارئنا الكريم عذرا إذا أطنبنا في توضيح المعنى المراد الذي يدور عليه الكلام في هذا الموضوع وإذا استطردنا ببيان ما اشتبه به وكان سببا في النزاع فنذكر أن لفظ ترجمة يطلق على معان متعددة بعضها لغوي وبعضها عرفي عام. الترجمة في اللغة: وضعت كلمة ترجمة في اللغة العربية لتدل على أحد معان أربعة: أولها تبليغ الكلام لمن لم يبلغه ومنه قول الشاعر: إن الثمانين - وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ثانيها تفسير الكلام بلغته التي جاء بها ومنه قيل في ابن عباس إنه ترجمان القرآن ولعل الزمخشري في كتابه أساس البلاغة يقصد هذا المعنى إذ يقول: كل ما ترجم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 عن حال شيء فهو تفسرته. ثالثها تفسير الكلام بلغة غير لغته وجاء في لسان العرب وفي القاموس أن الترجمان هو المفسر للكلام وقال شارح القاموس ما نصه وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر قاله الجوهري اهـ. وجاء في تفسير ابن كثير والبغوي أن كلمة ترجمة تستعمل في لغة العرب بمعنى التبيين مطلقا سواء اتحدت اللغة أم اختلفت. رابعها نقل الكلام من لغة إلى أخرى قال في لسان العرب الترجمان بالضم والفتح1 هو الذي يترجم الكلام أي ينقله من لغة إلى أخرى والجمع تراجم2 اهـ وشارح القاموس بعد أن أورد المعنى السابق في ترجمه وترجم عنه قال وقيل نقله من لغة إلى أخرى اهـ. ولكون هذه المعاني الأربعة فيها بيان جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة فقيل ترجم لهذا الباب بكذا أي عنون له وترجم لفلان أي بين تاريخه وترجم حياته أي بين ما كان فيها وترجمة هذا الباب كذا أي بيان المقصود منه وهلم جرا. الترجمة في العرف: نريد بالعرف هنا عرف التخاطب العام لا عرف طائفة خاصة ولا أمة معينة جاء هذا العرف الذي تواضع عليه الناس جميعا فخص الترجمة بالمعنى الرابع اللغوي في إطلاقات اللغة السابقة وهو نقل الكلام من لغة إلى أخرى ومعنى نقل الكلام من لغة إلى أخرى التعبير عن معناه بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده كأنك نقلت الكلام نفسه من لغته الأولى إلى اللغة الثانية.   1 عبارة القاموس تدل على أنه يضبط بضم التاء والجيم وبفتحهما, وبفتح التاء وضم الجيم. 2 وهذا خلاف ماذاع على الألسنة من استعمال تراجم جمعا لترجمة. فاحفظ ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وهذا هو السر في تعبيرهم بنقل الكلام مع العلم بأن الكلام نفسه لا ينقل من لغته بحال ويمكننا أن نعرف الترجمة في هذا العرف العام بعبارة مبسوطة فنقول هي التعبير من معنى كلام في لغة بكلام آخر في لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده فكلمة التعبير جنس وما بعده من القيود فصل وقولنا عن معنى كلام يخرج به التعبير عن المعنى القائم بالنفس حين يخرج في صورة اللفظ أول مرة وقولنا بكلام آخر يخرج به التعبير عن المعنى بالكلام الأول نفسه ولو تكرر ألف مرة. وقولنا من لغة أخرى يخرج به التفسير بلغة الأصل ويخرج به أيضا التعبير بمرادف مكان مرادفة أو بكلام بدل آخر مساو له على وجه لا تفسير فيه واللغة واحدة في الجميع. قولنا مع الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده يخرج به تفسير الكلام بلغة غير لغته فإن التفسير لا يشترط فيه الوفاء بكل معاني الأصل المفسر ومقاصده بل يكفي فيه البيان ولو من وجه وسنوافيك قريبا بتفصيل ذلك. تفسير الترجمة: وتنقسم الترجمة بهذا المعنى العرفي إلى قسمين حرفية وتفسيرية فالترجمة الحرفية هي التي تراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه وبعض الناس يسمي هذه الترجمة لفظية وبعضهم يسميها مساوية. والترجمة التفسيرية هي التي لا تراعى فيها تلك المحاكاة أي محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه بل المهم فيها حسن تصوير المعاني والأغراض كاملة ولهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية وسميت تفسيرية لأن حسن تصوير المعاني والأغراض فيها جعلها تشبه التفسير وما هي بتفسير كما يتبين لك بعد. فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة في الأصل فيفهمها ثم يستبدل بها كلمة تساويها في اللغة الأخرى مع وضعها موضعها وإحلالها محلها وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 من الأصل بسبب اختلاف اللغتين في مواقع استعمال الكلام في المعاني المرادة إلفا واستحسانا. أما المترجم ترجمة تفسيرية فإنه يعمد إلى المعنى الذي يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ثم يصبه في قالب يؤديه من اللغة الأخرى موافقا لمراد صاحب الأصل من غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد ولا استبدال غيره به في موضعه. ولنضرب مثالا للترجمة بنوعيها على فرض إمكانها في آية من الكتاب الكريم قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فإنك إذا أردت ترجمتها ترجمة حرفية أتيت بكلام من لغة الترجمة يدل على النهي عن ربط اليد في العنق وعن مدها غاية المد مع رعاية ترتيب الأصل ونظامه بأن تأتي بأداة النهي أولا يليها الفعل المنهي عنه متصلا بمفعوله ومضمرا فيه فاعله وهكذا ولكن هذا التعبير الجديد قد يخرج في أسلوب غير معروف ولا مألوف في تفهيم المترجم لهم ما يرمي إليه الأصل من النهي عن التقتير والتبذير بل قد يستنكر المترجم لهم هذا الوضع الذي صيغ به هذا النهي ويقولون ما باله ينهى عن ربط اليد بالعنق وعن مدها غاية المد وقد يلصقون هذا العيب بالأصل ظلما وما العيب إلا فيما يزعمونه ترجمة للقرآن من هذا النوع. أما إذا أردت ترجمة هذا النظم الكريم ترجمة تفسيرية فإنك بعد أن تفهم المراد وهو النهي عن التقتير والتبذير في أبشع صورة منفرة منها تعمد إلى هذه الترجمة فتأتي منها بعبارة تدل على هذا النهي المراد في أسلوب يترك في نفس المترجم لهم أكبر الأثر في استبشاع التقتير والتبذير ولا عليك من عدم رعاية الأصل في نظمه وترتيبه اللفظي. وإنما قلنا عند عرض هذا المثال على فرض إمكانها لما ستعرفه بعد من استحالة الترجمة بهذا المعنى العرفي في القرآن الكريم والمثال لا يشترط صحته كما هو معلوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 ما لا بد منه في الترجمة مطلقا: لا بد لتحقيق معنى الترجمة مطلقا حرفية كانت أو تفسيرية من أمور أربعة: أولها معرفة المترجم لأوضاع اللغتين لغة الأصل ولغة الترجمة!. ثانيها معرفته لأساليبهما وخصائصهما. ثالثها وفاء الترجمة بجميع معاني الأصل ومقاصده على وجه مطمئن. رابعها أن تكون صيغة الترجمة مستقلة عن الأصل بحيث يمكن أن يستغني بها عنه أن تحل محله كأنه لا أصل هناك ولا فرع وسيأتي بيان ذلك في الفروق بين الترجمة والتفسير. ما لا بد منه في الترجمة الحرفية: ثم إن الترجمة الحرفية تتوقف بعد هذه الأربعة على أمرين آخرين: أحدهما وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية للمفردات التي تألف منها الأصل: حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيره من الأصل كما هو ملحوظ في معنى الترجمة الحرفية. ثانيهما تشابه اللغتين في الضمائر المستترة والروابط التي تربط المفردات لتأليف التراكيب سواء في هذا التشابه ذوات الروابط وأمكنتها وإنما اشترطنا هذا التشابه لأن محاكاة هذه الترجمة لأصلها في ترتيبه تقتضيه ثم إن هذين الشرطين عسيران وثانيهما أعسر من الأول فهيهات أن تجد في لغة الترجمة مفردات مساوية لجميع مفردات الأصل ثم هيهات هيهات أن تظفر بالتشابه بين اللغتين المنقول منها والمنقول إليها في الضمائر المستترة وفي دوام الروابط بين المفردات لتأليف المركبات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 ومن أجل هذه العزة والندرة قال بعضهم إن الترجمة الحرفية مستحيلة وقال آخرون إنها ممكنة في بعض الكلام دون بعض ولقد علمت أنها بعد هذه الصعوبات يكتنفها الغموض وخفاء المعنى المقصود كما مر في المثال السابق أما الترجمة التفسيرية فميسورة فيما لا يعجز عنه البشر والمعاني المرادة من الأصل واضحة فيها غالبا ولهذا اعتمدوا عليها في الترجمات الزمنية وفضلها التراجم والمشتغلون بالترجمات على قسيمتها الترجمة الحرفية. فروق بين الترجمة والتفسير: ومهما تكن الترجمة حرفية أو تفسيرية فإنها غير التفسير مطلقا سواء أكان تفسيرا بلغة الأصل أم تفسيرا بغير لغة الأصل وقد أشرنا إلى ذلك إجمالا في شرح تعريف الترجمة آنفا ولكن كثيرا من الكاتبين اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن الترجمة التفسيرية هي التفسير بغير لغة الأصل أو هي ترجمة تفسير الأصل. ثم رتبوا على ذلك أن خلعوا حكمها على ترجمة الأصل نفسه وكان لهذا اللبس والاشتباه مدخل في النزاع والخلاف لهذا نستبيح لأنفسنا أن نقف هنا وقفة طويلة نرسم فيها فروقا أربعة لا فرقا واحدا بين هذين المشتبهين في نظرهم. الفارق الأول أن صيغة الترجمة صيغة استقلالية يراعى فيها الاستغناء بها عن أصلها وحلولها محله ولا كذلك التفسير فإنه قائم أبدا على الارتباط بأصله بأن يؤتى مثلا بالمفرد أو المركب ثم يشرح هذا المفرد أو المركب شرحا متصلا به اتصالا يشبه اتصال المبتدأ بخبره إن لم يكن إياه ثم ينتقل إلى جزء آخر مفرد أو جمله وهكذا من بداية التفسير إلى نهايته بحيث لا يمكن تجريد التفسير وقطع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وشائج اتصاله بأصله مطلقا ولو جرد لتفكك الكلام وصار لغوا أو أشبه باللغو فلا يؤدي معنى سليما فضلا عن أن يحل في جملته وتفصيله محل أصله. الفارق الثاني أن الترجمة لا يجوز فيها الاستطراد أما التفسير فيجوز بل قد يجب فيه الاستطراد وذلك لأن الترجمة مفروض فيها أنها صورة مطابقة لأصلها حاكية له فمن الأمانة أن تساويه بدقة من زيادة ولا نقص حتى لو كان في الأصل خطأ لوجب أن يكون الخطأ عينه في الترجمة بخلاف التفسير فإن المفروض فيه أنه بيان لأصله وتوضيح له وقد يقتضي هذا البيان والإيضاح أن يذهب المفسر مذاهب شتى في الاستطراد توجيها لشرحه أو تنويرا لمن يفسر لهم على مقدار حاجتهم إلى استطراده ويظهر ذلك في شرح الألفاظ اللغوية خصوصا إذا أريد بها غير ما وضعت له وفي المواضع التي يتوقف فهمها أو الاقتناع بها على ذكر مصطلحات أو سوق أدلة أو بيان حكمة. وهذا هو السر في أن أكثر تفاسير القرآن الكريم تشتمل على استطرادات متنوعة في علوم اللغة وفي العقائد وفي الفقه وأصوله وفي أسباب النزول وفي الناسخ والمنسوخ وفي العلوم الكونية والاجتماعية وغير ذلك. ومن ألوان هذا الاستطراد تنبيهه على خطأ الأصل إذا أخطأ كما نلاحظ ذلك في شروح الكتب العلمية ويستحيل أن تجد مثل هذا في الترجمة وإلا كان خروجا عن واجب الأمانة والدقة فيها. الفارق الثالث أن الترجمة تتضمن عرفا دعوى الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده ولا كذلك التفسير فإنه قائم على كمال الإيضاح كما قلنا سواء أكان هذا الإيضاح بطريق إجمالي أو تفصيلي متناولا كافة المعاني والمقاصد أو مقتصرا على بعضها دون بعض طوعا للظروف التي يخضع لها المفسر ومن يفسر لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 والدليل على هذا الفارق هو حكم العرف العام الذي نتحدث الآن بلسانه وإليك مثلا من أمثاله. رجل عثر في مخلفات أبيه على صحيفتين مخطوطتين بلغة أجنبية وهو غير عالم بهذا اللسان الأجنبي فدفعهما إلى خبير باللغات يستفسره عنهما وإذا الخبير يجيبه قائلا إن الصحيفة الأولى خطاب تافه من معوز أجنبي يستجدي أباك فيه ويستعينه أما الثانية فوثيقة بدين كبير لأبيك على أجنبي هناك مزق الرجل خطاب الاستجداء ولم يحفل به أما الوثيقة فاعتد بها وطلب من هذا المتمكن في اللغات أن يترجمها له ليقاضي المدين أمام محكمة لغتها لغة الترجمة. أليس معنى هذا أن التفسير لم يكفه بدليل أنه طلب الترجمة من المترجم علما بأنها هي التي تفي بكل ما تضمنته تلك الوثيقة وبكل ما يقصد منها فلا تضعف له بها حجة ولا يضيع عليه حق؟. ثم ألست ترى في هذا المثال أيضا أن العرف يحكم بأن التفسير لا يشترط أن يعرض لجميع التفاصيل بل يكفي فيه بيان المضمون على حين أنه يرى الترجمة صورة مطابقة لأصلها وافية بكافة معانيه ومقاصده؟. الفارق الرابع أن الترجمة تتضمن عرفا دعوى الاطمئنان إلى أن جميع المعاني والمقاصد التي نقلها المترجم هي مدلول كلام الأصل وأنها مرادة لصاحب الأصل منه ولا كذلك التفسير بل المفسر تارة يدعي الاطمئنان وذلك إذا توافرت لديه أدلته وتارة لا يدعيه وذلك عندما نعوزه تلك الأدلة ثم هو طورا يصرح بالاحتمال ويذكر وجوها محتملة مرجحا بعضها على بعض وطورا يسكت عن التصريح أو عن الترجيح وقد يبلغ به الأمر أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو جملة ويقول رب الكلام أعلم بمراده على نحو ما نحفظه لكثير من المفسرين إذا عرضوا لمتشابهات القرآن ولفواتح السور المعروفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ودليلنا على أن الترجمة تتضمن دعوى الاطمئنان إلى ما حوت معان ومقاصد هو شهادة العرف العام أيضا بذلك وجريان عمل الناس جميعا في الترجمات على هذا الاعتبار فهم يحلونها محل أصولها إذا شاؤوا ويستغنون بها عن تلك الأصول بل قد ينسون هذه الأصول جملة ويغيب عنهم أن الترجمات ترجمات فيحذفون لفظ ترجمة من الاسم ويطلقون عليها اسم الأصل نفسه كأنما الترجمة أصل أو كأنه لا أصل هناك ولا فرع. وإن كنت في ريب فاسأل ما بين أيدينا من ترجمات عربية لطائفة من كتبهم التي يقدسونها ويطلقون على بعضها اسم توراة وعلى بعضها اسم إنجيل وما هما بالتوارة ولا بالإنجيل إنما هما ترجمتان عربيتان لأصلين عبريين1 باعترافهم ولكنهم أسقطوا وأسقط العرف العام معهم لفظ ترجمة من العنوانين الاثنين وما ذاك إلا لما وقر في النفوس من أن الترجمة صورة مطابقة للأصل مطمئنة إلى أنها تؤدي جميع مؤداه لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية وقل مثل ذلك فيما نعرفه من ترجمات للقوانين والوثائق الدولية والشخصية ومن ترجمات للكتب العلمية والفنية والأدبية وهي كثيرة غنية عن التنويه والتمثيل. يقال كل هذا في الترجمات ولا يمكن أن يقال مثله في التفسير فإننا ما سمعنا ولا سمع الدهر أن كلمة تفسير أسقطت من عنوان كتاب من كتبه بل المعروف عكس ذلك فكثيرا ما يسقط في الاستعمال اسم الأصل المفسر على حين أن لفظ التفسير لا يسقط بحال ويدل على هذا تلك الإطلاقات الشائعة تفسير البيضاوي تفسير النسفي تفسير الجلالين وما أشبهها من تفسيرات القرآن الكريم ألم يكن بهذا سندا على   1 صوبه: غير عربيين وذلك لأن إنجيل مرقس ولوقا ويوحنا أصلها يوناني, أما إنجيل متى فأصله عبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 أن التفسير مراعى فيه أنه بيان لا يمكن أن يقوم مقام المبين ولا أن يدعى فيه الاطمئنان إلى أنه واف بجميع أغراضه ومعانيه. الترجمة والتفسير الإجمالي بغير لغة الأصل: بيد أن هنا دقيقة نرشدك إليها هي أن التفسير بغير لغة الأصل يشبه الترجمة التفسيرية شبها قريبا إذا كان هذا التفسير إجماليا قائما على اختيار معنى واحد من المعاني المحتملة ولعل هذا التشابه هو الذي أوقع بعضهم في الاشتباه ودعوى الاتحاد بين الترجمة التفسيرية وترجمة التفسير أو التفسير بغير لغة الأصل ولكن النظر الصحيح لا يزال يقضي بوجود الفوارق الأربعة السابقة بين هذين النوعين أيضا فالمفسر يقتضيه واجب البيان ألا يسوق المعنى الإجمالي المختار من بين عدة معان محتملة حتى يوجه هذا الاختيار وهذا التوجيه محقق للاستطراد الزائد على مدلول الأصل ثم إن صنيعه هذا سيشعر القارئ أن للأصل معاني أخرى قد يكون هذا الذي اختير من بينها غير سديد وقد يتوقف المفسر جملة ويعلن عجزه إذا ما أشكل عليه المعنى ورأى أن يلوذ بالصمت هذا محقق لعدم الوفاء بجميع معاني الأصل ولعدم الاطمئنان الذي نوهنا به ثم إن صيغة هذا التفسير لا بد من أن ترتبط بالأصل ولو بالإشارة والتلويح فيقال معنى هذه الآية أو الجملة هو كذا أو يقال معنى الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا وذلك محقق لعدم استقلال الصيغة بخلاف الترجمة في ذلك كله. فإن افترضت أن هذا المفسر سيترك وجه الاختيار وسيقطع الصلة قطعا بين التفسير وأصله أجبناك بأن هذا التصرف في الحقيقة لا تفسير ولا ترجمة بل هو ذبذبة خرج بها الكلام عما يجب في التفسير وفي الترجمة جميعا لأنه لم يشرح ولم يبين حتى يكون مفسرا كما يجب ولم يصور معاني الأصل ومقاصده كلها حتى يكون مترجما كما يجب فإن أدى ذلك إلى الناس بعنوان أنه ترجمة للأصل فإما أن يكون صادرا في هذا الأداء عن قصور أو عن تقصير فإن كان عن قصور فهو العجز والجهالة وإن كان عن تقصير فهو تضليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 للناس وإيهام لهم أن ما أتاه ترجمة وما هو بترجمة وتلك خيانة لهم ولما زعم ترجمته والله لا يهدي كيد الخائنين. تنبيهان مفيدان: أولهما أنه لا فرق بين الترجمة الحرفية والتفسيرية من حيث الحقيقة فكلتاهما تعبير عن معنى كلام في لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده وما الفرق بينهما إلا شكلي وهو أن يحل كل مفرد في الترجمة الحرفية محل مقابله من الأصل بخلاف التفسيرية كما بينا فلا تظن بعد هذا أن كلمة ترجمة تنصرف إلى الحرفية أكثر مما تنصرف إلى التفسيرية كما يظن بعض الناس بل التفسيرية أثبت قدما وأعرق وجودا وأقرب إلى الأذهان عند الإطلاق لأنها هي الميسورة وهي الواضحة وهي التي يتداولها المترجمون والقراء جميعا أما الحرفية فإنها تكاد تكون نظرية بحتة وذلك من تعسرها أو تعذرها ومن غموضها وخفائها أحيانا ومن ندرة إقبال التراجم والقراء عليها كما سبق. ثانيهما أن تفسير الأصل بلغته يساوي تفسيره بغير لغته فيما عدا القشرة اللفظية ألا ترى أنك إذا قرأت درس تفسير للخاصة كاشفا فيه عن معان معينة باللغة العربية ثم قرأت هذا الدرس عينه للعامة كاشفا عن هذه المعاني نفسها ولكن بلغة المخاطبين العامية فهل تشك في مساواة هذا التفسير لذلك في بيان المعاني المعينة التي فهمتها من الأصل وهل تجد بينهما خلافا إلا في لغة التعبير وقشرة اللفظ؟. إذا لاحظنا ذلك أمنا الاشتباه من هذه الناحية وأمكن أن نستغني في بحثنا هذا بذكر المساوي عن ذكر مساويه ثقة بأن ما يقال في أحدهما يقال مثله في الآخر فتنبه إلى ذلك دائما وبالله توفيقي وتوفيقك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الترجمة ليست تعريفا منطقيا: أوجس بعض الباحثين خيفة من أن يظن أحد أن الترجمة من قبيل التعريف اللفظي ولكنا إذا أمعنا النظر رأينا أن الترجمة بالمعنى العرفي الذي قررناه لا يمكن أن تكون تعريفا لفظيا ولا حقيقيا وذلك من وجهين. أحدهما أن التعاريف كلها من قبيل التصورات أما الترجمة فكلام تام وقضايا كاملة وهي بلا شك من قبيل التصديقات. ثانيهما أن صيغة التعريف مرتبطة دائما بالمعرف لأنها قول شارح له والشرح والبيان مرتبط في صيغته بالمشروح والمبين أما الترجمة فقد فرغنا من أن صيغتها مستقلة عن الأصل المترجم لأن الغرض منها أن تقوم به بدلا منه وأن يستغني بها عنه فلا معنى لأن يجتمع فيها البدل والمبدل منه. نعم إن تفسير المفرد بلغة غير لغته يكون من قبيل التعريف الحقيقي إن أفاد حصول صورته في ذهن المفسر له ويكون من قبيل التعريف اللفظي إن أفاد حضور صورته الحاصلة من قبل على نمط قولهم في تعريف الإنسان لمن لا يعرف حقيقته الإنسان حيوان ناطق وقولهم في تعريف البشر لمن يعرف حقيقة الإنسان ولا يعرف دلالة لفظ البشر عليه البشر هو الإنسان ولكننا لسنا هنا بصدد المفردات وتفسيرها فبحثنا في الترجمة لا في التفسير وفي الكلام المفيد لا الكلمات المفردة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 القرآن ومعانيه ومقاصده الآن وقد انتهينا من الكلام على أول المتضايفين في لفظ ترجمة القرآن نقف معك وقفة أخرى بجانب ثاني هذين المتضايفين وهو القرآن نفسه لنستبين المراد به هنا ولنعرف أنواع معانيه ومقاصده تمهيدا للحكم الصحيح عليه بأنه تمكن ترجمته أو لا تمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 المراد بالقرآن هنا: ولقد سبقت كلمتنا في بيان مدلول القرآن وعرض الآراء والمذاهب فيه عرضا واسعا بالمبحث الأول في الجزء الأول من هذا الكتاب فارجع إليه إن شئت. بيد أنا نلفت نظرك إلى أن المراد هنا في مبحث الترجمة هو اللفظ المعجز لا الصفة القديمة صفة الكلام ولا الكلمات النفسية الحكمية ولا النقوش المكتوبة على ما قررناه ثمة وإنما كان المراد بالقرآن خصوص اللفظ المعجز لأن الترجمة أضيفت إليه وبدهي أن الترجمة لا تتناول إلا ما كان لفظا حقيقيا مصورا بصورة الحرف والأصوات ولا تتناول الصفة القديمة ولا الكلمات الحكمية الغيبية ولا النقوش المكتوبة اللهم إلا بضرب من التأويل. معاني القرآن نوعان: وبما أن الترجمة ملحوظ فيها الإحاطة بمعاني الأصل كلها نحيطك علما بأن القرآن الكريم بل أي كلام بليغ لا بد أن يحتوي ضربين من المعاني هما المعاني الأولية والمعاني الثانوية أو المعاني الأصلية والمعاني التابعة فالمعنى الأولي لأي كلام بليغ هو ما يستفاد من هذا الكلام ومن أي صيغة تؤديه سواه ولو بلغة أخرى كمجرد إسناد محكوم به إلى محكوم عليه وسمي معنى أوليا لأنه أول ما يفهم من اللفظ وسمي أصليا لأنه ثابت ثبات الأصول لا يختلف باختلاف المتكلمين ولا المخاطبين ولا لغات التخاطب بل هو مما يستوي فيه العربي والعجمي والحضري والبدوي والذكي والغبي. أما المعنى الثانوي فهو ما يستفاد من الكلام زائدا على معناه الأولي وسمي ثانويا لأنه متأخر في فهمه عن ذلك وسمي تابعا لأنه أشبه بقيد فيه والقيد تابع للمقيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 أو لأنه يتغير بتغير التوابع فيختلف باختلاف أحوال المخاطبين وبإختلاف مقدرة المتكلمين وباختلاف الألسنة واللغات عكس ما تقدم ولنضرب لك أمثالا توضح دقائق هذين النوعين. إذا أردت أن تخبر عن حاتم بالجود قلت جاد حاتم إن كنت تخاطب خالي الذهن من هذا الخبر وقلت حاتم جواد إذا كنت تخاطب شاكا مترددا فيه وقلت إن حاتما جواد إذا كنت تخاطب منكرا غير مسرف في إنكاره وقلت والله إن حاتما لجواد إذا كان مخاطبك مسرفا في الإنكار وقلت حاتم سخي جواد كريم معطاء إذا كان المقام مقام مدح وقلت ما جواد إلا حاتم إذا كان مخاطبك يعتقد العكس وأن غير حاتم هو الجواد وقلت حاتم ممدود السماط أو كان في بني طيء بحر كثير الفيضان إذا كان على شيء من الذكاء وقلت حاتم مهزول الفصيل أو غمر حاتم بإنعامه الأنام إذا كان مخاطبك على جانب عظيم من الذكاء. فأنت ترى أن هذه الأمثلة كلها دارت على معنى واحد إستوت جميعها في أدائه هو نسبة الجود إلى حاتم فذلك هو المعنى الأولي أو الأصلي ثم أنت ترى بعد ذلك أن المعنى الأولي زيدت وعليه خصوصيات مختلفة ومزايا متغايرة هذه الأمثلة ففي المثال الأول تجرد من مؤكدات الحكم لأن المخاطب خالي الذهن وفي الثاني تأكيد باسمية الجملة استحسانا لأن المخاطب شاك وفي الثالث تأكيد بمؤكدين اسمية الجملة وإن لأن المخاطب منكر إنكارا يقتضيهما وفي الرابع تأكيد بمؤكدات أربعة اسمية الجملة وإن واللام والقسم لأن المخاطب مسرف في الإنكار وفي الخامس إطناب لأن المقام للمدح وهو يقتضي الإطناب وفي السادس قصر للجود على حاتم لأن المخاطب يعتقد العكس فقصرت انت قصر قلب لتعكس مراده عليه وفي السابع تجوز في التعبير بكناية قريبة واستعارة تصريحية لأن المخاطب على شيء من الذكاء وفي الثامن تجوز في التعبير بكناية بعيدة واستعارة مكنية لأن المخاطب على جانب عظيم من الذكاء بحيث تكفيه الإشارة الخفية واللمحة القصية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 ثم إن هذه النكات البلاغية والاعتبارات الزائدة يختص بها اللسان العربي كما أن لكل لغة خصائصها. وهذه الاعتبارات مع فصاحة المفردات هي مناط بلاغة الكلام والمتكلم وعلوم البلاغة على سعتها ووفرة مباحثها وحسن بلاء الباحثين فيها لا تكفي وحدها لتصل بدارسها إلى مصاف البلغاء وذوي اللسن والبيان بل غايتها أن يعرف بها أن هذه الحال تقتضي هذا الاعتبار وأن تلك الحال تقتضي ذلك الاعتبار وهكذا أما التطبيق والقدرة على الصياغة البلاغية فشأو بعيد يتوقف على أمور كثيرة منها الإلمام بظروف الكلام وأحوال المخاطبين ومنها الإحاطة بدرجة تلك الأحوال قوة وضعفا ومنها الإتيان بالخصوصيات المناسبة لهذه الأحوال والمقامات ومنها الذوق البلاغي أو الحاسة البيانية التي تكتسب بممارسة كلام البلغاء وأساليبهم وترويض النفس على محاكاتهم وتقليدهم وإلا فكم رأينا من مهرة في علوم اللسان لا يحسنون صناعة الكلام ولا يستطيعون حيلة إلى أقل درجات البيان فضلا عن أن يبرزوا في هذا الميدان. والكلام البليغ يتفاوت تفاوتا بعيد المدى تبعا لدرجة توافر هذه الأمور فيه كلا أو بعضا ولم تعرف الدنيا ولن تعرف كلاما بلغ الطرف الأعلى والنهاية العظمى في الإحاطة بكل الخواص البلاغية سوى القرآن الكريم الذي انقطعت دونه أعناق الفحول من البلغاء في حلبته أنفاس الموهوبين من الفصحاء حتى شهدوا على أنفسهم بالعجز حين شاهدوا روائع الإعجاز ورأوا أن كلامهم وإن علا فهو طبعة الخلق أما القرآن فهو طبعة الخلاق!. {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 مقاصد القرآن الكريم بما أن الترجمة عرفا لا بد أن تتناول مقاصد الأصل جميعا فإنا نقفك على أن تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 في إنزال كتابه العزيز ثلاثة مقاصد رئيسية أن يكون هداية للثقلين وأن يقوم آية لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتعبد الله خلقه بتلاوة هذا الطراز الأعلى من كلامه المقدس. هداية القرآن: وهداية القرآن تمتاز بأنها عامة وتامة وواضحة. أما عمومها فلأنها تنتظم الإنس والجن في كل عصر ومصر وفي كل زمان ومكان قال الله سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقال جلت حكمته: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وقال عز اسمه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقال عمت رحمته: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وأما تمام هذه الهداية فلأنها احتوت أرقى وأوفى ما عرفت البشرية وعرف التاريخ من هدايات الله والناس وانتظمت كل ما يحتاج إليه الخلق في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات على اختلاف أنواعها وجمعت بين مصالح البشر في العاجلة والآجلة ونظمت علاقة الإنسان بربه وبالكون الذين يعيش فيه ووفقت بطريقة حكيمة بين مطالب الروح والجسد اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقال تعالت حكمته: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى غير ذلك من آيات كثيرة. وأما وضوح هذه الهداية فلعرضها عرضا رائعا مؤثرا توافرت فيه كل وسائل الإيضاح وعوامل الإقناع أسلوب فذ معجز في بلاغته وبيانه واستدلال بسيط عميق يستمد بساطته وعمقه من كتاب الكون الناطق وأمثال خلابة تخرج أدق المعقولات في صورة أجلى الملموسات وحكم بالغات تبهر الألباب بمحاسن الإسلام وجلال التشريع وقصص حكيم مختار يقوي الإيمان واليقين ويهذب النفوس والغرائز ويصقل الأفكار والعواطف ويدفع الإنسان دفعا إلى التضحية والنهضة ويصور له مستقبل الأبرار والفجار تصويرا يجعله كأنه حاضر تراه الأبصار في رابعة النهار والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن يخرجنا استعراضها عما نحن بسبيله الآن. والمهم أن نعلم في هذا المقام أن الهدايات القرآنية الكريمة منها ما استفيد من معاني القرآن الأصلية ومنها ما استفيد من معانيه التابعة أما القسم الأول فواضح لا يحتاج إلى تمثيل وهو موضع اتفاق بين الجميع وأما القسم الثاني ففيه دقة جعلت بعض الباحثين يجادل فيه وإنا نوضحه لك بأمثلة نستمدها من فاتحة الكتاب العزيز: منها استفادة أدب الابتداء بالبسملة في كل أمر ذي بال أخذا من ابتداء الله كتابه بها ومن افتتاحه كل سورة من سورة بها عدا سورة التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ومنها: استفادة أن الاستعانة في أي شيء لا تستمد إلا من اسم الله وحده أخذا من إضافة الاسم إلى لفظ الجلالة موصوفا بالرحمن الرحيم ومن القصر المفهوم من البسملة على تقدير عامل الجار والمجرور متأخرا ومن تقدير هذا العامل عاما لا خاصا. ومنها: استفادة الاستدلال على أن الحمد مستحق لله بأمور ثلاثة تربيته تعالى للعوالم كلها ورحمته الواسعة التي ظهرت آثارها وتأصل اتصافه تعالى بها وتصرفه وحده بالجزاء العادل في يوم الجزاء وذلك أخذا من جريان هذه الأوصاف على اسم الجلالة في مقام حمد بقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ومنها: استفادة التوحيد بنوعيه توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية من القصر الماثل في قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ومنها: استفادة دليل هذا التوحيد من الآيات السابقة عليه ووقوعه هو في سياقها عقيبها كما تقع النتيجة عقب مقدماتها. ومنها استفادة أن الهداية إلى الصراط المستقيم هي المطمع الأسمى الذي يجب أن يرمي إليه الناس ويتنافس فيه المتنافسون يدل على ذلك اختيارها والاقتصار على طلبها والدعاء بها ثم انتهاء سورة الفاتحة بها كما تنتهي البدايات بمقاصدها. ومنها: استفادة أن الهداية لا يرجى فيها إلا الله وحده لأنها انتظمت مع آيات التوحيد قبلها في سمط واحد. ومنها: استفادة أدب من الآداب هو أن يقدم الداعي ثناء الله على دعائه استنتاجا من ترتيب هذه الآيات الكريمة حيث تقدم فيها ما يتصل بحمد الله وتمجيده وتوحيده على ما يتصل بدعائه واستهدائه. هذه أمثلة اقتبسناها من سورة الفاتحة ونحن لا نظن أن أحدا يخاصم فيها هاك مثالين مما وقع فيه خلاف العلماء.: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 المثال الأول استفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء في الطهارة أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر في ذكر هذه الأعضاء بآية الوضوء إذ يقول الله سبحانه يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين فأنت ترى أنه تعالت حكمته ذكر الرأس وهو ممسوح بين الأعضاء الأخرى وهي مغسولة وكان مقتضى الظاهر أن تتصل المغسولات بعضها ببعض وتذكر قبل الممسوح أو بعده لأن المغسولات متماثلة والعرب لا تفصل بين المتماثلات إلا لحكمة والحكمة هنا هي إفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء في الطهارة على نمط الترتيب الماثل في هذه الآية. وثمة وجه آخر لاستفادة حكم هذا الترتيب أيضا ذلك أن الآية المذكورة لم تعرض فيها أعضاء الوضوء مرتبة ترتيبا تصاعديا ولا ترتيبا تنازليا فلم يبدأ فيها بالأعالي متبوعة بالأسافل ولا بالأسافل متبوعة بالأعالي بل ذكر فيها عال ثم سافل ثم أعلى ثم أسفل وذلك خلاف مقتضى الظاهر ومثله لا يصدر في لغة العرب إلا لحكمة وما الحكمة هنا فيما نفهم إلا إفادة وجوب الترتيب في الوضوء وبهذا قال الشافعية والحنابلة وإن خالفهم الحنفية والمالكية. المثال الثاني استفادة وجوب مسح ربع الرأس في الوضوء أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر أيضا في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} حيث دخلت باء على الرؤوس وهي الممسوحة مع أن الظاهر كان يقتضي دخولها على آلة المسح وهي راحة اليد ولكن مخالفة هذا الظاهر في كلام عربي بليغ دلتنا على أنه نزل الرأس منزلة آلة المسح إرشادا إلى أن اليد توضع على الرأس وتحرك كأننا مسحنا اليد بالرأس وبهذه الطريقة تنمسح الناصية عادة وهي تقدر بربع الرأس فالواجب إذن هو مسح ربع الرأس وبهذا أخذ الحنفية وإن خالفهم الأئمة الثلاثة رضوان الله عليهم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 ولسنا هنا بصدد مقارنات فقهية أو موازنات مذهبية حتى نناصر رأيا على رأي أو نرجح فهما على فهم فسحبنا في هذا الموضوع بيان دلالة نظم القرآن الكريم باعتبار معانيه الثانوية على هدايات متنوعة من عقائد وأحكام وآداب وأدلة ولطائف وإن اختلف الناس في إدراكها على مقدار اختلاف مواهبهم واستعدادهم لأن هذه المعاني الثانوية دقيقة الطرق لطيفة المسالك ومن شأن الدقائق واللطائف أن يكون مجال التفاوت بين الفاهمين لها بعيدا بخلاف دلالة نظم القرآن الكريم على هداياته باعتبار معانيه الأصلية فإنها واضحة قل أن يقع فيها تفاوت أو خلاف لأن هذه المعاني كما قررنا يستوي فيها العربي والعجمي والحضري والبدوي والذكي والغبي. واعلم أن قرآنية القرآن وامتيازه ترتبط بمعانيه الثانوية وما استفيد منها أكثر مما ترتبط بمعانيه الأصلية وما استفيد منها للاعتبارات الآنفة ولأن المعاني الأصلية ضيقة الدائرة محدودة الأفق أما المعاني الثانوية فبحر زاخر متلاطم الأمواج تتجلى فيها علوم الله وحكمته وعظمته الإلهية وتظهر منها فيوضات الله وإلهاماته العلوية على من وهبهم هذه الفيوضات والإلهامات من عباده المصطفين وورثة كلامه المقربين وأهل الذوق والصفاء من العلماء العاملين جعلنا الله منهم بمنه وكرمه آمين. إعجاز القرآن: المقصد الثاني من نزول القرآن الكريم أن يقوم في فم الدنيا آية شاهدة برسالة سيدنا محمد وأن يبقى على جبهة الدهر معجزة خالدة تنطق بالهدى ودين الحق ظاهرا على الدين كله ووجوه إعجاز القرآن كثيرة نفصلها في مبحثها إن شاء الله بيد أنا ننبهك هنا إلى أن بلاغته العليا وجه بارز من هذه الوجوه بل هي أبرز وجوهه وجودا وأعظمها أفرادا لأن كل مقدار ثلاث آيات قصار معجز ولو كان هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 المقدار من آية واحدة طويلة فقد تحدى الله أئمة البيان أن يأتوا بسورة من مثله وأقصر سورة هي سورة الكوثر وآياتها ثلاث قصار وإذا كان أئمة البيان في عصر ازدهاره والنباغة فيه قد عجزوا فسائر الخلق أشد عجزا ولقد فرغنا من أن بلاغة القرآن منوطة بما اشتمل عليه من الخصوصيات والاعتبارات الزائدة وأنت خبير بأنها سارية فيه سريان الماء في العود الأخضر أو سريان الروح في الجسم وأن نظم القرآن الكريم مصدر لهداياته كلها سواء منها ما كان طريقه هيكل النظم وما كان طريقه تلك الخصوصيات الزائدة عليه وهنا يطالعك العجب العاجب حين تجد دليل صدق الهداية الإسلامية قد آخاها واتحد مطلعهما في سماء القرآن فأداه وأداها!!. التعبد بتلاوة القرآن: المقصد الثالث من نزول القرآن أن يتعبد الله خلقه بتلاوته ويقربهم إليه ويأجرهم على مجرد ترديد لفظه ولو من غير فهمه فإذا ضموا إلى التلاوة فهما زادوا أجرا على أجر قال الله تعالى: {إِِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وروى الحاكم مثله مرفوعا وقال صحيح الإسناد وجاء في حديث آخر عن أنس أنه قال أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن وسنده ضعيف غير أنه يتقوى بغيره ثم إن هذه خصيصة امتاز بها القرآن هي عماد الدين أما غيرها فلا أجر على مجرد تلاوته بل لا بد من التفكر فيه وتدبره حتى الصلاة هي عماد الدين ليس للمرء من ثوابها إلا بمقدار ما عقل منها.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وإنما انفرد القرآن بهذه المزية لحكم وسامية وفوائد ذات شأن: أولها توفير عامل مهم من عوامل المحافظة على القرآن وبقائه مصونا من التغيير والتبديل اللذين أصابا كتب الله من قبل ذلك أن هذا الأجر العظيم الذي وعده الله من يتلو كتابه العزيز ولو غير متفهم لمعانيه من شأنه أن يحبب الناس في قراءة القرآن ويدفعهم إلى الإكثار منها ويحركهم إلى استظهاره وحفظه ولا ريب أن انتشار القراءة والقراء والحفاظ يجعل القرآن كثير الدوران على الألسنة واضح المعالم في جميع الأوساط والطبقات وهنا لا يجرؤ أحد على تغيير شيء فيه وإلا لقي أشد العنت من عارفيه كما حدث لبعض من حاولوا هذا الإجرام من أعداء الإسلام. ثانيها إيجاد وحدة للمسلمين لغوية تعزز وحدتهم الدينية وتيسر وسائل التفاهم والتعاون فيما بينهم فتقوى بذلك صفوفهم وتعظم شوكتهم وتعلو كلمتهم وتلك سياسة إلهية عالية فطن لها الإسلام على يد هذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي في عهد قديم من عهود التاريخ ونجحت هذه السياسة نجاحا باهرا حتى انضوى تحت اللسان العربي أمم كثيرة مختلفة اللغات ونبغ منهم نابغون سبقوا كثيرا من العرب في علوم القرآن وعلوم لغة القرآن بينما أمم كبيرة في هذا العصر الحديث الذي يزعمونه عصر العلم والنور قد حاولت مثل هذه المحاولة بتقرير لسان عام ولغة عالمية مشتركة أسموها لغة الاسبرنتو فكانت محاولة فاشلة فضلا عن أنها جاءت مسبوقة متأخرة. ثالثها استدراج القارئ إلى التدبر والاهتداء بهدي القرآن عن طريق هذا الترغيب المشوق وبوساطة هذا الأسلوب الحكيم. فإن من يقرأ القرآن في يومه وهو غافل عن معانيه يقرؤه في غده وهو ذاكر لها ومن قرأه في غده وهو ذاكر لها أوشك أن يعمل بعد غد بهديها وهكذا ينتقل القارئ من درجة إلى درجة أرقى منها حتى يصل إلى الغاية بعد تلك البداية كل من سار على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الدرب وصل ويرحم الله ابن عطاء الله السكندري إذ يقول في حكمه لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 حكم ترجمة القرآن تفصيلا على ضوء هذه المعلومات التي سقناها في تجلية معنى المتضايفين من لفظ ترجمة القرآن يسهل علينا أن ندرك أن لهذا المركب الإضافي أربعة معان رئيسية ثلاثة منها ترجع إلى اللغة وحدها والرابع تشترك فيه اللغة والعرف العام الذائع بين الأمم ولا ريب أن هذا المعنى الرابع هو الجدير بالعناية والاهتمام لأنه المتبادر إلى الأفهام والمقصود في لسان التخاطب العام. وها نحن أولاء نستعرض تلك المعاني الأربعة مشفوعا كل معنى منها بحكمة المناسب له عسى أن تكون هذه الطريقة أبعد عن الخطأ والشطط وأهدى إلى الصواب والاعتدال. 1 - ترجمة القرآن بمعنى تبليغ ألفاظه تطلق ترجمة القرآن إطلاقا مستندا إلى اللغة ويراد بها تبليغ ألفاظه وحكمها حينئذ أنها جائزة شرعا والمراد بالجواز هنا ما يقابل الحظر فيصدق بالوجوب وبالندب وإن شئت دليلا فها هو كان يقرأ القرآن ويسمعه أولياءه وأعداءه ويدعو إلى الله به في مولده ومهاجره وفي سفره وحضره والأمة من ورائه نهجت نهجه فبلغت ألفاظ القرآن وتلقاها بعضهم عن بعض فردا عن فرد وجماعة عن جماعة وجيلا عن جيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 حتى وصل إلينا متواترا.. ثم ها هو القرآن نفسه يتوعد كاتميه ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري والترمذي وأحمد ويقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه الشيخان. 2 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغته العربية هذا هو الإطلاق الثاني المستند إلى اللغة أيضا كما مر ويراد به تفسير القرآن بلغته العربية لا بلغة أخرى وغني عن البيان أن حكمة الجواز بالمعنى الآنف وإن كنت في شك فهاك القرآن نفسه يقول الله فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ولقد قام الرسول صلوات الله وسلامه عليه ببيانه العربي خير قيام حتى اعتبرت السنة النبوية كلها شارحة له ونقل منها في التفسير بالمأثور شيء كثير ولقد تأثر العلماء برسول الله في ذلك منذ عهد الصحابة إلى اليوم وها هي المكتبات العامة والخاصة زاخرة بالتفاسير العربية للقرآن الكريم على رغم ما اندثر منها وعلى رغم ما يأتي به المستقبل من تفاسير يؤلفها من لا يقنعون بقديم ويتلقاها عنهم من يجدون في أنفسهم حاجة إلى عرض جديد لعلوم القرآن والدين ومما يدل على أن القرآن بحر الله الخضم وأن العلماء جميعا من قدامى ومحدثين لا يزالون وقوفا بساحله يأخذون منه على قدر قرائحهم وفهومهم والبحر بعد ذلك هو البحر في فيضانه وامتلائه والقرآن هو القرآن في ثروته وغناه بعلومه وبأسراره: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية هذا هو الإطلاق الثالث المستند إلى اللغة أيضا ويراد به تفسير القرآن بلغة غير لغته أي بلغة عجمية لا عربية ولا ريب عندنا في أن تفسير القرآن بلسان أعجمي لمن لا يحسن العربية يجري في حكمة تفسيره بلسان عربي لمن يحسن العربية فكلاهما عرض لما يفهمه المفسر من كتاب الله بلغة يفهمها مخاطبه لا عرض لترجمة القرآن نفسه وكلاهما حكاية لما يستطاع من المعاني والمقاصد لا حكاية لجميع المقاصد وتفسير القرآن الكريم يكفي في تحققه أن يكون بيانا لمراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية ولو جاء على احتمال واحد لأن التفسير في اللغة هو الإيضاح والبيان وهما يتحققان ببيان المعنى ولو من وجه ولأن التفسير في الاصطلاح علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية وهذا يتحقق أيضا بعرض معنى واحد من جملة معان يحتملها التنزيل وإذا كان تفسير القرآن بيانا لمراد الله بقدر الطاقة البشرية فهذا البيان يستوي فيه ما كان بلغة العرب وما ليس بلغة العرب لأن كلا منهما مقدور للبشر وكلا منهما يحتاجه البشر بيد أنه لا بد من أمرين أن يستوفي هذا النوع شروط التفسير باعتبار أنه تفسير وأن يستوفي شروط الترجمة باعتبار أنه نقل لما يمكن من معاني اللفظ العربي بلغة غير عربية وشروط التفسير ذكرناها في الجزء الأول بالمبحث الثاني عشر من هذا الكتاب وشروط الترجمة ذكرناها بهذا المبحث عن كثب. أمور مهمة: ونسترعي نظرك إلى أمور مهمة أولها أن علماءنا حظروا كتابه القرآن بحروف غير عربية وعلى هذا يجب عند ترجمة القرآن بهذا المعنى إلى أية لغة أن تكتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الآيات القرآنية إذ كتبت بالحروف العربية كيلا يقع إخلال وتحريف في لفظه فيتبعهما تغير وفساد في معناه. سئلت لجنة الفتوى في الأزهر عن كتابة القرآن بالحروف اللاتينية فأجابت بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله بما نصه1 لا شك أن الحروف اللاتينية المعروفة خالية من عدة حروف توافق العربية فلا تؤدي جميع ما تؤديه الحروف العربية فلو كتب القرآن الكريم بها على طريقة النظم العربي كما يفهم من الاستفتاء لوقع الإخلال والتحريف في لفظه ويتبعهما تغير المعنى وفساده وقد قضت نصوص الشريعة بأن يصان القرآن الكريم من كل ما يعرضه للتبديل والتحريف وأجمع علماء الإسلام سلفا وخلفا على أن كل تصرف في القرآن يؤدي إلى تحريف في لفظه أو تغيير في معناه ممنوع منعا باتا ومحرم تحريما قاطعا وقد التزم الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم إلى يومنا هذا كتابة القرآن بالحروف العربية. الأمر الثاني أن تفاسير القرآن المتداولة بيننا تتناول المفرد من الأصل وبجانبه شرحه ثم تتناول الجملة أو الآية وشرحها متصل بها كذلك غالبا ومعنى هذا أن ألفاظ القرآن منبثة في ثنايا التفسير على وجه من الارتباط والإحكام بحيث لو جردنا التفاسير من ألفاظ الأصل لعادت التفاسير لغوا من القول وضربا من السخف ونحن لا نريد هنا في تفسير القرآن بلغة أجنبية أن تذكر مفردات القرآن وجملة مكتوبة بتلك اللغة الأجنبية أو مترجمة بهذه اللغة ثم تشفع بتفسيرها المذكور فلقد قررنا أن كتابة القرآن بغير العربية ممنوعة وسنقرر أن ترجمته بالمعنى العرفي مستحيلة إنما نريد هنا نوعا من التفسير يجوز أن يصدر بطائفة من ألفاظ الأصل على ما هي عليه في عروبتها رسما ولفظا إذا وضع لطائفة من المسلمين ثم يذكر عقبها المعنى الذي فهمه المفسر غير مختلط بشيء من   1 أنظر المجلد السابع من مجلة الأزهر صفحة 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 ألفاظ الأصل ولا ترجمته بل يكون هذا المعنى كله من كلام المفسر ويصاغ بطريقة تدل على أنه تفسير لا ترجمة كأن يقال معنى الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا أو يقال في أول كل نوبة من نوبات التفسير معنى هذه الجملة أو الآية كذا ثم يبين في كلتا الطريقتين أن هذا المعنى مقطوع به أو أنه محتمل ويستطرد بما يظن أن حاجة المخاطبين ماسة إليه من التعريف بالمصطلحات الإسلامية والأسرار والحكم التشريعية والتنبيه على الأخطاء التي وقعت فيها الترجمات المزعومة ونحو ذلك مما يوقع في روع القارئ أن ما يقرؤه ليس ترجمة للأصل محيطة بجميع معانيه ومقاصده إنما هو تفسير فحسب لم يحمل من معاني القرآن ومقاصده إلا قلا من كثر وقطرة من بحر أما القرآن نفسه فأعظم من هذا التفسير بكثير كيف وهو النص المعجز في ألفاظه ومعانيه من كلام العليم الخبير؟!. الأمر الثالث أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مساوية لترجمة تفسيره العربي لأن الترجمة هنا لم تتناول في الحقيقة إلا رأي هذا المفسر وفهمه لمراد الله على قدر طاقته خطأ كان فهمه أو صوابا ولم تتناول كل مراد الله من كلامه قطعا فكأن هذا المفسر وضع أولا تفسيرا عربيا ثم ترجم هذا التفسير الذي وضعه وإن شئت فقل إنه ترجم تفسيرا للقرآن قام هو به غير أنه لم يدونه وأنت خبير بأن التفسير هو التفسير سواء أدونه صاحبه أم لم يدونه. الأمر الرابع ذهب بعضهم إلى تسمية هذا النوع وما يشبهه ترجمة تفسيرية للقرآن بالمعنى العرفي ونحن مع علمنا بأن الخلاف في التسمية تافه لا نستطيع أن نرى رأيهم لشهادة العرف التي أقمناها ثم اعتمدنا عليها في رسم الفوارق الأربعة بين أي ترجمة وأي تفسير فترجمة القرآن على فرض إمكانها تصوير لكل ما أراد منزله من معانيه ومقاصده وترجمة التفسير تصوير لكل ما أراد المفسر من معانيه ومقاصده والقرآن لا يمكن أن يكون في معانيه المرادة لله خطأ أبدا فإذا صحت ترجمته على فرض إمكانها وجب ألا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 تحمل ولا تصور خطأ أما التفسير فيمكن أن يكون في معانيه المرادة للمفسر خطأ أي خطأ وعلى هذا فترجمة هذا التفسير ترجمة صحيحة لا بد أن تحمل هذا الخطأ وتصوره وإلا لما صح أن تكون ترجمة له لأن الترجمة صورة مطابقة للأصل ومرآة حاكية له على ما هو عليه من صواب أو خطأ إيمان أو كفر حق أو باطل. والقرآن مليء بالمعاني والأسرار الجلية والخفية إلى درجة تعجز المخلوق عن الإحاطة بها فضلا عن قدرته على محاكاتها وتصويرها بلغة عربية أو أعجمية أما التفسير فمعانيه محدودة لأن قدرة صاحبه محدودة مهما حلق في سماء البلاغة والعلم وعلى هذا فعدسه أي مصور له تستطيع التقاطه وتصويره بالترجمة إلى أي لغة. الأمر الخامس يجب أن تسمى مثل هذه الترجمة ترجمة تفسير القرآن أو تفسير القرآن بلغة كذا ولا يجوز أن تسمى ترجمة القرآن بهذا الإطلاق اللغوي المحض لما علمت من أن لفظ ترجمة القرآن مشترك بين معان أربعة وأن المعنى الرابع هوالمتبادر إلى الأذهان عند الإطلاق نظرا إلى أن العرف الأممي العام لا يعرف سواه ولا يجوز أيضا أن تسمى ترجمة معاني القرآن لأن الترجمة لا تضاف إلا إلى الألفاظ ولأن هذه التسمية توهم أنها ترجمة للقرآن نفسه خصوصا إذا لاحظنا أن كل ترجمة لا تنقل إلا المعاني دون الألفاظ. الأمر السادس يحسن أن يدون التفسير العربي وتشفع به ترجمته هذه ليكون ذلك أنفى للريب وأهدى للحق وأظهر في أنه ترجمة تفسير لا ترجمة قرآن ومن عرف قدر القرآن لم يبخل عليه بهذا الاحتياط لا سيما في هذا الزمن الذي تنمر فيه أعداء الإسلام وحاربونا فيه بأسلحة مسمومة من كل مكان. الأمر السابع يجب أن يصدر هذا التفسير المترجم بمقدمة تنفي عنه في صراحة أنه ترجمة للقرآن نفسه وتبين أن ترجمة القرآن نفسه بالمعنى المتعارف أمر دونه خرط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 القتاد لأن طبيعة تأليف هذا الكتاب تأبى أن يكون لها نظير يحاكيه لا من لغته ولا من غير لغته وذلك هو معنى إعجازه البلاغي ومن أراد أن يتصور هذا اللون من ألوان إعجازه فلينتقل هو إلى هذا الكتاب ولغته فيتذوقه بها وبأساليبها ومن المحال أن ينتقل هذا الكتاب العزيز تاركا عرشه الذي بوأه الله إياه وهو عرش اللغة العربية وماذا يبقى للملك من عزة وسلطان إذا هو تخلى عن عرشه وملكه وهذا القرآن جعله الله ملك الكلام وتوجه بتاج الإعجاز واختار لغته العربية مظهرا لهذا الإعجاز والاعتزاز!: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 فوائد الترجمة بهذا المعنى لترجمة القرآن بهذا المعنى فوائد كنا في غنى عن بيانها بما أشرنا إليه من أنها كالتفسير العربي الذي اتفق الجميع على جوازه بشرطه ولكن بعض الباحثين توقفوا في جواز هذه الترجمة كما توقفوا في جواز الترجمة بالمعنى الآتي مع بعد ما بينهما ثم تذرعوا بأنه لا فائدة ترجى منها وأثاروا شبهات حولها لهذا نبسط القول ببيان فوائد هذه الترجمة ثم بدفع الشبهات عنها أما فوائدها فنشرحها فيما يأتي: الفائدة الأولى رفع النقاب عن جمال القرآن ومحاسنه لمن لم يستطع أن يراها بمنظار اللغة العربية من المسلمين الأعاجم وتيسير فهمه عليهم بهذا النوع من الترجمة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ويعظم تقديرهم للقرآن ويشتد شوقهم إل يه فيهتدوا بهديه ويغترفوا من بحره ويستمتعوا بما حواه من نبل في المقاصد وقوة في الدلائل وسمو في التعاليم ووضوح وعمق في العقائد وطهر ورشد في العبادات ودفع قوى إلى مكارم الأخلاق وردع زاجر عن الرذائل والآثام وإصلاح معجز للفرد وللمجموع واختيار موفق لأحسن القصص وإخبار عن كثير من أنباء الغيب وكشف عن معجزات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 أكرم الله بها رسوله وأمته إلى غير ذلك مما من شأنه أن يسمو بالنفوس الإنسانية ويملأ العالم حضارة صحيحة ومدنية. وإنك لتستطيع أن ترى هذه الفائدة ماثلة بين عينيك إذا ما شاهدت أستاذا ممتازا يلقي درسا من دروس التفسير على العامة يجلي معاني القرآن لهم بمهارته ويتنزل إلى مستواهم فيخاطبهم ويتخير من المعاني أصحها وأمسها بحاجتهم ويعالج عند المناسبة ما يعرف من جهالتهم وشبهتهم والله لكأني بهذا المدرس اللبق وقد نفخ فيهم من روح القرآن فأحيا مواتهم وداوى أمراضهم وقادهم إلى النهضة وجعلهم يؤمنون بهذا الكتاب عن علم وذوق وشعور ووجدان بعد أن كانوا يؤمنون به إيمانا أشبه بالتقليد الأعمى أو بمحاكاة الصبيان. ولقد دلتنا التجارب على أن كثيرا من هؤلاء الذين أحسوا جلال القرآن عن طريق تفسيره فكروا في حفظه واستظهاره ودراسة لغته وعلومه ليرتشفوا بأنفسهم من منهله الروي ويشبعوا نهمتهم من غذائه الهني ما دام هذا التفسير وغيره لا يحمل كل معاني الأصل وما دام ثواب الله يجزي على كل من نظر في الأصل أو تلا نفس ألفاظ الأصل. الفائدة الثانية دفع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام وألصقوها بالقرآن وتفسيره كذبا وافتراء ثم ضللوا بها هؤلاء المسلمين الذين لا يحذقون اللسان العربي في شكل ترجمات مزعومة للقرآن أو مؤلفات علمية وتاريخية للطلاب أو دوائر معارف للقراء أو دروس ومحاضرات للجمهور أو صحف ومجلات للعامة والخاصة. الفائدة الثالثة تنوير غير المسلمين من الأجانب في حقائق الإسلام وتعاليمه خصوصا في هذا العصر القائم على الدعايات وبين نيران هذه الحروب التي أوقدها أهل الملل والنحل الأخرى حتى ضل الحق أو كاد يضل في سواد الباطل وخفت صوت الإسلام أو كاد يخفت بين ضجيج غيره من المذاهب المتطرفة والأديان المنحرفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الفائدة الرابعة إزالة الحواجز والعواثير التي أقامها الخبثاء الماكرون للحيلولة بين الإسلام وعشاق الحق من الأمم الأجنبية وهذه الحواجز والعواثير ترتكز في الغالب على أكاذيب افتروها تارة على الإسلام وتارة أخرى على نبي الإسلام وكثيرا ما ينسبون هذه الأكاذيب إلى القرآن وتفاسيره وإلى تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ثم يدسونها فيما يزعمونه ترجمات للقرآن وفيما يقرأ الناس ويسمعون بالوسائل الأخرى فإذا نحن ترجمنا تفسير القرآن أو فسرنا القرآن بلغة أخرى مع العناية بشروط التفسير وشروط الترجمة ومع العناية التامة بدفع الشبهات والأباطيل الرائجة فيهم عند كل مناسبة تزلزلت بلا شك تلك القصور التي أقاموها من الخرافات والأباطيل وزالت العقبات من طريق طلاب الحق وعشاقه من كل قبيل. وهاك كلمة يؤيدنا بها الكاتب الإنجليزي الشهير برناردشو إذ يقول لقد طبع رجال الكنيسة في القرون الوسطى دين الإسلام بطابع أسود حالك إما جهلا وإما تعصبا إنهم كانوا في الحقيقة مسوقين بعامل بغض محمد ودينه فعندهم أن محمدا كان عدوا للمسيح ولقد درست سيرة محمد الرجل العجيب وفي رأيي أنه بعيد جدا من أن يكون عدوا للمسيح إنما ينبغي أن يدعى منقذ البشرية الخ ما قال بمجلة ذي مسلم رفيوبلكنو الهند في جزء مارس سنة 1933. الفائدة الخامسة براءة ذمتنا من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه فإن هذه الترجمة جمعت بين النص الكريم بلفظه ورسمه العربيين وبين معاني القرآن على ما فهمه المفسر وشرحه باللغة الأجنبية قال السيوطي وابن بطال والحافظ ابن حجر وغيرهم من العلماء إن الوحي يجب تبليغه ولكنه قسمان قسم تبليغه بنظمه ومعناه وجوبا وهو القرآن وقسم يصح أن يبلغ بمعناه دون لفظه وهو ما عدا القرآن وبذلك يتم التبليغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 دفع الشبهات عن هذه الترجمة الشبهة الأولى ودفعها: يقولون إن المترجم للتفسير مضطر إلى الترجمة العرفية الممنوعة وهي ترجمة كل ما يسوقه في كل نوبة للتفسير من آية أو آيات لأن التفسير بيان فلا بد أن يعرف المبين أولا ثم يعرف البيان ولأنه إذا ترجم التفسير بدون الآية كانت الترجمة غير مؤدية للمطلوب لعدم التئامها مع ما قبلها. ونجيب على هذا بأننا شرطنا ألا تكون ألفاظ الأصل ولا ترجمتها العرفية منبثة بين ثنايا التفسير بلغة أجنبية بل قلنا إن التفسير يجزأ أجزاء وتساق الآية أو الآيات في كل نوبة من نوبات هذه التجزئة باللفظ والرسم العربيين إن كنا نترجم هذه الترجمة لطائفة من إخواننا المسلمين ثم يشار إليها في تفسيرها فيقال معنى هذه الآية أو الآيات كذا.. أو يقال الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا معناها كذا وكذا.. بعبارة مجردة من ألفاظ الأصل وترجمتها ترجمة عرفية ويكفي في ارتباط المبين ببيانه أن يكون بأي وجه من وجوه الارتباط وهو هنا قد ذكر أولا بلفظه ورسمه العربيين ثم أشير إليه باسم إشارة أو ببيان رقمه من السورة واسم سورته من القرآن. أما الالتئام فمن السهل رعاية الانسجام بين جمل التفسير بعضها مع بعض في كل نوبة في نوباته وأما انسجام هذه النوبات كلها بعضها ببعض بحيث يتألف منها كلام واحد مترابط كأنه سبيكة واحدة فشيء لم يشترطه أحد في التفسير ولا يضيرنا فقده شيئا ما دام التفسير كلاما منجما على نوبات متفرقة لا كلاما واحدا في نوبة واحدة وأما التئام الآيات بعضها ببعض فهو حاصل لا محالة ولكن ليس من الواجب أن يعرض له هذا التفسير ولا غيره من التفاسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 الشبهة الثانية ودفعها: يقولون إن تفسير القرآن يشتمل عادة على كيفية نطق ألفاظه ومدلولات مفرداته وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب واختلاف المعاني عند الوقف على بعض الكلمات والابتداء بما بعدها وعند وصل الأولى بالثانية ويشتمل أيضا على معرفة السنة لأنها بيان للقرآن وعلى أقوال الصحابة والأئمة المجتهدين وغير ذلك وترجمة مثل هذا مع الاستيفاء أمر متعذر. ونجيب على هذا بأن استيفاء الأمور المذكورة لم يشرطه أحد في أصل التفسير العربي فبدهي ألا يشترط ذلك في ترجمته وهي صورة له كيف وقد علمنا أن التفسير هو البيان ولو من وجه وكل ما على المفسر أن يكون حكيما يلاحظ حال من يفسر لهم على قدر طاقته فيضمن تفسيره ما يحتاجون إليه ويعفيهم مما لا تسعه عقولهم وإلا كان فتنة عليهم ولعل ذلك سر من أسرار تنوع التفاسير العربية التي بين أيدينا ما بين مختصر ومتوسط ومطول وما بين تفسير بالمأثور وتفسير بالمعقول وما بين تفسير معني بالناحية البلاغية وآخر معني بالناحية النحوية وثالث معني بالناحية الكلامية ورابع معني بالناحية الفقهية إلى غير ذلك. وإذا كان هذا ماثلا أمام أعيننا في التفاسير العربية فكيف نذهب إلى إنكاره إذا وقع مثله في التفاسير بلغة أجنبية؟!. الشبهة الثالثة ودفعها: يقولون لا حاجة إلى هذا التفسير بلسان غير عربي ولا إلى ترجمة أي تفسير من التفاسير لإمكان الاستغناء عنهما بترجمة تعاليم الإسلام وهداياته. والجواب أنا بينا وجه الحاجة إليه في الفوائد التي ذكرناها آنفا ثم إن ترجمة تفسير القرآن وتفسير القرآن بلغة أجنبية كلاهما مثل ترجمة تعاليم الإسلام وهداياته فكلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 معارف دينية وكلها من كلام البشر لا من كلام الله المعجز وقد جوزتم ترجمة تعاليم الإسلام وهداياته فلتجوزوا ترجمة التفسير بلغة أجنبية أيضا لأن ما جاز على أحد المثلين يجوز على الآخر قطعا. ثم إن الرسائل المتحدثة عن الإسلام وتعاليمه بلغات أجنبية قد تكون ضرورية لابد منها في بعض الظروف والمناسبات ولكنها لا تغني عن هذا التفسير الذي نحن بصدده الآن للفوائد التي شرحناها قريبا فيه فوجوده شاهد من مشاهد الحق على بطلان ما جاء في تلك الترجمات الخاطئة ييسر على المنصفين وطلاب الحقائق أن يحاكموا تلك الترجمات إلى ما جاء في هذا التفسير خصوصا إذا صدر من هيئة إسلامية موثوق بها وعرض عند كل مناسبة كما قلنا لنقض الشبهات التي ضلت فيها الترجمات الزائغة. يضاف إلى هذا أن المسلم الأعجمي يستعين بهذا التفسير على تدبر كتاب الله وتفهمه لأية آية من أية سورة يريد والرسائل المقترحة لا يمكن أن تفي بذلك كله. وإن أبيت إلا مثلا مما قرره علماؤنا في ذلك فاستمع إلى جار الله الزمخشري عند تفسيره لقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} إذ يقول ما نصه فإن قلت لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعا قل يا أيها الناس إني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم جميعا بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة قلت لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم اقرب إليه وإذا فهموا عنه وبينوه وتنوقل عنهم وانتشر قامت التراجم كذا ببيانه وتفهيمه كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه وما يتشعب عن ذلك من جليل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع وكثرتها وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء اهـ باختصار طفيف. وقوله قامت التراجم ببيانه وتفهيمه يشعر بأن مراده تفاسير القرآن بلغات أجنبية لا ترجمات القرآن نفسه بالمعنى العرفي وذلك لأن التفسير هو الذي يبين القرآن ويفهمه أما الترجمة فتصوير للأصل فحسب وليس من وظيفتها البيان والتفهيم ولو كان مراده بالترجمات ترجمات القرآن نفسه لم يستقم كلامه لأن الذين فهموا القرآن عن الرسول والذين نقلوه عنه لم يقوموا بترجمة القرآن الكريم إلى الأمم المختلفة إنما شرحوه لهم بعد أن بلغوهم نفس ألفاظه العربية. ومما يؤيد ذلك قوله مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة الخ لأن اجتماع الجميع على كتاب واحد لا يتأتى مع وجود ترجمات لنفس الكتاب بل هو مدعاة إلى الانصراف عن الأصل اكتفاء بالترجمات كما تقدم تفصيل ذلك فتأمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 4 - ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى هذا هو الإطلاق الرابع المستند إلى اللغة ثم هو الإطلاق الوحيد في عرف التخاطب الأممي العام. ويمكننا أن نعرف ترجمة القرآن بهذا الإطلاق تعريفا مضغوظا على نمط تعريفهم فنقول هي نقل القرآن من لغته العربية إلى لغة أخرى ويمكننا أن نعرفها تعريفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 مبسوطا فنقول ترجمة القرآن هي التعبير عن معاني ألفاظه العربية ومقاصدها بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعاني والمقاصد. ثم إن لوحظ في هذه الترجمة ترتيب ألفاظ القرآن فتلك ترجمة القرآن الحرفية أو اللفظية أو المساوية وإن لم يلاحظ فيها هذا الترتيب فتلك ترجمة القرآن التفسيرية أو المعنوية. والناظر فيما سلف من الكلام على معنى الترجمة وتقسيمها والفروق بينها وبين التفسير يستغني هنا عن شرح التعريف والتمثيل للمعرف في قسميه كما يستغني عن التدليل على أن هذا المعنى وحده هو المعنى الاصطلاحي الفريد في لسان التخاطب العام بين الأمم ويعلم أن ترجمة القرآن بهذا المعنى خلاف تفسيره بلغته العربية وخلاف تفسيره بغير لغته العربية وخلاف ترجمة تفسيره العربي ترجمة حرفية أو تفسيرية فارجع إلى هذا الذي أسلفناه إن شئت. الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة العادية: أما حكم ترجمة القرآن بهذا المعنى فالاستحالة العادية والشرعية أي عدم إمكان وقوعها عادة وحرمة محاولتها شرعا ولنا على استحالتها العادية طريقان في الاستدلال: الطريق الأول أن ترجمة القرآن بهذا المعنى تستلزم المحال وكل ما يستلزم المحال محال والدليل على أنها تستلزم المحال أنه لا بد في تحققها من الوفاء بجميع معاني القرآن الأولية والثانوية وبجميع مقاصده الرئيسية الثلاثة وكلا هذين مستحيل أما الأول فلأن المعاني الثانوية للقرآن مدلولة لخصائصه العليا التي هي مناط بلاغته وإعجازه كما بينا من قبل وما كان لبشر أن يحيط بها فضلا عن أن يحاكيها في كلام له وإلا لما تحقق هذا الإعجاز وأما الثاني فلأن المقصد الأول من القرآن وهو كونه هداية إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 أمكن تحقيقه في الترجمة بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن الأصلية فهو لا يمكن تحقيقه بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن التابعة لأنها مدلولة لخصائصه العليا التي هي مناط إعجازه البلاغي كما سبق. وكذلك مقصد القرآن الثاني وهي كونه آية لا يمكن تحقيقه فيما سواه من كلام البشر عربيا كان أو عجميا وإلا لما صح أن يكون أية خارقة ومعجزة غير ممكنة حين تتناول هذا المقصد قدرة البشر كيف والمفروض أن القرآن آية بل آيات ومعجزة بل معجزات لا يقدر عليها إلا الله وحده جل وعلا؟!. ويجري هذا المجرى مقصد القرآن الثالث وهو كونه متعبدا بتلاوته فإنه لا يمكن أن يتحقق في الترجمة لأن ترجمة القرآن غير القرآن قطعا والتعبد بالتلاوة إنما ورد في خصوص القرآن وألفاظه عينها بأساليبها وترتيباته نفسها دون أي ألفاظ أو أساليب أخرى ولو كانت عربية مرادفة الألفاظ الأصل وأساليبه. الطريق الثاني أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مثل للقرآن وكل مثل للقرآن مستحيل أما أنها مثل له فلأنها جمعت معانيه كلها ومقاصده كلها لم تترك شيئا والجامع لمعاني القرآن ومقاصده مثل له أي مثل وأما أن كل مثل للقرآن مستحيل فلأن القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا عن المعارضة والمحاكاة وهم يومئذ أئمة البلاغة والبيان وأحرص ما يكونون على الغلبة والفوز في هذا الميدان وإذا كان هؤلاء قد عجزوا وانقطعوا فغيرهم ممن هم دونهم بلاغة وبيانا أشد عجزا وانقطاعا وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صدقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وإذا كان الإنس والجن قد حقت عليهم كلمة العجز عن أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه بلغته العربية فأحرى أن يكون عجزهم أظهر لو حاولوا هذه المعارضة بلغة غير عربية لأن اتحاد اللغة في المساجلة بين كلامين من شأنه أن يقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 التشابه والتماثل إذا كانا ممكنين نظرا إلى أن الخصائص البلاغية واحدة فيما به التحدي وما به المعارضة أما إذا اختلفت لغة التحدي ولغة المعارضة فهيهات أن يتحقق التشابه والتماثل بدقة لأن الخصائص البلاغية في أحد اللسانين غير الخصائص البلاغية في اللسان الآخر ويوجد منها في أحدهما ما يوجد في الآخر فيتعين التفاضل ويتعذر التماثل قطعا ولهذا يصرح كثير من المتمكنين في اللغات بأن ترجمة النصوص الأدبية في أية لغة ترجمة دقيقة أمر مستحيل وأن ما يتداوله الناس مما يزعمونة ترجمات لبعض كتب أدبية فهو مبني على ضرب من التسامح في نقل معاني الأصل وأغراضه بالتقريب لا بالتحقيق وذلك غير الترجمات الدقيقة لمثل العلوم والقوانين والوثائق المنضبطة فإنها ترجمات حقيقية مبنية على نقل معاني الأصل وأغراضه كلها بالتحقيق لا بالتقريب. ولكي نوضح لك معنى المثلية المستحيلة في ترجمة القرآن بهذا المعنى نرشدك إلى أن هذه الترجمة لا تتحقق إلا بأمور بعضها مستحيل وبعضها ممكن ذلك أنه لا بد فيها على ضوء ما تقدم من أن تكون وافية بجميع معاني القرآن الأصلية والتابعة على وجه مطمئن وأن تكون وافية كذلك بجميع مقاصده الثلاثة الرئيسية وتلك أمور مستحيلة التحقق كما سبق بيانه ثم لا بد فيها أيضا من أن تكون صيغتها صيغة استقلالية خالية من الاستطراد والتزيد وتلك أمور ممكنة الوقوع في ذاتها لكنها إذا أضيفت إلى سابقتها كان المجموع مستحيلا لأن المؤلف من الممكن والمستحيل مستحيل. فإذا أريد بعد ذلك أن تكون ترجمة القرآن هذه حرفية وجب أن يعتبر فيها أمران زائدان وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية لمفردات القرآن ووجود ضمائر وروابط في لغة الترجمة مساوية لروابط القرآن حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيرة من الأصل كما هو المشروط في الترجمة الحرفية وهذا لعمر الله مما يزيد التعذر استفحالا والاستحالة إيغالا ويجعل هذه الترجمة لو وجدت مثلا للقرآن يا له من مثل وشبيها لا يطاوله شبيه ومعارضا لا يغالبه معارض وقد عرفت دليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 بطلان كل ما يصدق عليه أنه مثل للقرآن وفي هذا يقول الله سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فنفي المثلية عن القرآن كما نفى المثلية عن نفسه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وبالغ في النفي وفي التحدي فجمع الإنس والجن على هذا العجز ثم أكد هذا النفي وهذا التحدي مرة أخرى بتقرير عجز الثقلين عن المثلية على فرض معاونة بعضهم لبعض فيها واجتماع قواهم البيانية والعلمية عليها. الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة الشرعية: الآن وقد تقرر أن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي من قبيل المستحيل العادي لا نتردد أن نقرر أيضا أنها من قبيل المستحيل الشرعي أي المحظور الذي حرمه الله وذلك من وجوه ثمانية: الوجه الأول أن طلب المستحيل العاجي حرمه الإسلام أيا كان هذا الطلب ولو بطريق الدعاء وأيا كان هذا المستحيل ترجمة أو غير ترجمة لأنه ضرب من العبث وتضييع للوقت والمجهود في غير طائل والله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ضرر ولا ضرار" رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم يضاف إلى ذلك أن طلب المستحيل العادي غفلة أو جهل بسنن الله الكونية وبحكمته في ربط الأسباب بمسبباتها العادية تطمينا لخلقه ورجمة بعباده: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . ولقد يعذر بعض الجهلة إذا ظنوا أن بعض المحالات أمور ممكنة فطلبوها ولكن الذي يحاول ترجمة القرآن بهذا المعنى لا يعذر بحال لأن القرآن نفسه أعذر حين أنذر بأنه لا يمكن أن يأتي الجن والإنس بمثله وإن اجتمعوا له وكان بعضهم لبعض ظهيرا وبذلك قطعت جهيزة قول كل خطيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الوجه الثاني أن محاولة هذه الترجمة فيها ادعاء عمل لإمكان وجود مثل أو أمثال للقرآن وذلك تكذيب شنيع لصريح الآية السابقة ولقوله سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . فإن المتأمل في هاتين الآيتين يجد فيهما وجوها دالة على التحريم حيث عنون الله عن طلاب التبديل بأنهم لا يرجون لقاءه وأمر الرسول أن ينفى نفيا عاما إمكانه تبديله من تلقاء نفسه كما أمره أن يعلن أن اتباعه مقصور على ما يوحى إليه نسخا أو إحكاما ومعنى هذا أن التبديل هو هوى من الأهواء الباطلة والرسول لا يتبع أهواءهم ولا هوى نفسه ولا هوى أحد: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وفي ختام الآية الأولى إشارة إلى أن هذه المحاولة التي يحاولونها عصيان لله وأنه يخاف منها عذاب يوم عظيم وفي الآيه الثانية إعلام بأن القرآن من محض فضل الله وأن الرسول ما كان يستطيع تلاوته عليهم ولا كان يعلمهم به على لسان رسوله لولا مشيئة الله وإيحاؤه به ثم حاكمهم إلى الواقع وهو أن الرسول نشأ بينهم وعاش عمرا طويلا فيهم حتى عرفوا حديثه وأسلوبه وأنه مهما حلق في سماء البلاغة فبينه وبين حديث القرآن وأسلوبه بعد ما بين مكانة الخالق وأفضل الخلق وأنه ما كان ينبغي أن يفتري الكذب على الله ويدعي أنه أوحى إليه ولم يوح إليه على حين أنه معروف بينهم بأنه الصادق الأمين فما كان ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله ثم أعلن القرآن أخيرا أن هذا الطلب إهمال منهم لمقتضى العقل والنظر وانحطاط إلى دركة الحيوان والحجر إذ قال لهم: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وإذا كان هذا مبلغ نعي القرآن على طلاب بدل للقرآن أو مثيل له من الرسول صلى الله عليه وسلم الأعظم وهو أفصح الناس لسانا وبيانا وأعلمهم بمعاني القرآن ومقاصده وأعرفهم بإسرار الإسلام وروح تشريعه فما بالك بطلاب هذه الترجمة والساعين إليها ممن هل أقل شأنا من الرسول صلى الله عليه وسلم مهما قيل في علمهم وفضلهم وجلالة قدرهم؟. الوجه الثالث أن محاولة هذه الترجمة تشجع الناس على انصرافهم عن كتاب ربهم مكتفين ببدل أو أبدال يزعمونها ترجمات له وإذا امتد الزمان بهذه الترجمات فسيذهب عنها اسم الترجمة ويبقى اسم القرآن وحده علما عليها ويقولون هذا قرآن بالانجليزية وذاك قرآن بالفرنسية وهكذا ثم يحذفون هذا المتعلق بعد