الكتاب: مناهج التأليف عند العلماء العرب المؤلف: مصطفى الشكعه الناشر: دار العلم للملايين الطبعة: الخامسة عشرة آب/ أغسطس 2004 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مناهج التأليف عند العلماء العرب مصطفى الشكعة الكتاب: مناهج التأليف عند العلماء العرب المؤلف: مصطفى الشكعه الناشر: دار العلم للملايين الطبعة: الخامسة عشرة آب/ أغسطس 2004 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الكتاب منذ سنوات عديدة كانت فكرة إصدار كتاب يعالج مناهج التأليف عند العلماء المسلمين تراودني وتروق لي، ولكن ما إن كنت أبدًا في التنفيذ حتى أراني أحجم وأتردد وقد تمثل أمامي خطر الموضوع الذي أحاول علاجه؛ لأنه من الاتساع والعمق بحيث يتناول تراث أمة عظيمة، تبلورت عظمتها في عقيدتها وتراثها: لغة وأدبًا وفكرًا. فلما كانت السنوات الأخيرة ألحت فكرة الكتاب على خاطري بحيث لم أستطع منها فرارًا على الرغم من اقتناعي بأن مثل هذا العمل يحتاج إلى فريق من العلماء يضطلعون به ويسهرون عليه ويولونه كل اهتمامهم ويضمنونه ثمرات تجاربهم وحصاد أفكارهم، فاستخرت الله وقررت أن أبدأ في إصدار هذا المجلد وجعلته خاصًّا بمناهج التأليف في الأدب، آملًا إن وهبني الله القدرة وفسحة الأجل أن أضطلع بمتابعة الجهد في إصدار كتب تالية تتناول مناهج التأليف في بقية موضوعات التراث. أما وإني أقدم مناهج التأليف عند العلماء العرب والمسلمين في نطاق الأدب، فإنه يجمل بي أن أعرض منهجي في هذا الكتاب. لقد حاولت أن أقدم منهجًا وسطًا بعيدًا عن التدخل بريئًا من التعقيد، بل هو أقرب إلى اليسر والبساطة، فقد جعلت الكتاب ينتظم أحد عشر بابًا، خصصت الباب الأول منه للحديث، عن فجر التحرك العقلي العربي والإسلامي والتدوين في نطاق العلوم القرآنية والحديث الشريف وألوان من العلوم والمعارف. ولما كان المؤلف لا يستطيع أن يخط حرفًا دون أن يكون متقنًا للكتابة والإنشاء، وكلاهما ثمرة للتحرك الثقافي الإسلامي -إذ لم يكن العرب يقرأون أو يكتبون قبل الإسلام- فقد خصصت الباب الثاني للحديث عن حركة الكتابة والإنشاء وتطورها ومسيرتها في إيجاز مع ذكر مصادر النثر العربي على سبيل الإجمال. وأما الفصل الثالث فقد أفردناه للحديث عن رواد التأليف الأدبي غير المتخصص، فقد كان المؤلفون آنئذ يجمعون بين الأخبار والأشعار والنوادر واللغة والتاريخ وقضايا النحو وانتجاع الحكمة بين دفتي الكتاب الواحد، وممن سلك هذا النهج على سبيل المثال النضر بن شميل وابن الكلبي وأبو عبيدة والأصمعي والهيثم بن عدي والمدائني. ونلاحظ أن أكثر هؤلاء العلماء قد عاشوا حياتهم العقلية في القرن الثاني الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وبمرور السنين أخذ التأليف الأدبي يتجه نحو المنهجية الواضحة والتخصص الموضوعي، الأمر الذي جعلنا نكرس الباب الرابع من كتابنا للتأليف الأدبي المنهجي، وقد شمل هذا الباب الحديث عن الجاحظ وابن قتيبة الدينوري وأبي حنيفة الدينوري والمبرد وثعلب وابن طيفور وأبي بكر الصولي والمرزباني والثعالبي، والموضوعات التي تناولوها، ومناهجهم في الكتب التي ألفوها. ولما يتمتع به كل من العقد الفريد، والأغاني من مكانة عند صفوة العلماء وخاصة الباحثين في ميدان الدراسات الأدبية، خصصنا الباب الخامس للحديث عنهما في فصلين متتاليين حديثًا أقرب إلى الشمول وأدنى إلى الغاية. والباب السادس جعلناه للحديث عن كتب الأمالي وما هو في حكمها، وذكرناها على الترتيب الزمني، ووقفنا وقفة مستأنية أمام كل كتاب. ومن الأمالي انتقلنا إلى الحديث عن كتب طبقات الشعراء، فأفردنا الباب السابع لهذا الموضوع سالكين سبيل التدرج الزمني مبتدئين بابن سلام الجمحي في كتابه طبقات الشعراء الذي ألفه في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، منتهين بسلافة العصر لابن معصوم المتوفى على رأس السنة العشرين من القرن الثاني عشر الهجري. والباب الثامن جعلناه للحديث عن كتب الاختيارات الشعرية والحماسات، وإذا كانت حماسة أبي تمام هي أشهر هذه الأنماط من الكتب، فإن مصنفها لم يكن صاحب السبق في التأليف في هذا النوع من الكتب، وإنما سبقه إلى ذلك أصحاب المفضليات والأصمعيات وجمهرة أشعار العرب وشعر الهذليين، غير أن أبا تمام قد ارتقى بهذا الفن من حيث الذوق في الجمع والانتقاء في الموضوع والعناية في التبويب ثم تبعه في ذلك بقية أصحاب الحماسات. والباب التاسع من كتابنا هذا خصصنا به كتب التراجم ومناهجها ونظام ورود الأعلام فيها وابتدأنا بذكر الفهرست لابن النديم وانتهينا عند المحبي في "خلاصة الأثر". ولما كان الأدب الأندلسي من الرقة والسمو والقرب إلى أنفسنا بحيث يحتاج إلى عناية خاصة، فقد أفردنا الباب العاشر من هذه الطبعة الثانية للحديث عن مصادره ومناهج العلماء الذين عكفوا على التأليف فيه من مشارقة ومغاربة وأندلسيين، وحاولنا قدر الاستطاعة أن نيسر على دارس هذا الأدب بوضع مصادره مدروسة بين يديه. وأما الباب الحادي عشر والأخير في كتابنا هذا، فقد جعلناه للحديث عن الموسوعات بصفة عامة والمملوكية بصفة خاصة. هذا ولا يفوتني أن أنوه بالجهد الذي بذله معي تلميذاي الأستاذان حسان ماضي وأحمد عبد العزيز عمرو في إعداد النصوص التي وجهتهما إلى جمعها والإسهام في مراجعة تجارب المطبعة وهي أعمال جديرة بالشكر حرية بالتقدير. والله نسأل أن يهدينا إلى سبيل الرشاد ونهج السداد. بيروت في 1/ 12/ 1973 مصطفى محمد الشكعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد للأمة العربية قبل الإسلام خصائص تميزت بها دون غيرها من أمم العالم، من هذه الخصائص ما هو محبب مقبول، ومنها ما هو مستكره مرذول، شأن الأمم جميعًا في مراحل تاريخها ومسيرة حياتها، وإذا كانت هذه الدراسة ليست بذات طابع اجتماعي وإنما هي تعمد أول ما تعمد إلى دراسة العمق الثقافي لهذه الأمة العربية، فإننا لن نطيل في الوقوف أمام صفات الأمة العربية قبل الإسلام إلا بالقدر الذي يخدم هذه الدراسة. كان من صفات العرب الكرم والشجاعة والحرية وإباء الضيم والفروسية والنجدة وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف. وقد تبلورت كل هذه الصفات وتلك المميزات فيما تركه العرب الجاهليون من شعر وخطابة، إذ لم يكن العرب يملكون من الملامح الثقافية البارزة غير هذين الفرعين من فن القول، فتركوا فيهما ثروة هائلة رائعة لم تكد تترك أمة أخرى تركة مماثلة لها كمًّا وكيفًا في مثل تلك الفترة القصيرة بين إنشاء القصيد ومجيء الرسالة السماوية الإسلامية. ومن ثم فقد كان غرام العرب بالشعر يدفعهم إلى الاعتزاز بالشعراء، وكان الشاعر يحتل من قبيلته مكان الصدارة؛ لأنه المحامي عن كرامتها، الذائد عن حرماتها، المسجل لمفاخرها، الناطق بلسانها، حتى إن القبيلة كانت تقيم الاحتفالات عندما يبزغ بين أبنائها من تتفتق ملكته عن قول الشعر الجيد، ولذلك فقد أثر عنهم أنهم كانوا يحتفلون بمولد الشاعر أي ظهوره. وقد قيل الشيء نفسه فيما يتعلق بالخطيب، ذلك أن القبيلة كانت تحتفل أيضًا بميلاد الخطيب احتفالها بمولد الشاعر، فهو الآخر لسانها في المفاخرات، وممثلها في المنافرات التي كانت تستمر أيامًا وأسابيع. وكانت المنافرات بصفة خاصة تحتل مقام الاهتمام لا بين قبيلتي الخطيبين المتنافرين وحسب، بل بين هذه القبيلة وحلفائها وتلك القبيلة ونصرائها، ومن أجل ذلك فقد تضاربت الآراء حول من هو أحق بالتفضيل والتقديم في نطاق القبيلة، أهو الشاعر أم الخطيب؟ والحق أن القبائل لم تكن -بحكم العادات العربية- في غناء عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الاثنين. وكان كلاهما -أي الخطيب والشاعر- في مقام التقديم أو التأخير تبعًا للظرف الذي تعيشه القبيلة، فإن كانت طبيعة الظروف التي تجتازها أحوج إلى الشاعر منها إلى الخطيب كان الشاعر مقدمًا، وإن كانت الظروف التي بها محتاجة الخطيب أكثر من احتياجها الشاعر قدمت الخطيب. وإذن فقد كان النتاج الثقافي للأمة العربية قبل الإسلام محصورًا في الشعر والخطابة ولا شيء غير ذلك من فنون القول، والأمة العربية كانت أمة غير كاتبة، الأمر الذي بسببه لم يسجل نتاجها من الشعر والخطب بالكتابة، وإنما اعتمد في ذلك على الرواية، فكان لكل شاعر رواية يحفظ كل شعره ويرويه عنه. وأحسب أن الأمر كان أيضًا فيما يتعلق بالخطيب، وإذن فقد كان التسجيل محكومًا بالذاكرة التي كان يتمتع بها الراوي والتي قد تتعرض للشيخوخة فيضيع الكثير من الكنوز التي وعت وفنون القول التي حفظت. وليس من شك في أنه كلما قدم العهد بالشاعر وزمانه كان المأثور من شعره أقل كثيرًا من القدر الذي أنشأه، وكذلك كان الأمر فيما يتعلق بالخطباء، فكان ما وصلنا من تراثهم هو الجزء وليس الكل، وما روي عنهم هو الأقل وليس الأكثر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد قامت فئة تشكك في التراث العربي بحكم أنه مروي وليس مسجلًا مسطورًا وذهب الأمر بالبعض منهم أن تقولوا كثيرًا حول التراث الأدبي الجاهلي، فمن قائل إن أكثره منحول، ومن قائل إنه منتحل كله وكتبوا في ذلك البحوث العديدة ودبجوا المقالات الطوال، وبالتالي قامت جماعة أخرى من الغيورين على تراثهم الثمين، تدحض ادعاءات الفئات الأولى أو افتراضاتها بالمنطق حينًا وبالبرهان حينًا آخر. السبب في ذلك كله أن العرب لم تكن أمة كاتبة، وأمة غير كاتبة لا تستطيع أن تكون ذات حضارة فكرية أصيلة؛ لأن هذه الحضارة بحاجة إلى التسجيل والتسطير، فلما جاء الإسلام وشجع على التعلم ومعرفة القراءة والكتابة أصبحت هذه الأمة ومن اندرج تحت لواء العقيدة الجديدة من المسلمين تشكل أرقى مبادئ فكرية وأسمى حضارة أزلية. وقبل مرور قرنين من الزمان كانت من السعة في الحدود بحيث شملت ما يقارب نصف مساحة الكرة الأرضية المعروفة في ذلك الزمان، ومن الرحابة في العقول بحيث أغنت الفكر البشري بالعديد من المؤلفات والكتب في أكثر ميادين العطاء العقلي من ديني ودنيوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي الفصل الأول: فجر الحركة العلمية ... الباب الأول: فجر التحرك العقلي الفصل الأول: فجر الحركة العلمية ذكرنا قبل قليل أن العرب لم تكن أمة كاتبة، والذي لا يكتب لا يملك كتابًا، والذين لا يملكون كتبًا يكونون بعيدين عن نطاق الثقافة التي تؤهلهم للإنتاج العقلي الذي يسموا بهم على غيرهم من الأمم درجات. لقد جاء الإسلام وليس في قريش -وهي أكثر القبائل تمدنًا- غير سبعة عشر فردًا يكتبون، هم على وجه التحديد: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وأبو عبيدة وطلحة، وأبو سفيان بن حرب، ويزيد ومعاوية ابناه، وأبو حذيفة بن عتبة، وحاطب بن عمرو، وأبو سلمة المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص وأخوه خالد، وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وجهيم بن الصلت، وعثمان بن عفان. ومن النساء الكاتبات كانت حفصة وأم كلثوم من أمهات المؤمنين، كما كانت عائشة وأم سلمة تقرآن المصحف ولا تكتبان. تلك كانت الشخصيات الكاتبة والقارئة في أكثر المجتمعات العربية أهمية قبل الإسلام وهو المجتمع المكي. فإذا انتقلنا إلى الأوس والخزرج، وهما القبيلتان اللتان ناصرتا الرسول صلى الله عليه وسلم في يثرب وكانتا من سعة الأفق ورحابة التفكير بحيث رحب شعباهما بالإسلام قبل أن تكون مدينتهما دارًا للهجرة، هاتان القبيلتان لم يكن بينهما ممن يستطيعون الكتابة غير أحد عشر فردًا. كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب -وذلك في حد ذاته معجزة كبرى- فهو في حاجة إلى من يكتب له الوحي، فكان أول من كتب ما ينزل على الرسول الكريم من الآيات البينات في المدينة أبي بن كعب الأنصاري، فإذا غاب استدعى الرسول زيد بن ثابت الأنصاري. ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 توالى على كتابة الوحي عدد غير قليل من الصحابة، منهم عثمان بن عفان، وأبان بن سعيد، وخالد بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، ثم حنظلة بن الربيع الذي عرف من أجل ذلك بحنظلة الكاتب، على أن كتابة هذا الرعيل الأول من الكاتبين لم تكن تخلو من بعض الأخطاء الإملائية التي لم تكن من الجسامة بحيث تفسد التلاوة. إن الرسالة السامية الجديدة تؤمن بالعلم، وتمهد لتنوير القلوب والعقول، وإن أولى آيات كتابها العزيز لفظ اقرأ وهي تمجد القلم وما يسطر: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} 1 وهي تخاطب العقل وتطلب إليه أن يتأمل: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} 2 وتدفع به إلى يتدبر، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 3 ثم تسوقه وتشوقه إلى متابعة أحداث الكون المعجزة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} 4 {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 5 {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 6. كان طبيعيًّا أن يهدف الإنسان إلى المعرفة في نور الدين الجديد، وتحصيل المعرفة محتاج إلى القراءة والكتابة، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تعلم الكتابة حتى إنه كان بعد غزوة بدر يطلق سراح الأسير إذا علم عشرة من صبيان المدينة الكتابة والقراءة. بل من المأثور أن الرسول كان يدعو إلى تعلم اللغات الأجنبية، فقد قال لزيد بن ثابت: "تعلم كتاب يهود فإني ما آمنهم على كتابي" كما أمره بتعلم السريانية فتعلمها. وفي نطاق هذه التوجيهات، وبسبب انتشار الإسلام، ما فتئ الداخلون في الدين الجديد من غير العرب يتعلمون العربية ليتعرفوا إلى أصول دينهم، وانتشرت اللغة العربية بينهم وانتشر معها تعلم الكتابة والقراءة، وتبع ذلك تعلم النحو النظر في الأحكام العامة من زواج وطلاق ومعاملات ونظم عامة، فبدأت المعرفة توطد أسسها وتعلي بنيانها، وأمكن   1 سورة القلم الآية "1". 2 سورة الطارق الآية "5". 3 سورة عبس الآية "24-30". 4 سورة آل عمران الآية "190". 5 سورة الروم الآية "22". 6 سورة يس الآية "40". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 قيام نهضة عامة في دنيا المعرفة في ظلال الفكرة الإسلامية والمجتمع الذي آمن بها وهضمها وسعى إلى تعزيزها ونشرها، فكان لا بد لذلك من خلق حركتين أساسيتين هما: الحركة الدينية والحركة الثقافية. فأما الحركة الدينية فقد كانت أوسع الحركات، إذ إنها تضم في عطفيها علوم القرآن والحديث والفقه من معاملات وعبادات وأحكام. لقد بدأت هذه الحركة بالقرآن الكريم، ثم بالحديث الشريف جمعًا وفهمًا وشرحًا وتفسيرًا وتأويلًا. وقد كان على رأس هذه الحركة في أول أمرها عدد من علماء الصحابة الذين كانوا على مرتبة سامية من العلم والفطنة، كان أشهرهم عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت وأم المؤمنين السيدة عائشة، وقد يضاف إليهم معاذ وأبو الدرداء، على أن أوفرهم علمًا فيما تكاد تجمع عليه الروايات علي وعبد الله بن عباس 1. على أن الصحابة ينقسمون من حيث أقدارهم العلمية إلى طبقات متفاوتة، وقد ألفت في ذلك كتب كثيرة لتضع كل صحابي في طبقته أو درجته، ولعل أشهر الكتب التي اهتمت بالكتابة عن الصحابة وإيفاء كل واحد منهم قدره وإعطائه حقه هي "الطبقات الكبرى" لابن سعد و "أسد الغابة" وغيرها. فمثلًا عند الكلام على ابن عباس فإنه يوصف بكونه أكثر الصحابة قدرة على التأويل والفتيا وما ورد في تفسير القرآن وأسباب النزول وحساب الفرائض والمغازي، كما أنه على إلمام بمعرفة الكتب الدينية الأخرى كالتوراة والإنجيل، وهو إلى ذلك عالم بأنساب العرب وأيامهم. وإذا كانت هذه ثقافة عبد الله بن عباس، فإنه يقابله في الناحية الأخرى عبد الله بن عمر الذي يعتبر أكثر الصحابة قدرة على جمع الحديث ومعرفته وتمييزه وتصحيحه. فإذا ما اتصلت الأمور بالقضاء فإن أكبر عقليتين قضائيتين بين الصحابة كانتا ممثلتين في عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وقد بلغ علي في ذلك مبلغًا لم يصل إليه أحد من الصحابة، حتى إنه كان حلال المشاكل مذلل المعضلات، الأمر الذي نتج عنه قول الحكمة المأثورة حين تتعقد الأمور: "قضية ولا أبا حسن لها"، وأبو حسن كنية الإمام علي، وكان يحلو للصحابة أن ينادوه بها تحببًا وتوقيرًا. إن عليًّا يصف الصحابة ويحدد القدرة العلمية لكثير منهم، فيجعل قدرة عبد الله بن   1 طبقات ابن سعد "2/ 101". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 مسعود في القرآن والسنة، ويقول عن أبي موسى إنه صبغ في العلم ثم خرج منه، ويقول عن عمار بن ياسر إنه مؤمن نسي وإذا ذكر ذكر، ويقول عن حذيفة إنه أعلم أصحاب رسول الله بالمنافقين، ويقول عن أبي ذر إنه وعى علمًا ثم عجز عنه، ويقول عن سلمان: أدرك العلم الأول والآخر، بحر لا ينزح قعره، منا أهل البيت1. وسئل علي عن نفسه، وهو مدينة العلم، فماذا تنتظر منه أن يقول عن نفسه، إنه يقول بكل لباقة وتواضع: كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتدئت. لقد كان لا بد للمسلمين في البلاد الجديدة المفتوحة من معلمين ومرشدين، فكان طبيعيًّا أن يتفرق الصحابة في الأمصار معلمين ومرشدين ومثقفين، وكان عمر حينما يبعث صحابيًّا إلى بلد ما فإنه كان يزوده بخطاب يقدمه به إلى الناس الذين ربما وجدت كثرة بينهم لا تعرف قدره. وكان هذا الخطاب من الخليفة بمثابة تقديم وتكريم للصحابي المبعوث، فحينما بعث عمر عبد الله بن مسعود إلى الكوفة، وهو من خيرة الصحابة علمًا وفضلًا، بعث الخليفة إلى أهل الكوفة يقول لهم: إني بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وآثرتكم به على نفسي فخذوا عنه. أرأيت إيجازًا أبلغ من هذا الإيجاز وتكريمًا أطيب من هذا التكريم؟ إن أمير المؤمنين عمر -وهو من هو- يقول لأهل الكوفة في مقام تكريم عبد الله بن مسعود: لقد آثرتكم به على نفسي، إن المسألة في الواقع لا تكمن في تكريم ابن مسعود بقدر ما تهدف إلى تكريم العلم نفسه، أما وأن عبد الله بن مسعود من العلماء، فهو لعلمه وفضله جدير بالإجلال والتكريم. لقد توزع الصحابة في الأمصار معلمين للناس ومستشارين وحكامًا ومفتين، ثم كان لكل صحابي مدرسة من مريديه، وهؤلاء المريدون هم التابعون، وكان للتابعين مريدون أيضًا فعرفوا بتابعي التابعين، وهكذا اتسع نطاق الثقافة الدينية ورحبت آفاقها على يد هؤلاء وأولئك في هذا المصر أو ذاك، فنشأت نواة الحركة العلمية العقلية بعد جيلين أو ثلاثة من جيل الصحابة والتابعين. وواضح أن علماء الدين كانوا جميعًا -في أول الأمر- من العرب، غير أن الإسلام لا يفرق بين عربي وغير عربي، والعلم ملك للجميع، يسموا قدر المرء بقدر ما يغترف من علم وبقدر ما يتحلى به من مكرمات، وكان طبيعيًّا أن يقدم الموالي على التعلم، فلا تلبث طبيعة العلم أن تجعل رءوس العلماء في الأمصار الإسلامية منهم.   1 فجر الإسلام "ص 150". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ففي مكة نجد مجاهد بن جبر وكان مولى ابن عباس، وعطاء بن رباح مولى فهر وكان أسود اللون، ولكن الإسلام الذي لا يعترف بالألوان ولا بالأحساب وضعه في مكانه الطبيعي وهو مكان العلماء، وأبا الزبير محمد بن مسلم بن تدرس مولى حكيم بن خزام، ولقد كان هؤلاء وهم من الموالي يجعلون العلم ميسرًا في مكة لكل طالب وكانوا مراكز إشعاع عقلي وإنعاش روحي. فإذا نظرنا إلى الكوفة وجدنا على رأس علمائها سعيد بن جبير، وكان صاحب علم وفضل، وكان هو الآخر أسود اللون. وكانت البصرة تتضوع علمًا وتزدان بالعلماء وكانت من أكثر الأمصار إشعاع ومنطلق تفكير وكان علماؤها أيضًا من الموالي، فمنهم محمد بن سيرين وكان أبوه من سبي ميسان وأمه صفية مولاة أبي بكر الصديق، هذا ولا يستطيع الخاطر إعفال الحسن البصري كبير علماء البصرة وعظيم مفكريها وسيد فقهائها وكان أبوه أيضًا من سبي ميسان ومولى لزيد بن ثابت. فإذا ما انتقلنا إلى مصر وجدنا فيها يزيد بن حبيب مولى الأزد، وهو من أصل سوداني فأبوه من دنقله. ولقد كان يزيد مفتي أهل مصر وكبير علمائها، وهو أستاذ الليث بن سعد الإمام العالم الذي جرت بينه وبين الإمام مالك مساجلات ومكاتبات، وذهب بعض أهل الذكر إلى أن الليث كان أفقه من مالك ولكن ضيعه قومه، أي أن قومه في مصر لم يعطوه حقه، ولم يقبلوا على علمه الغزير إقبالهم على علم غيره من علماء المسلمين. إنها ليست مصادفة أن يكون على رأس المفكرين المسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الموالي، كما أنه ليس أيضًا من قبيل التصنع والافتعال، ولكن ذلك أمر طبيعي تمامًا؛ أن الذي يقبل على العلم من أبناء المسلمين يغض النظر عن عروبته أو مولويته -يحتل المكانة اللائقة به كواحد من أهل العلم، فالطريق مفتوح والفرصة سانحة لصاحبها أن يبرز ويلمع طالما كان لذلك أهلًا وبالاحترام جديرًا. وتتسع الحركة العلمية الدينية بعد ذلك فتنشأ علوم القرآن من تفسير وتأويل وقراءات وتجويد، وتنشأ علوم الحديث أيضًا، ويستتبع ذلك ظهور علوم الفقه والتوحيد والأصول، وترتبط بها علوم اللغة من نحو وصرف، ثم علوم الأخبار وهو ما يمكن أن نسميه ببداية الحركة التاريخية الأدبية. وإذن فقد كانت الحركة في أول أمرها مستهدفة تجلية العلوم الدينية من تفسير وحديث وعلوم قرآنية وفقه وتوحيد وأصول، وهذا استتبع بدوره العناية باللغة العربية وفروعها من رواية واشتقاق ونحو وشواهد من شعر ونثر، ثم كانت مادة الأخبار والنوادر والأسماء التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 شكلت الحركة الأدبية التاريخية. وكان من الطبيعي أن تتمايز الحركتان، فالحركة الأدبية على ما فيها من أخبار ونوادر وسير وأسماء تركز على اللغة والشعر والنثر والخطب، والحركة التاريخية على ما اهتمت به من خطب وشعر اهتمت أيضًا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمغازي والفتوح وسير الأقدمين وأخبارهم. وهكذا تسير الحركة العلمية وئيدة في أول أمرها مستهلة نشاطها بالتدوين، ثم بالجمع والرصد والتصنيف والتأليف والإبداع. على أن الأمر الجدير بالتسجيل هو أن الثورة العلمية الفكرية قد انبثقت من الصحابة أنفسهم حين نبغ غير قليل منهم في أصول المعرفة وأصبحوا أصحاب امتياز في ميادين بعينها، فقد نبغ الإمام علي في القضاء، ونبغ معاذ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، ونبغ زيد بن ثابت في المواريث وتقسيم الغنائم، ونبغ أبي بن كعب في قراءة القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الفصل الثاني: فجر الحركة التاريخية لم يعرف "التاريخ" عند العلماء القدامى بادئ ذي بدء كعلم محدد الوظيفة الثقافية كما هو الحال بعد ذلك بفترة طويلة من الزمان، وإنما كانت هناك حاجة إلى المعرفة العامة في نطاق التطور الجديد للمجتمع الإسلامي الواسع المترامي الأطراف الذي ضم أممًا عديدة وعناصر شتى. لم يكن هناك تسمية واضحة لجميع المعارف عن هذه الأمم وعن تلك العناصر الجديدة، ولكن كان لا بد من جمع معارف عن المملكة الإسلامية وماضي شعوبها والممكن من أخبارها، وكانت هناك ضرورات لهذا الجمع لعلها تتمثل في النقاط الآتية: - إن اتساع الدولة جعلها في حاجة شديدة إلى العلم بطرق تحصيل الأموال وحفظها وصرفها، والإدارة والتنظيم وطريقة الحكم، وسير رجال الأمم، والسياسات والحروب والمكايد، وكانت هذه هي الطريقة التي يثقف معاوية بها نفسه على سبيل المثال. - هناك فئات كثيرة دخلت الإسلام بعاداتها وتقاليدها وعقائدها وتاريخها، فاليهود مثلًا نشروا أخبارهم بين المسلمين وهو ما يسمى بالإسرائيليات، والنصارى فعلوا الشيء نفسه، والفرس دخلوا بتاريخهم وأساطيرهم، وكانت كثير من الأخبار التي يحفظونها ويرددونها لا تخلو من عصبية لأصحابها. - الاهتمام بجمع الحديث؛ لأن فيه كل ما كان يفعله الرسول من عبادات وتشريع ومعاملات، وفيه وعظ وإرشاد. وفيه كل ما يتعلق بحياة الرسول في مكة والمدينة وتحركاته وغزواته. - ضرورة الاهتمام بأعمال الخليفة الأول أبي بكر وتسجيل فتوحات الخليفة الثاني عمر وما اتصل بحكم كل منهما من أحداث هامة وما أكثرها وأجلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 لقد كانت الأقسام التاريخية هي الأساس الحقيقي لكتب السير والمغازي التي لم تلبث أن تمخض عنها علم التاريخ. وهناك حقائق كبرى عن فجر تدوين كتب غير قليلة في المغازي، منها على سبيل المثال: 1- عروة بن الزبير بن العوام 23 - 94هـ هو أقدم من ألف في سيرة الرسول. 2- وهب بن منبه 34- 110هـ ألف كتابًا في المغازي. 3- أبان بن عثمان بن عفان 22 - 105هـ جمع له تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة المتوفى 105هـ كتابًا في السير. 4- ابن شهاب الزهري جمع كتابًا في المغازي. 5- موسى بن عقبة ت 141هـ جمع كتابًا في المغازي. وقد عثر على قطعة منه طبعت سنة 1904. 1 القضية إذن ليست بدوات أو أفكارًا تروح وتجيء وإنما هي عملية تأليف منظمة أو تصنيف معتنى بها، لنا أن نسميها ما شئنا ولكنها في حقيقتها عملية علمية تاريخية واضحة المعالم ملموسة الأسباب نشأت مبكرة، وكانت في بكورها أقدم مما يتصور الكثيرون من الدارسين. على أن هذا النهج لا يلبث أن يربطنا بنهج آخر كل منهما يتمم صاحبه، ونعني به القصص. والقصص بفتح القاف عرف قديمًا منذ الأيام الأولى لفجر الإسلام، وهو لا شك مصدر من مصادر المعرفة العامة، وليس القصص الذي نقصد إليه هو هذا المتعارف عليه في أيامنا المعاصرة، وإنما القصد منه عند نشأته كان الوعظ وتذكير الناس بالآخرة وصرفهم عن ضروب الملاذ التي إذا ما أغرقوا أنفسهم فيها أدى ذلك إلى فساد دينهم ودنياهم. ومن هنا كان القاص في حقيقته واعظًا، وإنما هو يستعمل أساليب القصص في وعظ الناس وهدايتهم عن طريق أخبار الأولين وقصص الأقدمين، فما من جبابرة إلا زالوا ولا أباطرة إلا ماتوا، الذكر الجميل أولى بصاحبه من الذكر القبيح وسوء ترديد السيرة. لقد كان القصص يتم في المسجد، وأول قاص في الإسلام هو تميم الداري، وقد أغرم بإرشاد الناس وهدايتهم واستأذن عمر في ذلك فرفض أول الأمر، ثم ما لبث أن وافق   1 فجر الإسلام "ص 158". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وأذن له، على أن تكون حلقته يوم الجمعة من كل أسبوع، وهناك قول بأن تميمًا بدأ وعظه كقاصٍّ على عهد عثمان، على أن هذا لا يعنينا إلا من ناحية واحدة هي أن القصص بدأ مبكرًا في الإسلام، وأنه كان وعظًا خالصًا يتتبع فيه القاص طريقة هداية الناس بذكر أحاديث الأقدمين، وأن ذلك كان يتم في مسجد رسول الله في المدينة مرة كل أسبوع أول الأمر، وأن أول قاصٍّ في الإسلام هو تميم الداري. ومن الطريف أن نعرف أن تميمًا كان نصرانيًّا وأسلم سنة 9هـ، وكان ذا مكانة دينية عند نصارى نجران، وربما كانت نزعته إلى الترهب والوعظ من بقايا أثر المسيحية فيه، ولذلك فقد سمي: راهب أهل عصره. ولم يكن القاص يؤلف الأخبار التي يستعين بها على وعظ الناس، وإنما كان يستعين بالقصص المتوارثة والأساطير القديمة معتمدًا في أقواله على الترغيب والترهيب. وينشط القاصون ويتقنون فنهم وينجحون في إشاعة جو روحي بين الناس فتعمد الدولة إلى جعل القصاص موظفًا رسميًّا، فإذا انتهت صلاة الصبح جلس القاص -في المسجد على ما مر بنا- ودعا للخليفة وأنصاره، ودعا على أعدائه وذكر بعض المواعظ. على أن الأمر بعد ذلك لم يلبث أن شابه بعض الشوائب حين كان القاص لا يتحرى الأخبار التي يحكيها ويقدمها للناس، فشاع الكذب بين بعض القصاص باستثناء الحسن البصري. وتتسع مهام القاص فيجمع إلى عمله عملًا آخر على جانب آخر من الأهمية وهو القضاء، فقد كان القاضي بعد ذلك قاصًّا رسميًّا. وقد قيل في هذا السبيل إن أول قاص في مصر هو سليمان التجيبي سنة 38هـ جمع القصص إلى القضاء، ثم ما لبث أن تخلى عن القضاء وتفرغ للقصص1. على أن هذا الطريق كان محفوفًا بالمكاره؛ لأن كثيرًا من الأساطير اليهودية والنصرانية أفسدته وشكلت بابًا خطيرًا على جوهر العقيدة الإسلامية حين فتحت الطريق لبعض الغلاة فأنشئوا أحاديث مزيفة ونسبوها إلى الرسول قاصدين منها الترغيب والترهيب. ثم ما لبث فساد القصص أن شكل عاملًا آخر في إفساد التاريخ. والقصاصون من الكثرة بمكان، وقد كان منهم البارعون في سوق أحاديثهم وتنغيمها علوًّا وانخفاضًا، وترديدها إيجازًا وإطنابًا إلى الحد الذي كانوا يتمكنون من خلاله من استدرار دموع التوبة من السامعين، وإبكاء بعض من يعظونهم من الخلفاء حتى تبلل الدموع   1 راجع فجر الإسلام "ص 158" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 لحاهم. لقد كانوا -والحال كذلك- على قدر كبير من البراعة في تقديم ما لديهم من مواعظ ربما استعملوا معها شيئًا من الحركات التمثيلية. وإذا كان تميم الداري هو أول قاص في الإسلام على ما مر بنا، فإن أشهر قاصين هما: وهب بن منبه وكعب الأحبار. ووهب وكعب يعتبران في الوقت نفسه أشهر منبعين للقصص الديني. فأما وهب بن منبه فهو يمني من أبناء الفرس الذين زود بهم كسرى سيف بن ذي يزن حتى يسترد ملكه من نجاشي الحبشة الذي كان قد استولى على اليمن واحتلها. فاستنجد سيف بكسرى، الذي أمده ببضعة آلاف من الجنود استردوا له عرشه، وظل عدد كبير من هؤلاء الجنود يقيم في اليمن.. فكان وهب واحدًا من سلالة هؤلاء الفرس. ويذكر ابن قتيبة أنه رأى لوهب كتابًا ترجم فيه للملوك المتوجين من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم. وكان وهب قبل إسلامه من أهل الكتاب، وكان يقول: سمعت اثنين وتسعين كتابًا كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس وعشرون في أيدي الناس لا يعلمها إلا قليل، وقد نسب إليه صاحب كشف الظنون كتابين هما قصص الأنبياء وقصص الأخبار. ولقد كان وهب واسع الثقافة الدينية من إسلامية وكتابية، وقد ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء صنعاء الذي ولد ومات فيها سنة 114هـ وقيل سنة120 بعد أن عمر تسعين سنة1. وأما كعب الأحبار واسمه الحقيقي كعب بن ماتع فأصله من اليمن أيضًا وكان يهوديًّا وأسلم في خلافة أبي بكر، وكان كعب الأحبار كثير التنقل، ويعتبر هذا الرجل المعين الأول للإسرائيليات التي تفشت في كثير من الكتب الإسلامية. ولقد تأثر به كل من ابن عباس وأبي هريرة، ويبدو أن كعب الأحبار هذا كان من اللباقة وسرعة البديهة وغزارة المعلومات بحيث استطاع أن يخلب لب غير قليل من أعلام المسلمين الأولين. هذا فضلًا عن جرأة غريبة كانت فيه، فابن سعد يقول إن كعب الأحبار كان يجلس في المسجد وأمامه أسفار التوراة يقرؤها غير متحرج من ذلك2. وقد روي أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب: إنك ميت بعد ثلاثة أيام، فيقول له عمر: وما أدراك؟ فيقول: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة. فيقول عمر في شيء من   1 راجع المعارف "202" وطبقات ابن سعد "5/ 395" والذهبي "5/ 14-16". 2 الطبقات "7/ 97". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الاستنكار: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ فيقول كعب: اللهم لا، ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك1. هذا وقد أخذ كثير من علماء المسلمين روايات كعب الأحبار بكثير من الحيطة، بل إن من بينهم من امتنع عن الرواية له مثل ابن قتيبة والنووي، والبعض روى عنه بشيء من التحفظ مثل ابن جرير الطبري، وهناك من نقل عنه قصص الأنبياء مثل الكسائي. ويكنى كعب الأحبار بأبي إسحاق، وهو على إسرائيلياته أخذ عن الصحابة بقدر كبير من الكتاب والسنة، وقد استقر في حمص وتوفي فيها سنة32 هـ عن مائة سنة وأربع سنين2. هذا والجدير بالذكر أن مجالس القضاء لم تكن تشتمل على الحكاية الدينية وحدها، بل كان في مجالسهم التفسير والحديث والفقه واللغة والجدل الديني، ولعل مجالس الحسن البصري دليل على ذلك، والحسن واحد من أشهر قصاصي المسلمين، وكانت مجالسه في مسجد البصرة بجوار اسطوانته الخاصة به حافلة بكل أنواع المعرفة مليئة بألوان من الجدل العقلي الذي من خلاله انبثقت مدرسة المعتزلة في الإسلام. ولذلك فإن الغزالي حينما أنحى على هؤلاء القصاص باللائمة واعتبر عملهم شيئًا منكرًا لا يليق بحرمة المساجد استثنى من بينهم الحسن البصري الذي كان الغزالي يكن له كل تقدير واحترام. على أن الغزالي برأيه في القصاص لا يجعلنا نغفل قدر عدد من علماء المسلمين الذين كانوا يجعلون من القصص وسيلة لإفشاء علمهم على الناس وترغيبهم فيه وتقريبهم إليه. وكانت هناك حلقات كبرى لكثير من أئمة المسملين وعلمائهم، فهذا عبد الله بن عباس يجلس في الكعبة وحوله عدد كبير من الناس يسألونه فيجيب عن أسئلتهم. وهذا ربيعة الرأي يجلس في مسجد الرسول في حلقة كبيرة من الناس يسألونه فيجيب عن أسئلتهم. وهذا ربيعة الرأي يجلس في مسجد الرسول في حلقة كبيرة من الناس وافرة العدد تجمع بين الصفوة والعامة والصغار والكبار، فالإمام الحسن بن علي يفد إليه مستمعًا فيمن يفد، والإمام مالك يتردد عليه وهو لا يزال صبيًّا يريد أن يغترف من بحر علمه. وفي مسجد الرسول أيضًا يجلس الإمام جعفر الصادق بعد فترة من الزمن واسعة تفصل بين مجلسه ومجلس ربيعة الرأي يفيض على الناس من علمه وفقهه وفضله. وفي مسجد البصرة يجلس الحسن البصري في مجلسه الذي مر ذكره قبل قليل، ذلك   1 فجر الإسلام "161". 2 حلبة الأولياء "5/ 364" وتذكرة الحفاظ "1/ 49". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المسجد الذي كانت تتعدد حلقات الدرس فيه. ومهما قيل في حلقات الدرس هذه التي كانت تسمى أحيانا بحلقات القصاص أو مجالسهم، فإنها خرجت عددًا كبيرًا من علماء المسلمين وأئمتهم كما نشطت العقل الإسلامي ودربته على الجدل الذي نشط لمناقشة اليهود والنصارى في محافل عامة، أو مجادلة الفرق الإسلامية بعضها بعضًا. صحيح أنه كان بالقصص على بداية عهد بني أمية مسحة من سياسة، ولكنه في الوقت نفسه ساعد في نطاق المجالس المشار إليها على تنمية العلوم الدينية والعقلية وإنعاشها من تفسير وحديث وفقه، ومن لغة وجدل وبداية لعلم التاريخ تمهيدًا لظهور التأليف عند المسلمين. على أن القصص كان في واقع أمره مرتبطًا بالفكرة الدينية أكثر من استهدافه تسجيل الحقائق التاريخية، ولكن الحاجة إلى معرفة الأمم الماضية -وبخاصة تلك التي فتح الإسلام أراضيها- كانت من الأهمية بالنسبة للحكام ولعامة المسلمين بمكان. وآية ذلك ما روي عن معاوية بن أبي سفيان من أنه كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم ينام طرفًا من الليل ولا يلبث أن يستيقظ، فتبسط أمامه الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب ومكايدها، ويقوم بقراءة ذلك عليه غلمان مرتبون لهذا العمل1.   1 فجر الإسلام "156". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الفصل الثالث: حركة التدوين مدخل ... الفصل الثالث: حركة التدوين إن للتدوين أهميته وخطره، ذلك أن المادة المدونة هي الأساس الذي منه يلتقط المرء صنوف المعرفة يثقف بها نفسه ويروض بها عقله، ثم تختمر فيه لكي تجعل منه بعد ذلك منبعًا معطاء سواء في مجال التصنيف أو في التأليف. ولكن إذا سألنا أنفسنا عما إذا كان هناك تدوين قبل الإسلام في النطاق العربي فماذا يكون الجواب؟ الواقع أن التدوين بالشكل المألوف الذي يؤدي إلى صور المعرفة المتعددة الألوان لم يكن معروفًا قبل الإسلام، باستثناء حالات قليلة لا تنهض لكي تشكل أساسًا يمكن أن ننطلق منه إلى عطاء يؤدي إلى معرفة واسعة. لقد أدت الاكتشافات الأثرية إلى أن الحميريين كانوا يدونون أخبارهم والكثير من حوادثهم على الأحجار بخطهم الخاص بهم، وعلى أطراف الجزيرة العربية عرف أهالي الحيرة الكتابة ولكن بشكل محدود، وفي الحجاز وجد عدد قليل من الناس يعرف الكتابة، وكانت قلة من الشعراء تعرف الكتابة، وكان بعضهم يكتب قصائد وينسقها بنفسه، وفي بعض الروايات أن الرسول "ص" لقي سويد بن الصامت ومعه مجلة لقمان يعني صحيفة كتب فيها حكم لقمان، إلا أن ذلك كله لا ينتهي بنا إلى نتيجة مريحة حول وجود تدوين قبل الإسلام. فوسائل التدوين إن وجدت كانت بدائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 تدوين القرآن الكريم وتفسيره : ولما أنزل القرآن الكريم لم يكن بد من كتابته، وكان للوحي كتاب كما مر بنا، كانوا قلة من حيث عددهم، وكانوا يكتبون ما قد أنزل من الآيات على الرباع والأضلاع وسعف النخل والحجارة والرقاق البيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 إنها وسائل بسيطة ابتدائية، ثم كان العمل الجليل الخطير الذي قام به أبو بكر في خلافته، بوصية من عمر، ونعني به جمع القرآن من صدور الحفاظ، ومن الرقاق والأضلاع والرقاع والسعف والحجارة التي كتب عليها، فبدأت عملية التدوين الكبرى الخالدة التي تخطئ قيد أنملة فيما قامت به من مهمة ليس لها مثيل في التاريخ. إن تدوين القرآن الكريم بعد جمعه يعتبر البداية الفعلية الخطيرة لعلم التدوين. والحق أن عملية جمع القرآن كانت من الدقة والعناية والحذق بمكان، ولكن الأمر لم يقف بالقرآن الكريم عند جمعه ولا بالمسلمين عند ذلك الجهد المخلص العظيم، وإنما احتاج المسلمون إلى فهم ما قد يستغلق عليهم فهمه من معاني آياته، فكان لا بد من وجود المفسر. ولما لم يكن كل مسلم صالحًا للتفسير، وإنما هي مؤهلات بعينها ينبغي لمن يتصدى لتفسير الكتاب العزيز أن يتحلى بها، فقد كان على صفوة الصحابة ممن عايشوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوموا بتلك المهمة كل قدر استعداده. ولم يكن الصحابي يشعر بأي حرج إذا لم يفهم الآية، بل إن عمر العظيم كان في بعض الأحيان إذا استغلق عليه استخلاص حكم من آية، يسأل غيره من الصحابة عن تفسير آية بعينها مثل ما فعله مع عبد الله بن عباس1 فأصبح ذلك تقليدًا في نطاق علم التفسير لا يزال ساري المفعول إلى يومنا هذا وإلى كل يوم في المستقبل. فالذي لا شك فيه أن في الكتاب العزيز آيات كثيرة تحتاج إلى تفسير، فهناك الآيات المحكمات، وفيه أيضًا الآيات المتشابهات، وفيه الآيات التي يحتاج تفسيرها إلى أسباب نزولها، وفيه آيات العبادة والتشريع والمعاملات. وفي الآيات من الألفاظ ما يحتاج فيه إلى معرفة اللغة وإتقان فهمها والإلمام بعلومها، كل ذلك حد من عدد المفسرين بحيث كان عدد الصحابة ممن تصدوا لتفسير الكتاب العزيز من قلة العدد بمكان، وأشهر الذين جلسوا للتفسير علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب. ويمضي جيل الصحابة ويليه جيل التابعين الذين أخذوا عن الصحابة من علوم الدين ما أخذوا وبينها التفسير، ثم يلي ذلك جيل تابعي التابعين، ومع كل جيل تتسع آفاق المعرفة خاصة وأنهم كانوا قد تفرقوا في الأمصار حيث ألوان جديدة من الثقافات، ولكنهم في الوقت نفسه محافظون على ما في صدورهم من علم موروث بالرواية والدراية، وبالجهد المخلص المكتسب، حتى ظهرت التفاسير المكتوبة التي اعتمد المفسرون فيها على مؤهلات المفسر وفي مقدمتها الرواية الموروثة المتسلسلة عن الصحابة والتابعين. وهذا   1 الموافقات للشاطبي "3/ 201" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 النوع من التفسير هو التفسير بالمأثور. ولكن اتجاهًا آخر في نطاق التفسير عند جانب من علماء المسلمين وهو التفسير بالرأي، وكان المفسرون الذين اتخذوا هذا النهج طريقًا يعتمدون على عقولهم مع إتقانهم العربية وعلومها والحديث وأحكامه، فضلًا عن عدم الشذوذ عن روح التفسير المأثور. هذا وقد ند عن هذا السبيل بعض من عرضوا للتفسير بغير عدة من روح الكتاب العزيز والسنة واللغة والإلمام بالأحداث المهمة التي تساعد على فهم القرآن مثل ابن جريج والسدي ومقاتل بن سليمان. ولقد تأثر هذا الأخير ببعض الإسرائيليات التي هي بعيدة كل البعد عن المقصد القرآني، هذا وإن عددًا آخر من الذين أثرت عنهم تفاسير لم تصل إلينا لحسن الحظ قد تورطوا فيما تورط فيه مقاتل بن سليمان من تأثر بالآراء اليهودية والنصرانية التي لم تتفق مع المعنى القرآني، ومن بين هؤلاء المفسرين محمد بن إسحاق ووهب بن منبه وكعب الأحبار. على أنه يمكن القول بأن أول من فسر القرآن تفسيرًا أمينًا، هو يحيى بن زياد بن عبد الله ابن منظور المشهور بالفراء، إمام الكوفيين الذي كان يلقب بأمير المؤمنين في النحو والمتوفى سنة 207 هـ عن ثلاثة وستين عامًا، وكان المأمون قد اختاره لعلمه وفضله ودينه مؤدبًا لولديه. والتفسير الذي نقصده هو كتاب "معاني القرآن"1 ثم تتابع بعد ذلك المفسرون بمدارسهم العديدة ومناهجهم المتباينة، فكان أشهر مفسري المأثور ابن جرير الطبري وأبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، والقرطبي، وأشهر المفسرين بالرأي مفسرو المعتزلة ويمثلهم الزمخشري، والشيعة ويمثلهم الطبرسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 تدوين الحديث : كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو المصدر الثاني للعقيدة الإسلامية بعد القرآن الكريم، وتدوينه أمر من الأهمية بمكان؛ لأنه يمثل الناحية التطبيقية للعقيدة والشريعة، ومن هنا فقد فطن بعض الصحابة إلى ذلك وأخذوا يدونونه من تلقاء أنفسهم، وكان على رأس الصحابة الذين دونوا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقول: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، وهو في ذلك قد قصد إلى الحفظ قصدًا، أو قصد إلى التسجيل تمهيدًا للرواية عنه كاتبًا أو حافظًا. وكان أبو هريرة المعروف بحفظه لأحاديث رسول الله وروايتها المشهور يشهد لعبد الله   1 انظر وفيات الأعيان مادة يحيى بن زياد ومعجم الأدباء "7/ 276" والفهرست "ص 105". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ابن عمرو بن العاص، فيقول: ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب. ومعنى ذلك أن كبير رواة الحديث على عهد الرسول وبعده وهو عبد الله بن عمرو، ويأتي من بعده أبو هريرة وسائر الصحابة وأهل بيت الرسول. ولما كان الحديث الشريف هو المكمل للأحكام التي لم تأتِ صريحة في القرآن الكريم، ولما كان يمثل الناحية التطبيقية في الدين، فقد كان الاهتمام به وبكتابته أمرًا على جانب كبير من الأهمية، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كتابته بل إنه قال ما معناه: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، لقد اقتضت حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لا شيء جدير بالكتابة والتسجيل إلا كتاب الله سبحانه تعزيزًا لقدره وتكريمًا لشأنه، وربما خطر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه بتدوين أحاديثه ربما وقع بعض الجهلاء في الخلط بين القرآن والحديث، وإن كان ذلك أمرًا بعيدًا كل البعد؛ لأن للصيغة الإلهية في القرآن الكريم بيانها وإعجازها وتميزها الذي لا يمكن أن يجعل هناك شبهة خلط بين القرآن الكتاب الإلهي، والحديث القول النبوي الإنساني، وإن كان صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. لكن بعض الأحكام التي لم تفصل في القرآن الكريم قد أوقعت الصحابة والخلفاء الراشدين في مواقف لم يكن الخروج منها والحكم فيها من اليسر بمكان، فعن الخمر مثلًا تكون صيغة التحريم القرآنية في نطاق الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. وفي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 2. أما مقدار التحريم وكيفيته وهل هو تحريم كلي أو تحريم جزئي فإن ذلك لم يرد تفصيلًا في الكتاب العزيز وهناك يلجأ الحكام والفقهاء إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيجدون فيه الملجأ والعاصم وفصل الخطاب في الحديث الشريف: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وبذلك يقطع الشك باليقين ويصدر الحكم واضحًا لا لبس فيه ولا غموض. ومثال آخر يتعلق بالمواريث، وآية المواريث في القرآن الكريم من التفضيل بمكان الكتاب العزيز3: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} ... إلى قوله تعالى   1 سورة المائدة: الآية "90". 2 البقرة: الآية "219". 3 النساء: الآيتان "11، 12". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيم} ، ولكن جدة تأتي إلى الخليفة أبي بكر وتقول له: إن لي حقًّا في مال حفيد لي. فأجابها أبو بكر: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك شيئًا، وسأل أبو بكر في ذلك بعض الصحابة، فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله أعطاها السدس، ولكن أبا بكر مع ثقته في المغيرة أراد أن يوثق هذا القول الذي سوف يصير في ما بعد حكمًا ودستورًا، فيسأل المغيرة: ومن سمع لك معك؟ فيشهد معه محمد بن مسلمة، حينئذ أمر أبو بكر بإعطاء المرأة سدس تركة حفيدها1. إن الأحاديث الشريفة إذن من أهمية الجمع والتدوين بمكان، لقد كان عدد من الصحابة يحفظون الحديث ولا يروونه ولكنهم لم يكتبوه امتثالًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان منهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأم المؤمنين السيدة عائشة بطبيعة الحال، غير أن أكثرهم حفظًا ورواية كان أبا هريرة الذي روى ما يزيد على خمسة آلاف حديث، ويليه من حيث العدد ما روته أم المؤمنين عائشة التي روت ما يزيد قليلًا على ألفين ومئتي حديث. ولكن عدم تدوين الحديث على عهد رسول الله أو بعد وفاته بقليل أتاح الفرصة لبعض الأفراد والفئات أن تضع أحاديث تخدم بها فكرة أجنبية أو مذهبًا سياسيًّا أو تبتغي من ورائه فسادًا في الدين وتنسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن أغلب هؤلاء كان يبغي من وراء وضع الأحاديث الدس على الإسلام، وبعضهم لم يكن حسن إسلامهم، بل كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، فمن هؤلاء على سبيل المثال عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي كان متهمًا بالمانوية، وكان من الخبث بحيث يخترع للأحاديث التي يزيفها على الرسول أسانيد يغتر بها غير المتفقهين العلماء، وكلها محشوة بالضلالات ملأى بما يناقض جوهر الإسلام، لقد اعترف عبد الكريم هذا عندما أخذ لتضرب عنقه جزاء تزييفه بأنه وضع أربعة آلاف حديث حلل فيها ما شاء وحرم فيها ما شاء2، وهناك فئة أخرى من واضعي الأحاديث التي تحض على العبادات وفعل الخير وتنهى عن المنكر وفعل الشر، وقد ظنوا بذلك أنهم يقدمون للدين والأخلاق قيمًا ومعايير، وأنهم يضعون الناس على طريق الصواب. وهؤلاء وإن كان خطرهم لا يساوي خطر سابقيهم إلا أنهم -مهما كان غرضهم نبيلًا- مزيفون كاذبون. وهناك أيضًا الفرق السياسية التي خاصم بعضها بعضًا كبعض الأمويين وبعض الشيعة، وكلها أحاديث لا يليق بأصحابها -مهما كانت الدوافع التي تراودهم من وراء كتابتها- أن   1 تذكر الحفاظ للذهبي "1/ 2". 2 فجر الإسلام "ص 211" عن شرح مسلم الثبوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ينسبوها إلى الرسول الكريم، خاصة وأن الكثير منها يتصل بجوهر العقيدة ونقائها1. لقد كان الخليفة عمر بن الخطاب عزم على جمع الحديث الشريف وحسن له الفكرة بعض الصحابة، ولكنه في ضوء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نهى فيه عن كتابة أحاديثه أخذ يترتب شيئًا فشيئًا إلى أن هداه قلبه إلى الإقلاع عنها قائلا: إني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا ناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء2. وإن الفكرة نفسها راودت الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز وكتب إلى الأمصار أن ينظروا إلى حديث رسول الله فيجمعوه، ولكن توجيهاته في هذا الشأن لم تنفذ. ربما لتردد القادرين على الجمع في قبولها أو لأن المنية عاجلت الخليفة فلم يتم مشروعه. على أن مشروع جمع الحديث الشريف لا يلبث أن يصبح حقيقة واقعة حين يقوم محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري المتوفى سنة124هـ بأول محاولة لتدوين الحديث3. وقد كان أهلًا لذلك فقد كان يحفظ ألفين ومائتي حديث، وكان عمرو بن دينار ينكر فضله أول الأمر فلما أن رآه، قال: والله ما رأيت مثل هذا الفتى القرشي قط4. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه. ولقد صدق عمر بن عبد العزيز، فإن أكثر من إمام جليل قد روى عن ابن شهاب الزهري، مثل مالك وسفيان الثوري. ثم تأخذ فكرة جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شكلها النهائي حين يرى المسلمون أن المصدر الثاني للتشريع واجب الجمع مهما كانت العقبات التي تعترض طريقه، فيتوفر الإمام الجليل مالك بن أنس 93 - 179هـ على جمعه في كتابه "الموطأ" في المدينة، ويقدم على الجهد نفسه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج في مكة 150 هـ، وعبد الرحمن الأوزاعي في الشام 183هـ، وسفيان الثوري في الكوفة 161هـ، وحماد بن سلمة بن دينار في البصرة 176 هـ. إن كل هذه الجهود تتم في القرن الثاني للهجرة وإن كان الرجال موزعين في الأمصار متفرقين في الأقطار، حسبما رأينا، غير أنهم عاشوا في الفترة الزمنية نفسها وعاصر بعضهم بعضًا. وفي الثلث الأخير من القرن الثاني حتى العام الأربعين من القرن الثالث 241، عاش   1 راجع فكر الإسلام "ص 212-215" ففيه مزيد من التفصيل والتمثيل. 2 فجر الإسلام "221". 3 الأعلام مادة محمد بن مسلم الزهري. 4 وفيات الأعيان "4/ 177". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الإمام أحمد بن حنبل الذي توفر طوال حياته على جمع الحديث الشريف فصنف كتابه الشهير المسند يضم حوالي ثلاثين ألف حديث، انتقاها من سبعمائة وخمسين ألف حديث، أثبت ما صح له منها، وحجب ما لم يثق في نسبته إلى رسول الله1. ثم يلمع في أفق المتوفرين على جمع الحديث الشريف الإمامان الجليلان: محمد بن إسماعيل البخاري194-256هـ ومسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري204-261هـ، عاش الأول في بخارى ومات بالقرب من سمرقند في مشرق الوطن الإسلامي الذي يعيش في عصرنا هذا تحت الحكم الروسي، وعاش الثاني في نيسابور في إيران وتوفي في إحدى ضواحيها. وكلاهما صاحب "صحيح الحديث" الذي يحمل اسمه، وهما أكثر كتب الأحاديث النبوية الشريفة ثقة عند جمهرة المسلمين. وتتسع دائرة جمع الأحاديث وتحقيقها فتظهر كتب أخرى أربعة كبيرة في السنن هي: سنن محمد بن يزيد بن ماجه المتوفى 273هـ، وسنن أبي داود السجستاني المتوفى 275هـ وسنن أبي عيسى محمد الترمذي 287هـ، وسنن أحمد بن علي النسائي المتوفى 303 هـ. وهذه الكتب الأخيرة ابتداء من صحيح البخاري وانتهاء بسنن النسائي لها في قلوب جمهرة المسلمين ثقة مطلقة واحترام كبير بحيث أطلق عليها تسمية تجمعها بعنوان الكتب الستة، هذا وإن جمع الحديث وتحقيقه وتنقيته من المدسوس أو المردود أو المدلس أو الضعيف أمر من المشقة والجهد بمكان، فكل رجال الحديث طوفوا البلدان الإسلامية طلبًا للاستماع إلى الثقات من الحفاظ. فالإمام أحمد يقول في مقدمة المسند: إن هذا الكتاب قد جمعته من سبعمائة وخمسين ألف حديث فيما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان فيه وإلا ليس بحجة، وكان الإمام أحمد يشد الرحال إلى البلد النائي البعيد ليسمع حديثين أو ثلاثة. والإمام البخاري انتقى الأحاديث التي ضمها الصحيح وقدرها سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون من حوالي ثلاثمائة ألف حديث جمعها أثناء تطوافه في البلدان الإسلامية، فزار خراسان، والعراق، ومصر، والشام، وسمع من نحو ألف شيخ2، وليس من شك في أنه انتفع كثيرًا من جهد الإمام أحمد بن حنبل في المسند. وقد لاحظ ابن خلدون في دراسته لصحيح البخاري أن عددًا كبيرًا من الأحاديث قد تكرر فيه، وعلل ذلك بأن الإمام البخاري خرج الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك.   1 راجع كتابنا "إسلام بلا مذاهب" صفحة "550". 2 تذكرة الحفاظ "2/ 122". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الباب الذي تضمنه الحديث، مثل باب الوضوء، باب الصلاة: وهكذا جاء التكرار الذي وصل إلى نحو ثلاثة آلاف حديث1. ولقد قام مسلم بن الحجاج بجهد مماثل لذلك الذي قام به البخاري، فإن مسلمًا تتلمذ على الإمام ابن حنبل وانتفع منه تمامًا كما فعل البخاري. هذا وقد التقى العالمان الجليلان في نيسابور حين زيارة البخاري لها، وكان مسلم يناضل عن البخاري ويقف إلى جانبه ويحامي عنه عندما تعرض هذا الأخير لمحنة إبان إقامته في نيسابور، وأما الرحلات في سبيل جمع الحديث فقد زار مسلم بغداد أكثر من مرة وطوف في العراق، والشام ومصر والحجاز، وجمع ثلاثمائة ألف حديث سجل منها اثني عشر ألفًا فقط في مجهود استمر خمس عشرة سنة. لقد اهتم المسلمون بتدوين الحديث اهتمامًا شديدًا، نكاد لا نقرأ سيرة لمحدث إلا ونجدها مقرونة برحلات عديدة حين يأخذ الثقات من الرواة بعضهم عن بعض، وإذا تأكد لأحد العلماء في بلد ما أن عالمًا في بلد آخر ناء يحفظ حديثًا صحيحًا سارع فشد الرحال إليه، مهما طالت المسافة، وبعدت الشقة لكي يسمعه منه. هذا الاهتمام بالحديث الشريف لم يقف عند حد الرحلة والرواية وحسب، بل إنه تعدى ذلك إلى وضع معايير ورتب للمحدثين والأحاديث، فهذا راوية ثقة وذاك غير ثقة والآخر مدلس والرابع وضاع وهكذا، ولقد كان لرجال الحديث مقدرة فائقة بمعرفة أقدار الرجال ومدى صدق روايتهم بحيث جعلوا منهم طبقات يفضل بعضها بعضًا. كان للرواية قوانين وأصول علمية صحيحة بدأت في أول العهد بها سهلة ولكنها كانت في واقع الأمر من الدقة والمنطق بمكان. كان هناك أولًا التثبت من الرواية عند أخذها وعند أدائها، وهذا خبر الجدة التي ذهبت إلى أبي بكر تطلب ميراثًا من حفيد لها كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكم لها به -وقد مر الخبر قبل قليل- فيطلب منها أبو بكر شاهدًا على ذلك، فيتقدم للشهادة بصحة الخبر المغيرة بن شعبة، ولكن أبا بكر يريد أن يثبت مع عدم شكه في المغيرة ويطلب شاهدًا آخر، فيتقدم محمد بن سلمة للشهادة بتأييد الخبر وتأكيده. وكان الإمام علي بن أبي طالب شديد التحري في الأخذ بالأحاديث التي لم يكن سمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه كان يستحلف من يحدثه بالحديث2.   1 المقدمة "ص387" ط بيروت. 2 تذكرة الحفاظ "1/ 10". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إن هذا الذي جرى من أبي بكر وعلي هو ما يسمى بالتثبت في الرواية عند أخذها أو عند أدائها. ومن مناهج استخلاص صحيح الحديث من سقيمه ما أطلق عليه نقد المرويات وذلك بعرض الحديث على نصوص الدين وقواعده، فإن وجد مخالفًا لشيء منها رد الحديث ولم يعمل به. فمن ذلك أن أم المؤمنين عائشة سمعت حديث عمر وابنه عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، ولكن قال: "إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. وإذا ما حدث شك في حديث بعينه وبخاصة عندما كثر الوضع والتدليس في الأحاديث، أخذ المسلمون الأوائل يحتاطون لذلك بوسائل دقيقة منطقية عقلية، منها، على سبيل المثال، أن يعتني المحدث بالبحث في إسناد الحديث وفحص أحوال الرواة والتدقيق في ذلك بعد أن كان الأمر قبل ذلك يعتمد على الترجيح، ومنها الرحلة في طلب الحديث بهدف سماعه من الراوي الأصلي والتثبت منه مهما كانت مشقة الرحلة. وقد سلف القول: إن كل المحدثين كبارًا وصغارًا ارتحلوا في سبيل جمع الحديث ومنها معرفة ما إذا كان الحديث ضعيفًا أو موضوعًا وذلك بعرض حديث الراوي على رواية غيره من أهل الحفظ والإتقان، فحيث لم يجدوا له موافقًا على حديثه أو كان الأغلب في أحاديثه على نحو من المطابقة ردوا أحاديثه وتركوها. وهكذا لم يكد ينقضي القرن الأول إلا وقد أصبحت للحديث وجمعه وتمييزه بعض الأصول وعرف منه الحديث المرفوع، والحديث الموقوف، والحديث المتصل، والحديث المرسل2. ويمضي علم الحديث أو علم مصطلح الحديث في النمو والازدهار والدقة والمنهجية بحيث لا يكاد القرن الثالث ينخرط في سلك عقود الزمان حتى تكون مجموعات كتب الحديث نصًّا، وعلومه مصطلحًا، قد توفرت أمام محبي علم الحديث الشريف، وقد وضع لها رجاله من أصول المناهج ما لم يسبقوا به في تاريخ العلوم عند أمة من الأمم السابقة ولا غيرها من الأمم اللاحقة، الأمر الذي أذهل أساتذة المنهج في الغرب الأوروبي الذين لم تخل صفوفهم من متحيز أو متحامل، الأمر الذي دفع بهذا الفريق الأخير حين لم يجد مأخذًا على منهج الرواية إلا أن يتهموا رجال الحديث -ظلمًا وجهلًا- بأن اهتمامهم   1 علوم الحديث لابن الصلاح "ص 5": المقدمة. 2 المصدر السابق "ص10 المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 انصب على المنهج والرواية دون المتن والنص، وهم في ذلك أيضًا إما متحاملون وإما جاهلون، حال عجزهم عن فهم النصوص ومتابعتها بينهم وبين أن يصدروا أحكامًا سليمة تتمشى مع طبيعة أرقى منهج علمي لتوثيق رواية بعينها عند أمة من الأمم حتى يومنا هذا. لقد كان علماء الحديث من الحذق والذكاء والعبقرية وسعة المعرفة وعمق الإدراك بحيث قسموا الأحاديث من جهة قوتها وضعفها بعد دراستها دراسة واعية إلى مراتب عديدة، لكل مرتبة صفتها وتعريفها وأمثلتها، فمن هذه الرتب: الصحيح، الحسن، الضعيف، المسند، المتصل، المرفوع، الموقوف المقطوع، المرسل، المنقطع، المعضل، المدلس، المعلل، المضطرب، المدرج، الموضوع، المقلوب، المشهور، الغريب، والعزيز، المسلسل، الناسخ والمنسوخ، المصحف، المختلف، المؤتلف والمختلف، المتفق والمفترق وغير ذلك من الرتب التي توسع في التعريف بها وأكثر من التمثل لها رجال مصطلح الحديث1. ومن دراسة مراتب الحديث نفسه ينتقل علماء الحديث إلى دراسة رواية الحديث، فيذكرون صفة من تقبيل روايته، معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وسائر وجوه الأخذ والتحمل، معرفة كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده، معرفة كيفية رواية الحديث وشرط أدائه وما يتعلق بذلك، معرفة آداب المحدث، معرفة أداب طالب الحديث، معرفة الإسناد العالي والنازل. ومن دراسة الرواية يتسلسل منهج أساتذة الحديث إلى تناول المحدثين أنفسهم ورتبهم وأجناسهم وصلاتهم بعضهم ببعض، وطبقاتهم وأوطانهم وأعمارهم على هذا النحو الممتع من المنهج: معرفة الصحابة رضي الله عنهم، معرفة التابعين رضي الله عنهم، معرفة الأكابر من الرواة عن الأصاغر، معرفة الأخوة والأخوات من العلماء والرواة، معرفة رواية الآباء عن الأبناء معرفة رواية الأبناء عن الآباء، معرفة من اشترك في الرواية عنه راويان متقدم ومتأخر تباعد ما بين وفاتيهما، معرفة من لم يرو عنه إلا راوٍ واحد، معرفة من ذكر بأسماء مختلفة أو نعوت متعددة، معرفة المفردات من أسماء الصحابة والرواة والعلماء، معرفة الأسماء والكنى، معرفة كنى المعروفين بالأسماء دون الكنى، معرفة ألقاب المحدثين، معرفة الثقات والضعاف من الرواة، معرفة من خلط في آخر عمره من الثقات، معرفة طبقات الرواة والعلماء، معرفة الموالي من الرواة والعلماء، معرفة أوطان الرواة وبلدانهم. هكذا يتناول رجال الحديث موضوعهم في نطاق هذا المنهج الدقيق الذي يذهل   1 ابن الصلاح في صفحات عديدة يمكن الرجوع إليها في فهرست الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 القارئ تفاصيله الدقيقة التي تدل على عبقرية القوم وبعد نظرهم وبسطة إدراكهم لمهمة العالم المحقق المدقق الذي يعرف طريقه بدقة وحصافة ومقدرة، الأمر الذي جعلهم أساتذة المنهج العلمي في التأليف العربي والتأليف الغربي1.   1 تراجع الموضوعات تفصيلًا في علوم الحديث لابن الصلاح، ومعرفة علوم الحديث لأبي عبد الله الحافظ النيسابوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 تدوين العلوم والمعارف : إن كثيرًا من النصوص والأخبار تدل على أن التدوين بدأ في وقت أكثر تبكيرًا مما يظن كثير من الدارسين، وأنه يمكن أن يكون قد بدأ في عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد مر أن معاوية استحضر من اليمن عبيد بن شربة الجرهمي إلى دمشق وسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد، إلى غير ذلك مما عن لمعاوية من أسئلة، فكان عبيد يجيبه إجابات مستفيضة مفيدة مما جعل معاوية يأمر بهذه المعلومات أن تدون وأن تنسب إلى مدونها عبيد بن شريه1. والقضية بهذا الشكل تفيد أن الخلفاء الأول كانوا حريصين على تتبع أشكال من الثقافات غير الدينية وكانوا أيضًا حريصين على تدوينها محافظة عليها من أن تضيع بموت صاحبها، وكي ينتفع الناس بها مقروءة لا مروية. هذا من ناحية، وأما الناحية الأخرى فتكمن في ما يسمى في زماننا بحق التأليف، فقد حرص معاوية على أن يحفظ لعبيد حقه الأدبي بنسبة المدونة إليه وحملها اسمه، وهو معنى راقٍ يدل على وعي مبكر بقدر العلماء ورواة الأخبار. هذا وقد عاش عبيد بن شرية طويلًا؛ لأنه أدرك النبي وإن لم يسمع منه، ومات في زمان عبد الملك بن مروان، وينسب إليه كتابان هما "كتاب الأمثال" و"كتاب أخبار الملوك الماضين". ومعنى ذلك أن التدوين العام القريب من التأليف بدأ منذ منتصف القرن الأول الهجري. وفي الفترة نفسها عاش صحار العبدي الخارجي المحدث النسابة الخطيب، وإليه ينسب واحد من كتب الأمثال بعنوان كتاب الأمثال. كما أنه فيما يذكر ابن النديم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين أو ثلاثة2. ويذكر صاحب الفهرست قصة محمد بن الحسين الذي كان هاويًا لجمع الكتب ويقول   1 الفهرست "ص138". 2 الفهرست "ص138". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إنه زاره في مدينة الحديثة في أواخر القرن الرابع أو أوائل الخامس؛ لأن ابن النديم توفي بعد سنة الأربعمائة الهجرية غير أنه لا يهمنا من ابن النديم أو صاحبه محمد بن الحسين شيء إلا ما كان عند محمد بن الحسين هذا من أوراق مجموعة في خزانة شملت قطعًا من الكتب القديمة وأبوابًا من النحو واللغة والأدب. يقول ابن النديم: إنه لقي محمدًا هذا على دفعات وكان نفورًا بما عنده، خائفًا من بني حمدان، ويستطرد ابن النديم، فيقول: أخرج لي قمطرًا كبيرًا فيه نحو ثلاثمائة رطل من جلود وصكاك وقراطيس وورق صيني وورق تهامي وجلود أدم فيها تعليقات عن العرب وقصائد مفردات من أشعارهم وشيء من النحو والأخبار والحكايات والأسماء والأنساب، ولكنها كانت خلقة، أي بالية، وكان على كل ورقة مدرج توقيع بخطوط العلماء واحدًا إثر واحد. ويمضي ابن النديم قائلًا: ورأيت في جملتها مصحفًا بخط خالد بن أبي الهياج صاحب علي، ورأيت فيها بخط الإمامين الحسن والحسين، ورأيت عنده أمانات وعهودًا بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وبخط غيره من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خطوط علماء النحو واللغة أمثال أبي عمرو بن العلاء، وأبي عمرو الشيباني. ويستطرد ابن النديم قائلًا إنه رأى معلومات في النحو عن أبي الأسود الدؤلي مكتوبة بخط يحيى بن يعمر، وأشياء أخرى مكتوبة بخط النضر بن شميل1. كل هذه وثائق تدل على بكور التدوين والتصنيف، فإذا صح الخير الذي يقول إن كعب الأحبار الذي مر ذكره والمتوفى سنة 34هـ قد ترك كتابًا في تاريخ الإسكندر، كان أمر التأليف فضلًا عن التصنيف والتدوين بدأ مبكرًا كل التبكير. هذا وقد سبق القول قبل قليل أن وهب بن منبه قد صنف كتابًا في تاريخ المتوجين من ملوك حمير. إن كل هذه التصنيفات قد تمت في عهد الصحابة الذي يندرج تحته العهد الأموي المبكر، فإذا دلفنا إلى صميم العصر الأموي توالت علينا الأخبار التي تحمل في ثناياها ما يفيد تصنيف الكثير من الكتب التي كان الخاصة من الناس يقرءونها ويقتنونها في بيوتهم وخزائنهم. فهذا هشام بن عروة بن الزبير بن العوام يذكر أن أباه عروة بن الزبير، وهو من الطبقة العليا من التابعين، أحرق يوم الحرة كتب فقه كانت له -أي من تأليفه- ثم حزن عليها وظل يردد بعدها: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي. وعروة هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وكان عالمًا بالدين صالحًا كريمًا، وهو أخ   1 الفهرست "ص 66، 67". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 شقيق لعبد الله بن الزبير الذي أنشأ حكومة قرشية في الحجاز وخضعت له العراق تحت قيادة أخيه مصعب، ولكن لم يكتب لها النجاح، ولقد عاش عروة بين سنتي 22-93هـ. ولا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلى أن جميع الكتب صنفت في علوم الدين أو علوم العربية والأخبار وحسب، فقد روي أن خالد بن يزيد بن معاوية كتب أكثر من كتاب في الكيمياء والعلوم المعملية ذكر منها ابن النديم: كتاب الحرارات، وكتاب وصيته لابنه في الصنعة، وكتاب الصحيفة الكبير، وكتاب الصحيفة الصغير، هذا فضلًا عن ديوان شعر كبير1. وذكر أيضًا أن زياد بن أبيه قد ألف كتابًا في الأنساب طعن فيه على العرب أنسابهم لما لقيه من عنت منهم بسبب مولده من سفاح2، وإن كنا نستبعد مثل ذلك على زياد.. فقد كان من الحصافة ورجاحة الرأي بحيث يتردد في الإقدام على مثل هذا العمل. وليس هناك ثمة شك في أن كتبًا كثيرة وفيرة قد ألفت أو صنفت في هذه الفترة الباكرة من زمن الأمويين، ولقد أغرم بها بعض من أحبوا المعرفة وأقبلوا عليها وتفرغوا لها، فهذا ابن شهاب الزهري كان يجلس في بيته ويحيط نفسه بالكتب يضعها حوله. ولا شك في أن بعض هذه الكتب كان له ومن تصنيفه والبعض الآخر لغيره من المصنفين، فهو تابعي من أكابر الرواة الحفاظ الفقهاء، وكان يحفظ ألفين ومائتي حديث نصفها مسند، وكان الزهري يطوف في البلدان ومعه ألواح وصحف يكتب عليها كل ما يسمع، وكان حجة في السنة والحديث حتى إن عمر بن عبد العزيز، قال في شأنه: عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه. ولقد شغل الزهري بكتبه عما سواها حتى كادت تسبب له مشاكل بينه وبين زوجته التي كانت كلما رأته مشغولًا بالقراءة عنها، تقول: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر3. هذا وكان لدى الوليد بن يزيد في خزائنه كميات كبيرة من الكتب، بحيث إنه لما قتل حملت كلها لكثرتها على الدواب وكلها فيما يروي ابن سعد من علم الزهري. ومن مؤلفي الكتب وجامعيها، أو بلغة العصر أصحاب المكتبات الخاصة أبو عمرو بن العلاء -واسمه الحقيقي زبان بن عمار- كانت كتبه التي كتبها عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتًا إلى قرابة سقفه، ثم تنسك فأحرقها، فلما رجع عن تنسكه لم يكن عنده من العلوم   1 الفهرست "511-512". 2 الأعلام: مادة زياد بن أبيه. 3 الأغاني: "4/ 52" ووفيات الأعيان "4/ 177، 178". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 إلا ما وعاه في قلبه، هذا ومما هو جدير بالذكر أن أبا عمرو عاش بين سنتي 70-154هـ. وتتسع الدائرة التي توضح الصورة لنا أكثر وأكثر في نطاق التأليف عندما يروي الأصبهاني أن هناك من أنشأ مكتبة عامة، وأنه قصر قراءها على خاصته ووفر لهم الأوراق والأقلام حتى يتيسر لهم النفع والفائدة، أو بعبارة أدق كان هناك من جعل من بيته ناديًا في العصر الأموي، اشتمل على وسائل الترفيه من شطرنج ونرد، وجعل من جملة وسائل الترفيه الذهني دفاتر من كل علم، أي من علوم دينية وأخرى دنيوية، وتيسيرًا لمهمة القراء والقصاد جعل في الجدار أوتادًا فمن جاء زائرًا أو قارئًا علق ثيابه على وتد منها، ثم جرد دفترًا فقرأه أو نهض إلى بعض ما يلعب به فلعب به. إن صاحب هذا المنتدى وهذه المكتبة هو عبد الحكيم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الذي عاش في عصر بني أمية1. وهكذا يمكن أن نقرر أن التدوين والتصنيف لم يبدأ في العصر العباسي حسبما ظن الدارسين الذين بزعمهم هذا يجعلون قضية الثقافة والتأليف تبدو وكأنها فرع من الثقافة الفارسية وليست العربية، وإنما بدأ التدوين منذ العهد الإسلامي الباكر، وهذه الأخبار التي أوردنا يمكن أن تشكل الأسباب الواقعية لذلك، غير أنه على عهد العباسيين كانت موجة التأليف قد تضخمت، ودائرته قد اتسعت، وأصوله قد تفرعت، وفروعه قد أثمرت، وهذه سنة النشوء يبدأ الشيء صغيرًا ثم يتدرج مع الأيام نموًّا، وكلما مرت الأيام كانت خطوات التقدم أوسع من ذي قبل، هذا ولا شك أن عامل الضياع الذي تعرضت له الكتب العربية ومن بينها الكتب التي صنفت في العصر الباكر قد جعلت الصورة غير واضحة المعالم عند من يهملون ربط الأحداث التاريخية ولا يأخذون ظاهرة تدرج النمو الثقافي وتداخله عند الأمم مأخذ العناية والالتفات عندما يعرضون لقضايا البحوث الثقافية والحضارية. وهناك كلمة حق يجب أن تقال، وهي أنه لا العرب ولا الفرس أصحاب فضل في التدوين ثم التأليف وإنما الفضل يكمن في العقيدة الجديدة التي حضت الجميع على العلم ودفعت بهم إلى المعرفة فكان التصنيف، ثم التأليف ثمرتين لهذه المعرفة، وكان مر أن الدقة وسلامة المنهج وسمات التأني وعلامات التثبت كلها نابعة من التجربة الرائدة التي قام بها علماء الحديث على مدى أعوام موصولة متتابعة في حلقة عقود متلاحقة من السنين في نطاق قرون مرتبطة من الزمان.   1 وفيات الأعيان "3/ 466". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الباب الثاني: الكتابة والإنشاء الفصل الأول: الكتابة بدأت عربية دون تأثير فارسي مدخل ... الباب الثاني: الكتابة والإنشاء: الفصل الأول: الكتابة بدأت عربية دون تأثير فارسي تمهيد: لا يكاد يقترب القرن الأول الهجري من نهايته حتى يكون التفاعل الفكري بين الشعوب الإسلامية قد آتى ثماره نتيجة لاندماج الثقافات والقيام ببعض الترجمات من هندية وفارسية ويونانية، ونتيجة أيضًا لاتساع آفاق العلوم الإسلامية نفسها التي سارت في خدمة العقيدة والثقافة الدينية من حديث وفقه وعلم كلام وتفسير ولغة ونحو وصرف وأدب وتاريخ وغير ذلك، بحيث يمكن القول بأنه قد تشكل ما يمكن أن نسميه بالعقل الإسلامي الذي حفظ وتعلم ووعى واكتسب، ثم أعطى بوفرة وسخاء ومنح فوفى في العطاء. لقد تصور حاجي خليفة صاحب كشف الظنون التأليف على أنه يجري على سبعة أقسام لا يؤلف عالم إلا فيها وهي: إما شيء لم يسبق فيخترعه، أو شيء ناقص يتمه، أو شيء مغلق يشرحه، أو شيء يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصححه. هذا هو منهج التأليف كما يتصوره رجل حصر مهمته طوال عمره في نطاق الكتاب العربي يحصيه ويعرف به على صعوبة هذه المهمة واحتياجها إلى عمرين فضلًا عن عمر واحدًا، وهو في تعريفه هذا رغم بساطته أقرب إلى الصحة وأدنى إلى الصواب. على أن هناك قبل التأليف مرحلة أساسية لا بد أن يمر بها المؤلف قبل أن يقدم على عملية التأليف: إنها مرحلة الكتابة والإنشاء، فالإنشاء هو عملية بناء الجملة التي تحسن تصوير الفكرة، والفكرة بدورها لبنة من لبنات الكتاب المؤلف. لقد كان لابد للعقل العربي قبل أن يقدم على التأليف أن يملك وسيلة التأليف وهي الكتابة، ذلك أن العرب كما هو معروف لم تكن أمة كاتبة، بل كانت الأمية تشيع بينهم. والذين كانوا يعرفون الكتابة -ولا نقول: يحسنونها- لم يكن عددهم يزيد في كل من مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 والمدينة على عدد أصابع اليدين، وحتى هؤلاء لم تكن قدراتهم تزيد على الكتابة التدوينية، أما الكتابة الأصيلة التي يحتاج إليها المؤلف فهي الكتابة الإنشائية التي تحتضن الفكرة وتحسن التعبير عنها وتسطرها في أسلوب مبسط يمكن القارئ من التقاطها واستيعابها. وإذن فهناك مرحلة أساسية ضرورية سابقة لمرحلة التأليف، وهي مرحلة الكتابة الإنشائية التي تلتقط الفكرة وتحسن التعبير عنها وتقدمها مهضومة سائغة للقارئين وطالبي المعرفة. إن كتب الأدب والأخبار تذكر لنا سالمًا مولى هشام بن عبد الملك على أنه رائد الكتابة العربية، وقد يكون هذا الخبر من الصحة بمكان، غير أن أثرًا واحدًا لسالم هذا لم يصل إلينا حتى نحكم له أو عليه، ومن ثم كان علينا أن نعتمد على ما بين أيدينا من نصوص كتابية نعتبرها نصوصًا رائدة في فن الكتابة العربية نستطيع من خلالها أن نتتبع تطور الكتابة العربية التي هي أداة فن التأليف في المكتبة العربية الإسلامية. ويحضرنا في هذا السبيل عدد من الكتاب الرواد بعضهم عرب خلص والبعض الآخر من الفرس المستعربين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يحيى بن يعمر العدواني : فأما الأول فهو يحيى بن يعمر العدواني من قيس عيلان، كانا كاتبًا ليزيد بن المهلب بن أبي صفرة، كما كان قاضيًا لخراسان على عهد قتيبة بن مسلم الباهلي، غير أننا لا نهتم في هذا المجال بيحيى القاضي وإنما الذي يهمنا هو يحيى الكاتب، لقد كتب يحيى على لسان يزيد بن المهلب إلى الحجاج هذه الرسالة يبلغه فيها بنصر يزيد على أعداء الدولة، فقال: "إنا قابلنا العدو فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة بعراعر الأودية وأهضام الغيطان، وبتنا بعرعرة الجبل وبات العدو بحضيضه"1. لقد كانت هناك كتابة بمعناها الحقيقي، وهي كتابة مبكرة؛ لأن يحيى بن يعمر واحد من التابعين، وشهد بعض الصحابة ودرس عليهم وروى عنهم. فقد لقي عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وقد كان يتسلح بما يتسلح به الكتاب الذين تتلمذوا على عبد الحميد وإن كان يحيى بن يعمر أسبق كتابة وزمانًا من عبد الحميد، ولم يكن يحيى مجرد كاتب أو قاضٍ   1 البيان والتبيين "1/ 377". عراعر الأودية أسافلها، وعراعر الجبال أعاليها، وأهضام الغيطان مداخلها، والغيطان جمع غائط، هو الحائط ذو الشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ولكنه بالإضافة إلى ذلك كان عالمًا بالقراءة والحديث، والفقه، والعربية، ولغات العرب، بل إنه واحد من أساتذة أبي الأسود الدؤلي صاحب علم النحو1. قد يبدو هذا الضرب من الكتابة وعر الأسلوب بمقياس زمماننا، ولكنه في حقيقته كان يعتبر مثلًا أعلى للفصاحة على زمانه، فإن هذه الصياغة قد استوقفت الحجاج وجعلته بيدي إعجابه وتعجبه في وقت واحد ظانًّا أن هذا الأسلوب من الإنشاء هو أسلوب يزيد بن المهلب، وقال: ما لابن المهلب وهذا الكلام فقيل له: إن يحيى بن يعمر عنده، فقال: ذاك إذن، يعني لقد زال العجب. واستطرادًا للحديث عن يحيى بن يعمر، نذكر أن الحجاج لما أعجب به أو بالأحرى برسالته أمر بأن يحمل إليه، فلما أتاه، قال له: أين ولدت؟ قال بالأهواز، قال: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبي وجرى بينه وبين الحجاج أكثر من حوار، وكان الحجاج -فيما نعلم جميعًا- خطيبًا بليغًا فصيحًا ذا منطق وإبانة لا يشق له غبار، حتى إن أبا عمرو بن العلاء قال في شأنه: ما رأيت أحدًا أفصح من الحسن البصري والحجاج. سأل الحجاج يحيى ذات يوم قائلًا: أتجدني ألحن؟ فقال مجاملًا: الأمير أفصح من ذلك، فقال الحجاج مؤكدًا: عزمت عليك، أتجدني ألحن؟ فقال يحيى: نعم. فقال له في أي شيء فقال: في كتاب الله تعالى. فقال: ذلك أسوأ، ففي أي حرف من كتاب الله؟ قال: قرأت: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} فرفعت "أحب" وهو منصوب، فغضب الحجاج وكان من عنف الغضب ما نعلم، وقال: لا تساكنني في بلد أنا فيه، ونفاه إلى خراسان. فإذا كان الحجاج قد ملك عشرين سنة ومات سنة 95هـ وإذا كان يزيد بن المهلب قد ولي إمرة خراسان ست سنوات 83-89هـ فإن يحيى بن يعمر يكون قد مارس الكتابة في العقد التاسع من القرن الأول الهجري، أي قبل أن يمارسها، أو بعبارة أخرى، قبل أن يستوي على عرشها عبد الحميد بن يحيى المعروف بعبد الحميد الكاتب بما يقارب ثلث قرن من الزمان أو أكثر قليلًا، ولا يقلل من هذه الحقيقة أن يحيى بن يعمر مات سنة 129 هـ وعبد الحميد قتل سنة 132هـ ذلك أن الأول كان شيخًا كبيرًا حين كان الثاني في فتوة الشباب.   1 معجم الأدباء "20/ 42". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 عبد الله الطالبي : هذا ما كان من أمر كتابة يحيى بن يعمر، وهي في تقديرنا -إن كنا على جانب السلامة من الاستنتاج- أول كتابة فنية مستكملة أسباب البلاغة والبيان بمقياس عصرها، فقد كان الإيجاز آنذاك آية البيان وعنوان البلاغة، على أن قضية زمام الكتابة العربية التي هي أداة التعبير السليم عما يخالج العقل العربي في مرحلة تطوره الثقافي لم تنتقل فجأة وبغير تدرج حتى وصلت إلى سالم ثم عبد الحميد، فليس الأمر والحال كذلك على جانب من الصواب، وإنما انتقلت الكتابة من أنامل عربية خالصة ممثلة في يحيى بن يعمر العدواني القيسي والحجاج بن يوسف الثقفي، وقطري بن الفجاءة المازني إلى أنامل عربية قرشية هاشمية، ونعني بذلك عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. لقد طلب عبد الله الخلافة ونصب نفسه خليفة بالكوفة سنة 127هـ ثم انتقل إلى المدائن، واستولى على الجبال وهمذان وأصبهان والري واستفحل أمره وجبى الخراج وقصده بعض بني هاشم، مثل أبي جعفر المنصور الذي صار من أشهر ملوك العباسيين بعد ذلك بست سنوات أو سبع. لقد كان عبد الله الطالبي هذا واحدًا من الرواد الذين روضوا الكتابة من مرحلة التقعر إلى منهج البساطة، وطورها من صورة التوعر إلى أسلوب السهولة، وهو في ذلك يشكل مرحلة بين المرحلتين، مرحلة يحيى بن يعمر ومن سار على دربه، ومرحلة عبد الحميد ومدرسته، فلننظر في هذه الرسالة الباكرة التي كتبت بكل تأكيد قبل عبد الحميد، يقول عبد الله1: "أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأتني بلطف عن غير خبرة. ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب، فأطمعني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفاتك. فلا أنا في اليوم مجمع لك اطراحًا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة، فسبحان من لا يشاء الكشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة فيك، فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف. والسلام1. أرأيت كيف تطورت الكتابة بسرعة وفي ظرف حوالي ثلاثين سنة هذا التطور السريع البديع، من عربي لعربي، ولم يدخل إلى الساحة حتى الآن من واقع النصوص فارسي واحد؛ لأن سالم مولى هشام بن عبد الملك الذي قيل عنه إنه الإمام الحقيقي لمدرسة الكتابة العربية لم يظهر له أثر واحد، ومن المقطوع به أن عبد الله هذا لم يكن من أخدانه أو من تلامذته؛ لأن عبد الله على ما مر بنا القول خرج على بني أمية 127هـ وأنشأ ملكًا.   1 راجع كتابنا "الأدب في موكب الحضارة الإسلامية" صفحة 330 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ولم تكن هذه الرسالة هي المثال الوحيد الذي أثر عن عبد الله بن معاوية، فإن له رسالة أخرى ذكرها صاحب البيان والتبيين وجهها إلى أبي مسلم الخراساني من السجن الذي كان أودع فيه بعد أن أسره رجال أبي مسلم في أواخر أيام بني أمية، تعتبر من أرق الرسائل وأكثرها إشراقًا وأيسرها أسلوبًا يقول فيها: "من الأسير في يديه بلا ذنب إليه، ولا خلاف عليه، أما بعد: فأتاك الله حفظ الوصية، ومنحك نصيحة الرعية، وألهمك عدل القضية، فإنك مستودع ودائع، ومولى صنائع، فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك، فالودائع عارية والصنائع مرعية، وما النعم عليك وعلينا فيك بمنذور نداها ولا بمبلوغ مداها. فنبه للتفكر قلبك، واتق الله ربك، وأعط من نفسك لمن هو تحتك ما تحب أن يعطيك من هو فوقك من العدل والرأفة والأمن من المخافة، فقد أنعم الله عليك، بأن فوض أمرنا إليك، فاعرف لنا لين شكر المودة، واغتفار مس الشدة والرضى بما رضيت، والقناعة بما هويت، فإن علينا من سهك الحديد وثقله أذى شديدًا مع معالجة الأغلال وقلة رحمة العمال الذين تسهيلهم الغلظة وتيسيرهم الفظاظة وإيرادهم علينا الغموم وتوجيههم إلينا الهموم، وزيارتهم الحراسة وبشارتهم الإياسة. فإليك بعد الله نرفع كربة الشكوى، ونشكو شدة البلوى، فمتى تملي إلينا طرقًا، وتقول فك عطفًا، تجد عندنا نصحًا صريحًا، وودًّا صحيحًا، لا يضيع مثلك مثله، ولا ينفي مثلك أهله. فارع حرمة من أدركت بحرمته، واعرف حجة من فلجت بحجته، فإن الناس من حوضك رواء، ونحن منه ظماء، يمشون في الأبراد ونحن نرسف في الأقياد، بعد الخير والسعة، والخفض والدعة، والله المستعان وعليه التكلان، صريخ الأخيار ومنجي الأبرار، الناس من دولتك رخاء، ونحن منها في بلاء، حين أمن الخائفون، ورجع الهاربون، ورزقنا الله منك التمنن، ظاهر علينا منك التحنن، فإنك أمين مستودع، ورائد مصطنع والسلام ورحمة الله". لقد كان عبد الله الطالبي بهذا المنهج المتين المسبوك المحكم وهذا الأسلوب الأنيق المخدوم يمثل المرحلة الثانية في تطور الكتابة العربية التي لا مناص من إجادتها وإرساء قواعدها قبل الانتقال إلى مرحلة التأليف. هذا وكان عبد الله شاعرًا أيضًا وهو صاحب البيت المشهور: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا وقد وفد عليه كثير من الشعراء مادحين وممتاحين وفي مقدمتهم الشاعر الكبير إبراهيم بن هرمة الذي قال فيه مدائح تعتبر من أرق المدائح التي قالها شاعر في ممدوح بعينه. فإذا ما انتقلنا إلى مدرسة الفرس من الكتاب ونعني سالمًا وعبد الحميد فإن سالمًا مولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 هشام بن عبد الملك يشكل هو الآخر فيما تروي الأخبار مدرسة مرموقة الأثر، على أنه وإن كان لم تصل إلينا من إنشاء سالم أي نماذج -حسبما أشرنا قبل قليل- فإن تعاليمه تبدو واضحة في تلميذه عبد الحميد بن يحيى الذي استوى على عرش الكتابة العربية على أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني مروان وقتل معه سنة 132هـ في أبي صير بمصر، أي بعد مقتل عبد الله بن معاوية بثلاث سنوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الفصل الثاني: إسهام المسلمين في تطوير الكتابة من منطلق عربي عبد الحميد بن يحيى : إن عبد الحميد لم يكن عربيًّا، وإنما هو فارسي، وفارسيته إن كانت تعني شيئًا لدى بعض الدارسين فيما يتصل بنبوغه في الكتابة وسلاسة أسلوبه فيها، فإنها عندنا لا تعني شيئًا ذا بال، فإن عبد الحميد بن يحيى يعتبر امتدادًا طبيعيًّا لمدرسة الكتابة التي بدأت بيحيى بن يعمر وأمثاله الذين لا شك قد وجدوا. فلدينا نماذج أخرى من رسائل جرت بين الحجاج وقطري بن الفجاءة تسير على النهج نفسه الذي رسمه يحيى بن يعمر من تقعر في الألفاظ، وتوعر في العبارات، ولدينا نماذج أيضًا لرسائل بعث بها الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يصف فيها حال العراق في إحدى سنوات ولايته وكأنه أراد أن يرسل إلى الملك المرواني في دمشق بتقرير عن أحوال رعيته في العراق. ثم بعد ذلك جاءت مرحلة التوسط التي مثلها عبد الله الطالبي. نقول إن مدرسة عبد الحميد إن هي إلا امتداد متطور متدرج للنهج العربي في الكتابة جعل منها مهنة لها مبادئ وأصول وتقاليد ودستور، وقد فصل عبد الحميد مبادئه في رسالته المشهورة إلى الكتاب التي ملأها بالنصح وبين فيها مكانة الكاتب وشرف مهنته، وفضل الكتاب وأثرهم على الدولة وانتظام شئونها، كما ركز على الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الكتاب، والأسلحة التي يجمل بهم أن يتسلحوا بها، من خلق، وعلم وأدب وفقه، ودين، وحفظ لكتاب الله، وتعلم اللغة، ورواية للأشعار، ومعرفة بأيام العرب والعجم، ثم هو يحضهم في رسالته على احترام الناس، واحترام بعضهم بعضًا، وتوقير الكبير وتشجيع الصغير والعطف على المسنين، ويطلب إليهم الكياسة والنظافة والأناقة، كل ذلك في رسالته المطولة التي جعلت منه إمامًا لمدرسة الكتاب حتى جرى المثل السائر الذي يقال: "بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وحتى نكون على الخط العربي في غير ما عصبية أو تحمس فإن جميع نصائح عبد الحميد للكاتب لكي يكون ناجحًا لم تخرج عن حفظ القرآن الكريم، واستيعاب لغة العرب ورواية أشعارهم ومعرفة أيامهم ثم أيام العجم، وإذن فالكتابة معينها عربي وسبيلها عربي حتى لو جرى بها قلم من لم يكن عربي الأرومة مثل عبد الحميد، على أنه إذا لم يكن عربي الأرومة فقد كان عربي الثقافة واللسان والمعرفة والمشاعر. لقد كان عبد الحميد بليغًا كل البلاغة في كتابته. وكما كان بليغًا في كتابته، فإنه كان بليغًا في حديثه المرتجل وحواره الذي يجري على لسانه عفو الخاطر. وتحكى في ذلك قصص كثيرة طريفة، فقد كان يساير يومًا مروان على دابة طالت حيازته لها، فقال له الخليفة: قد طالت صحبة هذه الدابة لك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن بركة الدابة طول صحبتها، وقلة علفها، فقال له: فكيف أسيرها، فقال عبد الحميد: همها أمامها وسوطها عنانها، وما ضربت قط إلا ظلمًا. ويعظم قدر عبد الحميد في السياسة والكتابة، وكان أبو جعفر المنصور كثيرًا ما يقول بعد أن أصبح خليفة: غلبنا بنو مروان بثلاثة أشياء، بالحجاج وبعبد الحميد بن يحيى والمؤذن البعلبكي. ولعبد الحميد كلمات مأثورة لعلها من أبلغ ما أثر عن الأدب العربي من جمل قصار منها قوله: العلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. ومن كلماته الجميلة أيضًا قوله: الناس أصناف مختلفون، وأطوار متباينون، منهم علق مضنة لا يباع، ومنهم غل مظنة لا يبتاع. وكان إبراهيم بن العباس يقول: ما تمنيت من كلام أحد أن يكون لي إلا كلام عبد الحميد حيث يقول: الناس أصناف ... وإذا كان لنا أن نعرض لأنموذج من رسائل عبد الحميد، وهو المستوى الذي وصل إليه القلم العربي بحيث أصبح قادرًا على التصرف في المعاني ثم تصوير الأفكار، وبالتالي أصبح قادرًا على تأليف الكتاب الناضج الكامل الاستواء، فلا بأس من أن نعرض طرفًا من رسالة كتبها إلى أهله. حينما أحس عبد الحميد بنهايته كتب إلى أهله، وكانوا ينزلون بالقرب من الرقة يعزيهم في نفسه، ضمنها الكثير من فلسفته وبلاغته وشفافية أسلوبه وفيها يقول: أما بعد، فإن الله جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، وجعل فيها أقسامًا مختلفة بين أهلها، فمن درت له بحلاوتها، وساعده الحظ فيها، سكن إليها ورضي بها، وأقام عليها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ومن قرصته بأظفارها، وتوطأته بثقلها، قلاها نافرًا عنها، وذمها ساخطًا عليها، وشكاها مستزيدًا منها. وقد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها، وأرضعتنا من درها أفاويق استحلبناها، ثم شمست منا نافرة، وأعرضت عنا متنكرة، ورمحتنا مولية، فملح عذبها، وأمر حلوها، وخشن لينها، ففرقتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان، فدارنا نازحة، وطيرنا بارحة، قد أخذت كل ما أعطت وتباعدت مثل ما تقربت، وأعقبت بالراحة نصبًا، وبالجذل هما، وبالأمن خوفًا، وبالعز ذلًّا، وبالخبرة حاجة، وبالسراء ضراء، وبالحياة موتًا، لا ترحم من استرحمها، سالكة بنا سبيل من لا أوبة له، منفيين عن الأولياء، مقطوعين عن الأحياء. ويمضي عبد الحميد في رسالته الحزينة البليغة التي وصف حال الدنيا فيها وصفًا لم يكد يسبقه إليه كاتب آخر فلسفةً وعمقًا وثراء معنى وغنى لفظ فيقول: "وكتبت إليكم والأيام تزيدنا منكم بعدًا، وإليكم صبابة ووجدًا، فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها، يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم نرجع إليكم بذل الإسار والصغار، والذل شر دار، وألأم جار، يائسين من روح الطمع وفسحة الرجاء، نسأل الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، أن يهب لنا ولكم ألفة جامعة، في دار آمنة، تجمع سلامة الأديان والأبدان، فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين"1. وهذه الرسالة كما ذكرنا هي آخر ما خطت يراع عبد الحميد في حياته الحافلة بألوان الكتابة الممتعة الثرية المترفة البليغة التي تصور شخصية عبد الحميد أصدق تصوير. إننا نحس ونحن نقرأ لعبد الحميد رسالته إلى أهله أنه سيد القلم، سيد اللفظ، سيد التعبير العربي النابع من ثقافته الإسلامية المحضة، وليس -كما ذهب بعض الأساتذة ممن عرضوا لهذا الموضوع- من ثقافته الفارسية التي ورثها عن أهله أو الثقافة اليونانية التي أخذها من أستاذه سالم، ذلك أن سالمًا لم يترك أثرًا نحكم به عليه من خلاله. إن عبد الحميد لم يقل إنه أوتي البلاغة من الفرس أو الروم وإنما قال إنه أخذها عن العرب والمسلمين، لقد قيل له: ما الذي مكنك من البلاغة، وخرجك فيها، فأجاب حفظ كلام الأصلع -يعني بذلك أمير المؤمنين- وإمام البلغاء علي بن أبي طالب. وخير لهؤلاء الذين يعانون عقدة الفارسية، وعقدة اليونانية حتى يردون كل جيد في   1 المفردات: الدر: اللبن. الأفاويق: ما يتجمع في الضرع من اللبن بعد الحلب. شمست: نفرت، رمحتنا: رفستنا من رمح الفرس. فرقتنا: أخرجتنا. الطير البارحة: التي تطير من اليمين إلى اليسار وكان العرب يتشاءمون منها. الجذل: السرور. الجدة: الميسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 نطاق الحضارة العربية الإسلامية إليهما، أن يربطوا بين النتاج العربي الإسلامي بعضه مع البعض الآخر، ذلك أنهم إن فعلوا فسيجدون أن الفيض الحضاري الإسلامي نشأ متواضعًا، ثم بدأ ينمو ويزدهر ويثمر في سرعة نمو الشجرة المباركة التي صادف غرسها أرضًا طيبة سخية خصيبة. إنه من الخير أن نربط بين كلام عبد الحميد وأسلوبه المشرق العذب، وكلام بعض من سبقوه من بلغاء العرب من خطباء وناثرين من أمثال الحسن البصري وغيلان الدمشقي ويحيى بن يعمر وقطري بن الفجاءة وعبد الله بن معاوية الطالبي بدلًا من أن نربطه بمعين نجهل ويجهل غيرنا وشائج الصلة المباشرة بين عبد الحميد وهذا المعين، الذي يقوم الربط به على الاستنتاج لا على القياس. لقد اكتملت للمؤلف العربي عدته حينما وصل بأسلوب الكتابة إلى هذا المستوى السامي المتطور الرفيع، وهو في الوقت نفسه لا ينقصه الفكر ولا تجانبه الثقافة: قلم وفكر وثقافة مجتمعة معًا لا بد وأنها خليقة بصنع كتاب، وهذا ما كان بالفعل. أما وقد استوى الأسلوب العربي على عوده، وصار من النضج بحيث يمكن أن يكون وسيلة للتأليف في مختلف فنون المعرفة وأبواب العلوم فقد بدأت موجات التأليف تترى، وسيلها يفيض مؤتيًا من الثمار أطيبها ومن الحصاد أوفره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 عبد الله بن المقفع وتصانيفه غير أنه من الإنصاف أن نعترف بوجود مرحلة في التأليف جمعت بين الأصالة والتقليد أو بالأحرى بين الأصالة والترجمة، ولقد تمثلت هذه المرحلة في عبد الله بن المقفع الفارسي الأصل المستعرب بعد ذلك لسانًا وبيانًا. على أنه من التجاوز بمكان أن نعد ابن المقفع من المؤلفين، فهو لم يكن كذلك، وإنما هو يمثل مرحلة تجمع بين الكتابة والترجمة والتصنيف، لقد نبه عبد الله في كل ذلك، نبه شأنه وتفرد بأسلوبه السهل الممتنع الذي يستمتع به كل من يستعرض ما خلف من آثار منشأة أو مصنفة أو مترجمة، ومن ثم كان ابن المقفع يمثل مرحلة تطور طبيعي من ساحة الكتابة إلى ساحة التصنيف التي تؤدي بعد ذلك إلى مرحلة التأليف. إن عبد الله، هو اسمه بعد أن استعرب وأسلم -أو ادعى الإسلام على رأي من طعن في إسلامه- وكان اسمه الحقيقي روزبه بن داذويه، لكنه نشأ في البصرة عند بني الأهتم الفصحاء وخالط الأعراب فأخذ عنهم الفصاحة واستقامة الكلام، ثم اتصل بعمال بني أمية على عهد مروان بن محمد وعمل كاتبًا لهم، أي أنه كان سوي العود مكتملًا أسباب الثقافة العربية التي تؤهله للكتابة في الربع الأول من القرن الثاني، ثم اتصل روزبه بعيسى بن علي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 عم السفاح، أول ملك عباسي وأسلم على يديه أي على يد عيسى وتسمى باسمه هذا الذي يعرف به في كتب الأدب والتاريخ، وعاش عبد الله بن المقفع حتى زمن أبي جعفر المنصور الذي قتله سنة 142هـ لأسباب اختلف حولها جمهرة الرواد. وما دمنا قد ذكرنا عبد الحميد الكاتب قبل قليل فإنه من الأهمية بمكان أن نذكر أن عبد الله بن المقفع كان صديقًا له، وكان من الوفاء له بحيث أراد أن يفتديه بنفسه حينما قبض على عبد الحميد، ذلك أن الشرطة العباسية دهمت المنزل الذي كانا يختبئان فيه، فلما واجهتهما قال الشرطي: من منكما عبد الحميد؟ فقال كل منهم في الوقت نفسه: أنا عبد الحميد، الأمر الذي أوقع الشرطة في حيرة، فكل واحد منهما يصر على أنه عبد الحميد، وأخيرًا حسم عبد الحميد الأمر بإبداء علامة في جسده كان معروفًا بها فألقى القبض عليه ثم سيق إلى حيث قتل. أما عبد الله فقد عاش بعد ذلك قرابة عشر سنوات إلى أن لقي مصرعه حسبما مر قبل قليل، ومهما كان من أمر فقد عرف عن ابن المقفع رغم الطعن في دينه الكثير من النبل والكرم ومساعدة ذوي الحاجات. لقد كان ابن المقفع واحدًا من رواد التصنيف والترجمة عن الفارسية، وهو لم يعمد إلى التأليف ولم يتجه إلى الترجمة قبل أن يتقن اللسان العذب الجديد الذي سوف يكتب به ويؤلف فيه ويثقف عن طريقه نفسه ثقافة عربية عميقة أصيلة بليغة، وقد سئل يومًا: ما البلاغة؟ فقال: البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون سجعًا وخطبًا ومنها ما يكون رسائل. لا شك أن هذا التعريف للبلاغة لا يصدر إلا عن ذهن منفتح يقتل السؤال بحثًا قبل أن يجيب على السائل. إنها نفسها -أي الإجابة- هي الحكمة المأثورة: "البلاغة مطابقة القول لمقتضى الحال". ولكن هذه الإجابة رغم جودتها ينقصها ذلك النمط التعليمي التفصيلي الذي قدمه ابن المقفع. بل إنه سئل مرة: ما البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها. لقد التقى كل من عبد الله بن المقفع والخليل بن أحمد وبقيا يتحادثان ثلاثة أيام ولياليهن، فقيل للخليل: كيف رأيت عبد الله؟ فقال: ما رأيت مثله، وعلمه أكبر من عقله، وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ فقال: ما رأيت مثله، وعقله أكبر من عمله1.   1 البيان والتبيين "1/ 115، 116". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والغريب أن ابن المقفع رغم أنه مدين للقرآن والحديث والإسلام إجمالًا بثقافته فإن المهدي العباسي1 يقول عنه: ما رأيت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع، بل هناك من يروي أن ابن المقفع كان إذا مر على بيت النار الخاص بالمجوس بعد أن أسلم تمثل بقول الأحوص بن محمد: يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك مع الصدود لأميل على أن الذي نهتم له الاهتمام كله في هذا المجال هو آثار ابن المقفع العلمية أو الأدبية. لقد قدم ابن المقفع ثلاثة أعمال أدبية وعملًا مترجمًا، فأما الأعمال الأدبية الثلاثة فهي: 1- كتاب الأدب الصغير: والقصد منه تهذيب النفس، وهو مشتمل على خطرات نفسه وأقوال حكيمة ونماذج أخلاقية، فمن الحكم التي ضمها هذا الكتاب قوله: أربعة أشياء لا يستقل منها: النار، المرض، العدو، الدين. ويغلب على الكتاب صفة الجمع أكثر من صفة التأليف. 2- الأدب الكبير أو الدرة اليتيمة، وهو مجموعة أكبر من القول الحكيم، ومزاج من أمثال وأقوال وثقافات متعددة المنابع والمصادر بين فارسية ويونانية وإسلامية. على أنه إذا كانت روح الحكمة تبدو واضحة في هذا الكتاب فإن الروح الدينية فيه وفي غيره نادرة إلى حد يجعلها منعدمة، الأمر الذي يجعل لاتهامه بالزندقة أصلًا وسببًا. 3- رسالة الصحابة، وليس المقصود بالصحابة هنا كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي قصده ابن المقفع بالصحابة الأصحاب المقربون إلى الأمراء والخلفاء كالمستشارين والحجاب والوزارء والندمان والقواد ومن إليهم. والرسالة تشكل نقدًا لنظم الحكم وتوجيهًا له، وقد كتبها لبني العباس وأورد فيها وجهات مختلفة، ونصائح في شئون عديدة، مثل نصائح لولي الأمر في شأن الجند. ولعله لم يأت في ذلك بجديد إذا ما راجعنا رسالة أبي بكر إلى يزيد بن أبي سفيان حين وجهه لفتح الشام، الأمر الذي ينفي أن رسالة ابن المقفع مستمدة من أصول حضارية فارسية. وتشتمل الرسالة أيضًا على إصلاح القضاء وضرورة الاهتمام بأهل الشام والعطف عليهم، كما تناول قضايا الخراج وغير ذلك من قضايا الحكم والإدارة. وابن المقفع في رسالة الصحابة هذه يعمد إلى تخريجات وتأويلات للمأثور من   1 أمالي المرتضى "1/ 126". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الأحاديث أو أقوال صحابة الرسول، فهو يفسر لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، بأن الخليفة يطاع في ما لا يطاع فيه غيره، ويورد وجهات نظر مختلفة متعددة. 4- كليلة ودمنة: وهذا العمل من لدن ابن المقفع هو من قبيل الترجمة. والكتاب هندي أصلًا نقل إلى البهلوية على أيام كسرى أنوشروان، ثم تولى ابن المقفع نقله من البهلوية إلى العربية الناصعة البليغة بحيث أصبح أسلوبه فيه معروفًا بالأسلوب السهل الممتنع. لقد قيل إن ابن المقفع بترجمته هذا الكتاب وكتابة مقدمته مكن لنفسه أن يقول فيها ما لم يستطيع أن يقوله في رسالة الصحابة، حين جعل نفسه من المنصور العباسي بمثابة بيدبا الفيلسوف الهندي من الملك الهندي دبشليم، وهو لذلك يقول في تلك المقدمة: فلما استوثق له الأمر واستقر له الملك، طغى وبغى، وتجبر وتكبر، وجعل يغزو من حوله من الملوك وكان مع ذلك مؤيدًا مظفرًا منصورًا، فهابته الرعية، فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم، وأساء السيرة فيهم، وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتوًّا فمكث على ذلك برهة من دهره. وكان في زمانه رجل فيلسوف من البراهمة، فاضل حكيم يعرف بفضله ويرجع في الأمور إلى قوله، يقال له: بيدبا، فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية، فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه ورده إلى العدل والإنصاف ... إلى آخر المقدمة التي جعلت من بيدبا موجهًا وناصحًا مؤنبًا للملك الهندي. إنه لا يعنينا ما قد ذهب إليه بعض الدارسين من أن ابن المقفع قد اصطنع هذه المعاني اصطناعًا ليقرأها المنصور العباسي حينما كان الكاتب لا يستطيع أن يواجهه بها، فذلك ضرب من الافتراض، واجتهاد في الاستنتاج قد يصح وقد يخطئ، وإنما الذي يعنينا هو هذه اللغة السهلة، وهذا الأسلوب الواضح الرائق الذي وصل إليه القلم العربي فأصبح العقل من خلاله قادرًا على التعبير والابتكار والتأليف. وإذًا، فابن المقفع في حد ذاته يعتبر ظاهرة واضحة المعالم في مرحلة التأليف الفكري العربي بعيدًا عن التزام العلوم الدينية، ونحن لا ندخل في ذلك أي اعتبار من فارسية أو غيرها، فالرجل شأنه في ثقافته شأن عبد الحميد، كلاهما تعلم العربية من مصادرها وثقف نفسه ثقافة فكرية إسلامية دينية واجتماعية، ومن خلال هذه الثقافة انبثق المعين الفياض على يد ابن المقفع ومن عاصره، ثم من جاء بعده من كبار مؤلفي العربية في فترة لم تبعد زمنيًّا عن حياته بعد بيِّنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الفصل الثالث: مسيرة الكتابة العربية كأداة للتأليف : إن المتابع لمسيرة التأليف ومناهجه في الثقافة العربية لا يستطيع أن ينتهي إلى نتائج سليمة وأحكام ثابتة دون أن يواكب مسيرة الكتابة نفسها كفن أساسي ولد في رحاب الحضارة الإسلامية، وأخذ ينمو ويرتقي ويسمو نهجًا وفنًّا؛ لأنه أداة التعبير ووسيلة تسطير التفكير الذي يشكل قضية أو رسالة أو مسألة أو كتابًا -سمّها ما شئت- غير أن حصاد ذلك هو المكتبة العربية الغنية بكل فنون العلوم ووجوه المعرفة. إن الكتابة تصبح مدرسة، ويصبح الكتاب أساتذة مجتمعاتهم، ثم توكل إليهم شئون الدولة فيسند إليهم الخلفاء العباسيون مناصب الوزارة. وقد سبقهم إلى ذلك بعض الأمويين على آخر العهد بدولة بني مروان. فنحن نسمع عن أسر بعينها تولت الوزارة عن طريق الكتابة وإتقان شئون السياسة والثقافة كالبرامكة، والصوليين، وبني سهل، وبني وهب وبني ثوابة وبني الفرات وغيرهم أسر كثيرة يمكن مراجعة أخبارهم وآدابهم في كتب الأدب والتاريخ. ففي نطاق البرامكة كان أبلغهم أسلوبًا وأفصحهم كتابة يحيى بن خالد وولداه الفضل وجعفر، وكان يحيى وابنه الفضل بالذات من أرفع الناس خلقًا وأكثرهم شمائل. إن ليحيى بن خالد كلمات ينبغي أن تخلد في سمع الزمان لعمق معناها ونفاسة محتواها، كقوله: لست ترى أحدًا تكبر في إمارة إلا وقد دل على أن الذي نال فوق قدره، ولست ترى أحدًا تواضع في إمارة إلا وهو في نفسه أكبر مما نال في سلطانه1. إنه مطلوب من كل حاكم مشرقي أن يعي هذا الذي قاله يحيى البرمكي قبل اثنى عشر قرنًا من الزمان، ويحيى نفسه هو القائل: الكريم إذا تقرأ -يعني تنسك- تواضع، واللئيم إذا تقرّأ تكبّر، والخسيس إذا أيسر تجبّر.   1 الكتاب والوزراء للجهشياري "ص203". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 إن يحيى البرمكي تحل به المصيبة في ولده وماله وجاهه ويوضع في السجن، وهو شيخ كبير هو ومن بقي من أولاده، ويحس الرجل ببراءته وبأن الذي حل به وبأولاده لم يزد على كونه مؤامرة لإقصائهم ووصول حساده إلى الحكم فيكتب إلى الرشيد من سجنه هذه الصفحات المشرقة من أسلوب الكتابة العربية1: "لأمير المؤمنين وخليفة المهديين، وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوبقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، ومال به الزمان، ونزل به الحدثان، فحل في الضيق بعد السعة، وعالج البؤس بعد الضعة، وافترش السخط بعد الرضى، واكتحل السهاد بعد الهجود، ساعته شهر، وليلته دهر، وقد عاين الموت، وشارف الفوت، جزعًا لموجدتك يا أمير المؤمنين وأسفًا على ما فات من قربك، لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك وبك، وكانا في يدي عارية؛ والعارية مردودة، وأما ما أصبت به من ولدي فبذنبه، ولا أخشى عليك من الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجاوزت به فوق حده، فتذكر يا أمير المؤمنين كبر سني، وضعف قوتي، وارحم شيبي وهب لي رضاك، بالعفو عن ذنب إن كان، فمن مثلي الزلل، ومن مثلك الإقالة، وإنما أعتذر إليك بإقرار ما يجب به الإقرار حتى ترضى عني، فإذا رضيت رجوت إن شاء الله أن يتبين لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعده ذنب أن تعفره، مد الله لي في عمرك، وجعل يومي قبل يومك". هذا النمط السامي القدر الرفيع الصوغ من الكتابة عاش في الثلث الأخير من القرن الثاني الهجري، فأي سرعة فائقة تلك التي واكبت الكتابة العربية فسمت بها في هذه المدة القصيرة من الزمان وكانت قبل ذلك عدمًا، إننا نكاد نحس بالمعاني وكأن وعاء اللفظ لا يسعها، ونكاد نحس بالألفاظ، وهي تصرخ معبرة عن معانٍ عميقة تشرح لوعة منكوب وذل عزيز مظلوم وصيحة شيخ لا حول له ولا قوة، إن لغة مثل هذه لا يستعصي عليها أن تكون أداة طيعة لتأليف الكتب لبداية بناء المكتبة العربية. ويموت يحيى البرمكي السياسي الحاذق الحكيم في السجن، ويبحث له عن وصية فإذا بورقة تحت وسادته تضم أشهر وأبلغ الوصايا مرارة في تاريخ العربية: "قد تقدم الخصم، والمدَّعَي عليه في الأثر، والحكم لا يحتاج إلى بينة"2. وتنتهي أجيال الحكام من البرامكة، وتأتي أجيال أخرى لأسرة أخرى تركية هي أسرة بني   1 جمهرة رسائل العرب "3/ 221". 2 الكتاب والوزارء "ص261". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 صول، ويلمع منها ثلاثة: الوزير عمرو بن مسعدة الكاتب البليغ ذو القلم الرهيب والرأي الحصيف. إن رواتب قواد المأمون وجنوده تتوقف وتتأخر، ومعنى ذلك في زمن العباسيين وثورة تطيح بالخلافة والحكم، وإن أمرًا كهذا أودى بخلافة موقتة تسنم سدتها إبراهيم بن المهدي، وبخلافة أخرى كان على سدتها المعتز بالله بن المتوكل. وإذا ما أراد أي كاتب أن يكتب للخليفة في مثل هذا الأمر فر مفر من أن يهتز القلم في يده ليصدر عن عبارات الإنذار والخوف وتوقع المكروه. ولكن عمرو بن مسعدة يبلغ الخليفة بهذا الأمر الخطير على هذا النهج من المقال: "كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة، على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، واختلت لذلك أحوالهم، والتاثت معه أمورهم"1. هذا أيضًا ضرب جديد من بلاغة القول ونبوغ التنبيه وبراعة التعبير، ولذلك فإن المأمون الخليفة يمسك بالكتاب في يده، ويعيد قراءته، يصعد البصر فيه ويصوبه ويقول لسامعه: قرأت كتابًا وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله في البلاغة، فإني سمعته يقول: "البلاغة التباعد من الإطالة، والتقريب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى". ويلمع نجم آخر في أسرة الصوليين في الكتابة والشعر، إنه إبراهيم بن العباس الصولي. إنه يكتب رسالة في خمسة أسطر لا غير على لسان المتوكل إلى أهل حمص وكانوا خارجين عليه متعصبين ضده، فما تكاد تقرأ على منبرهم حتى تخمد الفتنة لقوة ما صدعت الرسالة على قصرها من أفئدتهم، إنها أربعة أسطر وبيت شعر، وفيها يقول إبراهيم: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله عليه ما قوم به من أود، وعدل به من زيغ، ولم به من منتشر، استعمال ثلاث يقدم بعضها على بعض، أولاهن ما يتقدم به من تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تخدير وتخويف، ثم التي لا يقع بحسم الداء غيرها: أناة، فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيدًا، فإن لم يغن أغنت عزائمه2 إن المتوكل يسمع الكتاب يتلى على مسامعه قبل إرساله، فينظر إلى صديقه ووزيره الفتح بن خاقان قائلًا له بل صارخًا في إعجاب: أما تسمع؟!! هذا ما كان من إبراهيم الصولي والكتابة، وأما في ميدان الشعر فإن دعبلًا الخزاعي الشاعر المطبوع المرموق يقول عنه: لو تكسب إبراهيم بن العباس بالشعر لتركنا في غير   1 نهاية الأرب "7/ 260". 2 معجم الأدباء "1/ 171". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 شيء، غير أنه لم يصل إلينا من شعر إبراهيم إلا القليل حتى نحكم عليه. ويلتمع في سماء أسرة الصوليين نجم ثالث، هو أبو بكر محمد بن يحيى الصولي الشطرنجي ويكون لمعانه في ميادين عدة ولكن أهمها التأليف الأدبي، لقد ألف كتبًا في أخبار عدد من الشعراء، وفي أشعار أولاد الخلفاء، وجمع شعر نوابغ شعراء العربية على ما سوف نبينه تفصيلًا في باب التأليف. على أن النبوغ في الكتابة لم يكن مقصورًا على أسر بعينها، فكم من أفراد من عامة الناس فرضوا أدبهم على الخلفاء وعلى التاريخ دون ما سند من جاه إلا جاه العلم، أو ركيزة من قوة إلا قوة الثقافة، إن من بين هؤلاء من تولى الوزارة مثل أحمد بن يوسف، ومثل محمد بن عبد الملك، وكان أبوه يبيع الزيت في بغداد، وقد كان كلاهما من ألمع وأبلغ وآدب وزراء العباسيين. ومنهم من فرض نفسه على التاريخ لنبوغه وعبقريته دون ما سند ما وظيفة أو جاه من سلطان مثل أبي عثمان الجاحظ، وابن قتيبة الدينوري. إن للجاحظ رسائل تضعه بل وضعته في قمة كتاب العربية سواء من ناحية الفكرة أو من ناحية الأسلوب، وهو بتملكه الأسلوب وانقياد القلم لقريحته قدم من صنوف المعرفة على صفحات كتبه التي تعد بالمئات ما تفخر به المكتبة العربية إلى يومنا هذا الذي نعيشه، بل لا نكون مبالغين إذا ما قلنا: إن الفكر الإنساني ليفخر به. إنه ليس من شأن هذا الكتاب أن يخوض في فن الكتابة إلى أعماق أكثر من ذلك، فهذا لا يدخل في منهج هذ الكتاب، وإنما الذي نريد أن نصل إليه، هو أن الكتابة، وهي أداة التأليف، قد اكتمل شبابها واستوى عدوها بحيث أصبحت هي نفسها فنًّا مستقلًّا هو فن النثر، وهي بالإضافة إلى ذلك كانت أداة النابهين من مؤلفينا في تأليفهم كتبهم الكثيرة الوفيرة الثمينة التي سوف يأتي ذكرها وذكر أصحابها من المؤلفين في مكانهم المناسب من هذا الكتاب. غير أن الموضوع الذي نقف أمامه هنا هو الكتابة من حيث كونها، فنًّا أعني من حيث كونها نثرًا، وبالتالي فإن منهج هذا الكتاب يقتضينا أن نضع بين يدي قارئه مصادر النثر العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الفصل الرابع: مصادر النثر العربي الكتابة حسبما ذكرنا هي أداة المؤلف وسلاحه في حشد معلوماته على صفحة كتاب، وهي قد نمت واكتملت أسباب نضجها حسبما مر بنا حيث أصبحت صالحة لرفد هذه الموجات الهائلة من التأليف، وتلك القوافل السخية من الكتب التي ضمتها المكتبة العربية على هذا الكتاب من فصول. ولكن الذي نريد عرضه هنا هو مصادر النثر من حيث كونه لونًا بارعًا من الكتابة الفنية أو الخطابة البليغة. إن هذه المصادر من الكثرة والتنوع ومن التخصص والشمول، بحيث ينبغي أن نصنفها تحت أكثر من نوع على النحو التالي: أولًا: رسائل الكتاب المرموقين، وهذه قد وجد بعضها متكاملًا بين دفتي كتاب أو بالأحرى بين دفتي ديوان، فقد كان الكتاب يجمعون رسائلهم أو يجمعها لهم غيرهم في دواوين تمامًا كما كان يفعل بشعر الشعراء. ورسائل الكتاب التي وجدت طريقها مجموعة إلينا ثم مطبوعة هي: رسائل الجاحظ، رسائل ابن العميد، رسائل الصاحب بن عباد، رسائل أبي بكر الخوارزمي، رسائل أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني، رسائل قابوس بن وشمكير، رسائل أبي إسحاق الصابي والشريف الرضي، رسائل إخوان الصفا، رسائل أبي العلاء المعري، الفصول والغايات لأبي العلاء المعري1. وأما رسائل بعض كبار الكتاب مثل عبد الحميد، وابن عبد كان، والنجيرمي، وعمرو بن مسعدة، وعبد العزيز بن يوسف، وإبراهيم   1 يمكن معرفة أماكن الطبع والنشر من ثبت المراجع في آخر الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ابن العباس الصوفي، وأبناء البرامكة، وأبناء وهب وأبناء ثوابه، والقاضي الفاضل ومن إليهم فقد وصل إلينا أكثرهم منتثرًا في بطون كتب الأدب الكبيرة الشهيرة التي سوف نعرض لها بعد قليل. ثانيًا: القصص أو ما كان في حكمها مثل المقامات والروايات، وقد وصل إلينا بعضها كاملًا ثم مطبوعًا، والبعض الاخر مفرقًا في ثنايا كتب الأدب الكبيرة، فأما الذي بين أيدينا من هذا المتكامل فهو مقامات بديع الزمان الهمذاني، مقامات الحريري، رسالة الغفران للمعري، قصة الإنسان والحيوان أمام محكمة الجن1، قصة حي بن يقظان لابن الطفيل. ثالثًا: رسائل كبار الكتاب التي ألمحنا إليها في الفقرة "أولًا" والخطب وألوان الحوار البليغ والمناظرات الممتعة والنوادر الفكهة والأمثال -فيما لو اعتبرنا الأمثال ضربًا من الكتابة الفنية- كل ذلك يقع موزعًا بين ازدحام وتفرق في كتب الأدب الكبيرة التي أشهرها وأهمها -مرتبًا- ما يلي: 1- صبح الأعشى للقلقشندي. 2- الوزراء والكتاب للجهشياري. 3- البيان والتبيين للجاحظ. 4- عيون الأخبار لابن قتيبة. 5- يتيمة الدهر للثعالبي، ويجمع مؤلفها بين شعر الشعراء ونثر الكتاب. 6- العقد الفريد لأحمد بن عبد ربه*. 7- زهر الآداب للحصري القيرواني ويجمع إلى روائع الشعر بدائع النثر. 8- الأمالي لأبي علي القالي*. 9- نهاية الأرب في فنون العرب للنويري. 10- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لأحمد بن يحيى بن فضل الله العمري. 11- الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي*. 12- البخلاء للجاحظ. 13- المحاسن والمساوئ للبيهقي. 14- طبقات الشعر لابن المعتز* وهو يأتي بنماذج نثرية لمن جمع بين الشعر والنثر من الشعراء. 15- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني* يورد نماذج عديدة من نثر أعلام الكتاب والشعراء.   1 انظر الرسالة الثانية والخمسين من رسائل إخوان الصفا. * لنا مع كل كتاب من هذه الكتب وقفة تأمل ودراسة، كل في مكانه تبعًا لترتيب الفصل الذي يندرج تحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 رابعًا: كل كتب التراجم على وجه التقريب مليئة بنماذج نثرية مختارة من كتابة وخطابة للمترجم لهم إذا كانوا كتابًا أو خطباء أو مفكرين، وأهم هذه المصادر هي: 1- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. 2- معجم الأدباء لياقوت الحموي الرومي. 3- وفيات الأعيان لابن خلكان. 4- الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي. 5- فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي. خامسًا: كتب التاريخ -وبخاصة التي ألفت في وقت مبكر- تحتوي جميعها على نماذج عديدة من الخطب والرسائل والمحاورات، والمناظرات وأهمها ما يلي: 1- السيرة لابن هشام. 2- تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري. 3- مروج الذهب للمسعودي. 4- فتوح البلدان للبلاذري. 5- تجارب الأمم لابن مسكويه. 6- المنتظم في تاريخ الأمم لابن الجوزي. 7- الكامل لابن الأثير. سادسا: المصادر التي تحوي نثر كتاب الأندلس، وبعضها لمؤلفين أندلسيين وبعضها الآخر لكتاب مشارقة، وأهم الكتب الأندلسية في هذا السبيل هي: 1- الذخيرة في محاسن الجزيرة لابن بسَّام. 2- نفح الطيب للمقري. 3- قلائد العقيان للفتح بن خاقان. 4- مطمح الأنفس للفتح بن خاقان. 5- أعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب. 6- المغرب في حلي المغرب للحجاري وابن سعيد. 7- البيان المغرب لابن عذاري المراكشي. 8- الكتيبة الكامنة للسان الدين بن الخطيب. 9- الحلة السيراء لابن الأبار القطاعي. والمصادر المشرقية التي اهتمت بالنثر في الأندلس أكثرها من كتب الطبقات التي مر ذكر بعضها وأهمها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 1- يتيمة الدهر للثعالبي. 2- وفيات الأعيان لابن خلكان. 3- الوافي الوفيات لصلاح الدين الصفدي. 4- فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي. 5- معجم الأدباء لياقوت الحموي. 6- تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون لصلاح الدين الصفدي. 7- شرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة المصري. 8- صبح الأعشى للقلقشندي. سابعًا: وبالمكتبة العربية المعاصرة جهد طيب بذله الأستاذ أحمد زكي صفوت في جمع حشد كبير من الرسائل والخطب العربية وضمها جهده هذين الكتابين: 1- جمهرة رسائل العرب. 2- جمهرة خطب العرب. وفي الكتابين غناء كبير لمن كانت كتب الأصول التي ذكرناها بعيدة عن متناول يده وإلا فإن الاعتماد على الأصل خير من الاستعانة بالفرع، وعلى الدارس المجد والباحث المحقق أن يعتمد أول ما يعتمد على الأصول، ولا بأس من أن تكون الفروع مكملة له أو سدًّا للذريعة. هذا وسوف يكون لنا موقف مع كثير من هذه الكتب التي ذكرنا من حيث التعريف بالمهم منها والإبانة عن منهج مؤلفها في تناوله لمادتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الباب الثالث: رواد التأليف الأدبي غير المتخصص الفصل الأول: التأليف يبدأ شاباًَ بغير طفولة بدأ التأليف في الأدب في زمن مبكر كل التبكير، فبعد مرحلة الرواية والسماع والتدوين التي لم تستمر -كمرحلة- طويلًا وأنتجت كثيرًا، لم تلبث العقليات العربية الكبيرة أن عكفت على التفرغ للتأليف والعطاء في علوم العربية المختلفة وفنونها، ومن بينها المؤلفات الأدبية بطبيعة الحال. وفي بداية كل قضية جديدة تكون -عادة- عناصرها متشابكة ومناهجها متداخلة، وهذا الأمر قد حدث بالنسبة للتأليف الأدبي في أول العهد به، فلقد انبثق هذا النوع من التأليف مشتبكًا مع التأليف في علوم اللغة بفروعها من نحو وصرف ورواية وأخبار وأنساب وشعر ونوادر. غير أن ذلك لم يمنع من ظهور التأليف الأدبي الدقيق اعتبارًا من النصف الثاني من القرن الثاني عندما بدأ عالم العربية الكبير، أبو عثمان الجاحظ يطرق موضوعات الأدب طرقًا واضحًا ومباشرًا في أكثر ما كتب من كتب ورسائل. وتتكرر الظاهرة نفسها مع معاصره العظيم ابن قتيبة الدينوري. ولا يلبث المعنيون بالأدب من حيث هو أدب بمفهومه الحديث، أن يثروا المكتبة العربية بمؤلفاتهم القيمة الثمينة من أمثال المبرد وابن طيفور وثعلب وأبي بكر الصولي وأحمد بن عبد ربه وأبي الفرج الأصفهاني وأبي منصور الثعالبي. ولكنه من العدل بمكان أن نعرض لأولئك الذين أسهموا في التأليف في الأدب في نطاق مفهومه القديم ومفهومهم أنفسهم آنذاك. وإذا كان لنا أن نتمثل بذكر أسماء بعضهم على التسلسل الزمني فإنه من العدالة أن نذكر كلا من المفضل الضبي، الخليل بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أحمد، يونس بن حبيب، النضر بن شميل، هشام بن الكلبي، أبا عبيدة، الأصمعي، الهيثم بن عدي، المدائني، ابن الأعرابي، أبا عثمان الجاحظ، ابن قتيبة الدينوري، أبا حنيفة الدينوري، ابن أبي الدنيا، العباس المبرد، أبا العباس ثعلب، ابن طاهر طيفور، أبا بكر الصولي، أبا عبد الله المرزباني، أبا منصور الثعالبي. كل هؤلاء وغيرهم كثيرون قدموا من عصارة أفكارهم وينابيع أفهامهم ما يقف المرء أمامه متعجبًا لقدرتهم، حانيًا هامته إجلالًا لمقامهم وإنتاجهم، فإن كثيرين منهم قد تراوحت مؤلفاتهم بين المائة والمائتين، هذا فضلًا عمن نيفت مؤلفاتهم على الثلاثمائة حسبما يتضح لنا عند الحديث عن كل منهم على حدة. ولكنه قد يقفز إلى أذهان بعض القارئين المحدثين سؤال حول طاقات هؤلاء العلماء وحول أعداد الكتب للمؤلف الواحد، ومدى إمكانه أن يقدم كل هذا العلم الوفير الثمين القيم المتنوع، وهو سؤال حق في زمان مثل زماننا. إن الإجابة عن مثل هذا السؤال سهلة يسيرة إذا ما نظرنا إلى تاريخ القوم وحياتهم. لقد كانت الفترة الزمنية التي عاشها هؤلاء الكبار فترة السمو الفكري، والتفجر العقلي، نتيجة الثقافة الإسلامية والعمل على تفريع علومها، فضلًا عن التقائها مع حضارات وإمكانات الأمم التي اعتنقت الإسلام وأخلصت له عقيدة وولاء، ومن ثم التفتت إلى اللغة العربية -لغة القرآن الكريم- فتوفرت على خدمتها والإبداع في نطاق موضوعاتها. والسبب الثاني: هو إخلاص العلماء للعلم دون غيره، لم يشغل أحدهم بالسياسة ولا استهدف رئاسة ولا سعى إلى زعامة، ولا تقرب إلى العامة يمالئهم ويتقرب إليهم إلا بالقدر الذي يمكنه من رفع شأنهم وتقريب العلم إليهم. ومن ثم فقد كان القوم ناسكين في محراب العلم جعلوا منه صناعة وعبادة وحياة ودنيا وآخرة. والسبب الثالث: أن القوم كانوا في مأمن من عدوان السلطان ومصادرة أعمالهم وأفكارهم، بل كان السلطان يستدنيهم ويكرمهم. وكان السلطان نفسه متعلمًا مهذبًا ملمًّا بأطراف من العلم، آخذًا منه بأسباب وألوان. إن مناقشات الرشيد والمأمون وغيرهما من خلفاء بني العباس ووزرائهم وقوادهم وقضاتهم مع هؤلاء العلماء توضح إلى أي مدى كان العالم محترمًا مبجلًا موسعًا عليه في رزقه مكرمًا بين الخاصة والعامة، فإذا لم يكن لدى العالم وقت لكي يقابل السلطان إليه بنفسه مجاملًا له مطمئنًّا عليه. وكثيرًا ما كان يفعل ذلك عضد الدولة بن بويه مع العالم الجليل، أبي عبد الله المرزباني. بل إن بعض هؤلاء العلماء -وهم قلة نادرة- كان ذكاؤهم المفرد قد أثر على تصرفاتهم في ندوات الخلفاء والملوك والوزراء، ومع ذلك فقد كانوا يلقون من التسامح والمجاملة ما لم يصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 من سلطان في مثل تلك المناسبة في أي عصر من العصور، والمثال على ذلك واضح في تعامل أبي الفرج الأصبهاني مع الوزير المهلبي، أو في تعامل العلماء في الأندلس مع ملوكها1. والسبب الرابع: هو أن الكثرة الغالبة من هؤلاء العلماء قد آتاهم الله بسطة في العمر وفسحة في الأجل قضوها كلها في تحصيل العلم، ثم في التأليف فيه، وكان متوسط أعمارهم بين الثمانين والمائة، فالأصمعي عاش مائة سنة وأربع سنوات، ويونس بن حبيب عاش ثمانية وثمانين عامًا، وهشام الكلبي عاش نحوًا من مائة سنة، وأبو عبيدة عاش تسعة وتسعين عامًا، والهيثم بن عدي عاش سبعة وتسعين عامًا، والمدائني عاش ثلاثة وتسعين عامًا، وابن الأعرابي عاش واحدًا وثمانين عامًا، والجاحظ عاش مائة عام وخمسة أعوام، وأبو العباس ثعلب عاش واحدًا وتسعين عامًا، وابن طيفور عاش ستة وسبعين عامًا، والمرزباني عاش سبعة وثمانين عامًا، والثعالبي عاش ثمانين عامًا. وأما الذين ماتوا صغارًا فابن قتيبة الدينوري وقد عاش ثلاثة وستين عامًا والخليل بن أحمد وقد عاش سبعين عامًا، وأبو محمد اليزيدي، وقد عاش أربعة وستين عامًا. ليست هذه وحدها أسباب العطاء، وإنما جوهر العقول وترابط المجتمع ثقافيًّا، والمثل الخلقية في إتقان العمل، والقيم الإنسانية في احترام عقل الإنسان، ورحيق الحضارة الإسلامية وقوة دفعها ونضارة وجهها وصفاء جوهرها وسماحة عنصرها، كل ذلك كان سندًا للعلماء كي يتفرغوا ونداء للعلم كي يبزغ ويتلألأ ويعم ويترعرع ويشيع ويضيء. فإلى لقاء مع بعض هذه الصفوة من العلماء.   1 راجع في هذا الموضوع "فصل مكانة العلماء في الأندلس" في كتابنا "الأدب الأندلسي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الفصل الثاني: المفضل الضبي : ... -حوالي 175 هـ يعتز أبو العباس، المفضل بن محمد بن أبي يعلى الضبي من الرواد الأوائل لرواية الشعر والأدب وأيام العرب، بل هو أوثق من روى شعر الأوائل. إنه كوفي المولد، وقد اشتغل بالسياسة مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن. فقد خرج على المنصور العباسي مناصرًا إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، ولكن المنصور ظفر به ثم عفا عنه وألزمه المهدي فتفرغ له وصنف له كتاب المفضليات المعروف1. كان المفضل واسع الثقافة وافر الحفظ صادق الرواية، روى القراءات والحديث عن عاصم بن أبي النجود، كما روى عن أبي إسحاق السبيعي وسماك بن حرب. وأما الذين رووا عنه فهم رجالات العربية الكبار مثل علي بن حمزة الكسائي وأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء وأبي عبد الله بن الأعرابي، وأبي زيد الأنصاري وخلف الأحمر2. وقد عد المفضل الضبي من المحدثين، وكان ذا خلق ودين، فقد كان يكتب المصاحف ويقفها في المساجد تكفيرًا عما كتبه بيده من شعر الهجاء. ومن الطريف أن المفضل قد جعل من المهدي بمصاحبته له ناقدًا جيدًا للشعر صيرفيًّا فيه، يميز الصحيح من المنحول، فقد روى ياقوت خبرًا يفيد أن المهدي سأل كلا من المفضل وحمادًا الراوية سؤالًا حول استفتاح زهير بن أبي سلمى قصيدته بقوله: دَعْ ذا وعد القول في هَرَمِ   1 الفهرست "ص 108". 2 تاريخ بغدد "13/ 121" ومعجم الأدباء "19/ 164". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فأجاب المفضل الضبي الخليفة إجابة تبدو صادقة مقنعة، وأما حماد، فقال: ليس هكذا قال زهير، يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشد حماد بيتين سبق بهما الاستفتاح المعروف، الأمر الذي أدخل الشك في روع المهدي، فأطرق ساعة ثم التفت إليه واستحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة عن مدى توثيق هذه الأبيات، فلم ير حماد بدًّا من أن يعترف للملك العباسي ذي الحس النقدي ويقر أنها من قوله. فما كان من المهدي إلا أن أمر له بعشرين ألف درهم وللمفضل بخمسين ألفًا، ثم أمر حسينًا خادمه أن ينادي: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفًا لصدقه وصحة رواتيه، فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدًا محدثًا فليسمعه من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل1. هذا ولقد عاش المفضل إلى حكم الرشيد، وله معه أخبار أدبية طريفة، فقد سأله الرشيد ذات يوم: ما أحسن ما قيل في الذئب ولك هذا الخاتم الذي في يدي وشراؤه ألف وستمائة دينار؟ فقال المفضل على الفور: قول الشاعر ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع فقال الرشيد معجبًا، وربما متحسرًا: ما ألقي هذا على لسانك إلا لذهاب الخاتم، ثم أعطاه إياه. فاشترته أم جعفر بألف وستمائة دينار وبعثت به إلى الرشيد قائلة: قد كنت أراك تعجب به، ولكن الرشيد -بما عرف عنه من هيبة- ألقاه إلى الضبي قائلًا: خذه وخذ الدنانير، فما كنا نهب شيئًا فنرجع فيه2. هذا وللمفضل مجموعة من الكتب أشهرها بطبيعة الحال كتابه المفضليات الذي جمعه المهدي وسوف يأتي حديثه في مكانه من هذا الكتاب، وأما كتبه الأخرى فهي الأمثال، وهو مطبوع أيضًا، وكتاب معاني الشعر، وكتاب الألفاظ، وكتاب العروض. لقد كانت بداية طيبة مباركة في دنيا التأليف والأدب على كل حال.   1 معجم الأدباء "19/ 165-167". 2 تاريخ بغداد "13/ 122". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الفصل الثالث: النضر بن شميل المازني ... -204هـ.: عاش النضر النصف الثاني من القرن الثاني وسنوات أربع من القرن الثالث، وأقام بين مرو والبصرة، وكانت أبرز معارفه في علوم اللغة، وله مع المأمون مسامرات ومناقشات لغوية وأدبية درت عليه من العطاء ما أغناه. إن صاحب الوفيات يصفه فيقول: "كان عالمًا بفنون من العلم، صدوقًا ثقة، صاحب غريب وفقه وشعر ومعرفة بأيام العرب ورواية حديث1" فأي عالم جليل كان هذا الإنسان؟ ومع ذلك فقد ضاقت به الدنيا وذاق مرارة الحاجة وبطش الفقر فخرج من البصرة يريد خراسان فخرج لتشييعه نحو ثلاثة آلاف رجل من أهل البصرة ليس فيهم إلا محدث أو نحوي أو لغوي أو عروضي أو أخباري، فلما صار بالمربد جلس وقال: يا أهل البصرة يعز علي فراقكم، ووالله لو وجدت كل يوم كيلجة "نوع من المكاييل" باقلَّاء ما فارقتكم. ومع ذلك فلم يتكفل واحد منهم بذلك الأمر الذي دفع به إلى السير إلى خراسان والإقامة بمرو حين صلحت حاله هناك، ولذلك فإن أبا عبيدة ذكر هذه القصة في كتابه "مثالب البصرة". وهناك طرفة قد يكون من الخير أن نذكرها ونحن نعرف بالنضر بن شميل، فهو الرجل الذي كسب من حرف السين وحده ثمانين ألف درهم. فكيف كان ذلك؟ كان النضر جالسًا -وهو في حال فقره- في مجلس المأمون بمرو، وكان للمأمون مشاركة في العلوم الدينية ويردد أحاديث الرسول في مناسباتها، فقال والنضر جالس في ندوته: حدثني هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد "بفتح السين" من عوز فرد النضر قائلًا:   1 وفيات الأعيان "5/ 32". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 صدقوك يا أمير المؤمنين، وحدثني عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سِداد "بكسر السين" من عوز" وهنا يستوي المأمون في مجلسه ويوجه سؤالًا ربما لم يخل من غضب إلى النضر قائلًا: السداد "بفتح السين" لحن عندك -أي من وجهة نظرك- يا نضر؟ فيجيب النضر: نعم ها هنا يا أمير المؤمنين، فيقول المأمون في غضب: أوتلحنني؟ وهنا يرد النضر بكل أدب وذكاء وجرأة: إنما لحن هشيم يا أمير المؤمنين وكان لحانًا فتبع أمير المؤمنين لفظه. وهنا يهدأ المأمون لهذه اللباقة، ويقول: وما الفرق بينهما -أي بين لفظة السَّداد المفتوحة السين والسِّداد بكسرها، فيجيب النضر: السَّداد -بالفتح- هو القصد في الدين والطريقة والأمر، والسَّداد -بالكسر- البلغة وكل ما سددت بها شيئًا فهو سِداد، ثم يستشهد النضر ببيت للعرجي الشاعر، والبيت مشهور: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر وهنا يطرق المأمون مليًّا ثم يقول: قبح الله من لا أدب له. ثم يطلب من النضر أن ينشده أخلب بيت للعرب فينشده أبياتًا لحمزة بن بيض، فيسر المأمون كل السرور ويقول له: لله درك، كأنما شق لك عن قلبي، ثم يطلب منه أن يشنده أنصف بيت للعرب، ثم أقنع بيت للعرب، والنضر يختار له من الأبيات أنسبها وكان راوية أديبًا، فيكتب المأمون شيئًا في ورقة ويعطيها لغلام واقف على بابه ويطلب إليه أن يصطحب النضر إلى الوزير الفضل بن سهل، فلما قرأ الفضل الكتاب قال: يا نضر، إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فقص عليه النضر القصة، فقال له: لحنت أمير المؤمنين؟ فقال النضر: لا وإنما لحن هشيم بن بشير وكان لحانًا فتبع أمير المؤمنين لفظه، فأمر له الفضل بثلاثين ألفًا أخرى وهكذا يكون النضر قد استفاد ثمانين ألف درهم من حرف واحد1. إننا لم نذكر هذه القصة من أجل الثمانين ألفًا التي حصل عليها النضر بسبب كبسر السين، وإنما ذكرناها لنرى أي نوع من الرجال كان هذا الصنف من علمائنا جرأة ولباقة، وكيف أنه لم يهب تصويب المأمون، أكثر ملوك العباسيين ثقافة وعلمًا، حين أخطأ ولكنه في الوقت نفسه صوب خطأه في قالب مهذب لم يجرح كبرياءه كملك له في العلم سهم وله في الثقافة نصيب. فماذا ألف النضر من كتب في زمانه هذا الباكر؟ يقول ابن خلكان: إنه ألف كتبًا كثيرة أهمها "كتاب الصفات"، ويتكون من خمسة أجزاء، الجزء الأول منه ما يحتوي على خلق   1 معجم الأدباء "19/ 239". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الإنسان والجود والكرم وصفات النساء، والجزء الثاني، يحتوي على الأخبية والبيوت وصفات الجبال والشعاب. والجزء الثالث، يحتوي على الإبل فقط. والجزء الرابع، يحتوي على الغنم والطير والشمس والقمر والليل والنهار والألبان والكماة والآبار والحياض والأرشية والدلاء وصفة الخمر. والجزء الخامس، يحتوي على الزرع والكرم والعنب وأسماء البقول والأشجار والرياح والسحاب والأمطار. هذا هو محتوى الكتاب الأول وموضوعاته. وللنضر من الكتب أيضًا كتاب السلاح وكتاب خلق الفرس، وكتاب الأنواء، وكتاب المعاني، وكتاب غريب الحديث، وكتاب المصادر، وكتاب المدخل إلى كتاب العين للخليل بن أحمد، ويضيف ابن النديم، وياقوت إلى هذه الكتب كتابًا آخر هو كتاب الجيم، ويذكر كل من ياقوت وابن خلكان أن للنضر كتبًا أخرى غير تلك التي ذكروها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الفلصل الرابع: ابن الكلبي ... الفصل الرابع: هشام بن محمد بن السائب الكلبي: ... - 204 هـ إن أبا المنذر هشام بن محمد الكلبي من أشهر النسابين على الإطلاق وأكثر المؤلفين الأوائل عدد كتب وتنوع موضوعات، وإن كانت شهرته في التأليف قد ارتبطت بالأنساب لأنه كتب فيها أكثر من كتاب، على ما سوف نفصل بعد حين. إن أبا المنذر كوفي المولد والإقامة والوفاة وإن كان قد زار بغداد وحدَّث بها بعض الوقت1، وهو من أسرة تعيش العلم وتعيه وتمنحه للناس، فقد كان أبوه محمد بن السائب الكلبي من كبار علماء الكوفة ومن الذين يجلسون للحديث والرواية والتفسير، فتتلمذ هشام على أبيه وعلى كبار علماء زمانه، وبعد ذلك تتلمذ عليه ولده العباس وجماعة من أعيان زمانه. وكان ابن الكلبي سريع الحفظ سريع النسيان وهو القائل: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد، ويحاول أن يدلل على سرعة مقدرته في الحفظ فيقول: عاتبني عم لي على حفظ القرآن فدخلت بيتًا، وحلفت لا أخرج منه حتى أحفظ فحفظته في ثلاثة أيام ويدلل على نسيانه فيقول: نظرت يومًا في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوق القبضة2. ونحن نصدق الرجل في الشطر الثاني من قصته، وأما الشطر الأول فإننا نتحفظ إزاءه، فإن ثلاثة أيام لا تكاد تكفي إلا لتلاوة واحدة للقرآن، وربما قصد ابن الكلبي إلى أنه لم يكن مجيدًا للحفظ، فحبس نفسه ثلاثة أيام عكف فيها على تلاوة الكتاب العزيز فاسترجع ما كان   1 تاريخ بغداد 14/46. 2 المصدر السابق الصفحة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قد نسيه من بعض سوره وآياته. وربما كانت مثل هذه الروايات تقلل من ثقة الناس في روايته للحديث، وقد مر بنا أنه جلس للحديث ببغداد، فالخطيب البغدادي يذكر لم يثق بروايته الحديث؛ لأنه صاحب نسب وسير. ويذكر ياقوت أن الإمام أحمد بن حنبل، قال عنه: كان صاحب سير ونسب وما ظننت أن أحدًا يحدث عنه1. ولكن عدم الثقة بابن الكلبي كمحدث لا تنال من قدره كعالم بالأنساب والأخبار وأيام العرب وقبائلهم وملوكهم وتاريخهم وبلدانهم وأقاليمهم وألقابهم، وأديانهم ومحاسنهم ومثالبهم وعاداتهم ومجتمعهم وخيلهم وموءوداتهم إلى غير ذلك من الموضوعات التي ضمنها أكثر من مائة وخمسين كتابًا ملأت ما يقارب الأربع صفحات من كتاب الفهرست لابن النديم2. إن إسحاق الموصلي، يقول في معرض ذكر فضل ابن الكلبي: رأيت ثلاثة كانوا إذا رأوا ثلاثة يذوبون: علوية إذا رأى مخارقًا، وأبا نواس إذا رأى أبا العتاهية، والزهري إذا رأى هشامًا3. ولقد تخصص ابن الكلبي أكثر ما تخصص في الأنساب بحيث إن صفة النسابة تلصق باسمه على الأغلب، وله أربعة كتب مشهورة في أولها كتاب الجمهرة في معرفة الأنساب وهو -يروي ياقوت- أحسن كتبه، وله في النسب أيضًا كتاب "المنزل" وهو أكبر من الجمهرة، وكتاب "الفريد" صنعه للمأمون في الأنساب، وكتاب "الملوكي" صنعه لجعفر البرمكي في الموضوع نفسه4. ولشهرة أبي المنذر الكلبي عرضت له في حياته بعض الطرائف، فقد كان بعض الفرس على أيامه يدعون أنسابًا عربية ويذهبون إلى بعض النسابين المدلسين ليلحقوهم بإحدى القبائل نظير أجر معلوم، فعن لأبي نواس ذات يوم أن ينتحل نسبًا عربيًّا وطلب إلى ابن الكلبي أن يحقق له بغيته، ولكنه رفض ذلك، فكتب إليه أبو نواس هذين البيتين الطريفين: أبا منذر ما بال أبواب مذحج ... مغلقة دوني وأنت صديقي   1 معجم الأدباء "19/ 287". 2 الفهرست "ص146-149". 3 المصدر السابق "ص146". 4 وفيات الأعيان "6/ 83". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فإن تأتني يأتك ثنائي ومدحتي ... وإن تأب لا يُسدد علي طريقي وأما مؤلفات ابن الكلبي الأخرى فإننا نذكر منها على سبيل المثال غير كتب الأنساب التي مر ذكرها: كتب الأصنام، وكتاب نسب الخيل وهما مطبوعان، ومن كتبه المخطوطة التي يمكن الاطلاع عليها غير جمهرة الأنساب كتاب المثالب، وكتاب أخبار بكر وتغلب. ولقد قسم ابن النديم موضوعات كتب ابن الكلبي إلى تسعة موضوعات، هي: أولًا: كتبه في الأحلاف. ثانيًا: كتبه في المآثر والبيوتات والمنافرات والموءودات. ثالثًا: كتبه في أخبار الأوائل. رابعًا: كتبه فيما يقارب الإسلام من أخبار الجاهلية. خامسًا: كتبه في أخبار الإسلام. سادسًا: كتبه في أخبار البلدان. سابعًا: كتبه في أخبار الشعر ومآثر العرب. ثامنًا: كتبه في الأخبار والأسماء. تاسعًا: كتبه في الأنساب وتشمل قسمين: قسمًا في أنساب اليمن، وقسمًا في أنساب العدنانية. ثم ذكر ابن النديم عددًا آخر من الكتب المتفرقة تحت عنوان: "ومن كتبه أيضًا" ذكر بينها كتاب أولاد الخلفاء، كتاب أمهات النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب أمهات الخلفاء، كتاب تسمية ولد عبد المطلب، كتاب كنى آباء الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أردف ابن النديم قائلًا: وله أيضًا كتاب جمهرة الجمهرة رواية ابن سعد. ولنا ملاحظات على طريقة تقسيم ابن النديم لموضوعات كتب ابن الكلبي، أو على الأقل على وضعه كتبًا تحت عناوين لا تندرج تحتها موضوعات هذه الكتب، كأن يضع مثلًا "كتاب المصلين" تحت كتبه في أخبار الإسلام، فنحن نميل إلى أن المقصود بالمصلين هنا هي الخيل التي تأتي وترتيبها الثاني في السباق، ومعروف أن العرب كانت تهتم كثيرًا بالخيل، ولكثير من المؤلفين كتب عن الخيل، بل إن الكلبي نفسه له كتاب آخر بعنوان نسب الخيل، وهو مطبوع. ومن ذلك أيضًا "كتاب الديباج في أخبار الشعراء" فقد وضعه تحت "كتبه فيما قارب الإسلام من أخبار الجاهلية"، وكان من الأفضل له جعله تحت "كتبه في أخبار الشعر وأيام العرب"، ومن ذلك أيضًا كتابه "لغات القرآن" وضعه تحت عنوان كتبه في أخبار الأوائل وكان من الأفضل أن يضعه تحت "كتب في أخبار الإسلام" وهكذا يمكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 إبداء الكثير من الملاحظات على تصنيف ابن النديم لموضوعات كتب الكلبي، ولكن التماس العذر أمر واجب تجاه ابن النديم، فقد كان الرجل يعدد كثيرًا من الكتب التي لم يرها وإنما يتلقى أسماءها، ومن ثم جاز عليه بعض الخلط في عناوين بعض الكتب وصلتها والموضوع الذي كتبت فيه. هذا وكتب ابن الكلبي ليست قيمتها في كثرتها، وإنما تقع أهميتها في موضوعاتها، ولو كانت وصلت إلينا جميعًا لأسهمت إسهامًا إيجابيًّا عمليًّا في إثراء العقل العربي المعاصر ووضحت جوانب عديدة من الحضارة العربية قبل الإسلام وبعده. ولعل من الخير أن نعرض لأسماء بعض كتب ابن الكلبي التي ذكرها ابن النديم، ومنها نعرف قيمتها ومدى أهمية الموضوعات التي طرقتها. من كتب "الأحلاف": كتاب حلف عبد المطلب وخزاعة، كتاب حلف كلب وتميم كتاب حلف أسلم في قريش. من كتب "المآثر والبيوتات والمنافرات": كتاب المنافرات، كتاب بيوتات قريش كتاب فضائل قيس عيلان، كتاب الكنى، كتاب أخبار العباس بن عبد المطلب، كتاب الموءودات، كتاب ألقاب قريش، وكتب أخرى لألقاب قيس عيلان، وبني طابخة، وربيعة واليمن، وكتاب من نقل من عاد وثمود والمعاليق وجرهم وبني إسرائيل من العرب، وكتاب ادعاء زياد معاوية، وكتاب أخبار زياد بن أبيه، وكتاب كل من المساجرات، المناقلات، المعاتبات، المشاغبات، وكتاب ملوك الطوائف، وكتاب ملوك كندة، وكتاب ملوك اليمن من التبابعة، وكتاب طسم وجديس. من كتب "أخبار الأوائل": كتاب عاد الأولى والآخرة، كتاب تفرق عاد، كتاب أصحاب الكهف، كتاب رفع عيسى، كتاب أمثال حمير، كتاب منطق الطير، كتاب لغات القرآن، كتاب المعمرين، كتاب الأصنام، كتاب القراح، كتاب أديان العرب، كتاب حكام العرب، كتاب الخيل، كتاب فحول العرب، كتاب الكهان، كتاب الجن، كتاب ما كانت تفعله الجاهلية ويوافق حكم الإسلام. من كتب "ما قارب الإسلام من أمر الجاهلية": كتاب اليمن وأمر سيف "لعله قصد بسيف سيف بن ذي يزن"، كتاب الوفود، كتاب زيد بن حارثة، كتاب من قال بيتًا أو قيل فيه، كتاب الديباج في أخبار الشعراء، كتاب دخول جرير على الحجاج، كتاب أخبار عمرو بن معد يكرب. من كتب "أخبار الإسلام": كتاب التاريخ، كتاب تاريخ أجناد الخلفاء، كتاب صفات الخلفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 من كتب "أخبار البلدان": كتاب البلدان الكبير، كتاب البلدان الصغير، كتاب تسمية من بالحجاز من أحياء العرب، كتاب قسمة الأرضين، كتاب الأنهار، كتاب الحيرة، كتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات، كتاب أسواق العرب. من كتب أخبار الشعر وأيام العرب: كتاب تسمية ما في شعر امرئ القيس من أسماء الرجال والنساء وأنسابهم وأسماء الأرضين والجبال والمياه، كتاب من قال بيتًا من الشعر فنسب إليه، كتاب المنذر ملك العرب، كتاب داحس والغبراء، كتاب فزارة ووقائع بني شيبان، كتاب الكلاب وهو يوم السنابس، كتاب أيام بني حنيفة، كتاب الأيام، كتاب مسيلمة الكذاب. من كتب "الأخبار والأسماء" كتاب الفتيان الأربعة، كتاب السمر، كتاب الأحاديث، كتاب حبيب العطار، كتاب عجائب البحر. إنه من الجدير بالذكر أن كتب ابن الكلبي تلك التي مر ذكرها أو تلك التي لم نذكرها ليست كلها من الأحجام الكبيرة ولكنها تترجح بين الكبر بحيث يحتل الواحد منها أكثر من مجلد، وبين الصغر بحيث يمكن أن يعتبر بعضها رسالة وليس كتابًا، ولكنها في جملتها ثرية غنية معطاءة، إنها عطاء مبكر وفير في فجر التأليف العربي، وهي إلى ذلك قد غطت أكثر فروع المعرفة في ذلك الزمان من أدب بفروعه، وتاريخ، وأخبار، وأسماء، وأنساب، وبلدان، وأمثال، ولغة، وحديث، وعلوم دينية، وعقائد، وحيوان، وقصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الفصل الخامس: أبو عبيدة : 110-حوالي 209 هـ وهذا ليس في الحقيقة اسمه، وإنما تلك كنيته. وأما اسمه الحقيقي، فهو معمر بن المثنى التيمي بالولاء، وكان أعجميًّا لا يستقيم له نطق ببيت شعر، وكان يخطئ في القرآن الكريم إذا قرأه، وكان شعوبيًّا يكره العرب ويتعصب عليهم ويطعن في أنسابهم وله كتاب في فضائل الفرس. وقد مر بنا قبل قليل أنه ألف كتابًا في مثالب أهل البصرة مع كونه بصريًّا، وبسبب ذلك، وعلى الرغم من كثرة علمه فإنه لما مات لم يحضر جنازته أحد؛ لأنه لم يسلم منه شريف ولا غير شريف. وكان خارجي المذهب، ولكنه برغم ذلك كان ديوان العرب في بيته. ونحن لا نود أن نستطرد طويلًا في أخبار أبي عبيدة، فهو على طول مسيرة عمره التي ناهزت قرنًا من الزمان ليس فيها ما يعجب أو يطرب، ويكفي أنه كان كارهًا للقوم الذين عاش بتراثهم. إن ابن خلكان يذكر أنه ترك مائتي كتاب1، وابن النديم يعدد له مائة كتاب وثلاثة كتب2، وهي متعددة الموضوعات متشعبة الجوانب مما يدل على أن الرجل كان وافر الثقافة فياض المعرفة، فقد ظل يؤلف حتى وقت وفاته، وعناوين كتبه تدل على أنه ألف في الأدب من شعر وشعراء وفي اللغة والنحو وعلوم القرآن، وعلوم الحديث والأنساب والقبائل وأيام العرب ومآثرهم ومساوئهم، كما ألف في التاريخ في العصرين الجاهلي والإسلامي، والفتوحات. كما ألف في الحيوان وفي الطيور والحيات والعقارب والخيل والزرع مما يدل   1 وفيات الأعيان "3/ 329". 2 الفهرست "85، 86". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 على وفرة محصوله. وأما الكتب المطبوعة لأبي عبيدة فهي نقائض جرير والفرزدق، ومجاز العرب والعققة والبررة، والخيل، ومن كتبه المخطوطة التي لم تطبع بعد كتاب طبقات المعالم وكتاب المحاضرات والمحاورات، وكتاب الأنباذ، وكتاب إعراب القرآن، وكتاب أزواج النبي وكتاب الخيل1. وأما كتبه المؤكدة التي نقل منها معاصروه ومن جاءوا بعده من مؤلفي كتب الطبقات والتراجم وجاءوا بنصوص منها فهي كتاب المثالب، وكتاب مقاتل فرسان العرب، وكتاب الضيفان، وكتاب التاج في الإنسان، وكتاب المصنف، وكتاب الديباجة، وكتاب الفرق وكتاب أيام العرب، وكتاب غريب الحديث، وكتاب الديباج، وكتاب الدرع والبيضة.   1 راجع الأعلام مادة "معمر بن المثنى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الفصل السادس: الأصمعي 112 - 216 هـ: إنًّ عبد الملك بن قريب أبا سعيد الأصمعي واحد من ألمع علماء العربية وأدبائها ومن أشهرهم في الأسماع وأكثرهم ذكرًا في الكتب وجريًا على الألسنة وفضله وأدبه ونوادره وظرفه وآثاره وكتبه. لقد عاش في تلك الفترة المزدحمة بالعلماء الذين مر طرف من ذكرهم، فترة الخصوبة والعطاء والإنتاج والمناظرة والمزاحمة العلمية بالمناكب، وعاصر أكثر هؤلاء العلماء وله معهم قصص وأخبار ومناظرات، وله مع أعلام عصره من خلفاء ووزراء وحجاب وقواد طرائف تحكى ونكت تذكر. كان الأصمعي بصري المولد والوفاة مخلصًا لوطنه الصغير متعلقًا به، خرج يطوف في البوادي يسمع من الأعراب الغريب من الألفاظ والطريف من النوادر ويجلس إلى الخلفاء يطرفهم بها ويزيل ضجرهم، فكان يلقى منهم العطاء الوفير، فلما تقدمت به السن عاد إلى موطنه البصرة وظل فيه إلى أن توفي سنة 216هـ وقيل قبل ذلك بعام حسب الروايات التي جاءت بها كتب التراجم، ومهما كان الأمر فقد عاش الرجل ما يناهز خمسة وثمانين عامًا، شأنه شأن أقرانه من علماء زمانه الذين عرفوا بطول العمر وسخاء العطاء الفكري والأدبي. قلنا إن الأصمعي كان يجوب البوادي ليحصل الغريب ويجمع النوادر، وهو في ذلك يسعى إلى العلم سعيًا يجمعه بنفسه في تعب وكد، تمامًا كما كان يفعل رجال الحديث الذين كان يسافر الواحد منهم مئات عديدة من الأميال لكي يحقق حديثًا شريفًا أو حديثين، ولكن الأصمعي لم يفعل ذلك وحسب، ولكنه كان يختلف إلى علماء عصره ليسمع منهم ويتعلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 على أيديهم. فقد سمع شعبة بن الحجاج، والحمادين: حماد بن الزبرقان وحماد الراوية، وسليمان بن المغيرة، وقرة بن خالد، وأبا زيد الأنصاري وهم صفوة من الأعلام والعلماء. وكما أفاد الأصمعي من هؤلاء وغيرهم، فقد كان صاحب حلقة درس كبيرة يجتمع إليه الباحثون عن المعرفة فيسمعونه ويأخذون عنه وفي مقدمة هؤلاء عبد الرحمن بن أخيه عبد الله، وأبو حاتم السجستاني، وأبو عبيد الله القاسم بن سلام، وأبو الفضل الرياشي، وأحمد بن محمد اليزيدي وأبو العباس الكديمي وغيرهم1، وكل هؤلاء يمثلون قمة العلم في زمانهم في النحو واللغة، والرواية، والشعر، والنوادر، والأخبار. لقد كان الأصمعي جديرًا بمكانته العلمية لذكائه المفرط وصدقه واستقامته، فقد ذكر بنفسه أنه يحفظ من الأراجيز وحدها ستة عشر ألف أرجوزة، وفي رواية عشرة آلاف أرجوزة، وسواء أكان العدد عشر آلاف أو ستة عشر ألفًا فإن ذلك يدل على حافظة قليلة النظير بين العلماء، وروي عن ذاكرته أخبار أخرى مثيرة2 نذهب إلى تصديق أكثرها؛ لأن صفوة الأئمة والعلماء والأدباء والشعراء قد امتدحوه وأكثروا في إطرائه، فالإمام الشافعي يقول3: ما رأيت بذلك العسكر أصدق من الأصمعي. وفي وصف آخر له قوله: ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي، والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يثنيان عليه4، وشهادة هؤلاء الثلاثة الأئمة ترفع قدر الأصمعي درجات، وهذا إسحاق الموصلي، يقول: لم أر كالأصمعي يدعي شيئًا من العلم فيكون أحد أعلم به منه. وبلغ من ثقة الخاصة والمثقفين بعلم الأصمعي أن المأمون -وهو من نعرف علمًا وثقافة- كان قد أرسل إليه في البصرة يستقدمه إلى ندوته لكي يستعين بعلمه وفضله فيما يعن له من مشاكل لغوية أو أدبية، ولكن الأصمعي كان من تقدم السن وضعف الشيخوخة بحيث لم يستطع أن يستجيب إلى رغبة المأمون في السفر إليه، فكان المأمون يجمع المسائل ويبعث بها إليه في البصرة فيجيب عنها5. والحق أن الرجل على مخالطته الخلفاء ورجال البلاط والوزراء -ومخالطة هؤلاء وأمثالهم قد تدفع بأكثر الناس إلى شيء من النفاق والرياء- كان صدوقًا عفًّا متدينًا إلى المدى الذي كان يجعله يحجم عن تفسير آية من الكتاب العزيز أو شرح حديث شريف خشية   1 تاريخ بغداد "10/ 410". 2 تاريخ بغداد "10/ 415". 3 نزهة الألباء "ص123، 121". 4 تاريخ بغداد "10/ 418، 419". 5 وفيات الأعيان "3/ 172". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أن يخطئ في التفسير أو التأويل، وإذا اضطر إلى شيء من ذلك كان يردف، قائلًا: هكذا قال العرب، أو هكذا قال العلماء. بل إنه رفض أن يشرب الماء في آنية من الفضة لعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك1. ولقد تواترت الأقوال عن استقامة عقيدته وصحة دينه، فما كان أيسر على مؤرخي زمانه أن يتهموا هذا بالزندقة وذاك بالمجوسية إلى غير ذلك من الانحرافات الاعتقادية التي كانت شائعة بالفعل في محيط البصرة، وأما الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد فهناك ما يشبه الإجماع على صحة عقيدتهم، فقد قيل: أهل البصرة كانوا أهل أهواء إلا أربعة كانوا أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب والأصمعي2. ومع هذه الصفات المسلكية والخلقية الجليلة كان الأصمعي صاحب طرف ونكت ونوادر وأسمار يستمتع بها الخلفاء والوزراء والحجاب ويجزلون له العطاء عليها. فقد كان الرشيد على سبيل المثال -وهو يقضي الصيف بعيدًا عن بغداد في الرقة على شاطئ الفرات غير بعيد عن حلب- يطلب إلى رجاله في بغداد أن يحملوا إليه الأصمعي على البريد، فيسافر الرجل هذه المسافات الطويلة ليقضي مع الخليفة المصطاف أسبوعًا أو بعض أسبوع يسليه ويثقفه بما يسمعه من أخبار وأشعار ويزيل بعض ضجره، ثم يعيده إلى بغداد. وفي إحدى هذه السفرات طلب إليه الرشيد أن يمتحن جاريتين في الأدب والرواية والشعر والأخبار فأنجح واحدة منهما فوهبت له عشرة آلاف دينار، أما الرشيد فبعد أن استمع إلى بعض أسماره -وهي حفية أن يستمع إليها- زال عنه بعض ما كان يساوره من ضجر وأمر له بمائة ألف درهم3. وله مع الرشيد قصة أخرى طريفة تدل على وفرة محصول الرجل من الأخبار التاريخية الدقيقة التي قلما يهتم المؤرخون بتدويها، يحكيها الأصمعي في مجال الإطراف والتسرية عن جليسه. فقد ذكر الأصمعي يومًا للرشيد في مجال السمر نهم سليمان بن عبد الملك وكيف كان يجلس للطعام وأمامه الخراف المشوية الملتهبة لخروجها في الوقت نفسه من تنانيرها، فيريد أخذ كلاها فتمنعه الحرارة من ذلك فيجعل يده على طرف جبته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ كلاه، فيعجب الرشيد بالحديث ويقول للأصمعي في تلطف وتعجب: قاتلك الله، ما أعلمك بأخبارهم!! أعلم أنه عرضت علي ذخائر بني أمية، فنظرت إلى ثياب مذهبة ثمينة وأكمامها ودكة بالدهن فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني الحديث، ثم أمر الرشيد بأن   1 تاريخ بغداد "10/ 418". 2 نزهة الألباء "ص27، 132" وتاريخ بغداد "10/ 418". 3 القصة والسمر في تاريخ بغداد "10/ 413". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 يؤتى له بثياب سليمان بن عبد الملك ونظر فيها فإذا آثار الدهن ظاهرة فيها، فكسا الأصمعي حلة منها. ومن الطريف أن الأصمعي كان يخرج مرتديًا إياها أحيانًا، ويقول: هذه جبة سليمان بن عبد الملك كسانيها الرشيد1. وللأصمعي مع جعفر بن يحيى نادرة لطيفة حين أراد جعفر أن يعاقب إحدى جواريه الجميلات بأن يزوجها للأصمعي وكان كبير السن قبيح الخلقة، فلما رأته الجارية جزعت جزعًا شديدًا، وهنا يقول الأصمعي لجعفر: هلَّا أعلمتني قبل ذلك، فإني لم آتك حتى سرحت لحيتي وأصلحت عمتي، ولو عرفت أنك تريد عقابها لصرت على هيئة خلقتي فوالله لو رأتني كذلك لما عاودت شيئًا تنكره منها أبدًا ما بقيت2. ومن طرائف الأصمعي ونوادره التي يحكيها قوله: رأيت بعض الأعراب يفلي ثيابه فيقتل البراغيث ويدع القمل، فقلت: يا أعرابي ولم تصنع هذا؟ قال: أقتل الفرسان ثم أعطف على الرجالة3. ولقد ذاعت صفات العلم والفضل والسماحة والفكاهة والسمر عن الأصمعي حتى إن الذين عرضوا لرثائه حين وفاته لم يغفلوا عن ذكر ذلك، فأبو العالية الشامي يذكر علمه وفضله حين رثاه بقوله: لا در در نبات الأرض إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفا4 وأما أبو العتاهية فيجمع في مرثيته بين ذكر العلم والفضل والبشاشة والأسمار في قوله: ألهفي لفقد الأصمعي لقد مضى ... حميدًا له في كل صالحة سهم تقضت بشاشات المجالس بعده ... وودعنا إذ ودع الأنس والعلم   1 وفيات الأعيان "3 3/ 174". 2 تاريخ بغداد "10/ 415". 3 وفيات الأعيان "3/ 174". 4 تاريخ بغداد "10/ 419". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقد كان نجم العلم فينا حياته ... فلما انقضت أيامه أفل النجم1 لقد كان الأصمعي يسحر الخاصة والعامة بعذب كلامه ونقاء أدبه، وكان معلم الرشيد وملقنه طاقات من الأدب، بل إنه كان بالنسبة إليه -بلغة عصرنا- مستشاره الثقافي، ولم يقف إعجاب التأبين بالأصمعي عند تلك الأقوال القيمة التي رثاه الشعراء بها، بل لقد ظلت طرائفه تتسرب إلى قلوب الناس وعقولهم حتى بعد وفاته بفترات طويلة من الزمان. إن أبا منصور الثعالبي يمدح الأمير الجليل أبا الفضل الميكالي، فلا يجد من المعاني التي تليق به إلا تشبيهه بفصاحة الأصمعي ورقة لفظه وذلك في قوله: لك في المفاخر معجزات جمة ... أبدًا لغيرك في الورى لم تجمع بحران: بحر في البلاغة شأنه ... شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي2 هذا والأصمعي لامع بين معاصريه من العلماء، مبرز عليهم في كثير من فنون المعرفة، وإذا قصر عن أحدهم في فن برز عليه وفاقه في فن آخر، وما من معاصر له لامع إلا وقد قرن اسم الأصمعي به في مجال المفاضلة، فمن الآراء التي وردت في هذا الشأن قول محمد بن يزيد المبرد: أبو زيد الأنصاري أحسن في النحو، وأبو عبيدة ألمع بالأنساب والأيام والأخبار، والأصمعي بحر في اللغة وكثرة الرواية3. ويقول الأخفش: ما رأيت أحدًا أعلم بالشعر من الأصمعي وخلف، فقيل له: أيهما أعلم؟ قال: الأصمعي. وكان الأصمعي من تمكن العلم في اللغة والتفقه فيها وفهم الشعر بحيث لم يجاره في ذلك معاصر حسبما ذكر الأخفش قبل قليل، وحسبما ذكر المبرد قبل سطور. لقد كان الكسائي والأصمعي وغيرهما في مجلس الرشيد حيث كانت تكثر المناظرات وتثار القضايا اللغوية والنحوية والأدبية في أحيان كثيرة فقال الرشيد سائلًا: ما معنى بيت الراعي: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مخذولا فقال الكسائي: أحرم بالحج، فرد الأصمعي: والله ما كان أحرم بالحج ولا أراد الشاعر أنه أيضًا في شهر حرام، فيقال: أحرم إذا دخل في شهر حرام كما يقال أشهر إذا دخل   1 تاريخ بغداد "10/ 420" ونزهة الألباء "124". 2 وفيات الأعيان "3/ 178". 3 تاريخ بغداد "10/ 414". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الشهر وأعام إذا دخل العام، فقال الكسائي متسائلًا مستنكرًا، ما هو غير هذا؟ وفيم أراد؟ فيعمد الأصمعي إلى الطريقة الجدلية المثيرة مجيبًا السؤال بسؤال: ما أراد عدي بن زيد بقوله: قتلوا كسرى بليل محرما ... فتولى لم يمتع بكفن أي إحرام لكسرى؟ وهنا يتدخل الرشيد سائلًا: فما المعنى؟ فيجيب الأصمعي: كل من لم يأت شيئًا يوجب عليه عقوبة فهو محرم، فقوله: محرمًا يعني في حرمة الإسلام، وقوله محرمًا في كسرى يعني حرمة العهد الذي كان في عنق أصحابه. فقال الرشيد: ما تطاق في الشعر يا أصمعي1. وهناك بين الأصمعي وأبي عبيدة بن المثنى قصة كتاب كل منهما في الخيل والقصة يحكيها الأصمعي قائلا: دخلت أنا وأبو عبيدة على الفضل بن الربيع، فقال: يا أصمعي، كم كتابك في الخيل؟ قلت: جلد واحد -أي مجلد واحد- فسأل أبا عبيدة عن كتابه في الموضوع نفسه، فقال: خمسون جلدًا، فأمر بإحضار الكتابين ثم أمر بإحضار فرس فقال لأبي عبيدة: اقرأ كتابك حرفًا حرفًا وضع يدك على كل موضع: فقال أبو عبيدة: لست بيطارًا، إنما هذا شيء أخذته عن العرب وعلمته وألفته. فقال لي: يا أصمعي، قم فضع يدك على كل موضع من الفرس، فقمت فحسرت عن ذراعي وساقي، ثم وثبت فأخذت بأذني الفرس، ثم وضعت يدي على ناصيته فجعلت أقبض منه بشيء فشيء فأقول هذا اسمه كذا، وأنشد فيه، حتى بلغت حافره، فأمر لي بالفرس2. والأصمعي -بما عرف عنه من مزح وخفة روح- يقول: فكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبت الفرس إليه. ويذهب بعض الروايات إلى أن هذه القصة حدثت تمامًا كما رويت ولكن عند الرشيد وليس عند الفضل بن الربيع، وتضيف هذه الرواية أن الرشيد سأل أبا عبيدة بعد أن انتهى الأصمعي من ذكر أعضاء الفرس: ما تقول فيما قال؟ فأجاب أبو عبيدة: أصاب في بعض وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه مني تعلمه، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به3. لقد كان الأصمعي يسحر الخاصة قبل عامة المثقفين بأدبه وكلامه، وكان من الرشيد بمثابة المعلم والمرجع أو كان -بلغة هذا العصر- مستشاره الثقافي. إن أخبار الأصمعي سواء منها ما يتعلق بما رواه، أو ما يتصل بعلمه المكتسب، أو   1 وفيات الأعيان "3/ 171" وتاريخ بغداد "10/ 416، 417". 2 تاريخ بغداد "10/ 415" ووفيات الأعيان "ص172". 3 وفيات الأعيان "3/ 172" ونزهة الألباء "109". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ذكائه الموهوب من الكثرة بمكان، ولكن الأمر الذي نقف عنده هو طريقته في كتابة كتبه وتأليفها، فهو صاحب منهج فريد. لقد كان يجوب البوادي بنفسه ويعايش الأعراب ويعاشرهم ويأخذ عنهم أخذًا مباشرًا، ثم يروي ذلك أو يضمنه صفحة كتاب. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى كان يعرف على الطبيعة كل ما يكتب، يعرفه حسًّا ويفقهه معنى. والدليل على ذلك قصة كتاب الخيل ومعرفته بأجزاء جسم الفرس جزءًا جزءًا وعضوًا عضوًا. إنه منهج فريد في الكتابة والوعي والتأليف. فأما مؤلفات الأصمعي فقد ذكر له صاحب الفهرست سبعة وأربعين كتابًا في اللغة وما يتصل بها من أدب ونحو وصرف وشعر ورجز، وفي الإنسان وخلقه، وفي الحيوان من إبل وخيل وشاء ووحوش وخلقها وما يتصل بها، وفي النبات والشجر والنخيل وأنواعها، وفي جزيرة العرب وداراتها ومياهها وأنوائها، وفي الأعراب ونوادرهم وأخبارهم، وفي موضوعات أخرى تتصل بالحياة العامة وجوانب المجتمع والبيئة1. ويمكن أن نقدم مؤلفات هذا العالم الجليل على النحو التالي: أولًا: كتب الحديث واللغة من شعر ورجز ونحو وصرف وغيرها: كتاب المقصور والممدود، كتاب الهمز، كتاب فعل وأفعل، كتاب الأضداد، كتاب الألفاظ، كتاب اللغات، كتاب الاشتقاق، كتاب أصول الكلام، كتاب القلب والإبدال، كتاب الأصوات، كتاب الصفات، كتاب النسب، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب معاني الشعر، كتاب الأراجيز، كتاب القصائد الست، كتاب مختاراته من الشعر وهو الذي أطلق عليه الشنقيطي الأصمعيات وسوف يأتي حديثه في مقدمة حديثنا عن طبقات الشعراء، كتاب غريب الحديث، كتاب غريب الحديث والكلام الوحشي، كتاب النوادر، كتاب نوادر الأعراب. ثانيًا: كتب اللغة والأدب والنحو والصرف والشعر: كتاب خلق الإنسان، وكتاب الفرق "يعني الفرق بين أسماء الأعضاء في الإنسان والحيوان"، وكتاب الأجناس، وكتاب خلق الفرس، وكتاب الخيل، وكتاب السرج واللجام والشورى، وكتاب الإبل، وكتاب الرحل، وكتاب الشاء، وكتاب الوحوش، وكتاب السلاح. ثالثًا: كتبه في النبات والشجر والنخيل وهما كتابان:   1 المطبوع من كتب الأصمعي المؤلفات الآتية: خلق الإنسان، الفرق، الخيل، الشاء، الدارات، النبات والشجر، النخل والكرم -والثلاثة الأخيرة منشورة في كتاب: البلغة في شذور اللغة للمستشرق هغنر والأب شيخو، وطبعت له أيضًَا الأصمعيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 كتاب النبات والشجر، وكتاب النخلة الذي نشره الدكتور أوجست هغنر والأب لويس شيخو مع كتاب النبات وكتاب الدارات، وسماه كتاب النخل والكرم1. رابعًا: كتبه في الجزيرة العربية وما يتصل بها وهي: كتاب جزيرة العرب، كتاب الدارات، كتاب الأخبية والبيوت، كتاب مياه العرب، كتاب الدلو. خامسًا: كتبه في الموضوعات التي تتصل بالحياة العامة وهي: كتاب الأثواب، كتاب الأوقاف، كتاب الميسر والقداح، كتاب الجراح2. والأصمعي بعد ذلك كله ملء السمع والبصر والفؤاد لكل دارس لغة أو متبحر في أدب وهو من رواد جامعي الشعر العربي ومحققي مختارات منه.   1 انظر كتاب البلغة في شذور اللغة "ص64". 2 انظر مؤلفات الأصمعي في الفهرست لابن النديم "ص88، 89". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الفصل السابع: الهيثم بن عدي : 114 - 207 هـ كان الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن معاصرًا لابن الكلبي، ومن وزنه وطبقته علمًا وفضلًا ورواية وحفظًا لشعر العرب وأخبارهم وأنسابهم، وهو من الذين تركوا عددًا كبيرًا من الكتب النفيسة التي لا تخرج في مجمل موضوعاتها عن تلك التي ألفها ابن الكلبي، فقد كانت موضوعات القبائل والأنساب والأخبار والأشعار والرواية والبلدان وعلوم اللغة مما يهتم له المتأدبون والمثقفون. وبمرور الأزمنة تغيرت أسماء الموضوعات وإن بقيت محتويات الكتب على طبيعتها، فالأخبار أصبحت تاريخًا، والبلدان أصبحت جغرافية، والأشعار أصبحت أدبًا، وهلم جرًّا. وأصل الهيثم بن عدي من منبج ولكنه، ولد في الكوفة سنة 114هـ وعاش فيها ومارس نشاطه العلمي، ومات في بلدة قرب واسط يقال لها فم الصلح1 وقد قارب المائة. وبالرغم من أن الرجل كان صاحب علم وفضل وجالس أربعة من الخلفاء هم المنصور والمهدي والهادي والرشيد فقد امتحن في حياته أكثر من مرة: امتحن بالسجن عدة سنين؛ لأنه ذكر العباس بن عبد المطلب بشيء لا يليق بمقامه، وربما كان السبب الأصلي في سجنه أنه كان يرى رأي الخوارج2. ولعل ذلك أيضًا من الأسباب التي جعلت كلا من البخاري والنسائي وأبي داود لا يثقون بروايته في الحديث ويتهمونه بالكذب، بل إنه مما زاد الطين   1 معجم الأدباء "19/ 304". 2 وفيات الأعيان "6/ 106" والبيان والتبيين "1/ 347". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بلّة أن جاريته كانت تقول: كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي فإذا أصبح جلس يكذب1. وامتحن مرة ثانية بهجاء أبي نواس له، فقد زاره أبو نواس في مجلس، فلم يعرفه وبالتالي لم يستدنه أو يحتفل به فانصرف مغضبًا، فسأل الهيثم عنه فقيل له: إنه أبو نواس، فقال: هذه والله بلية لم أجنها على نفسي، قوموا بنا نعتذر إليه، وذهب إلى أبي نواس يعتذر إليه خشية لسانه، ولكنه كان قد سبق السيف العذل فقد كان أبو نواس أنشأ فيه: يا هيثم بن عدي لست للعرب ... ولست من طيء إلا على شغب إذا نسبت عديًّا في بني ثعل ... فقدم الدال قبل العين في النسب2 وهي قصيدة مريرة الهجاء كان البيت الثاني منها سببًا في محنة ثالثة للعالم الجليل، فقد كان الهيثم تزوج في بني الحارث بن عدي بن كعب فلم يرتضوه، وأرادوا تطليق ابنتهم منه فادعوا أنه ذكر العباس بن عبد المطلب بسوء فحبس ذلك حسبما سلف القول قبل قليل. ثم ركب محمد بن زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي ومعه بعض جماعته إلى هارون الرشيد، وسألوه أن يفرق بين الهيثم وبين التي تزوجها من بني الحارث، فقال الرشيد -وكان حافظ أشعار- أليس هو الذي يقول فيه الشاعر: إذا نسبت عديًّا في بني ثعل ... فقدم الدال قبل العين في النسب قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، فأمر الرشيد أن يفرق بينهما، وأخذ الهيثم وضرب ضربًا بالعصا حتى طلقها3. وكان الهيثم بمثابة نقطة إثارة للشعراء فيهجونه، فقد أراد الخريمي الشاعر الكبير أن يهجوه فلم تسعفه قريحته فذهب إلى صديقه الشاعر الأعمى علي بن جبلة المعروف بالعكوك قال له: إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: تهجو لي الهيثم بن عدي، قال: ومالك لا تهجوه أنت وأنت شاعر؟ قال: قد فعلت فما جاءني شيء كما أريد. قال: فكيف أهجو رجلًا لم يتقدم إلي منه إساءة ولا له إلى جرم يحفظني؟ قال: تقرضني فإني ملي بالوفاء والقضاء، قال: فأمهلني، ثم كان أن هجا العكوك هيثما بهذه الأبيات التي يذكر فيها قصة تطليقه الحارثية، وهي قصة موجعة جعلتها الأبيات أكثر إيجاعًا:   1 معجم الأدباء "19/ 304". 2 وفيات الأعيان "6/ 111، 112". 3 معجم الأدباء "19/ 305" وفيه نسبة البيت خطأ إلى غير أبي نواس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 للهيثم بن عدي نسبة جمعت ... آباءه فأراحتنا من العدد اعدد عديا فلو مد البقاء له ... ما عمر الناس لم ينقص ولم يزد نفسي فداء بني عبد المدان وقد ... تلوه* للوجه واستغلوه بالعمد حتى أزالوه كرها عن كريمتهم ... وعرفوه بذل أين أصل عدي يا ابن الخبيثة من أهجو فأفضحه ... إذا هجوت وما تنمى إلى أحد وهكذا يكون الرجل الفاضل العالم الجليل رمية لكل رامٍ حتى من أولئك الذين لم يسئ إليهم، ذلك أنه لم يسئ إلى العكوك الذي يهجوه استجابة لشاعر صديق له عجز عن أن يهجوه بنفسه. بل إن الرجل يهجى في مقام هجاء الآخرين، فقد أراد دعبل أن يهجو أحمد بن أبي دؤاد، وإذا به يجتاح عديًّا معه في الطريق وذلك في قوله: سألت أبي وكان أبي عليمًا ... بأخبار الحواضر والبوادي فقلت له أهيثم من عديٍّ ... فقال كأحمد بن أبي دؤاد فإن يك هيثم منهم صميمًا ... فأحمد غير شك من إيادِ متى كانت إياد رءوس قوم ... لقد غضب الإله على العباد1 إن ذلك كله لا ينال من قدر الهيثم الأخباري الراوية العالم المؤرخ الأديب الفكه القصاص السمار، إن الجاحظ على قدره الكبير يجعل منه واحدًا من مصادره الأصيلة في كتابيه البيان والتبيين والحيوان فخطبة الحجاج المشهورة في أهل العراق، ووصية معاوية لولده يزيد التي قالها وكان يزيد غائبًا، وأخبار الوفود التي كانت تفد على الخلفاء حين يبدأون ولايتهم -كل ذلك يرويه الجاحظ عن الهيثم2 فضلًا عن أخبار أخرى كثيرة مصدر الجاحظ فيها أقوال الهيثم بن عدي. وكان الهيثم صاحب قصص طريفة أكثرها حول الأعراب الأمر الذي حببه إلى   * تلوه بتشديد اللام طرحوه وأكبوه على وجهه. 1 الفهرست "151". 2 راجع البيان والتبيين حول هذه الموضوعات "2/ 137، 2/ 131، 397" على التوالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الخلفاء، ولولا أن هذا المقام يضيق عنها لذكرنا بعضًا منها1. وهو صاحب فكاهة ودعابة مع علمه وفضله، والفكاهة لا تتنافى مع العلم والمروءة، فقد كان الجاحظ على علمه الوفير وفضله الكثير صاحب نكتة وحليف فكاهة، يقولها رواية حينًا ويبتكرها ويمارسها حينًا آخر. فأما فكاهات الهيثم التي رويت على لسانه فمنها ما رواه عن الضحاك بن زمل: بينا معاوية بن مروان بن الحكم واقفًا بدمشق ينتظر عبد الملك على باب طحان وحمار له يدور بالرحى وفي عنقه جلجل إذ قال للطحان: لم جعلت في عنق هذا الحمار هذا الجلجل؟ فقال الطحان: ربما أدركتني سآمة أو نعسة فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه قد قام فصحت به. قال معاوية: أفرأيت إن قام ثم مال برأسه هكذا وهكذا -وجعل يحرك رأسه يمنة ويسرة- ما يدريك أنه قائم؟ فقال الطحان: ومن لي بحمار يعقل مثل عقل الأمير2. ويجعل الجاحظ من الهيثم مصدرًا ثرًّا لطرائفه التي يضمنها كتابه البيان والتبيين عن النوكى والحمقى، فمن ذلك ما رواه الجاحظ عن الهيثم: خطب قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة وهو خليفة أبيه على خراسان وأتاه كتابه فقال: هذا خطاب الأمير، وهو والله أهل لأن أطيعه، وهو أبي وأكبر مني3. وقال الهيثم هذه النكتة اللطيفة: قيل لصبي، من أبوك؟ قال وَوْ وَوْ؛ لأن أباه كان يسمى كلبًا4. على أن الهيثم بعد ذلك كله كان معترفًا بعلمه وفضله ودرايته وروايته حتى من أولئك الذين يكنون له البغضاء، فقد مر بنا قبل قليل كيف أراد الخريمي أن يهجوه فلما لم تسعفه القريحة أناب عنه الشاعر العكوك كي يهجوه. هذا الخريمي الذي فعل هذه الفعلة الشنعاء قبل الرجل العالم البريء يقول في مقام تمجيده: ما رأيت كثلاثة رجال كانوا يأكلون الناس أكلًا، حتى إذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الرصاص على النار، كان هشام بن الكلبي علامة نسابة راوية للمثالب عيابة، فإذا رأى الهيثم بن عدي ذاب كما يذوب الرصاص، ويمضي الخريمي قائلًا الشيء نفسه بالنسبة إلى علي بن الهيثم إذا رأى موسى الضبي وعلويه المغني الضارب إذا رأى مخارقًا5. فإذا عرفنا أن هشام بن الكلبي كان من وفرة العلم بحيث قال عنه إسحاق الموصلي -حسبما مر بنا عند الحديث عنه في الفصل السابق- إن الزهري   1 راجع وفيات الأعيان "6/ 107، 108". 2 البيان والتبيين "2/ 261". 3 المصدر السابق "2/ 249". 4 المصدر السابق "1/ 66". 5 البيان والتبيين "1/ 132" ومعجم الأدباء "19/ 304". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 كان يذوب إذا رآه استطعنا أن نضع الرجل في مكانه الصحيح من الفضل والعلم. وأما مؤلفات الهيثم فتتسم بالكثرة وإن لم تصل إلى كتب ابن الكلبي من حيث العدد، فقد روى له ابن النديم واحدًا وخمسين كتابًا فقط أكثرها في التاريخ، وعدد منها في الأنساب، وعدد آخر في الطبقات والباقي في صنوف المعرفة المختلفة والآداب. وقد كان الهيثم منسجمًا مع نفسه في بعض كتبه، ولما كان قد عرف عنه ميله إلى الخوارج، ولما كان أيضًا قد عاش في الكوفة أكثر سني حياته، فقد ألف أكثر من كتاب عنها، ألف كتاب خطط الكوفة، وكتاب ولاة الكوفة، وكتاب قضاة الكوفة والبصرة، وكتاب فخر أهل الكوفة على البصرة. ولما كان طائيًّا فقد ألف كتابًا عن نسب طيء. وأما كتبه في التاريخ والأخبار فتشترك موضوعاتها مع موضوعات معاصريه من أمثال ابن الكلبي والمدائني وغيرهما، فمن كتبه هذه: كتاب المعمرين، كتاب نزول العرب بخراسان، كتاب تاريخ العجم وبني أمية، كتاب الوفود، كتاب الجامع، كتاب بغايا قريش في الجاهلية وأسماء من ولدن، تاريخ الأشراف الكبير، تاريخ الأشراف الصغير، كتاب التاريخ على السنين، خواتيم الخلفاء، كتاب أخبار الحسن بن علي، كتاب أخبار زياد بن أبيه، كتاب أخبار الفرس، هذا فضلًا عن الكتب التي ألفها عن الكوفة التي مر ذكرها. وأما كتبه في الأنساب فمنها، بيوتات قريش، بيوتات العرب، نسب طيء. وفي الطبقات كتب الهيثم هذه الكتب: طبقات الفقهاء والمحدثين، طبقات من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، كتاب تسمية الفقهاء والمحدثين. وللهيثم عدد آخر كبير من الكتب ذات السمات الأدبية والاجتماعية والتاريخية، مثل كتاب النوادر، كتاب النساء، كتاب المواسم، كتاب الدولة، كتاب المثالب الكبير، كتاب المثالب الصغير، كتاب النوافل، كتاب الصوائف، كتاب مديح أهل الشام، كتاب النكد. والحق أن الهيثم كان دنيا من العلم وأمة من المعرفة، وهو واحد من رواد المؤلفين المكثرين في الثقافة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الفصل الثامن: المدائني : 132 - 225هـ وفي مجال وفرة التأليف والاحتفال به في فجر النهضة العلمية، والحركة الثقافية العربية الإسلامية لا ينبغي أن نغفل عن ذكر أبي الحسن علي بن محمد المدائني، البصري ميلادًا ونشأة، الذي سكن المدائن فترة من الزمن فنسب إليها، ثم ما لبث أن تحول إلى بغداد وجعل منها دار إقامة إلى آخر حياته الطويلة التي ناهزت قرنًا من الزمان. إنه ولد مع مولد الدولة العباسية سنة132هـ وعاصر منذ مولده ثمانية من الخلفاء آخرهم المعتصم، ولكنه لم يتصل بهم جميعًا بل ربما لم تتوثق صلته إلا بالمأمون الذي كان يحب العلماء ويجالس الفضلاء، وقد أدخل المدائني على المأمون أكثر من مرة، وجرت بينهما أحاديث ورويت عن لقائهما أخبار1. غير أن المدائني كان ذا صلة بإسحاق الموصلي الذي كان يبره ويملأ كمه -حسب تعبيره- من أعلاه إلى أسفله دنانير ودراهم، ويبلغ من ملازمته له أن يموت في بيته2. وكان المدائني ذا علم وفير، وكان ثقة في روايته ومحلًّا لتقدير العلماء، وينسب الخطيب البغدادي إلى المرزباني قوله: من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدانئني3، وقد وافق المرزباني في ذلك كثرة من المؤرخين المرموقين وفي مقدمتهم صاحب النجوم الزاهرة. وقد لزم المدائني جانب الفضل والدين حتى إنه واصل الصوم تقربًا إلى الله لمدة   1 معجم الأدباء "14/ 128". 