يجتزئون بإطلاق لفظ القرآن على الترجمة ومن كان في شك فليسأل متعارف الأمم فيما بين أيديهم من ترجمات وما لنا نذهب بعيدا فلنسائل أنفسنا نحن ما بالنا نقول بملء فمنا هذه رواية ماجدولين لترجمتها العربية والأصل فرنسي وهذا إنجيل برنابا أو يوحنا لترجمتهما العربية والأصل غير عبري إلى غير ذلك من إطلاقاتنا الكثيرة على ترجمات شتى في الدين والعلم والأدب والقوانين والوثائق ونحوها. وهاك شاهدا أبلغ من ذلك كله جاء في ملحق لمجلة الأزهر أن أهالي جاوه المسلمين يقرؤون الترجمة الإفرنجية ويقرئونها أولادهم ويعتقدون أن ما يقرؤون هو القرآن الصحيح اهـ فقل لي بربك ما الذي يمنع كل قطر من الأقطار الإسلامية وغير الإسلامية إذن أن يكون له قرآن من هذا الطراز لو ذهبنا إلى القول بجواز هذه الترجمة وهل تشك بعد ذلك في حرمة كل ما يؤدي إلى صرف الناس عن كتاب الله وإلى تفرقهم عنه وضلالهم في مسماه؟. الوجه الرابع أننا لو جوزنا هذه الترجمة ووصل الأمر إلى حد أن يستغني الناس عن القرآن بترجمانه لتعرض الأصل العربي للضياع كما ضاع الأصل العبري للتوراة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 والإنجيل وضياع الأصل العربي نكبة كبرى تغري النفوس على التلاعب بدين الله تبديلا وتغييرا ما دام شاهد الحق قد ضاع ونور الله قد أنطفأ والمهيمن على هذه الترجمات قد زال لا قدر الله ولا ريب أن كل ما يعرض الدين للتغيير والتبديل وكل مل يعرض القرآن للإهمال والضياع حرام بإجماع المسلمين. الوجه الخامس أننا إذا فتحنا باب هذه الترجمات الضالة تزاحم الناس عليها بالمناكب وعملت كل أمة وكل طائفة على أن تترجم القرآن في زعمها بلغتها الرسمية والعامية ونجم عن ذلك ترجمات كثيرات لا عداد لها وهي بلا شك مختلفة فيما بينها فينشأ عن ذلك الاختلاف في الترجمات خلاف حتمي بين المسلمين أشبه باختلاف اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل وهذا الخلاف يصدع بناء المسلمين ويفرق شملهم ويهيء لأعدائهم فرصة للنيل منهم ويوقظ بينهم فتنة عمياء كقطع الليل المظلم فيقول هؤلاء لأولئك قرآننا خير من قرآنكم ويرد أولئك على هؤلاء تارة بسب اللسان وأخرى بحد الحسام ويخرون ضحايا هذه الترجمات بعد أن كانوا بالأمس إخوانا يوحد بينهم القرآن ويؤلف بينهم الإسلام وهذه الفتنة لا أذن بها الله أشبه بل هي أشد من الفتنة التي أوجس خيفة منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأمر بسببها أن تحرق جميع المصاحف الفردية وأن يجتمع المسلمون على تلك المصاحف العثمانية الإجماعية. الوجه السادس أن قيام هذه الترجمات الآثمة يذهب بمقوم كبير من مقومات وجود المسلمين الاجتماعي كأمة عزيزة الجناب قوية السناد ذلك أنهم سيقنعون غدا بهذه الترجمات كما قلنا ومتى قنعوا بها فسيستغنون لا محالة عن لغة الأصل وعلومها وآدابها وأنت تعلم التاريخ يشهد أنها رباط من أقوى الروابط فيما بينها وكان لهذا الرباط أثره الفعال العظيم في تدعيم وحدة الأمة وبنائها حين كانوا يقرؤون القرآن نفسه ويدرسون من أجله علوم لغته العربية وآدابها تذرعا إلى حسن أدائه وفهمه حتى خدموا هذه العلوم ونبغوا فيها ولمع في سمائها رجال من الأعجام بزوا كثيرا من أعلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 العرب في خدمتها وخدمة كتاب الله وعلومه بها وبهذا قامت اللغة العربية لسانا عاما للمسلمين ورابطا مشتركا بينهم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم الإقليمية بل ذاب كثير من اللغات الإقليمية في هذه اللغة الجديدة لغة القرآن الكريم. وإن كنت في ريب فسائل التاريخ عن وحدة المسلمين وعزتهم يوم كانت اللغة العربية صاحبة الدولة والسلطان في الأقطار الإسلامية شرقية وغربية عربية وعجمية يوم كانت لغة التخاطب بينهم ولغة المراسلات ولغة الأذان والإقامة والصلوات ولغة الخطابة في الجمع والأعياد والجيوش والحفلات ولغة المكاتبات الرسمية بين خلفاء المسلمين وأمرائهم وقوادهم وجنودهم ولغة مدارسهم ومساجدهم وكتبهم ودواوينهم. ونحن في هذا العصر الذي زاحمتنا فيه اللغات الأجنبية وصارت جربا على لغتنا العربية حتى تبلبلت ألسنتنا وألسنة أبنائنا وخاصتنا وعامتنا يتأكد علينا أمام هذا الغزو اللغوي الجائح أن نحشد قوانا لحماية لغتنا والدفاع عن وسائل بقائها وانتشارها وفي مقدمة هذه الوسائل إبقاء القرآن على عربيته والضرب على أيدي العاملين على ترجمته وما ينبغي لنا أن نحطب في حبلهم ولا أن نسايرهم في قياس ترجمة القرآن بهذا المعنى على ترجمة غيره في الجواز والإمكان فأين الثرى من الثريا وأين كلام العبد العاجز من كلام الله المعجز وما أشبه هؤلاء بالمفتونين من أمة موسى حين جاوز الله بهم البحر وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ نَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} !. جاء في كتاب الرسالة للشافعي ما خلاصته إنه يجب على غير العرب أن يكونوا تابعين للسان العرب وهو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا كما يجب أن يكونوا تابعين له دينا وأن الله تعالى قضى أن ينذروا بلسان العرب خاصة ثم قال فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك وكلما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرا له. وجاء في كتاب الرسالة أيضا أن المسور بن مخرمة رأى رجلا أعجمي أراد أن يتقدم للصلاة فمنعه المسور بن مخرمة وقدم غيره ولما سأله عمر رضي الله عنه في ذلك قال له إن الرجل كان أعجمي اللسان وكان في الحج فخشيت أن يسمع بعض الحاج قراءته فيأخذ بعجمته فقال له عمر أصبت وقال الشافعي لقد أحببت ذلك اهـ قال في الكشاف الأعجمي من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته فجاز أن يكون لسانه ألكن أو تكون لغته غريبة. الوجه السابع أن الأمة أجمعت على عدم جواز رواية القرآن بالمعنى وأنت خبير بأن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي تساوي روايته بالمعنى فكلتاهما صيغة مستقلة وافية بجميع معاني الأصل ومقاصده لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية فالرواية بالمعنى لغتها لغة الأصل وهذه الترجمة لغتها غير لغة الأصل وعلى هذا يقال إذا كانت رواية القرآن بالمعنى في كلام عربي ممنوعة إجماعا فهذه الترجمة ممنوعة كذلك قياسا على هذا المجمع عليه بل هي أحرى بالمنع للاختلاف بين لغتها ولغة الأصل. الوجه الثامن أن الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين تواضعوا على أن الأعلام لا يمكن ترجمتها سواء أكانت موضوعة لأشخاص من بني الإنسان أم لأفراد من الحيوان أم لبلاد وأقاليم أم لكتب ومؤلفات حتى إذا وقع علم من هذه الأعلام أثناء ترجمة ما ألفيته هو هو ثابتا لا يتغير عزيزا لا ينال متمتعا بحصانته العلمية لا ترزؤه الترجمة شيئا ولا تنال منه منالا وما ذاك إلا لأن واضعي هذه الأعلام قصدوا ألفاظها بذاتها واختاروها دون سواها للدلالة على مسمياتها فكذلك القرآن الكريم علم رباني قصد الله سبحانه ألفاظه دون غيرها وأساليبه دون سواها لتدل على هداياته وليؤيد بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 رسوله وليتعبد بتلاوتها عباده وكان سبحانه حكيما في هذا التخصيص والاختيار لمكان الفضل والامتياز في هذه الأساليب والألفاظ المختارة. ومن تفقه في أساليب اللغة العربية وعرف أن لخفة الألفاظ على الأسماع وحسن جرسها في فصاحة الكلام وبلاغته أيقن أن القرآن فذ الأفذاذ في بابه وعلم الأعلام في بيانه لأن ما فبه من الأساليب البلاغية والموسيقى اللفظية أمر فاق كل فوق وخرج عن كل طوق: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} فأنى لمخلوق بعد هذا أن يحاكيه بترجمة مساوية أو مماثلة: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة الشبهة الأولى ودفعها: يقولون: إن تبليغ هداية القرآن إلى الأمم الأجنبية واجب لما هو معروف من أن الدعوة إلى الإسلام عامة لا تختص بجيل ولا بقبيل وهذا التبليغ الواجب يتوقف على ترجمة القرآن لغير العرب بلغاتهم لأنهم لا يحذقون لغة العرب بينما القرآن عربي وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ونجيب على هذه الشبهة أولا بأن هذا التبليغ لا يتوقف على ترجمة القرآن لهم تلك الترجمة العرفية الممنوعة بل يمكن أن يحصل بترجمته على المعنى اللغوي السالف وهو تفسيره بغير لغته على ما شرحناه آنفا ويمكن أن يكون بتبليغهم هداية القرآن وتعاليمه ومحاسن الإسلام ومزاياه ودفع الشبهات التي تعترضهم في ذلك إما بمحادثات شفهية وإنما بمؤلفات على شكل رسائل تنشر أو مجلات تذاع أو كتب تطبع يختار الداعي من ذلك ما هو أنسب بحال المدعوين وما هو أيسر له وأنجح لدعوته فيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ثانيا أن الله تعالى لم يكلفنا بالمستحيل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقد أشبعنا القول في بيان استحالة ترجمة القرآن بذلك المعنى العرفي استحالة عادية فواضح ألا يكلفنا الله إياها. ثالثا أن القول بوجوب هذه الترجمة يستلزم المحال وهو التناقض في أحكام الله تعالى ذلك أن الله حرمها كما تقرر من قبل فكيف يستقيم القول بأنه أوجبها مع أن الحاكم واحد وهو الله ومحل الحكم واحد وهو الترجمة والمحكوم عليه واحد وهم المكلفون في كل زمان ومكان. رابعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعرف الناس بأحكام الله وأنشط الخلق في الدعوة إلى الله لم يتخذ هذه الترجمة وسيلة إلى تبليغ الأجانب مع أنه قد دعا العرب والعجم وكاتب كسرى وقيصر وراسل المقوقس والنجاشي وكانت جميع كتبه لهم عربية العبارة ليس فيها آية واحدة مترجمة فصلا عن ترجمة القرآن كله وكان كل ما في هذه الكتب دعوة صريحة جريئة إلى نبذ الشرك واعتناق التوحيد والاعتراف برسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته واتباعه وكان صلى الله عليه وسلم يدفع كتبه هذه إلى سفراء يختارهم من أصحابه فيؤدونها على وجهها وهؤلاء الملوك والحكام قد يدعون تراجم يفسرونها لهم وقد يسألون السفراء ومن يتصل بهم عن تعاليم الإسلام وشمائل نبي الإسلام وصفات الذين اتبعوه ومدى نجاح هذه الرسالة مما عساه أن يلقي ضوءا على حقيقة الداعي ودعوته. انظر حديث هرقل في أوائل صحيح البخاري خامسا أن الصحابة رضوان الله عليهم وهم مصابيح الهدى وأفضل طبقة في سلف هذه الأمة الصالح وأحرص الناس على مرضاة الله ورسوله وأعرفهم بأسرار الإسلام وروح تشريعه ولم يفكروا يوما ما في هذه الترجمة فضلا عن أن يحاولوها أو يأتوها بل كان شأنهم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم الأعظم يدعون بالوسائل التي دعا بها على نشاط رائع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 عجيب في النشر والدعوة والفتح فلو كانت هذه الترجمة العرفية من مواجب الإسلام لكان أسرع الخلق إليها رسول الله وأصحابه ولو فعلوه لنقل وتواتر لأن مثله مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره. الشبهة الثانية ودفعها: يقولون إن كتبه إلى العظماء من غير العرب يدعوهم إلى الإسلام تستلزم إقراره على ترجمتها لأنها مشتملة على قرآن وهم أعجام ولأن الروايات الصحيحة ذكرت في صراحة أن هرقل وهو من هؤلاء المدعوين دعا ترجمانه فترجم له الكتاب النبوي وفيه قرآن. والجواب أن هذه الكتب النبوية لا تستلزم إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم على تلك الترجمة العرفية الممنوعة بل هي إذا استلزمت فإنما تستلزم الإقرار على نوع جائز من الترجمة وهو التفسير بغير العربية لأن التفسير بيان ولو من وجه وهو كاف في تفهم مضمون الرسائل المرسلة على أن هذه الرسائل الكريمة لم تشتمل على القرآن كله ولا على آيات كاملة منه بل كل ما فيها مقتبسات نادرة جدا ولا ريب أن المقتبسات من القرآن ليس لها حكم القرآن. وهاكم نماذج تتبينون منها مبلغ هذه الحقيقة: 1 - فكتابه صلى الله عليه وسلم الذي أرسله مع دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من أتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين - أي الفلاحين- ويأهل الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون". فأنت ترى أن ما في هذا الكتاب من القرآن لم يبلغ آية تامة لأن الآية مبتدأة بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ولكن الكتاب حذف منه لفظ: {قُلْ} وزيد فيه حرف الواو والحذف والزيادة دليلان ماديان على الاقتباس". 2 - وكتابه الذي بعث به مع عبد الله بن حذافة إلى كسرى هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس: سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فأن توليت فعليك إثم المجوس". فأنت ترى في هذه الرسالة النبوية أنها اشتملت على كلمة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين على حين أن نص الآية في القرآن الكريم: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} وهذا دليل الاقتباس. 3 - وقل مثل ذلك في سائر رسائله صلى الله عليه وسلم فإن كتابه إلى المقوقس هو نص كتابه إلى هرقل لا فرق بينهما إلا في كلمة الأريسيين إذا أبدلت بها كلمة القبط وإلا في اسم المرسل إليه ومكانته كما هو واضح. 4 - وكذلك كتابه إلى جيفر وعبد ملكي عمان ليس فيه إلا كلمة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وهي التي في رسالته إلى كسرى1   1 راجع ذلك ما كتبه الزرقاني على المواهب "ص 226 – 369 ج 3" والسيرة الحلبية "ص 362 – 378 ج 2". وكتاب العلم من صحيح البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 الشبهة الثالثة ودفعها: يقولون إن جميع المحذورات التي تخشى من الترجمة موجودة في التفسير باللفظ العربي نفسه وقد أجمعت الأمة على عدم التحاشي عن هذه المحذورات فيجب ألا يتحاشى عنها في الترجمة أصلا إذ لا فرق بين التعبير باللفظ العربي والتعبير بالفظ العجمي عن المراد بالآيات بعد أن يكون المعبر والمفسر والمترجم مستكملا للشروط والمؤهلات الواجبة لمن يعرض نفسه للتفسير والترجمة. والجواب: أنهم إن أرادوا بالترجمة في كلامهم تلك الترجمة العرفية فقد بسطنا من وجوه المحذورات فيها ما جعلها حجرا محجورا وإثما محظورا ورسمنا من الفروق ما جعل بينها وبين التفسير بونا بعيدا سواء أكانت هي ترجمة حرفية أم تفسيرية وسواء أكان هو تفسيرا بلغة الأصل أم بغير لغة الأصل. وإن أرادوا بالترجمة في كلامهم تلك الترجمة اللغوية على معنى التفسير بلغة أجنبية فكلامهم في محل التسليم والقبول ولكن لا يجوز أن تخاطب العرف العالمي العام بهذا الإطلاق اللغوي الخاص بنا لأنه لا يعرفه. الشبهة الرابعة ودفعها: يقولون إن الترجمة العرفية للقرآن إذا تعذرت بالنسبة إلى معانيه التابعة فإنها تمكن بالنسبة إلى معانيه الأصلية وعلى هذا فلنترجم القرآن بمعنى أننا ننقل معانيه الأصلية وحدها لا سيما أنها هي المشتملة على الهداية المقصودة منه دون معانية التابعة. ونجيب على هذه الشبهة أولا بأن نقل معاني القرآن الأصلية لا يسمى ترجمة للقرآن عرفا لأن مدلول ألفاظ القرآن مؤلف من المعاني الأصلية والتابعة فترجمته نقل معانية كلها لا فرق بين ما كان منها أوليا وما كان ثانويا ونقل مقاصده كلها كذلك ومحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 نقل جميع هذا كما سبق وعلى هذا لا يجوز أن يعتبر مجرد نقل المعاني الأصلية دون التابعة ودون بقية مقاصده ترجمة له اللهم إلا إذا جاز أن تسمى يد الإنسان إنسانا ورجل الحيوان حيوانا. ثم إن إطلاق الترجمة على هذا المعنى المراد لو كان مقصورا على قائليه ولم يتصل بالعرف العام لهان الخطب وسهل الأمر وأمكن أن يلتمس وجه للتجوز ولو بعيدا ولكن العرف الذي نخاطبه لا يفهم من كلمة ترجمة إلا أنها صورة مطابقة للأصل وافية بجميع معانيه ومقاصده لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية فإذا نحن نقلنا المعاني الأصلية للقرآن وحدها ثم قلنا لأهل هذا العرف العالمي العام هذه هي ترجمة القرآن نكون قد ضللنا أهل هذا العرف من ناحية ثم نكون قد بخسنا القرآن حقه من الإجلال والإكبار من ناحية أخرى فزعمنا أن له مثلا يناصيه وشبيها يحاكيه على حين أن الذي جئنا به ما هو إلا صورة مصغرة لجزء منه وبين هذه الصورة وجلال الأصل مراحل شتى كالذي يصور الجزء الأسفل من إنسان عظيم ثم يقول للناس هذه صورة فلان العظيم. ثانيا أن تلك المعاني التابعة الثانوية فياضة بهدايات زاخرة ومعارف واسعة فلا نسلم أن معاني القرآن الأولية وحدها هي مصدر هداياته وارجع إلى ما ذكرناه سابقا في هذا الصدد فإن فيه الكفاية. الشبهة الخامسة ودفعها: يقولون إن الذين ترجموا القرآن إلى اللغات الأجنبية غيروا معانيه وشوهوا جماله وأخطأوا أخطاء فاحشة فإذا نحن ترجمنا القرآن بعناية أمكن أن نصحح لهم تلك الأخطاء وأن نرد إلى القرآن الكريم اعتباره في نظر أولئك الذين يقرؤون تلك الترجمات الضالة وأن نزيل العقبات التي وضعت في طريقهم إلى هداية الإسلام وبذلك نكون قد أدينا رسالتنا في النشر والدعوة إلى هذا الدين الحنيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 ونجيب على هذا بأن الذين زعموا ترجموا القرآن ترجمة عربية شوهوا جماله وغضوا من مقامه باعترافكم فإن أنتم ترجمتم ترجمتهم وحاولتم محاولتهم فستقعون لا محالة في قريب مما وقعوا فيه وستمسون بدوركم عظمة هذا القرآن وجلاله مهما بالغتم في الحيطة وأمعنتم في الدقة ونبغتم في العلم وتفوقتم في الفهم لأن القرآن أعز وأمنع من أن تناله ريشة أي مصور كان من إنس أو جان كما بينا ذلك أوفى بيان. أما إذا حاولتم ترجمة القرآن على معنى تفسيره بلغة أجنبية فذلك موقف آخر نؤيدكم فيه ونوافقكم عليه وندعو القادرين إليه. الشبهة السادسة ودفعها: يقولون: جاء في صريح السنة ما يؤيد القول بجواز ترجمة القرآن فقد قال الشربنلالي في كتابهة النفحة القدسية ما نصه: روي أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم بنام يزدان يحشايند" فكانوا يقرؤون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم وبعد ما كتب عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المبسوط قاله في النهاية والدراية. ونجيب على هذا من وجوه أولها أن هذا خبر مجهول الأصل لا يعرف له سند فلا يجوز العمل به ثانيها أن الخبر لو كان لنقل وتواتر لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره ثالثها أنه يحمل دليل وهنه فيه ذلك أنهم سألوه أن يكتب لهم ترجمة الفاتحة فلم يكتبها لهم إنما كنب لهم ترجمة البسملة ولو كانت الترجمة ممكنة وجائزة لأجابهم إلى ما طلبوا وجوبا وإلا كان كاتما وكاتم العلم ملعون رابعها أن المتأمل في الخبر يدرك أن البسملة نفسها لم تترجم لهم كاملة لأن هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 الألفاظ التي ساقتها الرواية على أنها ترجمة للبسملة لم يؤت فيها بلفظ مقابل للفظ الرحمن وكأن ذلك لعجز اللغة الفارسية عن وجود نظير فيها لهذا الاسم الكريم. وهذا دليل مادي على أن المراد بالترجمة هنا الترجمةة اللغوية لا العرفية على فرض ثبوت الرواية خامسها أنه قد وقع اختلاف في لفظ هذا الخبر بالزيادة والنقص وذلك موجب لاضطرابه ورده والدليل على هذا الاضطراب أن النووي في المجموع نقله بلفظ آخر هذا نصه: "إن قوما من أهل فارس طلبوا من سلمان أن يكتب لهم شيئا من القرآن فكتب لهم الفاتحة بالفارسية". وبين هذه الرواية وتلك مخالفة ظاهرة إذ إن هذه ذكرت الفاتحة وتلك ذكرت البسملة بل بعض البسملة ثم إنها لم تعرض لحكاية العرض على النبي صلى الله عليه وسلم أما تلك فعرضت له. سادسها أن هذه الرواية على فرض صحتها معارضة للقاطع من الأدلة السابقة القائمة على استحالة الترجمة وحرمتها ومعارض القاطع ساقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 حكم قراءة الترجمة والصلاة بها تكاد كلمة الفقهاء تتفق على منع قراءة ترجمة القرآن بأي لغة كانت فارسية أو غيرها وسواء أكانت قراءة هذه الترجمة في صلاة أم في غير صلاة لولا خلاف واضطراب في بعض نقول الحنفية. وإليك نبذا من أقوال الفقهاء على اختلاف مذاهبهم تتنور بها في ذلك. مذهب الشافعية: 1 - قال في المجموع "ص 389 ج 3": مذهبنا أي – الشافعية - أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب سواء أمكنته العربية أم عجز عنها وسواء أكان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الصلاة أم في غيرها فإن أتى بترجمته في صلاة بدلا عنها لم تصح صلاته سواء أحسن القراءة أم لا وبه قال جماهير العلماء منهم مالك وأحمد وأبو داود. 2 - وقال الزركشي في البحر المحيط: لا تجوز ترجمة القرآن بالفارسية ولا بغيرها بل تجب قراءته على الهيئة التي يتعلق بها الإعجاز لتقصير الترجمة عنه ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذي خص به دون سائر الألسن. 3 - وجاء في حاشية ترشيح المستفيدين "ص 52 ج 1": من جهل الفاتحة لا تجوز له أن يترجم عنها لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} والعجمي ليس كذلك وللتعبد بألفاظ القرآن. 4 - وجاء في الإتقان للسيوطي: لاتجوز قراءة القرآن بالمعنى لأن جبريل أداه باللفظ ولم يبح له إيحاؤه بالمعنى. مذهب المالكية: 1 - جاء في حاشية الدسوقي على شرح الدردير للمالكية "ص 232 – 236 ج 1" لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية بل لا يجوز التكبير في الصلاة بغيرها ولا بمرادفه من العربية فإن عجز عن النطق بالفاتحة بالعربية وجب عليه أن يأتم بمن يحسنها فإن أمكنه الائتمام ولم يأتم بطلت صلاته وإن لم يجد إماما سقطت عنه الفاتحة وذكر الله تعالى وسبحه بالعربية وقالوا على كل مكلف أن يتعلم الفاتحة بالعربية وأن يبذل وسعه في ذلك ويجهد نفسه في تعلمها وما زاد عليها إلا أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذر. 2 - وجاء في المدونة سألت ابن القاسم عمن افتتح الصلاة بالأعجمية وهو لا يعرف العربية ما قول مالك فيه فقال سئل مالك عن الرجل يحلف بالعجمية فكرة ذلك وقال أما يقرأ أما يصلي إنكار لذلك أي ليتكلم بالعربية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 لا بالعجمية قال وما يدريه الذي قال أهو كما قال أي الذي حلف به أنه هو الله ما يدريه أنه هو أم لا قال مالك أكره أن يدعو الرجل بالعجمية في الصلاة ولقد رأيت مالكا يكره العجمي أن يحلف ويستثقله قال ابن القاسم وأخبرني مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن رطانة الأعاجم وقال إنها خب أي خبث وغش. مذهب الحنابلة: 1 - قال في المغني "ص 526 ج 1" ولا تجزئه القراءة بغير العربية ولا إبدال لفظ عربي سواء أحسن القراءة بالعربية أم لم يحسن ثم قال فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته. 2 - وقال ابن حزم الحنبلي في كتابه المحلى "ص 254 ج 3" من قرأ أم القرآن أو شيئا مها أو شيئا من القرآن في صلاته مترجما بغير العربية أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التي انزل الله تعالى عامدا لذلك أو قدم كلمة أو أخرها عامدا لذلك بطلت صلاته وهو فاسق لأن تعالى قال: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} وغير العربي ليس عربيا فليس قرآنا وإحالة عربية القرآن تحريف لكلام الله وقد ذم الله تعالى من فعلوا ذلك فقال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} . ومن كان لا يحسن العربية فليذكر الله تعالى بلغته لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} ولا يحل له أن يقرأ أم القرآن ولا شيئا من القرآن مترجما على أنه الذي افترض عليه أن يقرأه لأنه غير الذي افترض عليه كما ذكرنا فيكون مفتريا على الله. مذهب الحنفية اختلفت نقول الحنفية في هذا المقام واضطرب النقل بنوع خاص عن الإمام ونحن نختصر لك الطريق بإيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع وتوفيق بين النقول اقتطفناها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 مجلة الأزهر "ص 32 و 33 و 66 و 67 من المجلد الثالث" بقلم عالم كبير من علماء الأحناف إذ جاء فيها باختصار وتصرف ما يلي: أجمع الأئمة على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة ويمنع فاعل ذلك أشد المنع لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف في قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه بل بما يوجب الركاكة. وأما القراءة في الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعا للمعنى المتقدم لكن لو فرض وقرأ المصلي بغير العربية أتصح صلاته أم تفسد؟. ذكر الحنفية في كتبهم أن الأمام أبا حنيفة كان يقول أولا إذا قرأ المصلي بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة ثم رجع عن ذلك وقال متى كان قادرا على العربية ففرضه قراءة النظم العربي ولو قرأ بغيرها فسدت صلاته لخلوها من القراءة مع قدرته عليها والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى الأقطاب في المذهب ومنهم نوح ابن مريم وهو من أصحاب أبي حنيفة ومنهم علي بن الجعد وهو من أصحاب أبي يوسف ومنهم أبو بكر الرازي وهو شيخ علماء الحنفية في عصره بالقرن الرابع. ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن قوله لا يعد ذلك المرجوع عنه قولا له لأنه لم يرجع عنه إلا بعد أن ظهر له أنه ليس بصواب وحينئذ لا يكون في مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية في الصلاة للقادر عليها فلا يصخ التمسك به ولا النظر إليه لا سيما أن إجماع الأئمة ومنهم أبو حنيفة صريح في أن القرآن اسم للفظ المخصوص الدال على المعنى لا للمعنى وحده. أما العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمي في أنه لا قراءة عليه ولكن إذا فرض أنه خالف وأدى القرآن بلغة أخرى فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أو نهيا فسدت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 صلاته لأنه متكلم بكلام وليس ذكرا وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته لأن الذكر بأي لسان لا يفسد الصلاة لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة فقد مضى القول بأن القراءة بالترجمة محظورة شرعا على كل حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 توجيهات وتعليقات جاء في كلام بعض الأئمة وأقطاب علماء الأمة ما أوقع بعض كبار الباحثين في اشتباه لذلك نرى إتماما للبحث وتمحيصا للحقيقة أن نسوق نماذج من هذا الكلام ثم نتبعها بما نعتقد توجيها لها أو تعليقا عليها. 1 - كلمة للإمام الشافعي جاء في كتاب الأم للشافعي رحمه الله تحت عنوان إمامة الأعجمي "ص 147 ج 1" ما نصه وإذا ائتموا به فإن أقاما معا أم القرآن ولحن أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غيرها أجزأته ومن خلفه صلاتهم إذا كان أراد القراءة لما نطق به من عجمة ولحن فإن أراد به كلاما غير القراءات فسدت صلاته اهـ. قالوا في بيان مراد الشافعي من كلمته هذه ومراده أن الإمام والمؤتم إذا أحسسنا قراءة الفاتحة ثم لحن أو نطق أحدهما بلهجة أعجمية أو لغة أعجمية في شيء من القرآن غير الفاتحة لا تبطل صلاتهما والمراد من الأعجمية اللهجة ومن اللسان اللغة كما هو استعماله في هذه المواطن فهذا النص يدل على أن اللسان الأعجمي بعد قراءة المفروض عنده وهو الفاتحة لا يبطل الصلاة وهو موافق للحنفية في هذا اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ونقول توجيها لكلام الشافعي وتأييدا لما ذهبنا إليه قد أسلفنا الكلام في مذهب الحنفية فلا نعيده أما الذي ذكروه من أن هذا هو مراد الشافعي رحمه الله فمسلم بيد أنه يحتاج إلى تكملة لا بد منها وهي أن عدم بطلان الصلاة في هذه الصورة مشروط بأن تقصد القراءة أما إذا كان المقصود كلاما غير القراءة فإنها تبطل ثم إن منشأ عدم البطلان ليس هو جواز قراءة غير الفاتحة بالأعجمية كما فهموا إنما منشؤه أن هذه القراءة, بالأعجمية وقعت في غير ركن وفي غير واجب للصلاة لما هو مقرر في مذهب الشافعية من أن قراءة ما زاد على الفاتحة ليس واجبا في الصلاة بحال وهذا لا ينافي أن القرءاة بالأعجمية محرمة كما سبق في نصوص الشافعية بين يديك وكما عرف من كلام الشافعي نفسه وقد أسلفناه قريبا ولهذه المسألة نظائر منها الصلاة في الأرض المغصوبة فإنها محرمة ومع حرمتها فإنها صحيحة ويؤيد حرمة القرءاة بالأعجمية أن الشافعي في كلامه هنا قد سوى بين اللحن والقراءة بالأعجمية ونظمهما في سلك واحد مع ما هو معلوم من أن اللحن في القرآن حرام بإجماع المسلمين. 2 - كلمة للمحقق الشاطبي قال الشاطبي وهو من أعلام المالكية "في ص 44, 45 ج 2" من كتابه الموافقات تحت عنوان منع ترجمة القرآن ما نصه للغة العرب من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران أحدهما من جهة كونها ألفاظ وعبارات دالة على معان مطلقة وهي الدلالة الأصلية والثاني من جهة كونها ألفاظ وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة وهي الدلالة التابعة فالجهة الأولى هي التي تشترك فيها الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ولا تختص بأمة دون أخرى فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتى له ما أراد من غير كلفة ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية وحكاية كلامهم ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها وهذا إشكال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فيه وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار فإن كل خبر يقتضي في هذه الحالة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك وبعد أن مثل الشاطبي لهذا بنحو ما مثلنا سابقا قال وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه وفي بعضها على وجه آخر وفي ثالثة على وجه ثالث وهكذا ما تقرر فيه من الإخبار لا بحسب النوع الأول إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت وما كان ربك نسيا. ثم قال إذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أي الدلالة التابعة من الكلام أن يترجم كلاما العربي بكلام العجم فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي إلا مع فرض استواء اللسانين في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير. وقد نفي ابن قتيبة إمكان الترجمة في القرآن يعني على هذا الوجه الثاني فأما على الوجه الأول فهو ممكن ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معناه وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي اهـ ما أردنا نقله بتصرف طفيف. قالوا: هذا كلام مدلل وبحث موجه من عالم جليل محقق وأصولي نظار مدقق وهو ينطق بجواز ترجمة القرآن مع الدليل والبرهان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 ونحن نقول إن كلام الشاطبي صريح في أن الممكن هو نقل المعاني الأصلية للقرآن دون التابعة وعلى هذا بإطلاقه لفظ ترجمة القرآن على ما أدى تلك المعاني الأصلية وحدها إطلاق لغوي محض لا نخالف فيه بل ندعو إليه ونشجع عليه مع التحفظات التي بسطناها فيما سلف. أما الترجمة العرفية وفيها يساق الحديث فإن الشاطبي لا يريدها قطعا ولا يذهب إلى القول بها لا في القرآن ولا في غير القرآن من النصوص الأدبية ولنا على ذلك أدلة خمسة نسوقها إليك. أولها أنه قال في لغة الواثق تلك الكلمة الصريحة إذا ثبت فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي. ثانيها انه نقل في كلمته المذكورة عن ابن قتيبة أنه نفى إمكان الترجمة في القرآن على هذا الوجه الثاني ثم أقره على هذا النفي بهذا التوجيه. ثالثها أنه مالكي المذهب والمالكية من أشد الناس تحرجا من الترجمة على ما علمت من نصوصهم السابقة. رابعها أنه تردد أثناء بحثه في الترجمة ترددا يدل على أنه لم يقطع برأي يخالف مذهبه إنما هو مجرد بحث فحسب أما الحكم فمسلم على حد قولهم البحث وارد والحكم مسلم والدليل على تردده ما جاء في الجزء الثاني من كتابه الموافقات إذ يقول إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى جهتين كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام هل يختص بجهة المعنى الأصلي أو يعم الجهتين أما استفادتها من الجهة الأولى فلا خلاف فيه وأما استفادتها من الجهة الثانية فهو محل تردد ولكل واحد من الطرفين وجهة من النظر ثم قال قد تبين تعارض الأدلة في المسألة وظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 ان الأقوى من الجهتين جهة المانعين استفادة الأحكام منها لكن بقي فيها نظر آخر ربما إخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية وتخلقات حسنه فيكون لها اعتبار في الشريعة فلا تكون الجهة الثانية خالية الدلالة جملة وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا اهـ مختصرا. أرأيت هذا التردد كله ثم أرأيت كيف أخطأه التوفيق في أن يجزم كما جزمنا باستفادة أنواع الهدايات الإسلامية من جهة المعاني الثانوية للقرآن الكريم على نحو ما فصلناه تفصيلا ومثلنا له تمثيلا والكمال لله وحده. خامسها أنه قال في الجزء الثاني من كتابه الموافقات أيضا "ص 42" إن القرآن أنزل بلسان العرب فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة ثم قال فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهمه ولا سبيل إلى تفهمه من غير هذه الجهة. وذلك برهان يدل على أن ترجمة القرآن في نظره لا يمكن أن تفي بهداياته ومقاصده وأن طالب فهمه لا طريق له إلا أن ينتقل هو إلى القرآن ولغته فيدرسه على ضوء ما تقرر من قواعد هذه اللغة وأساليبها ولا سبيل إلى هذه الدراسة طبعا إلا بحذق هذه اللغة وعلومها. 3 - كلمة لحجة الإسلام الغزالي جاء في حديث المستصفى للغزالي "169 ج 1" ما نصه ويدل على جوازه أي جواز رواية الحديث بالمعنى للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلأن يجوز إبدال عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم وهذا لأنا نعلم ألا تعبد في اللفظ وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق وليس بذلك كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 قالوا إن هذه العبارة بعمومها تتناول القرآن والسنة لأنهما أساس الشرع فترجمتهما إذن جائزة والكتاب كالسنة في هذا الجواز. ونحن نقول إن عبارة الغزالي هذه تأبى هذا الاستنتاج من وجوه أولها ما حكاه من الإجماع في هذا المقام ومعلوم أن الإجماع لم ينعقد أبدا على جواز ترجمة القرآن بل كاد ينعقد على عدم الجواز كما مر بك قريبا. ثانيها أن سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم وهم الذين ساقهم الغزالي هنا مساق الاستدلال لم يترجموا القرآن للأعاجم ولو ترجموه لنقل تواترا لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره إنما كانوا يترجمون تعاليم الإسلام وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر الغزالي نفسه. ثالثها أن الغزالي في عبارته المسطورة قد صرح بأن ما تعبدنا الله فيه باللفظ لا تجوز روايته بالمعنى وعلى هذا لا يجوز أن يترجم بالأولى ولا ريب أن القرآن الكريم متعبد بلفظه إجماعا فلا يجوز أن يروى بالمعنى ولا أن يترجم أبدا. أن عبارة الغزالي في كتابه الوجيز "ص 26 27" موافقة بالنص لما جاء في كتب الشافعية إذ يقول لا تقوم ترجمة الفاتحة مقامها ولا تجزئ الترجمة للعاجز عن العربية وعبارته في كتابه إلجام العوامو "ص 14 – 19" يذهب فيها مذهب المتشددين فيقول بوجوب إبقاء أسماء الله وصفاته والمتشابه من الحديث على ما هي عليه وعدم النطق بها وبألفاظ القرآن بغير العربية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم منذ بضع سنوات اتجه الأزهر اتجاها قويا إلى بحث موضوع ترجمة القرآن الكريم وانتهى الأمر بعد طول النقاش والحوار إلى أن وقررت مشيخته الجليلة ترجمة تفسيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وتألفت بالفعل لجنة من خيره علمائه ورجالات وزارة المعارف لوضع تفسير عربي دقيق للقرآن تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بزساطة لجنة فنية مختارة وقد اجتمعت لجنة التفسير بضع مرات برياسة العلامة الباحث مفتي مصر الأكبر وكان نمن أثر هذه الاجتماعات أن وضعت دستورا تلتزمه في عملها العظيم ثم بعثت بهذا الدستور إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية في الأقطار الأخرى لتستطلعم آراءهم في هذا الدستور رغبة منها في أن يخرج هذا التفسير العربي في صورة ما أجمع عليه إلا يكنه. وبما أن هذا الدستور قد حوى من ألوان الحيطة والحذر ما يتفق وجلال الغاية فإنا نعرض عليك هنا مواده وقواعده لتضيفها أنت إلى ما أبديناه من التحفظات السابقة وها هي تلك القواعد كما جاءت في مجلة الأزهر "648,649.من المجلد السابع": 1 - أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية. 2 - ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية فلا يذكر مثلا التفسير العلمي للرعد والبرق عند آية فيها رعد وبرق ولا رأي الفلكيين في السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم إنما تفسير الآية بما يدل عليه اللفظ العربي ويوضح موضع العبرة والهداية فيها. 3 - إذا مست الحاجة إلى التوسع في تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة في حاشية التفسير. 4 - ألا تخضع اللجنة إلا لما عليه الآية الكريمة فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية ولا مذهب معين من المذاهب الكلامية وغيرها ولا تتعسف في تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 5 - أن يفسر القرآن بقراءة حفص ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها. 6 - أن يجتنب التكلف في ربط الآيات والسور بعضها ببعض. 7 - أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث وأعان على فهم الآية. 8 - عند التفسير تذكر الآية كاملة أو الآيات إذا كانت كلها مرتبطة بموضوع واحد ثم تحرر معاني الكلمات وفي دقة ثم تفسر معاني الآية أو الآيات مسلسلة في عبارة واضحة قوية ويوضع سبب النزول والربط وما يؤخذ من الآيات في الوضع المناسب. 9 - ألا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات. 10 - يوضع في أوائل كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها في السورة أمكية هي أم مدينة وماذا في السورة المكية من آيات مدنية والعكس. 11 - توضع للتفسير مقدمة في التعريف بالقرآن وبيان مسلكه في كل ما يحتويه من فنونه كالدعوة إلى الله وكالتشريع والقصص والجدل ونحو ذلك كما يذكر فيها منهج اللجنة في تفسيرها طريقة التفسير: ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التي تتبعها في تفسير معاني القرآن الكريم ننشرها فيما يلي: 1 - تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور فتفحص مروياتها وتنقد ويدون الصحيح منها بالتفسير مع بيان وجه قوة القوي وضعف الضعيف من ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 2 - تبحث مفردات القرآن الكريم بحثا لغويا وخصائص التراكيب القرآنية بحثا بلاغيا وتدون. 3 - تبحث آراء المفسرين بالرأي والتفسير بالمأثور ويختار ما تفسر الأية به مع بيان وجه رد المردود وقبول المقبول. 4 - وبعد ذلك كله يصاغ التفسير مستوفيا ما نص على استيفائه في الفقرة الثانية من القواعد السابقة وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لإفهام جمهرة المتعلمين خال من الإغراب والصنعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 فذلكة المبحث لقد انتهى بنا هذا المبحث كما ترى إلى حقائق مهمة اعتقد أنها إذا روعيت بإنصاف أزالت خلاف المختلفين في هذا الموضوع أو جعلته خلافا لفظيا لا يليق أن يكون مثارا لجدال ولا مجالا لنزاع فترجمة القران حرفية كانت أو تفسيرية غير تفسيره بلغة عربية أو أجنبية وتفسير القرآن بلغة أجنبية يساوي ترجمة التفسير العربي للقران الكريم وترجمة القران بالمعنى العرفي العام لا بد لتحقيقها من الوفاء بجميع معاني القران ومقاصده سواء أكانت ترجمه حرفية أم تفسيرية وما الفرق بين الحرفية والتفسيرية إلا شكلي هو مراعاة ترتيب الأصل ونظامه في الأولى دون الثانية وترجمه القران مشترك لفظي بين معان أربعة منها ما اتفقوا على جوازه وهو ترجمته بمعنى تبليغ ألفاظه وترجمته بمعنى تفسيره بلغة عربية ومنها ما يجب أن يتفقوا على منعه وهو ترجمته بمعنى نقله إلى لغة أجنبية مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده ومنها ما اختلف فيه ولكن الأدلة متضافرة على جوازه وهو ترجمته بمعنى تفسيره بلغة أجنبية مع استيفاء شروط التفسير والترجمة فيه ومع التحفظات التي أبديناها وأبدتها لجنة التفسير الأزهرية من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وتعجبني لهذه المناسبة كلمة للزركشي في كتابه البحر المحيط أسوقها إليك في الختام إذ قال: مسألة لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية وغيرها بل يجب قراءته على هيئته التي يتعلق بها الإعجاز لتقصير الترجمة عنه ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذي خص به دون سائر الألسن قال الله تعالى: بلسان عربي مبين هذا لو لم يكن متحدى بنظمه وأسلوبه وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربي المتحدي بنظمه فأحرى ألا تجوز بالترجمة بلسان غيره ومن هنا قال القفال في فتاويه عندي أنه لا يقدر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية قيل له فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن قال ليس كذلك لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله. وفرق غيره بين الترجمة والتفسير فقال يجوز تفسير الألسن بعضها ببعض لأن التفسير عبارة عما قام في النفس من المعنى للحاجة والضرورة والترجمة هي إبدال اللفظة بلفظة تقوم مقامها في مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ فكأن الترجمة إحالة فهم السامع على الاعتبار والتفسير تعريف السامع بما فهم المترجم وهذا فرق حسن اهـ. أحسن الله لنا الخاتمة وجمعنا جميعا على الحق والرشد وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 المبحث الرابع عشر: في النسخ أهمية هذا المبحث : لهذا المبحث أهمية خاصة وذلك من وجوه خمسة أولها أنه طويل الذيل كثير التفاريع متشعب المسالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 ثانيها أنه تناول مسائل دقيقة كانت مثارا لخلاف الباحثين من الأصوليين الأمر الذي يدعو إلى اليقظة والتدقيق وإلى حسن الاختيار مع الإنصاف والتوفيق. ثالثها أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين قد اتخذوا من النسخ في الشريعة الإسلامية أسلحة مسمومة طعنوا بها في صدر الدين الحنيف ونالوا من قدسية القرآن الكريم ولقد أحكموا شراك شبهاتهم واجتهدوا في ترويج مطاعنهم حتى سحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم والدين من المسلمين فجحدوا وقوع النسخ وهو واقع وأمعنوا في هذا الجحود الذي ركبوا له أخشن المراكب من تمحلات ساقطة وتأويلات غير سائغة. رابعها أن الإلمام بالناسخ والمنسوخ بكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق وسياسته للبشر وابتلائه للناس مما يدل دلالة واضحة على أن نفس محمد النبي الأمي لا يمكن أن تكون المصدر لمثل هذا القرآن ولا المنبع لمثل هذا التشريع إنما هو تنزيل من حكيم حميد. خامسها أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام خصوصا إذا ما وجدت أدلة متعارضة لا يندفع التناقض بينها إلا بمعرفة سابقها من لاحقها وناسخها من منسوخها ولهذا كان سلفنا الصالح يعنون بهذه الناحية يحذقونها ويلفتون أنظار الناس إليها ويحملونهم عليها حتى لقد جاء في الأثر أن ابن عباس رضي الله عنهما فسر الحكمة في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} بمعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وورد أن عليا كرم الله وجهه دخل المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال ما هذا قالوا رجل يذكر الناس فقال ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني فأرسل إليه فقال أتعرف الناسخ ومن المنسوخ قال لا قال فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه وروي أنه كرم الله وجهه مر على قاص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 فقال أتعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت يريد أنه عرض نفسه وعرض الناس للهلاك ما دام أنه لا يعرف الناسخ من المنسوخ. لهذه الوجوه الخمسة التي بسطناها يقتضينا الواجب أن نعنى بهذا المبحث وأن نسير فيه بقدر على حذر متوسعين فيما ينبغي التوسيع فيه مقتصدين فيما وراء ذلك وحسبنا الله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ما هو النسخ ؟ النسخ في اللغة: يطلق النسخ في لغة العرب على معنيين أحدهما إزالة الشيء وإعدامه ومنه قول الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب ومنه تناسخ القرون والأزمان. والآخر نقل الشيء وتحويله مع بقائه في نفسه وفيه يقول السجستاني من أئمة اللغة والنسخ أن تحول ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم وتناسخ الأنفس بانتقالها من بدن إلى غيره عند القائلين بذلك ومنه نسخ الكتاب لما فيه من مشابهة النقل وإليه الإشارة بقوله تعالى: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف ومن الصحف إلى غيرها اهـ. وقد اختلف العلماء بعد ذلك في تعيين المعنى الذي وضع له لفظ النسخ فقيل إن لفظ النسخ وضع لكل من المعنيين وضعا أوليا وعلى هذا يكون مشتركا لفظيا وهو الظاهر من تبادر كلا المعنيين بنسبة واحدة عند إطلاق لفظ النسخ وقيل إنه وضع المعنى الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وحده فهو حقيقة فيه مجاز في الآخر وقيل عكس ذلك وقيل وضع للقدر المشترك بينهما ولكن هذه الآراء الأخيرة يعوزها الدليل ولا يخلو توجيهها من تكلف وتأويل النسخ في الاصطلاح: لقد عرف النسخ في الاصطلاح بتعاريف كثيرة مختلفة لا نرى من الحكمة استعراضها ولا الموازنة بينها ونقدها وما دام الغرض منها كلها هو تصوير حقيقة النسخ في لسان الشرع فإننا نجتزئ بتعريف واحد نراه أقرب وأنسب وهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي. ومعنى رفع الحكم الشرعي قطع تعلقه بأفعال المكلفين لا رفعه هو فإنه أمر واقع والواقع لا يرتفع والحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين إما على سبيل الطلب أو الكف أو التخيير وإما على سبيل كون الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا والدليل الشرعي هو وحي الله مطلقا متلوا أو غير متلو فيشمل الكتاب والسنة أما القياس والإجماع ففي نسخهما والنسخ بهما كلام تستقبله في موضع آخر. وقولنا رفع جنس في التعريف خرج عنه ما ليس برفع كالتخصيص فإنه لا يرفع الحكم وإنما يقصره على بعض أفراده وسيأتي بسط الفروق بين النسخ والتخصيص فانتظره. وقولنا الحكم الشرعي قيد أول خرج به ابتداء إيجاب العبادات في الشرع فإنه يرفع حكم العقل ببراءة الذمة وذلك كإيجاب الصلاة فإنه رافع لبراءة ذمة الإنسان منها قبل ورود الشرع بها ومع ذلك لا يقال له نسخ وإن رفع هذه البراءة لأن هذه البراءة حكم عقلي لا شرعي بمعنى أنه حكم يدل عليه العقل حتى من قبل مجيء الشرع ولا يقدح في كونه حكما عقليا أن الشرع جاء يؤيده بمثل قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وقولنا بدليل شرعي قيد ثان خرج به رفع حكم شرعي بدليل عقلي وذلك كسقوط التكليف عن الإنسان بموته أو جنونه أو غفلته فإن سقوط التكليف عنه بأحد هذه الأسباب يدل عليه العقل إذ الميت والمجنون والعاقل لا يعقلون خطاب الله حتى يستمر تكليفهم والعقل يقضي بعدم تكليف المرء إلا بما يتعقله وأن الله تعالى إذا أخذ ما وهب أسقط ما وجب ولا يقدح في كون هذا الدليل عقليا مجيء الشرع معززا له بمثل قوله: "رفع القلم عن ثلاث النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق". توجيهات أربعة: وإني أوجه نظرك في هذا التعريف إلى نقاط أربع: أولاها أن التعبير برفع الحكم يفيد أن النسخ لا يمكن أن يتحقق إلا بأمرين أحدهما أن يكون هذا الدليل الشرعي متراخيا عن دليل ذلك الحكم الشرعي المرفوع والآخر أن يكون بين هذين الدليلين تعارض حقيقي بحيث لا يمكن الجمع بينهما وإعمالهما معا أما إذا انتفى الأمر الأول ولم يكن ذلك الدليل الشرعي متراخيا عن دليل الحكم الأول فلا نسخ وذلك كقوله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإن الغاية المذكورة وهي قوله إلى الليل تفيد انتهاء حكم الصوم وهو وجوب إتمامه بمجرد دخول الليل ولكن لا يقال لهذه الغاية الدالة على انتهاء هذا الحكم إنها نسخ وذلك لاتصالها بدليل الحكم الأول وهو قوله ثم أتموا الصيام بل تعتبر الغاية المذكورة بيانا أو إتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط فلا يكون رافعا وإنما يكون رافعا إذا ورد الدليل الثاني بعد أن ورد الحكم مطلقا واستقر من غير تقييد بحيث يدوم لولا الناسخ ولهذا زاد بعضهم تقييد الدليل الشرعي في تعريف الناسخ بالتراخي وزاد بعضهم كلمة على وجه لولاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لكان الحكم الأول ثابتا وقد علمت من هذا الذي ذكرناه أنه لا حاجة إلى هاتين الزيادتين بل هما تصريح بما علم من التعبير في التعريف بكلمة رفع وأما إذا انتفى الأمر الثاني بأن لم يكن بين الدليلين تعارض حقيقي فإنه لا نسخ لأن النسخ ضرورة لا يصار إليها إلا إذا اقتضاها التعارض الحقيقي دفعا للتناقض في تشريع الحكيم العليم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وحيث لا تعارض هناك على الحقيقة فلا حاجة إلى النسخ لأنه لا تناقض ولا ريب أن إعمال الدليلين ولو بنوع تأويل خير من إعمال دليل وإهدار آخر ولهذا حكم الغزالي في كتابه المستصفى بغلط من زعموا تعارضا وتوهموا نسخا بين قوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وبين الخبر الوارد بقبول شهادة الواحد واليمين معتمدين على ما ظهر لهم في الآية من أنها تدل على أنه لا حجة للحكم سوى المذكور فيها من شهادة اثنين مع أن هذا الظاهر لهم غير صحيح لأن الآية لا تدل إلا على كون الشاهدين حجة وعلى جواز الحكم بقولهما أما امتناع الحكم بحجة أخرى كما فهموا فلا تدل الآية عليه حتى يكون تعارض بينها وبين الخبر المذكور بل هو كالحكم بالإقرار وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود حجة أخرى. ثانيتها أن التعريف المذكور يفيد أن النسخ لا يتوجه إلا إلى الحكم وهو كذلك في الواقع ونفس الأمر وتقسيمهم النسخ إلى نسخ تلاوة ونسخ حكم تقسيم صوري للإيضاح فحسب لأن ما أسموه نسخ تلاوة لم يخرج عن كونه نسخ حكم إذ أن نسخ تلاوة الآية لا معنى له في الحقيقة إلا نسخ حكم من أحكامها وهو رفع الإثابة على مجرد ترتيلها وصحة الصلاة بها ونحوهما. ثالثتها أن هذا التعريف يشمل النسخ الواقع في الكتاب وفي السنة جميعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 سواء أكانت السنة قولية أم فعلية أو وصفية أم تقريرية وسواء منها ما كان نبويا وما كان قدسيا لأنها كلها وحي بالفعل أو بالقوة والرسول صلى الله عليه وسلم أقامه الله في محراب الإمامة لخلقه وجعله الأسوة الحسنة لعباده وأمر الجميع باتباعه فهو إذن لا يمكن أن يصدر فيما يشرع لأمته ابتداء أو نسخا إلا عن إيحاء الله إليه تصريحا أو تقريرا. مثال نسخ الكتاب بالكتاب قوله سبحانه: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} فإنها نسخت بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . ومثال نسخ السنة بالسنة نسخ الوضوء مما مست النار بأكله صلى الله عليه وسلم من الشاة ولم يتوضأ. رابعتها أن الإضافة في كلمة رفع الحكم الشرعي الواردة في تعريف النسخ من قبيل إضافة المصدر لمفعوله والفاعل مضمر وهو الله تعالى وذلك يرشد إلى أن الناسخ في الحقيقة هو الله كما يدل عليه قوله سبحانه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} ويرشد أيضا إلى أن المنسوخ في الحقيقة هو الحكم المرتفع وقد يطلق الناسخ على الحكم الرافع فيقال وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء وقد يطلق النسخ على دليله كذلك فيقال آية المواريث نسخت آية الوصية للوالدين والأقربين ويقال خبر أكل الرسول صلى الله عليه وسلم من الشاة ولم يتوضأ ناسخ لخبر وضوئه مما مست النار وهلم والخطب في ذلك جد يسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ما لا بد منه في النسخ ولعلك تدرك مما سبق أنه لا بد في تحقق النسخ من أمور أربعة: أولها أن يكون المنسوخ حكما شرعيا. ثانهيا أن يكون دليل رفع الحكم دليلا شرعيا. ثالثها أن يكون هذا الدليل الرافع متراخيا عن دليل الحكم الأول غير متصل به كاتصال القيد بالمقيد والتأقيت بالمؤقت. رابعها أن يكون بين ذينك الدليلين تعارض حقيقي. تلك أربعة لا بد منها لتحقيق النسخ باتفاق جمهرة الباحثين وثمة شروط اختلفوا في شرطيتها منها أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة ومنها كون النسخ مشتملا على بدل للحكم المنسوخ ومنها كون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهي والمضيق للموسع ومنها كون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين إلى غير ذلك مما يطول شرحه وقد يأتيك نبؤه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 الفرق بين النسخ والبداء البداء بفتح الباء يطلق في لغة العرب على معنيين متقاربين. أحدهما الظهور بعد الخفاء ومنه قوله الله سبحانه: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} , {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} ومنه قولهم بدا لنا سور المدينة. والآخر نشأة رأي جديد لم يك موجودا قال في القاموس وبدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة أي نشأ له فيه رأي ومنه قول الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} أي نشأ لهم في يوسف رأي جديد هو أن يسجن سجنا وقتيا بدليل قوله: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ولعل هذا المعنى الثاني هو الأنسب والأوفق بمذهب القائلين به قبحهم الله ولأن عباراتهم المأثورة عنهم جرت هذا المجرى في الاستعمال دون الاستعمال الأول كتلك الكلمة التي نسبوها كذبا إلى جعفر الصادق رضي الله عنه ما بدا لله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل. ذانك معنيان متقاربان للبداء وكلاهما مستحيل على الله تعالى لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم والجهل والحدوث عليه محالان لأن النظر الصحيح في هذا العالم دلنا على أن خالقه ومدبره متصف أزلا وأبدا بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن كما هدانا هذا النظر الصحيح إلى أنه تعالى لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلا للحوادث وإلا لكان ناقصا يعجز عن أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبير المعجز ذلك إجمال لدليل العقل. أما أدلة النقل فنصوص فياضة ناطقة بأنه تعالى أحاط بكل شيء علما وأنه لا تخفى عليه خافية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} , {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} , {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} . إلى غير ذلك من مئات الآيات والأحاديث. ولكن على رغم أنف هذه البراهين الساطعة من عقلية ونقلية ضل أقوام سفهوا أنفسهم فأغمضوا عيونهم عن النظر في كتاب الكون الناطق وصموا آذانهم عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 سماع كلام الله وكلام نبيه الصادق وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء وهكذا اشتبهوا أو شبهوا على الناس الأمر لولا ظهور مصلحة لله ونشوء رأي جديد له ما نسخ أحكامه وبدل تعاليمه ونسوا أو تناسوا أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ما ظهر له أمر كان خافيا عليه وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل إنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده بل من قبل أن يخلق الخلق ويبرأ السماء والأرض إلا أنه جلت حكمته علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة وبمصلحة أخرى ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم وأن الأحكام وحكمها والعباد ومصالحهم والنواسخ والمنسوخات كانت كلها معلومة لله من قبل ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده لا ظهور ذلك له على حد التعبير المعروف شؤون يبديها ولا يبتديها وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . اجتمعت اليهود والرافضة على هذه الضلالة ضلالة استلزام النسخ للبداء لكنهم افترقوا بعد ذلك إلى ناحيتين خطيرتين فاليهود أنكروا النسخ وأسرفوا في الإنكار لاستلزامه في زعمهم البداء وهو محال وسنناقشهم الحساب فيما بعد إن شاء الله أما الرافضة فأثبتوا النسخ ثم أسرفوا في إثبات هذا البداء اللازم له في زعمهم ونسبوه إلى الله في صراحة ووقاحة: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} ولقد رأيت كيف أبطلنا مزاعمهم بأدلة عقلية ونقلية ورأيت كيف فندنا شبهتهم التي زعموها دليلا وما هي بدليل إن هي إلا خلط في أوهام ومشي في غير سبيل وشتان شتان بين النسخ القائم على الحكمة ورعاية المصلحة وبين البداء المستلزم لسبق الجهل وطرو العلم!. بقي أنهم تمسحوا في أمرين أولهما قوله سبحانه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} والجواب أنه لا مستند لهم في الآية الكريمة بل هي ترد عليهم كما ردت على أشباههم ممن عابوا النسخ على النبي صلى الله عليه وسلم. ومعناها أن الله يغير ما شاء من شرائعه وخلقه على وفق علمه وإرادته وحكمته وعلمه سبحانه لا يتغير ولا يتبدل إنما التغير في المعلوم لا في العلم بدليل قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي وعنده المرجع الثابت الذي لا محو فيه ولا إثبات وإنما يقع المحو والإثبات على وفقه فيمحو سبحانه شريعة ويثبت مكانها أخرى ويمحو حكما ويثبت آخر ويمحو مرضا ويثبت صحة ويمحو فقرا ويثبت غنى ويمحو حياة ويثبت موتا وهكذا تعمل يد الله في خلقه وتشريعاته تغييرا وتبديلا وهو الحق وحده لا يعروه تغيير ولا تبديل ولا يتطرق إلى علمه محو ولا إثبات. وخلاصة هذا التوجيه أن النسخ تبديل في المعلوم لا في العلم وتغيير في المخلوق لا في الخالق وكشف لنا وبيان عن بعض ما سبق به علم الله القديم المحيط بكل شيء ولهذا ذهب كثير من علمائنا إلى تعريف النسخ بأنه بيان انتهاء الحكم الشرعي الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي ثم قالوا توجيها لهذا الاختيار إن هذا التعريف دفعا ظاهرا للبداء وتقريرا لكون النسخ تبديلا في حقنا بيانا محضا في حق صاحب الشرع. الأمر الثاني أنهم تشبثوا بآثار نسبوها إلى أئمة طاهرين منها أن عليا كرم الله وجهه كان يقول لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة ومنها أن جعفر الصادق رضي الله عنه قال: ما بدا الله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل ومنها أن موسى بن جعفر قال: البداء ديننا ودين آبائنا في الجاهلية. وندفع هذا بأنها مفتريات وأكاذيب كان أول من حاك شباكها الكذاب الثقفي الذي كان ينتحل لنفسه العصمة وعلم الغيب فإذا ما افتضح أمره وكذبته الأيام قال إن الله وعدني ذلك غير أنه بدا له فإذا أوجس في نفسه خيفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 من أن يؤاخذه الناس وينتقموا منه على هذا الكفر الشنيع نسب تلك الكفريات إلى أعلام بيت النبوة وهم منها براء وهكذا كان اللعين وأشياعه يحتجون بكفر على كفر ويستدلون بكذب على كذب ويعالجون داء بداء ومن يضلل الله فما له من هاد نسأل الله السلامة بمنه وكرمه آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الفرق بين النسخ والتخصيص قد عرفنا النسخ بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي وقد عرفوا التخصيص بأنه قصر العام على بعض أفراده وبالنظر في هذين التعريفين نلاحظ أن هناك تشابها قويا بين المعرفين فالنسخ فيه ما يشبه تخصيص الحكم ببعض الأزمان والتخصيص فيه ما يشبه رفع الحكم عن بعض الأفراد ومن هذا التشابه وقع بعض العلماء في الاشتباه فمنهم من أنكر وقوع النسخ في الشريعة زاعما أن كل ما نسميه نحن نسخا فهو تخصيص ومنهم من أدخل صورا من التخصيص في باب النسخ فزاد بسبب ذلك في عداد المنسوخات من غير موجب. لهذا نقيم لك فروقا سبعة بين النسخ والتخصيص تهديك في ظلمات هذا الاشتباه وتعصمك من أن تتورط فيما تورط فيه سواك. أولها أن العام بعد تخصيصه مجاز لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده مع أن لفظه موضوع للكل والقرينة هي المخصص وكل ما كان كذلك فهو مجاز أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا افعلوا كذا أبدا ثم نسخه بعد زمن قصير فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره بل هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 ما زال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصا بدليل قوله: {أَبَداً} غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه. فإن سأل سائل ما حكمة تأبيد النص لفظا بينما هو مؤقت في علم الله أزلا أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده أيخضعون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا فإذا ماز الله الخبيث من الطيب والمطمئن إلى حكمه من التمرد عليه جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه. ثانيها أن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العام أصلا بخلاف ما خرج بالنسخ فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا. ثالثها أن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد ولا على النهي لمنهي واحد أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم. رابعها أن النسخ يبطل حجية المنسوخ إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه. خامسها أن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل هذا قوله الله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قد خصصه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا في ربع دينار" وهذا قوله سبحانه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وعدم تدمير الريح لهما وهذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قد خصصه ما حكم به العقل من استحالة تعلق القدرة الإلهية بالواجب والمستحيل العقليين. سادسها أن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن وقال قوم لا يكون التخصيص إلا بمقارن فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه كما إذا قال الشارع: اقتلوا المشركين وبعد وقت العمل به قال ولا تقتلوا أهل الذمة ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز فلم يبق إلا اعتباره ناسخا. سابعها أن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 النسخ بين مثبتيه ومنكريه يذهب أهل الأديان مذاهب ثلاثة في النسخ: أولها: أنه جائز عقلا وواقع سمعا وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه وعليه أيضا إجماع النصارى ولكن من قبل هذا العصر الذي خرقوا فيه إجماعهم وركبوا فيه رؤوسهم وهو كذلك رأي العيسوية وهم طائفة من طوائف اليهود الثلاث. ثانيها أن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وإليه جنح النصارى جميعا في هذا العصر وتشيعوا له تشيعا ظهر في حملاتهم المتكررة على الإسلام وفي طعنهم على هذا الدين القويم من هذا الطريق طريق النسخ وبهذه الفرية أيضا يقول الشمعونية وهم طائفة ثمانية من اليهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 ثالثها أن النسخ جائز عقلا ممتنعا سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود ويعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهرة المسلمين شبيها بالخلاف اللفظي إلا يكنه. ذلك إجمالا لآراء المتدينين في النسخ وسنفصل القول فيها بما نعرضه عليك ففرغ له بالك ووجه إليه انتباهك ولنبدأ بتأييد المذهب الحق وعرض أدلته ثم لنبين حكمة الله فيه وبعد ذلك نستعرض المذاهب الأخرى وما استندت إليه على أنها شبهات ندفعها عن عرين الحق وأغشية نرفعها عن وجه الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا لأجل أن نثبت النسخ في مواجهة منكريه جميعا نقيم أدلة على جوازه العقلي وأدلة أخرى على وقوعه السمعي. أ - أدلة جواز النسخ عقلا. أما أدلة جوازه العقلي فأربعة إجمالا ولا يضير بعضها أن يكون دليلا على الجواز والوقوع معا. الدليل الأول أن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعبادة أو لا يجب أن تتبعها. فأهل السنة يقولون إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده ولكن ليس معنى هذا انه عابث أو مستبد أو ظالم بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} , {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ} , {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} , {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . والمعتزلة يقولون إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة أخرى أمرهم به تارة ونهاهم عنه أخرى. إذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمة وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا. وما على مذهب أهل الاعتزال فننظم الدليل هكذا النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا. وكيف يكون محظور عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال فالطبيب يأمر مريضه بتناول الدواء ما دام مريضا ثم ينهاه عنه إذا أبل من مرضه وعاد سليما والمربية تقدم إلى طفلها أخف الأغذية من لبن ونحوه دون غيره فإذا ترعرع ودرج حرمت عليه المراضع ثم انتقلت به إلى غذاء غير اللبن ونحوه وهكذا تنتقل به من الخفيف إلى الثقيل ومن الثقيل إلى الأثقل تبعا لتدرجه في مدارج القوة والنضج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 والمعلم يتعهد تلاميذه البادئين بأسهل المعلومات ثم يتدرج بهم من الأسهل إلى السهل ومن السهل إلى الصعب ومن الصعب إلى الأصعب حتى يصل بهم إلى أدق النظريات مقتفيا في ذلك آثار خطاهم إلى السمو الفكري والكمال العقلي. كذلك الأمم تتقلب كما يتقلب الأفراد في أطوار شتى فمن الحكمة في سياستها وهدايتها أن يصاغ لها من التشريعات ما يناسب حالها في الطور الذي تكون فيه حتى إذا انتقلت منه إلى طور آخر لا يناسبه ذلك التشريع الأول حق أن يصاغ لها تشريع آخر يتفق وهذا الطور الجديد وإلا لاختل ما بين الحكمة والأحكام من الارتباط والإحكام ولم يجر تدبير الخلق على ما نشهده من الإبداع ودقة النظام!. وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فإنه يفهم منها أن كل آية يذهب بها الله تعالى على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل فإنه جلت حكمته يأتي عباده بنوع آخر هو خير لهم من الآية الذاهبة أو مثلها والخيرية قد تكون في النفع وقد تكون في الثواب وقد تكون في كليهما أما المثلية فلا تكون إلا في الثواب فقط وذلك لأن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير ارتفاع الحكم الأول فإن المصلحة المنوط بها ذلك الحكم ترتفع ولا تبقى إلا مصلحة الآية المأتي بها فتكون خيرا من الذاهبة في نفعها لا محالة وإذا قدر بقاء الحكم الأول وكان النسخ للتلاوة وحدها فالمصلحة الأولى باقية على حالها لم يجد غيرها حتى يكون خيرا منها أو مثلها. الدليل الثاني وهو دليل إلزامي للمنكرين أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته لكنهم يجوزون هذا عقلا ويقولون بوقوعه سمعا فليجوزوا هذا لأنه لا معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ وهذا ليس بفارق مؤثر. فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان "صوموا إلى نهاية هذا الشهر" مساو لأن يقول أول يوم من رمضان "صوموا" من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان قال أول يوم من شوال "أفطروا" وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه والمتساويات يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين. الدليل الثالث أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية وإذن فالنسخ جائز وواقع أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخه لو لم يكن جائزا وواقعا لكانت الشرائع الأولى باقية ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. الدليل الرابع ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة. ب - أدلة وقوع النسخ سمعا: الأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان أحدهما تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم والآخر تقوم به الحجة على من آمن بنبوته كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين وكالعيسوية من اليهود فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام ولكن يقولون إلى العرب خاصة وهؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به ومن ذلك عموم دعوته والنسخ الوارد في الكتاب والسنة. النوع الأول: أما النوع الأول فآحاده كثيرة تفيض بها كتبهم الدينية ونحن نجتزئ منها بما يلي إلزاما لهم وإن كنا لا نؤمن بكل ما آمنوا به. أولا جاء في السفر الأول من التوارة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم. ثانيا جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد له في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمه هذا للآخر ويزوج توأمه الآخر لهذا وهكذا إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم. ثالثا أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده عليهما السلام ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك. رابعها أن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم خامسا أن الله أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ثم أمرهم برفع السيف عنهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 سادسا أن الجمع بين الأختين كان مباحا في شريعة يعقوب ثم حرم في شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام. سابعا أن الطلاق كان مشروعا في شرعة موسى ثم جاءت شريعة عيسى فحرمته إلا إذا ثبت الزنى على الزوجة. ثامنا أنهم نقلوا عن عيسى في إنجيل متى أنه قال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة فهذا يدل على أن رسالة عيسى رسالة محلية خاصة بالإسرائيليين ثم نقلوا عن عيسى نفسه في إنجيل مرقس أنه قال اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها فإذا أحسنا النية بالإنجيلين كان لا مناص لنا من القول بنسخ النص الأول بالثاني وإلا فإن النصين يتناقضان ويتساقطان ويسقط بسقوطهما الإنجيلان بل تسقط الأناجيل كلها لأنها متماثلة وما جاز على أحد الأمثال يجوز على الآخر. تاسعا أن الختان كان فريضة في دين إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم ولكن الحواريين جاؤوا بعد رفع عيسى فنهوا عن الختان كما ثبت ذلك في رسائل الحواريين فإما أن يكون هذا نسخا وإما أن يكون افتراء وكذبا لأنه لم يؤثر عن عيسى كلمة واحدة تدل على نسخ الختان. عاشرا أن أكل لحم الخنزير محرم في اليهودية ومضى عهد عيسى دون أن يعرف عنه ما يدل على إباحته ولكن الحورايين جاؤوا بعد عروج عيسى أيضا فأباحوا لحم الخنزير على زعم المسيحيين فإما أن يكون هذا نسخا وإما أن يكون افتراء وكذبا نحو ما سبق. النوع الثاني: ذلك هو النوع الأول من أدلة النسخ السمعية أما النوع الثاني فمنه ما يأتي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 أولا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . ثانيا قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وقد أسلفنا الكلام على هاتين الآيتين ونزيدك أن دلالتهما على وقوع النسخ ملحوظ فيهما أنهما نزلتا ردا على طعن الطاعنين على الإسلام ونبي الإسلام بوقوع النسخ في الشريعة المطهرة. ثالثا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . ووجه الدلالة في هذه الآية أن التبديل يتألف من رفع لأصل وإثبات لبدل وذلك هو النسخ سواء أكان المرفوع تلاوة أم حكما. رابعا قوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ووجه الدلالة فيها أنها تفيد تحريم ما أحل من قبل وما ذلك إلا نسخ وكلمة أحلت لهم يفهم منها أن الحكم الأول كان حكم شرعيا لا براءة أصلية. خامسا أن سلف الأمة أجمعوا على أن النسخ وقع في الشريعة الإسلامية كما وقع بها. سادسا أن في القرآن آيات كثيرة نسخت أحكامها. وهذا دليل في طيه أدلة متعددة لأن كل آية من هذه الآيات المنسوخة تعتبر مع ناسخها دليلا كاملا على وقوع النسخ إذا الوقوع يكفي في إثباته وجود فرد واحد وسنتحدث فيها بعد إن شاء الله عن هذه الآيات المنسوخة وما نسخها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 حكمة الله في النسخ الآن وقد عرفنا النسخ وفرقنا بينه وبين ما يلتبس به وأيدناه بالأدلة يجدر بنا أن نبين حكمة الله تعالى فيه لأن معرفة الحكمة تريح النفس وتزيل اللبس وتعصم من الوسوسة والدس خصوصا في مثل موضوعنا الذي كثر منكروه وتصيدوا لإنكاره الشبهات من هنا وهناك. ولأجل تفصيل القول في الحكمة نذكر أن النسخ وقع بالشريعة الإسلامية ووقع فيها على معنى أن الله نسخ بالإسلام كل دين سبقه ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض. أما حكمته سبحانه في أنه نسخ به الأديان كلها فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها بعد أن بلغت أشدها واستوت.. وبيان ذلك أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره فالبش ر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة وبساطة وضعفا وجهالة ثم أخذوا يتحولون من هذا العهد رويدا رويدا ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متباينة من ضآلة العقل وعماية الجهل وطيش الشباب وغشم القوة على تفاوت في ذلك بينهم اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعا لهذا التفاوت حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه جاء هذا الدين الحنيف ختاما للأديان ومتمما للشرائع وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية ومرونة القواعد جمعا وفق بين مطالب الروح والجسد وآخى بين العلم والدين ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات وأمم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وشعوب وحيوان ونبات وجماد مما جعله بحق دينا عاما خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!. هذا إجمال له تفاصيله التي ألمعنا إليها في مناسبات سابقة وسنعرض لها إن شاء الله في مناسبات آتية. وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية في بدايتها حين صدعها الرسول بدعوته كانت تعاني فترة انتقال شاق بل كان أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها وموروثاتها وعادتها خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذين شوفهوا بالإسلام من التحمس لما يعتقدون أنه من مفاخرهم وأمجادهم فلو أخذوا بهذا الدين الجديد مرة واحدة لأدى ذلك إلى نقيض المقصود ومات الإسلام في مهده ولم يجد أنصارا يعتنقونه ويدافعون عنه لأن الطفرة من نوع المستحيل الذي لا يطيقه الإنسان من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل متألفة لهم متلطفة في دعوتهم متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا منتهزة فرصة الألف والمران والأحداث الجادة عليهم لتسير بهم من الأسهل إلى السهل ومن السهل إلى الصعب ومن الصعب إلى الأصعب حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحا لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به ونهضة البشرية بسببه!. تلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوخ كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية بالأمس وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية ويأتونها لا على أنها عادة مجردة بل على أنها أمارة القوة ومظهر الفتوة وعنوان الشهامة فقل لي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 بربك هل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها ولو لم يتألفهم ويتلطف بهم إلى درجة أن يمتن عليهم بها أول الأمر كأنه يشاركهم في شعورهم وإلى حد أنه أبى أن يحرمها عليهم في وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه حين سألوه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} ؟. أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه فالتخفيف على الناس ترفيها عنهم وإظهارا لفضل الله عليهم ورحمته بهم وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده وتحبيب لهم فيه وفي دينه. وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز والمنافق فيهلك ليميز الخبيث من الطيب. يبقى الكلام في حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم وفي حكمة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم. أما حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم فتسجل تلك الظاهرة الحكيمة ظاهرة سياسة الإسلام للناس حتى يشهدوا أنه هو الدين الحق وأن نبيه نبي الصدق وأن الله هو الحق المبين العليم الحكيم الرحمن الرحيم يضاف إلى ذلك ما يكتبونه من الثواب على هذه التلاوة ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية بها. وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فحكمته تظهر في كل آية تناسبها وإنه لتبدو لنا حكمة رائعة في مثال مشهور من هذا النوع. ذلك أنه صح في الرواية عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا كان فيما أنزل من القرآن: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة" أي كان هذا النص آية تتلى ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولا به إلى اليوم والسر في ذلك أنها كانت تتلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 أولا لتقرير حكمها ردعا لمن تحدثه نفسه أنه يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن يذكر فضلا عن أن يفعل وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لا يقع كأنه قال نزهوا الأسماع عن سماعها والألسنة عن ذكرها فضلا عن الفرار منها ومن التلوث برجسها كتب الله لنا الحفظ والعصمة إنه ولي كل نعمة وتوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 شبهات المنكرين للنسخ ودفعها نستطيع أن ننوع المنكرين للنسخ أنواعا فنوع ينكر جوازه عقلا ووقوعه سمعا وهم نصارى هذا العصر وفرقة الشمعونية من اليهود ونوع ينكره سمعا ويجوزه عقلا وهم العنانية من اليهود أيضا ونوع يجوزه ع قلا ويقول بوقوعه سمعا بيد أنه ينكر أن الشريعة الإسلامية ناسخة لليهودية وهم العيسوية تمام فرق اليهود الثلاث ونوع يجوزه عقلا وينكره سمعا ولكن إنكاره صوري يتأول فيه بما يجعل خلافه لجمهرة المسلمين خلافا لفظيا أو شبيها باللفظي وهو أبو مسلم الاصفهاني ومن تبعه. فبين أيدينا إذن من انفردوا بإنكار النسخ عقلا وهم نصارى هذا العصر وشمعونية اليهود ومن توفقوا على إنكاره سمعا وإن اختلفوا في مدى هذا الإنكار وفي كيفيته وهم نصارى هذا العصر وعنانية اليهود والعيسويون منهم وأبو مسلم الأصفهاني وأتباعه من المسلمين. ولكل من هؤلاء جميعا شبهات حسبوها أدلة وليست أدلة كما يتبين لك ذلك في هذا الاستعراض الجامع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 1 - شبهات المنكرين لجوازه عقلا لا ريب أن مذهب المنكرين لجواز النسخ عقلا هو أخطر المذاهب وأشنعها وأبعدها عن الحق وأوغلها في الباطل ومجرد إنكاره الجواز العقلي يستلزم إنكار الوقوع الشرعي وهل يقع في الوجود ما أحاله العقل لهذا نبدأ بتفنيد هذا المذهب ودفع شبهاته. الشبهة الأولى ودفعها: يقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما من أحكامه لكان ذلك إما لحكمة ظهرت له كانت خافية عليه وإما لغير حكمة وكل هذين باطل أما الأول فلأنه يستلزم تجويز البداء والجهل بالعواقب على علام الغيوب وأما الثاني فلأنه يستلزم تجويز العبث على الحكيم العليم اللطيف الخبير والبداء والعبث مستحيلان عليه سبحانه بالأدلة العقلية والنقلية فما أدى إليهما وهو جواز النسخ محال. وندفع هذه الشبهة بأن نسخ الله تعالى ما شاء من أحكامه مبني على حكمة كانت معلومة له أولا ظاهرة لم تخف عليه ولن تخفى عليه أبدا غاية الأمر أن مصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال وأسراره وحكمه سبحانه لا تتناهى ولا يحيط بها سواه فإذا نسخ حكما بحكم لم يخل هذا الحكم الثاني من حكمة جديدة غير حكمة الحكم الأول هي مصلحة جديدة للعباد في الحكم الجديد أو هي غير تلك وسبحان من أحاط بكل شي علما وإذن فلا يستلزم نسخ الله لأحكامه بداء ولا عبثا. ولكن هؤلاء الجاحدين غفلوا أوتغالفوا عن هذا حتى جاء الترديد في شبهتهم ناقصا لم يستوف وجوه الاحتمالات كما ترى ولو استوفوه لقالوا النسخ إما أن يكون لحكمة ظهرت لله كانت خافية عليه أو لحكمة كانت معلومة له لم تكن خافية عليه أو لغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 حكمة وأكبر الظن أنهم لم يفطنوا إلى هذا ولو فطنوا له ما اشتبهوا ولو اشتبهوا بعد فطنتهم له لاخترنا الشق الثاني من هذا الترديد ثم أيدناه بتوافر أدلة العقل والنقل عليه كما قررنا. الشبهة الثانية ودفعها: يقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين جهله جل وعلا وتحصيل الحاصل وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد وإما أن يكون قد علمه على أنه مؤقت فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال وإن كان قد علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل. وندفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ولكنه علم بجانب ذلك أن تأقيته إنما هو بورود الناسخ لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها وقد تعلق علمه بها كلها ولا تنس ما قررناه ثمة من أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله رفع بالنسبة إلينا. الشبهة الثالثة ودفعها: يقولون لو جاز النسخ للزم أحد باطلين تحصيل الحاصل وما هو في معناه وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبده نصا فإن كان قد غياه بغاية فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 أولها التناقض لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه. ثانيها تعذر إفادة التأبيد من الله للناس لأن كل نص يمكن أن يفيد تبطل إفادته باحتمال نسخه وذلك يفضي إلىالقول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك. ثالثها استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ. وندفع هذه الشبهة أولا بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا بل يجيء مطلقا عن التأقيت وعن التأبيد كليهما وعليه فلا يستلزم طرو النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص. ثانيا أن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض بوجوه ثلاثة: أولها أن استدلالهم بأنه يؤدي إلىالتناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ كما أنها مقيدة بأهلية المكلف لتكليف وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال. ثانيها أن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد وهو ما يشعر به كل واحد منا وذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من تأقيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 أو تأبيد وطرو الناسخ احتمال مرجوح واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع. ثالثها أن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الناحية الشرعية فهو من المحالات الظاهرة لتظافر الأدلة على أن الإسلام دين عام خالد ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل. الشبهة الرابعة ودفعها: يقولون إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه او نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي. وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه تعالى والقائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لأن الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا غير الوقت الذي يكون فيه ذلك الفعل قبيحا فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ب - شبهات المنكرين للنسخ سمعا لقد نوعنا هؤلاء فيما سبق إلى أنواع وقلنا إن لكل منهم طريقة خاصة في تكييف دعواه وفي صياغة شبهته وها هي ذي دعاويهم وشبهاتهم تلقى حتفها بين يديك فيما نسوقه إليك. 1 - شبهة العنانية والشمعونية: يقولون إن التوارة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض وجاء فيها أيضا الزموا يوم السبت أبدا وذلك يفيد امتناع النسخ لأن نسخ شيء من أحكام التوراة لا سيما تعظيم يوم السبت إبطال لما هو من عنده تعالى وندفع هذه الشبهة بوجوه خمسة: أولها أن شبهتهم هذه أقصر من مدعاهم قصورا بينا لأن قصارى ما تقتضيه إن سلمت هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام بشريعة أخرى أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى فكان المنظور أن تجيء دعواهم اقصر مما هو محكى عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها. ثانيها أنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود وأنه أصاب من التغيير والتبديل ما جعلها في خبر كان. من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة. ومنها أنه جاء في بعض نسخ التوراة ما يفيد أن نوحا أدرك جميع آبائه إلى آدم وأنه أدرك من عهد آدم نحوا من مائتي سنة وجاء في بعض نسخ أخرى ما يفيد أن نوحا أدرك من عمر إبراهيم ثمانيا وخمسين سنة وكل هذا باطل تاريخيا. ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه أن يكون هذا الكتاب صادرا عن نفس بشرية مؤمنة طاهرة فضلا عن أن ينسب إلى ولي فضلا عن أن ينسب إلى نبي فضلا عن أن ينسب إلى الله رب العالمين. من ذلك أن الله ندم على إرسال الطوفان إلى العالم وأنه بكى حتى رمدت عيناه وأن يعقوب صارعه جل الله عن ذلك كله. ون ذلك أن لوطا شرب الخمر حتى ثمل وزنى بابنتيه ومنه أن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم إلى عبادته من دون الله. ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل وهم حملة التوراة وحفاظها قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة وعبدوا الأصنام وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل ولا ريب أن هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 مطاعن شنيعة جارحة لا تبقى لأي واحد منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة ما داموا هم رواتها وحفاظها وما دامت هي لم تعرف إلا عن طريقهم وبروايتهم. ثالثها أن هذا التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ويدعو المسلمين أنفسهم إلى الإيمان بها ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر بل الذي نقل واشتهر هو أن كثيرا من أخبار اليهود وعلمائهم كعبد الله بن سلام وأضرابه قد القوا القياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنين ودنوا لشريعته مسلمين واعترفوا بأنه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بشرت به التوراة والإنجيل. رابعها أن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصلح حجة لهم لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقة من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها هذه سنة لكم أبدا وما جاء في القربان قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم على رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد كما ترى. خامسها أن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح كما أشرنا إلى ذلك قبلا فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا وشهبة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد وتبين أنه كان مجرد تأبيد لفظي للابتلاء والاختبار فتأمل. 2 - شبهة النصارى: يقولون إن المسيح عليه السلام قال السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وندفع هذه الشبهة أولا بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي نزل على عيسى إن هو إلا قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته والأماكن التي تنقل فيها والآيات التي ظهرت على يديه ومواعظه ومناظراته كما يتحدث فيها عن ذلك الحادث الخيالي حادث الصلب وعلى رغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل مما يدل على أنها ليست من عند الله ولو كانت من عند الله ما أتاها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وصدق الله في قوله عن القرآن: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . ثانيا أن سياق هذه الكلمة في إنجليهم يدل على أن مراده بها تأبيد تنبؤاته وتأكيد أنها ستقع لا محالة أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولاإثباتا وذلك لأن المسيح حدث أصحابه بأمور مستقبلة وبعد أن انتهى من حديثه هذا أتى بهذه الجملة التي تشبثوا بها السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول ولا ريب أن لسياق الكلام تأثيره في المراد منه وهكذا شرحها المفسرون منهم للإنجيل وقالوا إن فهمها على عمومها لا يتفق وتصريح المسيح بأحكام ثم تصريحه بما يخالفها من ذلك أنه قال لأصحابه كما جاء في إنجيل متى إلى طريق أمم لا تمضوا ومدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالجري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة وهذا اعتراف بخصوص رسالته لنبي إسرائيل ثم قال مرة أخرى كما في إنجيل مرقس: اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة فالقول الثاني ناسخ للأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 ثالثا أن هذه الجملة على تسليم صحتها وصحة رواته وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا إنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مدعاهم. 3 - شبهة العيسوية: يقول هؤلاء اليهود أتباع أبي عيسى الأصفهاني لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض وإنما هو رسول إلى العرب خاصة وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون أن تتناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة. وندفع شبهتهم هذه بأمرين: أولهما أن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم ولقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه الستة التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول. ثانيهما أن اعترافهم بأن محمدا رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه بخصوصه لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون!. 4 - شبهة أبي مسلم: النقل عن أبي مسلم مضطرب فمن قائل إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق ومن قائل إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة ومن قائل إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة اللهم إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا وإلى ذلك ذهب بعض المحققين قال التاج السبكي إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ويسميه تخصيصا اهـ. احتج أبو مسلم بقوله سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا والنسخ فيه أبطال لحكم سابق. وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة: أولها أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته لكان دليله قاصرا عن مدعاه لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وهو نسخ الحكم دون التلاوة فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن أما نسخ التلاوة مع الحكم أو مع بقائه فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل. ثانيها أن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق والنسخ حق ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل وأحكامه مسايرة للحكمة وأخباره مطابقة للواقع ألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} . ولعلك تدرك معي أن تفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه لأن النسخ كما قررنا تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة. ثالثها أن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء الأدب مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته ودفع عن معناه بمثل قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وهل بعد اختيار الله اختيار وهل بعد تعبير القرآن تعبير قَالُوا {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . رابعها أن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق فارجع إليها إن شئت حتى تعلم شطط صاحبنا فيما ذهب إليها جنبنا الله الشطط وطريق العوج. ملاحظة تشيع لأبي مسلم بعض الباحثين من قدامى ومحدثين وحطبوا في حبله قليلا أو كثيرا وذاعت شبهات حديثه فاسدة حول تشريع الإسلام للنسخ ولكنها لا تخرج عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 الإمعان عن نطاق الشبهات الآنفة التي دحضناها لهذا نكتفي بما ذكرناه عما لم نذكره فرارا من التكرار وتجنبا لإثارة الخصام وحبا في الوصول إلى الحقيقة بسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 طرق معرفة النسخ لا بد في تحقيق النسخ كما علمت من ورود دليلين عن الشارع وهما متعارضان تعارضا حقيقيا لا سبيل إلى تلافيه بإمكان الجمع بينهما على أي وجه من وجوه التأويل وحينئذ فلا مناص من أن نعتبر أحدهما ناسخا والآخر منسوخا دفعا للتناقض في كلام الشارع الحكيم ولكن أي الدليلين يتعين أن يكون ناسخا وأيهما يتعين أن يكون منسوخا هذا ما لا يجوز الحكم فيه بالهوى والشهوة بل لا بد من دليل صحيح يقوم على أن أحدهما متأخر عن الآخر وإذن فيكون السابق هو المنسوخ واللاحق هو الناسخ ولنا إلى هذا الدليل مسالك ثلاثة: أولها أن يكون في أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما نحو قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ونحو قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ولا تقولوا هجرا". ثانيها أن ينعقد إجماع من الأمة في أي عصر من عصورها على تعيين المتقدم من النصين والمتأخر منهما. ثالثها أن يرد من طريق صحيحة عن أحد من الصحابة ما يفيد تعيين أحد النصين المتعارضين للسبق على الآخر أو التراخي عنه كأن يقول نزلت هذه الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 بعد تلك الآية أو نزلت هذه الآية قبل تلك الآية أو يقول نزلت هذه عام كذا وكان معروفا سبق نزول الآية التي تعارضها أو كان معروفا تأخرها عنها. أما قول الصحابي هذا ناسخ وذاك منسوخ فلا ينهض دليلا على النسخ لجواز أن يكون الصحابي صادرا في ذلك عن اجتهاد أخطأ فيه فلم يصب فيه عين السابق ولا عين اللاحق خلافا لابن الحصار وكذلك لا يعتمد في معرفة الناسخ والمنسوخ على المسالك الآتية: 1 - اجتهاد المجتهد من غير سند لأن اجتهاده ليس بحجة. 2 - قول المفسر هذا ناسخ أو منسوخ من غير دليل لأن كلامه ليس بدليل. 3 - ثبوت أحد النصين قبل الآخر في المصحف لأن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول. 4 - أن يكون أحد الروايين من أحداث الصحابة دون الراوي للنص الآخر فلا يحكم بتأخر حديث الصغير عن حديث الكبير لجواز أن يكون الصغير قد روى المنسوخ عمن تقدمت صحبته ولجوز أن يسمع الكبير الناسخ من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن يسمع الصغير منه المنسوخ إما إحالة على زمن مضى وإما لتأخر تشريع الناسخ والمنسوخ كليهما. 5 - أن يكون أحد الروايين أسلم قبل الآخر فلا يحكم بأن ما رواه سابق الإسلام منسوخ وما رواه المتأخر عنه ناسخ لجواز أن يكون الواقع عكس ذلك. 6 - أن يكون أحد الراويين قد انقطعت صحبته لجواز أن يكون حديث من بقيت صحبته سابقا حديث من انقطعت صحبته. 7 - أن يكون أحد النصين موافقا للبراءة الأصلية دون الآخر فربما يتوهم أن لها هو السابق والمتأخر عنها هو اللاحق مع أن ذلك غير لازم لأنه لا مانع من تقدم ما خالف البراءة الأصلية على ما وافقها مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء مما مست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 النار" فإنه لا يلزم أن يكون سابقا على الخبر الوارد بإيجاب الوضوء مما مست النار ولا يخلو وقوع هذا من حكمة عظيمة هي تخفيف الله من عباده بعد أن ابتلاهم بالتشديد. قانون التعارض: وعلى ذكر التعارض في هذا الباب نبين لك أن النصين المتعارضين إما أن يتفقا في أنهما قطعيان أو ظنيان وإما أن يختلفا فيكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا أما المختلفان فلا نسخ بينهما لأن القطعي أقوى من الظني فيؤخذ به وما كان اليقين ليترك بالظن وأما المتفقان فإن علم تأخر أحدهما بطريق من تلك الطرق الثلاث المعتمدة فهو الناسخ والآخر المنسوخ وإن لم يدل عليه واحد منها وجب التوقف وقيل يتخير الناظر بين العمل بهما. هذا كله إذا لم يكن الجمع بين النصين بوجه من وجوه التخصيص والتأويل وإلا وجب الجمع لأن إعمال الدليلين أولى من إعمال دليل وإهدار آخر ولأن الأصل في الأحكام بقاؤها وعدم نسخها فلا ينبغي أن يترك استصحاب هذا الأصل إلا بدليل بين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 ما يتناوله النسخ إن تعريف النسخ بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء. أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل فبدهي ألا يتعلق بها نسخ. وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير. وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليهما باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ. وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبريه الناسخ والمنسوخ وهو محال عقلا ونقلا أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال وأما نقلا فمثل قوله سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} . نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان إحداهما أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط والأخرى أن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به. وأما الخبر الذي ليس محضا بأن كان في معنى الإنشاء ودل على أمر أو نهي متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ. مثال الخبر بمعنى الأمر قوله تعالى: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} فإن معناه ازرعوا. ومثال الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه: {لزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية بفتح التاء ولا تنكحوهما بضم التاء لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض. والفرق بين أصول العبادات والمعامالات وبين فروعها أن فروعها هي ما تعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هي كمياتها وكيفياتها وأما أصولها فيه ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل وقد في نازع في ذلك قوم لا وجه لهم فلنضرب عن كلامهم صفحا: وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلاخلاف له خط من النظر ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقض وإن شئت أدلة فهاك ما يأتي من القرآن الكريم: 1 – {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . 2 – {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . 3 – {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . 4 – {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . 5 – {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} . 6 – {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 7 – {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} . 8 – {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . 9 – {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} . 10 – {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 أنواع النسخ في القرآن النسخ الواقع في القرآن يتنوع إلى أنوع ثلاثة نسخ التلاوة والحكم معا ونسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دون الحكم. 1 - أما نسخ الحكم والتلاوة جميعا فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين ويدل على وقوعه سمعا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن وهو حديث صحيح وإذا كان موقوفا على عائشة رضي الله عنها فإن له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال بالرأي بل لا بد فيه من توقيف وأنت خبير بأن جملة عشر رضعات معلومات يحرمن ليس لها وجود في المصحف حتى تتلى وليس العمل بما تفيده من الحكم باقيا وإذن يثبت وقوع نسخ التلاوة والحكم جميعا وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه لأن الوقوع أول دليل على الجواز وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعا كأبي مسلم وأضرابه. 2 - وأما نسخ الحكم دون التلاوة فيدل على وقوعه آيات كثيرة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 منها أن آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: َ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} منسوخة بقوله سبحانه: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية مع أن تلاوة كلتيهما باقية. ومنها أن قول سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} منسوخ بقوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} على معنى أن حكم تلك منسوخ بحكم هذه مع بقاء التلاوة في كلتيهما كما ترى. 3 - وأما نسخ التلاوة دون الحكم فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر ابن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا كان فيما أنزل من القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة اهـ وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ. ويدل على وقوعه أيضا ما صح عن أبي بن كعب أنه قال كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة أو أكثر مع أن هذا القدر الكبير الذي نسخت تلاوته لا يخلو في الغالب من أحكام اعتقادية لا تقبل النسخ. ويدل على وقوعه أيضا الآية الناسخة في الرضاع وقد سبق ذكرها في النوع الأول. ويدل على وقوعه أيضا ما صح عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤون سورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول سورة براءة وأنها نسيت إلا آية منها وهي لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وإذا ثبت وقوع هذين النوعين كما ترى ثبت جوازهما لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر وإذن بطل ما ذهب إليه المانعون له من ناحية الشرع كأبي مسلم ومن لف لفه ويبطل كذلك ما ذهب إليه المانعون له من ناحية العقل وهم فريق من المعتزلة شذ عن الجماعة فزعم أن هذين النوعين الأخيرين مستحيلان عقلا. ويمكنك أن تفحم هؤلاء الشذاذ من المعتزلة بدليل على الجواز العقلي الصرف لهذين النوعين فتقول إن ما يتعلق بالنصوص القرآنية من التعبد بلفظها وجواز الصلاة بها وحرمتها على الجنب في قراءتها ومسها شبيه كل الشبه بما يتعلق بها من دلالتها على الوجوب والحرمة ونحوهما في أن كلا من هذه المذكورات حكم شرعي يتعلق بالنص الكريم وقد تقتضي المصلحة نسخ الجميع وقد تقتضي نسخ بعض هذه المذكورات دون بعض وإذن يجوز أن تنسخ الآية تلاوة وحكما ويجوز أن تنسخ تلاوة لا حكما ويجوز أن تنسخ حكما لا تلاوة وإذا ثبت هذا بطل ما ذهب إليه أولئك الشذاذ من الاستحالة العقلية للنوعين الأخيرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 شبهات أولئك المانعين ودفعها وتتميما للفائدة نعرض عليك شبهاتهم مفندين لها شبهة شبهة. الشبهة الأولى ودفعها: يقولون إن الآية والحكم المستفاد منها متلازمان تلازم المنطوق والمفهوم فلا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. والجواب أن التلازم بين الآية وحكمها مشروط فيه انتفاء المعارض وهو الناسخ أما إذا وجد الناسخ فلا تلازم والأمر حينئذ للناسخ إن شاء رفع الحكم وأبقى على التلاوة وإن شاء عكس وإن شاء رفعهما معا على حسب ما تقتضيه الحكمة أو المصلحة ونظير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 ذلك أن التلازم بين منطوق اللفظ ومفهومه مشروط فيه انتفاء المعارض أما إذا وجد منطوق معارض للمفهوم فإن المفهوم حينئذ يعطل ويبقى العمل بالمنطوق وحده. الشبهة الثانية ودفعها: يقولون إن نسخ الحكم دون التلاوة يستلزم تعطيل الكلام الإلهي وتجريده من الفائدة وهذا عيب لا يرضى به عاقل لأقل نوع من كلامه فكيف يرضى به الله لأفضل كلامه؟. والجواب أنا لا نسلم هذا اللزوم بل الآية بعد نسخ حكمها دون تلاوتها تبقى مفيدة للإعجاز وتبقى عبادة للناس وتبقى تذكيرا بعناية الله ورحمته بعباده حيث سن لهم في كل وقت ما يساير الحكمة والمصلحة من الأحكام يضاف إلى ذلك أن الآية بعد نسخ حكمها لا تحلو غالبا من دعوة إلى عقيدة أو إرشاد إلى فضيلة أو ترغيب في خير ومثل ذلك لا ينسخ بنسخ الحكم بل تبقى الآية مفيدة له لأن النسخ لا يتعلق به كما مر. الشبهة الثالثة ودفعها: يقولون إن بقاء التلاوة بعد نسخ الحكم يوقع في روع المكلف بقاء هذا الحكم وذلك تلبيس وتوريط للعبد في اعتقاد فاسد ومحال على الله أن يشكك أو يورط عبده. والجواب أن ذلك التلبيس وهذا التوريط كان يصح ادعاوهما واستلزام نسخ الحكم دون التلاوة لهما لو لم ينصب الله دليلا على النسخ أما وقد نصب عليه الدلائل فلا عذر لجاهل ولا محل لتوريط ولا تلبيس لأن الذي أعلن الحكم الأول بالآية وشرعه هو الذي أعلن بالناسخ أنه نسخه ورفعه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 اللهم اهدنا بهداك يا رب العالمين فإنه لا هادي إلا أنت: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . الشبهة الرابعة ودفعها: يقولون إن الآية دليل على الحكم فلو نسخت دونه لأشعر نسخها بارتفاع الحكم وفي ذلك ما فيه من التلبيس على المكلف والتوريط له في اعتقاد فاسد. وندفع هذه الشبهة بان تلك اللوازم الباطلة تحصل لو لم ينصب الشارع دليلا على نسخ التلاوة وعلى إبقاء الحكم أما وقد نصب الدليل على نسخ التلاوة وحدها وعلى إبقاء الحكم وتقرير استمراره كما في رجم الزناة المحصنين فلا تلبيس من الشارع على عبده ولا توريط. الشبهة الخامسة ودفعها: يقولون إن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم عبث لا يليق بالشارع الحكيم لأنه من التصرفات التي لا تعقل لها فائدة. وندفع هذه الشبهة بجوابين: أحدهما أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الحكمة ولا خاليا من الفائدة حتى يكون عبثا بل فيه فائدة أي فائدة وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه وذلك سور محكم وسياج منيع يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف وشد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 ما يقابل بالإنكار وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . والخلاصة أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط رجوعا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال وطردا لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال تيسيرا لحفظه وضمانا لصونه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . ثانيهما أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ فإن عدم العلم بالشيء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم ثم إن الشان في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم أن يصدر لحكمة أو لفائدة نؤمن بها وإن كنا لا نعلمها على التعيين وكم في الإسلام من أمور تعبدية استأثر الله بعلم حكمتها أو أطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} , {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} . ولا بدع في هذا فرب البيت قد يأمر أطفاله بما لا يدركون فائدته لنقص عقولهم على حين أنه في الواقع مفيد وهم يأتمرون بأمره وإن كانوا لا يدركون فائدته والرئيس قد يأمر مرؤوسيه بما يعجزون عن إدراك سره وحكمته على حين أن له في الواقع سرا وحكمة وهم ينفذون أمره وإن كانوا لا يفهمون سره وحكمته. كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفي عليهم من أسرار تشريعه وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 النسخ ببدل وبغير بدل الحكم الشرعي الذي ينسخه الله إما أن يحل سبحانه محله آخر أو لا فإذا أحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ ببدل وإذا لم يحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ بغير بدل وكلاهما جائز عقلا وواقع سمعا على رأي الجمهور. مثال النسخ ببدل أن الله تعالى نهى المسلمين أول الأمر عن قتال الكفار ورغبهم في العفو والصفح بمثل قوله سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ثم نسخ الله هذا النهي وأذنهم بالجهاد فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . ثم شدد الله وعزم عليهم في النفير للقتال وتوعدهم إن لم ينفروا فقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 ومثال النسخ بلا بدل أن الله تعالى أمر بتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ثم رفع هذا التكليف عن الناس من غير أن يكلفهم بشيء مكانه بل تركهم في حل من ترك الحكم الأول دون أن يوجه حكما آخر فقال: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 شبهة ودفعها ذلك مذهب الجمهور من العلماء ولكن بعض المعتزلة والظاهرية يقولون إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعا وشبهتهم في هذا أن الله تعالى يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ووجه اشتباههم أن الآية تفيد أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر هو خير منه أو مثله ولكنها شبهة مدفوعة بما ذكرنا من النصين السابقين في تقديم الصدقة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم واحتجاجهم بآية {مَا نَنْسَخْ} على الوجه الذي ذكروه احتجاج داحض لأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية بغير بدل فهمنا بمقتضى حكمته أو رعايته لمصلحة عباده أن عدم الحكم صار خيرا من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس وصح أن يقال حينئذ إن الله نسخ حكم الآية السابقة وأتى بخير منها في الدلالة على عدم الحكم الذي بات في وقت النسخ أنفع للناس وخيرا لهم من الحكم المنسوخ ومعنى آية {مَا نَنْسَخْ} لا يأبى هذا التأويل بل يتناوله كما يتناول سواه والنسخ فيها أعم من نسخ التلاوة والحكم مجتمعين ومنفردين ببدل وبغير بدل والخيرية والمثلية فيها أعم من الخيرية والمثلية في الثواب وفي النفع وقد مر بيان ذلك فيما سبق عند الكلام على أدلة النسخ عقلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل النسخ إلى بدل يتنوع إلى أنواع ثلاثة: أولها النسخ إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق كنسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم في ليل رمضان بإباحة ذلك إذ قال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . ثانيها النسخ إلى بدل مساو للحكم الأول في خفته أو ثقله على نفس المكلف كنسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة في قوله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . وهذان النوعان لا خلاف في جوازهما عقلا ووقوعهما سمعا عند القائلين بالنسخ كافة. ثالثها النسخ إلى بدل أثقل من الحكم المنسوخ وفي هذا النوع يدب الخلاف فجمهور العلماء يذهبون إلى جوازه عقلا وسمعا كالنوعين السابقين ويستدلون على هذا بأمثلة كثيرة تثبت الوقوع السمعي وهو أدل دليل على الجواز العقلي كما علمت من تلك الأمثلة أن الله تعالى نسخ إباحة الخمر بتحريمها ومنها أنه تعالى نسخ ما فرض من مسالمة الكفار المحاربين بما فرض من قتالهم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} . ومنها أن حد الزنى كان في فجر الإسلام لا يعدو التعنيف والحبس في البيوت ثم نسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ذلك بالجلد والنفي في حق البكر وبالرجم في حق الثيب ومنها أن الله تعالى فرض على المسلمين أولا صوم يوم عاشوراء ثم نسخه بفرض صوم شهر رمضان كله مع تخيير الصحيح المقيم بين صيامه والفدية ثم نسخ سبحانه هذا التخيير بتعيين الصوم على هذا الصحيح المقيم إلزاما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 شبهات المانعين ودفعها ذلك ما ارتآه الجمهور ولكن قوما شطوا فمنعوا هذا النوع الثالث عقلا وآخرون أسرفوا فمنعوه سمعا وكلهم محجوجون بما ذكرنا من الأدلة غير أنا لا نكتفي بذلك بل نعرض عليك شبهاتهم ونفندها بين يديك لئلا تنخدع ولا نسمح لأحد أن ينخدع!؟ الشبهة الأولى ودفعها: يقول المانعون لهذا النوع عقلا إن تكليف الله لعباده لا بد أن يكون لمصلحة راجعة إلى العباد لا إليه ومحال أن يكون لغير مصلحة وإلا كان الله سبحانه عابثا ومحال أن يكون لمصلحة تعود على الله لأنه تعالى هو الغني عن خلقه جميعا وإذا كان التكليف راجعا لمصلحة العباد وحدهم فلا بد أن يكون على حالة تدعو إلى امتثالهم وليس في نقل العباد من الأخف إلى الأشد داعية إلى امتثالهم بل هو العكس من ذلك فيه تزهيد لهم في الطاعة وتثبيط لهم عن الواجب وكل ما كان كذلك يمتنع أن يصدر من الله عقلا وندفع هذه الشبهة أولا بأن هذه سفسطات مفضوحة ومغالطات مكشوفة عمي فيها هؤلاء أو تعاموا عن الحقائق الواقعة في التشريع وهي نقل العباد فعلا من أحكام خفيفة إلى أحكام أشد منها كما مثلنا آنفا. ثانيا أننا نقلب حجة هؤلاء عليهم ونرد كيدهن في نحرهم ونعمل سلاحهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 في أعناقهم ونقول لهم إن مصلحة العباد التي هي مقصود الشارع الحكيم الرحيم تقضي أن يكون تكليفه إياهم على حالة تدعو إلى امتثالهم وذلك بأن يتدرج بهم فيمهد ويمهد للتكليف الخفيف بتكليف أخف منه ويمهد للتكليف الثقيل بتكليف خفيف وللتكليف الأثقل بتكليف ثقيل لأن الناس لو بوغتوا من أول الأمر بالثقيل مثلا لعجزوا ونفروا وانعكس المقصود من هدايتهم ولذلك نشاهد حكماء المربين وساسة الأمم القادرين يبتدئون في تربيتهم وسياستهم بأيسر الأمور ثم بعد ذلك يتدرجون ولا يطفرون. ثالثا أن دليلهم هذا منقوض بما لا يسعهم إنكاره وهو تكليف الله عباده ابتداء ونقلهم من الإباحة المطلقة أو البراءة الأصلية إلى مشقة التكاليف المتنوعة فما يكون جوابا لهم عن هذه يكون جوابا لنا عما منعوه هنا. رابعا أنهم متناقضون فإن مصلحة العباد التي جعلوها مناط شبهتهم تأبى مفاجأة الناس بالأشد من غير تمهيد بالأخف ومذهبهم لا يأبى التكليف من أول الأمر بالأشد دون تمهيد بالأخف!. خامسا أننا لا نسلم أن مقصود الشارع من التكاليف هو مجرد مصالح الناس بل تارة يكون المقصد هو المصلحة وتارة يكون المقصد هو الابتلاء والاختبار ليميز الله الخبيث من الطيب حتى لا يكون لأحد بعد تمايز الناس بابتلائه حجة وقد أعلن الله هذا المقصد الثاني في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ومنها قوله عز اسمه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ومنها قوله جلت حكمته: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . وإذن فنسخ الحكم بأشد قد يكون ابتلاء للعباد إن لم يكن مصلحة لهم وتلك حكمة بالغة تلغي عن الله العبث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 سادسا أن الحكم الأشد الناسخ قد يكون هو المصلحة للعباد دون الحكم الأخف المنسوخ لأنه على رغم شدته وثقله يشتمل على داعية لامتثاله لا توجد في الحكم الأول وقت النسخ من ترغيب أو ترهيب أو تجلية لمزايا وفوائد من وراء الحكم الجديد في الدنيا أو في الآخرة تأمل آيتي التحريم النهائي للخمر وما انطوتا عليه من هذه الألوان ثم تأمل آيات مشروعية الجهاد وما فيها من ضروب الترغيب والترهيب وتحريك العزائم إلى السخاء بالنفوس والأموال إلى غير ذلك مما تدركه في الأحكام الناسخة بأقل تبصر وإمعان. الشبهة الثالثة ودفعها: يقول المانعون لنسخ الأخف بالأثقل سمعا فقط إن الله تعالى يقول: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ومعنى هذا أن الشدائد التي كانت على من قبلنا رفعها الله عنا ونسخ الأخف بالأشد مخالف لهذا الوعد الصريح فهو ممنوع سمعا. وندفع هذه الشبهة بأن قصارى ما تفيده هذه الآية أن الله تعالى أعفى هذه الأمة المحمدية من أن يكلفها بما يصل في شدته إلى تلك الأحكام القاسية التي فرضها على الأمم الماضية والتي ألزمهم بها إلزاما كأنها أغلال في أعناقهم وهذا لا ينفي أن تكون بعض الأحكام في الشريعة الإسلامية أشد من بعض وأن ينسخ الله فيها حكما اخف بحكم أثقل منه ولكن لا يصل في شدته وصرامته إلى مثل أحكام الماضين في شدتها وصرامتها فوعد الله بالتخفيف على هذه الأمة حق ونسخه حكما بما هو أثقل منه حق وخلاصة الجواب أن شدة بعض الأحكام الإسلامية إنما هو بالنسبة إلى بعضها الآخر أما بالنسبة إلى أحكام الشرائع الأخرى فهي أخف منها قطعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الشبهة الثالثة ودفعها: يقول هؤلاء أيضا إن الله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ولا تيسير ولا تخفيف في نقلنا من الأخف إلى الأثقل. وندفع هذه الشبهة أولا بأن قصارى ما يدل عليه هذان النصان الكريمان هو أن الأحكام الشرعية كلها ميسرة مخففة في ذاتها لا إرهاق فيها للمكلفين وإن كانت فيما بينها متفاوتة فبعضها أثقل أو أخف بالنسبة إلى بعض. ثانيا أنه لو كان مفهوم الآية هو ما فهموا من التيسير والتخفيف المطلقين لانتقض ذلك بأصل التكليف لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة. ثالثا أن النص الأول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قد سيق في معرض خاص هو الترخيص للمرضى والمسافرين أن يفطروا ويقضوا عدة من أيام أخر وعلى هذا يكون معناه يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر في ترخيصه للمرضى والمسافرين أن يفطروا رمضان ويقضوا عدة ما افطروا وكذلك النص الثاني يريد الله أن يخفف عنكم قد سيق في معرض خاص هو إباحة الله لعباده أن يتزوجوا الفتيات المؤمنات من الإماء إذا لم يستطيعوا طولا أن يتزوجوا الحرائر من المحصنات المؤمنات وبشرط أن يخشوا العنت أي يخافوا الوقوع في الزنى. وعلى هذا فالتخفيف المذكور في هذا السياق معناه التخفيف بالترخيص لهؤلاء الفقراء الخائفين من العنت أن يتزوجوا إماء الله المؤمنات. الشبهة الرابعة ودفعها: يقول هؤلاء أيضا إن قوله سبحانه: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها يفيد أن النسخ لا يكون إلا بالأخف لأنه الخير أو بالمساوي لأنه المثل أما الأثقل فلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وندفع هذه الشبهة بأن الخيرية والمثلية في الآية الكريمة ليس المراد منهما ما فهموا من الخفة عن الحكم الأول أو المساواة به بل المراد بها الخيرية والمثلية في النفع والثواب على ما مر تفصيله وعلى هذا فما المانع من أن يكون الأثقل الناسخ أكثر فائدة في الدنيا وأعظم أجرا في الآخرة من الأخف المنسوخ أو يكون مساويا له في الثواب ومماثلا له في الأجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله علماؤنا اتفقوا على أن نسخ الطلب قبل التمكن من العلم به ممتنع كما اتفقوا على أن نسخه بعد تمكن المكلف من امتثاله جائز لم يخالف في ذلك إلا الكرخي فيما روي عنه امتناع النسخ قبل تحقق الامتثال بالفعل أما نسخ الطلب بعد التمكن من العلم وقبل التمكن من الامتثال ففيه اختلاف العلماء ذهب جمهور أهل السنة ومن وافقهم إلى جوازه وذهب جمهور المعتزلة ومن وافقهم إلى منعه مثال ذلك قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فإن جمهورنا يجوزون نسخ وجوب الوصية المذكور في هذه الآية بعد التمكن من العلم به وقبل أن يحضر الموت أحد المكلفين أما جمهور المعتزلة فيقولون باستحالة نسخ هذا التشريع إلا بعد احتضار أحد المكلفين وتمكنه من الوصية ولا يكتفي الكرخي فيما روي عنه بمجرد تمكن المكلف من الوصية بل لا بد عنده من أن يوصي بالفعل حتى يجوز النسخ بعده. أدلة المثبتين لهذا النوع من النسخ: إن الذين أجازوا هذا النوع من النسخ استدلوا له بثلاثة أدلة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 أحدها: أن نسخ الطلب قبل التمكن من امتثاله لا يترتب على وقوعه محال عقلي وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلا. ثانيها: أن النسخ قبل التمكن من الفعل مانع كسائر الموانع التي تمنع العبد منه إذ لا فارق بينه وبينها يؤثر فلو لم يجز هذا النوع من النسخ لم يجز أن يأمر الله عبده بفعل في مستقبل زمانه ثم يعوقه عنه بمرض أو نوم أو نحوهما لكن المشاهد غير ذلك باعتراف المانعين أنفسهم فكثيرا ما تحول الحوائل بين المرء وما أمره الله في مستقبله فليجز هذا النوع من النسخ أيضا. ثالثها: أن هذا النوع من النسخ قد وقع فعلا والوقوع دليل الجواز وزيادة. ثم إن لهم على وقوع هذا النوع من النسخ دليلين: الدليل الأول أن الله تعالى حين حدثنا عن إبراهيم وولده إسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فلما فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} فأنت ترى في هذا العرض الكريم لقصة إبراهيم الخليل وولده الذبيح إسماعيل ما يفيد أنه سبحانه قد أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخ ما أمره به قبل أن يتمكن من تنفيذه وفعله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 أما أنه أمره بالذبح فيرشد إليه: أولا قول إبراهيم لولده أني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى لأن رؤيا الأنبياء حق من ناحية ولأن مفاوضة إبراهيم لولده في هذا الأمر الجلل تدل على أن هذا أمر لا بد منه من ناحية أخرى وإلا لما فاوضه تلك المفاوضة الخطيرة المزعجة التي هي أول مراحل السعي إلى التنفيذ. ثانيا أن إسماعيل أجاب أباه بإعلان خضوعه وامتثاله لأمر ربه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} . ثالثا أن إبراهيم اتخذ سبيله إلى مباشرة الأسباب القريبة للذبح حيث أسلم ولده وأسلم إسماعيل نفسه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} . رابعا أن الله ناداه بأنه قد صدق الرؤيا أي فعل فعل من صدقها وحققها ولو لم يكن هذا أمرا من الله واجب الطاعة ما مدحه الله على تصديقه لرؤياه وسعيه إلى تحقيق ما أمره مولاه. خامسا أن الله فدى إبراهيم يذبح عظيم فلو لم يكن ذبح إسماعيل مطلوبا لما كان ثمة داع يدعو إلى الفداء. سادسا أن الله امتدح إبراهيم بأنه من المؤمنين ومن المحسنين المستحقين لإكرام الله إياه بالفرج بعد الشدة وقرر سبحانه أن هذا هو البلاء المبين وكافأه بأنه ترك عليه في الآخرين {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وكل ذلك يدل على أن الله أمره فأطاع وابتلاه أشد الابتلاء فاستسلم وانصاع. وأما أن الله نسخ هذا الأمر قبل تمكن إبراهيم من امتثاله فيرشد إليه محاولة إبراهيم للتنفيذ بالخطوات التي خطاها والمحاولات التي حاولها وهي مفاوضة ولده حتى يستوثق منه أو يتخذ إجراء آخر ثم استسلامهما بالفعل لحادث الذبح وصرعه فلذة كبده وقرة عينه على جبينه كيما يضع السكين ويذبحه كما أمره رب العالمين ولكن جاء النداء بالفداء قبل التمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 من الامتثال وتنفيذ الذبح وبعيد كل البعد بل محال في مجرى العادة أن يكون إبراهيم قد وجد فرصة يتمكن فيها من الامتثال قبل ذلك ثم تركها حتى يقال إن النسخ بالفداء حصل بعد التمكن من الذبح فثبت أن أمره بالذبح قد نسخ بالفداء قبل التمكن من الامتثال ووقع هذا دليل الجواز بل هو أول دليل على الجواز. الدليل الثاني أنه جاء في السنة المطهرة ما يفيد أن الله فرض ليلة المعراج على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته خمسين صلاة ثم نسخ الله في هذه الليلة نفسها خمسا وأربعين منها بعد مراجعات تسع من النبي صلى الله عليه وسلم بين موسى وربه وواضح أن هذا النسخ في تلك المرات التسع كان قبل أن يتمكن النبي وأمته من الامتثال وهذا الوقوع أول دليل على الجواز كما هو مقرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 شبهات المنكرين ودفعها للمنكرين شبهات كثيرة منها ما صاغوه في صورة أدلة على إنكارهم ومنها ما وجهوه إلى أدلة المثبتين السابقة في صورة مناقشة لها وإبطال لدلالتها وها هي ذي نضعها بين يديك مشفوعة بما يدحضها. الشبهة الأولى ودفعها: يقولون لو نسخ الطلب قبل التمكن من امتثاله لكن طلبا مجردا من الفائدة ومثل هذا يكون عبثا والعبث على الله محال. وندفع هذه الشبهة بأن الطلب في هذه الصورة لم يتجرد من الفائدة كما يزعمون بل إن من فوائده وحكمته ابتلاء الله لعباده أيقبلون أم يرفضون فإن قبلوه وأذعنوا له وآمنوا به ووطنوا أنفسهم على امتثاله فلهم أجر كبير وظهر فضلهم كما ظهر فضل إبراهيم في ابتلائه بذبح ولده إسماعيل مع أنه لم يتمكن من تنفيذ ما أمر به ومن أبى من عباد الله مثل هذا الطلب بأن ضلاله وخذلانه واستحق الحرمان والهوان عن عدل وإنصاف {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الشبهة الثانية ودفعها: يقولون إن الفعل الذي ينسخ طلبه قبل التمكن من امتثاله إما أن يكون مطلوبا وقت ورود النسخ أو لا فإن كان مطلوبا وقت ورود النسخ أدى ذلك إلى توارد النفي والإثبات على شيء واحد وهو محال وإن لم يكن الفعل مطلوبا وقت ورود النسخ فلا نسخ لأن النسخ لا بد لتحققه من حكم سابق يرد عليه ويرفعه والفرض هنا أنه ورد والحكم مرتفع وندفع هذه الشبهة أولا بأن الفعل لم يكن مطلوبا وقت ورود الناسخ ولكن هذا لا ينفي حقيقة النسخ كما زعموا بل هو المحقق له لأن النسخ كالعلة في ارتفاع الحكم والمعلوم مقارن للعلة في الزمن وإن تأخر عنها في التعقل فالحكم إذن لا بد أن يرتفع عند ورود الناسخ بسبب وروده وإلا لم يعقل النسخ. ثانيا أن هذه الشبهة تجري في كل صورة من صور النسخ وحينئذ لا مفر لهم من إحدى اثنتين أن يمنعوا النسخ مطلقا مع أنهم لا يقولون به أو يكونوا في شبهتهم هذه مبطلين. الشبهة الثالثة ودفعها: يقولون إذا قال الشارع صوموا غدا لزم أن يكون صوم الغد حسنا وفيه مصلحة فإذا نهى عنه قبل مجيء الغد لزم أن يكون قبيحا فيه مفسدة واجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في آن واحد محال. وندفع هذه الشبهة أولا بأنها قامت على أساس باطل هو قاعدة الحسن والقبح العقليين وتقرير بطلان هذه القاعدة معروف عند الأشاعرة من أهل السنة. ثانيا أن نهي الشارع عن الشيء المطلوب قبل التمكن من أدائه يتبين منه أن ذلك الشيء قبيح عقلا متى نهى الله عنه أما طلبه قبل ذلك فلا يدل على حسنه هو إنما يدل على حسن ما اتصل به مما استلزمه ذلك الطلب وهو إيمان العباد به واطمئنان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 نفوسهم إليه وعزمهم على تنفيذه وفي ذلك ما فيه من ترويضهم على الطاعة وتعويدهم الامتثال وإثابتهم على حسن نياتهم وكأن المأمور به في هذه الصورة هو المقدمات التي تسبق الفعل لا نفس الفعل بدليل نسخ الفعل قبل التمكن من امتثاله لكنهم أمروا بالفعل نفسه لأن عزمهم عليه والإتيان بمقدماته لا يتأتى إلا بالأمر على هذه الصورة فتأمل. الشبهة الرابعة ودفعها: يقولون إن استدلالكم بقصة إبراهيم وولده الذبيح استدلال لا يسلم من جملة مؤخذات. أولها أن رؤيا إبراهيم ما هي إلا رؤيا رآها فخيل إليه أنه مأمور بالذبح والحقيقة أنه لم يؤمر به. والجواب أن رؤيا الأنبياء وحي حق لا باطل فيه ولا تخييل والوحي يصحبه علم ضروري في الموحى إليه بأن ما أوحي إليه حق والأنبياء لا يتمثل لهم الشيطان ولا سلطان له عليهم لا في اليقظة ولا في المنام. ومن ذا الذي يهمل عقله ويسفه نفسه فيصدق أن شيخا كبيرا في جلالة إبراهيم خليل الرحمن يتأثر بخيال فاسد ويصدر عن وهم كاذب في أن يقدم على أكبر الكبائر وهو قتل ولده وذبح وحيده وفلذة كبده بعد أن بشره مولاه بأنه غلام حليم ورزقه إياه على شيخوخة وهرم وحقق فيه ما بشره به فشب الوليد وترعرع حتى بلغ مع أبيه السعي فكان إبراهيم يراه وهو يسعى معه فيملأ عينه نورا وقلبه بهجة وحبورا. ثانيا قالوا إن إبراهيم على فرض كون رؤياه حقا لم يك مأمورا بذبح ولده إنما كان مأمورا بالعزم على الذبح فحسب امتحانا له بالصبر على هذا العزم ولا ريب أن إبراهيم بمحاولته التي حاولها وصورها القرآن قد عزم وأدى ما وجب عليه فلا نسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 والجواب من وجهين أحدهما أن الامتحان الذي ذكروه لا يتحقق إلا بالعزم على ما أوجبه عليه لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب وإذن فإبراهيم كان قد وجب عليه ذبح ولده حتى يكون عزمه على ذلك واجبا يتحقق به معنى الابتلاء والاختبار والآخر أن المأمور به لو كان هو العزم دون الذبح لما كان هناك معنى للفداء لأن إبراهيم قد فعل كل ما أمره به ربه لم يترك شيئا ولم يخفف الله عنه شيئا على زعمهم. ثالثها قالوا إن الأمر في الحقيقة كان بمقدمات الذبح من إضجاع إبراهيم لولده وصرعه إياه على جبينه وإمراره لسكينه وما أمر إبراهيم بالذبح والجواب أن إبراهيم قد جاء بهذه المقدمات فإذا كانت هي المأمور به دون الذبح فقد أدى إبراهيم كل ما عليه فأي معنى للفداء إذن؟. رابعها قالوا أن إبراهيم على فرض أنه كان مأمورا بالذبح نفسه قد بذل وسعه في الامتثال والتنفيذ ولكن الله تعالى قلب عنق الذبيح نحاسا أو حديدا حتى لا ينقطع فسقط التكليف عن إبراهيم لهذا العذر المانع لا لوجود الناسخ. والجواب من ثلاثة أوجه الأول أن ما ذكروه من انقلاب عنقه حديدا أو نحاسا خبر موضوع ورواية هازلة لا أصل لها الثاني أن وجوب الذبح لو سقط لهذا العذر لما كان هناك معنى للفداء الثالث أنهم إذا جوزوا أن يأمرنا الله تعالى بالشيء ثم يحول بيننا وبينه بالناسخ لأنه ليس بين الحيلولتين فارق مؤثر. خامسها قالوا إن إبراهيم قد أدى الواجب وذبح ولده فعلا ولكن الجرح قد اندمل وعنق الذبيح قد اتصل والتأم فلا نسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 والجواب أولا أن هذه الرواية موضوعة أيضا بل هي أدخل في الكذب وأبعد عن ظاهر آيات القصة من الرواية السابقة ولو حصل ذلك لحدثنا القرآن به لأنه ليس أقل شأنا من أمر الفداء أو لحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم به على الأقل ولو كان النقل متواترا لأن مثله مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره. ثانيا أن هذا الواجب إذا كان قد أدى على أتم وجوهه وذبح إبراهيم ولده بالفعل ولم يحدث مانع ولم يوجد ناسخ فأي معنى للفداء؟. سادسها قالوا لا نسلم أن وجوب الذبح قد سقط عن إبراهيم بورود الفداء بل هو باق حتى يذبح الفداء فلو قصر في ذبحه لأثم إثم من كلف بذبح ولده ولم يذبحه ولو كان وجوب ذبح الولد مرتفعا بورود الفداء ما صح تسمية الفداء فداء كما لم يصح تسمية استقبال الكعبة بعد استقبال بيت المقدس فداء وذلك لأن حقيقة الفداء لا بد فيها من أمرين يقوم أحدهما مقام الآخر في تلقي المكروه وعلى هذا لا نسخ. والجواب أن هذا كلام أشبه باللغو فإنهم لا يستطيعون أن ينكروا أن إبراهيم لو ذبح ولده بعد نزول الفداء كان آثما فيكون ذبحه إياه وقتئذ حراما وقد كان قبل نزول الفداء واجبا وينطبق عليه تمام الانطباق أنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي ولا معنى للنسخ إلا ذلك. الشبهة الخامسة ودفعها: يقولون إن استدلالكم بنسخ فرضية الصلوات الخمسين في ليلة المعراج استدلال باطل لأنه خبر غير ثابت وجمهور المعتزلة ينكرون المعراج جملة ومن أثبته منهم نفى خبر فرضية الصلوات الخمسين وما ورد عليها من نسخ وقال إن ذلك من وضع القصاص واستدل على أنها زيادة موضوعة بأنها تقتضي نسخ الحكم قبل التمكن من العلم به وهو ممنوع بالإجماع ووجه هذا الاقتضاء أن فرض الخمسين صلاة لم يكن على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 كان عليه وعلى أمته معه وقد نسخ قبل أن تعلم به الأمة وعلى تسليم صحة هذه الزيادة لا نسلم أن ذلك كان فرضا على العزم والتعيين بل فوض الله تعالى ذلك إلى اختيار الرسول ومشيئته فإن اختار الخمسين فرضها وإن اختار الخمس فرض الخمس. وندفع هذه الشبهة أولا بأن خبر المعراج ثابت من طرق صحيحة متعددة لا من طريق واحد وإنكار أهل الأهواء والبدع له لا يغض من قيمة ثبوته بل يغض من قيمتهم هم قال بعد الظاهر البغدادي وليس إنكار القدرية خبر المعراج إلا كإنكارهم خبر الرؤية والشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان والخبر الصحيح لا يرد بطعن أهل الأهواء كما لم يرد خبر المسح على الخفين بطعن الروافض فيه وكما لم يرد خبر الرجم بإنكار الخوارج له. ثانيا أن هذه الزيادة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وعلى فرض خلو بعض الروايات منها فإن ذلك لا يضيرها لأن زيادة الثقة مقبولة وهذه رواية ثقات عدول ضابطين بلغوا شأوا بعيدا من الثقة والعدالة والضبط حتى روى البخاري ومسلم عنهم في صحيحهما وحسبك برجال البخاري ومسلم في الصحيحين. ثالثا أن قولهم هذا نسخ للحكم قبل تمكن الأمة من العلم به لا يفيدهم شيئا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض الله عليه الخمسين صلاة في كل يوم وليلة كما فرضها على أمته وقد علم الرسول بذلك طبعا ونسخ الله هذا الفرض بعد علم الرسول به وقبل تمكنه من امتثاله وذلك كاف في إثبات ما نحن بسبيله من نسخ الطلب قبل التمكن من الامتثال. رابعا أن قولهم إن فرض الخمسين لم يكن فرضا عزما كلام فاسد لا برهان لهم به بل نفس الرواية ترد عليهم وتثبت أن الأمر لم يوكل إلى مشيئة الرسول إن اختار الخمسين فرضها الله خمسين وإن اختار الخمس فرضها الله خمسا كما يزعمون ذلك أن الله قال له في هذا المعرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة وقبل الرسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ذلك طائعا مختارا وهبط على اسم الله حتى إذا لقي موسى سأله موسى ما فعل ربك قال فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة فقال له موسى ارجع إلى ربك واسأله التخفيف وذكر له أنه خبر بني إسرائيل من قبله فعجزوا وما زال به حتى رجع إلى مقام المناجاة وسأل التخفيف من مولاه فحط عنه خمسا وعاد إلى موسى فراجعه وما زال يرجع بين موسى وربه وفي كل مرة يحط الله عنه خمسا حتى لم يبق إلا خمس من الخمسين وأشار عليه موسى أيضا أن يرجع ويسأل التخفيف فاعتذر بأنه سأل حتى استحيى فهل بعد ذلك كله يصح في الأذهان أن يقال أو أن يفهم أن فرض الخمسين لم يكن فرضا عزما وأن الله فرض الأمر في اختيار الخمسين أو الخمس إلى مشيئة رسوله؟ {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة النسخ في الشريعة الإسلامية قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة والمنسوخ كذلك قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة فالأقسام أربعة. 1 - نسخ القرآن بالقرآن القسم الأول نسخ القرآن بالقرآن وقد أجمع القائلون بالنسخ من المسلمين على جوازه ووقوعه أما جوازه فلأن آيات القرآن متساوية في العلم بها وفي وجوب العمل بمقتضاها وأما وقوعه فلما ذكرنا وما سنذكر من الآيات الناسخة والمنسوخة وهذا القسم يتنوع إلى أنواع ثلاثة نسخ التلاوة والحكم معا ونسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دون الحكم وقد أشبعنا الكلام عليها فيما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 2 - نسخ القرآن بالسنة القسم الثاني نسخ القرآن بالسنة وقد اختلف العلماء في هذا القسم بين مجوز ومانع ثم اختلف المجوزون بين قائل بالوقوع وقائل بعدمه وإذن يجري البحث في مقامين اثنين مقام الجواز ومقام الوقوع. أ - مقام الجواز القائلون بالجواز هم مالك وأصحاب أبي حنيفة وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وحجتهم أن نسخ القرآن بالسنة ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن السنة وحي من الله كما أن القرآن كذلك لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ولا فارق بينهما إلا أن ألفاظ القرآن من ترتيب الله وإنشائه وألفاظ السنة من ترتيب الرسول وإنشائه والقرآن له خصائصه وللسنة خصائصها وهذه الفوارق لا أثر لها فيما نحن بسبيله ما دام أن الله هو الذي ينسخ وحيه بوحيه وحيث لا أثر لها فنسخ أحد هذين الوحيين بالآخر لا مانع يمنعه عقلا كما أنه لا مانع يمنعه شرعا أيضا فتعين جوازه عقلا وشرعا. هذه حجة المجيزين أما المانعون وهم الشافعي وأحمد في إحدى روايتين عنه وأكثر أهل الظاهر فيستدلون على المنع بأدلة خمسة وها هي ذي مشفوعة بوجوه نقضها: دليلهم الأول أن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وهذا يفيد أن وظيفة الرسول منحصرة في بيان القرآن والسنة إن نسخت القرآن لم تكن حينئذ بيانا له بل تكون رافعة إياه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وننقض هذا الاستدلال أولا بأن الآية لا تدل على انحصار وظيفة السنة في البيان لأنها خالية من جميع طرق الحصر وكل ما تدل عليه الآية هو أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة للقرآن وذلك لا ينفي أن تكون ناسخة له ونظير هذه الآية قول سبحانه تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا فإنه يفيد أنه نذير للعالمين ولا تنفي عنه أنه بشير أيضا للعالمين. ثانيا أن وظيفة السنة لو انحصرت في بيان القرآن ما صح أن تستقل بالتشريع من نحو إيجاب وتحريم مع أن إجماع الأمة قائم على أنها قد تستقل بذلك كتحريمه صلى الله عليه وسلم كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي ناب من السباع وكحظره أن يورث بقوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة". ثالثها أن السنة نفسها نصت على أنها قد تستقل بالتشريع وإفادة الأحكام يحدثنا العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: "أيحسب أحدكم متكئا على أريكة يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا إني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إلا إذا أعطوكم الذي فرض عليهم". رابعا أنه على فرض دلالة الآية على الحصر فالمراد بالبيان فيها التبليغ لا الشرح وقد بلغ الرسول كل ما أنزله الله إلى الناس وهذا لا ينافي أنه نسخ ما شاء الله نسخه بالسنة. خامسا أنه على فرض دلالة الآية على الحصر ودلالة البيان على خصوص الشرح فإن المراد بما أنزل إلى الناس هو جنسه الصادق ببعضه وهذا لا ينافي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 أن تكون السنة ناسخة لبعض آخر فيكون الرسول مبينا لما ثبت من الأحكام وناسخا لما ارتفع منها. دليلهم الثاني أن القرآن نفسه هو الذي أثبت أن السنة النبوية حجة فلو نسخته السنة لعادت على نفسها بالإبطال لأن النسخ رفع وإذا ارتفع الأصل ارتفع الفرع والدليل على أن القرآن هو الذي أثبت حجية السنة ما نقرؤه فيه من مثل قوله سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} , {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وننقض هذا الاستدلال أولا بأن كلامنا ليس في جواز نسخ السنة لنصوص القرآن الدالة على حجيتها حتى ترجع على نفسها بالإبطال بل هو في جواز نسخ ما عدا ذلك مما يصح أن يتعلق به النسخ. ثانيا أن ما استدلوا به حجة عليهم لأن وجوب طاعة الرسول وابتاعه يقضي بوجوب قبول ما جاء به على أنه ناسخ. دليلهم الثالث أن قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} قد جاء ردا على من أنكروا النسخ وعابوا به الإسلام ونبي الإسلام بدليل قوله سبحانه قبل هذه الآية: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ومعلوم أن روح القدس إنما ينزل بالقرآن وإذن فلا ينسخ القرآن إلا بقرآن. وننقض هذه الاستدلال بأن الكتاب والسنة كلاهما وحي من الله وكلاهما نزل به روح القدس بدليل قوله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فالذهاب إلى أن ما ينزل به روح القدس هو خصوص القرآن باطل دليلهم الرابع أن الله تعالى يقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} وهذا يفيد أن السنة لا تنسخ القرآن لأنها نابعة من نفس الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وندفع هذا الاستدلال بمثل ما دفعنا به سابقه وهو أن السنة ليست نابعة من نفس الرسول على أنها هوى منه وشهوة بل معانيها موحاة من الله تعالى إليه وكل ما استقل به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عبر عنها بألفاظ من عنده فهي وحي يوحى وليست من تلقاء نفسه على هذا الاعتبار وإذن فليس نسخ القرآن بها تبديلا له من تلقاء نفسه إنما هو تبديل يوحى. دليلهم الخامس أن آية ما ننسخ من آية أو ننسها تدل على امتناع نسخ القرآن بالسنة من وجوه ثلاثة أولها أن الله تعالى قال نأت بخير منها أو مثلها والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله. ثانيها أن وقوله نأت يفيد أن الآتي هو الله والسنة لم يأت بها الله إنما الذي أتى بها رسوله. ثالثها أن قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} يفيد أن النسخ لا يصدر إلا عمن له الاقتدار الشامل والملك الكامل والسلطان المطلق وهو الله وحده. وندفع الوجه الأول من هذا الاستدلال بأن النسخ في الآية الكريمة أعم من أن يكون في الأحكام أو في التلاوة والخيرية والمثلية أعم من أن تكونا في المصلحة أو في الثواب وقد سبق بيان ذلك وإذن فقد تكون السنة الناسخة خيرا من القرآن المنسوخ من هذه الناحية وإن كان القرآن خيرا من السنة من ناحية امتيازه بخصائصه العليا دائما. وندفع الوجه الثاني بأن السنة وحي من الله وما الرسول صلى الله عليه وسلم إلا مبلغ ومعبر عنها فقط فالآتي بها على الحقيقة هو الله وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وندفع الوجه الثالث بانا نقول بموجبه وهو أن الناسخ في الحقيقة هو الله وحده والسنة إذا نسخته فإنما تنسخه من حيث إنها وحي صادر منه سبحانه. شبهتان ودفعهما 1 - لقائل أن يقول إن من السنة ما يكون ثمرة لاجتهاده صلى الله عليه وسلم وهذا ليس وحيا أوحي إليه به بدليل العتاب الذي وجهه القرآن إلى الرسول في لطف تارة وفي عنف أخرى فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول إن السنة وحي من الله؟. والجواب أن مرادنا هنا بالسنة ما كانت عن وحي جلي أو خفي أما السنة الاجتهادية فليست مرادة هنا ألبتة لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند عدم النص فكيف يعارضه ويرفعه وقد شرحنا أنواع السنة في كتابنا المنهل الحديث في علوم الحديث فارجع إليه إن شئت. 2 - ولقائل أن يقول إن من السنة ما كان آحاديا وخبر الواحد مهما صح فإنه لا يفيد القطع والقرآن قطعي المتن فكيف ينسخ بالسنة التي لا تفيد القطع ومتى استطاع الظن أن يرفع اليقين؟. والجواب أن المراد بالسنة هنا السنة المتواترة دون الآحادية والسنة المتواترة قطيعة الثبوت أيضا كالقرآن فهما متكافئان من هذه الناحية فلا مانع أن ينسخ أحدهما الآخر أما خبر الواحد فالحق عدم جواز نسخ القرآن به للمعنى المذكور وهو أنه ظني والقرآن قطعي والظني أضعف من القطعي فلا يقوى على رفعه. والقائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة الأحادية اعتمادا على أن القرآن ظني للدلالة حجتهم داحضة لأن القرآن إن لم يكن قطعي الدلالة فهو قطعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الثبوت والسنة الآحادية ظنية الدلالة والثبوت معا فهي أضعف منه فكيف ترفعه؟. ب - مقام الوقوع: ما أسلفناه بين يديك كان في الجواز أما الوقوع فقد اختلف المجوزون فيه منهم من أثبته ومنهم من نفاه {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} وهاك وجهة كل من الفريقين لتعرف أن الحق مع النافين. استدل المثبتون على الوقوع بأدلة أربعة: الدليل الأول أن آية الجلد وهي: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} تشمل المحصنين وغيرهم من الزناة ثم جاءت السنة فنسخت عمومها بالنسبة إلى المحصنين وحكمت بأن حزاءهم الرجم. وقد ناقش النافون هذا الدليل بأمرين أحدهما أن الذي ذكروه تخصيص لا نسخ والآخر أن آية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة هي المخرجة لصور التخصيص وإن جاءت السنة موافقة لها وقد سبق الكلام على آية الشيخ والشيخة في عداد ما نسخت تلاوته وبقي حكمه فلا تغفل. الدليل الثاني أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث". وقد ناقشه النافون بأمرين: أولهما أن الحديث المذكور خبر آحاد وقد تقرر أن الحق عدم جواز نسخ القرآن بخبر الآحاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 ثانيهما أن الحديث بتمامه يفيد أن الناسخ هو آيات المواريث لا هذا الحديث وإليك النص الكامل للحديث المذكور: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في صحيحه ونصه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية المواريث. الدليل الثالث أن قوله سبحانه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وقد ناقشه النافون أولا بأن الناسخ هنا هو آية الجلد وآية الشيخ والشيخة وإن جاء الحديث موافقا لهما. ثانيا بأن ذلك تخصيص لا نسخ لأن الحكم الأول جعل الله له غاية هو الموت أو صدور تشريع جديد في شأن الزانيات وقد حققنا أن رفع الحكم ببلوغ غايته المضروبة في دليله الأول ليس نسخا. الدليل الرابع أن نهيه عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور ناسخ لقوله سبحانه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} . وقد ناقشه النافون بأن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذي ذكر فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 إنما هو مباح بالبراءة الأصلية والحديث المذكور ما رفع إلا هذه البراءة الأصلية ورفعها لا يسمى نسخا كما سلف بيانه. من هذا العرض يخلص لنا أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلا ولا شرعا غاية الأمر أنه لم يقع لعدم سلامة أدلة الوقوع كما رأيت. 3 - نسخ السنة بالقرآن هذا هو القسم الثالث وفيه خلاف العلماء أيضا بين تجويز ومنع على نمط ما مر في القسم الثاني بيد أن صوت المانعين هنا خافت وحجتهم داحضة أما المثبتون فيؤيدهم دليل الجواز كما يسعفهم برهان الوقوع ولهذا نجد في صف الإثبات جماهير الفقهاء والمتكلمين ولا نرى في صف النفي سوى الشافعي في أحد قوليه ومعه شرذمة من أصحابه ومع ذلك فنقل هذا عن الشافعي فيه شيء من الاضطراب أو إرادة خلاف الظاهر. دليل الجواز: استدل المثبتون على الجواز هنا بمثل ما استدلوا على القسم السالف فقالوا إن نسخ السنة بالقرآن ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن السنة وحي كما أن القرآن وحي ولا مانع من نسخ وحي بوحي لمكان التكافؤ بينهما من هذه الناحية. أدلة للوقوع والجواز: واستدلوا على الوقوع بوقائع كثيرة كل واقعة منها دليل على الجواز كما هي دليل على الوقوع لما علمت من أن الوقوع يدل على الجواز وزيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 من تلك الوقائع أن استقبال بيت المقدس في الصلاة لم يعرف إلا من السنة وقد نسخه قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . ومنها أن الأكل والشرب والمباشرة كان محرما في ليل رمضان على من صام ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أبرم مع أهل مكة عام الحديبية صلحا كان من شروطه أن من جاء منهم مسلما رده عليهم وقد وفى بعده في أبي جندل وجماعة من المكيين جاؤوا مسلمين ثم جاءته امرأة فهم أن يردها فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ} الآية. شبهة للمانعين ودفعها: أورد المانعون على هذا الاستدلال المعتمد على تلك الوقائع شبهة قالوا في تصويرها يجوز أن يكون النسخ فيما ذكرتم ثابتا بالسنة ثم جاء القرآن موافقا لها وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ السنة بالسنة ويجوز أن الحكم المنسوخ كان ثابتا أولأ بقرآن نسخت تلاوته ثم جاءت السنة موافقة له وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ قرآن بقرآن. وندفع هذه الشبهة بأنها قائمة على مجرد احتمالات واهية لا يؤيدها دليل ولو فتحنا بابها وجعلنا لها اعتبارا لما جاز لففيه أن يحكم على نص بأنه ناسخ لآخر إلا إذا ثبت ذلك صريحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ذلك باطل بإجماع الأمة على خلافه واتفاقها على أن الحكم إنما يسند إلى دليله الذي لا يعرف سواه بعد الاستقراء الممكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 أدلة المانعين ونقضها: 1 - قالوا إن قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يفيد أن السنة ليست إلا بيانا للقرآن فإذا نسخها القرآن خرجت عن كونها بيانا له. وننقض هذا بأن الآية ليس فيها طريق من طرق الحصر وعلى فرض وجود الحصر فالمراد بالبيان في الآية التبليغ لا الشرح ولا ريب أن التبليغ إظهار وعلى فرض أن الآية حاصرة للسنة في البيان بمعنى الشرح لا التبليغ فبيانها بعد النسخ باق في الجملة وذلك بالنسبة لما لم ينسخ منها وأنت تعلم أن بقاء الحكم الشرعي مشروط بعدم ورود ناسخ فتدبر ولاحظ التفصيل الذي ذكرناه هناك في نقض الدليل لمانعي نسخ القرآن بالسنة فإنه يفيدك هنا. 2 - قال المانعون أيضا إن نسخ السنة بالقرآن يلبس على الناس دينهم ويزعزع ثقتهم بالسنة ويوقع في روعهم أنها غير مرضية لله وذلك يفوت مقصود الشارع من وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته واقتداء الخلق به في أقواله وأفعاله ولا ريب أن هذا باطل فما استلزمه وهو نسخ السنة بالقرآن باطل. وننقض هذا الاستدلال أولا بأن مثله يمكن أن يقال في أي نوع آخر من أنواع النسخ التي تقولون بها فما يكون جوابا لكم يكون مثله جوابا لنا. ثانيا أن ما ذكروه من استلزام نسخ السنة بالقرآن لهذه الأمور الباطلة غير صحيح لأن أدلة القرآن متوافرة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وذلك يمنع لزوم هذه المحاولات الفاسدة ويجعل نسخ السنة بالقرآن كنسخ السنة بالسنة والقرآن بالقرآن في نظر أي منصف كان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 4 - نسخ السنة بالسنة نسخ السنة بالسنة يتنوع إلى أنواع أربعة نسخ سنة متواترة بمتواترة ونسخ سنة آحادية بآحاديه ونسخ سنة آحادية بسنة متواترة ونسخ سنة متواترة بسنة آحادية أما الثلاثة الأول فجائزة عقلا وشرعا وأما الرابع وهو نسخ سنة متوارترة بآحادية فاتفق علماؤنا على جوازه عقلا ثم اختلفوا في جوازه شرعا فنفاه الجمهور وأثبته أهل الظاهر أدلة الجمهور: استدل الجمهور على مذهبهم بدليلين: أولهما أن المتواتر قطعي الثبوت وخبر الواحد ظني والقطعي لا يرتفع بالظني لأنه أقوى منه والأقوى لا يرتفع بالأضعف. ثانيهما أن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى مع أن زوجها طلقها وبت طلاقها وقد أقر الصحابة عمر على رده هذا فكان إجماعا وما ذاك إلا لأنه خبر آحادي لا يفيد إلا الظن فلا يقوى على معارضة ما هو أقوى منه وهو كتاب الله إذ يقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وسنة رسوله المتواترة في جعل السكن حقا من حقوق المبتوتة. ملاحظة: روت كتب الأصول في هذا الموضوع خبر فاطمة بنت قيس بصيغة مدخولة فيها أن عمر قال حين بلغه الخبر لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت حفظت أم نسيت وعزا بعضهم هذه الرواية المدخولة إلى الإمام مسلم في صحيحة والحقيقة أن الرواية بهذا الصورة غير صحيحة كما أن عزوها إلى مسلم غير صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 والرواية الصحيحة في مسلم وغيره ليس فيها كلمة أصدقت أم كذبت بل اقتصرت على كلمة أحفظت أم نسيت ومثلك حماك الله يعلم أن الشك في حفظ فاطمة ونسيانها لا يقدح في عدالتها وصدقها فإياك أن تخوض مع الخائضين من المستشرفين وأذنابهم فتطعن في الصحابة وتجرحهم في تثبتهم لمثل هذا الخبر المردود. وإن شئت المزيد من التعليق على هذا الخبر وما شابهه فاقرأ ما كتبناه تحت عنوان دفع شبهات في هذا المقام من كتابنا المنهل الحديث في علوم الحديث. أدلة الظاهر: اعتمد أهل الظاهر في جواز نسخ المتواتر بالآحاد شرعا على شبهات ظنوها أدلة وما هي بأدلة. منها أن النسخ تخصيص لعموم الأزمان فيجوز بخبر الواحد وإن كان المنسوخ متواترا كما أن تخصيص عموم الأشخاص يجوز بخبر الواحد وإن كان العام المخصوص متواترا. وندفع هذا أولا بأن المقصود من النص المنسوخ جميع الأزمان وليس المقصود منه استمرار الحكم إلى وقت النسخ فقط وإذن فالنسخ رفع لمقتضى العموم لا تخصيص للعموم فكيف يقاس النسخ على التخصيص الذي هو بيان محض للمقصود من اللفظ. ثانيا أننا نمنع جواز تخصيص المتواتر بخبر الواحد كما هو رأي الحنفية. ومنها أن أهل قباء كانوا يصلون متجهين إلى بيت المقدس فأتاهم آت يخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة فاستجابوا له وقبلوا خبره واستداروا وهم في صلاتهم وبلغ ذلك رسول الله فأقرهم وهذا دليل على أن خبر الواحد ينسخ المتواتر. وندفع هذا بأن خبر الواحد في هذه الحادثة احتفت به قرائن جعلته يفيد القطع وكلامنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 في خبر الواحد الذي لا يفيد القطع وهذه القرائن التي تفيد القطع هنا نعلمها من أن الحادثة المروية حادثة جزئية حسية لا تحتمل الخطأ ولا النسيان وأنها تتصل بأمر عظيم هو صلاة جمع من المسلمين وأن الراوي لها صحابي جليل وأنه لا واسطة بينه وبين الرسول وأنه واثق من أنه إن كذب فسيتفتضح أمره لا محالة وسيلاقي من العنت والعقاب ما يحيل العقل عادة معه تسبب هذا الراوي العظيم له يضاف إلى هذا أن التوجه إلى بيت المقدس كان متوقع الانتساخ لما هو معروف من حب العرب وحب الرسول معهم لاستقبال الكعبة التي هي مفخرتهم ومفخرة آبائهم وأجدادهم فكان عليه الصلاة والسلام يرفع وجهه إلى السماء انتظارا لنزول الوحي بذلك {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 نسخ القياس والنسخ به ينطوي تحت نسخ القياس والنسخ به صور ثلاث أولاها أن ينسخ القياس حكما دل عليه قياس ومثلوا لذلك بأن يوجب الشارع إكرام زيد لسخائه فنقيس عليه عمرا لوجود علة السخاء فيه ثم بعد ذلك يوجب الشارع إهانة بكر لكونه سكيرا فنقيس عليه عمر المذكور لوجود علة السكر فيه وبذلك ينتسخ وجوب إكرام عمر وبوجوب إهانته عند ترجيح هذا القياس الثاني على الأول. ثانيتها أن ينسخ القياس حكما دل عليه نص كأن ينص الشارع على إباحة النبيذ ثم بعد ذلك يحرم الخمر لإسكاره فنقيس النبيذ عليه لوجود علة الإسكار فيه وبذلك ينتسخ حكم الإباحة الثابت نصا بحكم التحريم الثابت قياسا. ثالثتها أن ينسخ النص قياسا كأن يحرم الشارع الخمر لكونه مسكرا فنحمل عليه النبيذ لإسكاره ثم بعد ذلك ينص الشارع على إباحة النبيذ فتنسخ حرمة النبيذ الثابتة قياسا بإباحته الثابتة نصا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وقد اختلف علماؤنا فمنهم من منع نسخ القياس والنسخ به مطلقا ومنهم من جوزه مطلقا ومنه من فصل والجمهور على جواز نسخه والنسخ به إن كان قطعيا وعلى منعه إن كان ظنيا والقطعي ما قطع فيه بنفي الفارق كقياس صب البول في الماء الراكد على البول فيه فيأخذ حكمه وهو الكراهة. أدلة المانعين مطلقا: وقد استدل القائلون بمنع نسخ القياس مطلقا بأن نسخه يقتضي ارتفاع حكم الفرع مع بقاء حكم الأصل وهذا لا يقبله العقل لأن العلة التي رتب عليها الشارع حكم الأصل موجودة في الفرع وهي قاضية ببقاء الحكم في الفرع ما دام باقيا في الأصل. ونوقش هذا الاستدلال بأمرين أحدهما أن نسخ القياس لا يقتضي ما ذكروه بل يقتضي ارتفاع حكم الأصل تبعا لارتفاع حكم الفرع على معنى أن نسخ حكم الفرع يدل على أن الشارع قد ألغى العلة التي رتب عليها حكم الأصل وإلغاؤها يقتضي ارتفاع حكمه. والآخر أنه لا مانع عقلا من أن ينسخ الشارع الفرع بناء على أنه اعتبر قيدا في العلة لم يكن معتبرا من قبل وهذا القيد موجود في الأصل وليس موجودا في الفرع. هذا دليل المانعين لجواز نسخ القياس مطلقا مع مناقشته أما الدليل على منعهم جواز النسخ به مطلقا فيتلخص في أن المنسوخ به إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا لا جائز أن يكون نصا لأن دلالته أقوى من دلالة القياس والضعيف لا يرفع ما هو أقوى منه ولا جائز أن يكون المنسوخ به إجماعا لأن الإجماع لا يصلح أن يكون ناسخا ولا منسوخا كما سيأتي تحقيقه ولا جائز أن يكون قياسا لأنه يشترط لصحة القياس أن يسلم من المعارض المساوي له والأرجح منه وهذا القياس المتأخر مفروض أنه أرجح من الأول وإذن يتبين بظهوره بطلان القياس الأول وإذا تبين بطلانه بطل القول بنسخه لأن النسخ رفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 لحكم ثابت من قبل وهذا قد تبين خطؤه وعدم ثبوته ونوقش هذا الاستدلال بأن إطلاق القول بأن النص أقوى دلالة من القياس غير مسلم فإن هناك من النصوص ما تخفي دلالته حتى لا يفقهها إلا الخواص على حين أن هناك من الأقيسة ما تظهر دلالته لكل باحث منصف. دليل المجوزين مطلقا: واستند المجوزون لنسخ القياس والنسخ به مطلقا إلى أن القياس دليل شرعي لم يقم دليل عقلي ولا نقلي على امتناع نسخه أو النسخ به. ونوقش هذا الاستدلال بأن إطلاقهم هذا يستلزم التسوية بين ظني القياس وقطعيه ويستلزم جواز ارتفاع القطعي منه بالظني وكلاهما غير مقبول عقلا ولا نقلا. دليل الجمهور: واستدل الجمهور على جواز نسخه والنسخ به إن كان قطعيا بأن القياس القطعي لا يستلزم نسخه ولا النسخ به محالا عقليا ولا شرعيا واستدلوا على عدم جواز نسخه والنسخ به إن كان ظنيا بأن جواز ذلك يستلزم المحال أما بيانه بالنسبة لعدم جواز نسخه فهو أن الناسخ له إما أن يكون قطعيا أو ظنيا لا جائز أن يكون قطعيا لأن الظن لا يقوى على رفع اليقين ولا جائز أن يكون ظنيا وكلا هذين مبطل للقياس الأول والباطل لا ثبوت له حتى ينتسخ ويستدلون على أن كلا هذين مبطل للقياس الأول بأن اقتضاء القياس للحكم مشروط بألا يظهر له معارض مساو له أو أرجح منه ولا ريب أن القياس القطعي المتأخر أقوى من الأول وأن الظني أرجح منه حتى يعقل نسخه له فبظهور أحدهما يتبين بطلان ذلك القياس الأول وإذن فلا نسخ ودليلهم على عدم جواز النسخ به هو أن المنسوخ بالقياس الظني إما أن يكون قطعيا أو ظنيا لأن اقتضاء القياس الظني للحكم مشروط بألا يظهر له معارض مساو له أو أرجح منه وفي هذه الصورة قد ظهر له معارض وهو القياس المتأخر عنه الذي لا بد أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 أرجح منه حتى يعقل نسخه له وعلى هذا يكون القياس المتأخر مبينا بطلان اقتضاء القياس المتقدم للحكم لا ناسخا له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 نسخ الإجماع والنسخ به جمهور الأصوليين على أن الإجماع لا يجوز أن يكون ناسخا ولا منسوخا واستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون ناسخا بأن المنسوخ به إ ما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا لا جائز أن يكون نصا لأن الإجماع لا بد أن يكن له نص يستند إليه خصوصا إذا انعقد على خلاف النص وإذن يكون الناسخ هو ذلك النص الذي استند إليه الإجماع لا نفس الإجماع ولا جائز أن يكون المنسوخ بالإجماع إجماعا لأن الإجماع لا يكون إلا عن مستند يستند إليه من نص أو قياس إذ الإجماع بدون مستند قول على الله بغير علم والقول على الله بغير علم ضلالة والأمة لا تجتمع على ضلالة ومستند الإجماع الثاني لا بد أن يكون نصا حدث بعد الإجماع الأول لأن ذلك النص لو تحقق قبل الإجماع الأول ما أمكن أن ينعقد الإجماع على خلافه ولا ريب أن حدوث نص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم محال فما أدى إليه وهو نسخ الإجماع بالإجماع محال ولا جائز أن يكن المنسوخ بالإجماع قياسا لأن الإجماع على خلاف القياس يقتضي أحد أمرين إما خطأ القياس وإما انتساخه بمستند الإجماع وعلى كلا التقديرين فلا يكون الإجماع ناسخا واستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون الإجماع منسوخا بأن الإجماع لا يعتبر حجة إلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذن فالناسخ له إما أن يكون نصا أو قياسا أو إجماعا لا جائز أن يكون نصا لأن الناسخ متأخر عن المنسوخ أو لا يعقل أن يحدث نص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جائز أن يكون الناسخ للإجماع قياسا لأن نسخ الإجماع بالقياس يقتضي أن يكون الحكم الدال على الأصل حادثا بعد الرسول وهو باطل ولا جائز أن يكون الناسخ للإجماع إجماعا لما سبق وأما قولهم هذا الحكم منسوخ إجماعا فمعناه أن الإجماع انعقد على أنه نسخ بدليل من الكتاب أو السنة لا أن الإجماع هو الذي نسخه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 المجوزون ومناقشتهم: ما تقدم هو مذهب الجمهور ولكن بعض المعتزلة وآخرون جوزوا أن يكون الإجماع ناسخا لكل حكم صلح النص ناسخا له واستدلوا بأدلة منها أن نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكوات ثابت بصريح القرآن وقد نسخ بإجماع الصحابة في زمن الصديق على إسقاطه. ونوقش هذا بوجوه أولها أن الإجماع المذكور لم يثبت بدليل اختلاف الأئمة المجتدين في سقوط نصيب هؤلاء. ثانيها أن العلة في اعتبار المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة هي إعزاز الإسلام بهم وفي عهد أبي بكر اعتز الإسلام فعلا بكثرة أتباعه واتساع رقعته فأصبح غير محتاج إلى إعزاز وسقط نصيب هؤلاء المؤلفة لسقوط علته ثالثها أنه على فرض صحة هذا الإجماع فإن الإجماع لا بد له من مستند وإذن فالناسخ هو هذا المستند لا الإجماع نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ العلماء في موقفهم من الناسخ والمنسوخ يختلفون بين مقصر ومقتصد وغال فالمقصرون هم الذين حاولوا التخلص من النسخ إطلاقا سالكين به مسلك التأويل بالتخصيص ونحوه كأبي مسلم ومن وافقه وقد بينا الرأي في هؤلاء سابقا. والمقتصدون هم الذين يقولون بالنسخ في حدوده المعقولة فلم ينفوه إطلاقا كما نفاه أبو مسلم وأضرابه ولم يتوسعوا فيه جزافا كالغالين بل يقفون به موقف الضرورة التي يقتضيها وجود التعارض الحقيقي بين الأدلة مع معرفة التقدم منها والمتأخر. والغالون هم الذين تزيدوا فأدخلوا في النسخ ما ليس منه بناء على شبه ساقطة ومن هؤلاء أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ وهبة الله بن سلامة, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وأبو عبد الله محمد بن حزم وغيرهم فإنهم ألفوا كتبا في النسخ أكثروا فيها من ذكر الناسخ والمنسوخ اشتباها منهم وغلطا ومنشأ تزيدهم هذا أنهم انخدعوا بكل ما نقل عن السلف أنه منسوخ وفاتهم أن السلف لم يكونوا يقصدون بالنسخ هذا المعنى الاصطلاحي بل كانوا يقصدون به ما هو أعم منه مما يشمل بيان المجمل وتقييد المطلق ونحوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 منشأ غلط المتزيدين تفصيلا ونستطيع أن نرد أسباب هذا الغلط إلى أمور خمسة: أولها ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال سببه من المنسوخ وعلى هذا عدوا الآيات التي وردت في الحث على الصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين وقلتهم منسوخة بآيات القتال مع أنها ليست منسوخة بل هي من الآيات التي دارت أحكامها على أسباب فالله أمر المسلمين بالصبر وعدم القتال في أيام ضعفهم وقلة عددهم لعلة الضعف والقلة ثم أمرهم بالجهاد في أيام قوتهم وكثرتهم لعلة القوة والكثرة وأنت خبير بأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما وأن انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخا بدليل أن وجوب التحمل عند الضعف والقلة لا يزال قائما إلى اليوم وأن وجوب الجهاد والدفاع عند القوة والكثرة لا يزال قائما كذلك إلى اليوم. ثانيها توهمهم أن إبطال الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية من قبيل ما نسخ الإسلام فيه حكما بحكم كإبطال نكاح نساء الآباء وكحصر عدد الطلاق في ثلاث وعدد الزواج في أربع بعد أن لم يكونا محصورين مع أن هذا ليس نسخا لأن النسخ رفع حكم شرعي وما ذكروه من هذه الأمثلة ونحوها رفع الإسلام فيه البراءة الأصلية وهي حكم عقلي لا شرعي. ثالثها اشتباه التخصيص عليهم بالنسخ كالآيات التي خصصت باستثناء أو غاية مثل قوله سبحانه: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ومثل قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} . رابعها اشتباه البيان عليهم بالنسخ في مثل قوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} فإن منهم من توهم أنه ناسخ لقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} مع أنه ليس ناسخا له وإنما هو بيان لما ليس بظلم وببيان ما ليس بظلم يعرف الظلم وبضدها تتميز الأشياء. خامسها توهم وجود تعارض بين نصين على حين أنه لا تعارض في الواقع وذلك مثل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} , وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فإن بعضهم توهم أن كلتا الآيتين منسوخة بآية الزكاة لتوهمه أنها تعارض كلا منهما على حين أنه لا تعارض ولا تنافي لأنه يصح حمل الإنفاق في كلتا الآيتين الأوليين على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقارب ونحو ذلك وتكون آية الزكاة معهما من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام ومثل هذا لا يقوى على تخصيص العام فضلا عن أن ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة قد عرفت أن المتزيدين أكثروا القول بالآيات المنسوخة غلطا منهم واشتباها ونزيدك هنا أن بعض فطاحل العلماء تعقب هؤلاء المتزيدين بالنقد كالقاضي أبي بكر بن العربي وكجلال الدين السيوطي الذي حصر ما يصح لدعوى النسخ من آيات القرآن في اثنتين وعشرين آية ثم ذكر أن الأصح في آيتي الاستئذان والقسمة الإحكام لا النسخ وها هي ذي مشفوعة بالتعليق عليها مرتبة بترتيب المصحف الشريف: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 الآية الأولى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قيل إنها منسوخة بقوله سبحانه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} لأن الآية الأولى تفيد جواز استقبال غير المسجد الحرام في الصلاة ما دامت الآفاق كلها لله وليست له جهة معينة والثانية تفيد عدم جواز استقبال غيره فيها ما دامت تحتم استقبال المسجد الحرام في أي مكان نكون فيه. وقيل إن الآية المذكورة ليست منسوخة وإنما هي محكمة وهذا ما نرجحه لأنها نزلت ردا على قول اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} إذن فهي متأخرة في النزول عن آية التحويل كما قال ابن عباس وليس بمعقول أن يكون الناسخ سابقا على المنسوخ ثم إن معناها هكذا إن الآفاق كلها لله وليس سبحانه في مكان خاص منها وليس له جهة معينة فيها وإذن فله أن يأمر عباده باستقبال ما يشاء من الجهات في الصلاة وله أن يحولهم من جهة إلى جهة وهذا المعنى كما ترى لا يتعارض وأن يأمر الله عباده وجوبا باستقبال الكعبة دون غيرها بعد أن أمرهم باستقبال بيت المقدس وحيث لا تعارض فلا نسخ بل الآيتان محكمتان ويؤيد إحكام هذه الآية أن جملة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وردت بنصها في سياق الآيات النازلة في التحويل إلى الكعبة ردا على من طعنوا فيه اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وبعضهم يمنع التعارض ويدفع النسخ بأن آية {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} تفيد جواز التوجه إلى غير الكعبة في خصوص صلاة النافلة سفرا على الدابة ويقول إن هذا الحكم باق لم ينسخ أما الآية الثانية فتفيد وجوب استقبال الكعبة في الفرائض وبعضهم يحمل الآية الأولى على التوجه في الدعاء والثانية على التوجه في الصلاة وإذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 لا تعارض على هذين الاحتمالين وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذين الرأيين وإن وافقا الرأي السابق في إحكام الآية فهما مبنيان على تأويل في معنى الآية يخالف الظاهر كما هو ظاهر نعم إن آية {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ناسخة لما كان واجبا بالسنة من وجوب استقبال بيت المقدس على رأي من لا يمنع نسخ السنة بالقرآن. الآية الثانية {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فإنها تفيد أن الوصية للوالدين والأقربين فرض مكتوب وحق واجب على من حضرهم الموت من المسلمين وقد اختلف في نسخ هذه الآية وفي ناسخها فالجمهور على أنها منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث وقيل إنها منسوخة بالسنة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وقيل منسوخة بإجماع الأمة على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين وقيل إنها محكمة لم تنسخ ثم اختلف هؤلاء القائلون بالإحكام فبعضهم يحملها على من حرم الإرث من الأقربين وبعضهم يحملها على من له ظروف تقضي بزيادة العطف عليه كالعجزة وكثيري العيال من الورثة. ورأيي أن الحق مع الجمهور في أن الآية منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث أما القول بإحكامها فتكلف ومشي في غير سبيل لأن الوالدين وقد جاء ذكرهما في الآية لا يحرمان من الميراث بحال ثم إن أدلة السنة متوافرة على عدم جواز الوصية لوارث محافظة على كتلة الوارثين أن تتفتت وحماية للرحم من القطعية التي نرى آثارها السيئة بين من زين الشيطان لمورثهم أن يزرع لهم شجرة الضغينة قبل موته بمفاضلته بينهم في الميراث عن طريق الوصية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وأما القول بأن الناسخ السنة فيدفعه أن هذا الحديث آحادي والآحادي ظني والظني لا يقوى على نسخ القطعي وهو الآية وأما القول بأن الناسخ هو الإجماع فيدفعه ما بيناه من عدم جواز نسخ الإجماع والنسخ به نعم إن نسخ آية الوصية بآيات المواريث فيه شيء من الخفاء والاحتمال ولكن السنة النبوية أزالت الحفاء ورفعت الاحتمال حين أفادت أنها ناسخة إذ قال صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية المواريث إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وفي هذا المعنى ينقل عن الشافعي ما خلاصته إن الله تعالى أنزل آية الوصية وأنزل آية المواريث فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع المواريث واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية وقد طلب العلماء ما يرجح أحد الاحتمالين فوجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وهذا الخبر وإن كان آحاديا لا يقوى على نسخ الآية فإنه لا يضعف عن بيانها وترجيح احتمال النسخ على احتمال عدمه فيها. هذا ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الشعبي والنخعي ذهبا إلى عدم نسخ آية الوصية مستندين إلى أن حكمها هو الندب لا الوجوب فلا تعارض بينها وبين آية المواريث كما لا تعارض بينها وبين حديث لا وصية لوارث لأن معناه لا وصية واجبة وهو لا ينافي ندب الوصية وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذا الرأي سقيم فيما نفهم لأنه خلاف الظاهر المتبادر من لفظ كتب المعروف في معنى الفرضية ومن لفظ حقا على المتقين المعروف في معنى الإلزام ومن شواهد السنة الناهية عن الوصية لوارث. الآية الثالثة {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فإنها تفيد تخيير من يطيق الصوم بين الصوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 والإفطار مع الفدية وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} المفيد لوجوب الصوم دون تخيير على كل صحيح مقيم من المسلمين. وقيل إ ن الآية محكمة لم تنسخ لأنها على حذف حرف النفي والتقدير {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ويدل على هذا الحذف قراءة {يُطِيقُونَهُ} بتشديد الواو وفتحها والمعنى يطيقونه بجهد ومشقة وإذن لا تعارض ولا نسخ ويرد هذا الرأي أولا بأنه مبني على أن في الآية حذفا ولا ريب أن الحذف خلاف الأصل أما قراءة يطوقونه بالتشديد فلا تدل على مشقة تصل بصاحبها إلى جواز الفطر بعد إيجاب الصوم من غير تخيير بل تدل على مشقة ما ولا شك أن كل صوم فيه مشقة ما خصوصا أول مشروعيته ثانيا أن أبا جعفر النحاس روى في كتابه الناسخ والمنسوخ عن أبي سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من شاء منا صام ومن شاء أن يفتدي فعل حتى نسختها الآية بعدها. الآية الرابعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فإن هذا التشبيه يقتضي موافقة من قبلنا فيما كانوا عليه من تحريم الوطء والأكل بعد النوم ليلة الصوم وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} كذلك قالوا ولكنك تعلم أن التشبيه لا يجب أن يكون من كل وجه وإذن فالتشبيه في الآية الأولى لا يقضي بما ذكروه من وجوب موافقة أهل الكتاب فيما كانوا عليه في صومهم استدلالا بالتشبيه في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين وحيث انتفى التعارض انتفى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 الآية الخامسة {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} فإنها تفيد حرمة القتال في الشهر الحرام وقد روى ابن جرير عن عطاء بن ميسرة أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ونقل أبو جعفر النحاس إجماع العلماء ما عدا عطاء على القول بهذا النسخ ووجه ذلك أن آية {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} أفادت الإذن بقتال المشركين عموما والعموم في الأشخاص يستلزم العموم في الأزمان وأيدوا ذلك بأن رسول صلى الله عليه وسلم قاتل هوزان بحنين وثقيفا بالطائف في شوال وذي القعدة سنة ثمان من الهجرة ولا ريب أن ذا القعدة شهر حرام وقيل إن النسخ لم يقع بهذه الآية إنما وقع بقوله سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فإن عموم الأمكنة يستلزم عموم الأزمنة. ذلك رأي الجمهور وهو محجوج فيما نفهم بما ذهب إليه عطاء وغيره من أن عموم الأشخاص في الآية الأولى وعموم الأمكنة في الآية الثانية ولا يستلزم واحد منهما عموم الأزمنة وإذن فلا تعارض ولا نسخ بل الآية الأولى نهت على العموم في الأشخاص والثانية نبهت على العموم في الأمكنة وكلاهما غير مناف لحرمة القتال في الشهر الحرام لأن عموم الأشخاص وعموم الأمكنة يتحققان في بعض الأزمان الصادق بما عدا الأشهر الحرم ويؤيد ذلك أن حرمة القتال في الشهر الحرام لا تزال باقية اللهم إلا إذا كان جزاء لما هو أشد منه فإنه يجوز حينئذ لهذا العارض كما دل عليه قول الله في الآية نفسها: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 الآية السادسة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فإنها منسوخة بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لأن الآية الأولى أفادت أن من توفي عنها زوجها يوصي لها بنفقة سنة وبسكنى مدة حول ما لم تخرج فإن خرجت فلا شيء لها وأما الثانية فقد أفادت وجوب انتظارها أربعة أشهر وعشرا ولازم هذا أنه لا يجوز لها أن تخرج في هذه المدة أو تتزوج. وقيل إن ذلك تخصيص لا نسخ فإن المرأة قد تكون عدتها سنة كاملة إذا كانت حاملا ويرد هذا بأن الآية الأولى تفيد اعتداد المرأة حولا كاملا إذا كانت غير حامل أو كانت حاملا ولم يمكث حملها سنة والآية الثانية قد رفعت هذا جزما وذلك محقق للنسخ على أن الاعتداد حولا كاملا فيما إذا كانت المرأة حاملا ليس لدلالة الآية الأولى عليه بل لآية وأولت الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وهذا لا يتقيد بعام بل ربما يزيد أو ينقص. وقيل إن الآية الأولى محكمة ولا منافاة بينها وبين الثانية لأن الأولى فيما إذا كان هناك وصية للزوجة بذلك ولم تخرج ولم تتزوج أما الثانية ففي بيان العدة والمدة التي يجب عليها أن تمكثها وهما مقامان مختلفان ويرد هذا بأن الآية الأولى تجعل للمتوفى عنها حق الخروج في أي زمن وحق الزواج ولم تحرم عليها شيئا منهما قبل أربعة أشهر وعشر أما الثانية فقد حرمتهما وأوجبت عليها الانتظار دون خروج وزواج طوال هذه المدة فالحق هو القول بالنسخ وعليه جمهور العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 الآية السابعة {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فإنها منسوخة بقوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} لأن الآية الأولى تفيد أن الله يكلف العباد حتى بالخطرات التي لا يملكون دفعها والآية الثانية تفيد أنه لا يكلفهم بها لأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها والذي يظهر لنا أن الآية الثانية مخصصة للأولى وليست ناسخة لأن إفادة الأولى لتكليف الله عباده بما يستطيعون مما أبدوا في أنفسهم أو أخفوا لا تزال هذه الإفادة باقية وهذا لا يعارض الآية الثانية حتى يكون ثمة نسخ. وقال بعضهم: إن الآية محكمة لأنها خاصة بكتمان الشهادة وإظهارها ويرده أنه لا دليل على هذا التخصيص. وقال بعضهم: إنها محكمة مع بقائها على عمومها والمعنى أن الله يحاسب المؤمنين والكافرين بما أبدوا وبما أخفوا فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين ويرده أن هذا العموم لا يسلم بعد ما تقرر من أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها سواء أكانت نفسا مؤمنة أم كافرة لأن لفظ {نَفْساً} نكرة في سياق النفي فيعم. الآية الثامنة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال السيوطي ليس في آل عمران آية يصح فيها دعوى النسخ إلا هذه الآية فقد قيل إنها منسوخة بقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .اهـ. والذي يبدو لنا أنها غير منسوخة لأن الآيتين غير مسلم فإن تقوى الله حق تقوه المأمور بها في الآية الأولى معناها الإتيان بما يستطيعه المكلفون من هداية الله دون ما خرج عن استطاعتهم وقد ورد تفسيرها بأن يحفظ الإنسان رأسه وما وعى, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وبطنه وما حوى ويذكر الموت والبلى ولا ريب أن ذلك مستطاع بتوفيق الله فإذن لا تعارض بينها وبين قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وحيث لا تعارض فلا نسخ. الآية التاسعة {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} قيل إنها منسوخة بآيات المواريث والظاهر أنها محكمة لأنها تأمر بإعطاء أولي القربى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين ولا تعارض ولا نسخ. نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ثم رفع بآيات المواريث وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول فلا مفر من القول بالنسخ ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها وهذا يجعلنا نرجع أن في الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر حتى يتأتى القول بإحكامها فتأمل. الآية العاشرة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} نسخها قوله الله: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وقيل إنها على توريث الموالاة وتوريثهم باق غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام وبذلك يقول فقهاء العراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الآية الحادية عشرة {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} فإنها منسوخة بآية النور وهي {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك بالنسبة إلى البكر رجلا كان أو امرأة أما الثيب من الجنسين فقد نسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما وأبدل بالرجم الذي دلت عليه تلك الآية المنسوخة التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة دلت عليه السنة أيضا. وبعضهم يقول بالإحكام وعدم النسخ ذاهبا إلى أن الآية الأولى جاءت فيمن أتين مواضع الريب والفسوق ولم يتحقق زناهن أما الثانية فإنها فيمن تحقق زناهن ولكن هذا مردود من وجهين أحدهما أنه تأويل يصادم الظاهر بدون دليل لأن قوله يأتين الفاحشة يتبادر منه مقارفتهن نفس الفاحشة لا مجرد غشيان مكانها والأخذ بأسبابها: والآخر قوله خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب جلد مائة والرجم. القربى واليتامى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين ولا تعارض ولا نسخ. نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ثم رفع بآيات المواريث وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول فلا مفر من القول بالنسخ ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها وهذا يجعلنا نرجح أن في الأمر الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر حتى يتأتى القول بإحكامها فتأمل الآية الثانية عشرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} قيل إن قوله ولا الشهر الحرام منسوخ بمقتضى عموم قوله وقاتلوا المشركين كافة وقد سبق القول في هذا فالحق عدم النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الآية الثالثة عشرة {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فإنها منسوخة بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقد قيل بعدم النسخ وأن الآية الثانية متممة للأولى فالرسول مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية وهذا ما نرجحه لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع. الآية الرابعة عشرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فإن قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} منسوخ بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقيل إنه لا نسخ لأن الآية الأولى خاصة بما إذا نزل الموت بأحد المسافرين وأراد أن يوصي فإن الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم توسعة على المسافرين لأن ظرف السفر ظروف دقيقة قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمين لضاق الأمر وربما ضاعت الوصية أما الآية الثانية فهي القاعدة العامة في غير ظروف السفر. الآية الخامسة عشرة {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} منسوخة بقوله سبحانه: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ووجه النسخ أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة وأن الثانية أفادت وجوب ثبات الواحد للاثنين وهما حكمان متعارضان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 فتكون الثانية ناسخة للأولى وقيل لا تعارض بين الآيتين ولا نسخ لأن الثانية لم ترفع الحكم الأول بداهة أنه لم يقل فيها لا يقاتل الواحد العشرة إذا قدر على ذلك بل هي مخففة فحسب على معنى أن المجاهد إن قدر على قتال العشرة فله الخيار رخصة من الله له بعد أن اعتز المسلمون ولكنك ترى أن النسخ على هذا الوجه لا مفر منه أيضا لأن الآية الأولى عينت على المجاهد أن يثبت لعشرة والثانية خيرته بين الثبات لعشرة وعدم الثبات لأكثر من اثنين ولا ريب أن التخيير يعارض الإلزام على وجه التعيين. الآية السادسة عشرة {نْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فإنها نسخت بآيات العذر وهي قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وقيل إن الآية الأخيرة في النفر للتعليم والتفقه لا للحرب والآيتان قبلها مخصصتان لا ناسختان للآية الأولى كأنه قال من أول الأمر لينفر منكم خفافا وثقالا كل من احتيج إليه وهو قادر لا عذر له. الآية السابعة عشرة {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فإنها منسوخة بقوله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} لأن الآية خبر بمعنى النهي بدليل قراءة {لا يَنْكِحُ} بالجزم والقراءات يفسر بعضها بعضا وقيل بعدم النسخ تفسير للآية الأولى بأن الزاني المعروف بالزنى لا يستطيع أن ينكح إلا زانية أو مشركة لنفور المحصنات المؤمنات من زواجه وكذلك المرأة المعروفة بالزنى لا يرغب في نكاحها إلا زان أو مشرك لنفور المؤمنين الصالحين من زواجها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 والحق أن الآية منسوخة لأنها خبر بمعنى النهي كما سبق ولأن الأمر بالنسبة للمشرك والمشركة لا يستقيم إلا مع القول بالنسخ. الآية الثامنة عشرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} قيل إن هذه الآية منسوخة لكن لا دليل على نسخها فالحق أنها محكمة وهي أدب عظيم يلزم الخدم والصغار البعد عن مواطن كشف العورات حماية للأعراض من الانتهاك وحفظا للأنظار أن ترى ما لا تليق رؤيته في أوقات التبذل. الآية التاسعة عشرة {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} نسخها قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . واعلم أن هذا النسخ لا يستقيم إلا على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن الآية الأولى وأن الله قد أحل للرسول في آخر حياته ما كان قد حرمه عليه من قبل في قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الخ. وذلك مروي عن علي كرم الله وجهه وعن ابن عباس رضي الله عنه وعن أم سلمة رضوان الله عليها وعن الضحاك رحمه الله وعن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وابن المنذر وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء إلا ذات محرم" الخ. والسر في أن الله حرم على الرسول أولا ما عدا أزواجه ثم أحل له ما حرمه عليهن هو أن التحريم الأول فيه تطبيب لقلوب نسائه ومكافأة لهن على اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة بعد أن نزلت آيات التخيير في القرآن ثم إن إحلال هذا الذي حرم على رسوله مع عدم زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهن بعد هذا الإحلال كما ثبت ذلك فيه بيان صلى الله عليه وسلم لفضله ومكرمته عليهن حيث قصر نفسه ولم يتزوج بغيرهن مع إباحة الله له ذلك. وقد جاءت روايات أخرى في هذا الموضوع تخالف ما ذكرناه لكن لم يثبت لدينا صحة شيء منها ولهذا رجحنا ما بسطناه ولا يعكر صفو القول بالنسخ هنا ما نلاحظه من تأخر الآية المنسوخة عن الناسخة في المصحف لأن المدار على ترتيب النزول لا على ترتيب المصحف كما تعلم. الآية العشرون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ذلك خير فإنها نسخت بقوله سبحانه: عقب تلك الآية: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قيل لا نسخ بحجة أن الآية الثانية بيان للصدقة المأمور بها في الأولى وأنه يصح أن تكون صدقة غير مالية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله وأنت خبير بأن هذا ضرب من التكلف في التأويل يأباه ما هو معروف من معنى الصدقة حتى أصبح لفظها حقيقة عرفية في البذل المالي وحده وقيل إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال بزوال سببه وهو تمييز المنافق من غيره وهذا مردود بأن كل حكم منسوخ فإنما نسخه الله لحكمة من نحو مصلحة أو سبب كان يرتبط به الحكم الأول ثم زالت تلك المصلحة أو ذلك السبب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 الآية الحادية والعشرون {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} نسختها آية الغنيمة وهي قوله سبحانه: واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبيان ذلك أن الآية الأولى تفيد أن زوجات المسلمين اللاتي ارتددن ولحقن بدار الحرب يجب أن يدفع إلى أزواجهن مثل مهورهن من الغنائم التي يغنمها المسلمون ويعاقبون العدو بأخذها والآية الثانية تفيد أن الغنائم تخمس أخماسا ثم تصرف كما رسم الشارع ولكنك بالتأمل تستظهر معنا أنه لا نسخ لأن الآيتين لا تتعارضان بل يمكن الجمع بينهما بأن يدفع من الغنائم أولا مثل مهور هذه الزوجات المرتدات اللاحقات بدار الحرب ثم تخمس الغنائم بعد ذلك أخماسا وتصرف في مصارفها الشرعية. الآية الثانية والعشرون {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} فإنها منسوخة بقوله سبحانه في آخر هذه السورة: {اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الخ وبيان ذلك أن الآية الأولى أفادت وجوب قيامه من الليل نصفه أو أنقص منه قليلا أو أزيد عليه أما الثانية فقد أفادت أن الله تاب على النبي وأصحابه في هذا بأن رخص لهم في ترك هذا القيام المقدر ورفع عنهم كل تبعة في ذلك الترك كما رفع التبعات عن المذنبين بالتوبة إذا تابوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 ولا ريب أن هذا الحكم الثاني رافع للحكم الأول فتعين النسخ. وقد قيل في تفسير هذه الآيات كلام كثير لا نرى حاجة إلى ذكره والله يكفينا كثرة القيل والقال ويتوب علينا من النزاع والخلاف ويجمع صفوفنا على دينه وحبه آمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه معنى محكم القران ومتشابه ... المبحث الخامس عشر في محكم القرآن ومتشابهه المعنى اللغوي: لهذين اللفظين إطلاقات في اللغة وإطلاقات في الاصطلاح فاللغويون يستعملون مادة الإحكام بكسر الهمز في معان متعددة لكنها مع تعددها ترجع إلى شيء واحد هو المنع فيقولون أحكم الأمر أي أتقنه ومنعه عن الفساد ويقولون أحكمه عن الأمر أي رجعه عنه ومنعه منه ويقولون حكم نفسه وحكم الناس أي منع نفسه ومنع الناس عما لا ينبغي ويقولون أحكم الفرس أي جعل له حكمة بفتحات ثلاث والحكمة ما أحاط بحنكي الفرس من لجامة تمنعه من الاضطراب وقيل: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} أي العدل أو العلم أو الحلم أو النبوة أو القرآن لما في هذه المذكورات من الحوافظ الأدبية عما لا يليق. وكذلك يستعمل اللغويون مادة التشابه فيما يدل على المشاركة في المماثلة والمشاكلة المؤدية إلى الالتباس غالبا يقال تشابها واشتبها أي أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا ويقال أمور مشتبهة ومشبهة على وزان معظمة أي مشكلة والشبهة بالضم الالتباس ويقال شبه عليه الأمر تشبيها أي لبس عليه بضم الأول وتشديد الثاني مع كسره في الفعلين ومنه قول الله سبحانه وصفا لرزق الجنة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} ومنه قول حكاية عن بني إسرائيل: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} انظر القاموس في هاتين المادتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 القرآن محكم ومتشابه: ولقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أنه كله محكم إذ قال سبحانه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه إذ قال جل ذكره: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} وجاء فيه ما يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه إذ قال عز اسمه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ولا تعارض بين هذه الإطلاقات الثلاثة لأن معنى إحكامه كله أنه منظم رصين متقن متين لا يتطرق إليه خلل لفظي ولا معنوي كأنه بناء مشيد محكم يتحدى الزمن ولا ينتابه تصدع ولا وهن ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا في إحكامه وحسنه وبلوغه حد الإعجاز في ألفاظه ومعانيه حتى أنك لا تستطيع أن تفاضل بين كلماته وآياته في هذا الحسن والإحكام والإعجاز كأنه حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها. وأما أن بعضه حكم وبعضه متشابه فمعناه أن من القرآن ما اتضحت دلالته على مراد الله تعالى منه ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم فالأول هو المحكم والثاني هو المتشابه على خلاف يأتي بين العلماء في ذلك بيد أن الذي اتفقوا عليه ولا يمكن أن يختلفوا فيه هو أنه لا تنافي بين كون القرآن كله محكما أي متقنا وبين كونه كله متشابها أي يشبه بعضه بعضا في هذا الإتقان والإحكام وبين كونه منقسما إلى ما اتضحت دلالته على مراد الله وما خفيت دلالته بل إن انقسامه هذا الانقسام محقق لما فيه كله من إحكام وتشابه بالمعنى السابق وسيأتيك نبأ ذلك في بيان الحكمة من وجود متشابهات خفية إلى جانب واضحات ظاهرة في القرآن الكريم. ويمكنك أن ترجع هذه التأويلات إلى الإطلاقات اللغوية السالفة فالقرآن كله محكم أي متقن لأن الله صاغه صياغة تمنع أن يتطرق إليه خلل أو فساد في اللفظ أو المعنى والقرآن متشابه لأنه يماثل بعضه بعضا في هذا الإحكام مماثلة مفضية إلى التباس التمييز بين آياته وكلماته في ذلك والقرآن منه محكم أي واضح المعنى المراد وضوحا يمنع الخفاء عنه ومنه متشابه فيه وجوه مختلفة من المماثلة مستلزمة لخفاء هذا المعنى المراد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 المعنى الاصطلاحي: يطلق المحكم في لسان الشرعيين على ما يقابل المنسوخ تارة وعلى ما يقابل المتشابه تارة أخرى فيراد به على الاصطلاح الأول الحكم الشرعي الذي لم يتطرق إليه نسخ ويراد به على الثاني ما ورد من نصوص الكتاب أو السنة دالا على معناه بوضوح لا خفاء فيه على ما سيأتي تفصيله وموضوع بحثنا هنا هو هذا الاصطلاح الثاني أما الأول فقد بيناه في المبحث السابق حيث عرفنا النسخ وبسطنا أدلته وأحكامه وما قيل فيه ومنه يعرف مقابله وهو المحكم وبضدها تتميز الأشياء وعلى هذا الاصطلاح يحمل ما أخرج عبد بن عمير عن الضحاك قال المحكمات ما لم ينسخ والمتشابهات ما قد نسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 آراء العلماء في معنى المحكم والمتشابه يختلف العلماء في تحديد معنى المحكم والمتشابه اختلافات كثيرة: 1 - منها أن المحكم هو الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ أما المتشابه فهو الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور وقد عزا الألوسي هذا الرأي إلى السادة الحنفية. 2 - ومنها أن المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل أما المتشابه فهو ما استأثر تعالى بعمله كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور وينسب هذا القول إلى أهل السنة على أنه هو المختار عندهم. 3 - ومنها أن المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل أما المتشابه فهو ما احتمل أوجها ويعزى هذا الرأي إلى أن ابن عباس ويجري عليه أكثر الأصوليين. 4 - ومنها أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان أما المتشابه فهو الذي لا يستقل بنفسه بل يحتاج إلى بيان فتارة يبين بكذا وتارة يبين بكذا لحصول الاختلاف في تأويله ويحكى هذا القول عن الإمام أحمد رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 5 - ومنها أن المحكم هو السديد النظم والترتيب الذي يفضي إلى إثارة المعنى المستقيم من غير مناف أما المتشابه فهو الذي لا يحيط العلم بمعناه المطلوب من حيث اللغة إلا أن تقترن به أمارة أو قرينة ويندرج المشترك في المتشابه بهذا المعنى وهو منسوب إلى إمام الحرمين. 6 - ومنها أن المحكم هو الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان أما المتشابه فنقيضه وينتظم المحكم على هذا ما كان نصا وما كان ظاهرا وينتظم المتشابه ما كان من الأسماء المشتركة وما كان من الألفاظ الموهمة للتشبيه في حقه سبحانه وقد نسب هذا القول إلى بعض المتأخرين ولكنه في الحقيقة رأي الطيبي إذ قال فيما حكى السيوطي عنه: المراد بالمحكم ما اتضح معناه والمتشابه بخلافه لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أو لا الثاني النص والأول إما أن تكون دلالته على ذلك الغير ارجح أو لا الأول الظاهر والثاني إما أن يكون مساويه أو لا الأول هو المجمل والثاني المؤول فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه. ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله ويعضد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء فقال أولا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلى أن قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وكان يمكن أن يقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ} استقامة فيتبعون المحكم لكنه وضع موضع ذلك {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلا بعد التثبت العام والاجتهاد البليغ فإذا استقام القلب على طريق الرشاد ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق وكفى بدعاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} شاهدا على أن {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مقابل لقوله {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وفيه إشارة إلى أن الوقف تام على قوله: {إِلَّا اللَّهَ} وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى وأن من حاول معرفته فهو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: {فَاحْذَرْهُمْ} اهـ. وهو كلام نفيس كما تراه والحديث الذي نوه به أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إلى قوله: {أُولُو الْأَلْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم". 7 - ومنها أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر أما المتشابه فما كانت دلالته غير راجحة وهو المجمل والمؤول والمشكل ويعزى هذا الرأي إلى الإمام الرازي واختاره كثير من المحققين وقد بسطه الإمام فقال ما خلاصته. اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى إما إلا يكون محتملا لغيره أو يكون محتملا لغيره الأول النص والثاني إما أن يكون احتماله لأحد المعاني راجحا ولغيره مرجوحا وإما أن يكون احتماله لهما بالسوية واللفظ بالنسبة للمعني الراجح يسمى ظاهرا بالنسبة للمعنى المرجوح يسمى مؤولا وبالنسبة للمعنيين المتساويين أو المعاني المتساوية يسمى مشتركا وبالنسبة لأحدهما على التعيين يسمى مجملا وقد يسمى اللفظ مشكلا إذا كان معناه الراجح باطلا ومعناه المرجوح حقا. إذا عرفت هذا فالمحكم ما كان دلالته راجحة وهو النص والظاهر لاشتراكهما في حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من الغير والظاهر راجح غير مانع منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 أما التشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة وهو المجمل والمؤول والمشكل لاشتراكها في أن دلالة كل منها غير راجحة وأما المشترك فإن أريد منه كل معانيه فهو من قبيل الظاهر وإن أريد بعضها على التعيين فهو مجمل. ثم إن صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيا وإما أن يكون عقليا والدليل اللفظي لا يكون قطعيا لأنه موقوف على نقل اللغات ونقل وجوه النحو والتصريف وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم الإضمار وعدم التخصيص وعدم المعارض العقلي والنقلي وكل ذلك مظنون والموقوف على المظنون مظنون. وعلى ذلك فلا يمكن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوح بدليل لفظي في المسائل الأصولية الاعتقادية ولا يجوز صرفه إلا بواسطة قيام الدليل القطعي العقلي على أن المعنى الراجح محال عقلا وإذا عرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى فعند ذلك لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح ما هو لأن طريقه إلى تعيينه إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وبترجيح تأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يكون إلا بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد إلا الظن والتعويل عليها في المسائل القطعية لا يفيد لذا كان مذهب السلف عدم الخوض في تعيين التأويل في المتشابه بعد اعتقاد أن ظاهر اللفظ محال لقيام الأدلة العقلية القطعية على ذلك اهـ. نظرة في هذه الآراء: نحن إذا نظرنا في هذه الآراء لا نجد بينها تناقضا ولا تعارضا بل نلاحظ بينها تشابها وتقاربا بيد أن رأي الرازي أهداها سبيلا وأوضحا بيانا لأن أمر الإحكام والتشابه يرجع فيما نفهم إلى وضوح المعنى المراد للشارع من كلامه وإلى عدم وضوحه وتعريف الرازي جامع مانع من هذه الناحية لا يدخل في المحكم ما كان خفيا ولا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 المتشابه ما كان جليا لأنه استوفى وجوه الظهور والخفاء استيفاء تاما في بيان تقسيمه الذي بناه على راجح ومرجوح والذي أعلن لنا منه أن الراجح ما كان واضحا لا خفاء فيه وأن المرجوح ما كان خفيا لا جلاء معه. وقريب منه رأي الطيبي الذي قبله حتى كأنه هو غير أنه لم يستوف وجوه الظهور والخفاء استيفاء الرازي أما رأي إمام الحرمين ففيه شيء من الإبهام. وكذلك رأي الإمام أحمد لا ندري ما مراده بالبيان الذي يحتاج إليه المتشابه ولا يحتاج إليه المحكم؟. ورأي ابن عباس يخرج الظاهر من المحكم ويدخله في المتشابه مع أنه من الواضحات واحتماله لغير معناه الراجح احتمال ضعيف لا يقدح في ظهوره ووضوحه. والرأي الثاني بعكس الآية فيدخل في المحكم كثيرا من الخفيات ويقصر المتشابه على نوع واحد منها فيكون تعريف المحكم فيه غير مانع وتعريف المتشابه غير جامع بالنسبة إلى المذهب المختار وهو مذهب الرازي. والرأي الأول المنسوب إلى الأحناف يقصر تعريف المحكم على النص وتعريف المتشابه ما استأثر الله بعلمه ويلزم عليه وجود واسطة لا تدخل في المحكم ولا في المتشابه ويكون تعريفهما غير جامع بالنسبة للمذهب المختار أيضا. آراء أخرى: واعلم أن وراء هذه الآراء آراء أخرى: 1 - منها أن المحكم هو الذي يعمل به أما المتشابه فهو الذي يؤمن به ولا يعمل به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وقد روى السيوطي هذا القول عن عكرمة وقتادة وغيرهما وفيه أن ذلك قصر للمحكم على ما كان من قبيل الأعمال وقصر للمتشابه على ما كان من قبيل العقائد وإطلاق القول فيهما على هذا الوجه غير سديد فإن أرادوا بالمحكم أنه هو الواضح الذي يؤخذ بمعناه على التعيين وبالمتشابه ما كان خفيا يجب الإيمان به دون تعيين لمعناه نقول إن أرادوا ذلك فالعبارة قاصرة عن أداء هذا المراد والمراد منها لا يدفع الإيراد عليها. 2 - ومنها أن المحكم ما كان معقول المعنى والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان وفيه أن هذا التفسير قاصر عن الوفاء بكل ما كان واضحا وكل ما كان خفيا. 3 - ومنها أن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه وفيه أن هذا المعنى بالنسبة إلى المتشابه أقرب إلى اللغة منه إلى الاصطلاح الذي عليه الجمهور وفيه إهمال لما اعتبر هنا من أمر الخفاء والظهور. 4 - ومنها أن المحكم ما لم ينسخ والمتشابه ما نسخ وفيه أن هذا اصطلاح آخر نوهنا به سابقا ونظرا إلى أن هذه الآراء أضعف من تلك الآراء التي قدمناها وأبعد عنها في ملحظها ومغزاها افردناها بالذكر ولم نسلكها مع تلك في سمط واحد. وعلى كل حال فالأمر سهل وهين لأنه يرجع إلى الاصطلاح أو ما يشبه الاصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح ولولا أن تفسير آية آل عمران التي مرت في كلامنا وكلام الطيبي لا يتمشى بسهولة على هذه الآراء المرجوحة لما أتعبنا أنفسنا في مناقشتها ونقدها وفي اختيار رأي الرازي من بينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته نعلم مما سبق أن منشأ التشابه إجمالا هو خفاء مراد الشارع من كلامه أما تفصيلا فنذكر أن منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى ومنه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ والمعنى معا. فالقسم الأول وهو ما كان التشابه فيه راجعا إلى خفاء في اللفظ وحده منه مفرد ومركب والمفرد قد يكون الخفاء فيه ناشئا من جهة غرابته أو من جهة اشتراكه والمركب قد يكون الخفاء فيه ناشئا من جهة اختصاره أو من جهة بسطه أو من جهة ترتيبه. مثال التشابه في المفرد بسبب غرابته وندرة استعماله لفظ الأب بتشديد الباء في قوله سبحانه: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} وهو ما ترعاه البهائم بدليل قوله بعد ذلك: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} . ومثال التشابه في المفرد بسبب اشتراكه بين معان عدة لفظ اليمين في قوله سبحانه: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي فأقبل إبراهيم على أصنام قومه ضاربا لها باليمين من يديه لا بالشمال أو ضاربا لها ضربا شديدا بالقوة لأن اليمين أقوى الجارحتين أو ضاربا لها بسبب اليمين التي حلفها ونوه بها القرآن إذ قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} كل ذلك جائز ولفظ اليمين مشترك بينها. ومثال التشابه في المركب بسبب اختصاره قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فإن خفاء المراد فيه جاء من ناحية إيجازه والأصل وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لو تزوجتموهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ومعناه أنكم إذا تحرجتم من زواج اليتامى مخافة أن تظلموهن فأمامكم غيرهن فتزوجوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 منهن ما طاب لكم وقيل إن القوم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى فأنزل الله الآية ومعناه إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنى أيضا وتبدلوا به الزواج الذي وسع الله عليكم فيه فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. ومثال التشابه يقع في المركب بسبب بسطه والإطناب فيه قوله جلت حكمته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإن حرف الكاف لو حذف وقيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع من هذا التركيب الذي ينحل إلى ليس مثل مثله شيء وفيه من الدقة ما يعلو على كثير من الأفهام. ومثال التشابه يقع في المركب لترتيبه ونظمه قوله جل ذكره {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} فإن الخفاء هنا جاء من جهة الترتيب بين لفظ {قَيِّماً} وما قبله ولو قيل أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا لكان أظهر أيضا. واعلم أن مقدمة هذا القسم فواتح السور المشهورة لأن التشابه والخفاء في المراد منها جاء من ناحية ألفاظها لا محالة. والقسم الثاني هو ما كان التشابه فيه راجعا إلى خفاء المعنى وحده مثاله كل ما جاء في القرآن الكريم وصفا لله تعالى أو لأهوال القيامة أو لنعيم الجنة وعذاب النار فإن العقل البشري لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق ولا بأهوال القيامة ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار وكيف السبيل إلى أن يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه وما يكن فينا مثله ولا جنسه؟. واعلم أن في مقدمة هذا القسم المشكلات المعروفة بمتشابهات الصفات فإن التشابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 والخفاء لم يجيء ناحية غرابة في اللفظ أو اشتراك فيه بين عدة معان أو إيجاز أو إطناب مثلا فتعين أن يكون من ناحية المعنى وحده. القسم الثالث وهو ما كان التشابه فيه راجعا في اللفظ والمعنى معا له أمثلة كثيرة منها قوله عز اسمه: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} فإن من لا يعرف عادة العرب في الجاهلية لا يستطيع أن يفهم هذا النص الكريم على وجهه ورد أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته يدخل ويخرج منه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فنزل قول الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا, وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى, وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا, وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فهذا الخفاء الذي في هذه الآية يرجع إلى اللفظ بسبب اختصاره ولو بسط لقيل وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة ويرجع الخفاء إلى المعنى أيضا لأن هذا النص على فرض بسطه كما رأيت لا بد معه من معرفة عادة العرب في الجاهلية وإلا لتعذر فهمه. قال الراغب في مفردات القرآن المتشابه بالجملة ثلاثة أضرب متشابه من جهة اللفظ فقط ومن جهة المعنى فقط ومن جهتهما فالأول ضربان أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة إما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون أو الاشتراك كاليد واليمين وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب ضرب لاختصار الكلام نحو {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ} وضرب لبسطه نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع وضرب لنظم الكلام نحو {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} تقديره أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة فإن تلك الأوصاف لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه. والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو فانكحوا ما طاب لكم من النساء والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية الخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشروط الصلاة والنكاح وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم اهـ. وهو كلام جيد غير أن في بعضه شيئا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 أنواع المتشابهات يمكننا أن ننوع المتشابهات على ضوء ما سبق ثلاثة أنواع: النوع الأول ما لا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه كالعلم بذات الله وحقائق صفاته وكالعلم بوقت القيامة ونحوه من الغيوب التي استأثر الله تعالى بها {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . النوع الثاني ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس كالمتشابهات التي نشأ التشابه فيها من الإجمال والبسط والترتيب ونحوها مما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 النوع الثالث ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ولذلك أمثلة كثيرة من المعاني العالية التي تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله. قال الراغب المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة وضرب متردد بين الأمرين يختص به بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم وهو المشار إليه بقوله لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 ثالثتها ما ذكره الفخر الرازي بقوله إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام وطبائع العوام تنبوا في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي محض فيقع في التعليل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابه والقسم الثاني وهو الذي يكشف عن الحق الصريح هو المحكم اهـ وهذه الحكمة ظاهرة في متشابه الصفات. رابعتها إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر علمه وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة وأنه وحده هو الذي أحاط بكل شيء علما وأن الخلق جميعا لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وهناك يخضع العبد ويخشع ويطامن من كبريائه ويخنع ويقول ما قالت الملائكة بالأمس: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . قال بعض العارفين العقل مبتلى باعتقاد أحقية المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره وقيل لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد فبذلك يستأنس إلى التذلل بذل العبودية والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها ولهذا ختم الآية يريد آية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} بقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} تعريضا للزائغين ومدحا للراسخين ويعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من أولي العقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 ومن ثم قال الراسخون في العلم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فخضعوا لباريهم لاستنزال العلم اللدني بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني اهـ. خامستها ما ذكره الفخر الرازي أيضا بقوله لو كان أي القرآن كله محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد وكان بصريحه مبطلا لجميع المذاهب المخالفة له وذلك منفر لأرباب المذاهب الأخرى عن النظر فيه أما وجود المتشابه والمحكم فيه فيطمع كل ذي مذهب أن يجد فيه كل ما يؤيد مذهبه فيضطر إلى النظر فيه وقد يتخلص المبطل عن باطله إذا أمعن فيه النظر فيصل إلى الحق. يضاف إلى هذه الحكم الخمس ما ذكرناه عند الكلام على فواتح السور ودفع الشبهات عنها بالجزء الأول من هذا الكتاب "ص 219 – 230" بالطبعة الثانية. وأما النوع الثاني والثالث من المتشابهات فتلوح لنا في ذكره واشتمال القرآن عليه حكم خمس أيضا. أولاها تحقيق إعجاز القرآن لأن كل ما استتبع فيه شيئا من الخفاء المؤدي إلى التشابه له مدخل عظيم في بلاغته وبلوغه الطرف الأعلى في البيان ولو أخذنا في شرح هذا لضاق بنا المقام وخرجنا جملة من هذا الميدان إلى ميدان علوم البلاغة وما حوت من خواص وأسرار للإيجاز والإطناب والمساواة والتقديم والتأخير والذكر والحذف والحقيقة والمجاز ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ثانيتها تيسير حفظ القرآن والمحافظة عليه لأن كل ما احتواه من تلك الوجوه المستلزمة للخفاء دال على معان كثيرة زائدة على ما يستفاد من أصل الكلام ولو عبر عن هذه المعاني الثانوية الكثيرة بألفاظ لخرج القرآن في مجلدات واسعة ضخمة يتعذر معها حفظه والمحافظة عليه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} . وكذلك يدرك القارئ لدقة القرآن وعلو أسلوبه روعة ولذة تغريه على قراءته وتشجعه على استظهاره وحفظه. ثالثتها ما ذكره الفخر الرازي بقوله متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} . رابعتها ما ذكره الفخر أيضا بقوله باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يضطر الناظر فيه إلى تحصيل علوم كثيرة مثل اللغة والنحو وأصول الفقه مما يعينه على النظر والاستدلال فكان وجود المتشابه سببا في تحصيل علوم كثيرة. خامستها ما ذكره أيضا بقوله باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يضطر الناظر فيه إلى الاستعانة بالأدلة العقلية فيتخلص من ظلمة التقليد وفي ذلك تنويه بشأن العقل والتعويل عليه ولو كان كله محكما لما احتاج إلى الدلائل العقلية ولظل العقل مهملا اهـ. ملاحظة: يمكن اعتبار بعض هذه الحكم في النوع الأول كما يمكن اعتبار بعض حكم النوع الأول هنا لكن بشيء من التكليف ولقد راعينا ما يجب أن تراعيه من أن بعض هذه الحكم لا تتأتى إلا في أنواع خاصة من المتشابهات ولكن المجموع يتحقق في المجموع وذلك كاف في صحة هذا العرض فاكتف أنت به ولاحظه وبالله تعالى التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 متشابه الصفات عرفنا أن المتشابهات تجمع ألوانا مختلفة ونزيدك هنا أن من بينها لونين كثر الكلام فيهما أولهما فواتح السور نحو آلم ق طس وما أشبهها وقد أفضنا القول فيها بالمبحث السابع من الجزء الأول من هذا الكتاب ثانيهما الآيات المشكلة الواردة في شأن الله تعالى وتسمى آيات الصفات أو متشابه الصفات ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد سماه رد المتشابهات إلى الآيات المحكمات مثل قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وما أشبهه وإنما أفرد هذا النوع بالذكر وبالتأليف لأنه كثر فيه القيل والقال وكان فتنة ارتكس فيها كثير من القدامى والمحدثين. الرأي الرشيد في متشابه الصفات علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات ثم اختلفوا فيما وراءها. فأول ما اتفقوا عليه صرفها عن ظواهرها المستحيلة واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعا كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته؟. ثانيه أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويدر طعن الطاعنين. ثالثه أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا وجب القول به إجماعا وذلك كقوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد هو الكينونة معهم بالإحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول مذهب السلف ويسمى مذهب المفوضة بكسر الواو وتشديدها وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة ويستدلون على مذهبهم هذا بدليلين. أحدهما عقلي وهو أن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يجري على قوانين اللغة واستعمالات العرب وهي لا تفيد إلا الظن مع أن صفات الله من العقائد التي لا يكفي فيها الظن بل لا بد فيها من اليقين ولا سبيل إليه فلنتوقف ولنكل التعيين إلى العليم الخبير. والدليل الثاني نقلي يعتمدون فيه على عدة أمور منها حديث عائشة السابق وفيه: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} الحديث. ومنها ما أخرجه ابن مردويه عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا وما تشابه فآمنوا به". ومنها ما أخرجه الدارمي عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ابن صبيغ1 قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال له:   1 كذلك جاء اسم ابن صبيغ في كتاب الإتقان للسيوطي, بلفظ ابن, ويالغين المجمعة في صبيغ مع صورة التصغير. ولكني رأيت شيخ الإسلام المالكي بتونس وهو السيد محمد الطاهر بن عاشور, يصوب في بحث له أن اسمه صبغ بن شريك أو ابن عسل التميمي من غير كلمة ابن وبصاد مهملة مفتوحة, وباء مكسورة, وغين معجمة. ثم ذكر بعد هذا التصويت أن كثيرا من الناس يحرفونه فيقولون ضبيع بضاد مجمعة, وعين مهملة, وبصيغة التصغير ثم قال: ويقولون: أبو ضيبغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 من أنت فقال: أنا عبد الله بن صبيغ فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمى رأسه وجاء في رواية أخرى فضربه حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ثم عاد ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود فقال إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين اهـ والدبرة بفتحات ثلاثة هي قرحة الدابة في أصل الوضع اللغوي والمراد هنا أنه صير في ظهره من الضرب جرح داميا كأنه قرحة في دابة ورضي الله عن عمر فإن هذا الأثر يدل على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها ويسأل الناس عنها. ومنها ما ورد من أن الإمام مالكا رضي الله عنه سأل عن الاستواء في قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني يريد رحمة الله عليه أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع والكيف مجهول أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه ولا سلطان لنا به والسؤال عنه بدعة أي الاستفسار عن تعيين هذا المراد اعتقاد أنه مما شرعه الله بدعة لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم اتباع المتشابهات وما جزاء المبتدع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 إلا أن يطرد ويبعد عن الناس خوف أن يفتنهم لأنه رجل سوء وذلك سر قوله: وأظنك رجل سوء أخرجوه عني اهـ. قال ابن الصلاح على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها اهـ. المذهب الثاني مذهب الخلف ويسمى مذهب المؤولة بتشديد الواو وكسرها وهم فريقان فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ثابتة له تعالى زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين وينسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري وفريق يؤولها بصفات أو بمعان نعلمها على التعيين فيحمل اللفظ الذي استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنى يسوغ لغة ويليق بالله عقلا وشعرا وينسب هذا الرأي إلى ابن برهان وجماعة من المتأخرين قال السيوطي وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه فقال في الرسالة النظامية الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها اهـ. أما حجة أصحاب هذا المذهب فيما ذهبوا إليه فهو أن المطلوب صرف اللفظ عن مقام الإهمال الذي يوجب الحيرة بسبب ترك اللفظ لا مفهوم له وما دام في الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم فالنظر قاض بوجوبه انتفاعا بما ورد عن الحكيم العليم وتنزيها له عن أن يجري مجرى العجوز العقيم. المذهب الثالث مذهب المتوسطين وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال وتوسط ابن دقيق العيد فقال إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 ظاهرها مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} فنحمله على حق الله وما يجب له اهـ. تطبيق وتمثيل: ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فنقول يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الاستواء على العرش وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيز مستحيل لأن الأدلة القاطعة تنزه الله عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شيء منه سواء أكان مكانا يحل فيه أم غيره وكذلك اتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد لله قطعا لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقه وأثبت لنفسه الغنى عنهم فقال ليس كمثله شيء وقال: {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضا. ثم اختلف السلف والخلف بعد ما تقدم فرأى السلفيون أن يفوضوا تعيين معنى الاستواء إلى الله هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به ولا دليل عندهم على هذا التعيين ورأى الخلف أن يؤولوا لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب الله عباده بما لا يفهمون وما دام ميدان اللغة متسعا للتأويل وجب التأويل بيد أنهم افترقوا في هذا التأويل فرقتين فطائفة الأشاعرة يؤولون من غير تعيين ويقولون إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى متصف بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين تسمى صفة الاستواء وطائفة المتأخرين يعينون فيقولون إن المراد بالاستواء هنا هو الاستيلاء والقهر من غير معاناة ولا تكلف لأن اللغة تتسع لهذا المعنى ومنه قول الشاعر العربي: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق أي استوى وقهر أو دبر وحكم فكذلك يكون معنى النص الكريم الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 استولى على عرش العالم وحكم العالم بقدرته ودبره بمشيئته وابن دقيق العيد يقول بهذا التأويل إن رآه قريبا ويتوقف إن رآه بعيدا. ومثل ذلك في نحو {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {وَجَاءَ رَبُّكَ} {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} فالسلف يفوضون في معانيها تفويضا مطلقا بعد تنزيه الله عن ظواهرها المستحيلة والأشاعرة يفسرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التي نعلمها ولكنهم يفوضون الأمر في تعيين هذه الصفات إلى الله فهم مؤولون من وجه مفوضون من وجه والمتأخرون يفسرون الوجه بالذات ولفظ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بتربية موسى ملحوظا بعناية الله وجميل رعايته ولفظ اليد بالقدرة ولفظ اليمين بالقوة والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي والمجيء في قوله وجاء ربك بمجيء أمره والعندية في قوله {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} بالإحاطة والتمكن أو بمثل ذلك في الجميع. إرشاد وتحذير: لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه وتحتمل الكفر والإيمان حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات ومن المؤسف أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح ويخيلون إلى الناس أنهم سلفيون من ذلك قولهم إن الله تعالى يشار إليه بالإشارة الحسية وله من الجهات الست جهة الفوق ويقولون إنه استوى على عرشه بذاته استواء حقيقا بمعنى أنه استقر فوقه استقرارا حقيقيا غير أنهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف وهكذا يتناولون أمثال هذه الآية وليس لهم مستند فيما نعلم إلا التشبث بالظواهر ولقد تجلى لك مذهب السلف والخلف فلا نطيل بإعادته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ولقد علمت أن حمل المتشابهات في الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على حقيقتها ليس رأيا لأحد من المسلمين وإنما هو رأي لبعض أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى وأهل النحل الضالة كالمشبهة والمجسمة أما نحن معاشر المسلمين فالعمدة عندنا في أمور العقائد هي الأدلة القطعية التي توافرت على أنه تعالى ليس جسما ولا متحيزا ولا متجزئا ولا متركبا ولا محتاجا لأحد ولا إلى مكان ولا إلى زمان ولا نحو ذلك ولقد جاء القرآن بهذا في محكماته إذ يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ويقول: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وغير هذا كثير في الكتاب والسنة فكل ما جاء مخالفا بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات فهو من المتشابهات التي لا يجوز اتباعها كما تبين لك فيما سلف. ثم إن هؤلاء المتحمسين في السلف متناقضون لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم فقولهم في مسألة الاستواء الآنفة إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز فكأنهم يقولون إنه مستو غير مستو ومستقر فوق العرش غير مستقر أو متحيز غير متحيز وجسم غير جسم أو أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش والاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت فإن أرادوا بقولهم الاستواء على حقيقته أنه على حقيقته التي يعلمها الله ولا نعلمها نحن فقد اتفقنا لكن بقي أن تعبيرهم هذا موهم لا يجوز أن يصدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 من مؤمن خصوصا في مقام التعليم والإرشاد وفي موقف النقاش والحجاج لأن القول بأن اللفظ حقيقة أو مجاز لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذي وضع له اللفظ في عرف اللغة والاستواء في اللغة العربية يدل على ما هو مستحيل على الله في ظاهره فلا بد إذن من صرفه عن هذا الظاهر واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل في غير ما وضع له خرج عن الحقيقة إلى المجاز لا محالة ما دامت هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي ثم إن كلامهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمة الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ وجعل مالكا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن الاستواء وقد مر بك هذا وذاك. لو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة واكتفوا بتنزيه الله تعالى عما توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه ثم فوضوا الأمر في تعيين معانيها إلى الله وحده وبذلك يكونوه سلفيين حقا لكنها شبهات عرضت لهم في هذا المقام فشوشت حالهم وبلبلت أفكارهم فلنعرضها عليك مع ما أشبهها والله يتولى هدانا وهداهم ويجمعنا جميعا على ما يحبه ويرضاه آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 دفع الشبهات الواردة في هذا المقام الشبهة الأولى ودفعها: يقولون إن القول بأن الله لا جهة له وأنه ليس فوقا ولا تحتا ولا يمينا ولا شمالا إلى غير ذلك يستلزم أن الله غير موجود أو هو قول بأن الله غير موجود فإن التجرد من الإنصاف بهذه المتقابلات جملة أمر لا يوسم به إلا المعدوم ومن لم يتشرف بشرف الوجود. وندفع هذه الشبهة بأمور: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 أولها أن هذا قياس للغائب على الشاهد وقياس الغائب على الشاهد فاسد ذلك أن الله تعالى ليس يشبه خلقه حتى يكون حكمه كحكمهم في وجوب أن يكون له جهة من الجهات الست ما دام موجودا وكيف يقاس المجرد عن المادة بما هو مادي ثم كيف يستوي الخلق وخلقه في جريان أحكام الخلق على خالقه إن المادي هو الذي يجب أن يتصف بشيء من هذه المتقابلات وأن تكون له جهة من تلك الجهات أما عين المادي فترتفع عنه هذه الصفات كلها ولا يمكن أن تكون له أية جهة من هذه الجهات جميعها ونظير ذلك أن الإنسان لا بد أن يكون له أحد الوصفين فإما جاهل وإما عالم أما الحجر فلا يتصف بواحد منها ألبتة فلا يقال إنه جاهل ولا إنه عالم بل العلم والجهل مرتفعان عنه بل هما ممتنعان عليه لا محالة لأن طبيعته تأبى قابليته لكليهما وهكذا تنتفي المتقابلات كلها بانتفاء قابلية المحل لها أيا كانت هذه المتقابلات وأيا كان هذا المحل الذي ليس قابلا لها فيمتنع مثلا أن توصف الدار بأنها سمعية أو صماء وأن توصف الأرض بأنها متكلمة أو خرساء وأن توصف السماء بأنها متزوجة أو أيم وهلم جرا. ثانيا نقول لهؤلاء أين كان الله قبل أن يخلق العرش والفرش والسماء والأرض وقبل أن يخلق الزمان والمكان وقبل أن تكون هناك جهات ست فإن قالوا لم يكن له جهة ولا مكان نقول قد اعترفتم بما نقول نحن به وهو الآن على ما عليه كان لا جهة له ولا مكان وإن زعموا أن العالم قديم بقدم فقد تداووا من داء بداء واستجاروا من الرمضاء بالنار ووجب أن ننتقل بهم إلى إثبات حدوث العالم والله هو ولي الهداية والتوفيق. ثالثا نقول لهؤلاء إذا كنتم تأخذون بظواهر النصوص على حقيقتها فماذا تفعلون بمثل قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} مع قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} أتقولون إنه في السماء حقيقة أم في الأرض حقيقة أم فيهما معا حقيقة وإذا كان في الأرض وحدها حقيقة فكيف تكون له جهة فوق وإذا كان فيهما معا حقيقة فلماذا يقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 له جهة فوق ولا يقال له جهة تحت ولماذا يشار إليه فوق ولا يشار إليه تحت ثم ألا يعلمون أن الجهات أمور نسبية فما هو فوق بالنسبة إلينا يكون تحتا بالنسبة إلى غيرنا فأين يذهبون! رابعا نقول لهؤلاء ماذا تقولون في قوله تعالى: يد الله فوق أيديهم بإفراد اليد مع قوله لما خلقت بيدي بتثنيتها ومع قوله والسماء بنيناها بأييد بجمعها فإذا كنتم تعلمون النصوص على ظواهرها حقيقة فأخبرونا أله يد واحدة بناء على الآية الأولى أم له يدان اثنتان بناء على الآية الثانية أما له أيد أكثر من اثنتين بناء على الآية الثالثة؟! خامسا نقول لهؤلاء قد ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له رواه البخاري ومسلم وغيرهما فكيف تأخذون بظاهر هذا الخبر مع أن الليل مختلف في البلاد باختلاف المشارق والمغارب وإذا كان ينزل لأهل كل أفق نزولا حقيقيا في ثلث ليلهم الأخير فمتى يستوي على عرشه حقيقة كما تقولون ومتى يكون في السماء حقيقة كما تقولون مع أن الأرض لا تخلو من الليل في وقت من الأوقات ولا في ساعة من الساعات كما هو ثابت مسطور لا يمارى فيه إلا جهول مأفون! سادسا نقول لهؤلاء ما قاله حجة الإسلام الغزالي ونصه نقول للمتشبث بظواهر الألفاظ إن كان نزوله من السماء الدنيا ليسمعنا نداءه فما أسمعنا نداءه فأي فائدة في نزوله ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا فلا بد أن يكون ظاهر النزول غير مراد وأن المراد به شيء آخر غير ظاهره وهل هذا إلا مثل من يريد وهو بالمشرق إسماع شخص في المغرب فتقدم إلى المغرب بخطوات معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه لا يسمع نداءه فيكون نقله الأقدام عملا باطلا وسعيه نحو المغرب عبثا صرفا لا فائدة فيه وكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 الشبهة الثانية ودفعها: قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في حاشيته على العقائد العضدية فإن قلت إن كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم مؤلف من الألفاظ العربية ومدلولاتها معلومة لدى أهل اللغة فيجب الأخذ بمدلول اللفظ كائنا ما كان. قلت حينئذ لا يكون ناجيا إلا طائفا المجسمة الظاهريون القائلون بوجوب الأخذ بجميع النصوص وترك طريق الاستدلال رأسا مع أنه لا يخفى ما في آراء هذه الطائفة من الضلال والإضلال مع سلوكهم طريقا ليس يفيد اليقين بوجه فإن للتخاطبات مناسبات ترد بمطابقتها فلا سبيل إلا الاستدلال العقلي وتأويل ما يفيد بظاهره نقصا إلى ما يفيد الكمال وإذا صح التأويل للبرهان في شيء صح في بقية الأشياء حيث لا فرق بين برهان وبرهان ولا لفظ ولفظ. وقال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} إن الوحي من الله للنبي تنزيلا وإنزالا ونزولا لبيان علو مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض ومن الغريب أنهم يقولون في الرد على هذا إن علو الله على خلقه حقيقة أثبتها لنفسه في كتابه لا حاجة لتأويله بعلو مرتبة الربوبية وليت شعري إذا لم نؤوله بعلو مرتبة الربوبية فماذا نريد منه وهل بقي بعد ذلك شيء غير العلو الحسي الذي يستلزم الجهة والتحيز ولا يمكن نفي ذلك اللازم عنه متى أردنا العلو الحسي فإن نفي التحيز عن العلو الحسي غير معقول ولا معنى للاستلزام إلا هذا أما هم فينفون اللوازم ولا أدري كيف ننفي اللوازم مع فرضها لوازم هذا خلف ولكن القول ليسوا أهل منطق والمتتبع لكلامهم يجد فيه العبارات الصريحة في إثبات الجهة لله تعالى وقد كفر العراقي وغيره مثبت الجهة لله تعالى وهو واضح لأن معتقد الجهة لا يمكنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 إلا أن يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو قول متناقض وكلامهم لا معنى له اهـ. الشبهة الثالثة ودفعها: نقل السيوطي عن بعضهم أنه قال إن قيل ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى قلنا إن كان أي المتشابه مما يمكن علمه فله فوائد منها الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات إذ لو كان كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ولم يظهر فضل العالم على غيره وإن كان أي المتشابه مما لا يمكن علمه أي بأن استأثر الله به فله فوائد منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم لأنه لما نزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف اهـ على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم دل على أنه نزل من عند الله وأنه هو الذي أعجزهم عن الوقوف. ونسترعي نظرك هنا إلى ما أسلفناه في الحكم الماضية ثم إلى ما ذكره ابن اللبان في مقدمة كتابه رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات إذ قال ما خلاصته ليس في الوجود فاعل إلا الله وأفعال العباد منسوبة الوجود إليه تعالى بلا شريك ولا معين فهي في الحقيقة فعله وله بها عليهم الحجة {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . ومن المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الجوارح مع أنها منسوبة إليه تعالى وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياته مظهرين مظهر عبادي منسوب لعباده وهو الصور والجوارح الجثمانية ومظهر حقيقي منسوب إليه وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 المنسوبة لعباده على سبيل التقريب لأفهامهم والتأنيس لقلوبهم ولقد نبه في كتابه تعالى على القسمين وأنه منزه عن الجوارح في الحالين فنبه على الأول بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فهذا يفيد أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه تعالى ونبه على الثاني بقوله فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" وقد حقق الله ذلك لنبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وبقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوبا إليه تعالى فلا يفهم من نسبتها إليه تشبيه ولا تجسيم ولكن الغرض من ذلك التقريب للأفهام والتأنيس للقلوب والواجب سلوكه إنما هو رد المتشابه إلى المحكم على القواعد اللغوية وعلى مواضعات العرب وعلى ما كان يفهمه الصحابة والتابعون من الكتاب والسنة اهـ ما أردنا نقله. الشبهة الرابعة ودفعها: نقل السيوطي أيضا عن الإمام فخر الدين الرازي أنه قال من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه فالجبري متمسك بآيات الجبر كقوله تعالى: َ {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} والقدري يقول هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى عنهم ذلك في معرض الذم في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} وفي موضع آخر {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 1 ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {الرَّحْمَنُ   1 يظهر أن هنا سقط لعله هكذا: ومثبن الرؤية متمسك بقوله تالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} والثاني متمسك بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة متشابهة وإنما آل في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟. والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد منها أنه يوجب مزيد المشقة في الوصول إلى المراد وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب إلى آخر ما نقلناه عنه فيما سبق من بيان حكم الله وأسراره في ذكر المتشابهات فاجعلها على بال منك في رفع هذه الشبهة وأضف إليها ما نقلنا آنفا عن ابن اللبان وما بسطناه في دفع الشبهات السالفة وارجع إلى ما كتبناه في مثل هذا المقام بالمبحث السابع من هذا الكتاب. الشبهة الخامسة ودفعها: قال السيوطي في كتابه الإتقان أورد بعضهم سؤالا وهو أنه هل للمحكم مزية على المتشابه أو لا فإن قلتم بالثاني فهو خلاف الإجماع وإلا فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه سواء وإنه منزل بالحكمة. وأجاب أبو عبد الله النكرباذي بأن المحكم كالمتشابه من وجه ويخالفه من وجه فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع وأنه لا يختار القبيح ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر ليحمله على الوجه المطابق ولأن المحكم أصل والعلم بالأصل أسبق ولأن المحكم يعلم مفصلا والمتشابه لا يعلم إلا مجملا اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 أقول: ويمكن دفع هذه الشبهة بوجه أقرب وهو أن المحكم له مزية على المتشابه لأنه بنص القرآن هو أم الكتاب على ما سلف بيانه والاعتراض بأن هذا ينقض الأصل المجمع عليه وهو أن جميع كلامه سبحانه سواء وأنه منزل بالحكمة الاعتراض بهذا ساقط من أساسه لأن المساواة بين كلام الله إنما هي في خصائص القرآن العامة ككونه منزلا على النبي صلى الله عليه وسلم بالحق وبالحكمة وكونه متعبدا بتلاوته ومتحدي بأقصر سورة منه ومكتوبا في المصاحف ومنقولا بالتواتر ومحرما حمله ومسه على الجنب ونحو ذلك والمساواة في هذه الخصائص لا تنافي ذلك الامتياز الذي امتازت به المحكمات وكيف يتصور التنافي على حين أن كلا من المحكم والمتشابه له حكمه وله مزاياه فمزية المحكم أنه أم الكتاب إليه ترد المتشابهات ومزية المتشابه أنه محك الاختبار والابتلاء ومجال التسابق والاجتهاد إلى غير ذلك من الفوائد التي عرفتها ثم كيف يتصور هذا التنافي والقرآن كله مختلف باختلاف موضوعاته وأحواله فمنه عقائد وأحكام وأوامر ونواه وعبادات وقصص وتنبؤات ووعد ووعيد وناسخ ومنسوخ وهلم مما يستنفد ذكره وقتا طويلا ولا ريب أن كل نوع من هذه الأنواع له مزيته أو خاصته التي غاير بها الآخر وإن اشترك الجميع بعد ذلك في أنها كلها أجزاء للقرآن متساوية في القرآنية وخصائصها العامة وخلاصة هذا الجواب أن اميتاز المحكم على المتشابه في أمور ومساواته إياه في أمور أخرى فلا تناقض ولا تعارض كما أن كل عضو من أعضاء جسم الإنسان له مزيته وخاصته التي صار بها عضوا والكل بعد ذلك يساوي الآخر في أنه جزء للإنسان في خصائصه العامة من حسن وحياة. الشبهة السادسة ودفعها: يقولون إن الناظر في موقف السلف والخلف من المتشابه يجزم بأنهم جميعا مؤولون لأنهم اشتركوا في صرف ألفاظ المتشابهات عن ظواهرها وصرفها عن ظواهرها تأويل لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 لا محالة وإذا كانوا جميعا مؤولين فقد وقعوا جميعا فيما نهى الله عنه وهو اتباع المتشابهات بالتأويل إذ وصف سبحانه هؤلاء بأن في قلوبهم زيغا فقال في الآية السابقة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} . وندفع هذه الشبهة أولا بأن القول بكون السلف والخلف مجمعين على تأويل المتشابه قول له وجه من الصحة لكن بحسب المعنى اللغوي أو ما يقرب من المعنى اللغوي أما بحسب الاصطلاح السائد فلا لأن السلف وإن وافقوا الخلف في التأويل فقد خالفوهم في تعيين المعنى المراد باللفظ بعد صرفه عن ظاهره وذهبوا إلى التفويض المحض بالنسبة إلى هذا التعيين أما الخلف فركبوا متن التأويل إلى هذا التعيين كما سبق تفصيله. ثانيا أن القول بأن السلف واخلف جميعا وقعوا بتصرفهم السابق فيما نهى الله عنه قول خاطئ واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد لأن النهي فيها إنما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ واتباع الهوى بقرينة قوله سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الاستقامة والحجة إلى الهوى والشهوة أما التأويل القائم على تحكيم البراهين القاطعة واتباع الهداية الراشدة فليس من هذا القبيل الذي حظره الله وحرمه وكيف ينهانا عنه وقد أمرنا به ضمنا بإيجاب رد المتشابهات إلى المحكمات إذ جعل هذه المحكمات هي أم الكتاب على ما سبق بيانه ثم كيف يكون مثل هذا التأويل الراشد محرما وقد دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال في الحديث المشهور اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل؟. ويتلخص من هذا أن الله أرشدنا في الآية إلى نوع من التأويل وهو ما يكون به رد المتشابهات إلى المحكمات ثم نهانا عن نوع آخر منه وهو ما كان ناشئا عن الهوى والشهوة لا على البرهان والحجة قصدا إلى الضلال والفتنة وهما لونان مختلفان وضربان بعيدان بينهما برزخ لا يبغيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وإذن فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال فقد ضل كالظاهرية والمشبهة ومن فسر لفظ المتشابه تفسيرا بعيدا عن الحجة والبرهان قائما على الزيغ والبهتان فقد ضل أيضا كالباطنية والإسماعيلية وكل هؤلاء يقال فيهم إنهم متبعون للمتشابه ابتغاء الفتنة أما من يؤول المتشابه أي يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ولكن منعا لها وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم وردا لهم إلى محكمات الكتاب القائمة وأعلامه الواضحة فأولئك هم الهادون المهديون حقا وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها وأئمتها وعلماؤها روي عن البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس إنني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال ما هو قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وقال: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال ابن عباس {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ثم في النفخة الثانية {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فأما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك {لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} إلى آخر الحديث نسأل الله أن يسلمنا وأن يهدينا سواء الصراط وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آهل وصحبه وسلم آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم معنى الاسلوب ... المبحث السادس عشر: في أسلوب القرآن الكريم الأسلوب في اللغة: يطلق الأسلوب في لغة العرب إطلاقات مختلفة فيقال للطريق بين الأشجار وللفن وللوجه وللمذهب وللشموخ بالانف ولعنق الأسد ويقال لطريقة المتكلم في كلامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 أيضا وأنسب هذه المعاني بالاصطلاح الآتي هو المعنى الأخير أو هو الفن أو المذهب لكن مع التقييد. الأسلوب في الاصطلاح: تواضع المتأدبون وعلماء العربية على أن الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه او هو طابع الكلام أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك. معنى أسلوب القرآن: وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به وأساليب المتكلمين وطرائقهم في عرض كلامهم من شعر أو نثر تتعدد بتعدد أشخاصهم بل تتعدد في الشخص الواحد بتعدد الموضوعات التي يتناولها والفنون التي يعالجها. الأسلوب غير المفردات والتراكيب: ونلفت نظرك إلى أن الأسلوب غير المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام وإنما هو الطريقة التي انتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه. وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة والتراكيب في جملتها واحدة وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة وهذا هو السر أيضا في أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة بل جاء كتابا عربيا جاريا على مألوف العرب من هذه الناحية فمن حروفهم تألفت كلماته ومن كلماتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 تألفت تراكيبه وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه ولكن المعجز والمدهش والمثير لأعجب العجب أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذي عهدوه ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التي توافروا على معرفتها وتنافسوا في حلبتها وبلغوا الشأو الأعلى فيها نقول إن القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله قد أعجزهم بأسلوبه الفذ ومذهبه الكلامي المعجز ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذي يعرفونه لأمكن أن يلتمس لهم عذر أو شبه عذر وأن يسلم لهم طعن أو شبه طعن {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة في غير آية فقال جل ذكره في سورة يوسف {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في سورة الزمر: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . مثال لهذا الفارق: وبما أن الأمر قد اشتبه على بعض الناس حتى ضلوا فيه أو كادوا نمثل للفرق ين الأسلوب وبين المفردات والتركيب بمثالين حسيين أحدهما صناعة الخياطة والآخر صناعة الصيدلة أو تحضير العقاقير والأدوية فالخياطون يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا ما بين خامل ونابه في صنعته وضعيف وبارع في حرفته وهذا الاختلاف لم يجيء من ناحية مواد الثياب المخيطة ولا من ناحية الآلات والأدوات والطرق العامة التي تستخدم في الخياطة إنما جاء الاختلاف من جهة الطريقة الخاصة التي اتبعت في اختيار هذه المواد وتأليفها واستخدام قواعد هذه الصناعة في شكلها وهندستها وكذلك الصيادلة يختلفون فيما بينهم نباهة وخمولا وبراعة وقصورا لا من حيث مواد الأدوية وعناصرها ولا من حيث القواعد الفنية العامة في تركيبها بل من حيث حسن اختيار هذه المواد ودقة تطبيق هذه القواعد في تحضير العقاقير والأدوية حتى لقد نشاهد أن مزاج الجيد منها وأثره ونفعه يختلف بوضوح عن مزاج الرديء منها وأثره وضرره وقل مثل هذا في كل ما حولك من صناعات يختلف فيها الصناعون ومصنوعاتهم جودة ورداءة مع اتحاد مواد الصناعة الأولى وقواعدها العامة في الجميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 لذالكم البيان اللغوي في أية لغة ما هو إلا صناعة موادها وقواعدها واحدة في المفردات والتراكيب ولكن البيان يختلف بعد ذلك باختلاف الطرائق والأساليب وإن شئت فقل يختلف باختلاف الأذواق والمواهب التي انتقت هذه المفردات اللغوية واصطفت تلك الجمل التركيبية حتى إنك لترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد بوجوه مختلفة من المفردات ومذاهب شتى من التراكيب يتفاوت حظها من الجودة والرداءة ومن الحسن والدمامة ومن القبول والرد بمقدار ما بينهم من اختلاف في طرائق اختيارهم لما اختاروه من مواد اللغة إفرادا وتركيبا ولما لاحظوه من المناسبات مع هذا الاختيار فإذا سلم ذوق المتكلم وسمت حاسته البيانية حسن اختياره وسما كلامه سموا قد يأخذ عليك حسك ويملك قلبك ولبك وإذا فسد ذوق المتكلم وانحطت حاسته البيانية ساء اختياره ونزل كلامه نزولا قد تتقزز منه نفسك ويتأذى به سمعك وربما فررت منه وأنت تتمثل بقول الشاعر: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير بيان ذلك في اللغة العربية: بيان ذلك في لغتنا المحبوبة العربية أن مفرداتها منها متآلف في حروفه ومتنافر وواضح مستأنس وخفي غريب ورقيق خفيف على الأسماع وثقيل كرية تمجه الأسماع وموافق لقياس اللغة ومخالف له ثم من هذه المفردات عام وخاص ومطلق ومقيد ومجمل ومبين ومعرف ومنكر وظاهر ومضمر وحقيقة ومجاز وكذلك التراكيب العربية منها ما هو حقيقة ومجاز ومنها متآلف الكلمات ومتنافرها وواضح المعاني ومعقدها وموافق للقياس اللغوي والخارج عليه ومنها الاسمية والفعلية والخبرية والإنشائية وفيها النفي والإثبات والإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير والفصل والوصل إلى غير ذلك مما هو مفصل في علوم اللغة وكتبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 ثم إن ما يؤيده معهود اللغة من المتنوعات المذكورة وما أشبهها هو المسلك العام الذي ينفذ منه المتكلمون إلى أغراضهم ومقاصدهم ولكن ليس شيء من هذه المتنوعات بالذي يحسن استعماله إطلاقا ولا شيء منها بالذي يسوء استعماله إطلاقا أي في كافة الأحوال وجميع المقامات بل لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينا ولأصبح كلام الناس لونا واحدا وطعما واحدا ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار إلى غير ذلك مما يجعل اختيار المناسبات عسيرا ضرورة أن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة. ولعلمائنا أكرمهم الله أذواق مختلفة في استنباط الفروق الدقيقة بين استعمال حرف أو كلمة مكان حرف أو كلمة ومن السابقين في حلبة هذا الاستنباط الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 412هـ في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل وهاك مثالا منه يفيدنا فيما نحن فيه إذ يتحدث عن سر التعبير بالفاء في لفظ {كُلُوا} من قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء في لفظ {كُلُوا} أيضا لكن من قوله سبحانه في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} مع أن القصة واحدة ومدخول الحرف واحد قال رحمه الله الأصل أن كل فعل عطف عليه ما تعلق به تعلق الجواب بالابتداء وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء ومنه {وَإِذْ قُلْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} فإن وجود الأكل متعلق بالدخول والدخول موصل إلى الأكل فالأكل وجوده معلق بوجوده بخلاف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا} لأن السكنى مقام مع طول لبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه مجتازا فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء وجب العطف بالواو دون الفاء اهـ. تفاوت القوى والقدر: ولا ريب أن القوى والقدر تتفاوت تفاوتا بعيدا فيما نعرف من الأحوال ومناسباتها وأن ميدان الاختيار فسيح مليء بشتى الألوان والصور للمفردات ومركباتها فماذا عسى أن تبلغ قدرة الإنسان في استعراض كل هذه الألوان والصور وفي إقامة ميزان دقيق بينها تمهيدا لحسن الاختيار على ضوء تلك الأحوال المقتضية لما ينبغي أن يكون منها هنا ينفسح المجال ثم ينفسح فما يهتدي إليه متكلم قد يغفل عنه متكلم وما يتيقظ له كاتب قد يغفل عنه كاتب وما يدركه شاعر قد يفوت شاعرا آخر بل ما يدركه الإنسان الواحد في موضع قد يخطئه في موضع سواه وهكذا. وليس من غرضنا هنا أن نستقصي الأحوال والمناسبات ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لكل حال وما يناسبها فلذلك محله من علوم اللغة وكتبها كما قلنا ولكن الذي نريد أن نضع يدك عليه في هذا المقام هو أن أسلوب أي كلام بليغ معناه صورته الفنية أو طابعه الخاص أو مزاجه الشخصي الذي تهيأ له برعاية صاحبه لجملة الأحوال ومناسباتها في هذا الكلام وأنه على حسب ما تحتوي أساليب الكلام من الأحوال والمناسبات يتفاوت هذا الكلام في درجات البلاغة علوا ونزولا وفي حظه عند السامعين ردا وقبولا وأنه لم يظفر الوجود بكلام إلهي ولا بشري بلغ الطرف الأعلى في البلاغة ووصل إلى قمة الإعجاز من هذه الناحية غير القرآن الكريم لأن منشئ هذا الكتاب هو وحده الذي تعلقت إرادته بأن تكون معجزة نبي الإسلام من هذا الطراز لحكمة شرحناها وقد تعرض لها فيما يأتي ولأنه سبحانه هو الذي انتهت إليه الإحاطة بجميع أحوال الخلق وحده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 ولأنه عز سلطانه هو القادر وحده على تضمين كلامه كل المناسبات التي اقتضتها تلك الأحوال الكثيرة التي لم يحط ولن يحيط بها سواه ومن الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وفيها الخفي الذي لا يعلمه إلا من يعلم السر وأخفي ثم من ذا الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وهم أجيال متعددة منهم من لم يخلقوا وقت نزول القرآن ومنهم من لم يعرفوا لنا إلى الآن بعد بضعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن وأنت خبير بأن القرآن هو كتاب الساعة الذي يخاطب الأجيال كافة حتى يرث الله الأرض ومن عليها فلا غرو أن يضمنه منزله كل ما تحتاج إليه الأمم على اختلاف أجيالها من المناسبات الملائمة لأحوالهم وليس ذلك في قدرة أحد إلا العليم بأسرار الخلق وخفيات السموات والأرض {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} . ومن شواهد ما نذكر أننا نلاحظ في كثير من ألفاظ القرآن أنها اختيرت اختيارا يتجلى فيه وجه الإعجاز من هذا الاختيار وذلك في الألفاظ التي نمر بها على القرون والأجيال منذ نزل القرآن إلى اليوم فإذا بعض الأجيال يفهم منها ما يناسب تفكيره ويلائم ذوقه ويوائم معارفه وإذا أجيال أخرى تفهم من هذه الألفاظ عينها غير ما فهمته تلك الأجيال ولو استبدلت هذه الألفاظ بغيرها لم يصلح القرآن لخطاب الناس كافة وكان ذلك قدحا في أنه كتاب الدين العام الخالد ودستور البشرية في كل عصر ومصر فسبحان من أنزل هذا القرآن مشبعا لحاجات الجميع وافيا تجارب الجميع ملائما لأذواق الجميع متفقا ومعارف الجميع مما يدل دلالة واضحة على أنه كلام الله وحده أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا. ولعل لنا عودة لمثل هذا الكلام في فرصة أخرى فلنمسك القلم عن الجولان في هذا الميدان ولنرجع عودا على بدء إلى أسلوب القرآن ولنذكر شيئا من خصائص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 أسلوب القرآن ومزاياه التي انفرد بها وكانت هي السر في إعجازه اللغوي أو البلاغي أو الأسلوبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 خصائص أسلوب القرآن : إن الخصائص التي امتاز بها أسلوب القرآن والمزايا التي توافرت فيه حتى جعلت له طابعا معجزا في لغته وبلاغته أفاض العلماء فيها بين مقل ومكثر ولكنهم بعد أن طال بهم المطاف وبعد أن دميت أقدامهم وحفيت أقلامهم لم يزيدوا على أن قدموا إلينا قلا من كثره وقطرة من بحر معترفين بأنهم عجزوا عن الوفاء وأن ما خفي عليهم فلم يذكروه أكثر مما ظهر لهم فذكروه وأنهم لم يزيدوا على أن قربوا لنا البعيد بضرب من التمثيل رجاء الإيضاح والتبيين أما الاستقصاء والإحاطة بمزايا الأسلوب القرآني وخصائصه على وجه الاستيعاب فأمر استأثر به منزله الذي عنده علم الكتاب. وإذن فلنذكر نحن بدورنا شيئا من خصائص أسلوب القرآن على وجه التمثيل والتقريب أيضا وما لا يدرك كله لا يترك أقله. الخاصة الأولى: مسحة القرآن اللفظية فإنها مسحة خلابة عجيبة تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي. 1 - ونريد بنظام القرآن الصوتي اتساق القرآن وائتلافه في حركاته وسكناته ومداته وغناته واتصالاته وسكتاته اتساقا عجيبا وائتلافا رائعا يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية وهي مرسلة على وجه السذاجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 في الهواء مجردة من هيكل الحروف والكلمات كأن يكون السامع بعيدا عن القارئ المجود بحيث لا تبلغ إلى سمعه الحروف والكلمات متميزا بعضها عن بعض بل يبلغه مجرد الأصوات الساذجة المؤلفة من المدات والغنات والحركات والسكنات والاتصالات والسكتات نقول إن من ألقى سمعه إلى هذه المجموعة الصوتية الساذجة يشعر من نفسه ولو كان أعجميا لا يعرف العربية بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها فلا يفتأ السمع أن يملها والطبع أن يمجها ولأن الشعر تتحد فيه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا وإن طالت على نمط يورث سامعه السأم والملل بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يمل لأنه يتنقل فيه دائما بين ألحان متنوعة وأنغام متجددة على أوضاع مختلفة يهز كل وضع منها أوتار القلوب وأعصاب الأفئدة. وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام سواء أكان مرسلا أم مسجوعا حتى خيل إلى هؤلاء العرب أن القرآن شعر لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة لم يعرفوا شيئا قريبا منها إلا في الشعر ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا حتى قال قائلهم وهو الوليد بن المغيرة وما هو بالشعر معللا ذلك بأنه ليس على أعاريض1 الشعر في رجزه2 ولا في قصيدة بيد انه تورط في خطأ أفحش من هذا الخطأ حين زعم في ظلام العناد   1 جمع عروض على غير قياس كأنهم جمعوا عريضا. وهو ميزان الشعر أو الجزء الذي في آخر النصف الأول من البيت؟ مختار. 2 الرجز ضرب من الشعر وزنه مستفعلن ست مرات. وزعم الخليل أمه ليس بشعر وإنما هو أنصاف أبيات أو ثلاثة؟ قاموس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 والحيرة أنه سحر لأنه اخذ من النثر جلاله وروعته ومن النظم جماله ومتعته ووقف منهما في نقطة وسط خارقة لحدود العادة البشرية بين إطلاق النثر وإرساله وتقييد الشعر وأوزانه ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور لكنه معجز ليس كمثله كلام لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء وما هو بالشعر ولا بالسحر لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه وقانونه ورسمه والقرآن ليس منه ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه وقد نشأ فيه وشب وشاب بينهم هذا إلى أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة لا محل فيها إلى خبث ورجس بل هي تحارب السحر وخبثه ورجسه وتسمه بأنه كفر إذ قال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} . ثم إن السحر معروف المقدمات والوسائل فليس بمعجز ولا يمكنه ولن يمكنه أن يأتي في يوم من الأيام بمثل هذا الذي جاء به القرآن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ عليه القرآن كأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال له يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله بكسر القاف وفتح الباء قال الوليد لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره قال وماذا أقول فوالله ما فيكم من رجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا ووالله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال أبو جهل للوليد لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال الوليد دعني أفكر فلما فكر قال هذا سحر يأثره عن غيره وفي ذلك نزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً , وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً , وَبَنِينَ شُهُوداً , وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً , ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ , كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً , سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً , إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ , فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ , ثم قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ , ثُمَّ نَظَرَ , ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ , ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ , فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ , إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري فانظر إلى الرجل حين أرسل نفسه على سجيتها العربية وبديهتها الفطرية كيف أنصف في حكمه حين تجرد ساعة من عناده وكفره وقال والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا إلى أن قال وإنه ليحطم ما تحته ثم انظر إلى الرجل حين غلبت عليه شقوته وعاوده عناده وتعصبه كيف قاوم فطرته وأكره نفسه على مخالفة شعوره ووجدانه وقال ما قال بعد أن حار وذهب كل مذهب في ضلاله وحيرته على نحو ما يصور القرآن تلك الحيرة والمقاومة والاستكراه بقوله إنه فكر وقدر الخ نسأل الله الحماية والهداية بمنه وكرمه آمين. 2 - ونريد بجمال القرآن اللغوي تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم وبيان ذلك أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفر وهذا يخفى وذاك يظهر وهذا يهمس وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين والشدة والخشونة والرقة والجهر والخفية على وجه دقيق محكم وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة من غير ميوعة وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة ولقد وصل هذا الجمال اللغوي إلى قمة الإعجاز بحيث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 لو داخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه. ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي وذاك النظام الصوتي أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى وذلك أن من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع ويثير الانتباه ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق وفي آذانهم ويعرف بذاته ومزاياه بينهم فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبديله مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . الخاصة الثانية: إرضاؤه العامة والخاصة ومعنى هذا أن القرآن الكريم إذا قرأته على العامة أو قرئ عليهم أحسوا جلاله وذاقوا حلاوته وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يرضي عقولهم وعواطفهم وكذلك الخاصة إذا قرؤوه أو قرئ عليهم أحسوا جللاه وذاقوا حلاوته وفهموا منه أكثر مما يفهم العامة ورأوا أنهم بين يدي كلام ليس كمثله كلام لا في إشراق ديباجته ولا في امتلائه وثروته ولا كذلك كلام البشر فإنه إن أرضى الخاصة والأذكياء لجنوحه إلى التجوز والإغراب والإشارة لم يرض العامة لأنهم لا يفهمونه وإن أرضى العامة لجنوحه إلى التصريح والحقائق العارية المكشوفة لم يرض الخاصة لنزوله إلى مستوى ليس فيه متاع لأذواقهم ومشاربهم وعقولهم. الخاصة الثالثة: إرضاؤه العقل والعاطفة ومعنى هذا أن أسلوب القرآن يخاطب العقل والقلب معا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 ويجمع الحق والجمال معا انظر إليه مثلا وهو في معمعان الاستدلال العقلي على البعث والإعادة في مواجهة منكريهما كيف يسوق استدلاله سوقا يهز القلوب هزا ويمتع العاطفة إمتاعا بما جاء في طي هذه الأدلة المسكتة المقنعة إذ قال الله سبحانه في سورة فصلت {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وإذا قال في سورة ق: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ , وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ , تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ , وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ , وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ , رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} تأمل في الأسلوب البارع الذي أقنع العقل وأمتع العاطفة في آن واحد حتى في الجملة التي هي بمثابة النتيجة من مقدمات الدليل إذ قال في الآية الأولى إن الذي أحياها لمحي الموتى وفي الآيات الأخيرة كذلك الخروج يا للجمال الساحر ويا للإعجاز الباهر الذي يستقبل عقل الإنسان وقلبه معا بأنصع الأدلة وأمتع المعروضات في هذه الكلمات المعدودات!. ثم انظر إلى القرآن وهو يسوق قصة يوسف مثلا كيف يأتي في خلالها بالعظات البالغة ويطلع من خلالها بالبراهين الساطعة على وجوب الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة إذ قال في فصل من فصول تلك الرواية الرائعة {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فتأمل في هذه الآية كيف قوبلت دواعي الغواية الثلاث بدواعي العفاف الثلاث مقابلة صورت من القصص الممتع جدالا عنيفا بين جند الرحمن وجند الشيطان ووضعتها أمام العقل المنصف في كفتي ميزان! وهكذا تجد القرآن كله مزيجا حلوا سائغا يخفف على النفوس أن تجرع الأدلة العقلية ويرفه عن العقول باللفتات العاطفية ويوجه العقول والعواطف معا جنبا إلى جنب لهداية الإنسان وخير الإنسان!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وهل تسعد بمثل هذا في كلام البشر؟ لا ثم لا بل كلامهم إن وفى بحق العقل بخس العاطفة حقها وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر حتى لقد بات العرف العام يقسم الأساليب البشرية إلى نوعين لا ثالث لهما أسلوب علمي وأسلوب أدبي فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم وهكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء والعري ما لا يهز القلوب ويحرك النفوس وتجد في كلام الأدباء والشعراء من الهزال والعقم العلمي ما لا يغذي الأفكار ويقنع العقول ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة في بني الإنسان غير متكافئة وعلى فرض تكافئها في شخص فإنهما لا تعملان دفعة واحدة بل على سبيل البدع والمناوبة فكلام الشخص إما وليد فكرة وإما وليد عاطفة وإما ثوب مرقع يتألف من جمل نظرية تكون ثمرة للتفكير ومن جمل عاطفية تكون ثمرة للشعور أما إن تأتي كل جملة من جملة جامعة للغايتين معا فدون ذلك صعود السماء وكيف يتسنى ذلك للإنسان وهو لم يوهب القوتين متكافئتين ولو تكافأتا لديه فإنه لا يستطيع أن يوجههما اتجاها واحدا في آن واحد متقارنتين {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أما القرآن فإنه انفرد بهذه الميزة بين أنواع الكلام لأنه تنزيل من القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن والذي جمع بين الروح والجسد في قران {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . الخاصة الرابعة: جودة سبك القرآن وإحكام سرده1 ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه وتماسك كلماته وجملة وآياته وسورة مبلغا لا يداينه فيه أي كلام آخر مع طول نفسه   1 يقال درع مسردة أي منسوجة متداخلة حلفها بعضها في بعض فالمراد هنا أن القرآن مترابط الأجزاء متناسب تناسب قويا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وتنوع مقاصده وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد وآية ذلك أنك إذا تأملت في القرآن الكريم وجدت منه جسما كاملا تربط الأعصاب والجلود والأغشية بين أجزائه ولمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة والحس على تشابك وتساند بين أعضائه فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة على حين أنه كثرة متنوعة متخالفة فبين كلمات الجملة السورة الواحدة من والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب وبين حمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة صغيرة متآخذة الأجزاء متعانقة الآيات وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابا سوي الخلق حسن السمت {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار وتلعب بالعقول والأفكار على حين أنها مؤلفة من حلقات لكل حلقة منها وحدة مستقلة في نفسها ذات أجزاء ولكل جزء موضع خاص من الحلقة ولكل حلقة وضع خاص من السبيكة لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد جعل من هذه الأجزاء المنتشرة المتفرقة وحدة بديعة متآلفة تريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء ثم بين كل حلقة وحلقة ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها. يعرف هذا الإحكام والترابط في القرآن كل من ألقى باله إلى التناسب الشائع فيه من غير تفكك ولا تخاذل ولا انحلال ولا تنافر بينما الموضوعات مختلفة متنوعة فمن تشريع إلى قصص إلى جدل إلى وصف إلى غير ذلك وكتب التفسير طافحة ببيان المناسبات فنحيلك عليها ونكتفي بمثل واحد نضربه مع الاختصار والاقتصار. هذه سورة الفاتحة تأمل كيف تترابط وتتناسق في حسن تخلص من معنى إلى معنى ومن مقصد إلى مقصد لقد افتتحت متوجة "باسم الله" كما يتوج القاضي كل حكم من أحكامه باسم جلالة الملك لإعلان الجهة التي يستمد منها نفوذه في صدور أحكامه ثم انتقل الكلام فيها سريعا إلى الاستدلال على أن الاستعانة إنما هي به تعالى وحده وذلك بإضافة الاسم إلى لفظ الجلالة الذي هو اسم الذات الجامع لصفات الكمال وبوصف لفظ الجلالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 بأنه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم انتقل الكلام إلى إعلان أنه تعالى مستحق للمحامد كلها ما دام أنه المستعان وحده بالدليل ثم انتقل الكلام إلى تدعيم هذا الاستحقاق بأدلة ثلاثة جرت على اسم الجلالة مجرى الأوصاف في مقام حمده {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثم انتقل الكلام إلى إعلان وحدانيته في ألوهيته وربوبيته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ما دام أنه هو المعين وحده ومستحق المحامد كلها وحده ثم انتقل الكلام في براعة إلى بيان المطمح الأعلى للإنسان وأن هذا المطمح الأعلى هو الهداية إلى الصراط المستقيم وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى هذا المطمح عن طريق أحد إلا عن طريق الله وحده بقرينة ما سبق من أدلة التوحيد والتمجيد قبله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ثم انتقل الكلام من حيث لا تشعر أو من حيث تشعر إلى تقسيم الخلق بالنسبة إلى هذه الهداية ثلاثة أقسام تنبيها وإغراء على المقصود وتحذيرا وتنفيرا من الوقوع في نقيض هذا المقصود {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وإذا الناس أمام عينيك بين منعم عليه بمعرفة الحق واتباعه ومغضوب عليه بمخالفة الحق مع العلم به وضال رضي أن يعيش عيشة الأنعام في متاهة الجهالة والحيرة والضلال لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحق ليتشرف بمعرفته ويسعد باتباعه ثم تنظر في سورة البقرة فإذا هي وما بعدها ترتبط بالفاتحة ارتباط المفصل بالمجمل فالهداية إلى الصراط المستقيم صراط من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تشرحها سور البقرة وما وليها من سورة القرآن حيث جاءتنا بتفاصيل هذه الهداية في بيان كامل وعرض شامل. أما بعد فقد يظن بعض الجهلة أن هذه الوحدة الفنية البيانية في القرآن أمر تافه هين لا يسمو إلى حد التنويه به فضلا عن أن ينظم في عداد ما هو مناط للإعجاز ولأجل الرد على هؤلاء نطلب منهم أن ينظروا نظرة فاحصة في كلام البلغاء وحملة الأقلام فإن لم يكن عندهم نظر ولا ذوق فليستمعوا إلى حكم نقدة البيان وصيارفته عليهم بأنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 كثيرا ما يخطئون في تنظيم أغراضهم إذا قالوا بل يأتون بها شتيتا مفككا غير متماسك ولا متجاذب مما يعاب الشعراء من أجله بسوء التخلص حين ينتقلون من غرض إلى غرض في القصيدة الواحدة ومما يضطر الكاتب والعلماء والمؤلفين إلى تلافي هذا النقص بما يستخدمون في تنقلاتهم بين أغراضهم من أسماء الإشارة وأدوات التنبيه والحديث عن النفس وكثرة التقسيم والترقيم والتبويب والعنونة ولفظ أما بعد نحو هذا وان ألا وإن قلنا كذا ونقول كذا ينقسم الكتاب إلى مباحث المبحث الأول في كذا الخ ينقسم هذا المبحث إلى نقاط أولها كذا الخ ملاحظة تنبيه فذلكة أما بعد الخ. هذا في كلام البشر أما كلام مالك القوى والقدر فإنه على تنوع أغراضه وطول نفسه في سوره وآياته ينتقل من مقصد إلى مقصد وينقلك أنت معه بين هذه المقاصد غير مستعين بوسائل العجز المذكورة بل بطريقة سحرية قد تشعر بها وقد لا تشعر وحسبك أن تنظر في المثال الآنف الذي قدمناه لك في سورة الفاتحة وحبذا أن تنظر في أطول سور القرآن وهي سورة البقرة فإنك ستطرب وتعجب وسيذهب بك الطرب والعجب إلى حد الذوق البالغ لهذا اللون من الإعجاز القاهر وأدلك على كتاب النبأ العظيم فقد أجاد في بيان هذا اللون وأبدع وأشبع العقول والقلوب وأمتع بما عرض من التناسب والترابط بين آحاد هذه السورة!. الخاصة الخامسة: براعته في تصريف القول وثروته في أفانين الكلام ومعنى هذا أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ وبطرق مختلفة بمقدرة فائقة خارقة تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء ولسنا هنا بسبيل الاستيعاب والاستقراء ولكنها أمثلة تهديك ونماذج تكفيك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 أ - منها تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين بالوجوه الآتية: 1 - الإتيان بصريح مادة الأمر نحو قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 2 - والأخبار بأن الفعل مكتوب على المكلفين نحو {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} . 3 - والإخبار بكونه على الناس نحو {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . 4 - والإخبار عن المكلفين بالفعل المطلوب منه نحو {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قروء أي مطلوب منهن أن يتربصن. 5 - والإخبار عن المبتدأ بمعنى يطلب تحقيقه من غيره نحو {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} أي مطلوب من المخاطبين تأمين دخل الحرم. 6 - وطلب الفعل بصيغة فعل الأمر نحو حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى أو بلام الأمر نحو {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . 7 - والإخبار عن الفعل بأنه خير {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} . 8 - ووصف الفعل وصفا عنوانيا بأنه بر نحو {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} . 9 - ووصف الفعل بالفريضة نحو {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} أي من بذل المهور والنفقة 10 - وترتيب الوعد والثواب على الفعل نحو مَنْ {ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . 11 - وترتيب الفعل على شرط قبله نحو {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 12 - وإيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام نحو {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي تذكروا. 13 - وإيقاع الفعل عقب ترج نحو {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . 14 - وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل نحو {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . ب - ومنها تعبيره عن النهي بالوسائل الآتية: 1 - الإتيان في جانب الفعل بمادة الفعل بمادة النهي نحو {إِِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} . 2 - والإتيان في جانبه بمادة التحريم نحو {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . 3 - ونفي الحل عنه نحو {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} . 4 - والنهي عنه بلفظ لا نحو {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . 5 - ووصفه بأنه ليس برا نحو {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} . 6 - ووصفه بأنه شر نحو {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} . 7 - وذكر الفعل مقرونا بالوعيد نحو {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الخ. 8 - وذكر الفعل منسوبا إليه الإثم نحو {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 9 – 15 ونظم الأمر في سلك ما هو بالغ الإثم والحرمة والإخبار عن الفعل بأنه رجس ووصفه بأنه من عمل الشيطان والأمر باجتنابه ورجاء الفلاح في تركه وترتيب مضار مؤذية على فعله والأمر بالانتهاء عنه في صورة الاستفهام ونمثل لهذه الطرق كلها بتحريم الخمر والميسر في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ , إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . ج - ومنها تعبيره عن إباحة الفعل بالطرق الآتية: 1 - التصريح في جانبه بمادة الحل نحو {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} . 2 - والأمر به مع قرينه صارفة عن الطلب نحو {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} . 3 - ونفي الإثم عن الفعل نحو {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} . 4 - ونفي الحرج عنه نحو {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي في ترك القتال أو في الأكل من البيوت1. 5 - ونفي الجناح عنه في غير ما ادعى فيه الحرمة نحو {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ2 أما ما ادعى   1 تجد هذا النص الكريم في سورة الفتح عقب توعد من يتخلف عن القتال في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} إلخ. ثم تجد هذا النص الكريم أيضا في سورة النور نازلا بسبب وهو أن المسلمين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو ووضعوا مفاتح بيوتهم عند الأعمى والمريض والأعرج وعند أقاربهم ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون ويقولون.. نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة. 2 نزلت فيمن تعاطى شيئا من الخمر والميسر قبل التحريم. فقرر لهم أن ذلك مباحا لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 فيه الحرمة فإن نفى الجناح عنه يصدق بوجوبه نحو {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . 6 - وإنكار تحريمه في صورة استفهام نحو {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . 7 - والامتنان بالشي ووصفه بأنه رزق حسن نحو {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} . وهكذا تجد القرآن يفتن في أداء المعنى الواحد بألفاظ وطرق متعددة بين إنشاء وإخبار وإظهار وإضمار وتكلم وغيبة وخطاب ومضي وحضور واستقبال واسمية وفعليه واستفهام وامتنان ووصف ووعد ووعيد إلى غير ذلك ومن عجب أنه في تحويله الكلام من نمط إلى نمط كثيرا ما تجده سريعا لا يجاري في سرعته ثم هو على هذه السرعة الخارقة لا يمشي مكبا على وجهه مضطربا أو متعثرا بل هو محتفظ دائما بمكانته العليا من البلاغة {يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ولقد خلع هذا التصرف والافتنان لباسا فضفاضا من الجدة والروعة على القرآن ومسحه بطابع من الحلاوة والطلاوة حتى لا يمل قارئه ولا يسأم سامعه مهما كثرت القراءة والسماع بل ينتقل كل منهما من لون إلى لون كما ينتقل الطائر في روضة غناء من فنن إلى فنن ومن زهر إلى زهر. واعلم أن تصريف القول في القرآن على هذا النحو كان فنا من فنون إعجازه الأسلوبي كما ترى وكان في الوقت نفسه منة يمنها الله على الناس ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن والإقبال عليه قراءة وسماعا وتدبرا وعملا وأنه لا عذر معها لمن أهمل هذه النعمة وسفه نفسه اقرأ إن شئت قوله سبحانه: في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وقوله سبحانه: في سورة الكهف: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} وقوله سبحانه: في سورة الرعد: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} . الخاصة السادسة: جمع القرآن بين الإجمال والبيان مع أنهما غايتان متقابلتان لا يجتمعان في كلام واحد للناس بل كلامهم إما مجمل وإما مبين1. لأن الكلمة إما واضحة المعنى لا تحتاج إلى بيان وإما خفية المعنى تحتاج إلى بيان ولكن القرآن وحده هو الذي انحرقت له العادة فتسمع الجملة منه وإذا هي بينة مجملة في آن واحد أما أنها بينة أو مبينة بتشديد الياء وفتحها فلأنها واضحة المغزى وضوحا يريح النفس من عناء التنقيب والبحث لأول وهلة فإذا أمنعت النظر فيها لاحت منها معان جديدة كلها صحيح أو محتمل لأن يكون صحيحا وكلما أمنعت فيها النظر زادتك من المعارف والأسرار بقدر ما تصيب أنت من النظر وما تحمل من الاستعداد على حد قول القائل: يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا ولهذا السر وسع كتاب الله جميع أصحاب المذهب الحضر من أبناء البشر ووجد أصحاب هذه المذاهب المختلفة والمشارب المتباينة شقاء أنفسهم وعقولهم فيه وأخذت الأجيال المتعاقبة من مدده الفياض ما جعلهم يجتمعون عليه ويدينون به ولا كذلك البشر   1 المجمل ما له درلة واضحة فخرج المهمل والمبين. والمبين ما لا خفاء فيه لا ما وقع إليه السياق. مثال الأول لفظ القرء ولفظ مختار وقوقله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} لأن الأول متردد بين الحيض والطهر والثاني بين الفاعل والمفعول والثالث مجهول معناه قبل نزول آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} . والمبين نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} – و – {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 في كلامهم فإنهم إذا قصدوا إلى توضيح أغراضهم ضاقت ألفاظهم ولم تتسع لاستنباط وتأويل وإذا قصدوا إلى إجمالها لم يتضح ما أرادوه وربما التحق عندئذ بالألغاز وما لا يفيد. والأمر في هذه الخاصة ظاهر غني بظهوره عن التمثيل وحسبك أن ترجع إلى كتب التفسير ففيها من ذلك الشيء الكثير {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . الخاصة السابعة: قصد القرآن في اللفظ مع وفائه بالمعنى ومعنى هذا إنك في كل من جمل القرآن تجد بيانا قاصدا مقدرا على حاجة النفوس البشرية من الهداية الإلهية دون أن يزيد اللفظ على المعنى أو يقصر عن الوفاء بحاجات الخلق من هداية الخالق ومع هذا القصد اللفظي البريء من الإسراف والتقتير تجده قد جلى لك المعنى في صورة كاملة لا تنقص شيئا يعتبر عنصرا أصليا فيها أو حلية مكملة لها كما أنها لا تزيد شيئا يعتبر دخيلا فيها وغريبا عنها بل هو كما قال الله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . ولا يمكن أن تظفر في غير القرآن بمثل هذا الذي تظفر به في القرآن بل كل منطيق بليغ مهما تفوق في البلاغة والبيان تجده بين هاتين الغايتين كالزوج بين ضرتين بمقدار ما يرضي إحداهما يغضب الأخرى فإن ألقى البليغ باله إلى القصد في اللفظ وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه حمله ذلك في الغالب على أن يغض من شأن المعنى فتجيء صورته ناقصة خفية ربما يصل اللفظ معها إلى حد الإلغاز والتعمية وإذا ألقى البليغ باله إلى الوفاء بالمعنى وتجلية صورته كاملة حمله ذلك على أن يخرج عن حد القصد في اللفظ راكبا متن الإسهاب والإكثار حرصا على أن يفوته شيء من المعنى الذي يقصده ولكن ينذر حينئذ أن يسلم هذا اللفظ من داء التخمة في إسرافه وفضوله تلك التخمة التي تذهب ببهائه ورونقه وتجعل السامع يتعثر في ذيوله لا يكاد يميز بين زوائد المعنى وأصوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وإذا افترضنا أن بليغا كتب له التوفيق بين هاتين الغايتين وهما القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى في جملة أو جملتين من كلامه فإن الكلال والإعياء لا بد لاحقا به في بقية هذا الكلام وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية إلا في الفينة بعد الفينة كما تصادف الإنسان قطعة من الذهب أو الماس في الحين بعد الحين وهو يبحث في التراب أو ينقب بين الصخور. وإن كنت في شك فسائل أئمة البيان وصيارفته هل ظفرتم بقطعة من النثر أو بقصيدة من الشعر كانت كلها أو أكثرها جامعا بين وفاء المعنى وقصد اللفظ؟ ها هم أولاء يعلنون حكمهم صريحا بأن أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة من قصائد محدودة أما سائر شعرهم بعد فبين متوسط ورديء وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه على الناثرين من الخطباء والكتاب. وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة فافتح المصحف الشريف مرة واعمد إلى جملة من كتاب الله وأحصها عددا ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أي كلام آخر وقارن بين الجملتين ووازن بين الكلامين وانظر أيهما أملأ بالمعاني مع القصد في الألفاظ ثم انظر أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها في ذلك الكلام الإلهي وكم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها في ذلك الكلام البشري؟ إنك إذا حاولت هذه المحاولة فستنتهي إلى هذه الحقيقة التي أعلنها ابن عطية فيما يحكي السيوطي عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد اهـ وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا حتى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي وصيغ على أكمل ما خلق الله فإنه مع تحليقه في سماء البيان وسموه على كلام كل إنسان لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن وسبحان الله وبحمده سبحانه الله العظيم!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 تعليق وتمثيل : يحلو لي أن أسوق إليك هنا كلمة قيمة فيها تعليق وتمثيل لما نحن بصدده وهي لصديقنا العلامة الجليل الشيخ محمد عبد الله دارز في كتابه النبأ العظيم الذي اقتبسنا منه فيما يتصل بإعجاز القرآن كثيرا. قلنا إن القرآن الكريم يستثمر دائما برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني أجل تلك ظاهرة بارزة فيه كله يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب ولذلك نسميه إيجازا كله لأننا نراه في كلا المقامين لا يجاوز سبيل القصد ولا يميل إلى الإسراف ميلا ما ونرى أن مراميه في كلا المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر والحلي بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى. دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها مقحمة وفي بعض حروفة إنها زائدة زيادة معنوية ودع عنك قول الذي يستخف كلمة التأكيد فيرمي بها في كل موطن يظن فيها الزيادة لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به أجل دع عنك هذا وذاك فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل مستورا أو مكشوفا بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون ولكن قل قولا سديدا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف قل الله أعلم بأسرار كلامه ولا علم لنا إلا بتعليمه ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 قائلا: أين أنا من فلان وفلان كلا فرق صغير مفضول قد فظن إلى ما يفطن له الكبير الفاضل ألا ترى إلى قصة عمر في الأحجية المشهورة 1فجد في الطلب وقل رب زدني علما فعسى الله أن يفتح لك بابا من الفهم تكشف به شيئا مما عمي على غيرك والله ولي الذين آموا يخرجهم من الظلمات إلى النور. ولنضرب لك مثلا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . أكثر أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة فرارا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية التشبيه عن مثل الله فتكون تسليما بثبوت المثل له سبحانه أو على الأقل محتملة لثبوته وانتفائه لأن السالبة كما يقول علماء المنطق تصدق بعدم الموضع أو لأن النفي كما يقول علماء النحو قد يوجه2 إلى المقيد وقيده جميعا تقول ليس لفلان ولد يعاونه إذا لم يكن له ولد قط أو كان له ولد لا يعاونه وتقول ليس محمد أخا لعلي إذ كان أخا لغير علي أو لم يكن أخا لأحد وقليل منهم من ذهب إلى انه لا بأس ببقائها على أصلها إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصا   1 قرأ النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية 24 سورة إبراهيم "14" وقال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها لمثل المسلم. فحدثوني ما هي؟ " فخفى على القوم علمها وجعلوا يذكرون أنواعا من شجر البادية. وفهم ابن عمر أنها النخلة وكان عاشر عشرة هو أحدثهم سنا وفيهم أبو بكر وعمر فقال صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة" الحديث رواه الشيخان. وفي القرآن: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية 79 من سورة الأنبياء "21". 2 لعل تمام الكلام: أو ل، النفي – كما يقول علماء النحو – قد يوجه إلى القيد وحده وقد يوجه إلى المقيد وقيده جميعا إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 ولا احتمالا لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضا وذلك أنه لو كان هناك مثل لله لكان لهذا المثل مثل قطعا وهو الإله الحق نفسه فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلا لصاحبه وإذا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب. وقصارى هذا التوجيه لو تاملته أنه مصحح لا مرجح أي أنه ينفي الضرر عن هذا الحرف ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه ألست ترى أن مؤدي الكلام معه كمؤداه بدونه سواء وأنه إن كان قد ازداد به شيئا فإنما ازداد شيئا من التكلف والدوران وضربا من التعمية والتعقيد وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول هذا أخو فلان فقال هذا ابن أخت خالة فلان فماله إذا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد ذلك الاسم الذي لا نعرف له مسمى ها هنا فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودا ألبتة وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان. ولو رجعت إلى نفسك قليلا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظا بقوة دلالته قائما بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى أو لتهدم ركن من أركانه ونحن نبين لك هذا من طريقين أحدهما أدق مسلكا من الآخر الطريق الأول وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور أنه لو قيل ليس مثله شيء لكان ذلك نفيا للمثل المكافئ وهو المثل التام المماثلة فحسب إذ إن هذا المعنى هو الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه وإذا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء أو للكواكب وقوى الطبيعة أو للجن والأوثان والكهان فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه وشرك ما في خلقه أو أمره فكان وضع هذا الحرف في الكلام إقصاء للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها كأنه قيل ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلا لله فضلا عن أن يكون مثلا له على الحقيقة وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى على حد قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} نهيا عن يسير الأذى صريحا وعما فوق اليسير بطريق الأحرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 الطريق الثاني وهو أدق مسلكا أن المقصود الأول من هذه الجملة وهو نفي الشبيه وإن كان يكفي لأدائه أن يقال ليس كالله شيء أو ليس كمثله شيء لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجتك وطريق برهانه العقلي. ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت فلان لا يكذب ولا يبخل أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها فإذا زدت فيه كلمة فقلت مثل فلان لا يكذب ولا يبخل لم تكن بذلك مشيرا إلى شخص آخر يماثله مبرأ من تلك النقائص بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم. على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الكريم الحكيمة قائلة مثله تعالى لا يكون له مثل تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه فلا جرم جيء فيها بلفظين كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة ليقوم أحدهما ركنا في الدعوى والآخر دعامة لها وبرهانا فالتشبيه المدلول عليه بالكاف لما تصوب إليه النقي تأدى به أصل التوحيد المطلوب ولفظ المثل المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب. واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحده الصانع لا نعلم أحدا من علماء الكلام حام حوله فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العلمية حسب ما أرشد إليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ينقض فرض التعدد من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 أساسه ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار فكأننا بها تقول لنا: إن حقيقة الإله ليس من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها كلا فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي الناقص أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنينية لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدما على كل شيء وإنشاء لكل شيء {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وحققت سلطانا على كل شيء وعلوا فوق كل شيء {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت إذ تجعل كل واحد منهما سابقا مسبوقا ومنشئا ومنشأ ومستعليا مستعلى عليه أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقا ولا مستعليا فأنى يكون كل منهما إلها وللإله المثل الأعلى؟!. أرأيت كم أفدنا من هذه الكاف وجوها من المعاني كلها شاف كاف فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظام الحكيم حرفا حرفا اهـ وهو كلام جد نفيس فاحرص عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 الشبهات الواردة على أسلوب القرآن تنمر أعداء الله على القرآن وألقوا في طريق الإيمان به حبالا وعصيا من التخييلات والأوهام من ذلك شبهات لفقوها ووجهوها إلى أسلوبه وهي مع التوائها وخبثها تراها مفضوحة منقوضة في هذا الكتاب "بالجزء الأول، من ص 72 – 74 ومن صفحة 199 – 232 بالطبعة" فارجع إلى ذلك هناك والله يتولى بتوفيقه هدانا وهداك وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به مدخل ... المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به إعجاز القرآن مركب إضافي معناه بحسب أصل اللغة إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به فهو من إضافة المصدر لفاعله والمفعول وما تعلق بالفعل محذوف للعلم به والتقدير إعجاز القرآن خلق الله عن الإتيان بما تحداهم به ولكن التعجيز المذكور ليس مقصودا لذاته بل المقصود لازمه وهو إظهار أن هذا الكتاب حق وأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به رسول صدق وكذلك الشأن في كل معجزات الأنبياء ليس المقصود بها تعجيز الخلق لذات التعجيز ولكن للأزمة وهو دلالتها على أنهم صادقون فيما يبلغون عن الله فينتقل الناس من الشعور بعجزهم إزاء المعجزات إلى شعورهم وإيمانهم بأنها صادرة عن الإله القادر لحكمة عالية وهي إرشادهم إلى تصديق من جاء بها ليسعدوا باتباعه في الدنيا والآخرة ولقد تناولنا في المبحث الثالث من هذا الكتاب الكلام على المعجزة ما هي وعلى الفرق بينهما وبين السحر وغير وعلى وجه دلالتهما على تأييد الحق وتصديق الرسل مع ضرب الأمثال ونقض الشبهات فارجع إلى ذلك هناك "ص 56 – 84 من الجزء الأول". وقبل أن نخوض في موضوعنا هذا ننبهك إلى أننا سنختص سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالذكر في نفي نسبة القرآن إليه وذلك للتنصيص من أول الأمر على ما يشبه محل النزاع أو موضع الاشتباه عند كثير من أشباه الناس ولأنه إذا كانت طبيعة القرآن تأبى أن ينسب إلى أفضل الخلق على أنه من تأليفه فأحر بها أن تأبى نسبته إلى غيره بالطريق الأولى ومتى سلم الدليل على أن القرآن كلام الله وحده سلمت نبوة نبي الإسلام وسلم كل ما جاء به القرآن وسلم الإسلام كله بل سلمت الأديان الصحيحة والكتب الإلهية كلها؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 لأنه لم يبق على وجه الأرض شاهد مقبول الشهادة إلا هذا الكتاب الذي أنزله الله مقررا لنبوة الأنبياء السابقين وأديانهم ومصححا لأغلاط اللاغطين فيها والمحرفين لها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} . الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أهدى وأقوم قيلا لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وجوه إعجاز القرآن الوجه الأول لغته وأسلوبه الناظر في هذا الكتاب الكريم بإنصاف تتراءى له وجوه كثيرة مختلفة من الإعجاز كما تتراءى للناظر إلى قطعة من الماس ألوان عجيبة متعددة بتعدد ما فيها من زوايا وأضلاع ومختلفة باختلاف ما يكون عليه الناظر وما تكون عليه قطعة الماس من الأوضاع وسنبدأ بما نراه سليما من المطاعن ثم نقفي بما لا يسلم في نظرنا من طعن. أما الوجه الأول فلغته وأسلوبه على نحو ما فصلناه في المبحث السابق وبيان ذلك أن القرآن جاء بهذا الأسلوب الرائع الخلاب الذي اشتمل على تلك الخصائص العليا التي تحدثنا عنها والتي لم تجتمع بل لم توجد خاصة واحدة منها في كلام على نحو ما وجدت في القرآن وكل ما كان من هذا القبيل فهو لا شك معجز خصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدى به فأعجز أساطين الفصحاء وأعيا مقاويل البلغاء وأخرس ألسنة فحول البيان من أهل صناعة اللسان وذلك في عصر كانت القوى فيه قد توافرت على الإجادة والتبريز في هذا الميدان وفي أمة كانت مواهبها محشودة للتفوق في هذه الناحية وإذا كان أهل الصناعة هؤلاء قد عجزوا عن معارضة القرآن فغيرهم أشد عجزا وأفحش عيا. وها قد مرت على اللغة العربية من عهد نزول القرآن إلى عصرنا هذا أدوار مختلفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 بين علو ونزول واتساع وانقباض وحركة وجمود وحضارة وبداوة والقرآن في كل هذه الأدوار واقف في عليائه يطل على الجميع من سمائه وهو يشع نورا وهداية ويفيض عذوبة وجلالة ويسيل رقة وجزالة ويرف جدة وطلاوة ولا يزل كما كان غضا طريا يحمل راية الإعجاز ويتحدى أمم العالم في يقين وثقة قائلا في صراحة الحق وقوته وسلطان الإعجاز وصولته {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . القدر المعجز من القرآن ومن عجيب أمر هذا القرآن وأمر هؤلاء العرب أنه طاولهم في المعارضة وتنازل لهم عن التحدي بجميع القرآن إلى التحدي بعشر سور مثله ثم إلى التحدي بسورة واحدة من مثله وهم على رغم هذه المطاولة ينتقلون من عجز إلى عجز ومن هزيمة إلى هزيمة وهو في كل مرة من مرات هذا التحدي وهذه المطاولة ينتقل من فوز إلى فوز ويخرج من نصر إلى نصر. تصور أنه قال لهم في سورة الطور أول ما تحداهم: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ , فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} فلما انقطعوا مد لهم في الحبل وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ , فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فلما عجزوا هذه المرة أيضا طاولهم مرة أخرى وأرخى لهم الحبل إلى آخره وقال في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فكان عجزهم بعد ذلك أشنع وأبشع وسجل الله عليهم الهزيمة أبد الدهر فلم يفعلوا ولن يفعلوا ودحضت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 حجتهم وافتضح أمرهم وظهر أمر الله وهم كارهون. بهذا يتبين لك أن القدر المعجز من القرآن هو ما يقدر بأقصر سورة منه وأن القائلين بأن المعجز هو كل القرآن لا بعضه وهم المعتزلة والقائلين بأن المعجز كل ما يصدق عليه أنه قرآن ولو كان أقل من سورة كل أولئك بمنأى عن الصواب وهم محجوجون بما بين يديك من الآيات. معارضة القرآن وهل أتاك نبأ الخصم إذ هموا أن يعارضوا القرآن؟ فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون محاولات مضحكة مخجلة أخجلتهم أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم فباؤوا بغضب من الله وسخط من الناس وكان مصرعهم هذا كسبا جديدا للحق وبرهانا ماديا على أن القرآن كلام الله القادر وحده لا يستطيع معارضته إنسان ولا جان ومن ارتاب فأمامه الميدان. يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب رغم أنه أوحي إليه بكلام كالقرآن ثم طلع على الناس بهذا الهذر إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر وبهذا السخف والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة في قليل ولا كثير وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل في لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه في ذلك؟ يقول حجة الأدب العربي فقيدنا الرافعي عليه سحائب الرحمة إن مسيلمة لم يرد أن يعرض للقرآن من ناحية الصناعة البيانية إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرا في نفوسهم ذلك أنه رأى معرب تعظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الكهان في الجاهلية وكانت عامة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذي يزعمون أنه من كلام الجن كقولهم يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله البخاري في المناقب إسلام عمر فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع في محاكاة القرآن ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد كأنما النبوة والكهانة ضرب واحد على أنه لم يفلح في هذه الحيلة أيضا فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة ويقولون إنه لم يكن في تعاطيه الكهانة حاذقا ولا في دعوى النبوة صادقا وإنما كان اتباعهم إياه كما قال قائلهم كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. ويروي التاريخ أن أبا العلاء المعري وأبا الطيب المتنبي وابن المقفع حدثتهم نفوسهم مرة أن يعارضوا القرآن فما كادوا يبدؤون هذه المحاولة حتى انتهوا منها بتكسير أقلامهم وتمزيق صحفهم لأنهم لمسوا بأنفسهم وعورة الطريق واستحالة المحاولة وأكبر ظني وظن الكاتبين من قبلي أنهم كان يعتقدون من أعماق قلوبهم بلاغة القرآن وإعجازه من أول الأمر وإنما أرادوا أن يضموا دليلا جديدا إلى ما لديهم من أدلة ذاقوها بحاستهم البيانية من باب ولكن ليطمئن قلبي ويا ليت شعري إن لم يتذوق أمثال هؤلاء بلاغة القرآن وإعجازه فمن غيرهم؟! وتحدثنا الأيام القريبة أن زعماء البهائية والقاديانية وضعوا كتبا يزعمون أنهم يعارضون بها القرآن ثم خافوا وخجلوا أن يظهروها للناس فأخفوها ولكن على أمل أن تتغير الظروف ويأتي على الناس زمان تروج فيه أمثال هذه السفاسف إذ ما استحر فيهم الجهل باللغة العربية آدابها والدين الإسلامي وكتابه ألا خيبهم الله وخيب ما يأملون. في القرآن آلاف المعجزات علمنا من قبل أن القرآن يزيد على مائتي آية وستة آلاف آية وعلمنا اليوم أن حبل التحدي قد طال حتى صار بسورة وان السورة تصدق بسورة الكوثر وهي ثلاث آيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 قصار وأن مقدارها من آية أو آيات طويلة له حكم السورة وان لأسلوب التنزيل سبع خواص لا توجد واحدة منها على كمالها في أي كلام آخر كما بسطنا القول في ذلك بالمبحث الآنف فيخلص لنا في ضوء هذه الحقائق أن القرآن مشتمل على آلاف من المعجزات لا معجزة واحدة كما يبدو لبعض السذج والسطحيين وإذا أضفنا إلى هذا ما يحمل القرآن من وجوه الإعجاز التالية تراءت لنا معجزات متنوعات شتى تجل عن الإحصاء والتعداد وسبحان من يجعل من الواحد كثرة ومن الفرد أمة! {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي لكان هذا القرآن!. معجزات القرآن خالدة وهنا نلفت النظر إلى أن القرآن بما اشتمل عليه من هذه المعجزات الكثيرة قد كتب له الخلود فلم يذهب بذهاب الأيام ولم يمت بموت الرسول عليه الصلاة والسلام بل هو قائم في فم الدنيا يحاج كل مكذب ويتحدى كل منكر ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من هداية الإسلام وسعادة بني الإنسان ومن هذا يظهر الفرق جليا بين معجزات نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ومعجزات إخوانه الأنبياء عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام فمعجزات محمد في القرآن وحده آلاف مؤلفة وهي متمتعة بالبقاء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم حتى يرث الله الأرض ومن عليها أما معجزات سائر الرسل فمحدودة العدد قصيرة الأمد ذهبت بذهاب زمانهم وماتت بموتهم ومن يطلبها الآن لا يجدها إلا في خبر كان ولا يسلم له شاهد بها إلا هذا القرآن وتلك نعمة يمنها القرآن على سائر الكتب والرسل وما صح من الأديان كافة قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وقال عز اسمه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 حكمة بالغة في هذا الاختيار وهنا نقف هنيهة لنعلم أن حكمة الله البالغة قضت أن تكون معجزة الإسلام باقية بجانبه تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة حتى لا يكون لأحد عذر في ترك هذا الدين الأخير الذي هو خاتمة الأديان والشرائع لذلك اختار سبحانه أن تكون معجزة الإسلام شيئا يصلح للبقاء فكانت دون سواها كلاما يتلى في أذن الدهر وحديث يقرأ على سمع الزمان وكان من أسرار الإعجاز فيه بلوغه من الفصاحة والبيان مبلغا يعجز الخلق أجمعين وكان من عدله تعالى ورحمته أن اللغة التي صيغت بها هذه المعجزة هي اللغة العربية دون غيرها من اللغات لأن اللغة العربية حين مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد بلغت لدى الشعب العربي أوج عظمتها من الاعتناء بها والاعتداد بالنابغين فيها والاعتزاز بالجيد منها وكان هذا الشعب العربي قد استكملت له حينذاك ملكة في النقد والمفاضلة تؤهله بسهولة ويسر للحكم على جيد الكلام وزيفه ووضع كل كلام في درجته من العلو أو النزول وترجع براعتهم في هذه الناحية إلى أنهم كانوا قد وقفوا عليها حياتهم والتمسوا من ورائها عظمتهم وعلقوا عليها آمالهم. ولا يغيبن عنك أن هذا الشعب العربي كان مطبوعا أيامئذ على الصراحة في الرأي لا يعرف النفاق ولا الذبذبة وكانوا فوق ذلك شجعانا يأنفون الذل ويعافون الضيم مهما كلفتهم سجاياهم هذه من بذل مال وسفك دم فلما نزل القرآن لم يسع هذا الشعب الحر الصريح الأبي المتمهر في لغته إلا أن يلقي السلاح من يده ويخضع لسلطان هذا التنزيل وبلاغته ويدين له ويؤمن به عن إدراك ووجدان بعد أن ذاق حلاوته ولمس إعجازه وحكم بملكته العربية الناقدة وصراحته المعروفة السافرة وشجاعته النادرة الفائقة أن هذا الذكر الحكيم لا يمكن أن يكون كلام مخلوق من البشر ولا غير البشر إنما هو تنزيل من حكيم حميد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 بهذه الشهادة ينجح العالم كله شهادة هذا شانها وهذا شان من شهد بها جديرة أن ينجح بها العالم حين يتلقاها بالقبول كما يتلقى بالقبول شهادة لجان التحكيم في هذا العصر ثقة منه بأنهم فنيون يحسنون المقارنة والموازنة واطمئنانا إلى انهم عادلون لا يعرفون المحاباة والمداهنة بل شهادة أولئك العرب أزكى وأطهر وأحكم وأقوم لأنها صدرت عن أعداء القرآن حين نزوله بعد محاولات ومصاولات مخضتهم مخضا عنيفا وأفحمتهم إفحاما مريرا والفضل ما شهدت به الأعداء. أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي ومما يفيد في هذا المقام ويدفع التلبيس أن تعرف بعد ما بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي الشريف ولا أدل على ذلك من أن بين يدي التاريخ إلى يوم الناس هذا آلافا مؤلفة من كتب السنة تملأ دون الكتب في الشرق والغرب وتنادي كل من له إلمام وذوق في البيان العربي أن هلم لتحس بحاستك البيانية المدى البعيد بين أسلوبي القرآن والحديث ولتؤمن عن وجدان بأن أسلوب التنزيل أعلى وأجل من أسلوب الأحاديث النبوية علوا خارقا للعادة خارجا عن محيط الطاقة البشرية وإن بلغ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في جودته وروعته وجلالته ما جعله خير بيان لخير إنسان. غير أن هذه الفوارق كما قلنا فوارق فنية لا يدركها إلا الذين أوتوا حظا عظيما من معرفة اللسان العربي والذوق العربي ولقد نزل القرآن أول ما نزل على أمة العرب وهم مطبوعون على اللغة الفصحى منقطعون لإحيائها وترقيتها وكانوا يتفاضلون بينهم بالتفوق في علو البيان وفصاحة اللسان حتى بلغ في تقديسهم لهذا أنهم كانوا يقيمون المعارض العامة للتفاخر والتفاضل بفصيح المنظوم وبليغ المنثور وحتى إن القبيلة كان يرفعها بيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 واحد من الشعر يكون رائعا في مدحها ويضعها بيت يكون لاذعا في ذمها ولقد كان هؤلاء العرب يعرفون نبي الإسلام ويعرفون مقدرته الكلامية من قبل أن يوحى إليه فلم يخطر ببال منصف منهم أن يقول إن هذا القرآن كلام محمد وذلك لما يرى من المفارقات الواضحة بين لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام. يضاف إلى هذا أنه لم يعرف في نشأته بينهم بالخطابة ولا بالكتابة ولا بالشعر ولم يؤثر أنه شاركهم في معارضهم وأسواقهم العامة التي كانوا يقيمونها للتسابق في البيان بل كان مقبلا على شأنه زاهدا في الظهور ميالا إلى العزلة وكل ما اشتهر به قبل النبوة أنه كان صادقا لم يجربوا عليه كذبا أمينا ما خان أبدا ميمون النقيبة عالي الأخلاق علوا ممتازا فهل يعقل أن رجلا سلخ عهد شبابه وكهولته على هذا النمط يجيء في سن الشيخوخة فينافس العالم كله ويتحداه بشيء من لدنه وهو الذي ما نافس أحدا قبل ذلك ولا تحداه بل كان من خلقه الحياء والتواضع وعدم الاستطالة على خلق الله ثم هل يتصور أن هذا الإنسان الكامل يتورع عن الكذب على الناس في صباه وشبابه وكهولته ثم يجيء في سن الشيخوخة فيكذب أفظع الكذب على الله؟ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . ألا إن وجود القرآن كلاما متلوا لم ينقص كلمة ولا حرفا لرحمة واسعة من الله بعباد لم تتسن لأي كتاب في أمة غير هذا الكتاب الذي ينهل الظامئون من بحره الروي في كل عصر ويأوي المنصفون إلى هدية الرباني في كل مصر ويكتسب بما فيه من سمات الألوهية أتباعا في كل أفق مصداقا لقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رواه الشيخان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 الوجه الثاني: طريقة تأليفه وبيان ذلك أن القرآن لم ينزل جملة واحدة وإنما نزل مفرقا منجما على أكثر من عشرين عاما على حسب الوقائع والدواعي المتجددة كما تقدم بيانه في المبحث الثالث من هذا الكتاب وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه نجم من تلك النجوم قال ضعوه في مكان كذا من سورة كذا وهو بشر لا يدري طبعا ما ستجيء به الأيام ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل فيها ثم مضى العمر الطويل والرسول على هذا العهد وإذا القرآن كله بعد ذلك يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف وينسجم ولا يؤخذ عليه شيء من التخاذل والتفاوت بل كان من ضروب إعجازه ما فيه من انسجام ووحده وترابط حتى إن الناظر فيه دون أن يعلم بتنجيم نزوله لا يخطر على باله أنه نزل منجما وحتى إنك مهما أمعنت النظر وبحثت لا تستطيع أن تجد فرقا بين السور التي نزلت جملة والسور التي نزلت منجمة من حيث إحكام الربط في كل منهما فسورة البقرة مثلا وقد نزلت بضعة وثمانين نجما في تسع سنين1 لا تجد فرقا بينها وبين سورة الأنعام التي نزلت دفعة واحدة كما. يقول الجمهور2 من حيث   1 وجه نزولها في تسع سنين أنها جمعت بين ما نزل في مبادئ السنة الثانية للهجرة كآيات تحويل القبلة وآيات تشريع صوم رمضان وبين آخر القرآن نزولا على الإطلاق وهو آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} التي ورد أنها نزلت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بتسع ليالي فقط. 2 رواه الطبراني موقوفا على ابن عباس ورواه أبي بن كعب مرفوعا بسند ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 نظام المبنى ودقة المعنى وتمام الوحدة الفنية وإذا قرأت سورة الضحى وسورة اقرأ وسورة الماعون لا تشعر بفارق بينها وبين كثير من السور القصار مثلها من حيث الإحكام والوحدة والانسجام كذلك على حين أن تلك السور الثلاث نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين فقل لي بربك هل يجوز في عقل عاقل أن يكون هذا القرآن كلام محمد أو غير محمد مع ما علمت من هذا الانفصال الزماني البعيد بين أول ما نزل وآخره ومع ما علمت من ارتباط كل نجم بحادثة من أحداث الزمن ووقائعه ومع ما علمت من أن ترتيب هذه النجوم في القرآن ليس على ترتيب هذا النزول الخاضع للحدثان بدليل أن أول ما نزل من القرآن إطلاقا وهو صدر سورة اقرأ مدون بالمصحف في أواخره وبدليل أن آخر ما نزل منه إطلاقا وهو آية {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} مدون بالمصحف في أوائله؟؟ إن كنت في شك من أن هذا الكتاب المحكم الرصين قد جاء في طريقة تأليفه معجزة فاجمع أهل الدنيا يظاهر بعضهم بعضا واطلب إليهم أن يؤلفوا لك كتابا في حجم سورة البقرة لا في حجم سورة القرآن كله لكن على شرط أن تكون طريقة تأليفه هي الطريقة التي خضعت لها سورة البقرة من الارتباط بأحداث الزمن ووقائعه ومن وضع هذه النجوم مبعثرة غير مرتبة في الكتاب بترتيب الأحداث والوقائع ثم من تمام هذا الكتاب أخيرا على وحدة فنية تربط بين بداياته ونهاياته وأوساطه وسائر أجزائه؟ فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فاطلب إليهم أن يعمدوا مثلا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه وقد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة واسألهم بعد ذلك هل في مكنتهم أن ينظموا من هذا السرد الشتيت الماثل أمامهم كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة كالقرآن من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه؟؟ ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ومن حاوله من الخلق فإنما يحاول العبث العابث وسيخرج إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 الناس من هذه المحاولة بثوب مرقع وكلام مشوش ينقصه الترابط والانسجام وتعوزه الوحدة والاسترسال وتمجه الأسماع والأفهام! إذن فالقرآن الكريم تنطق طريقة تأليفه بأنه لا يمكن أن يكون صادرا إلا ممن له السلطان الكامل على الفلك ودورته والعلم المحيط بالزمن وحوادثه والبقاء السرمدي حتى يبلغ مراده وينفذ مشيئته ذلكم الله وحده الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض والذي يعلم الغيب في السموات وفي الأرض والذي لا يذوق الموت ولا تأخذه سنة ولا نوم لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 الوجه الثالث: علومه ومعارفه بيان ذلك أن القرآن قد اشتمل على علوم ومعارف في هداية الخلق إلى الحق بلغت في نباله القصد ونصاعة الحجة وحسن الأثر وعموم النفع مبلغا يستحيل على محمد وهو رجل أمي نشأ بين الأميين أن يأتي بها من عند نفسه بل يستحيل على أهل الأرض جميعا من علماء وأدباء وفلاسفة ومشترعين وأخلاقيين أن يأتوا من تلقاء أنفسهم بمثلها هذا هو التنزيل الحكيم تقرؤه فإذا بحر العلوم والمعارف متلاطم زاخر وإذا روح الإصلاح فيه قوي قاهر ثم إذا هو يجمع الكمال من أطرافه فبينا تراه يصلح ما أفسده الفلاسفة بفلسفتهم إذ تراه يهدم ما تردى فيه الوثنيون بشركهم وبينا تراه يصحح ما حرفه أهل الأديان في دياناتهم إذ تراه يقدم للإنسانية مزيجا صالحا من عقيدة راشدة ترفع همة العبد وعبادة قويمة تطهر نفس الإنسان وأخلاق عالية تؤهل المرء لأن يكون خليفة الله في الأرض وأحكام شخصية ومدنية واجتماعية تكفل حماية المجتمع من الفوضى والفساد وتضمن له حياة الطمأنينة والنظام والسلام والسعادة دينا قيما يساوق الفطرة ويوائم الطبيعة ويشبع حاجات القلب والعقل ويوفق بين مطالب الروح والجسد ويؤلف بين مصالح الدين والدنيا ويجمع بين عز الآخرة والأولى كل ذلك في قصد واعتدال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وببراهين واضحة مقنعة تبهر العقل وتملك اللب والكلام على هذه التفاصيل يستنفد مجلدا بل مجلدات فلنجتزئ هنا بأمثلة وإشارات ولنخترها في موضوع العقائد التي هي واحدة في جميع أديان الله بحسب أصلها قبل التعريف ولنتعرض في هذه الأمثلة إلى شيء من المقارنة بين تعاليم الإسلام تعاليم واليهود والنصارى على عهد نزوله ثم إلى شيء من رد القرآن عليهم وتصحيحه لأغلاطهم وفضحه لأباطيلهم ومقصدنا من هذا قطع ألسنة خراصة زعم أصحابها أن تعاليم القرآن استمدها محمد من بعض أهل الكتاب في عصره ثم نسبها إلى ربه ليستمد من هذه النسبة قدسيتها {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} . أ - أمثلة من عقيدة الإيمان بالله: 1 - جاء في القرآن بالعقيدة في الله بيضاء نقية نزهة فيها عن جميع النقائص نص على استحالة الولد وكل ما يشعر بمشابهة الخالق بالمخلوق ووصف الله بالكمال المطلق ونص على وحدانيته في ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته بمعنى أنه أحد في تدبير خلقه وأحد في استحاقة العبادة دون غيره أم تر أنه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ويقول: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ويقول: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} ويقول: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ويقول: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ويقول: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ويقول: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ويقول: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} ويقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ويقول {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ , يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ويقول: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} . {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} إلى غير ذلك وهو جد كثير. 2 - وضل اليهود بعد موسى فعبدوا بعلا وزعموا في عهد من عهودهم ما زعمت النصارى من أن لله ابنا وشبهوا الله تعالى بالإنسان فنعتوه بأنه تعب من خلق السماوات والأرض فاستراح يوم السبت وركبوا رؤوسهم فقالوا إنه سبحانه ظهر في شكل إنسان وصارع إسرائيل فلم يقدر على التفلت منه حتى باركه فأطلقه إلى غير ذلك من أغلاطهم وفضائحهم. 3 - وضل النصارى بعد عيسى فذهبوا إلى عقيدة معقدة من التثليث وصارت كنائسهم من عهد قسطنطين كهياكل الوثنية الأولى وخلعوا على رجال كهونتهم ما هو حق الله وحده من التشريع والتحليل والتحريم حتى تعزى بهم وثنيو العرب ورأوا أنهم امثل من هؤلاء المسيحيين في الوثنية {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} وقالوا ءألهتنا خير أم هو ثم احتجوا على شركهم بأنهم ما سمعوا دعوة التوحيد الذي جاء به الإسلام في الملة الآخرة {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ , مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أي النصرانية. 4 - فانظر مدى البون الشاسع بين الحق الذي جاء به القرآن في هذا الباب وبين الباطل الذي جاء به هؤلاء وهؤلاء على أن كتاب الله لم يكتف بذلك بل رد على المبطلين ببراهينه الساطعة وأدلته القاطعة استمع إليه وهو يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ويقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً , لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} ويقول: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ , قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ , قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} ويقول: {َبدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ويقول في نفي التعب الذي افتراه اليهود على الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ويقول نعيا عليهم في عبادة بعل: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ , اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} ويقول: نعيا عليهم في فرية أخرى: {َقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ويقول في نفي البنوة التي زعموها لله هم والنصارى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ , اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ , يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . ب - أمثلة من عقيدة البعث والجزاء: 1 - جاء القرآن بعقيدة البعث بعد الموت واضحة شاملة للروح والجسد عادة لا ظلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 فيها ولا محاباة مقسطة لا شفاعة هتاك بالمعنى الفاسد ولا فداء عامة لا فضل لجنس ولا لطائفة ولا لشخص إلا بالتقوى اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً , ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا وقوله: أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً , أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى , ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى , فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى , أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} . 2 - وضل اليهود فزعموا أنهم الشعب المختار من بين شعوب الأرض وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة هي مدة عبادتهم العجل أربعين يوما. 3 - وضل النصارى فزعموا أيضا أنهم أبناء الله وأحباؤه وذهبوا مذهب الهنود في كرشنة أنه قتل وصلب ليخلص الإنسان ويفديه من الخطيئة فهو المخلص الفادي الذي يخلص الناس من عقوبة الخطايا ويفديهم بنفسه وهو الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي الذي هو عين الأول والثالث وكل منهما عين الآخر كذلك قال الهنود في كرشنة ثم جاء مخرفة النصارى فتابعوهم على هذا الخيال الفاسد الذي تأباه العقول والطباع ولا يتفق وعدل الله وحكمته في الجزاء والمسؤولية ولم يستطع الخابطون في الضلال أن يروجوه في ضحاياهم إلا بترويضهم عليه من عهد الصغر وتنشئتهم على سماعه واعتقاده من غير بحث ولا نظر بل قالوا اعتقد وأنت أعمى. 4 - وضل نساك النصارى فتابعوا الهنود أيضا في احتقار اللذات المادية وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 تربية النفوس على الحرمان وتعذيب الجسد وزادوا الطين بلة فقالوا إن البعث روحاني مجرد عن إعادة الجسم مخدوعين بتلك النظرية الفلسفية الخاطئة وهي احتقار اللذات المادية وذمهم إياها بأنها حيوانية وغاب عنهم أنها لا تكون نقصا إلا إذا سخر الإنسان عقله وقواه لها وأسرف فيها إسرافا يشغله عن اللذات العقلية والروحية القائمة على العلم النافع والعمل الصالح أما إذا اعتدل فيها ووفق بين المطالب الروحية والجسمية فتلك مفخرة للإنسان وميزة لنوع الإنسان بها صار عالما عجيبا جمع بين روحانية الملائكة وجثمانية الحيوان والنبات وقد خلقه الله في الدنيا مظهرا من مظاهر إبداعه واقتداره فكيف ينقص ملكوت الآخرة هذا المظهر العجيب على حين أن الآخرة هي دار العجائب والغرائب فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟! " {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . 5 - وكذلك ضل متطرفة اليهود فعكسوا الأمر وأفرطوا في حب المادة حتى أحلوا لأنفسهم جمعها من أي طريق وبالغوا في استنزاف دماء العالم بالربا وأكل أموال الناس بالباطل وظنوا أن لا جناح عليهم إذا رزؤوا أي عنصر غريب عنهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} . 6 - ولكن القرآن قد جاء يرد هؤلاء وهؤلاء إلى جادة الاعتدال ووقف موقفا وسطا يرجع إليه المغالي وينتهي إليه المقصر فأعلن عقيدته في وضوح على نحو ما ذكرنا وتناول أخطاءهم المذكورة بالإصلاح والتقويم فقال في معرض الرد على أنهم الشعب المختار: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ , وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وقال في هذا المعرض أيضا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وقال أيضا: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً , وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} قال في معرض الرد على فرية أنهم أبناء الله وأحباؤه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وقال في تفنيد ما زعموه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ , بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ , وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال في تكذيب ما زعموا من قتل عيسى وصلبه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً , بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً , وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} . وقال في دحض عقيدة الفداء: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} . وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ونزلت سورة المسد تسجل العذاب على عم من أعمام أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وذكر القرآن ما ذكر في ابن نوح ولم يطب القرآن نفسا بضلالة اعتقد وأنت أعمى بل حث على النظر والتفكر وحاكم العقائد والتعاليم الإسلامية إلى العقول السليمة ونعى على المقلدين تقليدا أعمى والأمر في هذا أظهر من أن تساق له أمثلة. وعالج القرآن شبهة احتقار اللذات المادية بالمعنى الذي أرادوه فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ , وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} وذم الرهبانية ومبتدعيها فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} وعاب على اليهود خيانتهم وظلمهم للشعوب فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ , بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين , إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} {وقالوَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى غير ذلك من آيات كثيرة في هذه المواضيع. والذي نريد أن تفطن له هنا هو أن هداية القرآن كما رأيت هداية تامة عامة صححت معارف الفلاسفة المكبين على البحث والنظر كما صححت معارف الأميين ومن لا ينتمي إلى العلم بسبب وصححت أغلاط أهل الكتاب من يهود ونصارى كما صححت أغلاط مؤلهة الحجر وعبدة الوثن وإذن فليس يصح في الأذهان شيء إذا قيل إن هذه الهدايات القرآنية ليست وحيا من الله وإنما هي نابغة من نفس محمد الأمي الناشئ في الأميين وليس يصح في الأذهان شيء إذا قيل إنه صلى الله عليه وسلم قد استقى هذه الهدايات من بعض أهل الكتاب الذين لقيهم في الجزيرة العربية ولو صح هذا لكانوا هم أولى منه بدعوى الرسالة والنبوة وكيف يصح هذا والقرآن هو الذي علمهم ما جهلوا من حقائق دينهم؟ وهل فاقد الشيء يعطيه؟. وحسبك ما قدمناه لك من تلك الأمثلة التي تتصل بأساس الأديان وصميم العقائد والتي تريك بالمنظار المكبر أن القرآن جالس على كرسي الأستاذية العليا للعالم كله يعلم اليهود والنصارى وغير اليهود والنصارى لا على مقعد التلمذة الدنيا يتلقف من هؤلاء وهؤلاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 فإن لم يكفك ما سمعت فدونك القرآن تصفحه وتجول في آفاقه وناهيك مثل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ومثل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وإن شئت أكثر من هذا فتأمل كيف أعلن الحق في صراحة أن بيانه لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه هو من مقاصده الأولى إذ قال في سورة النحل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} هكذا قدم أنه بيان لما اختلف فيه الكتابيون قبل أن يقول: {وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وكذلك قال في سورة النمل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ , وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ , إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ , فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} . لقد لفت القرآن نفسه أنظار الناس إلى هذه الناحية من الإعجاز وأقام الدليل على أنه كلام الله ولا يمكن أن يكون كلام محمد إذ قال جلت حكمته في سورة العنكبوت: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ , وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ , بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} وإذ قال سبحانه مرة أخرى في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ , صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ويرحم الله البوصيري في قوله: كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم صلى الله عليه وسلم ومجد وعظم وشرف وكرم ورزقنا كمال الإيمان به وكمال اتباعه آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر ومعنى هذا أن القرآن الكريم جاء بهدايات تامة كاملة تفي بحاجات البشر في كل عصر ومصر وفاء لا تظفر به في أي تشريع ولا في أي دين آخر ويتجلى لك هذا إذا استعرضت المقاصد النبيلة التي رمى إليها القرآن في هدايته والتي نعرض عليك من تفاصيلها ما يأتي: أولا: إصلاح العقائد عن طريق إرشاد الخلق إلى حقائق المبدأ والمعاد وما بينهما تحت عنوان الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله واليوم الآخر. ثانيا: إصلاح العبادات عن طريق إرشاد الخلق إلى ما يزكي النفوس ويغذي الأرواح ويقوم الإرادة ويفيد الفرد والمجموع منها. ثالثا: إصلاح الأخلاق عن طريق إرشاد الخلق إلى فضائلهم وتنفيرهم من رذائلها في قصد واعتدال وعند حد وسط لا إفراط فيه ولا تفريط. رابعا: إصلاح الاجتماع عن طريق إرشاد الخلق إلى توحيد صفوفهم ومحو العصبيات وإزالة الفوارق التي تباعد بينهم وذلك بإشعارهم أنهم جنس واحد من نفس واحدة ومن عائلة واحدة أبوهم آدم وأمهم حواء وأنه لا فضل لشعب على شعب ولا لأحد على أحد إلا بالتقوى وأنهم متساوون أمام الله ودينه وتشريعه متكافئون في الأفضلية وفي الحقوق والتبعات من غير استثناءات ولا امتيازات وأن الإسلام عقد إخاء بينهم أقوى من إخاء النسب والعصب وأن لسانهم العام هو لسان هذا الدين ولسان كتابه لغة العرب وأنهم أمة واحدة يؤلف بينها المبدأ ولا تفرقها الحدود الإقليمية ولا الفواصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 السياسية والوضعية {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} . خامسا: إصلاح السياسة أو الحكم الدولي عن طريق تقرير العدل المطلق والمساواة بين الناس ومراعاة الفضائل في الأحكام والمعاملات من الحق والعدل والوفاء بالعهود والرحمة والمواساة والمحبة واجتناب الرذائل من الظلم والغدر ونقض العهود والكذب والخيانة والغش وأكل أموال الناس بالباطل كالرشوة والربا والتجارة بالدين والخرافات. سادسا: الإصلاح المالي عن طريق الدعوة إلى الاقتصاد وحماية المال من التلف والضياع ووجوب إنفاقه في وجوه البر وأداء الحقوق الخاصة والعامة والسعي المشروع. سابعا الإصلاح النسائي عن طريق حماية المرأة واحترامها وإعطائها جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية. ثامنا: الإصلاح الحربي عن طريق تهذيب الحرب ووضعها على قواعد سليمة لخير الإنسانية في مبدئها وغايتها ووجوب التزام الرحمة فيها والوفاء بمعاهداتها وإيثار السلم عليها والاكتفاء بالجزية عند النصر والظفر فيها. تاسعا: محاربة الاسترقاق في المستقبل وتحرير الرقيق الموجود بطرق شتى منها الترغيب العظيم في تحرير الرقاب وجعله كفارة للقتل وللظهار ولإفساد الصيام بطريقة فاحشة ولليمين الحانثة ولإيذاء المملوك باللطم أو الضرب. عاشرا: تحرير العقول والأفكار ومنع الإكراه والاضطهاد والسيطرة الدينية القائمة على الاستبداد والغطرسة {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ , لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} . دليل على هذا الوجه من الإعجاز: والدليل على هذا الوجه من إعجاز القرآن أن غير المسلمين كانوا ولا يزالون حائرين يبحثون عن النور وينقبون عما يفي بحاجتهم في كثير من نواحي حياتهم حتى اضطروا تحت ضغط هذه الحاجة وبعد طول المطاف وقسوة التجارب أن يرجعوا إلى هداية القرآن من حيث يشعرون أو لا يشعرون وإليك شواهد على ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 1 - أمريكا حرمت الخمر أخيرا ولكنها فشلت ولم تنجح لأنها لم توفق إلى الطريقة الحكيمة التي اتبعها الإسلام في تحريم الخمر. 2 - أمريكا أباحت الطلاق وإن كانت قد أسرفت فيه إلى درجة ضارة. 3 - أسبانيا أصدرت حكومتها قانونا بمنع البغاء الرسمي في بلادها وبمنع النساء من البروز على الشواطئ في ثياب الاستحمام. 4 - مصلحو أوروبا يرفعون أصواتهم بضرورة الرجوع إلى مبدأ تعدد الزوجات حتى بعض نسائهم طالبن بهذا. 5 - اليهود يطالبون أيضا بتعدد الزوجات وقد تزعم هذه الحركة يهودي اسمه مورشه ليكفر مان وبرهن على أن ذلك من أحكام الدين اليهودي وطلب إلى اليهود إلغاء قرار الحاخام غرشون الذي تعدى حدود الدين اليهودي بإبطاله الزواج بأكثر من واحدة وأصبح له أتباع كثيرون. 6 - زعيم فرنسا نادى غداة هزيمتها في الحرب القائمة الآن يقول إن سبب انهيار دولتهم هو انغماسهم في الشهوات الجنسية وإسرافهم في المفاسد والمفاتن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 الوجه الخامس: موقف القرآن من العلوم الكونية ومعنى هذا أن القرآن روعيت فيه بالنسبة إلى العلوم الكونية اعتبارات خمسة لا يصدر مثلها عن مخلوق فضلا عن رجل أمي نشأ في الأميين وهو محمد صلى الله عليه وسلم أولها أنه لم يجعل تلك العلوم الكونية من موضوعه وذلك لأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء وفي تفاصيلها من الدقة والخفاء ما يعلو على أفهام العامة ثم إن أمرها بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ذلك هين بإزاء ما يقصده القرآن من إنقاذ الإنسانية العاثرة وهداية الثقلين إلى سعادة الدنيا والآخرة فالقرآن كما أسلفنا في المبحث الأول كتاب هداية وإعجاز وعلى هذا فلا يليق أن نتجاوز به حدود الهداية والإعجاز حتى إذا ذكر فيه شيء من الكونيات فإنما ذلك للهداية ودلالة الخلق على الخالق ولا يقصد القرآن مطلقا من ذكر هذه الكونيات أن يشرح حقيقة علمية في الهيئة والفلك أو الطبيعة والكيمياء ولا أن يحل مسألة حسابية أو معادلة جبرية أو نظرية هندسية ولا أن يزيد في علم الطب بابا ولا في علم التشريح فصلا ولا أن يتحدث عن علم الحيوان أو النبات أو طبقات الأرض إلى غير ذلك. ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون وهم في ذلك مخطئون ومسرفون وإن كانت نيتهم حسنة وشعورهم نبيلا ولكن النية والشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكي الإنسان غير الواقع ويحمل كتاب الله على ما ليس من وظيفته خصوصا بعد أن أعلن الكتاب نفسه هذه الوظيفة وحددها مرات كثيرة منها قوله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ومنها قوله جلت حكمته: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ومما يجب التفطن له أن عظمة القرآن لا تتوقف على أن ننتحل له وظيفة جديدة ولا أن نحمله مهمة ما أنزل الله بها من سلطان فإن وظيفته في هداية العالم أسمى وظيفة في الوجود ومهمته في إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة في الحياة وما العلوم الكونية بإزاء الهدايات القرآنية؟ أليس العالم الآن يشقى بهذه العلوم ويحترب وينتحر؟ ثم أليست العلوم الكونية هي التي ترمي الناس في هذه الأيام بالمنايا وتقذفهم بالحمم وتظهر لهم على أشكال مخيفة مزعجة من مدافع رشاشة ودبابات فتاكة وطائرات أزازة وقنابل مهلكة وغازات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 محرقة ومدمرات في البر والبحر وفي الهواء والماء وما أشبه هذه العلوم للإنسان بعد تجرده من هدى الله ووحي السماء بالأنياب والمخالب للوحوش الضارية والسباع الواغلة في أديم الغبراء!!. ثانيها أن القرآن دعا إلى هذه العلوم ما دعا إليه من البحث والنظر والانتفاع بما في الكون من نعم وعبر قال سبحانه قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وقال جل شأنه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . ثالثها أن القرآن حين عرض لهذه الكونيات أشعرنا أنها مربوبة له تعالى ومقهورة لمراده ونفى عنها ما علق بأذهان كثير من الضالين الذين توهموها آلهة وهي مألوهة وزعموها ذات تأثير وسلطان بينما هي خاضعة لقدرة الله وسلطانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} وكذلك أشعرنا القرآن أنها هالكة: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} . رابعها أن القرآن حين يعرض لآية كونية في معرضة من معارض الهداية يتحدث عنها حديث المحيط بعلوم الكون الخبير بأسرار السموات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية في البر والبحر ولا في النجوم والكواكب ولا في السحاب والماء ولا في الإنسان والحيوان والنبات والجماد وذلك هو الذي بهر بعض المشتغلين بالعلوم الكونية وأوقع من أوقع منهم في الإسراف واعتبار هذه العلوم من علوم القرآن. خامسها أن الأسلوب الذي اختاره القرآن في التعبير عن آيات الله الكونية أسلوب بارع جمع بين البيان والإجمال في سمط واحد بحيث يمر النظم القرآني الكريم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 على سامعيه في كل جيل وقبيل فإذا هو واضح فيما سبق له من دلالة الإنسان وهدايته إلى الله ثم إذا هو مجمل التفاصيل يختلف الخلق في معرفة تفاريعه ودقائقه باختلاف ما لديهم من مواهب ومسائل وعلوم وفنون. ولنضرب لذلك مثلا تلك الآية الحكيمة وهي قوله عز اسمه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإنها مرت على بني الإنسان منذ نزلت إلى الآن ففهموا منها جميعا أن الله تعالى يدل على قدرته وإبداعه وكماله بأنه خلق من الأشياء متنوعات مختلفة الأشكال والخصائص لكنهم اختلفوا بعد ذلك فالأوائل يؤثر عنهم أن الزوجين في الآية الكريمة هما الأمران المتقابلان تقابلا ما لا بخصوص الذكورة والأنوثة روي عن الحسن أنه فسر الزوجين بالليل والنهار والسماء والأرض والشمس والقمر والبر والبحر والحياة والموت وهكذا عدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج الله تعالى فرد لا مثيل له أما المتأخرون ففهموا أن الزوجين في الآية هما الأمران المتقابلان بالذكورة والأنوثة ويقولون إنه ما من شيء في الوجود إلا منه الذكر والأنثى سواء في ذلك الإنسان والحيوان والجماد وغيرها مما لا نعلم ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} ويقولون إن أحدث نظرية في أصول الأكوان تقرر أن أصول جميع الكائنات تتكون من زوجين اثنين وبلسان العلم الحديث إلكترون وبروتون. ولا أحب أن نتوسع في هذا فبين أيدينا أمثلة كثيرة ومؤلفات جمة تموج وتضطرب باستنباط علوم الكون من القرآن أو بتفسير القرآن وشرحه بعلوم الكون وأحداثها فيما أعلم كتاب تحت الطبع الآن ألفه شاب فاضل مثقف وسماه بين القرآن والعلم وضمنه شتيتا من الأبحاث المختلفة في الاجتماع وعلم النفس وعلم الوارثة والزراعة والتغذية وفيما وراء الطبيعة مما لا يتسع المقام لذكره ومما لا نرى حاجة إليه خصوصا بعد أن تبين لنا أن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد وأن أبحاثا كثيرة منها لا تزال قلقة حائرة بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 إثبات ونفي فما قاله علماء الهيئة بالأمس ينقضه علماء الهيئة اليوم وما قرره علماء الطبيعة في الماضي يقرر غيره علماء الطبيعة في الحاضر وما أثبته المؤرخون قديما ينفيه المؤرخون حديثا وما أنكره الماديون وأسرفوا في إنكاره باسم العلم أصبحوا يثبتونه ويسرفون في إثباته باسم العلم أيضا إلى غير ذلك مما زعزع ثقتنا بما يسمونه العلم ومما جعلنا لا نطمئن إلى كل ما قرروه باسم هذا العلم حتى لقد ظهر في عالم المطبوعات كتاب خطير من مصدر علمي محترم عندهم له خطورته وجلالته وشأنه فصدع هذا الكتاب بناء علمهم وزلزل أركانه الثقة به بعد أن نقض بالدليل والبرهان كثيرا من المقررات والمسلمات التي يزعمونها يقينية ثم انتهى بقارئه إلى أن هذا الكون غامض متغلغل في الغموض والخفاء ومن هنا سمى تأليفه الكون الغامض وهذا المؤلف هو السير جيمس جينز. فهل يليق بعد ذلك كله أن نبقى مخدوعين مغرورين بعلمهم الذي اصطلحوا عليه وتحاكموا إليه وقد سجنوه وسجنوا أنفسهم معه في سجن ضيق هو دائرة المادة تلك الدائرة المسجونة هي أيضا في حدود ما تفهم عقولهم وتصل تجاربهم وقد تكون عقولهم خاطئة وتجاربهم فاشلة؟؟! ثم هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية القارة الثابتة المتنزلة من أفق الحق الأعلى الذي يعلم السر وأخفى؟! ألا إن القرآن لا يفر من وجه العلم ولكنه يهفوا إلى العلم ويدعو إليه ويقيم بناءه عليه فأثبتوا العلم أولا ووفروا له الثقة وحققوه ثم اطلبوه في القرآن فإنكم لا شك يومئذ واجدوه وليس من الحكمة ولا الإنصاف في شيء أن نحاكم المعارف العليا إلى المعارف الدنيا ولا أن نحبس القرآن في هذا القفص الضيق الذي انحبست فيه طائفة مخدوعة من البشر بل الواجب أن نتحرر من أغلال هذه المادة المظلمة وأن نطير في سموات القرآن حيث نستشرف المعارف النورانية المطلقة والحقائق الإلهية المشرقة وأن نوجه اهتمامنا دائما إلى استجلاء عظات هذا التنزيل وهداياته الفائقة وألا نقطع برأي في تفاصيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 ما يعرض له القرآن من الكونيات إلا إن كان لنا عليه دليل وبرهان لا شك فيه ولا نكران وإلا وجب أن نتوقف عن هذه التفاصيل ونكل علمها إلى العالم الخبير قائلين ما قالت الملائكة حين أظهر الله لهم على لسان آدم ما لم يكونوا يحتسبون {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . كلمة في الموضوع: والآن يروقني أن أنقل لك مقتطفات قيمة للعلامة المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش في هذا الموضوع لكن بتصرف قليل: 1 - ليست مهمة القرآن كسائر الكتب السماوية البحث في الشؤون الكونية والمسائل العلمية والفنية على النحو المألوف في الكتب الخاصة الموضوعة فيها. 2 - لما جاء القرآن الكريم كان في جزيرة العرب من العقائد الفاسدة والعلم الخاطئ بالكونيات أضعاف ما كان منها لدى بني إسرائيل عندما أخرجهم موسى صلى الله عليه وسلم من مصر فكان من الحكمة الإلهية أن يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في سبيل تصحيح تلك العقائد والمعلومات أضعاف ما تنزل على موسى في سفر التكوين والحكمة البالغة في ذلك أن الدعوة إلى توحيد الخلق وتقرير الحق من العقائد وقبول ما يلي ذلك من الشرائع والأخلاق ما كانت لتجد سبيلها إلى قلوب عرفت للأجرام العلوية في ألوهيتها وتزاوجها وما كان من أثرها في تكوين هذه الكائنات ونظامها ما قررته العقلية القديمة في بلاد مصر والإغريق وما يثبته في جزيرة العرب وما حولها أساطير الأشوريين والبابليين والكلدانيين إذن كان لزاما أن يسترعي القرآن انتباه الناس إلى وجه الخطأ في عقائدهم وأن يشككهم في الباطل الذي اتبعوه لأنهم وجدوا عليه آباءهم وأن يطلقهم بذلك من الحجر الذي أشقاهم وألحقهم بالأنعام من الحيوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 3 - كانت إذن مهمة القرآن الحكيم التي أرادها لتمهيد السبيل إلى التعريف بالخالق جل شأنه أن يعين العقول بضرب الأمثال لم تفكر؟ وفيم تفكر؟ وكيف تفكر؟ فهو في جهاده هذا كان يخطط أرض العلم لتقيم العقول البشرية عليها صروحه الشامخة المتينة ويرسم الخطوط الأساسية للصور كي يملأها الرسام بما يلزم لها من الألوان والظلال ومعالم الجمال. 4 - لم يقف القرآن الكريم عند هذا الحد فيما ضرب لنا من الأمثال في بيان بعض غوامض الحقائق الكونية بل جاء في ذلك بحقائق أمر الأميين وغير المحصلين بالتسليم بها والتفويض فيها كما أمر العقول الناضجة المقتدرة بطلابها والوقوف على دقائقها والعلم بوجوه الصواب فيها ثم نصح الفريقين أن يعترفا بعجز عقولهم وألا يقطعا بشيء فيما لا تبلغه أبحاثهم وسعيهم بل يتهمون أنفسهم بالعجز والقصور ويسألون أهل الذكر فيما لا يعلمون أو يكلون أمر لا يدركون إلى من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. 5 - أن المسيحين حينما ثاروا في وجه العلم ونظام الحكم ثوراتهم التجديدية في أوروبة لم يكونوا ليشبهوا في شيء من مواقفهم تلك أحدا من الشعوب الإسلامية فإنما كان مبعث حركتهم العنيفة ومصدر ثورتهم الدموية أن رجال الكنيسة باسم الدين حجروا على العقول والوجدان وقرروا للكنيسة فلسفة حرموا على الناس حتى استيضاح ما غمض عليهم منها ثم قرروا تكفير من يقول بغيرها ولو اعتمد في رأيه على الحس والمعاينة حتى لقد كان منهم ميلانشتون وكيرمونيني اللذان رفضا أن ينظرا إلى السماء بالآلة المقربة تلسكوب وقد روي عن غاليلو أن من تلاميذ المذهب الارسطاطالي من كانوا ينكرون وجود أجسام علوية مرئية بالفعل وأنهم كانوا يعتبرون فلسفة أرسطو كتلة واحدة لا تقبل التفكيك إذا نقض منها حجر انهار سائر بنيانها على أثره فكان ذلك سبب مغالاتهم في التمسك بها والحرص عليها مجتمعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 ثم قال في تعدد الأرضين: لم يذكر القدماء شيئا في أمر تعدد الأرضين سوى ما نقله ابن سينا عن قدماء حكماء الفرس من أن هنالك أراضي كثرة غير أرضنا وما زال الرأي السائد بين سائر الحكماء والفلاسفة يقول بعدم تعددها حتى جاء غاليلو المتوفى سنة 1642 بمناظيره المكبرة والمقربة وكذلك من جاؤوا بعده فأثبتوا بمشاهداتهم العينية الصادقة أن السيارات جميعها أراض كأرضنا وقد يكون بها ما بأرضنا من الجبال والوهاد والماء والهواء والخلائق والعمران ولم يعتمدوا في هذا التجويز إلا على الحدس والظن فإن مناظيرهم لم تثبت لهم ذلك بعد. أما القرآن فقد صرح بتعدد الأرضين في آية {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ففي تفسير أبي السعود من مفسري القرن التاسع للهجرة أن الجمهور على أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض وفي تفسير النيسابوري أنها سبع أرضين ما بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة1 عام وفي كل أرض منها خلق إلى أن قال وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويشهدون الضياء منها ومن أصرح الآيات في أن السيارات أرض مأهولة آية الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} إذ المراد بالسموات هنا السيارات على ما يأتي لنا من التأويل ومن الآيات   1 مسألة تقدير المسافات التي مثلا بمسيرة خمسمائة عام يفسرها الشهر ستاني بالدابة تسير فرسخا إسلاميا في كل ساعة على ما هو المعروف وومصطلح عليه في سائر المكتب الإسلامية، مما يبلغ مجموعة نحو 16 ميلا تقريبا وهو قريب جدا من تقديرات المتأخرين للمسافات الفاصلة بين سيارات كما يقول ذلك الأستاذ الشرستاني في كتابه المسمى "الهيئة والإسلام" ص 90 ج أول. "ومما يجدر ذكره أن الشرستاني هذا ليس هو صاحب الملل والنحل بل هو أحد مجتهدي الشيعة المعاصرين لنا. واسمه هبة الله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 البينة في هذا الموضوع قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} : ومن قصرت عقولهم استبعدوا وجود الحيوان في الأجرام السماوية ولكن نفى الزمخشري والبيضاوي وغيرها استبعاد أن يخلق الله فيها صنوفا من الحيوان يمشون فيها مشي الإنسان على الأرض فالله خلق كما قالوا ما نعلم وما لا نعلم اهـ ما أردنا نقله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 الوجه السادس: سياسته في الإصلاح ومعنى هذا أن القرآن انتهج طريقا عجيبا في إصلاحه وسلك سياسة حكيمة وصل بها من مكان قريب إلى ما أراد من هداية الخلق فتذرع بجميع الوسائل المؤدية إلى نجاح هذا الإصلاح الوافي بكل ما يحتاج إليه البشر مما يدل بوضوح على أن القرآن في سياسته هذه لا يمكن أن يصدر عن نفس محمد ولا غير محمد. وبيان ذلك من وجوه: أولها مجيء هذا الكتاب منجما ومخالفته بذلك سائر كتب الله الإلهية بعدا بالناس عن الطفرة وتيسيرا لتلقيهم إياه وقبولهم ما جاء به على نحو ما بينا في أسرار التنجيم بالمبحث الثالث من هذا الكتاب. ثانيها مجيء هذا الكتاب بذلك الأسلوب الشائق الرائع الحبيب إلى نفوسهم ليكون لهم من هذا الأسلوب دافع إلى الإقبال عليه والاستئناس بما جاء من تعاليمه وإن كانت مخالفة لما مردوا عليه من قبل. ثالثها مجيء هذا الكتاب على غير المعهود في تأليف القوانين والعلوم والفنون والآداب من بناء تقسيمها وتبويبها على الموضوعات بحيث يختص كل باب من الكتاب بموضوع معين ويختص كل فصل من فصول هذا الباب بمسألة أو مسائل وهكذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 فأنت تجد في الغالب كل سورة من سور القرآن جامعة لمزيج من مقاصد وموضوعات يشعر الناظر فيها بمتعة ولذة كما تنقل بين هذه المقاصد في السورة الواحدة كما يشعر الآكل باللذة والمتعة كلما وجد ألوانا شتى من الأطعمة على المائدة الواحدة وإذن ففي هذا النمط الذي اختاره القرآن فائدتان دفع السأم والملل عن الناظر في هذا الكتاب وانقياد النفوس إلى هدايته بلباقة من حيث لا تحس بغضاضة يضاف إلى هذا ما نلمحه من الوحدة الفنية في السورة أو القطعة الواحدة ومن وفاء القرآن بجميع الاصطلاحات البشرية على رغم هذا الانتشار القاضي في العادة بعدم الانسجام وبفوات شيء أو أشياء من مقاصد التأليف وأغراض المؤلفين حتى ليبدو ذلك وجها جديدا من وجوه الإعجاز يؤمن به عن خبرة وإحساس كل من ابتلى بتأليف أو مزاولة آثار المؤلفين!. رابعها تكرار ما يستحق التكرار من الأمور المهمة حتى يجد سبيله إلى النفوس النافرة والطباع العصية فتسلس له القيادة وتلقى إليه السلم مثال ذلك تقرير القرآن لعقيدة التوحيد واستئصاله لشأفة الشرك بوساطة الحديث عنهما مرارا وتكرارا تارة يصرح وأخرى يلوح وتارة يوجز وأخرى يطنب وتارة يذكر العقيدة مرسلة وأخرى يذكرها مدللة وتارة يشفعها بدليل واحد وأخرى بجملة أدلة وتارة يضرب لها الأمثال وأخرى يسوق فيها القصص وتارة يقرنها بالوعد وأخرى بالوعيد وهلم. خامسها مخاطبة العقول والأفكار ودعوته إلى إعمال النظر وطلب الدليل والبرهان ونعيه على من أهملوا العقول واستمرؤوا التقليد الأعمى وركنوا إلى الجمود اقرأ قوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 وهكذا كثيرا ما نسمع في القرآن أمثال قوله سبحانه: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ , وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ , وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ , وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى غير ذلك مما يرفع كرامة الإنسان ويحاكم أهم الأمور حتى العقيدة في الله تعالى إلى العقول ليصل المرء من وراء ذلك إلى اقتناع الضمير واطمئنان القلب وبرد اليقين وحرارة الإيمان!. سادسها استغلاله الغرائز النفسية استغلالا صالحا بعد أن يهذبها بالدليل ويصقلها بالبرهان هذه غريزة التقليد والمحاكاة في الإنسان مثلا قد نأى بها القرآن عن احتذاء الأمثلة السيئة من الجهلة والفسقة وذهب بها إلى مقام أمين من وجوب اتباع الأمثلة الطيبة والتأسي بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . وهذه غريزة حب البقاء والعلو في الإنسان قد نأى بها القرآن أيضا عن الظلم والبغي وذهب بها إلى حيث الدفاع عن النفس والعرض والدين والوطن وقاد بهم عباد الله إلى الحق والخير إذا وعدهم حياة ثانية في الخلود والبقاء وفيها الملك الواسع والاستعلاء العادل {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} . وهكذا دخل القرآن على الناس من هذا الباب فقادهم من غرائزهم حتى ناط أوامره بمصالحهم ونواهيه بمفاسدهم وجعل ذلك قاعدة عامة قال فيها {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . وأن أردت تفصيلا وتمثيلا فانظر إلى تلك المقارنة الرائعة بين المؤمن والمشرك إذ يقول سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فأنت ترى في هذه الآية الكريمة أن المشرك مع معبوديه مثله مثل عبد اشترك فيه شركاء متنازعون مختلفون كل واحد منهم يدعي أيهم عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في أعمال شتى وهو متحير متعب مجهود لا يدري أيهم يرضى بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته؟ ولا يدري ممن يطلب رزقه وممن يلتمس رفقه فهمه شعاع وقلبه أوزاع أما المؤمن فمثله مثل عبد له سيد واحد فهمه وقلبه مجتمع وضميره مستريح وعمله مريح {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} !. وإن أردت مثالا ثانيا فاستمع إلى القرآن وهو يقول في فريضة الصلاة: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} وقوله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . وإن أردت أمثلة أخرى فاقرأ قول سبحانه في فرض الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وفي فرض الصيام كتب عليكم الصيام: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وفي فرض الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} إلخ وفي عموم الإيمان والعمل الصالح: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . سابعها ترتيبه الأوامر والنواهي ترتيبا يسع جميع الناس على تفاوت استعدادهم ومواهبهم فالأوامر الدينية درجات هذا إيمان وهذا إسلام وهذا ركن وهذا فرض وهذا واجب وهذا مندوب مؤكد وهذا مندوب غير مؤكد والمناهي كذلك درجات هذا نفاق وهذا شرك وهذا كفر وهذه كبيرة وهذه صغيرة وهذا مكروه تحريما وهذا مكروه تنزيها وما وراء هذه الأوامر والنواهي فمباحات لكل أن يأخذ وأن يدع منها ما شاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ولا ريب أن وضع التشريع على هذا الوجه فيه متسع للجميع وفيه إغراء للنفوس الضعيفة أن تتشرف باعتناق الإسلام ولو في أدنى درجة من درجاته حتى إذا أنست به وذاقت حلاوته تدرجت في مدارج الرقي فمن إيمان إلى إسلام إلى أداء ركن إلى أداء فرض إلى أداء واجب إلى أداء مندوب غير مؤكد ومن ترك نفاق إلى ترك شرك وكفر إلى ترك كبيرة إلى ترك صغيرة إلى ترك مكروه تحريما إلى ترك مكروه تنزيها إلى ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ومن مجرد أداء للنوافل إلى زيادة فيها وإكثار منها حتى يصل العبد إلى ذلك المقام الذي جاء فيه عن الله تعالى: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه" رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه. على ضوء هذه السياسة الشرعية الحكيمة التي نزل بها القرآن كان صلى الله عليه وسلم يتدرج بالأقوام رويدا رويدا كما كان يتساهل معهم تأليفا لقلوبهم واستمالة لهم إلى اعتناق الدين على أي وجه ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم انه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين لا خمسا فقبل منه وجاء في رواية أخرى على ألا يصلي إلا صلاة فقبل وعن وهب قال سألت جابر عن شأن ثقيف إذ بايعت فقال اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك سيتصدقون ويجاهدون رواه أبو داود وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أسلم" قال أجدني كارها قال: "أسلم وإن كنت كارها" رواه أحمد قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد أن سرد هذه الأحاديث فيها دليل على أنه يجوز مبايعة الكافر وقبول الإسلام منه وإن شرط شرطا باطلا. والمراقب لنزول القرن وسير التشريع الإسلامي يرى من مظاهر هذه السياسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 البارعة المعجزة شيئا كثيرا وحسبك ان يبتدئ الأمر بتقرير عقيدة التوحيد وألا تفرض الصلوات الخمس إلا بعد عشر سنوات تقريبا من البعثة ثم سائر العبادات بعضها تلو بعض أما المعاملات فلم يستبحر الأمر فيها إلا بعد الهجرة وقل مثل ذلك في المنهيات ولعلك لم تنس التدرج الإلهي الحكيم في تحريم الخمر. ثامنها مجيء القرآن بمطالب الروح والجسد جميعا بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر وفي ذلك آيات كثيرة تقدم التنويه بها في مناسبات أخرى ومن أجلها كان المسلمون أمة وسطا بين من تغلب عليهم المادية والحظوظ الجسدية كاليهود ومن تغلب عليهم النواحي الروحية وتعذيب الجسد وإذلال النفس كالهندوس والنصارى في تعاليمهم وإن خالفتها الكثرة الغامرة منهم. تاسعها مجيء القرآن بمطالب الدنيا والآخرة جميعا عن طريق التزام تعاليمه وهداياته التي أجملنا مقاصدها فيما سبق لا عن طريق الاعتقادات الخاطئة والأماني الكاذبة والتواكل وترك العمل والآيات في هذا المعنى أظهر من أن تذكر. عاشرها مجيء القرآن بالتيسير ورفع الحرج عن الناس: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} وهذا باب واسع وضع منه علماؤنا قواعد عامة كقولهم المشقة تجلب التيسير والضرورات تبيح المحظورات ثم فرعوا عليها فروعا وسعت ولا تزال تسع الناس أجمعين والحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 الوجه السابع: أنباء الغيب فيه ومعنى هذا أن القرآن قد اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد صلى الله عليه وسلم بها ولا سبيل لمثله أن يعلمها مما يدل دلالة بينة على أن هذا القرآن المشتمل على تلك الغيوب لا يعقل أن يكون نابعا من نفس محمد ولا غير محمد من الخلق بل هو كلام علام الغيوب وقيوم الوجود الذي يملك زمام العالم {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . من ذلك قصص عن الماضي البعيد المتغلغل في أحشاء القدم وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلا عن التحدث به وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء وسر الإعجاز في ذلك كله أنه وقع كما حدث وما تخلف وجاء على النحو الذي أخبر به في إجمال ما أجمل وتفصيل ما فصل وأنه إن اخبر عن غيب الماضي صدقه ما شهد به التاريخ وإن أخبر عن غيب الحاضر صدقه ما جاء به الأنبياء وما يجد في العالم من تجارب وعلوم وإن أخبر عن غيب المستقبل صدقه ما تلده الليالي وما تجيء به الأيام. غيب الماضي: أما غيوب الماضي في القرآن فكثيرة تتمثل في تلك القصص الرائعة التي يفيض بها التنزيل ولم يكن لعلم محمد بها من سبيل. منها قصة نوح التي قال الله فيها: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} . ومنها قصة موسى التي يقول الله فيها: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ َلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . ومنها قصة مريم وفيها يقول الله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} . غيب الحاضر: أما غيب الحاضر فنزيد به ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن والجنة والنار ونحو ذلك مما لم يكن للرسول سبيل إلى رؤيته ولا العلم به فضلا عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح الذي أيده ما جاء به الأنبياء وكتبهم عليهم الصلاة والسلام وأمثلة هذا الضرب كثيرة في القرآن لا تحتاج إلى عرض ولا بيان. ومنه أيضا ما فضح الله به المنافقين في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان قائما بهم وخفي أمره عليه كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وكقوله في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . وسورة التوبة فيها من هذا الضرب شيء كثير. ومن غيب الحاضر أو الماضي ما جاء في طي القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلا العلم الحديث وسيأتي التمثيل له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 غيب المستقبل: وأما غيب المستقبل فنمثل له بأمثلة عشرة: المثال الأول إخبار القرآن عن الروم بأنهم سينتصرون في بضع سنين من إعلان هذا النبأ الذي يقول الله فيه: {غُلِبَتِ الرُّومُ ,فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ , فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ , وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . وبيان ذلك أن دولة الرومان وهي مسيحية كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس وهي وثنية في حروب طاحنة بينهما سنة 614م فاغتم المسلمون بسبب أنها هزيمة لدولة متدينة أمام دولة وثنية وفرح المشركون وقالوا للمسلمين في شماتة العدو إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب وقد غلبهم المجوس وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل عليكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم فنزلت الآيات الكريمة يبشر الله فيها المسلمين بأن هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار في بضع سنين أي في مدة تتراوح بين ثلاثة سنوات وتسع ولم يك مظنونا وقت هذه البشارة أن الروم تنتصر على الفرس في مثل هذه المدة الوجيزة بل كانت المقدمات والأسباب تأبى ذلك عليها لأن الحروب الطاحنة أنهكتها حتى غزيت في عقر دارها كما يدل عليه النص الكريم {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} ولأن دولة الفرس كانت قوية منيعة وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة حتى إنه بسبب استحالة أن ينتصر الروم عادة أو تقوم لهم قائمة راهن بعض المشركين أبا بكر على تحقق هذه النبوءة ولكن الله تعالى أنجز وعده وتحققت نبوءة القرآن سنة 622 م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة المحمدية. ومما هو جدير بالذكر أن هذه الآية نفسها حملت نبوءة أخرى وهي البشارة بأن المسلمين سيفرحون بنصر عزيز في هذه الوقت الذي ينتصر فيه الروم {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 بِنَصْرِ اللَّهِ} ولقد صدق الله وعده في هذه كما صدقه في تلك وكان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعا في الظرف الذي صدر فيه الرومان وهكذا تحققت النبوءتان في وقت واحد مع تقطع الأسباب في انتصار الروم كما علمت ومع تقطع الأسباب أيضا في انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة لأنهم كانوا أيامئذ في مكة في صدر الإسلام والمسلمون في قلة وذلة يضطهدهم المشركون ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ولكن على رغم هذا الاستبعاد أو هذه الاستحالة العادية نزلت الآيات كما ترى تؤكد البشارتين وتسوقهما في موكب من التأكيدات البالغة التي تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات وإن كنت في شك فأعد على سمعك هذه الكلمات: ِ {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ , وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . ثم ألست ترى معي أن هذه العبارة الكريمة في بضع سنين قد حاطت هاتين النبوءتين بسياج من الدقة والحكمة لا يترك شبهة لمشتبه ولا فرصة لمعاند لأن البضع كما علمت من ثلاثة إلى تسع والناس يختلفون في حساب الأشهر والسنين فمنهم من يؤقت بالشمس ومنهم من يؤقت بالقمر ثم إن منهم من يجبر الكسر ويكمله إذا عد وحسب ومنهم من يلغيه يضاف إلى ذلك أن زمن الانتصار قد يطول حبله فتبتدئ بشائره في عام ولا تنتهي مواقعه الفاصلة إلا بعد عام أو أكثر ونظر الحاسبين يختلف تبعا لذلك في تعيين وقت الانتصار فمنهم من يضيفه إلى وقت تلك البشائر ومنهم من يضيفه إلى يوم الفصل ومنهم من يضيفه إلى ما بينهما لذلك كله جاء التعبير بقوله جلت حكمته: {سَيَغْلِبُونَ , فِي بِضْعِ سِنِينَ} من الدقة البيانية والاحتراس البارع بحيث لا يدع مجالا لطاعن ولا حاسب وظهر أمر الله وصدق وعده على كل اعتبار من الاعتبارات وفي كل اصطلاح من الاصطلاحات {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} .! المثال الثاني إنباء القرآن بأن الله عاصم رسوله وحافظه من الناس لا يصلون إليه بقتل ولا يتمكنون من اغتيال حياته الشريفة بحال وذلك في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ولقد تحققت نبوءة القرآن هذه ولم يتمكن أحد من أعداء الإسلام أن يقتله عليه الصلاة والسلام مع كثرة عددهم ووفرة استعدادهم ومع أنهم كانوا يتربصون به الدوائر ويتحينون الفرص للإيقاع به والقضاء عليه وعلى دعوته وهو أضعف منهم استعدادا وأقل جنودا فمن الذي يملك هذا الوعد وتنفيذه إذن إلا الله الذي يغلب ولا يغلب والذي لا يقف شيء في سبيل تنفيذ مراده {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وإن لم تصدقني فسل التاريخ والمؤرخين كم من الملوك والأمراء والفراعين ضرجت الأرض بدمائهم وهم بين جنودهم وخدمهم وحشمهم!؟ فهل يمكن بعد هذا أن يكون القرآن الذي احتوى ذلك الضمان من كلام محمد وهو من قد علمت ضعفه وقوة أعدائه يومئذ؟ حتى لقد كان يتخذ الحراس قبل نزول هذه الآية فلما نزلت إذا ثقته واعتداده بها أعظم من ثقته واعتداده بمن كانوا يحرسونه وسرعان ما صرف حراسه وسرحهم عند نزول الآية قائلا: "أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله" كما رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري وكذلك روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه وقال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أتخافني؟ قال: "لا", قال: من يمنعك مني؟ قال: "الله يمنعني منك ضع السيف" فوضعه ومما يجدر التنبيه له أن هذا الأمن كان في الغزوة التي شرعت فيها صلاة الخوف! ومن شواهد حماية الله لرسوله وإنجازه له هذا الوعد ما ورد عن علي رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس وحمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه. ومن أبلغ الشواهد على ذلك أيضا ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم في يوم حنين حين أعجبت المسلمين كثرتهم وأدبهم الله بالهزيمة حتى ولوا مدبرين أنزل سبحانه سكينته على رسوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 حتى لقد جعل يركض بغلته إلى جهة العدو والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع فأقبل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما غشوه لم يفر ولم ينكص بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه وجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه فوالله ما نالوا منه نيلا بل أيده الله بجنده وكيف أيديهم عنه بيده رواه الشيخان. المثال الثالث ما جاء في معرض التحدي بالقرآن من قوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فإن ما تراه في هاتين الآيتين من القطع بانتفاء قدرة المخاطبين وجميع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن قد تناول أطواء المستقبل والمستقبل غيب لا يملكه محمد ولا مخلوق غيره ومع ذلك فقد تحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة حيث انقرضت طبقة المخاطبين به دون أن يستطيعوا معارضة أقصر سورة منه ومضت بعدهم أجيال وأجيال من عرب وأعجام وكلهم قد باؤوا بالعجز ولم يستطيعوا المعارضة إلى اليوم مع وجود أعداء للإسلام في هذه العصور المتأخرة أكثر وأقدر وأحرص على هدم بناء هذا الدين من أولئك الأعداء الأولين. لاحظ مع هذا ما يثيره مثل هذا التحدي الطويل العريض الجريء من الحمية الأدبية التي تبعث روح المنافسة على أشدها في نفوس من يتحداهم ثم لاحظ أن المتأخرين من الناقدين لا يعيبهم في العادة أن يستدركوا على السابقين إما نقصا يعالجونه بالكمال أو كمالا يعالجونه بما هو أكمل منه وإذا فرضنا أن واحدا قد عجز عن هذا فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز أمة وإذا عجز أمة فمن البعيد أن يعجز جيل وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدي عن رجل يعرف ما يقول فضلا عن رجل عظيم فضلا عن رسول كريم فضلا عن محمد أفضل المرسلين وهل يمكن أن يفسر هذا التحدي الجريئ الطويل العريض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 إلا بأنه استمداد من وحي السماء واستناد إلى من يملك السمع والأبصار وحديث عمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه؟! المثال السابع ما جاء من التنبؤ بمستقبل الإسلام ونجاحه نجاحا باهرا فقد أخبر القرآن والمسلمون في مكة قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس بأن الإسلام سيظهر ويبقى وأن كتابه سيكتب له الحفظ والخلود منفردا بهذه الميزة عن سائر كتب الله اقرأ إن شئت قوله تعالى في سورة الرعد: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وفي سورة إبراهيم: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ , ُتؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وفي سورة الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . أجل في هذه السور الثلاث المكية قطع القرآن هذه العهود المؤكدة بتلك اللغة الواثقة والإسلام يومئذ في مكة مدفوع مضطهد والمسلمون قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس وليس هناك من بواسم الآمال ما يلقي ضوءا على نجاح هذا الدين الوليد ولئن التمست هذه الآمال في نفس الداعي من طبيعة دعوته فما كانت لتصل إلى هذا الحد من اليقين والتأكيد ولئن وصلت إلى هذا الحد ما دام صاحبها حيا يتعهدها بنفسه ويغذيها بنشاطه فليس لديه من العوامل ما يجعله يثق بهذا النجاح بعد موته مع ما هو معروف بأن المستقبل مليء بتشتيت المفاجآت والليالي من الزمان حبالى مثقلات والتاريخ لا يزال يقص علينا وعلى الناس نبأ من قتل من الأنبياء وما ضاع أو حرف من كتب الله ووحي السماء وما حبط من دعوات الحق ونهض من دعوات الباطل كل ذلك فقد كان ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في يوم من الأيام بالرجل الأخرق الذي يسير مع الأوهام أو يطير مع الخيال أو يطلب المجد عن طريق الأحلام المكذوبة والآمال المعسولة بل كان معروفا منذ نشأته بتواضعه ورجاحة عقله واتزانه ودقته حتى لقد كان يثبت في كلامه ويتحرى إلى أن لقب واشتهر بأنه صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين وجاء القرآن نفسه يشهد بأنه كان قبل نبوته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 لا يطمع في نبوة ولا يأمل وفي {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وكذلك لم يكن بعد نبوته بالذي يضمن بقاء هذا الوحي {وحفظه وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً , إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} . فلا مناص إذن من أن تكون تلك البشارات المؤكدة والعهود الموثقة صادرة من أفق غير أفقه آتية من مالك قاهر لا راد لحكمة معبرة عن مراد من يملك العالم ويحكمه في ماضيه وحاضره ومستقبله! ومما يؤيد صدق هذه التنبؤات أن الإسلام لقي من ضروب النعت مرارا وتكرارا في أزمان متطاولة وعهود مختلفة ما كان بعضه كافيا في محوه وزواله ولكنه على رغم أنف هذه الأعاصير العاتية بقي ثابتا يسامي الجبال شامخا يطاول السماء وكذلك لقي كتابه العزيز ولا يزال يلقى من الهمز واللمز والطعن والسباب والمحاولات القاتلة ما لا يتصوره إنسان في أي زمان وما لم يلق كتاب قبله من الكيد والتضليل والبهتان ومع ذلك كله فالقرآن هو القرآن لا يزال جالسا على عرشه في سمائه يمد العالم كله بحرارته وضيائه ولم تنل منه هذه المحاولات إلا كما ينال نباح الكلاب من عاليات السحاب. المثال الخامس تنبؤ القرآن بأن المستقبل السعيد يتنظر المسلمين في وقت لم تكن عوامل هذا المستقبل السعيد مواتية ثم إذا تأويل هذا النبأ يأتي على نحو ما أخبر القرآن في أقصر ما يكون من الزمان أجل إننا لنقرأ في سورة الصافات المكية: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وفي سورة غافر المكية أيضا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وكذلك نقرأ في سورة النور المدنية {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} على حين أن سجلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد والأذى الذي أصاب الرسول وأتباعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 في مكة والمدينة على عهد نزول هذه الوعود المؤكدة الكريمة حتى لقد كان أكبر أماني المسلمين بعد هجرتهم وتنفسهم الصعداء قليلا أن يسلم لهم دينهم ويعيشوا آمنين في مهاجرهم كما يدل على ذلك ما صححه الحاكم عن أبي بن كعب قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت الآية وكذلك روى ابن أبي حاتم عن البراء قال نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد أي قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ هكذا كان حال الصحابة أيام أن وعدهم الله ما وعد وما أعجل تحقق هذا الوعد الإلهي رغم هذه الحال المنافية في العادة لما وعد فدالت الدولة لهم واستخلفهم في أقطار الأرض وأورثهم ملك كسرى وقيصر ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا يا لها نبوءة تأبى عادة أن يتحدث بها إلا من يملك تحقيقها ومن يخرق إن شاء عادات الكون ونواميسه من أجلها. {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . المثال السادس تنبؤ القرآن بأن الرسول وأصحابه وقد كانوا بالمدينة سيدخلون مكة آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين إذ قال سبحانه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} ثم وقع هذا التنبؤ كما أخبر مع أن ظروفه لم تكن تسمح به في مجرى العادة فدل ذلك على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون كلام محمد ولا مخلوق سواه بل هو كلام القادر على أن يبلغ مراده ويخرق العادة. ولزيادة البيان نذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في نومه كأنه هو وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين فقص رؤياه على أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها من عامهم ثم خرجوا محرمين يسوقون الهدي إلى مكة لا يقصدون حربا وإنما يقصدون عمرة ونسكا ولكنهم ما كادوا يبلغون الحديبية حتى صدتهم قريش وأبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 عليهم ما أرادوا وكادت تكون حرب لولا أن الرسول رضي بصلح بينه وبينهم وإن كان قاسيا إيثارا منه للمسألة وحبا للسلام العام ثم قفل راجعا على أن يؤدي نسكه في العام القابل نزولا على مواد هذا الصلح القاسي وعز ذلك على أصحابه واتخذ المنافقون منه حطبا لنفاقهم ومادة لدسهم ولمزهم فقال عبد الله بن أبي رأسهم والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ولكن على رغم هذا وعلى رغم ما هو معروف من غدر قريش ونكثهم العهود وتقطيعهم الأرحام نزلت الآية الكريمة تحمل هذا الوعد بل تلك الوعود الثلاثة المؤكدة وهي دخول مكة وأداء النسك والأمن على أنفسهم من قريش حتى يتحللوا ويقفلوا راجعين إلى المدينة وقد أنجز الله وعده فتم الأمر على أكمله في العام الذي بعد عام الحديبية {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} !. المثال السابع تنبؤ القرآن بهزيمة جموع الأعداء في وقت لا مجال فيه لفكرة الحرب فضلا عن التقاء الجمعين وانتصار المسلمين وانهزام المشركين وذلك قوله سبحانه في سورة القمر المكية: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وأنت خبير بأن الجهاد لم يشرع إلا في السنة الثانية للهجرة فأين ما يتنبأ به القرآن إذن إنه لا بد أن يكون كلاما تنزل ممن يعلم الغيب في السموات والأرض أما محمد الرجل الأمي فأنى له ذلك إن لم يكن تلقاه من لدن حكيم عليم روى ابن أبي حاتم وابن مردويه أن عمر رضي الله عنه جعل يقول حين نزلت هذه الآية أي جمع هذا فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها. المثال الثامن تنبؤ القرآن في مكة بهذا المستقبل الأسود الذي ينتظر كفار قريش ثم وقوع ذلك كما تنبأ اقرأ قوله سبحانه: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ , يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ , رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ , أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ , ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ , إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ , يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ , وسبب نزول هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 الآيات أن أهل مكة لما تمردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعصوا دعا عليهم بسنين كسني يوسف أي بالجوع والقحط الشديدين عسى أن يتوبوا ويؤمنوا بالله ورسوله فأجابه الله بهذه الآيات وفيها عند التأمل خمسة تنبؤات: أولها الإخبار بما يغشاهم من القحط وشدة الجوع حتى ينظر الرجل إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان. ثانيها الإخبار بأنهم سيضرعون إلى الله حين تحل بهم هذه الأزمة هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. ثالثها الإخبار بأن الله سيكشف عنهم ذلك العذاب قليلا. رابعها الإخبار بأنهم سيعودون إلى كفرهم وعتوهم. خامسها الإخبار بأن الله سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى وهو يوم بدر. ولقد حقق الله ذلك كله ما انخرم منه ولا نبوءة واحدة فأصيبوا بالقحط حتى أكلوا العظام وجعل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من شدة جوعه وجهده ثم قالوا متضرعين ذلك الذي حكاه الله عنهم: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ , رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ثم كشف الله عنهم هذا العذاب قليلا ثم عادوا إلى كفرهم وعتوهم ثم انتقم الله منهم يوم بدر فبطش بهم البطشة الكبرى حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون وأديل للمسلمين منهم!. أرأيت ذلك كله؟ وهل يمكن أن يصدر مثله من مخلوق؟ كلا بل هو الله العزيز الحكيم. المثال التاسع تنبؤ القرآن بهذا المستقبل المظلم الأسود المضروب على اليهود بوجه مؤكد مؤبد ثم تحقق هذا النبأ كاملا عاما يتناول القرون والأجيال من عهد نزول القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 لم ينخرم مرة من المرات في يوم واحد من الأيام اقرأ ما نزل في شأنهم من قوله سبحانه في سورة آل عمران: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} ثم انظر كم تنبؤا في هذا النظم الكريم وضعه الله كأنه الأغلال في عنق هذا الشعب الماكر اللئيم ألست ترى فيه أنهم لا يستطيعون أن ينالوا من المسلمين بالحرب والقتل والأسر؟ إنما ضررهم أذى بالغدر وبسوء الاستغلال والمكر وعلى فرض أنهم يقاتلونهم المسلمين فسيلوذون حينئذ بالفرار ويولون الأدبار ولا سبيل لهم في المستقبل إلى الانتصار ثم إن الذلة قد ضربت عليهم كما ضرب الحجر على السفهاء لا يستطيعون الفكاك إلا أن دخلوا في عهد من الله أو عهد من الناس ثم إن المسكنة وهي خوف الفقر قد ضربت عليهم كذلك فهم أشد الشعوب خوفا من الفقر ولذلك كانوا أشدها طمعا وشرها في جمع الدنيا لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال إلى أم رؤوسهم ولا يتورعون عن الجري وراء الدنايا بأحط الوسائل وإن كانوا يملكون الآن ما يقرب من نصف ثروة العالم!. ثم اقرأ في شأن هذه الطائفة قول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وخبرني ألست تقرأ في هذا النص الكريم صكا مسجلا بعبودية هؤلاء وذلتهم إلى الأبد ثم ألست ترى أن تداول القرون والأحقاب من لدن نزول القرآن إلى اليوم لم يزد هذا التنبؤ إلا تصديقا وتحقيقا ما خرمه مرة وإنما أشبعه إعجازا وتأييدا؟ إن كنت في شك فسل التاريخ قديمه وحديثه أو فاستمع إلى صوت المآسي الماثلة القريبة ثم قل صدق الله ما القرآن إلا كلامه وما محمد إلا عبده ورسوله!. وإليك مثالا آخر في شأن هؤلاء أبدع في الإعجاز وأروع. المثال العاشر تحدي القرآن لأعداء الله اليهود في شيء يظهر أنه سهل بسيط وأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 كان في متناول قدرتهم وفي دائرة استطاعتهم ومع ذلك انصرفوا عنه وعجزوا فدل هذا التحدي مع الانصراف والعجز على أن القرآن كلام من يستطيع تصريف القلوب وتحريك الألسنة وهو الله وحده أما محمد صلوات الله وسلامه عليه فمحال أن يقامر بنفسه وبدعوته ويتحدى بهذا الأمر الظاهرة سهولته وهو بشر لا يعلم الغيب ولا يستطيع أن يقلب القلوب ولا أن يعقد الألسنة. وبيان ذلك أن اليهود زعموا أنهم هم الشعب المختار من بين شعوب الخلق وادعوا أن الدار الآخرة وقف عليهم وخالصة لهم من دون الناس فخاطب الله رسوله في سورة البقرة يرد عليهم ويتحداهم بقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فأنت ترى هذا النظم الكريم يبطل مزاعم اليهود بطلب يبدو لكل ناظر أنه هين وهو أن يتمنوا الموت لو كانوا صادقين في ادعائهم أن نعيم الآخرة وقف عليهم ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولا ولو بألسنتهم نحن نتمنى الموت كي تنهض حجتهم على محمد ويكنوه لكنهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول إني أتمنى الموت وعلى ذلك قامت الحجة عليهم وبان كذبهم في كبريائهم وغرورهم وبلغ من أمر القرآن معهم أنه نفى عنهم هذا التمني نفيا يشمل آباد المستقبل فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} . وها قد مضى على نزول القرآن قريب من أربعة عشر قرنا وما تمنى أحد منهم الموت لو كانوا صادقين بل أعلن القرآن في السورة نفسها مبلغ حرصهم على الحياة وأملهم فيها فقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فكان ذلك علما جديدا من أعلام النبوة لأنه تنويه بغيب حاضر لم يكن يعلمه محمد ولا قومه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 خبرني بربك هل يتصور عاقل أن محمدا وهو في موقف الخصومة الشديدة من اليهود تطوع له نفسه أن يتحداهم هذا التحدي من عنده في لغة الواثق الذي لا يتردد والآمن الذي لا يخاف المستقبل؟ وهل كان يأمن أن يرد عليه واحد منهم فيقول إني أتمنى الموت وهنا تكون القاضية فتنقطع لا قدر الله حجة الرسول ويظهر عجزه وتفشل دعوته أمام قوم هم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا ومن أحرصهم على إفحام الرسول وتعجيزه. فصدور هذا التحدي من رجل عظيم كمحمد ثم استخذاء هؤلاء وانصرافهم عن الرد عليه وعن إسكاته وهو في مقدور أقل رجل منهم ثم تسجيل هذا الاستخذاء عليهم في الحال بقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} وفي الاستقبال بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} كل أولئك أدلة ساطعة على أن القرآن كلام علام الغيوب قاهر الألسنة ومقلب القلوب وهي أيضا براهين قاطعة على أن محمدا لا يمكن أن يكون مصدر هذا الكتاب ولا منبع هذا الفيض بل قصاراه أنه مهبط هذا التنزيل وأنه يتلقاه من لدن حكيم عليم. المثال الحادي عشر وهو من عجائب هذا الباب أن القرآن عرض لتعيين بعض أحداث جزئية تقع في المستقبل لشخص معين ثم تحقق الأمر كما أخبر هذا هو الوليد ابن المغيرة المخزومي يقول الله فيه: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي سنجعل له علامة على أنفه يعرف بها وقد كان ففي غزوة بدر الكبرى خطم ذلك الرجل بالسيف أي ضرب به أنفه وبقي أثر هذه الضربة سمة فيه وعلامة له ولعلك لم تنس أن الوليد هو الذي نزل فيه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وما بعدها من الآيات التي ذكرناها قبلا وهو أيضا الذي نزلت فيه هنا هذه الآيات من سورة القلم: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ , هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ , مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ , عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ , أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ , إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ , سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} نعوذ به تعالى من الكفر والعناد وسوء الأخلاق ونسأله الإيمان الكامل والعمل الصالح والخلق الفاضل آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 على هامش الوجه السابع في هذا الوجه من الإعجاز على ما شرحنا ومثلنا معجزات كثيرة لا معجزة واحدة لأن كل نبأ من أنباء الغيب معجزة فانظر ما عدة تلك الأنباء يتبين لك عدد تلك المعجزات. وإنه ليروعك هذا الإعجاز إذا لاحظت أن هذه الكثرة الغامرة لم تتخلف منها قط نبوءة واحدة بل وقعت كما أنبأ على الحال الذي أنبأ ولو تخلفت واحدة لقامت الدنيا وقعدت وطبل أعداؤه ورقصوا فرحا بالعثور على سقطة لهذا الذي جاءهم من فوقهم وتحداهم بما ليس في طوقهم وسفه معبوداتهم ومعبودات آبائهم ولو كان ذلك لنقل وتواتر ما دامت هذه الدواعي متوافرة على نقله وتواتره كما ترىز ويزيد في أمر هذا الإعجاز أن المتحدث بهذه الأنباء الغيبية أمي نشأ في الأميين وأن من هذه الأنباء ما كان تحديا وإجابة لسؤال العلماء من أهل الكتاب كما سألوه صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف وذي القرنين عن الروح ونحوها وأجابهم عما سألوا وهم يعلمون أنه غيب بالنسبة إليه ليست لديه وسيلة عادية للعلم به ولم يؤثر عنهم أنهم كذبوه في شيء مما أخبر تكذيبا يستندون فيه إلى دليل بل هو الذي كان يكذبهم فيما حرفوه ويرشدهم إلى حقيقة ما بدلوه ويتحداهم بما في أيديهم إذا جادلوه وإليك شاهدا على ذلك: قالت اليهود مرة للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله فقالت اليهود إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام فنزل تكذيبا لهم وتحديا بالتوراة التي عندهم: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ , ُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . يضاف إلى ما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفى عليه وجه الصواب في بعض ما يعنيه من الشؤون ويهمه من الأمور فكان يتوقف تارة كما توقف في حديث الإفك مدة حتى نزل الوحي ببراءة عائشة زوجه وبنت صديقه وكان يجتهد ويخطئ تارة أخرى كما حدث في أسرى بدر على ما سيأتي فلو كانت هذه الأنباء الغيبية نابعة من نفسه ولم تكن من ربه لكان الأحرى به أن يعرف وجه الصواب في أمثال تلك الشؤون والمهام مع أن أسباب العلم فيها أقرب إلى اليسر والسهولة من تلك الغيبيات التي تقطعت أسبابها العادية جملة ومع أن الرسول قد آلمه ما أصابه من جراء عدم علمه بأمثال تلك الشؤون والمهام وإلى ذلك يشير القرآن في قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . معجزات يكشف عنها العلم الحديث ويتصل بما ذكرنا من أنباء الغيب نوع طريف لم يكشف عنه إلا العلم في العصر الحديث وكان قبل ذلك مخبوءا في ضمير الزمن خفيا على المعاصرين لنزول القرآن حتى صاغ أعداء الله من هذا الخفاء شبهة ولفقوا منه تهمة وما علموا أن جهلهم لا يصح أن يكون حجة: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وإليك أمثلة ثلاثة من هذا النوع: 1 - معجزة يكشف عنها التاريخ الحديث: قال العلامة صاحب مجلة الفتح الغراء: في سورة التوبة نقرأ هذه الآية الكريمة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فصدر هذه الآية وهو جملة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} يتضمن من وقائع التاريخ وحقائق العلم أمرا لم يكن أحدا يعرفه على وجه الأرض في عصر نزول القرآن. ذلك أن اسم عزير لم يكن معروفا عند بني إسرائيل إلا بعد دخولهم مصر واختلاطهم بأهلها واتصالهم بعقائد ووثنيتها واسم عزير هو أوزيرس كما ينطق به الإفرنج أو عوزر كما ينطق به قدماء المصريين وقدماء المصريين منذ تركوا عقيدة التوحيد وانتحلوا عبادة الشمس كانوا يعتقدون في عوزر أو أوزيرس أنه ابن الله وكذلك بنو إسرائيل في دور من أدوار حلولهم في مصر القديمة استحسنوا هذه العقيدة عقيدة أن أوزيرس ابن الله وصار اسم أوزيرس أو عوزر عزير من الأسماء المقدسة التي طرأت عليهم من ديانة قدماء المصريين وصاروا يسمون أولادهم بهذا الاسم الذي قدسوه كفرا وضلالا فعاب الله عليهم ذلك في القرآن الحكيم ودلهم على هذه الوقائع من تاريخهم الذي نسيه البشر جميعا. إن اليهود لا يستطيعون أن يدعوا في وقت من الأوقات أن اسم عزير كان معروفا عندهم قبل اختلاطهم بقدماء المصريين وهذا الاسم في لغتهم من مادة عوزر وهي تدل على الألوهية ومعناه الإله المعين وكانت بالمعنى نفسه عند قدماء المصريين في اسم عوزر أو أوزيرس الذي كان عندهم في الدهر الأول بمعنى الإله الواحد ثم صاروا يعتقدون أنه ابن الله عقب عبادتهم للشمس واليهود أخذوا منهم هذا الاسم في الطور الثاني عندما كانوا يعتقدون أن أوزيرس ابن الله. فهذا سر من أسرار القرآن لم يكتشف إلا بعد ظهور حقيقة ما كان عليه قدماء المصريين في العصر الحديث وما كان شيء من ذلك معروفا في الدنيا عند نزول القرآن حتى إن أعداء الإسلام كانوا يصوغون من جهلهم بهذه الحقيقة التاريخية شبهة يلطخون بها وجه الإسلام ويطعنون بها في القرآن فقال اليهود منهم إن القرآن يقولنا ما لم نقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 في كتبنا ولا في عقائدنا وأتى دعاة النصرانية منهم بما شاء لهم أدبهم من السب والطعن والزراية بالقرآن ودين الإسلام ونبي الإسلام اهـ بتصرف طفيف 2 - معجزة يكشف عنها الطب الحديث كتب العلامة المرحوم الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا في مجلة الأزهر الغراء يقول في مقال له تحت عنوان الطب وصيام شهر رمضان من الناس من يتوهم أن في صيام رمضان وهو من أركان الإسلام مضرة تلحق بالصائم لما يصيب الجهاز الهضمي خاصة وغيره عامة ولما يكون من بعض الصائمين من انفعال وغضب وهذا خطأ لأن ما ذهبوا إليه ليس من الصيام في شيء ولكنه من ترك الاعتدال في طعام الإفطار والسحور ولأنهم لم يراعوا ما يتناسب مع خلو المعدة النهار كله في وقت الإفطار لأن السحور يجب أن يقتصر على بضع لقيمات لأنه لا ضرر من الجوع في حد ذاته وبما أن الصيام يستعمل طبيا في حالات كثيرة ووقاية في حالات أكثر وأن كثيرا من الأوامر الدينية لم تظهر حكمتها وستظهر مع تقدم العلوم رأيت من الواجب على أن أكتب عما ظهر طبيا للآن من فوائده هذه الأوامر وإيضاح آيات قرآنية لأبين معناها الذي لا يظهر إلا لمن بحث عنها في نور الطب الحديث وسأبدأ بالصيام. الصيام: للصيام فوائد في ثلاث جهات أولاها وأهمها الجهة الروحية وهذه أتركها لعلماء الدين والمتصوفة منهم ثانيها الجهة الأخلاقية وهذه أتركها لعلماء الأخلاق ومن السهل البرهنة على أن الصيام يعود الإنسان النظام والقناعة وطاعة الرؤساء والصبر وكبح شهوات النفس وحب الخير والصدقة وغير ذلك من الفضائل وثالثها وأقلها أهمية الجهة المادية أو الصحية وهي محل بحثنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 لقد ظهر أن الصيام يفيد في حالات كثيرة وهو العلاج الوحيد في أحوال أخرى وهو أعم علاج إن لم يمكن العلاج الوحيد للوقاية من أمراض شتى. فللعلاج يستعمل في: 1 - اضطرابات الأمعاء المزمنة المصحوبة بتخمر في المواد الزلالية والنشوية وهنا ينجح الصيام وخصوصا عدم شرب الماء بين الأكلتين وأن تكون بين الأكلة والأخرى مدة طويلة كما في صيام رمضان ويمكن أخذ الغذاء المناسب حسب حالة التخمر وهذه الطريقة هي أنجع طريقة لتطهير الأمعاء. 2 - زيادة الوزن الناشئ من كثرة الغذاء وقلة الحركة فالصيام أنجع من كل علاج مع الاعتدال وقت الإفطار في الطعام والاكتفاء بالماء في السحور. 3 - زيادة الضغط الذاتي وهو آخذ في الانتشار بازدياد الترف والانفعالات النفسية ففي هذه الحالة يكون شهر رمضان نعمة وبركة خصوصا إذا كان وزن الشخص أكثر من الوزن الطبيعي لمثله. 4 - البول السكري وهو منتشر انتشار الضغط ويكون في مدته الأولى وقبل ظهوره مصحوبا غالبا بزيادة الوزن فهنا يكن الصيام علاجا نافعا إذ إن السكر يهبط مع قلة السمن ويهبط السكر في العادة بعد الأكل بخمس ساعات إلى أقل من الحد الطبيعي في حالات البول السكري الخفيف وبعد عشر ساعات إلى أقل من الحد الطبيعي بكثير ولا يزال الصيام مع بعض الملاحظات في الغذاء أهم علاج لهذا المرض حتى بعد ظهور الأنسولين خصوصا إذا كان الشخص يزيد على الوزن الطبيعي ولم يكن هناك علاج لهذا المرض قبل الأنسولين غير الصيام. 5 - التهاب الكلى الحاد والزمن المصحوب بارتشاح وتورم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 6 - أمراض القلب المصحوبة بتورم. التهاب المفاصل المزمنة خصوصا إذا كانت مصحوبة بسمن كما يحصل عند السيدات غالبا بعد سن الأربعين وقد شوهدت حالات تتمشى في شهر رمضان بالصيام فقط أكثر مما تتمشى مع علاج سنوات بالكهرباء والحقن والأدوية وكل الطب الحديث. وب سائل يقول ولكن الصيام في كل هذه الحالات يحتاج إلى إرشاد طبيب في كل مرض على حدته والصيام الذي كتب على المسلمين إنما كتب على الأصحاء وهذا صحيح ولكن فائدة الصيام للأصحاء ... هي الوقاية من هذه الأمراض وخصوصا الأمراض التي مر ذكرها تحت رقم 1و2و3و7. وهذه الأمراض كلها تبتدئ في الإنسان تدريجا بحيث لا يمكن الجزم بأول المرض فلا الشخص ولا طبيبه يمكنهما أن يعرفا أول المرض لأن الطب لم يتقدم بعد إلى الحد الذي يعرف فيه أسباب هذه الأمراض كلها ولكن من المؤكد طبيا أن الوقاية من كل هذه الأمراض هي في الصيام بل إن الوقاية فعالة جدا قبل ظهور أعراض المرض بوضوح وقد ظهر بإحصاءات لا تقبل الشك أن زيادة السمن يصحبها استعداد للبول السكري وزيادة الضغط الذاتي للدم والتهاب المفاصل المزمن وغير ذلك ومع قلة الوزن الاستعداد لهذه الأمراض بالنسبة نفسها وهذا هو السر في أن شركات التأمين لا تقبل تأمينا على الأشخاص الذين يزيد وزنهم إلا بشروط تثقل كلما زاد الوزن والصيام مدة شهر كل سنة هو خير وقاية من كل هذه الأمراض. وهذه الأمراض تنتشر بزيادة الحضارة والترف فقد انتشرت في أوروبا أكثر من الأول وفي مصر يكاد يكون البول السكري وزياد ضغط الدم مقتصرين على الطبقات الوسطى والعليا وهو قليل جدا في الفقراء. ويغلب على الظن أن ذلك هو السر في الصيام في الإسلام أشد منه في الأديان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 السابقة لأن الإسلام وهو آخر الشرائع السماوية جاء في زمن نحتاج فيه إلى الوقاية من أمراض تزداد كلما ازداد الترف اهـ رحمه الله عليه. 3 - معجزة يكشف عنها علم الاجتماع كتب العلامة مدير مجلة الأزهر الغراء تحت عنوان معجزات القرآن العلمية القرآن يضع أصول علم الاجتماع قبل العلم بأكثر من ألف سنة مقالا ضافيا نقتطف منه ما يلي: لما جاء الإسلام وشرع أهله في إحياء موات العلم ونقل كتبه القيمة إلى لغتهم نظروا في كل شيء مستهدين بالأصول الأولية للقرآن الكريم كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} فأدركوا على وجه عام أن لكل شيء في هذا الوجود نظاما يجري عليه كما فعل بعض المؤرخين وخاصة ابن خلدون ولكن المعارف التي كانت قد جمعت عن الأمم لم تكن تكفي لتكوين علم خاص بها وتلت هذا الدور نهضة أوروبا فادخر الله هذا السبق للفيلسوف الفرنسي الكبير "أوجست كومت 1798 – 1853" واضع أصول الفلسفة الوضعية فإنه أول من جعل للاجتماع علما ووضعه في رأس جميع العلوم البشرية لشرف موضوعه من ناحية ولأنه لا يتسنى إلا لمن يأخذ من كل علم بطرف لتشعب بحوثه واستنادها على جملة المعارف البشرية. فعلم الاجتماع البشري أحدث العلوم وضعا ولكنه أشرفها موضوعا إذ يعرفنا على أي الأصول تقوم الجماعات وبأيها تحفظ وجودها وترتقي وما هي عوامل التأليف التي تقوي وجودها وعوامل التحليل التي تفصم عرى ألفتها وهذه كلها معارف عالية ضرورية للمجتمع ضرورة على قوانين الصحة والطب لآحاده. ثم ذكر من قواعد علم الاجتماع أن الإنسان لا يستطيع أن يؤثر في المجتمع لمجرد رأي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 يبدو له في إصلاحه ولكن ذلك لا يكون إلا إذا فهم الكافة سداد هذا الرأي وعملوا به عند ذاك يوجد في المجتمع ميل جديد للتحول عن الجهة التي يراد تحويله منها إلى الوجهة التي يريده على أن يكون عليها وهذا كله مصداق لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فمعنى الآية أن الأمة التي تريد أن يحول الله عنها حالا لا ترضاه لمجتمعها يجب عليها أن تغير من نفسيتها أولا فإن فعلت حول الله عنها ما تكره ووجه إليها من نعمه ما تحب وهذا وحده معجزة علمية للقرآن كان يجب أن يعقد لها فصل خاص وأن يشاد بذكرها أعظم إشادة فكشف هذا السر يجعلنا ندرك سر تنبيه القرآن على وجوب الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر وبعد أن ساق أدلة عن الكتاب والسنة على ذلك قال: القرآن أثبت أن للاجتماع نواميس ثابتة قبل أن يتخيلها أعلم علماء الأرض تخيلا وقد رأيت أن تعيين تلك النواميس والتحسس مما خفي منها هو الشغل الشاغل اليوم لفلاسفة الاجتماع فقال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} . ولم يكتف الكتاب بهذا وحده ولكنه قرر أيضا أن الجماعات كالآحاد لها آجال لا نستطيع أن نتعداها وهو ما هدى إليه علم الاجتماع بعد أن وجد أن وجوه الشبه بين الفرد والمجتمع واحدة فقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} وقد تكرر مثلها في سور كثيرة من القرآن الكريم. فالذي يتامل في سبق القرآن الكريم العالم كله أكثر من عشرة قرون في وضع أصول العلم الاجتماعي ويكون من غير أهل هذا الدين يدهش كل الدهش ولا يكاد يصدق عينيه وسندأب نحن من جهتنا على تجلية الأصول العلمية مستخرجين إياها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 الكتاب الكريم ليتحقق العالم أنه على ما يقوله موحيه سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . وبذلك يتضح سر نهضة المسلمين التي حصلت لهم زعامة العلم والحكمة في العالم في سنين معدودة فإنهم لو كانوا بدؤوا حياتهم العلمية على النحو الذي تبدؤها به كل أمة ما استطاعوا أن يبزوا الأمم التي تقدمتهم في هذا السبيل بقرون كثيرة ولكنهم لبدئهم إياها مستنيرين بهذه الأصول القرآنية العالية بلغوا منها أوجا في مدى قصير لم تبلغه أمة في آماد طويلة وعلى المسلمين اليوم أن يدركوا هذا الأمر الجلل وأن يجعلوا كتابهم نبراسا لهم في اقتباسهم العلم عن الأمم الغربية ليبلغوا منه ما بلغه أسلافهم في عهدهم الأول ويزيدوا عليه ما هدى إليه البشر في العصور الأخيرة اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 الوجه الثامن آيات العتاب ومعنى هذا أن القرآن سجل في كثير من آياته بعض أخطاء في الرأي على الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه إليه بسببها عتابا نشعر بلطفه تارة وبعنفه أخرى ولا ريب أن العقل المنصف يحكم جازما بأن هذا القرآن كلام الله وحده ولو كان كلام محمد ما سجل على نفسه هذه الأخطاء وهذا العتاب يتلوهما الناس بل ويتقربون إلى الله بتلاوتهما حتى يوم المآب. الخطأ في الاجتهاد ليس معصية: وننبهك في هذه المناسبة إلى أن هذا الخطأ ليس معصية حتى يقدح ذلك في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو خطأ فحسب بل هو من نوع الخطأ الذي يستحق صاحبه أجرا لأنه صادر عن اجتهاد منه والاجتهاد الصالح وهو بذل الجهد في الاطلاع والبحث والموازنة والاستنتاج مجهود شاق يبذله صاحبه لغرض شريف فليس من الإنصاف حرمانه من المكافأة متى كان أهلا للاجتهاد وإن أخطأ لأن الإنسان ليس في وسعه أن يكون معصوما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 من الخطأ بل المجتهد يخطئ بعد أن يبذل وسعه في طلب الصواب وهو يتمنى ألا يخطئ بل وهو يخشى أشد الخشية أن يخطئ والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وعلى هذا قررت شريعتنا السمحة أن المجتهد له أجر إن أخطأ وأجران إذا أصاب روى الجماعة كلهم حديث "إذا حكم الحاكم في شيء فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد" بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أمراء الجيوش والسرايا حق الحكم بما يرون فيه المصلحة ويقول للواحد منهم "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه. ولا ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في موضع الإمامة الكبرى للخلق فكان من حكمة الله أن يجتهد ليقلده الخلق في الاجتهاد وأن يخطئ في بعض الأمور لئلا يصرفهم خوف الخطأ في الاجتهاد عن الاجتهاد ما دام أفضل الخلق على الإطلاق قد أخطأ ومع خطئه لم يمتنع عن الاجتهاد بل عاش طوال حياته يجتهد في كل ما لم ينزل عليه فيه وحي حتى يتقرر في الناس مبدأ الانتفاع بمواهب العقول وثمار القرائح ويتحرر الفكر البشري من رق الجمود والركود ثم كان من حكمة الله أيضا أن يقف رسوله على وجه الصواب فيما أعوزه فيه الصواب ليعلم الناس أنه ليس كأحدهم ولا أن اجتهاده كاجتهادهم بل اجتهاده حجة دونهم لأنه مؤيد من لدن ربه يتولاه مولاه دائما حتى لا يقره على خطأ في الأمور الاجتهادية وهنا يزداد الذين آمنوا إيمانا به وثقة بكل ما صدر عنه ثم يقتدون به في وجوب الخضوع للحق إذا ظهر كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخضع له ويعلنه ويعلن خطأه فيما أخطأ فيه لا تأخذه العزة بالإثم ولا تلويه العظمة عن حق بل هنا سر العظمة وسر النهضة وسر تربية الأمة بالقدوة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 إنما العار الجارح لكرامة البشر أن يجمد الإنسان فلا يجتهد وهو أهل للاجتهاد أو يجمد المجتهد على رأيه وإن كان عظيما بعد أن يستعلن له خطؤه مع أن الرجوع إلى الحق فضيلة والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والكمال المطلق لله وحده وفي الحديث "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". يضاف إلى ما ذكرنا من الحكم والأسرار في أخطاء الرسول الاجتهادية أمر آخر له قيمته وخطره وهو إقامة أدلة مادية ناطقة على بشرية الرسول وعبوديته وأنه وهو أفضل خلق الله لم يخرج عن أن يكون عبدا من عبيد الله يصيبه من أعراض العبودية ما يصيب العباد ومن ذلك خطؤه في الاجتهاد وبذلك لا يضل المسلمون في إطرائه ولا يغلون في إجلاله كما ضل النصارى في ابن مريم ولقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" رواه البخاري وقال: "إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله" رواه أحمد وابن ماجه وقال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها" رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن. وخلاصة القول أن في هذا المقام أمورا ثلاثة: أولها أن خطأ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من جنس الأخطاء المعروفة التي يتردى فيها كثير من ذوي النفوس الوضيعة كمخالفة أمر من الأوامر الإلهية الصريحة أو ارتكاب فعل من الأفعال القبيحة إنما كان خطؤه عليه الصلاة والسلام في أمور ليس لديه فيها نص صريح فأعمل نظره وأجال فكره وبذل وسعه ولكن على رغم ذلك كله أخطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 ثانيها أن الله تعالى لم يقر رسوله على خطأ أبدا لأنه لو أقره عليه لكان إقرارا ضمنيا بمساواة الخطأ للصواب والحق للباطل ما دامت الأمة مأمورة من الله باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقول ويفعل ولكان في ذلك تلبيس على الناس وتضليل لهم عن الحق الذي فرض الله عليهم اتباعه ولكان ذلك مدعاة إلى التشكك فيما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة أنه على هذا الفرض قد يجتهد ويخطئ ولا يرشده الله إلى وجه الصواب فيما أخطأ وهذه اللوازم كلها باطلة لا محالة فبطل ملزومها وثبت أن الحكيم العليم لا يمكن أن يقر القدوة العظمى على خطأ أبدا بل يبين له وجه الصواب وقد يكون مع هذا البيان لون من ألوان العتاب لطيفا أو عنيفا توجيها له وتكليما لا عقوبة وتنكيلا. ثالثها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرجع الصواب الذي أرشده مولاه دون أن يبدي غضاضة ودون أن يكتم شيئا مما أوحي إليه من تسجيل الأخطاء عليه وتوجيه العتاب إليه وفي ذلك لا ريب أنصع دليل على عصمته وأمانته وعلى صدقه في كل ما يبلغ عن ربه وعلى أن القرآن ليس من تأليفه ووضعه ولكن تنزيل العزيز الرحيم آيات العتاب نوعان: أما بعد فإن العتاب الموجه للرسول في القرآن على نوعين نوع لطيف لين ونوع عنيف خشن ولنمثل لها بأمثله ثلاثة: المثال الأول قوله تعالى: في سورة التوبة: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وذلك أنه عليه السلام كان قد أذن لبعض المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك حين جاؤوا يستأذنون ويعتذرون فقبل منهم تلك الأعذار أخذا بظواهرهم ودفعا لأن يقال إنه لا يقبل العذر من أصحاب الأعذار ولكن الله تعالى عاتبه كما ترى وأمره بكمال التثبت والتحري وألا ينخدع بتلك الظواهر فإن من وارثها أسفل المقاصد والله أعلم بما يبيتون ولعله لم يخف عليك لطف هذا العتاب بتصدير العفو فبه خطابا للرسول من رب الأرباب!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 المثال الثاني قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ , لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ , فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وذلك أنه وقع في أسر المسلمين يوم بدر سبعون من أشراف قريش فاستشار الرسول أصحابه فيهم فمنهم من اشتد وأبى عليهم إلا السيف ومنهم من رق لحالهم وأشار بقبول الفداء منهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مطبوعا على الرحمة ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فرجح بمقتضى طبعه الكريم ورحمته الواسعة رأى من أشار بقبول الفداء عسى أن يسلموا أو يخرج الله من أصلابهم من يعبده ويمجده ولينتفع المسلمون بمال الفدية في شؤونهم الخاصة والعامة ولكن ما لبث حتى نزلت الآيات الكريمة المذكورة وفيها تسجيل لخطأ ذلك الإجتهاد المحمدي فلو كان القرآن كلامه ما سجل على نفسه ذلك الخطأ! أمر آخر في هذه الآيات ظاهرة عجيبة هي الجمع بين متقابلات لا تجتمع في نفس بشر على هذا الوجه فصدرها استنكار للفعل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن وعقب هذا الاستنكار عتاب قاس مر وتخويف من العذاب تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وفي أثر هذا الاستنكار والعتاب والتخويف إذن بالأكل ووصف له بالطيب والحل وبشارة بالمغفرة والرحمة لمن أكل فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ومثلك يعلم أن نظم هذه المتقابلات في سلك واحد بهذه الصورة لآمر واحد ومأمور واحد لا يمكن أن يصدر من نفس بشرية هكذا من غير فاصل بين الإنكار والإذن ولا بين المدح والذم ولا بين الوعيد والوعد لأن من طبيعة البشر أن يشغلهم شأن عن شأن ولا يجتمع لهم في أمر واحد ووقت واحد خاطران متقابلان ولا حالان متنافيان كالغضب والرضا والإستهجان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 والاستحسان بل إذا تواردا على النفس فإنما يرادن متعاقبين في زمنين وإذا تعاقب فاللاحق منهما يمحو السابق وإذا محاه لم يبق معنى لإثباته وتسجيله بل من الطبيعي تركه والإضراب عنه خصوصا إذا كان هذا الخاطر الأول وإعلانا لتخطئة المتكلم ونقده ولومه كقبول الفداء في هذا المقام وأكله. فلا جرم أن هذه الظاهرة تأبى هي الأخرى إلا أن تكون دليل إعجاز وبرهان صدق على أن هنا نفسيتين مختلفتين نفسية لا يشغلها شأن ولا تتأثر ببواعث الغضب والرضا كما يتأثر الإنسان ونفسية نسبتها إلى الأخرى نسبة المأمور من آمره والمسود من سيده ولكن مع الحب والقرب فهذه الآيات الكريمة ليست إلا كلام سيد عزيز يقول لعبده الحبيب أخطأت فيما مضى وما كان لك أن تفعل ولكني عفوت وغفرت وأذنت لك بمثله في المستقبل! المثال الثالث قول عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى , أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى , وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى , أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى , أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى , فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى , وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى , وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى , وَهُوَ يَخْشَى , فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى , كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشتغلا ذات يوم بدعوة أشراف من قريش إلى الإسلام وإذا عبد الله بن أم مكتوم يجيء ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عبد الله رجلا أعمى تشرف بهداية الإسلام من قبل ولم يقدر تشاغله بدعاية هؤلاء الصناديد الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هدايتهم كل الحرص وكان يستمليهم ويتألفهم إليه طمعا في أن يسلموا فلا يلبث جماهير العرب أن تقتدي بهم في إسلامهم وفي أي شيء جاء هذا الصحابي يسأل أنه مسلم فطبيعي انه لم يسأله عن الإسلام بل جاء يستزيده من الهداية والعلم ويقول: "يا رسول الله علمني مما علمك الله". وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بين قوم غلاظ مشركين يدعوهم إلى الإسلام ورجل وديع مسلم يستزيده من العلم فآثر الإقبال على أولئك الصناديد وعبس في وجه ابن أم مكتوم هذا واعرض عنه لا احتقارا له وغضا من شأنه ولكن حرصا على هداية هؤلاء خوفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 من أن تفوت هذه الفرصة السانحة لدعوتهم فأنزل الله على رسوله تلك الآيات السالفة يعاتبه فيها ذلك العتاب القاسي الخشن ويفهمه أن حرصه على الهداية ما كان ينبغي أن يصل به إلى حد الإقبال الشديد على هؤلاء الصناديد وهم عنه معرضون ولا إلى حد الإعراض العابس في وجه هذا الضعيف الأعمى وهو عليه مقبل. وكأني بك تحسن حرارة هذا العتاب وذلك لتقرير مبدأ من المبادئ العالية هو الإعراض عن المعرضين مهما عظم شانهم والإقبال على المقبلين مهما رق حالهم واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ولعلك تلمح معي من وراء هذا العتاب رحمة الرسول بأعدائه وإخلاصه لدعوته وتفانيه في وظيفته وحرصه على هداية الناس أجمعين زاده الله شرفا على شرفه وعزا على عزه آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار ومعنى هذا أن القرآن آيات كثيرة تناولت مهمات الأمور ومع ذلك لم تنزل إلا بعد تلبث وطول انتظار فدل هذا على أن القرآن كلام الله لا كلام محمد لأنه لو كان كلام محمد ما كان معنى لهذا الانتظار فإن الانتظار في ذاته شاق وتعلقه بمهمات الأمور يجعله أشق خصوصا على رجل عظيم يتحدى قومه بل تحدى العالم كله!. ولبيان هذا الوجه نمثل بأمثلة خمسة: أولها حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة نزل فيه قول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فأنت تفهم معي من هذه الآية أن محمدا صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 كان يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة ومن أجل ذلك كان يقلب وجهه في السماء تلهفا إلى نزول الوحي بهذا التحويل ولقد طال به الأمر سنة ونصف سنة وهو يستقبل بيت المقدس فلو كان القرآن من وضعه لنفس عن نفسه وأسعفها بهذا الذي تهفو إليه نفسه ويصبو إليه قومه لأن الكعبة في نظرهم هي مفخرتهم ومفخرة آبائهم من قبلهم. ثانيها حادث الإفك وهو من أخطر الأحداث وأشنعها لم ينزل القرآن فيه إلا بعد أن مضى على الحادث قرابة أربعين يوما على حين أنه يتصل بعرض الرسول وعرض صديقه الأول أبي بكر وقام على اتهام أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق ورميها بأقذر العار وهو عار الزنى فلو كان القرآن كلام محمد ما بخل على نفسه بتلك الآيات التي تنقذ سمعته وسمعة زوجه الحصان الطاهرة ولما انتظر يوما واحدا في القضاء على هذه الوشايات الحقيرة الآثمة التي تولى كبرها أعداء الله المنافقون اقرأ قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} - إلى قوله - {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في سورة النور ثم حدثني بعد قراءتها ألم يكن الواجب على محمد صلى الله عليه وسلم أن يعجل الحكم بهذه البراءة لو كان الأمر إليه خصوصا أنه قد علم الناس وجوب الدفاع عن العرض ولو بالنفس؟ ثم أخبرني ألا ترى فارقا كبيرا بين هذه اللغة الجريئة القاطعة المنذرة والمبسرة التي صيغت بها آيات البراءة وبين لغة الرسول الحذرة المتحفظة التي رويت عنه في هذه الحادثة إن كنت في شك فأمامك آيات البراءة وهاك كلمتين مما أثر عنه في هذا الأمر الجلل ورد أنه قال حين طال الانتظار وبلغت القلوب الحناجر إني لا أعلم إلا خيرا وورد أنه قال قبيل الساعة التي نزلت فيها آيات البراءة يا عائشة أما إنه قد بلغني كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله. فهل يجوز في عقل عاقل أن يكون صاحب هذا الكلام هو صاحب آيات البراءة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 دع عنك الأسلوبين ولكن تأمل النفسيتين المتميزتين في الكلامين تميز السيد من المسود والعابد من المعبود! ثالثها ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فقال لسائليه ائتوني غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عليه الوحي حتى شق ذلك عليه وكذبته قريش وقالوا ودعه ربه وقلاه أي تركه ربه وأبغضه فأنزل الله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ثم نهاه مولاه أن يترك المشيئة مرة أخرى إذ قال له في سورة الكهف: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} ولما نزل جبريل بعد هذا الإبطاء والتمهل قال له ما حكاه الله عنه في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} يعني أن عدم الإسراع بالنزول لم يكن سببه إعراض الله عنه كما يزعمون بل كان لعدم الإذن به لحكم بالغة قد عرضنا لبعضها في الكلام على أسرار تنجيم القرآن بالجزء الأول وحسبك هنا أن يستدل المنصف بهذا الإبطاء والتراخي على أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم لا كلام النبي الكريم. رابعها ما ورد من أنه لما نزل قوله سبحانه: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} انخلعت قلوب الصحابة وذعروا ذعرا شديدا لأنهم فهموا من هذه الآية أن الله تعالى سيحاسبهم على كل ما يجول بخاطرهم ولو كانت خواطر رديئة ثم سألوا فقالوا يا رسول الله أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فجعلوا يقولونها ويضرعون إلى الله بها حتى أنزل تقدست أسماؤه الآية الأخيرة من سورة البقرة وهي: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} إلى آخر السورة فسكنت نفوسهم واطمأنت قلوبهم وفهموا أنهم لا يحاسبون إلا على ما يقع تحت اختيارهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وفي دائرة طاقتهم من نية وعزم وقول وعمل أما خلجات الضمائر العابرة وخطرات السوء ولو كانت كافرة فلا يتعلق بها تكليف لأنها ليست في مقدور العبد والقرآن يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لهم هذا البيان حين سألوه لأنه لم يوح وقتئذ إليه ولو كان من وحي نفسه كما يقول الأفاكون لأسعف أصحابه بالآية الأخيرة وأنقذهم من هول هذا الخوف الذي أكل قلوبهم لا سيما أنهم أصحابه وهو نبيهم ومن خلقه الرحمة خصوصا بهم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وأيضا لو كان يملك هذا الكلام لعاجلهم بالبيان وإلا كان كاتما للعلم وكاتم العلم ملعون فأين يذهبون؟. خامسها ورد أن كبير المنافقين عبد الله بن أبي لما توفي قام إليه النبي صلى الله عليه وسلم فكفنه في ثوبه وأراد أن يستغفر له فقال له عمر أتستغفر له وتصلي عليه وقد نهاك ربك فقال إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وسأزيده على السبعين ثم صلى عليه فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فترك الصلاة عليهم. اقرأ الرواية بتمامها في الصحيحين ثم نبئني هل يعقل أن يكون القرآن كلام محمد مع ما ترى من أنه صلى الله عليه وسلم فهم في الآية الأولى غير ما فهم عمر ثم جاءت الآية الثانية صارفة للرسول عن فهمه ومؤيده لعمر أفما كان الأجدر به لو كان القرآن كلامه أن يكون هو أدرى الناس بمراده منه وأعرفهم بحقيقة المقصود من ألفاظه وأن يجيء آخر الكلام مؤيدا لما فهمه هو لا لما فهمه غيره لكن الواقع غير ذلك فقد سبق إلى فهمه أن كلمة {أَوْ} في الآية الأولى للتخيير وفهم عمر أنها للمساواة وفهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن المراد بكلمة {سَبْعِينَ} حقيقة العدد المعروف في العشرات بين الستين والثمانين وفهم عمر أنها للمبالغة للتحديد فلا مفهوم لها ولما كان ما فهمه الرسول صلى الله عليه وسلم جاريا على أصل الوضع في معنى {أَوْ} وفي معنى {سَبْعِينَ مَرَّةً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 تمسك برأيه خصوصا أن فيه رحمة برجل من الناس وإن كان منافقا وكان صلى الله عليه وسلم مطبوعا على الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول عهده بالوحي يتعجل في تلقفه ويحرك لسانه بالقرآن من قبل أن يفرغ أمين الوحي من إيحائه إليه وذلك للإسراع بحفظه والحرص على استظهاره حتى يبلغه للناس كما أنزل وكان عليه الصلاة والسلام يجد من ذلك شدة على نفسه فوق الشدة العظمى التي يحسها من نزول الوحي عليه حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن جسمه ليثقل بحيث يحس ثقله من بجواره وحتى أن وجهه ليحمر ويسمع له غطيط روى مسلم "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه الشريف" فاقتضت رحمة الله بمصطفاه أن يخفف عنه هذا العناء فأنزل عليه في سورة القيامة: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ , إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ , فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ , ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وبهذا اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم ثقة بأن الله قد تكفل له بأن يجمع القرآن في صدره وأن يقرأه على الناس كاملا لا ينقص كلمة ولا حرفا وأن يبين له معناه فلا تخفى عليه خافية منه كذلك قال الله في سورة الأعلى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} وقال له مرة ثالثة في سورة طه: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} . ألا ترى في هذا كله نورا يهدي إلى أن القرآن كلام الله وحده ومحال أن يكون كلام محمد وإلا لما احتاج إلى هذا العناء الذي كان يعانيه في نزول القرآن عليه ولكان الهدوء والسكون والصمت أجدى في إنضاج الفكرة وانتقاء ألفاظها لديه ولما كان ثمة من داع إلى أن يطمأن على حفظه وتبليغه وبيان معانيه أضف إلى ذلك أن هذه الحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 التي كانت تعروه صلى الله عليه وسلم عند الوحي لم تكن من عادته في تحضير كلامه لا قبل النبوة ولا بعدها ولم تكن من عادة أحد من قومه بل كان ديدنهم جميعا تحضير الكلام في نفوسهم وكفى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 الوجه الحادي عشر: آية المباهلة وذلك أن القرآن دعا إلى المباهلة وهي مفاعلة من الابتهال والضراعة إلى الله بحرارة واجتهاد فأبى المدعوون وهم النصارى من أهل نجران أن يستجيبوا لها وخافوها ولاذوا بالفرار منها مع أنها لا تكلفهم شيئا سوى أن يأتوا بأبنائهم ونسائهم ويأتي الرسول بأبنائه ونسائه ثم يجتمع الجميع في مكان واحد يبتهلون إلى الله ويضرعون إليه بإخلاص وقوة أن ينزل لعنته وغضبه على من كان كاذبا من الفريقين قال سبحانه في سورة آل عمران: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ , إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . "ورد أنه عليه السلام لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى ننظر فقال العاقب وكان ذا رأيهم والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل وما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا متحضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول: "إذا أنا دعوت فآمنوا" فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني فقالوا: يا أبا القاسم رأينا ألا نباهلك فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على ألفي حلة كل سنة فقال عليه السلام: "والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كان المباهلة مختصة به وبمن يكذبه لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحالة واستيفائه بصدقه حتى جرؤ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم وفيه دليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لو لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك اهـ من تفسير النسفي. ونقول: أليس هذا دليلا ماديا على أن القرآن كلام القادر على إنزال اللعنة وإهلاك الكاذب ثم أليس قبول محمد لهذه المبالهة مع امتناع أعدائه دليلا على أن صدقه في نبوته كان أمرا معروفا مقررا حتى في نفوس مخالفيه من أهل الكتاب وإلا فلماذا نكصوا على أعقابهم ولاذوا بالفرار من المباهلة تأمل كلمة العاقب وأسقف نجران في الرواية الآنفة لكنه الحقد والكبرياء أكلا قلوبهم فحسدوه أن آتاه الله النبوة دونهم مع أنه أمي وهم أهل كتاب وكبر عليهم أن يؤمنوا به ويدينوا له فتضيع رياستهم وتنحط منزلتهم في نفوس العامة والحسد والكبر من الحجب الكثيفة التي تحول بين المرء وسعادته فالحسود لا يسود والمتكبر مخذول لا يسترشد ولا يتوب؛ {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} معاذا بك اللهم من مقتك وغضبك ومن كل ما يؤدي إلى مقتك وغضبك آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له وذلك أن أعداء الإسلام طلبوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 يبدله فلم يفعل وما ذاك إلا لأن القرآن ليس كلامه بل هو خارج عن طوقه آت من فوقه ولو كان كلامه لاستطاع أن يأتي بغيره وأن يبدله حين اقترحوا عليه وحينئذ يكتسب أنصارا إلى أنصاره ويضم أعوانا إلى أعوانه ويكون ذلك أروج لدعوته التي يحرص على نجاحها لكنه أعلن عجزه عن إجابة هذه المقترحات وأبدى مخاوفه إن هو أقدم على هذا الذي سألوه وتنصل من نسبة القرآن إليه مع أنه الفخر كل الفخر وألقمهم حجرا في أفواههم بتلك الحجة التي أقامها عليهم وهي أنه نشأ فيهم لا يعرف ولا يعرفون عنه ذلك الذي جاء به وهو القرآن. اقرأ - إن شئت - هاتين الآيتين في سورة يونس: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ , قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} والمعنى أن القرآن فوق طاقتي وليس من مقدوري وما أنا إلا ناقل له أتبع ما يوحى إلي منه وإني أخاف سطوة صاحب هذا الكتاب إذا أنا تلاعبت بنصوصه أو غيرت فيه فالقرآن كلامه ولو أراد ألا أكون رسولا بينه وبينكم ما كانت لي حيلة إلى أن أتلو هذا الكتاب عليكم وتأخذوه عني فقد نشأت بينكم ومكثت أكثر من أربعين سنة قبل نزوله - وهو عمر طويل - وأنتم لا تعرفون مني هذا الاستعداد الأعلى ولا تسمعون مني مطلقا مثل هذا الكلام المعجز ولم تأخذوا علي قط أني كذبت مرة على عبد من عباد الله فكيف أكذب على الله بعد هذا العمر الطويل {أَفَلا تَعْقِلُونَ} يا لها كلمة فيها من لذعة التعنيف والتخجيل بمقدار ما فيها من لفت النظر إلى قوة الدليل!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه وذلك أنك تقرأ القرآن فتجد فيه آيات كثيرة تجرد الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم من أن يكون له فيها حرف أو كلمة وتصفه بأنه كان قبل نزول القرآن لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان وتمتن عليه بأن الله آتاه الكتاب والحكمة بعد أن كان بعيدا عنهما وغير مستعد لهما ولم يكن عنده رجاء من قبل لأن يكون منهل هذا الفيض ولا مشرق ذلك النور اقرأ قوله سبحانه في سورة النساء: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} وقوله في ختام سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} وقوله في سورة القصص: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . بل كان صلى الله عليه وسلم يخاف انقطاع هذا المدد الفياض عنه فإذا فتر الوحي عراه من الحزن على فترته والتلهف على عودته ما يجعله يمشي في الشعاب والجبال كأنه يتلمسه حتى لقد كاد يتردى مرة من شاهق وهو يطلبه وأكثر من هذا أنه كان يخشى أن يتلفت منه شيء أثناء إيحائه إليه لولا أن طمأنه الله عليه كما تقدم شرحه في الوجه العاشر وأكثر من هذا وذاك أنه كان يخاف أن ينزع الله من قبله ما أنزل عليه وحفظه إياه، {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً , إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} . قل لي - وربك هل يتصور - منصف على وجه الأرض أن القرآن كلام محمد بعد ما قصصنا عليك من هذه الآيات التي تجرده من إنشائه ووضعه بل تجرده من رجاء نزوله عليه قبل مبعثه ومن رجاء بقائه لديه بعد نزوله عليه وهل يصح في الأذهان أن أحدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 يبتكر بعبقريته أمرا هو مفخرة المفاخر ومعجزة المعجزات ثم يقول للعالم في صراحة ليس هذا الفخر فخري وما هو من صنعي وما كان لدي استعداد أن آتي بشيء منه وأنتم تعرفونني وتعرفون استعدادي من قبل؟ ألا إن هذا يخالف العقل والمنطق ويجافي العرف والعادة وينافي مقررات علم النفس وعلم الاجتماع فإن النفوس البشرية مجبولة على الرغبة في جلائل الأمور ومعاليها مطبوعة على حب كل ما يخلد ذكرها ويرفع شأنها لا سيما إذا كان ذلك نابعا منها وصادرا عنها وكان صاحب هذه النفس صدوقا ما كذب قط رافعا عقيرته بزعامة الناس ودعوتهم إلى الحق وليس شيء أجل شأنا ولا أخلد ذكرا من القرآن الكريم الذي جمع الله به شمل أمة وأقام به خير ملة وأسس به أعظم دولة فما كان لمحمد أن يزهد في هذا المجد الخالد ولا أن يتنصل من نسبته إليه لو كان من وصفه وصنعه وهو يدعو الخلق إلى الإيمان به وبما جاء به! وأي وجه لمحمد في أن يتنصل من نسبة القرآن إليه وهو صاحبه إنه إن كان يطلب الوجاهة والعلو والمجد فليس شيء أوجه له ولا أعلى ولا أمجد من أن يكون هذا القرآن كلامه وإن كان يطلب هداية الناس فالناس يسرهم أن يأخذوا الهداية مباشرة ممن يعجز الجن والإنس بكلامه ويتحدى كل جيل وقبيل ببيانه ويقهر كل معارض ومكابر ببرهانه ولو كان القرآن من تأليف محمد لأثبت به ألوهيته بدلا من نبوته لأن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر إلا عن إله كما بينا في الوجوه السالفة للإعجاز وإذن لكانت تلك الألوهية أبلغ في نجاح دعوته وأرجى في ترويج ديانته لأن الناس تبهرهم الألوهية أكثر مما تبهرهم النبوة ويشرفهم أنهم أتباع إله أكثر من أن يشرفهم أنهم أتباع رسول لم يخرج ولن يخرج يوما من أرض العبودية ولم يرتق ولن يرتقي يوما إلى سماء الربوبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 فلو كان محمد صاحب هذا التنزيل لخرج عن مستوى الخلق جملة ولظهر في أفق الألوهية يطل على العالم بعظمه تنقطع دونها الأعناق وتخضع لها الرقاب وأن يحقق كل ما اقترحه معارضوه من الآيات ولكنه اعترف بعبوديته حينذاك وتبرأ من حوله وقوته إزاء هذا الكتاب وغيره من المعجزات وخوارق العادات اقرأ في سورة الإسراء: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً , أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً , أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً , أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} ؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه ومعنى هذا أن القرآن بلغ في تأثيره ونجاحه مبلغا خرق به العادة في كل ما عرف من كتب الله والناس وخرج عن المعهود في سنن الله من التأثير النافع بالكلام وغير الكلام وبيان ذلك أن الإصلاح العام الذي جاء به القرآن والانقلاب العالمي الذي تركه هذا الكتاب ما حدث ولم يكن ليحدث في أي عهد من عهود التاريخ قديمه وحديثه إلا على أساس من الإيمان العميق القائم على وجدان قوي بحيث يكون له من السلطان القاهر على النفوس والحكم النافذ على العواطف والميول ما يصد الناس عن نهجهم الأول في عقائدهم التي توارثوها وعبادتهم التي ألفوها وأخلاقهم التي نشؤوا عليها وعاداتهم التي امتزجت بدمائهم وما يحملهم على اعتناق هذا الدين الجديد الذي هدم تلك الموروثات فيهم وحارب تلك الأوضاع المألوفة لديهم. وهذا الأساس الذي لا بد منه تقصر عنه في العادة جميع الكتب التعليمية التي يؤلفها العلماء والمصلحون وتعجز عن إيجاده كافة القوانين البشرية التي يضعها القادة والمشترعون لأن قصارى هذه الكتب والقوانين إذا وفقت أن تشرح الحقائق وتبين الواجهات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 لا أن تحمل على الإيمان والإذعان وتدفع إلى العمل بوحي هذا الإيمان وإذا فرض أن يؤمن بها أصحاب الاستعداد السليم فإيمان مجرد حينئذ من قوة الدفع ودفعة التحويل ولا سبيل في العادة إلى التأثير بها على الجماهير ونجاحها فيهم نجاحا عاما إلا بأمرين أحدهما تربية الأحداث وترويضهم عليها علما وعملا من عهد الطفولة والآخر قوة حاكمة تحمل الكبار على احترامها حملا بالقوة والقهر ومع هذا وذاك فتربية الصغار على هذا الغرار هيهات أن تكون تربية استقلالية بل هي تقليدية تفقد الدليل والبرهان وكذلك إجبار الكبار هيهات أن يصل إلى موضع الإذعان والوجدان!. لكن القرآن الكريم وحده وهو الذي نفخ الإيمان في الكبار والصغار نفخا وبثه روحا عاما وأشعر النفوس بما جاء فيه إشعارا ودفعها إلى التخلي عن موروثاتها ومقدساتها جملة وحملها على التحلي بهدية الكريم علما وعملا على حين أن الذي أتى بهذا القرآن رجل أمي لا دولة له ولا سلطان ولا حكومة ولا جند ولا اضطهاد ولا إجبار إنما هو الاقتناع والرغبة والرضا والإذعان {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أما السيف ومشروعية الجهاد في الإسلام فلم يكن لأجل تقرير عقيدة في نفس ولا لإكراه شخص أو جماعة على عبادة ولكن لدفع أصحاب السيوف عن إذلاله واضطهاده وحملهم على أن يتركوا دعوة الحق حرة طليقة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. هذا الأساس الذي وضعه القرآن وحده هو سر نهضته وإن شئت فقل هو نار ثورته بل هو نور هدايته والروح الساري لإحياء العالم بدعوته وذلك عن طريق أسلوبه المعجز الذي هو النفوس والمشاعر وملك القلوب والعقول وكان له من السلطان ما جعل أعداءه منذ نزوله إلى اليوم يخشون بأسه وصولته ويخافون تأثيره وعمله أكثر مما يخافون الجيوش الفاتحة والحرب الجائحة لأن سلطان الجيوش والحروب لا يعدو هياكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 الأجسام والأشباح أما سلطان هذا الكتاب فقد امتد إلى حرائر النفوس وكرائم الأرواح بما لم يعهد له نظير في أية نهضة من النهضات!. ولقد أشار القرآن نفسه إلى هذه الوجه من وجوه إعجازه حين سمى الله كتابه روحا من أمره بقوله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} وحين سماه نورا بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} وحين وصف بالحياة والنور من آمن به في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وفي قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} . هذا التأثير الخارق أو النجاح الباهر الذي نتحدث فيه أدركه ولا يزال يدركه كل من قرأ القرآن في تدبر وإمعان ونصفه حاذقا لأساليبه العربية ملما بظروفه وأسباب نزوله أما الذين لم يحذقوا لغة العرب ولم يحيطوا بهذه الظروف والأسباب الخاصة فيكفيهم أن يسألوا التاريخ عما حمل هذا الكتاب من قوة محولة غيرت صورة العالم ونقلت حدود الممالك وعن طريق استيلائها على قلوب المخاطبين به لأول مرة استيلاء أشبه بالقهر وما هو بالقهر وأفعل من السحر وما هو بالسحر سواء في ذلك أنصاره وأعداؤه ومحالفوه ومخالفوه وما ذاك إلا لأنهم ذاقوا بسلامة فطرتهم العربية بلاغته ولمسوا بحاستهم البيانية إعجازه فوجد تياره الكهربائي موضعا في نفوسهم لشرارة ناره أو لهطول غيثه وانبلاج أنواره!. تأثيره في أعدائه: أما أعداؤه المشركين فقد ثبت أنه جذبهم إليه بقوته في مظاهر كثيرة نذكر بعضها على سبيل التمثيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 الأجسام والأشباح أما سلطان هذا الكتاب فقد امتد إلى حرائر النفوس وكرائم الأرواح بما لم يعهد له نظير في أية نهضة من النهضات!. ولقد أشار القرآن نفسه إلى هذه الوجه من وجوه إعجازه حين سمى الله كتابه روحا من أمره بقوله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} وحين سماه نورا بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} وحين وصف بالحياة والنور من آمن به في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وفي قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} . هذا التأثير الخارق أو النجاح الباهر الذي نتحدث فيه أدركه ولا يزال يدركه كل من قرأ القرآن في تدبر وإمعان ونصفه حاذقا لأساليبه العربية ملما بظروفه وأسباب نزوله أما الذين لم يحذقوا لغة العرب ولم يحيطوا بهذه الظروف والأسباب الخاصة فيكفيهم أن يسألوا التاريخ عما حمل هذا الكتاب من قوة محولة غيرت صورة العالم ونقلت حدود الممالك وعن طريق استيلائها على قلوب المخاطبين به لأول مرة استيلاء أشبه بالقهر وما هو بالقهر وأفعل من السحر وما هو بالسحر سواء في ذلك أنصاره وأعداؤه ومحالفوه ومخالفوه وما ذاك إلا لأنهم ذاقوا بسلامة فطرتهم العربية بلاغته ولمسوا بحاستهم البيانية إعجازه فوجد تياره الكهربائي موضعا في نفوسهم لشرارة ناره أو لهطول غيثه وانبلاج أنواره!. تأثيره في أعدائه: أما أعداؤه المشركين فقد ثبت أنه جذبهم إليه بقوته في مظاهر كثيرة نذكر بعضها على سبيل التمثيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 في المدينة هما مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما وقد نجح هذان في مهمتهما أكثر نجاح وأحدثا في المدينة ثورة فكرية أو حركة تبشيرية جزع لها سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس حتى قال لابن أخيه أسيد بن حضير ألا تذهب إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يسفهان ضعفاءنا فتزجرهما فلما انتهى إليهما أسيد قال لهما ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا ثم هددهما وقال اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة رضي الله عن مصعب فقد تغاضى عن هذه التهديد وقال لأسيد في وقار المؤمن وثباته أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كفننا عنك ما تكره ثم قرأ مصعب القرآن وأسيد يسمع فما قام من مجلسه حتى أسلم ثم كر راجعا إلى سعد فقال له والله ما رأيت بالرجلين بأسا فغضب سعد وذهب هو نفسه ثائرا مهتاجا فاستقبله مصعب بما استقبل به أسيدا وانتهى الأمر بإسلامه أيضا ثم كر راجعا فجمع قبيلته وقال لهم ما تعدونني فيكم قالوا سيدنا وابن سيدنا فقال سعد كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تسلموا فأسلموا أجمعين!. تأثير القرآن في نفوس أوليائه: تلك مظاهر لفعل القرآن بنفوس شانئيه فهل تدري ماذا فعل بهم بعد أن دانوا له وآمنوا به وأصبحوا من تابعيه ومحبيه لعلك لم تنس ما فعل القرآن بعمر وسعد وأسيد الذين نوهنا بهم بين يديك ألم يعودوا من خيرة جنود الإسلام ودعاته من يوم أسلموا بل من ساعة أسلموا وهناك مظاهر أربعة لهذا الضرب أيضا. المظهر الأول تنافسهم في حفظه وقراءته في الصلاة وفي غير الصلاة حتى لقد طاب لهم أن يهجروا لذيد منامهم من أجل تهجدهم به في الأسحار ومناجاتهم العزيز الغفار وما كان هذا حالا نادرا فيهم بل ورد أن المار على بيوت الصحابة بالليل كان يسمع لها دويا كدوي النحل بالقرآن وكان التفاضل بينهم بمقدار ما يحفظ أحدهم من القرآن وكانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 المرأة ترضى بل تغتبط أن يكون مهرها سورة يعلمها إياها زوجها من القرآن؟. المظهر الثاني: عملهم به وتنفيذهم لتعاليمه في كل شأن من شؤونهم تاركين كل ما كانوا عليه مما يخالف تعاليمه ويجافي هداياته طيبة بذلك نفوسهم طيعة أجسامهم سخية أيديهم وأرواحهم حتى صهرهم القرآن في بوتقته وأخرجهم للعالم خلقا آخر مستقيم العقيدة قويم العبادة طاهر العادة كريم الخلق نبيل المطمح!. المظهر الثالث: استبسالهم في نشر القرآن والدفاع عنه وعن هدايته فأخلصوا له وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه وهو مدافع عنه ومنهم من انتظر حتى أتاه اليقين وهو مجاهد في سبيله مضح بنفسه ونفيسه ولقد بلغ الأمر إلى حد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرد بعض من يتطوع بالجندية من الشباب لحداثة أسنانهم وكان كثير من ذوي الأعذار يؤلمهم التخلف عن الغزو حتى يضطر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخلف معهم جبرا لخاطرهم ويرسل سراياه وبعوثه بعد أن ينظمها ويزودها بما تحتاجه ولا يخرج معهم روى مالك والشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل"!. المظهر الرابع: ذلك النجاح الباهر الذي أحرزه القرآن في هداية العالم فقد وجد قبل النبي صلى الله عليه وسلم أنبياء ومصلحون وعلماء ومشترعون وفلاسفة وأخلاقيون وحكام ومتحكمون فما تسنى لأحد من هؤلاء بل ما تسنى لجميعهم أن يحدثوا مثل هذه النهضة الرائعة التي أحدثها محمد في العقائد والأخلاق وفي العبادات والمعاملات وفي السياسة والإدارة وفي كافة نواحي الإصلاح الإنساني وما كان لمحمد ولا لألف رجل غير محمد أن يأتوا بمثل هذا الدستور الصالح الذي أحيا موات الأمة العربية في أقل من عشرين سنة ثم نفخ فيهم من روحه فهبوا بعد وفاته ينقذون العالم ففتحوا ملك كسر وقيصر ووضعوا رجلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 في الشرق ورجلا في الغرب وخفقت رايتهم على نصف المعمور في أقل من قرن ونصف قرن من الزمان. أفسحر هذا؟ أم هو برهان عقلي لمحه المنصفون من الباحثين فاكتفوا من محمد صلى الله عليه وسلم بهذا النجاح الباهر دليلا على أنه رسول من رب العالمين. هذا فيلسوف من فلاسفة فرنسا يذكر في كتاب له ما زعمه دعاة النصرانية من أن محمدا لم يأت بآية على نبوته كآيات موسى وعيسى ثم يفند هذا الزعم ويقول إن محمدا كان يقرأ القرآن خاشعا أواها متألها فتفعل قراءته في جذب الناس إلى الإيمان به ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين! أجل لقد صدق الرجل فإن فعل القرآن في نفوس العرب كان أشد وأرقى وأبلغ مما فعلت معجزات جميع الأنبياء وإن شئت مقارنة بسيطة فهذا موسى عليه السلام قد أتى بني إسرائيل بآيات باهرة من عصا يلقيها فإذا هي ثعبان مبين ومن يد يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين ومن انفلاق البحر فإذا هو طريق يابسة يمشون فيها ناجين آمنين إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في مصر وفي طور سينا مدة التيه فهل تعلم مدى تأثير هذه الهدايات في إيمانهم بالله ووحدانيته وإخلاصهم لدينه ونصرة رسوله إنهم ما كادوا يخرجون من البحر بهذه المعجزة الإلهية الكبرى ويرون بأعينهم عبدة الأصنام والأوثان حتى كان منهم ما حكاه الله في القرآن: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . ثم لما ذهب موسى إلى مناجاة ربه واستخلف عليهم أخاه هارون عليهما السلام نسوا الله تعالى وحنوا إلى ما وقر في نفوسهم من الوثنية المصرية وخرافاتها فعبدوا العجل كما تحدثت سورة الأعراف بذلك: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ولما دعاهم موسى إلى قتال الجبارين ودخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أبوا وخالفوا وفضلوا القعود والاستخذاء على الجلاد والنزول إلى ميادين الجهاد {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} !.. هؤلاء أصحاب موسى فانظر إلى أصحاب محمد كيف تأثروه بالقرآن حتى ليحدث التاريخ عنهم أنهم قطعوا شجرة الرضوان وهي تلك الشجرة التاريخية المباركة التي ورد ذكرها في القرآن وما هذا إلا لأن الناس تبركوا بها فخاف عمر إن طال الزمان بالناس أن يعودوا إلى وثنيتهم ويعبدوها فأمر بقطعها ووافقه الصحابة على ذلك!. وكذلك يذكر التاريخ أن محمدا صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه حين عزم على قتال المشركين في غزوة بدر فقالوا: والله لو استعرضت بنا هذا البحر يريدون البحر الأحمر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد إنا لا نقول لك ما قال قوم موسى لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} : ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون هكذا كانوا يفضلون مصافحة المنايا في ميادين الجهاد ويتهافتون على الغزو طمعا في الاستشهاد وهكذا حرصوا على الموت فوهبهم الله الحياة وأتقنوا صناعة الموت فدانت لهم الملوك وعنت الكماة {وَ َمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وجوه معلولة ذكر بعضهم وجوها أخرى للإعجاز ولكنها لا تسلم في نظرنا من طعن لأن منها ما يتداخل بعضه في بعض ومنها ما لا يجوز أن يكون وجها من وجوه الإعجاز بحال ونمثل لهذا الذي ذكروه بتلك الأوجه العشرة التي عدها القرطبي وهي: 1 - نظمه البديع المخالف لكل نظم معهود. 2 - أسلوبه العجيب المخالف لجميع الأساليب. 3 - جزالته التي لا تمكن لمخلوق. 4 - التصرف في الألفاظ العربية على وجه لا يستقل به عربي. 5 - الوفاء بالوعد المدرك بالحسن والعيان كوعد المؤمنين بالنصر وغير ذلك. 6 - الأخبار عن المغيبات المستقبلة التي لا يطلع عليها إلا بالوحي. 7 - ما تضمنه القرآن من العلوم المختلفة التي بها قوام الأنام. 8 - اشتماله على الحكم البالغة. 9 - عدم الاختلاف والتناقض بين معانيه. 10 - الإخبار عن الأمور التي تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله بما لم تجر العادة بصدوره ممن لم يقرأ الكتاب ولم يتعلم ولم يسافر إلى حيث يختلط بأهل الكتاب. فإن المتأمل في هذه الأوجه يلاحظ أن أسلوب القرآن العجيب يشمل جزالته التي لا تمكن لمخلوق ويشمل التصرف في الألفاظ العربية على وجه لا يستقل به عربي ويلاحظ أيضا أن الوفاء بالوعد المدرك بالحس والعيان كوعد المؤمنين بالنصر ينضوي تحت مضمون الإخبار بالمغيبات وكذلك الأمور التي تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله تنتظم في سلك الإخبار بالغيبات ويلاحظ كذلك أن الاشتمال على الحكم البالغة وعدم الاختلاف والتناقض بين معانيه لا يصلح واحد منها أن يكون وجها من وجوه الإعجاز لأنهما لا يخرجان عن حدود الطاقة بل كثيرا ما نجد كلام الناس مشتملا على حكم وسليما من التناقض والاختلاف. وبعضهم جعل وجه الإعجاز في القرآن هو الفصاحة وحدها وذلك غير سديد أيضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 لأن مجرد الفصاحة دون مراعاة لمقتضى الحال أمر لا يخرج بالكلام عن المعهود في مقدور البشر فكثيرا ما يكون الكلام البشري فصيحا لكن تعوزه الخصائص والنكات الزائدة التي هي مناط بلاغته في أقل درجاته فضلا عن إعجازه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 شبهة القول بالصرفة ومن الباحثين من طوعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة أي صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية وضربوا لذلك مثلا فقالوا إن الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته إما لأن البواعث على هذا العمل لم تتوافر وإما لأن الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأن حادثا مفاجئا لا قبل له به قد اعترضه فعطل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهرا عنه على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن لم ينشأ من أن القرآن بلغ في بلاغته حد الإعجاز الذي لا تسمو إليه قدرة البشر عادة بل لواحد من ثلاثة: أولها أن بواعث هذه المعارضة ودواعيها لم تتوافر لديهم. ثانيها أن صارفا إليها زهدهم في المعارضة فلم تتعلق بها إرادتهم ولم تنبعث إليها عزائمهم فكسلوا وقعدوا على رغم توافر البواعث والدواعي. ثالثها أن عارضا مفاجئا عطل مواهبهم البيانية وعاق قدرهم البلاغية وسلبهم أسبابهم العادية إلى المعارضة على رغم تعلق إرادتهم بها وتوجه همتهم إليها. بهذا التوجيه أو نحوه يعزى القول بالصرفة إلى أبي إسحاق الإسفراييني من أهل السنة والنظام من المعتزلة والمرتضى من الشيعة وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التي التمسوها أو التمست لهم علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجيء من ناحية إعجازه البلاغي في زعمهم بل جاءت على الفرضين الأولين من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 المعارضة ولو أنهم حاولوها لنالوها وجاءت على الفرض الأخير من ناحية عجزهم عنه لكن بسبب خارجي عن القرآن وهو وجود مانع منعهم منها قهرا ذلك المانع هو حماية الله لهذا الكتاب وحفظه إياه من معارضة المعارضين وإبطال المبطلين ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه. تفنيد هذا القول وهذا القول بفروضه التي افترضوها أو بشبهاته التي تخيلوها لا يثبت أمام البحث ولا يتفق والواقع. أما الفرض الأول فينقضه ما سجل التاريخ وأثبت التواتر من أن دواعي المعارضة كانت قائمة موفورة ودوافعها كانت مائلة متآخذة وذلك لأدلة كثيرة: منها أن القرآن تحداهم غير مرة أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه ثم سجل العجز عليهم وقال بلغة واثقة إنهم لا يستطيعوا أن يفعلوا ولن يفعلوا ولو ظاهرهم الإنس والجن فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا ولو كانوا أجبن خلق الله؟. ومنها أن العرب الذين تحداهم القرآن كانوا مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم فكيف لا يحركهم هذا التحدي والاستفزاز؟. ومنها أن صناعتهم البيان وديدنهم التنافس في ميادين الكلام فكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة؟. ومنها أن القرآن أثار حفائظهم وسفه عقولهم وعقول آبائهم ونعى عليهم الجمود والجهالة والشرك فكيف يسكتون بعد هذا التقريع والتشنيع؟. ومنها أن القرآن أقام حربا شعواء على أعز شيء لديهم وهي عقائدهم المتغلغة فيهم وعوائدهم المتمكنة منهم فأي شيء يلهب المشاعر ويحرك الهمم إلى المساجلة أكثر من هذا ما دامت هذه المساجلة هي السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو استطاعوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وأما الفرض الثاني فينقضه الواقع التاريخي أيضا ودليلنا على هذا ما تواترت به الأنباء من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم ونالت منالها من عزائمهم فهبوا هبة رجل واحد يحاولون القضاء على دعوة القرآن بمختلف الوسائل فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه ولم يدعوا بابا إلا دخلوه. لقد آذوه صلى الله عليه وسلم وآذوا أصحابه فسبوا من سبوا وعذبوا من عذبوا وقتلوا من قتلوا. ولقد طلبوا إلى عمه أبي طالب أن يكفه وإلا نازلوه وإياه. ولقد قاطعوه وقاطعوا أسرته الكريمة لا يبيعون لهم ولا يبتاعون ولا يتزوجون منهم ولا يزوجون واشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر. ولقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التي تلين الحديد مفاوضات عدة وعرضوا عليه عروضا سخية مغرية منها أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا وأن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه وأن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا وأن يلتمسوا له الطب إن كان به مس من الجن كل ذلك في نظير أن يترك هذا الذي جاء به ولما أبي عليهم ذلك عرضوا عليه أن يهادنهم ويداهنهم فيعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة فأبى أيضا ونزل قول الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ونزلت كذلك سورة الكافرون. ولقد صادروه وصادروا أصحابه في عبادتهم وانبعث شقي منهم فوضع النجاسة على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وخنقه طاغية من طواغيتهم لولا أن جاء أبو بكر فدفعه وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} . ولقد اتهموه صلى الله عليه وسلم مرة بالسحر وأخرى بالشعر وثالثه بالجنون ورابعة بالكهانة وكانوا يتعقبونه وهو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم فيبهتونه ويكذبونه أمام من لا يعرفونه ولقد شدوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم ويتركوا أهلهم وأولادهم وأموالهم فرارا إلى الله بدينهم ولقد تآمروا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه لولا أن حفظه الله وحماه من مكرهم وأمره بالهجرة من بينهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 ولقد أرسلوا إليه الأذى بعد ذلك في مهاجره فشبت الحرب بينه وبينهم في خمس وسبعين موقعة منها سبع وعشرون غزوة وثمان وأربعون سرية. فهل يرضى عاقل لنفسه أن يقول بعد ذلك كله إن العرب كانوا مصروفين عن معارضة القرآن ونبي القرآن وإنهم كانوا مخلدين إلى العجز والكسل زاهدين في النزول إلى هذا الميدان؟ وهل يصح مع هذا كله أن يقال إنهم كانوا في تشاغل عن القرآن غير معنيين به ولا آبهين له؟ وإذا كان أمر القرآن لم يحركهم ولم يسترع انتباههم فلماذا كانت جميع هذه المهاترات والمصاولات مع أن خصمهم الذي يزعمون خصومته قد قصر لهم المسافة ودلهم على أن سبيلهم إلى إسكاته هو أن يأتوا بمثل أقصر سورة مما جاءهم به أليس ذلك دليلا ماديا على أن قعودهم عن معارضة القرآن ليست إلا بسبب شعورهم بعجزهم عن هذه المعارضة واقتناعهم بإعجاز القرآن وإلا فلماذا آثروا الملاكمة على المكالمة والمقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف؟! وقد يظن جاهل أن حماستهم في خصومتهم هذه ليس مبعثها شعورهم بقوة القرآن وإعجازه وإنما مبعثها بغضهم لمحمد وأصحابه ولكن هذا الظن يكذبه ما هو مقرر تاريخيا وثابت ثبوتا قطعيا من أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تكن بينهم وبين هؤلاء عداوة قبل نزول القرآن بل كانوا أمة واحدة وقبيلة واحدة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أحب الناس إليهم لدماثه أخلاقهم وللرحم الماسة التي بينهم. وقد يظن آخر أنت حماسة قريش في خصومتهم للنبي وأتباعه إنما كان مبعثها مجرد المخالفة في الدين بقطع النظر عن إعجاز هذا القرآن الكريم وهذا ظن خاطئ أيضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 لأمرين أحدهما أنه كان بين المشركين في جزيرة العرب يهود وأهل كتاب يخالفونهم في الدين فما أرث ذلك بينهم حربا ولا أوقد لخصومتهم نارا على مثل ما كان بينهم وبين محمد والآخر أنه كان يوجد بين العرب حنفاء من مقاويل الخطباء وفحول الشعراء كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة فما كان هذا ليثير حفائظهم ولا ليقفهم موقف الخصومة منهم بل رضوا بتحنفهم ومخالفتهم لدينهم ودين آبائهم وزادوا على ذلك أن سجلوا كلامهم في التوحيد وشعرهم في التنزيه والتمجيد لأنهم لم يجدوا في هذا المنظوم والمنثور مثل ما وجدوا في القرآن من شدة التأثير وقوة الدفع ذلك الكتاب الذي جاءهم من فوقهم وكان له شأن غير شأنهم ورأوا فيه من مسحة الألوهية ما جعله روحا من أمر الله يتحرك به كل من سمع صوته ويهتز له كل من شام برقه ولا سبيل إلى وقف تياره وأثره إلا بالوقوف في وجهه والحيلولة بين الناس وبينه روى أبو داود والترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي" فتأمل كلمة "أن أبلغ كلام ربي" ولم يقل منعوني أن أتلو أو أعمل في نفسي بكلام ربي لأن التلاوة والعمل من غير استعلان بالقرآن ونشر له كان لا يؤثر على قريش كثيرا إنما الذي كان يحز في نفوسهم ويقض من مضاجعهم هو نشر هذا النور الذي يكاد يخطف الأبصار وإعلان هذا الكتاب الذي يجذب القلوب والأفكار وكان من تأثيره وفتحه وعزوة للنفوس ما ألمعنا إليه في إسلام عمر وسعد وأسيد! وأما الفرض الثالث فينقضه ما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا عن معارضته اقتناعا بإعجازه وعجزهم الفطري عن مساجلته ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطل قواهم البيانية لأثر عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التي شرحناها ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ولكان ذلك مثار عجب لهم ولأعلنوا ذلك في الناس ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن في ذاته ولعمدوا إلى كلامهم القديم فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه ولكانوا بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 نزول القرآن أقل فصاحة وبلاغة منهم قبل نزوله ولأمكننا نحن الآن وأمكن المشتغلين بالأدب العربي في كل عصر أن يتبينوا الكذب في دعوى إعجاز القرآن وكل هذه اللوازم باطلة؟ فبطل ما استلزمها وهو القول بالصرفة بناء على هذه الشبهة الهازلة. ثم ألم يكف هؤلاء شهادة أعداء القرآن أنفسهم في أوقات تخليهم من عنادهم كتلك الشهادة التي خرجت من فم الوليد والفضل ما شهدت به الأعداء؟ ثم ألم يكفهم ما في القرآن من وجوه الإعجاز الكثيرة التي دللنا عليها فيما سبق؟ والتي لا تزال قائمة ماثلة ناطقة إلى يومنا هذا ولا تزيدها الأيام وما يجد في العالم من علوم ومعارف وتجارب إلا وضوحا وبيانا؟!. إني لأعجب من القول بالصرفة في ذاته ثم ليشتد عجبي وأسفي حين ينسب إلى ثلاثة من علماء المسلمين الذي نرجوهم للدفاع عن القرآن ونربأ بأمثالهم أن يثيروا هذه الشبهات في إعجاز القرآن!. على أنني أشك كثيرا في نسبة هذه الآراء السقيمة إلى أعلام من العلماء ويبدو لي أن الطعن في نسبتها إليهم والقول بأنها مدسوسة من أعداء الإسلام عليهم أقرب إلى العقول وأقوى في الدليل لأن ظهور وجوه الإعجاز في القرآن من ناحية وعلم هؤلاء من ناحية أخرى قرينتان مانعتان من صحة عزو هذا الرأي الآثم إليهم. ولقد عودنا أعداء الإسلام أن يفتروا على رسول الله وعلى أصحابه وعلى الأئمة والعلماء فلم لا يكون هذا منه؟ على أن الحق لا يعرف بالرجال إنما يعرف الحق بسلامة الاستدلال وها قد طاش هذا الرأي في الميزان فلنرده على قائله أيا كان. وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وأحب أن تلتفت إلى أن هذه الشبهة قد أثارها أعداء الإسلام فيما أثاروا وصوبوا منها سهما طائشا إلى القرآن وإعجازه فلنكتف بنقضنا لها هنا عن إعادتها بين ما سنذكره في دفع الشبهات هناك إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 دفع الشبهات الواردة في هذا المقام لقد كان ما ذكرناه من وجوه الإعجاز الأربعة عشر كافيا للقضاء على كل شبهة ولرد كل فرية ومحو كل تهمة لولا أن المخذولين من أعداء الإسلام وجدوا آذانا صاغية من نفوس عزيزة علينا وفئات متعلمة تعلما مدنيا فتأثروا بدجلهم ثم رضوا أن يكونوا أبواقا لهم يرددون شبهاتهم على تلاميذنا في الجامعات والمدارس ويطلقون بخورهم على جماهيرنا في المطبوعات والأندية والمجالس لهذا كان من واجبنا أن نحشد قوانا لتطهير الجو الإسلامي من هذه الجراثيم الفتاكة والمطاعن الجارية الهدامة وألا نكتفي عند المناسبة بذكر أحد المتلازمين عن الآخر اللهم إلا إذا كان الأمر ظاهرا لا يحتاج إلى تنبيه أما عند الحاجة فقد نكرر ما سبق لنا ذكره ولكن بمقدار الحاجة من غير إكثار. ونلفت نظرك إلى ما أسلفناه من الكلام على الوحي بين مثبتيه ومنكريه بالمبحث الثالث من هذا الكتاب "ص 57 – 84" من الجزء الأول وإلى ما حواه هذا الكلام من أدلة علمية عقلية ومن تفنيد شبهات عشر تتصل بإعجاز القرآن عن قرب أو بعد. ثم نلفت نظرك أيضا إلى نقض تلك الشبهات الست التي أثيرت حول المكي والمدني من القرآن "ص 198 - 232 بالجزء الأول". ونرشدك إلى أننا راعينا عند كلامنا على أسلوب القرآن وإعجازه تفصيلات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وتوجيهات نعتقد أن فيها غناء عن دفع كثير من الشبهات فاحرص عليها ثم اشدد يديك على ما يلقى إليك. الشبهة الأولى ودفعها: يقولون إن محمدا لقي بحيرا الراهب فأخذ عنه وتعلم منه وما تلك المعارف التي في القرآن إلا ثمرة هذا الأخذ وذاك التعلم. وندفع هذا أولا بأنها دعوى مجردة من الدليل خالية من التحديد والتعيين ومثل هذه الدعاوى لا تقبل ما دامت غير مدللة وإلا فليخبرونا ما الذي سمعه محمد من بحيرا الراهب ومتى كان ذلك وأين كان؟. ثانيا أن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام في تجارة مرتين مرة في طفولته ومرة في شبابه ولم يسافر غير هاتين المرتين ولم يجاوز سوق بصرى فيهما ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين ولم يك أمره سرا هناك بل كان معه شاهد في المرة الأولى وهو عمه أبو طالب وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول بتجارتها أيامئذ وكل ما هنالك أن بحيرا الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن ثم حذره عليه من اليهود وقد رجع به عمه خوفا عليه ولم يتم رحلته كذلك روي هذا الحادث من طرق في بعض أسانيدها ضعف ورواية الترمذي ليس فيها اسم بحيرا وليس في شيء من الروايات أنه صلى الله عليه وسلم سمع من بحيرا أو تلقى منه درسا واحدا أو كلمة واحدة لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق فأنى يؤفكون؟. ثالثا أن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته وليس بمعقول أن يؤمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 رجل بهذه البشارة التي يزفها ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى عن جبريل ويكون هو أستاذ الأستاذين وهادي الهداة والمرشدين وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه. رابعا أن بحيرا الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم. خامسها أنه يستحيل في مجرى العادة أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف بحيث يصبح أستاذ العالم كله لمجرد أنه لقي مصادقة واتفاقا راهبا من الرهبان مرتين على حين أن التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة وكان صغيرا تابعا لعمه في المرة الأولى وكان حاملا لأمانة ثقيلة في عنقه لا بد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها. سادسا أن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرا تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهداياته خصوصا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف. وحسبك أدلة على ذلك ما أقمناه من المقارنات السابقة بين تعاليم القرآن وتعاليم غيره وما قررناه من الوفاء في تعاليم القرآن دون غيره وما أشرنا إليه من أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب في زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتصحيحها وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حض على تركها فارجع إلى ما أسلفناه ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرا للصواب وأن الظلام لا يمكن أن يكون مشرقا للنور. سابعا أن أصحاب هذه الشبهة من الملاحدة يقولون إن القرآن هو الأثر التاريخي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل فإذا كانوا صادقين في هذه الكلمة فإننا نحاكمهم في هذه الشبهة إلى القرآن نفسه وندعوهم أن يقرؤوه ولو مرة واحدة بتعقل ونصفه ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتابها في عصره وليعلموا أنها ما كانت تصلح لأستاذية رشيدة بل كانت هي في أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحون ويريحون الناس من هذا الضلال والزيغ ومن ذلك الخبط والخلط هدانا وهداهم الله فإن الهدي هداه. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . ثامنا أن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة لكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء الملاحدة فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره لم يفكروا بأن يقولوا إنه تعلم من بحيرا الراهب كما قال هؤلاء لأن العقل لا يصدق ذلك والهزل لا يسعه بل لجؤوا إلى رجل في نسبة الأستاذية إليه شيء من الطرافة والهزل حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها فقالوا إنما يعلمله بشر وأرادوا بالبشر حدادا روميا منهمكا بين مطرقته وسندانه ضالا طول يومه في خبث الحديد وناره ودخانه غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط ترويج تهمتهم أحدهما أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد الاتصال الدائم الوثيق به والتلقي عنه والآخر غريب عنهم وليس منهم ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعا يدل عليه لأن هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية فليس بمعقول أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية. {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} !. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الشبهة الثانية ودفعها: يقولون نحن لا نشك في صدق محمد في إخباره عما رأى وسمع ولكنا نعتقد أن نفسه هي منبع هذه الأخبار لأنه لم يثبت علميا أن هناك غيبا وراء المادة يصح أن يتنزل منه قرآن أو يفيض عنه علم أو يأتي منه دين ثم ضربوا لذلك مثلا فقالوا إن الفتاة الفرنسية جان دارك الناشئة في القرن الخامس عشر الميلادي قد حدث التاريخ عنها أنها اعتقدت وهي في بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ودفع العدو عنه واعتقدت أنها تسمع صوت الوحي الإلهي يحضها على القتال والجهاد وانطلقت تحت هذا التأثير فجردت حملة على أعداء وطنها وقادت الجيش بنفسها فقهرتهم ثم دارت الدائرة فوقعت أسيرة وماتت ميتة الأبطال في ميدان النزال ولا يزال ذكرها يتلألأ نورا ويعبق أريجا حتى لقد قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها بعد موتها بزمن. وندفع هذه الشبهة بأمور: أولها تلك الأدلة العلمية التي أقمناها هناك على إثبات الوحي الإلهي الحقيقي لا الوحي النفسي الخيالي مع دفع الشبهات الواردة عليها بالمبحث الثالث من هذا الكتاب. ثانيها هذه الأدلة الأربعة عشر التي أقمناها وجوها لإعجاز القرآن في هذا المبحث ففي كل وجه منها دفع كاف لهذه الشبهة عند التأمل والإنصاف لأن الإنسان محدود القوى والمواهب فلا يستطيع أن يخرق النواميس الكونية العادية وما ذكرناه من وجوه إعجاز القرآن فيه أربعة عشر دليلا على حرف القرآن للنواميس الكونية المعتادة وخرقها لا يملكها إلا من قهر الكون ونواميسه وكان له السلطان المطلق على العالم وما فيه وهو الله وحده لا محمد ولا غير محمد لا بالعقل الباطن ولا الظاهر لا بالوحي النفسي ولا الانفعال العصبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ثالثها أن الدراس لتاريخ هذه الفتاة يعلم أن أعصابها كانت ثائرة لتلك الانقسامات الداخلية التي مزقت فرنسا والتي كانت تراها وتسمعها كل يوم بين أهلها وفي بلدها جوارد ورمي مع ما شاع في عهدها من خرافات كان لها أثرها في نفسها وعقلها ومخها من تلك الخرافات أن فتاة عذراء ستبعث في هذا الزمن تخلص فرنسا من عدوها يضاف إلى هذا أن الفتاة كانت بعيدة الخيال تسبح فيه يقظة ومناما وتتوهم منذ حداثتها بأنها ترى وتسمع ما لم تر ولم تسمع حتى خيل إليها أنها دعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها ولما تعدى البرغنيور على قريتها التي ولدت فيها قوي عندها هذا الخيال حتى صار عقيدة إلى غير ذلك مما يدل على أن الفتاة كانت أعصابها متهيجة تهيجا ناشئا عن تألمها من الحال السياسة السيئة في بلادها وعن تأثرها بالاعتقادات الخرافية التي سادت زمنها. وليس هذا بدعا فكم رأينا وسمعنا أصحاب دعايات عريضة يعتمدون فيها على مثل هذه الخيالات الباطلة كالذين قاموا باسم المهدي المنتظر يدعون ويحاربون وكغلام أحمد القادياني والباب البهائي الذين أقام كل منهما نحلته الباطلة على أوهام فارغة. لكن محمدا لم يك عصبيا ثائرا مهتاجا بل كان وقورا متزن العقل ثابت الفؤاد قوي الأعصاب يثور الشجعان من حوله وهو لا يثور ويشطح الناس ويسرفون في الخيال وهو واقف مع الحجة يكره الشطح والإسراف في الخيال بل يحارب الإسراف في الخيال وما يستلزمه ويرد هؤلاء المسرفين إلى حظيرة الحقائق ويحاكمهم إلى العقل ألم تر إلى القرآن كيف يذم الشعراء الذين يركبون مطايا الخيال إلى حد الغواية ويقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ , أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ , وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ , إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وانظر كيف ينفي القرآن أنه شعر وأن الرسول شاعر فيقول: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ , لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وتأمل ما جاء في صحيح مسلم وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم أبى على عائشة أم المؤمنين أن تقول في شأن صبي من الأنصار جيء به ميتا ليصلي عليه طوبى لهذا لم يعمل شرا فقال صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم". مع أن أطفال المسلمين يعلم الله أنهم في الجنة لكن توقف الرسول صلى الله عليه وسلم وإباءه على عائشة أن تقول هذا كان قبل أن يعلمه الله ذلك فلم يسمح لها أن تسير مع الوهم أو الظن ما دام الأمر غيبا ولا يعلم الغيب إلا الله. وتدبر ما رواه البخاري من أنه لما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت أم العلاء امرأة من الأنصار رحمه الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله, فقال صلى عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه؟ " فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ الله قال: "أما هو فقد جاءه اليقين. والله إني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي", قالت: فوالله لا أزكى أحدا بعده أبدا وكذلك يقول القرآن الكريم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} . فهل يعقل أن يقاس صاحب هذه الدقة البالغة والتثبت الدقيق بفتاة خفيفة سابحة في أوهامها غريقة في أحلامها؟!. رابعها: أن تلك الفتاة جان دارك لم تأت ولا بدليل واحد معقول على صدق أوهامها وتخيلاتها التي تزعمها وحيا وحديثا من الله إليها لكن محمدا صلى الله عليه وسلم له على وحيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 الذي يدعيه ألف دليل ودليل كما سبق بيانه فأين الثرى من الثريا وأين الظلام من النور؟. خامسها أن هذه الفتاة الهائجة الثائرة لم تكن صاحبة دعوة إلى إصلاح ولا ذات أثر باق في التاريخ إنما كانت صاحبة سيف ومسعرة حرب في فترة من الزمن لغرض مشترك بين الإنسان والحيوان وهو الدفاع عن النفس والوطن بمقتضى غريزة حب البقاء ثم لم تلبث جذوتها أن بردت وحماستها أن خمدت. كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر فأين هذه الآنسة الثائرة من أفضل الخلق في دعوته الكبرى وأثره الخالد في إصلاح أديان البشر وشرائعهم وأعمالهم وأخلاقهم وفي إنقاذ الإنسانية العانية وتجديد دمها بدينه الجديد الذي قلب به أوضاع الدنيا ونقل بسببه العالم إلى طور سعيد بل إلى الطور السعيد الذي لولاه لدام يتخبط في الظلمات ولبات في عداد الأموات أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟! الشبهة الثالثة ودفعها: يقولون إنه: صلى الله عليه وسلم كان يلقى ورقة بن نوفل فيأخذ عنه ويسمع منه وورقة لا يبخل عليه لأنه قريب لخديجة زوج محمد يريدون بهذا أن يوهموا قراءهم وسامعيهم بأن هذا القرآن استمد علومه من هذا النصراني الكبير الذي يجيد اللغة العبرية ويقرأ بها ما شاء الله. وندفع هذه الشبهة بمثل ما دفعنا به ما قبلها ونقرر أنه لا دليل عندهم على هذا الذي يتوهمونه ويوهمون الناس به بل الدليل قائم عليهم فإن الروايات الصحيحة تثبت أن خديجة ذهبت بالنبي حين بدأه الوحي إلى ورقة ولما قص الرسول قصصه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى ثم تمنى أن يكون شابا فيه حياة وقوة ينصر بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤازره حين يخرجه قومه ولم تذكر هذه الروايات الصحيحة أنه ألقى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عظة أو درس له درسا في العقائد أو التشريع ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد عليه كما يتوهمون أو يوهمون فأنى لهم ما يقولون وأي منصف يسمع كلمة ورقة هذه ولا يفهم منها أنه كان يتمنى أن يعيش حتى يكون تلميذا لمحمد وجنديا مخلصا في صفه ينصره ويدافع عنه في وقت المحنة ولكن القوم ركبوا رؤوسهم على رغم ذلك وحاولوا قلب الأوضاع وإيهام أن ورقة هو الأستاذ الخصوصي الذي استقى منه محمد دينه وقرآنه ألا ساء ما يحكمون؟. الشبهة الرابعة ودفعها: يقولون: إن إعجاز القرآن للبشر عن أن يأتوا بمثله لا يدل على قدسيته وأنه كلام الله وشاهد ذلك أن لكل متأدب أسلوبا خاصا به يتبع استعداده الأدبي ومزاجه الشخصي وهذا الأسلوب الخاص يستحيل على غيره أن يأتي بمثله ضرورة اختلاف مواهب المتأدبين وأمزجتهم ومع هذا فإعجاز كل أسلوب لغير صاحبه وعجز كل متأدب عن الإتيان بأسلوب غيره لم يضف على الأساليب البشرية شيئا من القدسية وأنها كلام الله فكذلك القرآن يزعمون أنه كلام محمد ويعترفون بإعجازه على هذا النحو. وندفع هذه الشبهة أولا بوجوه الإعجاز التي بسطناها سابقا غير وجه الإعجاز بالأسلوب. ثانيا أن هذه الشبهة مغالطة فإن التحدي بالقرآن ليس معناه مطالبة الناس أن يجيئوا بنفس صورته الكلامية ومنهاجه المعين الذي انفرد به أسلوبه حتى ترد هذه الشبهة بل معناه مطالبة الناس أن يجيئوا بكلام من عندهم أيا كانت صورته ومزاجه وأيا كان نمطه ومنهاجه ولكن على شرط ألا يطيش في الميزان إذا قيس هو والقرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 بمقياس واحد من البيان بل يظهر أنه يماثله أو يقاربه في خصائصه وإن كان على صورة بيانية غير صورته هذا هو ما يتحداهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يتنافس فيه البلغاء عادة فيتماثلون أو يتفاضلون مع احتفاظ كل منهم بمنهاجه الخاص ونمطه المعين. ومثال ذلك أن يتبارى قوم في العدو والجري إلى هدف واحد ويرسم لكل واحد من هؤلاء المتبارين طريق معين بحيث لا يمشي أحدهم من طريق صاحبه ولا يضع قدمه في موضع قدم أخيه بل يمشي في طريقه هو غير مزاحم ولا مزاحم ويسير موازيا لقرنه في المبدأ وفي الاتجاه ثم يمضون جميعا إلى الهدف المشترك الذي إليه يتسابقون وإذا هم بعد ذلك بين سابق مبرز ولاحق متخلف ومساو متكافئ دون أن يكون اختلاف طرقهم قادحا فيما يكون بينهم من هذا التفاضل أو التماثل بل يعرف التناسب بينهم بمعرفة نسبة ما قطعه كل من طريقه إلى ذلك الهدف المشترك كذلك المتنافسون في ميدان البيان يختار كل منهم طريقته التي يستمدها من مزاجه الشخصي واستعداده الخاص للوصول إلى الغاية البيانية العامة ثم هم بعد ذلك يتفاوتون أو يتعادلون بمقدار وفائهم بخصائص البيان أو نقصهم منها فالمدعوون إلى معارضة القرآن إن افترضتهم أكفاء لنبي القرآن فسيأتون بمثل ما جاء به وإن افترضتهم أعلى منه كعبا فسيأتون بأحسن مما جاء به وإن افترضتهم دونه فلن يشق عليهم أن يأتوا بقريب مما جاء به مع احتفاظ كل منهم بنمطه في الكلام ومنهجه في البيان لكن شيئا من هذه المراتب الثلاث لم يكن فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثل القرآن ولا بما يعلوه ولا بما يقرب منه لا بالنسبة إليه كله ولا بالنسبة لعشر سور ولا بالنسبة لسورة واحدة من مثله لا منفردين ولا مجتمعين ولو كان معهم الإنس والجن وكان بعضهم لبعض ظهيرا يضاف إلى ذلك أنهم كانوا أئمة البيان ونقدة الكلام وكانوا أهل إباء وضيم يحرصون على الغلبة في هذه الحلبة من معارضة القرآن. أليس ذلك بدليل كاف على أن هذا الكتاب تنزيل العزيز الرحيم ولا يمكن أن يكون كلام محمد ولا غير محمد من المخلوقين؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 الشبهة الخامسة ودفعها: يقولون إن عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن ما هو إلا نظير عجزهم عن الإتيان بمثل الكلام النبوي وإذن فلا يتجه القول بقدسية القرآن وأنه كلام الله كما لا يتجه القول بقدسية الحديث النبوي وأنه كلام الله!. وندفع هذه الشبهة أولا بأن الحديث النبوي إن عجز عامة الناس عن الإتيان بمثله فلن يعجز أحد خاصتهم عن الإتيان ولو بمقدار سطر واحد منه وإذا عجز أحد هؤلاء الممتازين عن مقدار سطر واحد منه نفسه فلن يعجز عن مقدار سطر واحد من مماثله القريب منه وإن عجز أن يأتي بسطر من هذا المثل وهو وحده فلن يعجز عنه إذا انضم إليه ظهير ومعين أيا كان ذلك الظهير والمعين وإن عجز عن هذا مع الظهير والمعين أيا كان فلن يعجز الإنس والجن جميعا أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا كما قال القرآن. ذلك شأن الحديث النبوي مع معارضيه أما القرآن الكريم فله شأن آخر لأن أحدا لا يستطيع الإتيان بمثل أقصر سورة منه لا هو وحده ولا مع غيره ولو اجتمع من بأطرافها من الثقلين. وإنما قلنا إن الحديث النبوي لا يعجز بعض الخواص الممتازين أن يأتي بمثله لأن التفاوت بين الرسول وبلغاء العرب مما يتفق مثله في مجاري العادة بين بعض الناس وبعض في حدود الطاقة البشرية كالتفاوت بين البليغ والأبلغ والفصيح والأفصح والحسن والأحسن وليس هذا التفاوت بالأمر الشاذ الخارق للنواميس العادية جملة بحيث تنقطع الصلة بين الرسول وسائر البلغاء جميعا لاختصاصه من بينهم بفطرة شاذة لا تمت إلى سائر الفطر بنسب إلا كما ينتسب النقيض إلى النقيض والضد إلى الضد كلا بل إن هذا القول باطل من وجهين: أحدهما أنه يخالف المعقول والمشاهد لما هو معروف من أن الطبيعة الإنسانية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 العامة واحدة ومن أن الطبائع الشخصية يقع بينها التشابه والتماثل في شيء أو أشياء في واحد أو أكثر في زمن قريب أو أزمنة متطاولة في كل فنون الكلام او في بعض فنونه والآخر انه يخالف المنقول في الكتاب والسنة من أن البشرية قدر مشترك بين الرسول وجميع آحاد الأمة ولا ريب أن هذه البشرية المشتركة وجه شبه يؤدي لا محالة إلى المماثلة بين كلامه وكلام من تجمعه بهم رابطة أو روابط خاصة على نحو ما قررنا أليس الله يقول: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} ويقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى} إلي ثم أليس الرسول يقول في الحديث الآنف: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي" الخ ويقول لرجل رآه فامتلأ منه فرقا ورعبا: هون عليك فإني لست بملك إنا أنت ابن امرأة من قريش تأكل القديد!. ثانيا أننا نجد تشابها بين كلام النبوة وكلام بعض الخواص من الصحابة والتابعين حتى لقد نسمع الحديث فيشتبه علينا أمره أهو مرفوع ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم موقوف عند الصحابي أم مقطوع عند التابعي؟ إلى أن يرشدنا السند إلى عين قائله. ومن أوتي حاسة بيانية يدرك هذا الشبه كثيرا كلما كان صاحب البيان المشابه تصله بالرسول صلات قوية كتلك الصلات أو العوامل المتآخذة التي توافرت في علي بن أبي طالب حتى مسحت بيانه مسحة نبوية وجعلت نفسه في الكلام من أشبه الأنفاس بكلام رسول الله إن لم يكن أشبهها. أما القرآن وما أدراك ما القرآن فلن تستطيع أن تجد له شبيها أو ندا لأن الذي صنعه على عينه لن نستطيع أن تجد له شبيها أو ندا! فكيف يقاس القرآن بالحديث في هذا المقام أم كيف يجمع بينهما في قران. ثالثا أن القرآن لو كان كلام محمد كالحديث الشريف لكان أسلوبهما واحدا ضرورة أنهما على هذا الفرض صادران عن شخص واحد استعداده واحد ومزاجه واحد ولكن الواقع غير ذلك فأسلوب القرآن ضرب وحده تظهر عليه سمات الألوهية التي تجل عن المشابهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 والمماثلة وأسلوب الحديث النبوي ضرب آخر لا يجل عن المشابهة والمماثلة بل هو محلق في جو البيان يعلو أساليب الناس في جملته دون تفصيله ولا يستطيع بحال أن يصعد إلى سماء إعجاز القرآن! فإن افترضت أنه كان له أسلوبا مختلفان أحدهما يحضره ويتعمل له وهو ما سماه بالقرآن والآخر يرسله ولا يحضره وهو ما سمي بالحديث إن افترضت ذلك فانظر علاج الشبهة العاشرة في المبحث الثالث من هذا الكتاب من "ص 78 – 84 الجزء الأول" فإن فيه شفاء ما في نفسك والله يكتب العافية لي ولك. الشبهة السادسة ودفعها: يقولون إن أنباء القرآن الغيبية لا تستقيم أن تكون وجها من وجوه الإعجاز الدالة على أنه كلام الله بل هو كلام محمد استقى أبناءه من أهل الكتاب في الشام وغيرها أو رمى فيه الكلام على عواهنه فصادف الحقيقة اتفاقا أو استنبط الأنباء برأيه استنباطا ثم نسبها إلى الله. وندفع هذه الشبهة أولا بأن أكثر أنباء الغيب التي في القرآن لم يكن لأهل الكتاب علم بها على عهده. ثانيا أنه صحح أغلاطهم في كثير من هذه الأنباء فليس بمعقول أن يأخذها عنهم وهو الذي صححها لهم!. ثالثا أن أهل الكتاب في زمنه كانوا أبخل الناس بما في أيديهم من علم الكتاب. رابعا أنه لو كان لهذه الشبهة ظل من الحقيقة لطار بها أهل الكتاب فرحا وطعنوا بها في محمد وقرآنه ولطبل لها المشركون ورقصوا لكن شيئا من ذلك لم يكن بل إن جلة من علماء أهل الكتاب آمنوا بهذا القرآن ثم لم يمض زمن طويل حتى أعطت قريش مقادتها لها عن إيمان وإذعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 خامسا أن محمدا كان رجلا عظيما بشهادة هؤلاء الطاعنين وصاحب هذه العظمة البشرية يستحيل أن يكون ممن يرمي الكلام على عواهنه خصوصا أنه رجل مسؤول في موقف الخصومة بينه وبين أعداء ألداء فما يكون له أن يرجم بالغيب ويقامر بنفسه وبدعوته وهو لا يضمن الأيام وما تأتي به مما ليس في الحسبان. سادسا أنه على فرض رجمه بالغيب جزافا من غير حجة يستحيل في مجرى العادة أن يتحقق كل ما جاء به مع هذه الكثرة بل كان يخطئ ولو مرة واحدة إما في غيوب الماضي أو الحاضر أو المستقبل لكنه لم يخطئ في واحدة منها على كثرتها وتنوعها. سابعا أن هذه الأنباء الغيبية ليست في كثرتها مما يصلح أن يكون مجالا للرأي ثم إن ما يصلح أن يكون مجالا للرأي أخبر محمد صلى الله عليه وسلم في بعضه بغير ما يقضي به ظاهر الرأي والاجتهاد انظر ما ذكرناه تحت عنوان أنباء الغيب من هذا المبحث وتأمل نبوءة انتصار الروم على الفرس وانتصار المسلمين على المشركين في وقت لم تتوافر فيه عوامل هذا الانتصار كما بينا سابقا. الشبهة السابعة ودفعها: يقولون إن ما تذكرونه من علوم القرآن ومعارفه وتشريعاته الكاملة لا يستقيم أن يكون وجها من وجوه الإعجاز فهذا سولون اليوناني وضع وحده قانونا وافيا كان موضع التقدير والإجلال والطاعة وما قال أحد إنه أتى بذلك معجزة ولا إنه صار بهذا التشريع نبيا. وندفع هذه الشبهة أولا بأن البون شاسع بين ما جاء به القرآن وما جاء به هذا القانون السولوني اليوناني ونحن نتحداهم أن يثبتوا لنا كماله ووفاءه بكافة ضروب الإصلاح البشري على نحو ما شرحنا سابقا بالنسبة إلى القرآن الكريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 ثانيا أن الفرق بعيد بين ظروف محمد صلى الله عليه وسلم التي جاء فيها بالقرآن وظروف سولون التي وضع فيها القانون وهذا الفرق البعيد له مدخل كبير في إثبات هذا الوجه من الإعجاز بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم دون سولون فمحمد كان أميا نشأ في الأميين أما سولون فكان فيلسوفا نشأ بين فلاسفة ومتعلمين بل هو أحد الفلاسفة السبعة الذين كان يشار إليهم بالبنان في القرن السابع قبل الميلاد المسيحي ... ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يتقلد قبل القرآن أعمالا إدارية ولا عسكرية بل جاءه القرآن بعد أن حببت إليه الخلوة والعزلة أما سولون فقد تولى قبل وضعه القانون أعمالا إدارية وعسكرية وانتخب في عام 594 قبل الميلاد أرجونا أي رئيسا على الأمة بإجماع أحزابها وقلدوه سلطة مطلقة ليغير ما شاء من نظم البلاد وقانونها الذي وضعه زراكوت من قبله فوضع لها نظاما جديدا أقرته الأمة حكومة وشعبا وقررت اتباعه والعمل به عشر سنين. فهل يجوز حتى في عقول المغفلين أن تقام موازنة ويصاغ قياس مع هذه المفارقات الهائلة بين محمد الأمي الناشئ في الأمين وسولون الفيلسوف والحاكم والقائد والزعيم والناشئ في أعظم أمة من أمم الحكمة والحضارة؟! ثالثا أين ذلك القانون الذي وضعه أو عدله سولون؟ وما أثره وما مبلغ نجاحه بجانب قانون القرآن الجامع ودستوره الخالد وأثره البارز ونجاحه المعجز ثم ما قيمة قانون وضع تحت تأثير تلك الظروف ومات وأصبح في خبر كان بجانب القرآن الذي جاء في ظروف مضادة جعلته معجزة بل معجزات ثم حي حياة دائمة لا مؤقتة ولا يزال يزداد مع مرور العصور والقرون جدة وحياة وثباتا واستقرارا حتى أصبح كثير من الأمم المتحضرة تستمد منه وقررت مؤتمرات دولية اعتباره مصدرا من مصادر القانون المقارن في هذا العصر إلى غير ذلك مما أشرنا إليه قبلا؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 خلاصة والخلاصة أن القرآن من آية ناحية أتيته لا ترى فيه إلا أنوارا متبلجة وأدلة ساطعة على أنه كلام الله ولا يمكن أن تجد فيه نكتة من كذب ولا وصمة من زور ولا لطخة من جهل وإني لأقضي العجب من هؤلاء الذين أغمضوا أعينهم عن هذه الأنوار وطوعت لهم أنفسهم اتهام محمد صلى الله عليه وسلم بالكذب وزعموا أن القرآن من تأليفه هو لا من تأليف ربه مع أن الكاذب لا بد أن تكشف عن خبيئته الأيام والمضلل لا مناص له من أن يفتضح أمره ويتهتك ستره. ثوب الرياء يشف عما تحته ... فإن التحفت به فإنك عار فيا أيها اللاعبون بالنار الهازئون بقوانين العقل والمنطق العابثون بمقررات علم النفس وعلم الاجتماع الغافلون عن نواميس الكون وأوضاع التاريخ الساخرون بدين الله وكتابه ورسوله كلمة واحدة أقولها لكم فاعقلوها معقول أن يكذب الكاذب ليجلب إلى نفسه أسباب العظمة والمجد وليس بمعقول أبدا حتى عند البهائم أن يكذب الصادق الأمين ليبعد عن نفسه أعظم عظمة وأمجد مجد ولا شئ أعظم من القرآن ولا أمجد فكيف يتنصل محمد صلى الله عليه وسلم منه ولا يتشرف بنسبته إليه لو كان من تأليفه ووضعه؟! يمينا لا حنث فيها لو أن محمدا كان كاذبا لكذب في أن ينسب هذا القرآن إلى نفسه على حين أنه ليس من إنشائه ورصفه كيما يحرز به الشرف الأعلى ويدرك به المقام الأسمى لو كان ينال شرف ويعلو مقام بالافتراء والكذب ولكن كيف يكذب الصادق الأمين ومولاه يتوعد ويقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ , لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ , ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ , فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ , وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 لِلْمُتَّقِينَ , وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ , وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ , وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ , فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . ومن أعجب العجب أن نسمع أمثال تلك الشبهات الساقطة في محيطنا الإسلامي على حين أن طوائف كثيرة من علماء الإفرنج في هذه العصور الأخيرة قد أعلنوا بعد دراستهم للقرآن ونبي القرآن إن محمدا كان سليم الفطرة وكامل العقل كريم الأخلاق صادق الحديث عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق غير طموع في المال ولا جنون إلى الملك ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات البهيمة كالخمر والميسر وأكل أموال الناس بالباطل وبهذا كله وبما ثبت من سيرته ويقينه بعد النبوة جزموا بأنه كان صادقا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من سنه من رؤية ملك الوحي ومن إقرائه إياه هذا القرآن ومن إنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه وسائر الناس ولقد وصل الأمر ببعض هؤلاء الباحثين الأجانب أن أعلن هذه الحقيقة لو وجدت نسخة من القرآن ملقاة في فلاه ولم يخبرنا أحد عن اسمها ومصدرها لعلمنا بمجرد دراستها أنها كلام الله ولا يمكن أن تمون كلام سواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 كلمة الختام أما بعد الكلام في إعجاز جميع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام أطول حتى لقد اطلعت على رسالة خبيثة أسموها حسن الإيجاز في إبطال الإعجاز فوجدتها قد حملت من الأكاذيب والأراجيف ومن اللف والدوران أشكالا وألوانا في الصفيحة الواحدة وعقيدتي أن ما بسطناه في هذا المبحث وما يتصل به فيه الكفاية لمن أراد الهداية ولو أننا استقصينا وجوه الرد على مثل هذه الرسالة لاقتضينا الأمر كتابا كبيرا كاملا على حين أنها هي لا تزيد على اثنتين وعشرين صفحة من القطع الصغير ثم أنى لنا ذلك الرد المسهب الآن وأزمة الورق طاحنه وأدوات الطباعة عزيزة حتى لقد اضطررنا من أجل هذا أن نقف في الكتابة عند هذا الحد بالطبع ولقد كنا نود أن نمضي قدما حتى نأتي على قصص القرآن وأمثاله وجدله ولكن الضرورات تبيح المحظورات وعسى أن يكون خيرا. نحمده سبحانه أن كتب لنا التوفيق في هذه المحنة حتى انتهينا إلى هذه الغاية ونستغفره ونتوب إليه من كل خطأ ونسأله القبول والمزيد والتعجيل بتفريج الكروب وأن يصلح الحال والمآل لنا وللمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437