2 المصدر "14/ 126". 3 تاريخ بغداد "12/ 55". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الثلاثين سنة الأخيرة في حياته الطويلة. وأما كتب المدائني فقد أحصيتها في كتاب الفهرست فوجدتها مائتين وثلاثة وثلاثين كتابًا1، جعلها ابن النديم تحت العناوين الآتية: أولًا: كتبه في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغت أربعة وعشرين كتابًا، منها على سبيل المثال: كتاب أمهات النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب خطب النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب المغازي وهو في ثمانية مجلدات، كتاب الوفود ويحتوي على وفد اليمن ووفود مصر ووفود ربيعة، كتاب السرايا. ثانيًا: كتبه في أخبار قريش ويضم تسعة وعشرين كتابًا منها: كتاب نسب قريش وأخبارها، كتاب العباس بن عبد المطلب، كتاب أخبار أبي طالب وولده، كتاب عبد الله بن العباس، كتاب آل أبي العاص، كتاب ابن أبي عتيق، كتاب فضائل محمد ابن الحنفية، كتاب فضائل الحارث بن عبد المطلب، كتاب فضائل قريش، كتاب هجاء حسان لقريش، كتاب أسماء من قتل من الطالبيين2، كتاب أخبار زياد بن أبيه3، كتاب الجوابات ويحتوي على جوابات قريش وجوابات مضر وجوابات ربيعة وجوابات الموالي وجوابات اليمن. ثالثًا: كتبه في أخبار مناكح الأشراف وأخبار النساء ويضم اثنين وعشرين كتابًا منها كتاب الصداق، كتاب الولائم، كتاب النواكح والنواشز، كتاب المعبرات، كتاب المغنيات، كتاب من هجاها زوجها، كتاب مناقضات الشعراء وأخبار النساء، كتاب الفاطميات، كتاب من وصف امرأة فأحسن، كتاب البكر، كتاب من تزوج من نساء الخلفاء. رابعًا: كتبه في أخبار الخلفاء ويضم سبعة كتب هي: كتاب تسمية الخلفاء وكناهم، كتاب أعمار الخلفاء، كتاب تاريخ الخلفاء، كتاب حلي الخلفاء، كتاب أخبار الخلفاء الكبير ويضم أخبار الخلفاء ابتداء من الصديق أبي بكر شاملًا أخبار الراشدين وجميع ملوك بني أمية وملوك بني العباس حتى المعتصم، كتاب آداب السلطان. خامسًا: كتبه في الأحداث ويضم خمسة وعشرين كتابًا منها: كتاب مقتل عثمان، كتاب الجمل، كتاب الردة، كتاب الخوارج4، كتاب النهروان، كتاب خطب علي عليه السلام وكتبه إلى عماله، كتاب مرج راهط، كتاب أخبار الحجاج ووفاته، كتاب خلافة عبد   1 الفهرست ص153-158. 2 لأبي الفرج الأصفهاني كتاب "مقاتل الطالبيين". 3 اهتم أكثر مؤلفي هذه الفترة الزمنية بالكتابة عن زياد بن أبيه. 4 سبقت الإشارة إلى أن معاصره الهيثم بن عدي ألف كتابًا في الموضوع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الجبّار الأزدي وقتله المسور، كتاب يوم سنبل. سادسًا: كتبه في "الفتوح" وتبلغ سبعة وثلاثين كتابًا منها: كتاب فتوح الشام، كتاب فتوح العراق، كتاب خبر البصرة وفتوحها، كتاب الإشارة، كتاب فتوح خراسان، كتاب نوادر قتيبة بن مسلم، كتاب الدولة، كتاب ثغر الهند، كتاب عمال الهند، كتاب فتوح سجستان، كتاب فارس، كتاب فتح الأبلة، كتاب أخبار أرمينية، كتاب كرمان، كتاب بعمان، كتاب فتوح جبال طبرستان، كتاب فتوح مصر، كتاب أخبار الحسن بن زيد وما مدح به في الشعر وعماله، كتاب فتوح الجزيرة، كتاب الأهواز، كتاب فتوح الشام، كتاب فتح برقة. سابعًا: كتبه في أخبار العرب وعددها عشرة منها: كتب البيوتات، كتاب أشراف قيس، كتاب من نسب إلى أمه، كتاب من سمي باسم أبيه من العرب، كتاب الخيل والرهان، كتاب بناء الكعبة، كتاب خبر خزاعة، كتاب حمى المدينة وجبالها وأوديتها. ثامنًا: كتبه في أخبار الشعراء وعددها اثنان وثلاثون كتابًا منها: كتاب أخبار الشعراء، كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء، كتاب الشيوخ، كتاب الغرماء، كتاب من تمثل بشعر في مرضه، كتاب من وقف على قبر فتمثل بشعر، كتبًا من تشبه بالرجال من النساء، كتاب فضل العربيات على الحضريات، كتاب من قال شعرًا على البديهة، كتاب من قال شعرًا في الأوابد، كتاب من قال شعرًا فسمى به، كتاب من قال في الحكومة من الشعراء، كتاب من ندم على المديح وندم على الهجاء، كتاب أخبار الفرزدق، كتاب خبر عمران بن حطان الخارجي، كتاب النكد. تاسعًا: كتبه في موضوعات أخرى وعددها حوالي خمسة وأربعين منها: كتاب الأوائل، كتاب المنافرات، كتاب القيافة والفأل والزجر، كتاب الضراطين، كتاب خصومات الأشراف، كتاب الخيل، كتاب التمني، كتاب المسومين، كتاب ذم الجنيد، كتاب الحيل، كتاب قضاة المدينة، كتاب قضاة البصرة، كتاب مفاخرة أهل البصرة وأهل الكوفة، كتاب مفاخر العرب والعجم، كتاب ضرب الدراهم والصرف، كتاب صلاح المال، كتاب أدب الإخوان، كتاب البخل، كتاب النوادر، كتاب المدينة، كتاب مكة، كتاب المحتضرين1، كتاب معرفة المراتب والرسوم، كتاب المراعي والجراد. إنها رحلة طويلة مع موضوعات عديدة تناولتها هذه المجموعة الضخمة من الكتب التي كتبها فرد واحد، أو بالأحرى عالم واحد، ولكن كان العالم من هؤلاء يهب عمره المديد   1 يذكر ابن النديم أن موضوع المحتضرين هو من مات في شبابه، وقد طرق هذا الموضوع أكثر من مؤلف قديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الطويل لخدمة العلم فيعيش عابدًا في محرابه متبتلًا في خلوته معطاء في ندوته فكانت هذه الكتب الكثيرة الوفيرة السخية التي كانت تتعامل مع أكثر فنون المعرفة في ذلك الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي الفصل الأول: أبو عثمان الجاحظ ... الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي الفصل الأول: الجاحظ 150 - 255هـ: إن اسمه عمرو بن بحر بن محبوب وكنيته أبو عثمان؛ وإنما قيل له الجاحظ لأن عينيه كان بهما جحوظ أي نتوء، وكان يقال له أيضًا الحدقي، وكان الجاحظ درة ثمينة في جبين المعرفة العربية والإنسانية، عالمًا في كل فن، آخذًا من كل علم بطرف بل أطراف، ثقف نفسه ثقافة واسعة هيأت له أسباب المجد في حياته، ومكنته من تأليف نفائس الكتب التي كتبت له ولها الخلود بعد مماته. لقد انتفع الجاحظ بكل لحظة من لحظات عمره الطويل بالقراءة والاطلاع فما كان يُرى إلا ومعه كتاب، وما وقع في يده كتاب إلا استوفاه قراءة، بل إن الطريف الممتع في حياة الجاحظ أنه كان يستأجر دكاكين الوراقين -أي محلات بيع الكتب حسب تعبير زماننا- ويبيت فيها للنظر فيما حوته من العلم. لقد ثقف الجاحظ نفسه في علوم الدين ومعارف الدنيا وتتلمذ على أعلام العلماء مثل الأخفش في اللغة وإبراهيم النظام في علم الكلام، كما نهل الفصاحة من مناهلها السليمة من شفاه أهل المربد بالبصرة، والجاحظ علم البصرة الذي لا تخطئه العين. إن الجاحظ جعل لنفسه مدرسة في الأسلوب شبيهة بمدرسة ابن المقفع بل أرفع منها شأنًا وأعلى منها مقامًا، بل إن مدرسته أنقى من مدرسة عبد الحميد وأيسر، إنه ينصح من ينشد السداد في الكتابة، بأن يكون رقيق حواشي اللسان، عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة1.   1 معجم الأدباء "16/ 87". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ويقول الجاحظ في صفة الأسلوب الأمثل: "متى شاكل -أبقاك الله- اللفظ معناه، وكان لذلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لفقًا، وخرج من سماحة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمينًا بحسن الموقع، وحقيقًا بانتفاع المستمع، وجديرًا أن يمنع جانبه من تأول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضًا كريمًا في نفسه، متخيرًا من جنسه وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت له الأسماع وارتاحت له القلوب، وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض، ومن أعاره من معرفته نصيبًا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبًا، حبب إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كبر التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم"1. هذه هي طريقة الجاحظ في الكتابة يصفها للمتأدبين ويمارسها بنفسه حين يكتب، لا يفتعل ولا يتوعر ولا يسجع إلا لمامًا ولكنه يعمد إلى المزاوجة وهي ضرب من الكتابة أقرب إلى السجع وإن تخلصت من القافية. أما وقد استقام للجاحظ أسلوب الكتابة فإنه لم يلبث أن عمد إلى التأليف من خلال هذا النمط السهل الرفيع من أنماط الكتابة. وكان الجاحظ من رجال المعتزلة ينهج نهجهم في تفكيرهم الديني ويسير في ركبهم، بل على رأسهم، فقد أصبح له مدرسة تفكير تعرف بالمدرسة الجاحظية وكان هو عميدها بطبيعة الحال. وقد تورط فيما تورط فيه بعض المعتزلة على أيام المأمون والمعتصم في فتنة خلق القرآن، ولم يستنكر ما تعرض له بعض أئمة المسلمين من تعذيب من خلال تلك الفتنة، كالذي حدث للإمام أحمد بن حنبل، بل هو واحد من الذين أرخوا لهذه المحنة تاريخًا كان من الأفضل لو لم يورط نفسه فيه. وعلى كل حال فقد كان الجاحظ عالمًا جليلًا حتى إن المتوكل لما علم بفضله استدعاه لتأديب بعض ولده، ولكنه عندما رآه استبشع منظره فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه. وكان الجاحظ على فيض علمه ووافر أدبه لا يزال متطلعًا إلى المزيد، وكان يقول: "إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح". والجاحظ مع علمه وفضله واعتزاله، ظريف صاحب نكتة وحليف بسمة خفيف الظل سريع البديهة لماح العارضة، وله نوادر كثيرة باسمة ومضحكة حكى طرفًا منها ياقوت في   1 معجم الأدباء "14/ 96". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ترجمته له، كما ظهرت سمائها في كتابه المشهور "البخلاء". وأما مكانة الجاحظ عند العلماء الأعلام فهي من السمو ورفعة القدر بحيث إنه ليس من اليسير حصر آراء كبار العلماء فيه، ولكن لا بأس من ضرب مثل أو أكثر للتعريف بمكانته. فقد أثر عن جماعة من الصائبين الكتاب أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة إلا على ثلاثة أنفس، فإنه: عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم فقيل له: احص لنا هؤلاء الثلاثة! قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، وحفظه ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته وشهامته، وقيامه في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل وافر، ولسان عضب وقلب شديد .... والثاني الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علمًا وتقوى وزهدًا وورعًا وعفةً ورقةً وتألهًا وتنزهًا وفقهًا ومعرفةً وفصاحة ونصاحة، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول ... والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدال، وإن جد خرج في مسك عامر بن قيس، وإن هزل زاد على مزيد حبيب القلوب ومزاج الأرواح، رشاه آنفًا، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاء. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم وبين الذكاء والفهم. ويطيل ثابت بن قرة في وصف الجاحظ إطالة أملتها الضرورة التي تدفع به إلى استيفاء قدر الرجل ولكننا اكتفينا منها بهذا القدر1. ومن سمو قدر الجاحظ ما يستفاد من هذه القصة التي تتلخص في أن بعض الناس قالوا لأبي هفان الراوية: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك، فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة. والمثال الآخر على سمو قدر الجاحظ عند صفوة الخاصة ما حكاه أبو القاسم   1 معجم الأدباء "16/ 95". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 السيرافي عن رجل غض من قدر الجاحظ عند ابن العميد، وكان ابن العميد وزيرًا جليلًا كاتبًا شاعرًا فارسًا عالمًا جليل القدر في نواحٍ عديدة من نواحي المعرفة. يقول أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد الوزير فجرى ذكر الجاحظ، فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك على الرد على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له النظر في كتبه صار بذلك إنسانًا يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا، ولم أستصلحه لذلك1. إذن فالجاحظ رائد كبير من رواد التأليف في الفكر العربي، والعقل الإسلامي عاش للعلم جامعًا وهاضمًا، ومانحًا، وللكتاب قارئًا وخادمًا ومؤلفًا، ملأ سماء زمانه فكرًا وحركة وعلمًا على صفحات الكتب وبين دفات المجلدات. فما هي كتب الجاحظ تلك التي تعلم العقل والأدب حسب تعبير الوزير الجليل أبي الفضل ابن العميد وكم عددها وما موضوعاتها، وما أهمها قيمة وأجلها قدرًا؟ مؤلفات الجاحظ ومنهجه: أما عدد كتب الجاحظ فيما يروي سبط الجوزي في كتاب مرآة الزمان فهي ثلاثمائة وستون كتاب، وهو بذلك يكون أوفر المؤلفين المسلمين عدد كتب، وهي في الوقت نفسه من أرفعها قدرًا وأسماها علمًا. وكتب الجاحظ ليست كلها مجرد تصنيف ولكنها في أكثرها ابتكار وخلق وإبداع بحيث نستطع أن نقرر أنه أول من مارس التأليف الحق في علوم الدنيا بين أساتذة العربية وعلماء الإسلام. وقد شهد له محبوه من أمثال ابن العميد، وثابت بن قرة كما أقر بفضله شانئوه من أمثال أبي هفان والمسعودي صاحب "مروج الذهب" الذي يقول عن مؤلفاته: "وكتب الجاحظ -مع انحرافه المشهور- تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة. وله كتب حسان، منها البيان والتبيين، وهو أشرفها؛ لأنه جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وغرر الأشعار ومستحسن الأخبار وبليغ الخطب ما لو اقتصر عليه مقتصر لاكتفى به، وكتاب الحيوان، وكتاب الطفيليين والبخلاء"2.   1 وفيات الأعيان "3/ 142". 2 مروج الذهب "4/ 47". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 والواقع أن المسعودي في كلمته هذه القصيرة لا يعرف بكتب الجاحظ وحسب، وإنما هو يشرح منهجه في التأليف ومذهبه في التفكير، وكان المسعودي من الحصافة بحيث وقف وقفة ظاهرة أمام أنفس كتب الجاحظ، وهو البيان والتبيين، كما أنه لم ينس أن يذكر الكتابين اللذين يجيئان بعده شهرة وذيوعًا وهما: كتاب الحيوان وكتاب البخلاء. والموضوعات التي طرقها الجاحظ في كتبه متشعبة متشابكة متعددة متميزة، وبمعنى آخر كان الجاحظ يحسن طرق أي موضوع يريد طرقه، كان يعد نفسه له ويحيط بأطرافه ثم يبدأ الكلام فيه، فلا يكاد ينتهي منه إلا وقد قدم طرفة جديدة من طرائف العقل العربي. لقد سئل أبو العيناء: أي شيء كان الجاحظ يحسن؟ فقال: ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن. لقد مر بنا أن عدد الكتب التي ألفها الجاحظ بلغت ثلاثمائة وستين كتابًا، وهي في اعتقادنا ليست جميعًا مما يصلح أن يطلق عليه اسم كتاب، فبعض هذه الكتب أقرب إلى أن يكون رسالة منه إلى أن يكون كتابًا، ولكن في الوقت نفسه عنده من الكتب ما يصل حجمه الكمي والكيفي إلى سبعة مجلدات بحروف المطبعة الحديثة مثل: كتاب الحيوان، أو إلى أربعة مجلدات مثل: البيان والتبيين. نعود مرة ثانية إلى موضوعات التأليف عند الجاحظ، ولكي تكون الفكرة واضحة عن تعددها فإننا نذكر منها على سبيل المثال كتاب البيان والتبيين، كتاب الحيوان، كتاب البخلاء، كتاب المعرفة، كتاب النبي والمتنبي، كتاب مسائل القرآن، كتاب فضيلة المعتزلة، كتاب الإمامة على مذهب الشيعة، كتاب إمامة معاوية، كتاب الرد على النصارى، كتاب القواد، كتاب اللصوص، كتاب المعلمين، كتاب الجواري، كتاب العرجان والبرصان، كتاب النساء، كتاب المقينين والغناء والصنعة، كتاب أمهات الأولاد، كتاب المغنين، كتاب ذوي العاهات، كتاب في الأسد والذئب، كتاب الكيمياء، كتاب أحدوثة العالم، كتاب نقض الطب، كتاب التفاح، كتاب الزرع والنخل، كتاب النرد والشطرنج، كتاب غش الصناعات، كتاب من يسمى من الشعراء عمرًا، كتاب فضل الفرس، كتاب التسوية بين العرب والعجم، كتاب تنبيه الملوك، كتاب الأصنام، كتاب البلدان، كتاب الربيع والخريف إلخ إلخ. هذه بعض موضوعات كتب الجاحظ، وإن الذي يدرس ما قد وصل إلينا منها -وهي لسوء الحظ قليلة بالنسبة إلى العدد الهائل الذي ألفه يستطيع أن يرى من خلال تناوله لموضوعاته المختلفة المتشعبة شخصية العالم المتمكن والمؤلف المتماسك الحصيف الذي يفيض العلم من خاطره فيضًا وتنساب المعرفة من قلمه انسيابًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 غير أننا وقد ذكرنا تلك الكتب نحسُّ أننا لا نستطيع أن نجرد الجاحظ من مسحة شعوبية حين كتب كتابًا بعنوان فضل الفرس، ثم انعطف وكتب كتابًا آخر بعنوان: التسوية بين العرب والعجم. قد يقول قائل إن ما كتبه الجاحظ حق، فالإسلام سوى بين العرب والعجم وغيرهم من الشعوب. والجواب أنه إذا كان الأمر كذلك فإنه لم يكن هناك ما يدعو إلى تأليف كتاب بهذا العنوان، هذا فضلًا عن الكتاب الآخر الذي خصصه لفضل الفرس. على أننا ونحن نعرض لمؤلفات الجاحظ لا بد لنا أن نقف وقفة قصيرة عند كتابيه "البيان والتبيين" و "الحيوان" محاولين استكناه قدرهما ومنهجهما الأدبي. وعلى عادة المؤلفين القدماء الذين كانوا يعيشون من أقلامهم وكتبهم أهدى الجاحظ كتابه "البيان والتبيين" إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد وزير المأمون، وأهدى كتابه "الحيوان" إلى الوزير الأديب محمد بن عبد الملك الزيات، كما أهدى كتابه "النخل والزرع" إلى الكاتب العبقري إبراهيم بن العباس الصولي، ومعنى ذلك أن كتاب "الحيوان" أسبق تأليفًا من "البيان والتبيين"؛ لأن محمد بن عبد الملك الزيات الذي أهدى الجاحظ إليه كتاب الحيوان توفي سنة 223هـ وأما أحمد بن أبي دؤاد الذي أهدى إليه كتاب البيان والتبيين، فقد ولى أمر الدولة بعد مقتل ابن الزيات وبقي في الحكم سبع سنوات أثار فيها فتنة خلق القرآن وتوفي سنة 240 هـ، وأما الصولي الذي أهدى إليه كتاب الزرع والنخل فقد توفي سنة 243هـ. يبقى بعد ذلك معنى أكبر من طبيعة الإهداء نفسه، فذلك أمر غير ذي بال اللهم إلا في تحديد أي من هذه الكتب الكبرى قد كتب قبل أخيه، أما المعنى الذي نقصد إليه فهو أن الجاحظ قد ألف هذه الكتب التي ازدانت بها المكتبة العربية، وهو فوق الثمانين من العمر، فليس غريبًا إذن أن يكون هذان الكتابان اللذان بين أيدينا محققين مطبوعين أكثر من مرة يمثلان فكر الجاحظ وخلاصة علمه وجوهر تجربته. البيان والتبيين: إنه في نظرنا أفضل آثار الجاحظ جميعًا وهو واحد من أشهر كتب الأدب العربي الذي يعلم الذوق ويصقل الفكر وينبه الخاطر ويوسع المدارك وما من أدب في العربية منذ تاريخ تأليف هذا الكتاب إلى يومنا إلا وقد أفاد منه واستعان به في شئون الثقافة الإسلامية والأدب العربي، ولم يخل كتاب كبير من كتاب عباقرة العربية من أثر منه مبتدئين بابن قتيبة الذي هو نظير للجاحظ علمًا وفضًلا مارين بعلماء المشارقة والمغاربة والأندلسيين مثل المبرد وعبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 القاهر الجرجاني من المشارقة والحصري القيراوني من المغاربة، وابن رشيق وأحمد بن عبد ربه من الأندلسيين. بل إن نسخ البيان والتبيين وصلت إلى الأندلس في حياة الجاحظ فأعلت ذكره وجعلت الكثيرين من شباب الأندلس المرتحلين إلى المشرق طلبًا للعلم ينحدرون إلى البصرة لكي يروا الجاحظ ويتلقوا عنه. وكل موضوعات كتاب البيان والتبيين جيدة يستوي في ذلك ما نهج فيه منهج الجد، وما جنح فيه إلى جانب الفكاهة والهزل. فأما موضوعات الجد في الكتاب فتتلخص في الأغراض الآتية: 1- الخطابة: وقد أورد الجاحظ أخبار الخطباء في الجاهلية والإسلام، كما بين صفات الخطيب الناجح، وذكر مكانة الخطيب بين قومه حين قدموه في كثير من الأحيان على الشاعر، كما ذكر الخطباء الشعراء وأخبارهم وزودونا بعد ذلك بعدد وافر من الخطب المشهورة لمشاهير الخطباء كالحجاج، وزياد وأكثم بن صيفي وعامر بن الظرب وقس بن ساعدة وزيد بن علي، كما قدم نماذج لأغراض الخطابة المتعددة. وهو حين يتحدث الخطيب يمدح الصوت الجهير ويذم الصوت الضئيل، كما ذكر في مقام رحابة الشدق وسعة الفم ويعد الصوت وذكر في مقام الذم صغر الفم. ويذكر أيضًا النساء الخطيبات الفصيحات مثل أم المؤمنين عائشة وصفية بن عبد المطلب وغيرهما، وللخطابة والخطباء ونماذج الخطب أمكنة رحيبة في البيان والتبيين. 2- البلاغة والبيان: ولعل هذا الغرض الذي جاء على صفحات عديدة من الكتاب، مجمعًا تارة ومفرقًا تارة أخرى، من أهم أغراض الكتاب. فلقد تحدث الجاحظ عن اللحن واللحانين ومخارج الحروف، كما تحدث عن اللثغة وضرب لذلك مثلًا بواصل بن عطاء الذي كان خطيبًا مفوهًا ولكنه كان يتفادى الألفاظ التي فيها حرف الراء حتى لا يؤذي آذان السامعين بقبح نطقها، كما تحدث عن البلاغة في الإيجاز وعن البلاغة في الإطناب وضرب لذلك أمثلة كثيرة، هذا فضلًا عن نماذج كثيرة جدًّا لضروب من الأقوال البليغة. 3- الشعر: لقد وشى الجاحظ كتابه هذا بمنتخبات من الأشعار اختارتها قريحة أديب لماح، وكان يقف عند كثير من المقطوعات التي يجيء بها وقفة الصيرفي الناقد البارع يبين وجوه محاسنها إن كانت حسنة، ووجوه قبحها إن كانت معيبة. ولم يكن يترك شاعرًا منذ الجاهلية إلى عصره إلا وقد اختار شيئًا من شعره في مناسبة بعينها وقدم بعضًا من أبياته في مجال الاستشهاد، والحق أن ما قد حواه البيان والتبيين من ثروة شعرية يعد شيئًا نادر المثال مثل تلك المجموعات التي اختارها أبو تمام أو البحتري وغيرهما، وأطلقوا عليها اسم كتب "الحماسة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 4- الرسائل والوصايا والمحاورات: وكل هذه موقورة كثيرة في حنايا الكتاب، بعضها رسائل رسمية متعلقة بشئون الدولة وهي ما اصطلح على تسميتها بالرسائل الديوانية، وبعضها الآخر رسائل اجتماعية جرت بين أصدقاء وهي التي يطلق عليها الرسائل الإخوانية، ولما كان الجاحظ سيدًا من سادة الأسلوب في الكتابة العربية، فإنه يحسن ما يختار من رسائل في مقام الغرض الذي اختاره من أجله. هذا وقد أكثر الجاحظ من ذكر الوصايا وخاصة وصايا الخلفاء. ويهتم الجاحظ بالمحاورات، والطريف منها بشكل خاص، وما كان يبعث على الافتخار كتلك المحاورات التي كانت تجري بين عبد الملك ورجاله، أو بين الحجاج والعامة حينًا، وبينه وبين أعدائه والخارجين عليه أحيانًا أخرى والتي تنتهي عادة إما بالإفراج والعفو أو بالقتل وسفك الدم، وهي محاورات خليقة بأن تقرأ؛ لأنها تربي النفس وتنهض بالأخلاق وتعلم قوة الحجة ونصاعة البرهان. 5- النساك والقصاص: وكان هؤلاء على أيام الجاحظ وقبله بقليل من الخطر والأهمية بمكان، وكانوا صفوة بين علماء ومعلمين. وقد تكاثروا في البصرة بلد الجاحظ بشكل خاص، ومن منا يستطيع أن يغفل شأن الحسن البصري ناسكًا، ومن ذا الذي يجرؤ على إنكار خطره عالمًا وخطيبًا! لقد أتى الجاحظ في أكثر من فصل من فصول كتابه بأسماء العشرات من أمثال مالك بن دينار وأبي حازم الأعرج ويزيد الرقاشي، ولم يغفل النساء الزاهدات مثل رابعة العدوية القيسية ومعاذة العدوية، وأم الدرداء. وأما الجانب الساخر من فصول البيان والتبيين فهو الحكمة التي تصدر عمن لا يتوقع المرء أن تصدر منه، والجاحظ يجيد الكتابة الفكهة فهو فكه بطبعه مرح في غير تكلف، ومن ثم فقد خص الحمقى والنوكى بدراسة وافية، وكثيرًا ما كانت الحكمة تجري على ألسنتهم وهو لسوء الحظ يعد المعلمين في أكثر الأحيان من الحمقى، بل إنه يحمل عليهم في سخرية، وينسب إلى بعض الحكماء قوله: لا تستشيروا معلمًا ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء. كما أنه يذكر من أمثال العامة قولهم: أحمق من معلم كتاب، غير أنه لا يلبث في موضع آخر أن يستبعد الحماقة عن عظماء المعلمين الذين علموا أولاد الملوك المرشحين للخلافة مثل علي بن حمزة الكسائي أو محمد بن المستنير الذي يقال له قطرب. ومن القصص الطريفة التي جاء بها الجاحظ عن النوكى بعد أن عدد أسماءهم ما ذكره عن ديسيموس اليوناني وجعيفران الموسوس الشاعر. يقول الجاحظ: فأما ديسيموس فكان من موسوسي اليونانيين، قال له قائل: ما بال ديسيموس يعلم الناس الشعر ولا يستطيع قوله؟ قال: مثله مثل المسن الذي يشحذ ولا يقطع؟ ورآه رجل وهو يأكل في السوق فقال: ما بال ديسيموس يأكل في السوق؟ فقال: إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 جاع في السوق أكل في السوق. وألح عليه رجل بالشتيمة وهو ساكت؟ فقال: أرأيت إن نبحك كلب أتنبحه، وإن رمحك حمار أترمحه؟ وكان إذا خرج في الفجر يريد الفرات ألقى في دوارة بابه حجرًا، حتى لا يعاني دفع بابه إذا رجع. وكان كلما رجع إلى بابه وجد الحجر مرفوعًا والباب منصفقًا، فعلم أن أحدًا يأخذ الحجر من مكانه، فكمن لصاحبه يومًا، فلما رآه قد أخذ الحجر، قال: مالك تأخذ ما ليس لك؟ قال: لم أعلم أنه لك. قال: فقد علمت أنه ليس لك. وأما جعيفران الموسوس الشاعر، فشهدت رجلًا أعطاه درهمًا، وقال له: قل شعرًا على الجيم فأنشأ، يقول: عادني الهم فاعلتج ... كل هم إلى فرج سل عنك الهموم بالكاس ... وبالراح تنفرج وكان يتشيع، فقال له قائل: أتشتم فاطمة وتأخذ درهمًا؟ قال: لا بل أشتم عائشة وآخذ نصف درهم. وهو الذي يقول: ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه أضحى لقوم كثير ... فكهلم يدعيه فذا يقول بنيي ... وذا يخاصم فيه والأم تضحك منهم ... لعلمها بأبيه ومن أخبارهم أيضًا ما ذكره الجاحظ عن بعض من اعتلى المنبر منهم ونوادر أخرى نجتزئ منها: خطب قبيصة بن المهلب، وهو خليفة أبيه على خراسان وأتاه كتابه، فقال: هذا كتاب الأمير، وهو والله أهل؛ لأن أطيعه، وهو أبي وهو أكبر مني. وكان -فما زعموا- ابن لسعيد الجوهري، يقول: صلى الله تبارك وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم. ومن أخبارهم أيضًا: صعد عدي بن أرطاة على المنبر، فلما رأى جموع الناس حصر، فقال: الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم. ومن طرائفهم أيضًا ما قد ذكر عن روح بن حاتم حين صعد المنبر فلما رأى الناس رافعين رؤوسهم متجهين بأبصارهم إليه وأسماعهم نحوه، قال: نكسوا رؤوسكم، وغضوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 أبصاركم، فإن المنبر مركب صعب، وإذا يسر الله فتح قفل تيسر. خطب مصعب بن حيان، أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح، فحصر فقال: لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله، فقالت أم الجارية: عجل الله موتك، ألهذا دعوناك؟ وخطب أمير المؤمنين الموالي خطبة نكاح، فحصر، فقال: اللهم إنا نحمدك ونستعينك ونشرك بك. وقال مولى خالد بن صفوان: زوجني أمتك فلانة. فقال: قد زوجتكم، قال: أفأدخل الحي حتى يحضروا الخطبة؟ قال: أدخلهم. فابتدأ خالد فقال: أما بعد فإن الله أجل وأعز من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين، وقد زوجت هذه الفاعلة من هذا ابن الفاعلة. وقال إبراهيم النخعي لمنصور بن المعتز: سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الكيسى. ودخل كثير عزة -وكان محمقًا، ويكنى أبا صخر- على يزيد بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين: ما يعني الشماخ بن ضرار بقوله: إذا الأرطي توصد أبرديه ... خدود جوازئ بالرمل عين1 قال يزيد: وما يضر أمير المؤمنين ألا يعرف ما عنى هذا الأعرابي الجلف؟ فاستحمقه وأخرجه. وكان عامر بن كريز2 يحمق قال عوانة3: قال عامر لأمه: مسست اليوم برد العاص بن وائل السهمي. قالت ثكلتك أمك، رجل بين عبد المطلب بن هاشم وبين عبد شمس بن عبد مناف، يفرح أن تصيب يده برد رجل من بني سهم؟ ولما حصر عبد الله بن عامر على منبر البصرة، فشق ذلك عليه، قال له زياد: أيها الأمير إنك أقمت عامة من ترى أصابه أكثر ما أصابك. وقيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر وتكلم. فلما صعد حصر، وقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء وبقي ساكتًا، فأنزلوه. وصعد آخر فلما استوى قائمًا وقابل بوجهه وجوه الناس وقعت عينه على صلعة رجل4 فقال: اللهم العن هذه الصلعة وقيل لوازع اليشكري: قم فاصعد المنبر وتكلم. فلما رأى جمع الناس، قال: لولا أن   1 ديوان الشماخ "94". الأبردان: الغداة والعشي. والجوازئ: بقر الوحش. 2 هو والد عبد الله بن عامر بن كريز. 3 عوانة بن الحكم الكلبي الأخباري. 4 الصلعة بالتحريك، والضم: موضع الصلع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 امرأتي حملتي على إتيان الجمعة اليوم ما جمعت1، وأنا أشهدكم أنها مني طالق ثلاثًا! ولذلك قال الشاعر: وما ضرني أن لا أقوم بخطبة ... وما رغبتي في ذا الذي قال وازع قال وازع: ودخلت على أنس بن أبي شيخ2، وإذا رأسه على مرفقه، والحجام يأخذ من شعره، فقلت له: ما يحملك على هذا؟ قال: الكسل. قلت: فإن لقمان قال لابنه: إياك والكسل، وإياك والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤد حقًّا، وإذا ضجرت لم تصبر على حق. قال ذاك والله أنه لم يعرف لذة الفسرلة، يعني الرزالة والنذالة3. فالجاحظ حينما يسخر يمعن في السخرية، ولكن في لطف، وهو قادر على الإمتاع والإضحاك والتسرية عن النفس حينما يعمد إلى ذلك، وقد يفعل ذلك عن عمد في أكثر كتبه، وخاصة في البيان والتبيين لعمق الكتاب ودقة أفكاره وسمو مستواه. هذا ولما كان الجاحظ صاحب أسلوب ورائد كتابة فلم يفته أن يخص السجع بدراسة في كتابه، والسجع كما نعلم لازم الأسلوب العربي قولًا وإنشاء لعديد من القرون، ولذلك فقد أورد الجاحظ العديد من الأقوال المسجوعة لأعراب وحضر، ومن الرسائل والخطب التي لا تكاد تخلو واحدة منها من التزام السجع. أما أسلوب الجاحظ نفسه في كتابه فهو أسلوبه في كل كتاب وفي كل رسالة، إشراق في غير ما تصنع، ومزاوجة يبدو الحرص على الإتيان بها واضحًا، وقبول للسجعة إذا جاءت عفو الخاطر دون ما سعى إليها أو محاولة لتوليدها. كتاب الحيوان: هذا الكتاب قد أهداه مؤلفه إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل على ما مر بنا ومعنى ذلك أنه كتبه قبل البيان والتبيين، وقد نال شيئًا من المكافأة عن كل من الكتابين. هذا وإذا كان الكتاب يحمل عنوان "الحيوان" فليس معنى ذلك أن الكتاب مختص بالحيوان وحسب، ولكنه كتاب أدب عناصره أصناف الحيوان، وما حيك حولها من قصص وعلوم، وما ألف فيها من عادات وأمراض، وما قيل فيها من حكم وأشعار.   1 جمع الرجل، بتشديد الميم: صلى الجمعة. وفي الحديث: "أول جمعة جمعت بالمدينة". 2 كان أنس بن أبي شيخ من البلغاء الفضلاء، وكان كاتبًا للبرامكة، وقتله الرشيد على الزندقة سنة سبع وثمانين ومائة، وهي سنة نكبة البرامكة. 3 البيان والتبيين "2/ 249" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 لقد ألف الجاحظ هذا الكتاب -والبيان والتبيين بطبيعة الحال- وهو على جانب المرض وشدة وقع الفالج والنقرس عليه، وقد صادف الجاحظ من أمراضه متاعب ومصاعب تغلب عليها بالصبر، فهو يشكو مرضه، ويقول: "أنا من جانبي الأيسر مفلوج، فلو قرض بالمقاريض ما علمت به، ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت". ويحكي الجاحظ متاعبه مع تأليف كتاب "الحيوان" وهو ما لم يذكر شيئًا منها بصدد كتابه "البيان والتبيين" فيقول: "وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرداة فيه، أول ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب، والرابعة أني لو تكلفت كتابًا في طوله وعد ألفاظه ومعانيه، ثم كان من كتب العرض والجوهر، والصفرة والتوليد والمداخلة والغرائز والنحاس لكان أسهل وأقصر أيامًا وأسرع فراغًا؛ لأني كنت لا أفزع فيه إلى تلقط الأشعار وتتبع الأمثال، واستخراج الآي من القرآن والحجج من الرواية، مع تفرق هذه الأمور في الكتب1. والجاحظ في عباراته السابقة يوضح للقارئ أن كتابه اعتمد على القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي والأمثال الشائعة كمصدر من مصادره. والواقع أن كتاب الحيوان هو أكبر كتب الجاحظ من حيث الحجم، فقد صدرت أفضل طبعاته وهي التي حققها الأستاذ عبد السلام هارون في سبعة مجلدات، ومعنى ذلك أن الكتاب يشكل ضعفين أو أكثر من حيث الحجم إذا ما قورن بالبيان والتبيين: ولكن ما زال للبيان والتبيين ميزة الفضل والشهرة والذيوع. ولا يأخذ العجب قارئ كتاب الحيوان لوفرة ما فيه من علم وتجربة وأدب؛ ذلك لأن الجاحظ نفسه كان وفير العلم في مختلف نواحيه، ولما كان للحيوان من خيل وإبل وكلاب أهميتها عند العرب، فقد درسوها وفصلوا أجزاءها قولًا مرسلًا وشعرًا منظومًا. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الوحش في المنطقة العربية من ظباء وبقر وأسد وذئاب وثعالب وضباب وحيات، كل هذه الحيوانات قد أكثر العرب فيها القول وهو ما سطره الجاحظ في كتابه. هذا ويذكر الجاحظ في أمكنة مختلفة من كتابه أنه كان يأخذ علمه من أصحاب الخبرة حتى ولو كانوا من العامة، فكثيرًا ما جالس الحواة وحادثهم وناقشهم في شئون الحيات والثعابين. وهذا إذا أراد أن يتحدث عن الطيور ذهب إلى صائد العصافير وساءله وناقشه، وهكذا نرى ثمار التجربة وحصاد الخبرة واضحًا في الكتاب. وكتاب الحيوان مليء بأسباب الجدل الذي عرف به المعتزلة، ولكن الجدل في كتاب   1 الحيوان "4/ 69". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الحيوان جدل مريح غير مجهد ولا مكد لذهن القارئ، فهنا يقول صاحب الكلب، وهناك يقول صاحب الديك، وفي مكان ثالث صاحب الحمام، ومن الطريف فعلًا أن تجرى مساجلات كلامية بين أصحاب الكلب وعلى رأسهم النظام وأصحاب الديك وعلى رأسهم معبد. هذا والكتاب يحوي فصولًا عديدة من المعرفة في غير موضع الحيوان، مثل وسائل البيان وكتابة المعاهدات، وضروب الخطوط، وأقوال الشعراء فيها، وفي الكتاب فصول عن البلدان، وعن الأجناس البشرية وأثرها في خلق الإنسان، وعن مسائل في الفقه والدين. ولم يهمل الجاحظ الجانب الفكه في كتابه لكي يخفف عن نفس القارئ بين الفينة والفينة بملحة يقولها أو طرفة يطلقها. فإذا دلف الجاحظ إلى صلب موضوعه، قال: ثم النامي على قسمين: حيوان ونبات. والحيوان على أربعة أقسام: شيء يمشي، وشيء يطير، وشيء يسبح، وشيء ينساح، إلا أن كل طائر يمشي، وليس الذي يمشي يسمى طائرًا. والنوع الذي يمشي على أربعة أقسام: ناس وبهائم وسباع وحشرات ... وهكذا يكتب الجاحظ موضوعه ورائده المنطق ودليله المعرفة. وإذ ذكر حيوانًا ما جاء الجاحظ بأكثر ما يمكن أن يجيء به حول هذا الحيوان من معلومات طريفة، ثم ذكر العديد من قصائد الشعر العربي التي قيلت فيه، أو بصدد تشبيه به أو غير ذلك. فإذا ذكر الخنزير مثلًا ذكر تفضيل الأكاسرة والقياصرة للحمها ثم انعطف أبياتًا لحماد عجرد في هجاء بشار بن برد منها هذا البيت: ولريح الخنزير أطيب من ريـ ... ـحك يا ابن الطيان ذي التبان وإذا ما ذكر الكلب جاء بالأمثال التي تقال في الكلاب قدحًا أو مدحًا، مثل قول كعب الأحبار لرجل أراد سفرًا: إن لكل رفقة كلبًا، فلا تكن كلب أصحابك. أو قول العرب: أحب أهلي إلي كلبهم الظاعن، إلى غير ذلك من الأمثال. وأحيانًا يحمل الجاحظ على الكلب فيتهمه بالرشوة وبأنه الحيوان الوحيد الذي يقبل الرشوة وبإمكان اللص أن يرشوه برغيف، ثم يسرق البيت الذي يحرسه. ويصفه بالحماقة؛ لأنه الحيوان الوحيد الذي ينام في وسط الطريق ليلًا، فتدوسه حوافر السابلة فتؤلمه فيظل يئن ويعوي. ويصفه بعدم الأصالة، فهو يأكل اللحم وليس بوحشي، ويعيش في المنازل كما تعيش المستأنسات، ويجري الجاحظ على لسان صاحب الديك قوله: يقال للسفيه إنما هو   * الطيان الذي يضرب الطوب، والتبان سراويل يلبسها الملاحون والمصارعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 كلب، وإنما أنت كلب نباح، وما زال ينبح علينا منذ اليوم، وكلب من هذا، ويا كلب ابن كلب، وأخسأ كلبها. وقال في المثل: احتاج إلى الصوف من جز كلبه. وأجع كلبك يتبعك. وأحب شيء إلى الكلب خانقه، وسمن كلبك يأكلك، وأجوع من كلبة حومل، وكالكلب يربض في الأري* فلا هو يأكل ولا يدع الدابة تعتلف. وما يقال حول الكلب من أمثال وأشعار وحكم وأمثال، وأحكام شرعية وأخبار وأنواع يمكن أن يتكرر في كتاب الحيوان عن أصناف أخرى من الحيوان. ومجمل القول أن كتاب الحيوان زاد من الثقافة، ومعين من المعرفة، وينبوع من اللغة ونهر من الأدب، وفيض من الظرف، وهو ممتع في القراءة، سخي في العطاء الذهني والتنشيط الفكري.   * أري الدابة: مربطها ومعلفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الفصل الثاني: ابن قتيبة الدينوري : 213 - 276هـ إن الذي يذكر الجاحظ وعلمه وفضله وكتبه لا يستطيع أن يقف عنده، بل لا بد له أن ينطلق مباشرة إلى عالم آخر من علماء العربية ومفكر من مفكري الإسلام ومؤلف واسع الباع عميق الإدراك متشعب الثقافة متنوع أسباب المعرفة، هو أبو محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينوري. وإنما يذكر ابن قتيبة إذا ذكر الجاحظ لأن الجاحظ كان مفكر المعتزلة وخطيبهم، وابن قتيبة خطيب أهل السنة ومفكرهم. ومن هنا قيل إن ابن قتيبة لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة. وابن قتيبة لم يعمر طويلًا كما عمر الجاحظ وإنما كانت حياته ثلاثًا وستين سنة مليئة بالعلم والمعرفة والإنتاج، فقد ولد ببغداد سنة 213هـ إلا أنه سكن الكوفة بعض الوقت وتوفي ببغداد على أرجح الروايات سنة 276هـ. وإذا كان الجاحظ قد ألف خلال القرن الذي عاشه ثلاثمائة وستين كتابًا، فإن ابن قتيبة قد ألف ثلاثمائة كتاب1 أكثرها من المستوى الرفيع الذي تزدان به المكتبة العربية ويتشرف به الفكر الإسلامي. لقد كان ابن قتيبة واسع العلم رحب الفكر ثقة دينًا فاضلًا، ولذلك فإن أهل المغرب قد تعصبوا للإمام مالك فقالوا: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة؛ ذلك لأن كثرة من أعدائه وحاسديه قد نسبوا إليه أمورًا تنال من إيمانه ولم يكن الرجل من هذه التهم في شيء، الأمر الذي جعل المغاربة لا يتعصبون له وحسب بل يتبركون به ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيف ابن قتيبة لا خير فيه. ولعل السبب الأكبر في ذلك هو أن ابن قتيبة   1 مقدمة كتاب الشعر والشعراء "ص51". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قد ألف أكثر من كتاب عن القرآن والحديث يرد فيه على بعض انحرافات الفلاسفة وعلماء الكلام. ومن الأمور التي تدعو إلى الإعجاب أن ابن قتيبة -على كثرة ما ألف ونفاسة ما كتب- لم يكن متفرغًا للكتابة والتأليف كل الوقت، بل إنه اشتغل بالقضاء فترة من حياته في مدينة دينور وهو من أجل ذلك قد لصق به لقب الدينوري. لقد كان ابن قتيبة دائرة معارف بشخصه تمامًا كما كان الجاحظ الذي لا نستبعد أن يكون رآه، إذ إنه في السنة التي توفي فيها الجاحظ كان ابن قتيبة يناهز الأربعين عامًا. ومعنى ذلك أنه كان يقرأ للجاحظ وإن اختلف معه في جوهر التفكير الديني، ولكنهما من حيث طرق أبواب المعرفة والتأليف فيها نجد لكل منهما أثرًا علميًّا في الموضوع الواحد، فكلاهما كتب عن القرآن والقراءات وعن الحديث، وإن اختلف مفهوم كل منهما عن الآخر. وكلاهما ألف في الأدب والنقد والحيوان، وإن كان ابن قتيبة مال إلى التخصص فألف في الخيل وحدها دون بقية أنواع الحيوان. وكلاهما كتب أيضًا عن النبوة. وكلاهما أيضًا كتب عن النبات فلابن قتيبة كتاب بهذا الاسم، وللجاحظ كتاب باسم: النخل والزرع. هذا وربما وجدنا لابن قتيبة كتبًا لم يطرق الجاحظ أبوابها مثل كتاب الأشربة أو كتاب الأنواء والجراثيم وحكم الأمثال والتقفية وغير ذلك. على أننا لا نطلب من كل من العالمين الجليلين أن يكون كل واحد منهما في عناوين كتبه وموضوعاتها صورة من صاحبه، فإن واحدًا منهما والحال كذلك سوف يكون مقلدًا وسوف يكون الآخر أصيلًا. إلا أن واقع الحال هو أنه كان لكل من الجاحظ وابن قتيبة فكره المستقل الأصلي وموضوعاته التي تخصص فيها وقدم فيها الجديد من أسباب العلم والبكر من موضوعات المعرفة مع اختلاف شديد بين الطبيعتين والمذهبين. وإذا كان ابن قتيبة يحاول في بعض كتبه أن يعمد إلى الإطراف والإضحاك فإنه لا يستطيع أن يصل في ذلك إلى ما وصل إليه الجاحظ؛ لأن الجاحظ فكه ساخر بطبعه أو بتعبير أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد أمين في ضحى الإسلام: الجاحظ مزاح خفيف الروح مهذار واسع العقل متصرف، وابن قتيبة صاحب جد، قاضٍ، عليه وقار القضاء، يمزح أحيانًا ولكن ليس له خفة روح الجاحظ1. هذا وإذا كنا قد ذكرنا للجاحظ كتابًا أو أكثر للتسوية بين العرب والعجم فإن ابن قتيبة مع كونه غير عربي يكتب كتابين في التحمس للعرب والدفاع عنهم وإثبات فضلهم، الأول   1 ضحى الإسلام "1/ 402". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 هو: الرد على الشعوبية، وهو مطبوع والثاني هو: فضل العرب على العجم وهو لا يزال مخطوطًا. إن ابن قتيبة إذا كان قد ألف زهاء ثلاثمائة كتاب فإن له بين أيدينا أربعة عشر كتابًا مطبوعًا وثلاثين كتابًا مخطوطًا منتشرة في مختلف مكتبات العالم أورد أكثرها بروكلمان ومحقق كتاب الشعر والشعراء ومحقق أدب الكاتب. على أننا قد نجد من الضروري أن نشير إلى كتب ابن قتيبة المطبوعة البالغ عددها أربعة عشر كما ذكرنا، وهي: 1- عيون الأخبار. 2- الشعر والشعراء. 3- أدب الكاتب. 4- المعارف. 5- المعاني. 6- تأويل مختلف الحديث. 7- الإمامة والسياسة. 8- الأشربة. 9- الرد على الشعوبية. 10- مشكل القرآن. 11- الميسر والقداح. 12- المسائل والأجوبة "في الحديث". 13- الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية. 14- تفسير سورة النور. عيون الأخبار: هذا وأشهر كتب ابن قتيبة ذيوعًا وجريًا على ألسنة العلماء والمتأدبين هي الكتب السبعة الأولى، وقد تكون شهرتها وأهميتها تقع في نطاق الترتيب الذي أوردناها من خلاله. فإذا ما استغرقنا بعض كتب ابن قتيبة من حيث موضوعاتها وإذا ما نظرنا في عيون الأخبار نجده قسمه إلى عشرة كتب أي عشرة موضوعات هي: كتاب السلطان وكتاب الحرب وكتاب السؤدد وكتاب الطبائع وكتاب العلم وكتاب الزهد وكتاب الإخوان وكتاب الحوائج وكتاب الطعام وكتاب النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 والحق أن كتاب عيون الأخبار من حيث منهجه ومحتواه يعتبر مثلًا أعلى لفن التأليف حتى عهد صاحبه، وهو بذلك يبز الجاحظ ويعلو عليه من حيث المنهج، فقد كان الجاحظ من قبله كثير الاستطراد، يبعد عن موضوعه بحيث ينقل القارئ نقلة واسعة ينسى معها الموضوع الذي كان يقرأه، وليس كذلك ابن قتيبة، بل إن ابن قتيبة يحس بهذا الامتياز في فنه ومنهجه فيقدم روح كتابه في مقدمة كتبها بنفسه يقول فيها: "قرنت الباب بشكله والخبر بمثله والكلمة بأختها ليسهل على المتعلم علمها وعلى الدارس حفظها". وهكذا يضع ابن قتيبة نفسه موضع العلم من قارئه والأستاذ من بين المؤلفين والمنشئين. وهو حين يقدم كتابه للقارئ يقول في موضع آخر من مقدمته: ولم أخله من نادرة طريفة وكلمة معجبة وأخرى مضحكة"1. ومحتوى الكتاب يدل على سعة معرفة ابن قتيبة وسمو فكره وبراعة صوغه ووضوح أسلوبه ومنطق تسلسله، والكتاب متعة من متع الفكر العربي وحشد من المعرفة التي تخلق من قارئها إنسانًا متفتحًا مثقفًا؛ لأن ابن قتيبة متفتح العقل صافي الذهن مرتب الفكر متعدد الثقافات. هذا ويرى بروكلمان استنتاجًا من مقدمة عيون الأخبار أن كتاب المعارف وكتاب الأشربة -لابن قتيبة- يعتبران بمثابة تكملة لعيون الأخبار، ونحن لا نذهب مذهبه، فلكل من الكتابين الأخيرين شخصيته ومنهجه وبراعة استهلاله وتمام اختتامه. أدب الكاتب: وإذا كان لنا أن نقدم كتابًا آخر لابن قتيبة فإن كتاب أدب الكاتب خليق بأن يكون ذلك الكتاب، فهو واحد من أربعة كتب ذكر ابن خلدون أن مشايخه وأساتذته جعلوها أصول فن التأديب، وما سواها تبع لها وفروع منها. وهذه الكتب الأربعة هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي. وأدب الكاتب يختلف اختلافًا بينًا عن عيون الأخبار، فعيون الأخبار كتاب ثقافة رفيعة وإحاطة بأسباب المعرفة على تعدد موضوعاتها مستقاة من مختلف مظانها، وأما كتاب أدب الكاتب فهو تأديب للكتاب الذين ظنوا بأنفسهم العلم وهم جهلاء، وتعليم للخاملين المتطاولين الذين غفلوا عن حقيقة حالهم فنشروا على الناس جهلهم وحاولوا أن يتسلقوا إلى المراتب العليا من مراتب الفكر اغتصابًا ودون استعداد أو تحصيل أو تعلم.   1 مقدمة عيون الأخبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقد أهدى ابن قتيبة كتابه إلى الوزير أبي الحسن عبد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل، وكان ذلك سببًا في تقديم ابن قتيبة إلى المتوكل والاستعانة به في بعض الأعمال. والواقع أن هدف ابن قتيبة من كتابه -على نحو ما بينا قبل قليل- هدف رفيع، فقد استهدف تعليم الجهال ممن يدعون العلم، وكشف المتطاولين على القيم الدينية، وهم أجهل الناس بمكانتها. وعلى عادة ابن قتيبة يقدم في أكثر كتبه منهجه وهدفه، فلنقرأ له بعضًا ما وضح به هدفه هذا الرفيع1: " ..... فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين، ولأهله كارهين2: أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم، والشادي تارك للازدياد، والمتأدب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ3، ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين4 فالعلماء مغمورون وبكرة الجهل مقموعون5 حين خوى نجم الخير، وكسدت سوق البر6 وبارت بضائع أهله، وصار العلم عارًا على صاحبه، والفضل نقصًا، وأموال الملوك وقفًا على شهوات النفوس، والجاه الذي هو زكاة الشرف يباع الخلق7 وآضت المروءات في زخارف النجد وتشييد البنيان8، ولذات النفوس في اصطفاق المزاهر   1 أدب الكاتب "ص1" وما بعدها. 2 "ناكبين" عادلين عنه، جمع ناكب، وهو العادل عن الشيء، وقيل للذي يعدل عن الشيء ناكب؛ لأنه يوليه منكبه، و "متطيرين" متشائمين لنفور طباعهم عنه، والطائر والتطير، الشؤم، وقوله "ولأهله كارهين" وقع في نسخة الجواليقي: "ولأهله هاجرين" والهاجر: القاطع. 3 الناشئ الحدث الشاب حين نشأ، أي: ابتدأ في الارتفاع عن حد الصبا إلى الإدراك والشادي: الذي قد شدا من العلم شيئًا، أي أخذ منه طرفًا وتعلمه، وعنفوان الشباب ريعانه وميعته، أي: أوله. 4 "المجدودين" -بالجيم- المحظوظين، من الجد -بفتح الجيم- وهو هنا الحظ والبخت، والمحدودين -بالحاء المهملة- المحرومين، وأصل الحد المنع ومنه قول النابغة: إلا سليمان إذ قال الإله له: ... قم في البرية فاحددها عن الفند وكأنهم لما منعوا الرزق والبسطة فيه قيل لهم: محدودون. 5 مغمورون: خاملون لا نباهة لذكرهم، وأصل الغمر التغطية، وكرة الجهل دولته، وفي نسخة "وبكثرة الجهل- إلخ" "مقموعون" مقهورون مغلوبون، وأصل القمع الضرب بالمقمعة. 6 "خوى نجم الخير" أصل معنى "خوى النجم" خلا من المطر، أي: أخلف مطره الذي كان يرجى منه، ثم استعمل خوى النجم بمعنى سقط وأقل، ثم استعمل في معنى قلة الخير وسقوط الدولة و "كسدت سوق البر" أي: فسدت وبارت ولم ترج سلعها. 7- الخلق: بفتحتين -البالي، سمى خلقًا لملاسته، ومن ذلك قولهم للصخرة الملساء خلقاء. 8 "آضت": صارت ورجعت، والزخارف: جمع زخرف، وأصله الذهب ثم قيل للحسن والزينة، والنجد، ما نضد من متاع البيت، وجمعه نجود، وتشييد البنيان: رفعه وإطالته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ومعاطاة الندمان1 ونبذت الصنائع2، وجهل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النفوس، وزهد في لسان الصدق وعقد الملكوت3، فأبعد غايات كاتبنا في كتابه أن يكون حسن الخط قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتًا في مدح قينة4 أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئًا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء وحد المناطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، وهو لا يدري من نقله، قد رضي عوضًا من الله ومما عنده بأن يقال: فلان لطيف وفلان دقيق النظر يذهب إلى أن لطف النظر قد أخرجه عن جملة الناس وبلغ به علم ما جهلوه فهو يدعوهم الرعاع والغثاء والغثر5، وهو لعمر الله بهذه الصفات أولى، وهي به أليق؛ لأنه جهل وظن أنه قد علم ... "فإني رأيت كثيرًا من كتاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة أو استوطئوا مركب العجز، وأعفوا أنفسم من كد النظر وقلوبهم من تعب التفكير، حين نالوا الدرك بغير سبب، وبلغوا البغية بغير آلة. ولعمري إن كان ذاك فأين النفس؟ وأين الأنفة من مجانسة البهائم؟ وأي موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه6 وارتضاه لسره، فقرأ عليه يومًا كتابًا وفي الكتاب "ومطرنا مطرًا كثر عن الكلأ" فقال   1 المزاهر: جمع مزهر، وهو العود، وسمي مزهرًا لحسن صوته، فإن الزهرة والغضارة -وهي النعمة والخير وسعة العيش- واصطفاق المزاهر: الضرب بها واجتلاب أصواتها، والندمان -بفتح النون- هو النديم مثل رحمن ورحيم وسلمان وسليم، وأصله يصاحبك على الشراب، ثم أطلق على كل مصاحب. 2 الصنائع: جمع صنيعة وهي الإحسان ونبذها: تركها والإعراض عنها. 3 لسان الصدق: الثناء الحسن قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [84 من سورة الشعراء] وقوله عقد الملكوت: العقد: مصدر عقدت الحبل عقدًا، أي شددته والملكوت: أصله الملك، والمعنى إن الرغبة قد قلت في طلب الثناء الحسن، وفي بلوغ مراتب الكمال لضعف همم الناس. 4 أبيات -بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء المثناة- تصغير أبيات التي هي جمع بيت، والقينة -بفتح فسكون- الأمة، مغنية كانت أو غير مغنية. 5 الرعاع: رذال الناس وضعفاؤهم، وهم الذين إذا فزعوا أطاروا، ويقال للنعامة رعاعة -بفتح الراء؛ لأنها دائمًا منخوبة فزعة، والغثاء -بضم الغين- ما يحمله السبيل من يابس الثبات، وأراد به السفلة، والغثر -بضم فسكون- جمع أغثر، وهو الأحمق، وقالوا للضبع غثراء؛ لأنها أحمق الدواب. 6 قال الجواليقي "والخليفة السائل عن الكلأ المعتصم، وكان أميًّا، وذلك؛ لأن الرشيد سمعه يقول وقد مات بعض الخدم: استراح من المكتب، فقال الرشيد: أو قد بلغت منك كراهة المكتب هذا؟!!! وأمر بإخراجه منه، والرجل الذي اصطفاه هو أحمد بن شاذي، ويكنى أبا العباس، وكان قد ولي العرض للمعتصم بعد الفضل بن مروان ولم يكن وزيرًا، إنما كان الفضل قد اصطنعه لنفسه، لثقته وصدقه، فلما نكب الفضل رد المعتصم الأمر إلى أحمد بن عمار، وكان محمد بن عبد الملك الزيات إذ ذاك يتولى قهرمة الدار، فورد كتاب على المعتصم من صاحب البريد بالجبل يصف فيه خصب السنة وفيه كثر الكلأ فقال المعتصم لأحمد بن عمار: ما الكلأ؟ فقال: لا أدري فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، خليفة أمي، وكاتب أمي؟!!! ثم قال: من يقرب منا من كتاب الدار؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات فدعا به، فقال: ما الكلأ؟ قال: النبات كله رطبه ويابسه، ثم اندفع في صفات النبت من حين ابتدأته إلى اكتهاله إلى هيجه، فاستحسن المعتصم قوله، فقال: ليتقلد هذا العرض علي، ثم توثق مكانته منه حتى استوزره" أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 له الخليفة ممتحنًا له: وما الكلأ؟ فترد في الجواب وتعثر لسانه، ثم قال: لا أدري، فقال: سل عنه. ويمضي ابن قتيبة مستطردًا في شرح الغرض من كتابه قائلًا: ونحن نستحب لمن قل عنا وائتم بكتبنا أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصون مروءته عن دناءة الغيبة، وصناعته عن شين الكذب، ويجانب -قبل مجانبته للنص وخطل القول- شنيع الكلام ورفث1 المزح: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولنا فيه أسوة- يمزح ولا يقول إلا حقًّا، ومازح عجوزًا فقال: " إن الجنة لا يدخلها عجوز 2 "، وكانت في علي عليه السلام دعابة، وكان ابن سيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لعابه، وسئل عن رجل، فقال: توفي البارحة، فلما رأى السائل قرأ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [42 من سورة الزمر] ومازح معاوية الأحنف بن قيس فما رئي مازحان أوقر منهما. ويستطرد ابن قتيبة في موضع آخر من مقدمة كتابه قائلًا: "ونستحب له أن يدع في كلامه التقعير والتقعيب3، كقول يحيى بن يعمر لرجل خاصمته امرأته عنده: "أأن سألتك ثمن شكرها وشبرك، أنشأت تطلها وتضهلها" وكقول عيسى بن عمر ويوسف بن عمر بن هبيرة يضربه بالسياط: "والله إن كانت إلا أثيابًا في أسيفاط قبضها عشَّاروك"4.   1 "شنيع الكلام ورفث القول" هذا مفعول يجانب، أما قوله اللحن وخطل القول" فمفعول به للمصدر الذي هو مجانبة، والمعنى أنه يترك شنيع الكلام ورفث القول قبل أن يترك اللحن وخطل القول. 2 بكت هذه العجوز حين سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها إنك لست بعجوز يومئذ "وقرأ قول الله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [35 و36 من سورة الواقعة] . 3 التقعير: الانتهاء إلى قعر الشيء، هذا أصله، وتقول "قعر الرجل" إذا روي فنظر فيما يغمض من الرأي حتى يستخرجه، كأنه إذا تكلم بكلام غريب عويص احتيج إلى إخراج معانيه كما يحتاج إلى إخراج ما في القعر، والتقعيب مثل التقعير ومعناه التعميق. 4 "عيسى بن عمر" ثقفي من أهل البصرة، من متقدمي النحاة، عنه أخذ الخليل بن أحمد، وهو صاحب كتابي: الإكمال والجامع، وكان صاحب تقعير في كلامه واستعمال للغريب فيه ويوسف بن عمر، هو أبو عبد الله يوسف بن عمر بن هبيرة الثقفي ابن أخي الحجاج بن يوسف، ولي اليمن لهشام بن عبد الملك، ثم ولاه العراق ومحاسبة خالد بن عبد الله القسري، وأثياب تصغير أثواب الذي هو جمع ثوب و "أسيفاط" تصغير أسفاط وهو جمع سفط، وهو -بفتحتين- يشبه القفة والعشارون: جمع عشار وهو الذي يأخذ من القوم عشر أموالهم، وهو عامل الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 "فهذا وأشباهه" كان يستثقل والأدب غض والزمان زمان، وأهله يتحلون فيه بالفصاحة، ويتنافسون في العلم، ويرونه تلو المقدار في درك ما يطلبون وبلوغ ما يؤملون فكيف به اليوم مع انقلاب الحال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون المتشدقون"؟؟ ونستحب له -إن استطاع- أن يعدل بكلامه عن الجهة التي تلزمه مستثقل الإعراب، ليسلم من اللحن وقباحة التقعير، فقد كان واصل بن عطاء سام نفسه للثغة كانت به إخراج الراء من كلامه، وكانت لثغته على الراء، فلم يزل يروضها حتى انقادت له طباعه وأطاعه لسانه، فكان لا يتكلم في مجلس التناظر بكلمة فيها راء هذا أشد وأعسر مطلبًا مما أردناه". تلك كانت نماذج من مقدمة كتاب أدب الكاتب: والمقدمة طويلة نفيسة شيقة. وأما محتوى الكتاب فقد قسمه ابن قتيبة حسبما عودنا إلى أربعة كتب أي أربعة أقسام هي: كتاب المعرفة، وكتاب تقويم اليد، وكتاب تقويم اللسان، وكتاب الأبنية. وهو في كتاب المعرفة يحاول أن يفقه القارئ الذي ينشد أن يكون كاتبًا ثقافة عامة، ويجعل من هذا الكتاب أبوابًا مثل باب ما يضعه الناس في غير موضعه، أو باب أصول أسماء الناس ويفرغ من ذلك إلى "المسمون بأسماء النبات" أو "المسمون بأسماء الطير" أو "المسمون بأسماء السباع" وهكذا، ويذكر في كتاب المعرفة أيضًا، أي القسم الأول من كتاب أدب الكاتب، بابًا للنخل ويذكر بابًا لعيوب الخيل وآخر لشيات الخيل وغيره لألوان الخيل، ويذكر أبوابًا للتعريف بألوان الطعام والشراب وغير ذلك شيئًا كثيرًا وفيرًا. فمثلًا في باب ما يضعه الناس في غير موضعه يقول: ومن ذلك الطرب يذهب الناس إلى أنه في الفرح دون الجزع وليس كذلك، إنما الطرب خفة تصيب الرجل لشدة السرور، أو لشدة الجزع، ثم يوثق ابن قتيبة رأيه بشاهد من قول الأقدمين فيجيء بقول النابغة الجعدي: وأراني طرِبًا في إثرهم ... طرب الواله كالمختبل وقال آخر: يقلن لقد بكيت فقلت كلا ... وهل يبكي من الطرب الجليد ويأتي ابن قتيبة بمثال آخر في الباب نفسه -باب ما يضعه الناس في غير موضعه- فمن ذلك "القافلة" يذهب الناس إلى أنها الرفقة في السفر ذاهبة كانت أو راجعة، وليس كذلك إنما القافلة الراجعة من السفر، يقال قفلت فهي قافلة، وقفل الجند من مبعثهم أي رجعوا ولا يقال لمن خرج إلى مكة من العراق -مثلًا- قافلة حتى يصدروا أي يعودوا.   1 أدب الكاتب "ص20". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ومن ذلك "المأثم" يذهب الناس إلى أنه المصيبة، ويقولون كنا في مأتم وليس كذلك إنما المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر والجمع مآتم، والصواب أن يقولوا كنا في مناحة، وإنما قيل لها مناحة من النوائح لتقابلهن عند البكاء، يقال الجبلان يتناوحان، إذا تقابلا، وكذلك الشجر. ويأتي ابن قتيبة بالشاهد من شعر العرب فيأتي بذكر أبي عطاء السندي: عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود أي بأيد نساء، أو قول الآخر وهو أبو حية النميري: رمته أناة من ربيعة عامر ... نؤوم الضحى في مأتم أي مأتم1 ومن ذلك "الظل والفيء" يذهب الناس إلى أنهما شيء واحد، وليس كذلك؛ لأن الظل يكون غدوة وعشية ومن أول النهار إلى آخره. والفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ولا يقال لما قبل الزوال فيء. وإنما سمي بالعشي فيئًا؛ لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب أي رجع عن جانب المغرب إلى جانب المشرق. ويستشهد ابن قتيبة بالآية الكريمة: حتى تفيء إلى أمر الله، أي ترجع إلى أمر الله، ويردف بمجموعة من أبيات الشعراء الجاهليين والإسلاميين كشواهد موثقة لقوله. وفي باب آخر من أبواب الكتاب تقع العين على أصول أسماء الناس، فالذين يسمون بأسماء النبات منهم: ثمامة: واحدة الثمام وهي شجر ضعيف له حوض أو شبيه بالحوض. طلحة: واحدة الطلح وهي شجر عظام من العضاه. علقمة: واحدة العلقم، وهو الحنظل. وفي باب "المسمون بأسماء السباع" نجده يذكر: حيدرة: الأسد، ومنه قول علي كرم الله وجهه: "أنا الذي سمتني أمي حيدرة". أسامة: الأسد. نهشل: الذئب. ذؤالة: الذئب. كلثوم: الفيل.   1 أدب الكاتب "ص13". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ومن الأبواب الطريفة في هذا القسم نفسه الذي أسماه ابن قتيبة كتاب المعرفة تقع العين على "باب ذكور ما شهر من الإناث" فنجده يأتي بالأسماء الآتية: الخرب: "بفتح الخاء والراء" هو ذكر الحبارى. الفياد: ذكر البوم. اليعسوب: ذكر النحل. الحرباء: ذكر أم حبين. الضبعان: "بتشديد الضاد وكسرها" ذكر الضباع. الغيلم: ذكر السلاحف. العلجوم: "بضم العين" ذكر الضفادع. وإذا انتقلنا إلى "كتاب تقويم البدء" وهو القسم الثاني من أدب الكاتب، وجدناه دروسًا دقيقة في علم النحو مثل باب ألف الوصل في الأسماء، أو باب دخول ألف الاستفهام على ألف الوصل، أو باب دخول ألف الاستفهام على ألف القطع، وأكثر الأبواب هنا في الفصل والوصل والاستفهام والتذكير والتأنيث. والكتاب الثالث -أي القسم الثالث- هو "كتاب تقويم اللسان" ويتصل بتقارب الحروف ومخارجها وحركاتها مثل ما جاء ساكنًا والعامة تحركه، أو ما جاء محركًا والعامة تسكنه، أو ما جاء بالصاد وهم يقولونه بالسين، أو ما جاء مكسورًا والعامة تضمه. وأما الباب الرابع والأخير وهو ما أسماه ابن قتيبة باب الأبنية فهو خاص بالصرف وفقه اللغة وتطبيق واسع ثري عميق على أبنية الأفعال وأبنية الأسماء من صيغ واشتقاقات. ومجمل القول في كتاب أدب الكاتب أنه كما قال ابن خلدون: واحد من الأصول الأربعة في تعليم الخاصة وما عداها فتبع لها وروفع منها. هذا ولنا حديث مع كتاب الشعر والشعراء يأتي في مكانه عند الحديث عن كتب طبقات الشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الفصل الثالث: أبو حنيفة الدينوري : ... - 272هـ إن اسمه الحقيقي أحمد بن داود بن ونند، وهو منسوب إلى دينور في فارس وكنيته أبو حنيفة، وهو من معاصري ابن قتيبة، والجاحظ، ويعتبر واحدًا من أعلام رواد الفكر الإسلامي والتأليف في المكتبة العربية. وإذا كانت كتبه من حيث الكم لم تصل إلى مثل كتب الجاحظ أو ابن قتيبة، فإنها من ناحية الكيف قد نالت شهرة واسعة ومكانة رفيعة لما اتسمت به من العمق والإفاضة والثراء وحسن التناول، فضلًا عن التنوع الذي يدل على عقلية خصبة جعلت صاحبها في مكانة تزاحم مكانة الجاحظ عند صفوة العلماء، لقد كان أبو حنيفة نحويًّا لغويًّا مهندسًا منجمًا رياضيًّا راوية مؤرخًا، وله كتب عديدة سوف نذكرها بعد قليل، ولكن يبدو أن أهمها وأكثرها قيمة هو كتاب النبات، فما يكاد مؤرخ يذكر اسم أبي حنيفة إلا ويردف أنه صاحب كتاب النبات. وأبو حنيفة من العلماء المسلمين الذين افتتن بهم أبو حيان التوحيدي وزكاهم على بخل فيه بتزكية الرجال. إنه يسأل الزبيدي اللغوي الأندلسي، وهو في مجلس أبي سعيد السيرافي الرأي في بلاغة كل من الجاحظ وأبي حنيفة صاحب النبات ويطلب حكمه من ذلك فيعتذر اللغوي الكبير عن إبداء الرأي بحجة أنه ليس أهلًا للموازنة بينهما، وأنه أحقر من أن يحكم لهما أو عليهما، فيلح عليه أبو حيان طالبا حكمه فيقول الزبيدي، أبو حنيفة أكثر ندارة، وأبو عثمان أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس سهلة في السمع ولفظ أبي حنيفة أعذب وأغرب وأدخل في أساليب العرب1.   1 معجم الأدباء "1/ 27". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أما أبو حيان الضنين بأحكامه في تقريظ الرجال فإنه يقول في هذا المجال: والذي أقول وأعتقد وآخذ به وأستهم عليه1 أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر غير ثلاثة أو اجتمع الثقلان على تقريظهم ومدحهم ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم ورسائلهم مدى الدنيا إلى أن يأذن الله بزوالها لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، أحدهم أبو عثمان الجاحظ والثاني أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورواء وحكم وهذا كلامه في الأنواء يدل على حظ وافر من علم النجوم وأسرار الفلك. فأما كتابه في النبات فكلامه فيه في عروض كلام آبدي بدوي، وعلى طباع أفصح عربي. وأما العالم الثالث الذي قصد إليه أبو حيان، فهو أبو زيد البلخي. والذي نستشفه أن كتاب النبات ليس كتابًا في علم النبات كما فهم بعض الدارسين الذين ترجموا لأبي حنيفة، وإنما هو كتاب في اللغة عرض فيه للنبات كموضوع من موضوعات اللغة والأدب وليس كعلم تجربة واستقصاء. لقد كان أبو حنيفة ذا ذاكرة حافظة واعية مطواعة ترفده في التو والساعة. وإن له مع محمد بن يزيد المبرد عالم زمانه في اللغة والأدب نادرة طريفة تدل على قدر الرجل علمًا وحفظًا واستيعابًا، فقد ورد المبرد الدينوري زائرًا لعيسى بن ماها، فأول ما دخل عليه سأله عيسى عن الشاة المجثمة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحمها، فأجاب المبرد: هي الشاة القليلة اللبن مثل اللجبة، فقال عيسى: هل من شاهد؟ فقال: نعم، قول الراجز. لم يبق من آل الحميد نسمة ... إلا عنيز لجبة مجثمه ولم يكد المبرد ينتهي من إجابته حتى كان الحاجب يستأذن لأبي حنيفة، فلما دخل قال له عيسى: أيها الشيخ، ما الشاة المجثمة التي نهينا عن أكل لحمها؟ فقال: هي التي جثت على ركبها وذبحت من خلف قفاها. فقال: كيف تقول وهذا شيخ العراق -يعني المبرد- يقول: هي مثل اللجبة وهي القليلة اللبن وأنشده البيتين، فقال أبو حنيفة: أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة إن كان هذا التفسير سمعه هذا الشيخ أو قرأه، وإن كان هذان البيتان إلا لساعتهما. فقال المبرد: صدق الشيخ أبو حنيفة، فإني أنفت أن أرد عليك من العراق وذكري ما قد شاع، فأول ما تسألني عنه لا أعرفه. تلك مقارعة بديهة مع شيخ عظيم هو المبرد صاحب التآليف الباهرة في الأدب واللغة والنحو، وصاحب واحد من أعظم كتب الأدب قيمة ووزنًا هو "الكامل" الذي يعتبره ابن خلدون واحدًا من أعظم أربعة كتب تعلم الأدب.   1 أستهم عليه يعني أراهن عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فأما مؤلفات أبي حنيفة فقد ذكر له ياقوت الحموي تسعة عشر مؤلفًا في موضوعات متفرقة تدل على سعة محصول الرجل ونباهة شأنه واتساع أفق تخصصه، بحيث ألف في اللغة والأدب والتاريخ والحساب والجبر والبلدان والمنطق والفلك والتفسير. فمن كتب أبي حنيفة: الشعر والشعراء، الفصاحة، ما تلحن فيه العامة، النبات -الذي يقول عنه ياقوت إنه لم يصنف في معناه مثله- الأنواء، حساب الدور، البحث في حساب الهند، الجبر والمقابلة، نوادر الجبر، الجمع والتفريق، القبلة والزوال، الكسوف، البلدان، إصلاح المنطق، الأخبار الطوال، تفسير القرآن. ولقد طبع له كتاب الأخبار الطوال الذي اهتم فيه بأخبار الأقدمين من عرب وعجم حتى عهد المعتصم، وبين يدينا مخطوطة للمجلد الخامس من كتابه: النبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الفصل الرابع: أبو العباس المبرِّد 210 - 286 هـ: إن اسمه كاملًا محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي، وكنيته أبو العباس، وشهرته المبرد، وهو عالم جليل في الأدب والأخبار واللغة والنحو، مولده في البصرة، وحياته ووفاته في بغداد، ولقد ارتبط اسم المبرد بكتابه الكامل ارتباط الجاحظ بالبيان والتبيين والحيوان، وارتباط ابن قتيبة بأدب الكاتب وعيون الأخبار، وارتباط أبي حنيفة الدينوري بالنبات والأخبار الطوال، وكان أبو العباس لفرط علمه يلقب بشيخ أهل النحو وحافظ علم العربية، وهو بهذا اللقب جدير؛ لفضله وسعة علمه وعلو كعبه، وكان يوصف بالفضل والثقة في الرواية وحسن المحاضرة والأخبار المليحة والنوادر الكثيرة1. وإذا كان لكل نابه حساد ولكل فاضل كائدون، فقد كان للمبرد كثير من الحساد والكائدين الذين يشهرون به ويتصيدون له الهفوات وينشرونها على الناس ويبالغون فيها، وربما كان للمبرد بعض الكبوات التي اضطر للوقوع فيها مثل قصته مع عيسى بن ماهان التي مر ذكرها في الحديث عن أبي حنيفة الدينوري، وهناك قصة أخرى تنسب إليه في مجال اختراع الإجابات غير الصحيحة، فقد سأله بعض تلاميذه: ما القبعض؟ وهي كلمة لا معنى لها فأجاب. القطن، ثم اخترع في الحال شاهدًا من أشعار العرب هو قول أعرابي: كأن سنامها حشي القبعضا فقال السائل لإخوانه: هو ذا ترون الجواب والشاهد، إن كان صحيحًا فهو عجيب، وإن كان اختلق الجواب وعمل الشاهد في الحال فهو أعجب، وهذه الطرفة وما حوت من   1 تاريخ بغداد "3/ 380". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فكاهة تذكرنا بأخت لها هي طرفة الخنفشار. ولعل مثل هذه الكبوات هي التي كانت تجعل المبرد هدفًا لسهام بعض خصومه فيصوبون نحوه بعض قذائف الهجاء مثل قول أحمد بن أبي طاهر المعروف بابن طيفور: كثرت في المبرد الآداب ... واستقلت في عقله الألباب غير أن الفتى كما زعم النا ... س دعي مصحف كذاب والمبرد كما ذكرنا، وكما يخبر عنه ابن خلكان كثير الأمالي حسن النوادر، وقد كان يتردد على مواضع المجانين، وله في ذلك حوار طريف جرى بينه وبين مجنون أديب وهو حين يروي قصته مع ذلك المجنون ويردد حواره معه يذكرنا بفكاهة الجاحظ وخفة روحه وطريف مفاجآته1. ومن أماليه الطريفة أن أبا جعفر المنصور ولى رجلًا على الإشراف على العميان والأيتام والقواعد من النساء اللواتي لا أزواج لهن فدخل على هذا المتولي بعض المتخلفين ومعه ولده فقال له: إن رأيت أصلحك الله أن تثبت اسمي مع القواعد، فقال له المتولي: القواعد نساء فكيف أثبتنك فيهن؟ فقال: ففي العميان، فقال: أما هذا فنعم، فإن الله تعالى، يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فقال: وتثبت ولدي في الأيتام، فقال: وهذا أفعله أيضًا فإنه من تكن أنت أباه فهو يتيم. فانصرف عنه وقد أثبته في العميان وأثبت ولده في الأيتام. وفي مجال خفة الروح وفكاهة النادرة يقول المبرد: ما تنادر أحد علي ما تنادر به سذاب الوراق، فإني اجتزت يومًا به وهو جالس بباب داره، فقال لي: إلى أين؟ ولاطفني وعرض علي القرى، فقلت له: ما عندك؟ فقال: عندي أنت وعليه أنا، يشير إلى اللحم المبرد بالسذاب. وللطف المبرد وعذب حديثه وحلو نادرته وكرم وفادته قال فيه أحمد بن أبي طاهر متفكها وكان قد نزل عليه ضيفًا في يوم ما: ويوم كحر الشوق في الصدر والحشا ... على أنه منه أحر وأومد ظللت به عند المبرد ثاويًا ... فما زلت في ألفاظه أتبرد2   1 القصة في وفيات الأعيان "4/ 315". 2 معجم الأدباء "3/ 95". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ولعل المبرد من الأدباء الكبار القليلين الذين لم يتولوا مناصب رسمية، وكان الشعراء يمدحونهم لفضلهم وعلمهم، فمن الأبيات التي مدح بها المبرد قول أحد الفتيان: وإذا يقال من الفتى كل الفتى ... والشيخ والكهل الكريم العنصر والمستضاء بعلمه وبرأيه ... وبعقله قلت: ابن عبد الأكبر وكان أبو العباس المبرد، وأبو العباس ثعلب متعاصرين يعيشان في بغداد، وكلاهما عالم جليل، وبخاصة في علوم النحو واللغة، وكان المبرد إمام البصريين وثعلب إمام الكوفيين، وكان ثعلب على علمه الوفير وفضله الكثير يأبى الاجتماع بالمبرد، ويهرب من ملاقاته ويتفادى مناظرته ويكره لقاءه. فسئل أبو عبد الله الدينوري ختن ثعلب وصديقه: لماذا يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرد؟ فأجاب: لأن المبرد حسن العبارة حلو الإشارة فصيح اللسان ظاهر البيان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل حكم للمبرد على الظاهر إلى أن يعرف الباطن1. ومن واقع هذا الحال كان الشعراء إذا مدحوا المبرد انطلقوا من موقع مقارنته بأبي العباس ثعلب وتفضيله عليه، فإذا كان ثعلب في الأصل فاضلًا عالمًا كان في تفضيل المبرد عليه قرينة تمجيد وتكريم. فمن المدائح التي مدح بها المبرد وتسير في هذا المضمار قول أحد الشعراء2: رأيت محمد بن يزيد يسمو ... إلى العلياء في جاه وقدر جليس خلائق وعدي ملك ... وأعلم من رأيت بكل أمر وفتيانية الظرفاء فيه ... وأبهة الكبير بغير كبر وينثر إن أجال الفكر درًّا ... وينثر لؤلؤًا من غير فكر وقالوا ثعلب رجل عليم ... وأين النجم من شمسٍ وبدرِ   1 وفيات الأعيان "4/ 114". 2 تاريخ بغداد "3/ 382". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقالوا ثعلب يملي ويفتي ... وأين الثعلبان من الهزبر ولقد أكثر الشعراء من القول في تفضيل المبرد على ثعلب، غير أن ذلك لا يحط من قدر ثعلب حتى إن بعض المنصفين من معاصريهما قد عرفوا قدرهما مجتمعين وأسبغا على كليهما من صفات التمجيد ما هما أهل له. فمن ذلك قول أبي بكر بن أبي الأزهر: أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعذ بالمبرد أو ثعلب تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب وحين مات المبرد بكاه ثعلب وبكى نفسه معه قائلًا1: مات المبرد وانقضت أيامهُ ... وسينقضي بعد المبرد ثعلبُ بيت من الآداب أصبح نصفهُ ... خربًا وباقي نصفه فسيخربُ على أن ابن خلكان ينسب هذين البيتين مع بقية لهما إلى أبي بكر الحسن بن علي المعروف بابن العلاف ويورد الأبيات على النحو التالي2: ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليذهبن إثر المبرد ثعلب بيت من الآداب أصبح نصفه ... خربًا وباقي بيتها فسيخرب فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا ... للدهر أنفسكم على ما يسلب وتزودوا من ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قريب يشرب وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب لقد كانت شخصية المبرد إذن شخصية جذابة سمحة مفعمة بالعلم فياضة بالفضل، ولقد   1 تاريخ بغداد "3/ 387". 2 وفيات الأعيان "4/ 319". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ترك المبرد عددًا غير قليل من المؤلفات النادرة مثل الكامل، والمذكر والمؤنث، والمقتضب، والتعازي والمراثي، وشرح لامية العرب، وإعراب القرآن، وطبقات النحاة البصريين وأخبارهم، ونسب عدنان وقحطان، والمقرب والروضة. وهذا الكتاب الأخير يقع -فيما يذكر ابن خلكان- في ثلاثة دفاتر كبار، وكان المبرد قد أهداه إلى محمد بن نصر ابن بسام، ولما تصفح علي بن محمد بن نصر بن بسام هذا الكتاب أخذ دواة وكتب على ظهر أحد الدفاتر هذين البيتين الفكهين مداعبًا المبرد: لو برا الله المبرد ... من جحيم يتوقد كان في الروضة حقًّا ... من جميع الناس أبرد ومن كتب المبرد الأربعة والأربعين التي ذكرها له ابن النديم: الاشتقاق، الأنواء والأزمنة، القوافي، المقصور والممدود، الخط والهجاء، الحروف، المدخل إلى سيبويه، شرح شواهد سيبويه، الإعراب، احتجاج القراءة، الحث على الأدب والصدق، الممادح والمقابح، أسماء الدواهي عند العرب، الوشي، العروض، البلاغة، ما اتفقت ألفاظه واختلفت معانيه في القرآن، الفاضل والمفضول، أدب الجليس، أسماء الله تعالى. هذا وإن كتب المبرد كما هو واضح من عناوينها تتنوع موضوعاتها بين الأدب والنوادر والأخبار واللغة والنحو والعروض والبلاغة والأنساب وتفسير القرآن والعلوم القرآنية والأخلاق. على أن الذي نهتم له في هذا المقام من كتب المبرد هو كتابه: الكامل، لنفاسته واحتوائه كل ثمين من ألوان الثقافة وكل طريف من أبواب الأدب واللغة، وهو على ما أشرنا في صفحة سابقة درة أعمال المبرد وواحد من أنفس كتب العربية بحيث عده ابن خلدون واحدًا من أربعة كتب كبار لا غنى لطالب المعرفة والثقافة عن قراءتها. كتاب الكامل منهجًا ومحتوى: إن كتاب الكامل على نفاسته وتفرده بالغريب من الموضوعات يشبه البيان والتبيين للجاحظ من نواحٍ كثيرة، ويختلف عنه أيضًا في نواح عديدة، وهذا التشابه أو ذاك التباين لا ينالان من قدر الكتاب، وإنما هو المنهج المبكر الذي لم يكن يعتمد على الخطة والتبويب والالتزام بالموضوع الذي يعالجه الكاتب فضلًا عن الاستطراد ثم العودة إلى الموضوع مرة ثانية، كل ذلك كان سمة واضحة اتسم بها كل من البيان والتبيين، والكامل. والكامل في جملته ومن خلال أجزائه الأربعة يضم ألوانًا من الثقافة العربية الأدبية والأخبارية والتاريخية واللغوية والنحوية والقرآنية. والمبرد نفسه يلخص منهج كتابه وهدفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ومحتواه في هذه الكلمات المختصرة: "هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبًا من الآداب، ما بين كلام منثور، وشعر مرصوف، ومثل سائر، وموعظة بالغة، واختيار من خطبة شريفة، ورسالة بليغة". وإذا كان لنا أن نقدم منهج الكتاب بشيء من الإبانة فإننا نستطيع أن نقدمه على النحو التالي: 1- يضم الكتاب قدرًا كبيرًا من الآيات القرآنية الكريمة مفسرة تفسيرًا واضحًا متخذًا منها شواهد لغوية ونحوية، وهذه الآيات تزدان بها صفحات الكتاب في أجزائه الأربعة، وهي منتخبة من مائة واثنتي عشرة سورة. 2- يضم الكتاب عددًا كبيرًا من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة الإسناد ويأتي بكل حديث في مقام استشهاد بعينه. 3- يحتوي الكتاب على عدد كبير من أمثال العرب يناهز خمسة وسبعين مثلًا مع ذكر أصل المثل والمناسبة التي يقال فيها "ج 1/ 205" وصفحات أخرى. 4- الكتاب مفعم في أجزائه الأربعة بنماذج عديدة من خطب العرب في مختلف العصور حتى العصر الذي عاش فيه، من جاهلية ومن خطب للرسول وللخلفاء الراشدين، وملوك بني أمية وعمالهم، وزعماء الخوارج وبعض ملوك بني العباس، وهو في ذلك قريب من منهج الجاحظ كثيرًا. 5- عمد المبرد إلى الإكثار من "أخبار الحكماء" مع ذكر أقوالهم، وقد حرص على أن يكرر هذا الموضوع تحت عنوان "نبذ من أخبار الحكماء" على مسرى صفحات الكتاب، وفي مقدمة هؤلاء الحسن البصري، وأسماء بن خارجة، والأحنف بن قيس فضلًا عن حكماء آخرين كثيرين مغمورين. 6- اهتم المبرد بالشعر وبالشعراء اهتمامًا كثيرًا، فهو يورد الكثير من أخبار الشعراء ونماذج من أشعارهم. ويركز أحيانًا على شاعر بعينه أو موضوع معين من موضوعات الشعر. فمن موضوعات الشعر التي اهتم بها كثيرًا وأورد فيها نصوصًا عديدة شعر المديح والفخر والهجاء والحكم. وأفرد للخمر دراسة مفصلة، مجموعة حينًا1 "ج 1/ 123 - 126" ومفرقة حينًا آخر في أجزاء الكتاب. وفي الرثاء أورد نماذج فريدة في رثاء الصديق والأخ والابن2 "ج 1/ 259 - 261".   1 الكامل "1/ 123 - 126". 2 المصدر السابق "1/ 259 - 261". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ومن الشعراء الذين أولاهم اهتمامًا أكثر من غيرهم الفرزدق، أخبارًا وأشعارًا، وهو يوردها مجتمعة حينًا1 ومتفرقة أحيانًا أخرى في أجزاء الكتاب. ومن الشعراء المولدين اهتم المبرد كثيرًا ببشار وأبي العتاهية، ومحمود الوراق وأبي نواس وصالح بن عبد القدوس ودعبل وأبي عيينة، وهو حين يورد شواهد من أشعارهم يقرنها بالاستحسان أو الاستهجان، بحيث يتخذ منهم موقف الناقد النابه الدقيق الأحكام. ولا ينسى المبرد أن يعرض لبعض شاعرات العرب النابهات من أمثال الخنساء وليلى الأخيلية ويأتي ببعض أخبارهن ونماذج من أشعارهن. 7- يهتم المبرد على مسرى صفحات كتابه اهتمامًا بالغًا بموضوعات البلاغة العربية في صورها المختلفة، فيقدم على سبيل المثال دراسة مستفيضة للتشبيه مصحوبة بشواهد عديدة لشعراء قدامى ومحدثين2. ويعالج موضوع المجاز القرآني مستشهدًا بالعديد من آيات الكتاب العزيز على مسرى صفحات الكتاب في مختلف أجزائه. 8- ولما كان النحو يحتل المكانة الأكثر أهمية في كتاب الكامل، فالمؤلف كما نعرف أحد كبار أئمة المدرسة البصرية في النحو، فإن المبرد يعالج الكثير من الموضوعات النحوية عن طريق تناول موضوع بعينه أو عن طريق الإعراب، فأما عن الإعراب فإن العين لا تخطئه في أكثر صفحات الكتاب، وأما عن الموضوعات النحوية فيمكن مراجعة موضوع لام الاستغاثة ولام الإضافة3، وباب فعل4 بفتح الفاء وضم العين، وباب النسب إلى المضاف5 وغير ذلك من موضوعات نحوية متفرقة. 9- الكتاب مليء بالأخبار الأدبية والتاريخية والوثائق التي تهم كل ساعٍ إلى توسيع آفاقه الثقافية في نطاق المعرفة الإسلامية والثقافة العربية، مثل ذلك أخبار الصحابة وأقوالهم، وأخبار الخوارج وسلوكهم وعقيدتهم وحروبهم وفرقهم وأدبهم بشكل موسع استحوذ على أكثر من نصف الجزء الثالث من الكامل، كما اهتم المبرد بشخصية الحجاج بن يوسف وبعض بني المهلب من عمال بني أمية. ومن الوثائق الهامة التي جاء بها الكتاب فضلًا عن وثائق الخوارج تلك الرسائل النفيسة التي تبودلت بين أبي جعفر المنصور ومحمد النفس الزكية.   1 المصدر "2/ 85" وما بعدها. 2 المصدر "3/ 32-62". 3 المصدر "3/ 270-272". 4 المصدر "3/ 301". 5 المصدر "3/ 303 - 305". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 على أن الأمر الجدير بالذكر أن المبرد قد أفسح في كتابه مكانًا رحيبًا لأقوال الصحابة وتعاليمهم، وبخاصة النفيس الرفيع من أقوالهم مثل حديث أبي بكر في مرضه لعبد الرحمن بن عوف1، ورسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، وهي دستور قضائي خالد ليس له مثيل في الدساتير الحديثة2، وكتاب عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب حينما أحيط به وحوصر في منزله3. 10- يكثر المبرد من القضايا اللغوية درسًا وتناولًا وشواهد في مختلف صفحات الكتاب، وهو يشرح كل نص يأتي به سواء أكان هذا النص شعرًا أم نثرًا، وهو في شرحه يتحرى الدقة والعمق والتفريع وإظهار حسن الكلام وقبيحه بحيث تبدو الصفة اللغوية للكتاب ماثلة في ذهن القارئ وخاطره من أول الكتاب إلى آخره. 11- هذا وقد مر بنا أن المبرد خفيف الروح عذب الفكاهة سريع العارضة، ومن ثم فهو يوشح كتابه بنكة طريفة أو فكاهة مليحة بين الحين والحين، ولعله كان يعمد إلى ذلك عمدًا حتى يسري عن القارئ الذي ربما تساوره مشاعر الملل أو تستولي عليه إمارات السأم لجدية ما يقرأ من أبواب الكتاب. والمبرد هنا متشبه بالجاحظ إما عمدًا أو بغير قصد. والمبرد يسوق طرائفه نثرًا حينًا وشعرًا حينًا آخر، وبعض هذه الطرائف يرتبط ببعض الأعلام الكبار، فمن ذلك أن أبا بكر ولى يزيد بن أبي سفيان قسمًا من أقسام الشام، فرقي المنبر فتكلم فارتج عليه، فاستأنف فارتج عليه، فقطع الخطبة، فقال: سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عيٍّ بيانًا، وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال. ومن الطرائف العامة التي يسوقها المبرد في مقام الأخبار أنه كان في الرقة قاصٌّ يكنى أبا عقيل يكثر التحدث عن بني إسرائيل فيظن به الكذب، فقال له يومًا الحجاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ فأجاب القاص: حنتمة، فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكتب وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص، والطرف النثرية التي يرصع بها المبرد كاملة كثيرة وفيرة. ومن الطرف الشعرية التي يأتي بمثلها المبرد بين الحين والحين ما ينسبه إلى أبي العالية:   1 المصدر "1/ 6، 7". 2 المصدر "1/ 12-14". 3 المصدر "1/ 17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 سل المفتي المكي هل في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح أو ما ينسبه إلى بعض المحدثين: تلاصقنا وليس بنا فسوق ... ولم يرد الحرام بنا اللصوق ولكن التباعد طال حتى ... توقد في الضلوع بنا حريق فلما أن أتيح لنا التلاقي ... تعانقنا كما اعتنق الصديق وهل حرجًا تراه أو حرامًا ... مشوق ضمة كلف مشوق وكل طرائف المبرد الشعرية على فكاهتها، لا تخدش حياء، ولا تخرج عن جادة الحديث المنعش المشروع. 12 - هذا والكتاب مليء من أوله إلى آخره بالأخبار القصيرة الكيسة، المتسمة بالحكمة، الفريدة في غرابتها ومدلولها وهدفها، المتصلة بأعلام العرب والمسلمين، بحيث تشكل زادًا علميًّا، ورصيدًا ثقافيًّا، وخلفية تاريخية لكل من يقرأ الكتاب. هذا فضلًا عن الموضوعات التي عمد المبرد عمدًا إلى تناولها، وقصد قصدًا إلى علاجها، بحيث يجعل من كتابه واحدًا من أنفس كتب العربية وأمتعها على زمانه وإلى أزمان أخرى تالية يثقف النفس ويهذب الروح ويصقل العقل، ويوسع الأفق وينمي في الإنسان ملكة حب المعرفة وتعشق قضايا حصيلة التراث القومي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الفصل الخامس: أبو العباس ثعلب : 200 - 291هـ إن الحديث عن المبرد يدفع بنا -دون شك- إلى الحديث عن ثعلب فهما علمان من أعلام العربية متعاصران، وكان فرسي رهان وكل منهما صاحب مذهب وإمام مدرسة؛ فالأول زعيم البصريين، والثاني زعيم مدرسة الكوفيين في مجال علوم النحو واللغة، ولقد ألممنا بأطراف غير قليلة من أخبار ثعلب ونحن نعرض لحياة المبرد وأخباره. وثعلب مجرد صفة شهرة للعالم الجليل أبي العباس، أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني بالولاء، اللغوي النحوي، المحدث الراوية الثقة الحافظ الواسع بحار العلم، العميق الإلمام بلغة العرب وأسرارها، صاحب الأبحاث النفسية والتآليف الجليلة. لقد كان ثعلب -فيما تروي كتب التراجم- مقدمًا عند الشيوخ منذ هو حدث، وكان ابن الأعرابي على جلال قدره في اللغة إذا شك في شيء قال له: ما تقول يا أبا العباس في هذا؟ ثقة بعلمه واطمئنانًا لغزارة حفظه1. لقد نشأ أبو العباس ثعلب في رحاب علوم العربية منذ أن كان حدثًا صغيرًا، وأعد نفسه لتحمل أعباء موضوعاتها وقضاياها منذ وقت مبكر، إنه يقول2: ابتدأت في طلب العربية سنة ست عشرة ومائتين -أي وعمره ست عشرة سنة- ونظرت في "حدود" الفراء وسني ثماني عشرة سنة، وبلغت خمسًا وعشرين سنةً وما بقيت علي مسألة للفراء إلا وأنا أحفظها. فإذا عرفنا أن الفراء -ولنا معه وقفة في فصل التأليف في اللغة- كان يلقب بأمير المؤمنين   1 وفيات الأعيان "1/ 102" وتاريخ بغداد "5/ 205" ونزهة الألباء "299". 2 وفيات الأعيان "1/ 102". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 في النحو استطعنا أن نستنتج مدى اجتهاد ثعلب وتوفره على النحو وعلوم اللغة دراسة وحفظًا وتحصيلًا واستيعابًا ولما يشب له قرن بعد، إن ثعلبًا تتلمذ على كثير من الأعلام وسمع من عديد من العلماء مثل محمد بن سلام الجمحي، ومحمد بن زياد بن الأعرابي وعلي بن المغيرة الأثرم، وسلمة بن عاصم، وعبيد الله بن عمر القواريري، والزبير بن بكار -وكلهم صفوة رجال العلم والمعرفة على زمانهم. وإذا كان ثعلب تلميذًا لهؤلاء الأعلام نهل من علمهم وارتوى من فضلهم، فإنه بدوره قد خلف مجموعة من التلاميذ الأعلام الذين كانوا غرة في جبين العلم ورووا عنه وتتلمذوا على يديه من أمثال علي بن سليمان الأخفش، وأبي بكر الأنباري، وأبي عمر الزاهد، وعبد الرحمن بن محمد الزهري وغيرهم1. وكانت التقوى والصلاح صفتين بارزتين من صفات ثعلب، ومن أحق بالتقوى والصلاح من العلماء! وربما تمنى في قرارة نفسه أن يكون متبحرًا في علوم الدين مشتغلًا بالقرآن متفرغًا للحديث أكثر من تفرغه لعلوم اللغة، وقد أثر عنه أنه كان يقول لأبي بكر بن مجاهد أحد شيوخ القراء المشهورين: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة؟!! 2. ومن ثم فإن أبا بكر بن محمد التاريخي كان يقول: أحمد بن يحيى ثعلب أصدق أهل العربية لسانًا، وأعظمهم شأنًا، وأبعدهم ذكرًا، وأرفعهم قدرًا، وأوضحهم علمًا، وأرفعهم حلمًا، وأثبتهم حفظًا، وأوفرهم حظًّا في الدين والدنيا3. وكثيرًا ما كان ثعلب يترجم عن صلاح حاله وتقواه في أبيات من الشعر الذي كان يتعاطاه بين الحين والحين، فمن عذب إنشاده في هذا المقام قوله4: إذا أنت لم تلبس لباسًا من التقى ... تقلبت عريانًا وإن كنت كاسيا وينسب إليه أيضًا هذا الشعر الحكيم5: إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النفس التي أنت قوتها   1 تاريخ بغداد "5/ 204". 2 وفيات الأعيان "1/ 103". 3 نزهة الألبا "229". 4 تاريخ بغداد "5/ 306". 5 وفيات الأعيان "1/ 103". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ستبقى بقاء الضب في الماء أو كما ... يعيش ببيداء المهامه حوتها وكان ثعلب على صفاء روحه وتخشعه عاقلًا أدبيًا حكيمًا تجري الحكمة على لسانه ذلولًا، وتتدفق من فيض خاطره صافية، لعلها حكمة السنين وخبرة الحياة الطويلة، فقد عمر هذا العالم الجليل ما ينوف على تسعين عامًا. ولم يمت حتف أنفه وإنما صدمته فرس ألقته في هوة أودت بحياته، يقول ثعلب في مقام الحكمة1: إذا ما شئت أن تبلو صديقًا ... فجرب وده عند الدراهم فعند طلابها تبدو هنات ... وتعرف ثَمَّ أخلاق الأكارم وأبو العباس ثعلب لجلال قدره كان موضع التكريم والتبجيل من الشعراء وكثيرًا ما قالوا فيه شعرًا جميلًا مديحًا في حياته ورثاء بعد مماته، ولقد مر بنا في صدر الحديث عن ثعلب أنه شيباني بالولاء، وكان معاصرًا لأبي الصقر إسماعيل بن بليل الشيباني وزير الموفق العباسي، وكان بينهما صداقة ومودة وحسن معاشرة، الأمر الذي جعل الشاعر يمدحهما قائلًا: فيا جبلي شيبان لا زلتما لها ... حليفي فخار في الورى وتفضل فهذا ليوم الجود والسيف والقنا ... وأنت لبسط العلم غير مبخل عليك أبا العباس كل معول ... لأنك بعد الله خير معول فككت حدود النحو بعد انغلاقه ... وأوضحته شرحًا وتبيان مشكل فكم ساكن في ظل نعمتك التي ... على الدهر أبقى من ثبير ويذبل فأصبحت للإخوان بالعلم باعثًا ... وأخصبت منه منزلًا بعد منزل   1 تاريخ بغداد "5/ 206". 2 المصدر السابق "5/ 210". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ويعجب الأمير الأديب الكاتب الشاعر الناقد الفنان عبد الله بن المعتز بفضل ثعلب وعلمه فيكتب إليه مادحًا مطريًا، هذه الأرجوزة الطريفة: ما وجد صاد في الحبال موثق ... بماء مزن بارد مصفق بالريح لم يطرق ولم يزنق ... جادت به أخلاف دن مطبق في صخرة لم تر شمسًا تبرق ... فهو عليها كالزجاج الأزرق صريح غيث خالص لم يمذق ... إلا كوجدي بك لكن أتقي يا فاتحًا لكل باب مغلق ... وصيرفيًّا ناقدًا للمنطق إن قال: هذا بهرج لم ينفق ... إنا على البعاد والتفرق لنلتقي بالذكر إن لم نلتق هذا والحديث عن علم ثعلب يجر دائمًا إلى ما كان بينه وبين المبرد من وشائج تتسم بالدعابة حينًا، وبالمنافسة والمنافشة حينًا آخر، بحيث اختلف العامة في شأنهما، أما العقلاء فقد عرفوا قدر كل واحد منهما، وأولوه ما هو جدير به من تكريم وتقدير، فمن العامة من كان يحاول الوقيعة بين العالمين الجليلين، فهذا واحد من جمهرة الناس المشغوفين بإشعار نار الخلاف بين كل من المبرد وثعلب يذهب إلى الأخير في داره ويقول له: يا أبا العباس، قد هجاك المبرد، فيقول له: بماذا؟ فيردد الرجل قولًا منسوبًا إلى المبرد ربما كان المبرد منه بريئًا: أقسم المبتسم العذب ... ومشتكى الصب إلى الصب لو كتب النحو عن الرب ... ما زاده إلا عمى القلب فيجيب ثعلب بأبيات فكهة جرت على لسان أبي عمرو بن العلاء1: شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا ولم أجبه لاحتقاري له ... ومن يعض الكلب إن عضا؟   1 تاريخ بغداد "5/ 208". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وأما المنصفون من الصفوة فكانوا لا يفرقون بين فضل العالمين الجليلين، فهذا عالم كبير مثل أبي عمر محمد بن عبد الواحد يسأل عالمًا آخر هو أبو بكر السراج: أي الرجلين أعلم، أثعلب أم المبرد؟ فيتحير في إجابته ثم يردف قائلًا: ما أقول في رجلين العالَم بينهما1؟ وإذا كان بعض الناس يحكم للمبرد على ثعلب إذا تناظرا لحضور بديهة الأول وسرعة سياقه للنكتة واعتماده على الطرفة في حواره، فإن المبرد نفسه يشهد لثعلب على سائر الكوفيين بقوله: أعلم الكوفيين ثعلب2. هذا والأخبار تذهب إلى أن ثعلبًا كان أوفر أمانة وأكثر ثقة في علمه من المبرد، وكان لا يتحرج من قول "لا أدري" إذا ما ووجه بمسألة لا يعرف جوابها، على عكس المبرد الذي كان يخجل من أن يعترف بجهله إذا سئل عن مسألة غريبة عليه، وكان يسارع إلى وضع إجابة يضعها وضعًا، وقد مرت بنا قصته مع عيسى بن ماهان، وقصة "القبعض" أما ثعلب فقد سأله سائل ذات مرة عن مسألة لا يعرفها فقال: لا أدري، فقال له السائل: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد؟ قال له أبو العباس ثعلب: لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت. تلك في حقيقتها أخلاق العلماء، فإن العالم الذي يحيط بكل شيء علمًا لم يخلق بعد إلا أن يوحى إليه في زمان توقف فيه الوحي وطويت الصحف3. فأما كتب ثعلب ومؤلفاته فهي عديدة نفيسة القدر جليلة الفائدة، وهي صورة دقيقة لعلم الرجل وغزارة مادته وفيض عطائه. لقد أحصى المترجمون له أربعة وعشرين كتابًا، طبع منها عدد غير قليل لعل أهمها المجالس ويقع في جزءين، والفصيح، وقواعد الشعر، ومعاني الشعر، وشرح ديوان زهير، وشرح ديوان الأعشى، ومعاني القرآن، وإعراب القرآن، وما تلحن فيه العامة، والشواذ. ومن تصانيفه أيضًا: كتاب المصون، واختلاف النحويين والقراءات، والتصغير، وما ينصرف وما لا ينصرف، والأمثال، والأيمان والدواهي، والوقف والابتداء، والألفاظ، والهجاء، والأوسط، والمسائل، وحد النحو، تفسير كلام ابنه الخسي، استخراج الألفاظ من الأخبار، ما يجزئ وما لا يجزئ4. إنه رصيد من الكتب نفيس تركه العالم الجليل أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني   1 تاريخ بغداد "5/ 209". 2 المصدر "5/ 210". 3 وفيات الأعيان "1/ 103". 4 الفهرست "117". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 المعروف بثعلب، أسهم به مبكرًا في تكوين المكتبة العربية خلال القرن الثالث الهجري. وما دام "الفصيح" و "المجال" قد قدما للعقل العربي الكثير من النفع والنفيس من العلم، فإن ذلك يقتضينا التعريف بكل منهما والقدر الذي ناله من اهتمام العلماء على مر الزمان. فأما "الفصيح" فهو أكثر كتبه إثارة وأشهرها بين جمهرة العلماء الدارسين، ونال اهتمامًا خاصًّا بين نقد وتجريح وإطراء وتمجيد منذ أن ظهر حتى اليوم. ولقد توفر عليه صفوة علماء القرون درسًا وشرحًا وتعليقًا وتذييلًا من أمثال أبي علي الفارسي وأبي الفتح بن جني، وأبي القاسم الزجاجي، وأحمد بن محمد المرزوقي، وأبي البقاء العكبري، وأبي سهل الهروي. وفي كثير من الأحيان كانت تصدر الكتب حول دراسته في زمن واحد تقريبًا، فأبو علي الفارسي وأبو الفتح بن جني متعاصران والثاني تلميذ الأول، وبين وفاة الثاني والأول ثلاث سنوات، ومع ذلك فقد شغل الفصيح كلا منهما بحيث إن أبا علي أخرج كتابًا سماه "الفصيح" ثم أتبعه بكتاب آخر أسماه "تمام الفصيح" وكلاهما مرتبط كل الارتباط بفصيح ثعلب. والأمر لا يختلف كثيرًا عند الزجاجي والمرزوقي فقد شرحه كل منهما على تعاصرهما، فالأول توفي سنة 415هـ والثاني توفي سنة 421. ولم يقتصر الاهتمام "بفصيح" ثعلب عند العلماء المشارقة وحدهم، وإنما كان موضع اهتمام كثير من أعلام علماء الأندلس مثل أبي محمد عبد الله بن محمد البطليوسي، وعمر بن محمد القضاعي البلنسي، وأحمد بن عبد الجليل بن عبد الله التدميري، وأبي جعفر أحمد بن يوسف المعروف بأبي جعفر الفهري اللبلي، إن هؤلاء العلماء الأندلسيين عاشوا جميعًا في القرنين الخامس والسادس الهجريين وتنقلوا بين الأندلس والمغرب وقاموا على تأليف دراسات وشروح لفصيح ثعلب. والأخير منهم ترك شرحين للفصيح وليس شرحًا واحدًا. بل إن بين العلماء الأندلسيين من نظم الكتاب وسماه "الموطأة" وهو أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن المعروف بابن المرحل المتوفى سنة 699هـ. ومن الطريف أن هذه الموطأة قد احتاجت بدورها إلى شرح فقام على ذلك العمل محمد بن الطيب الفاسي المتوفى في المدينة المنورة سنة 1170 وهو أستاذ الزبيدي صاحب تاج العروس. ولقد احتل شرح ابن الطيب لموطأة الفصيح مجلدين كبيرين لا يزالان مخطوطين. ومن الطريف أن بعض الخطاطين والعلماء كانوا يتكسبون من توفرهم على نسخ كتاب الفصيح وبيعه، ومن هؤلاء على سبيل المثال العالم اللغوي يحيى بن محمد الأزدي الذي كان يذهب إلى سوق الكتب في بغداد كل عصر فلا يقوم من مجلسه حتى يكتب الفصيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 لثعلب ويبيعه بنصف دينار1. هذا وإنه لمن الأهمية بمكان أن نذكر أن عددًا من الأخبار والنصوص والنوادر متشابه أو متطابق في كل من "الكامل" للمبرد، "والمجالس" لثعلب "والمنثور والمنظوم" لابن طيفور الذي سوف يأتي حديثه بعد قليل. وأما كتاب "المجالس" فإن حديثنا عنه سوف يكون عند تقديم ودراسة كتب "الأمالي" في الفصل الخاص بهذا النهج من الكتب.   1 تاريخ بغداد "4/ 211". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الفصل السادس: أحمد بن أبي طاهر "ابن طيفور" ... الفصل السادس: أحمد بن طيفور 204-280هـ: إن أحمد بن أبي طاهر المشهور بابن طيفور واحد من سدنة المكتبة العربية الذين أسهموا في إثرائها بالعديد من الكتب النفيسة والمؤلفات القيمة في بكرة نشأتها الفنية الغنية المباركة، وهو معاصر للنخبة الممتازة من أعلام الفكر الإسلامي ورواد المعرفة العربية مثل ابن قتيبة الدينوري المتوفى 276 وأبي حنيفة الدينوري المتوفى 282هـ وأبي العباس المبرد المتوفى 286، وأبي العباس ثعلب المتوفى 291. لقد كان عصرًا فنيًّا من عصور دنيا المعرفة والفكر والتأليف بحيث يحار المرء في تقويمه، وما إذا كان عصر طفولة التأليف أم عصر شبابه، وإن الأمر يكاد يشتبه على القارئ الدارس المستقصي، فإذا كان لكل ظاهرة متطورة طفولة ويفاع وشباب وهرم وشيخوخة، فإنه في ضوء المقاييس المنطقية تكون هذه الفترة التي نحن بسبيل الحديث عنها فترة الطفولة أو على الأكثر فترة البقاع. فإذا أمعنا النظر في كثرة التآليف ووفرة الآثار العلمية ونفاسة قيمتها وعمق تناولها لا نتردد في الحكم على تلك الفترة إلا بأنها فترة شباب للمعرفة الإسلامية، ذلك الشباب الذي بدأ يغير طفولة ثم استمر حقبة من الزمان طويلة تفوق شباب معرفة أي أمة من أمم الأرض ذات الحضارة العقلية والتراث الإنساني. وإذا كان أبو العباس المبرد العالم الجليل الذي عاصره ابن طيفور وخالطه وشاكسه صاحب أدب يغلب عليه طابع اللغة. وإذا كان أبو العباس ثعلب يغلب عليه النحو واللغة والرواية. وإذا كان أبو حنيفة الدينوري تغلب عليه صفة الشمول الثقافي بين تاريخ ورواية وأخبار ولغة وهندسة ورياضة ونجوم، فإن ابن طيفور تغلب عليه صفة الأدب وتاريخه والتأليف فيهما، وبخاصة أخبار الشعراء مع إسهام في التأليف التاريخي والأخبار والنوادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والملح والرواية. كان ابن طيفور قد أعد نفسه لميدان المعرفة التي أصبح واحدًا من فرسانها، فاتبع الطريق نفسه الذي سار عليه أعلام زمانه؛ وذلك بالتوفر على التحصيل والتتلمذ على الأعلام والسماع منهم، فحدث عن عمر بن شبة، وأحمد بن الهيثم السامي، وعبد الله بن سعيد الوراق وغيرهم من علماء الزمان، وكان ابن طيفور ينعت المبرد بالكذب، وقد مر بيتاه اللذان قالهما في هذا الغرض: كملت في المبرد الآداب ... واستقلت في عقله الألباب غير أن الفتى كما زعم النا ... س دعي مصحف كذاب والذي يتهم الناس بالكذب، خاصة إذا كانوا من الصفوة الثقات الأعلام لا يسلم بدوره من أن يجد من يخلع عليه الصفات نفسها، فقد وصفه جعفر بن أحمد في كتابه "الباهر" حسبما نقل عنه ياقوت أنه مؤدب كتَّاب، وأنه عامي ثم تخصص وجلس في سوق الوراقين. ثم يستطرد جعفر بن أحمد قائلًا1: ولم أر من شهر بمثل ما شهر به من التصنيف للكتب وقول الشعر أكثر تصحيفًا منه، ولا أبلد علمًا، ولا ألحن ... وكان أسرق الناس لنصف بيت وثلث بيت. وإن طابع المبالغة يغلب على رواية صاحب "الباهر" إذ إن ابن طيفور صاحب فضل وافر وعلم غزير وإنتاج نفيس، وهو في الوقت نفسه ليس بنجوة من أن يهفو هفوات العلماء، أو أن يكبو كبوات الجياد، تمامًا كما هفا المبرد، ولكن ذلك لم ينل من قدره أو يحط من شأنه. وأحمد بن أبي طاهر طيفور يعد من الأدباء الظرفاء، فهو صاحب طرف وملح، بعضها صدرت عنه عملًا، والبعض الآخر صدر عنه قولًا، وبعضها كان يقرن فيه الفعل بالقول، فمن طرقه التي تصل إلى حد الحماقة أنه وصديقه أبا دهقان وقعا في عسر مالي شديد وبحثا عن طريقة يحصلان بها على مال، فاتفقا على أن يتظاهر ابن طيفور بالموت وسجي في فراشه وفي الوقت نفسه ذهب أبو دهقان إلى المعلى بن أيوب، أحد قواد المأمون، ليعلمه بموت صديقه ويحصل منه على ثمن الكفن، ورغم أن الحيلة انكشفت إلا أنهما حصلا على جملة من الدنانير أقالت عسرهما. وابن طيفور شاعر على ما مر بنا، وأكثر شعره مقترن بحادثة طريفة أو نكتة فكهة، فقد مدح الحسن بن مخلد وزير المعتمد، فأمر له بمائة دينار وأمره أن يذهب إلى "رجاء" الخادم   1 معجم الأدباء "3/ 88". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ليحصل عليها منه، فذهب ابن طيفور إلى رجاء الذي اعتذر عن صرف المال قائلًا إن مولاه لم يأمره بشيء، فكتب ابن طيفور إلى الحسن هذين البيتين الفكهين: أما "رجاء" فأرجا ما أمرت به ... فكيف إن كنت لم تأمره يأتمر بادر بجودك مهما كنت مقتدرًا ... فليس في كل وقت أنت مقتدر وقد مر بيتاه في المبرد: ويوم كحر الشوق في صدر عاشق ... على أنه منه أحر وأومد ظللت به عند المبرد قائلًا ... فما زلت في ألفاظه أتبرد1. وللبيتين قصة طريفة، فقد خرج ابن طيفور -فيما يحكيه عن نفسه- من منزل أبي الصقر "لعله أبو الصقر إسماعيل بن بلبل" نصف النهار في شهر تموز "يوليه" فقلت: ليس بقربي منزل أقرب من منزل المبرد، إذ كنت لا أقدر أن أصل إلى منزلي بباب الشام. فجئته فأدخلني إلى حويشة له، وجاء بمائدة فأكلت معه لونين، وسقاني ماء باردًا، وقال لي: أحدثك إلى أن تنام، فجعل يحدثني أحسن حديث، فحضرني لشؤمي وقلة شكري بيتان، فقلت: قد حضرني بيتان، فهل أنشدهما؟ فقال: ذاك إليك، وهو يظن أني قد مدحته، فأنشدته: ويوم كحر الشوق في صدر عاشق - البيتين فقال لي: قد كان يسعك إذا لم تحمد ألا تذم، ومالك عندي جزاء إلا أن أخرجك، والله لا جلست عندي بعد هذا، فأخرجني. فمضيت إلى منزلي بباب الشام، فمرضت من الحر الذي نالني مدة، فعدت باللوم على نفسي2. وهكذا شأن الظرفاء وأصحاب الفكاهات، لا يتردد الواحد منهم عن إيراد النكتة ولو كان الثمن الذي يعود عليه ضررًا بالغًا، وهذه الحادثة على فكاهتها تبين كرم المبرد وأنسه، وهي في الوقت نفسه ربما تميط اللثام عن الأسباب الكامنة وراء هجاء ابن طيفور للمبرد ووصفه بالتصحيف والكذب. ولابن طيفور في الحياة فلسفة وتعليل دفعا به إلى اصطناع الكذب أحيانًا، فهو يرى أن انحراف الناس في أخلاقهم، وحيدهم عن الجادة، وابتعادهم عن الصدق، ورغبته هو نفسه في أن ينصر الصدق -كل ذلك قد أفضى به إلى اصطناع الكذب. إنها أخلاق الناس في كل زمان ومكان، وليس في زمان ابن طيفور نفسه، وسواء وافقناه على فلسفته أم خالفناه -ونحن لا شك مخالفوه- فبيتاه لا يخلوان من طرافة وحسن تعليل وواقعية مريرة:   1 أومد: من الومد وهو صميم الحر. قائلًا، من القيلولة، أي قضاء فترة القيلولة التي يشتد فيها الحر. 2 معجم الأدباء "3/ 90". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قد كنت أصدق في وعدي فصيرني ... كذابة، ليس ذا في جملة الأدب يا ذاكرًا: خلت عن عهدي وعهدكم ... فنصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب وابن طيفور يسجل ذكرياته ونبواته في شعره ويطلب من الله الصفح والمغفرة، فقد كان للأديرة أثرها في شعر المجون، وكان المسافرون يجعلون من الأديرة محطات يبيتون فيها. وكذلك كان يفعل الشعراء الذين كانوا يترددون عليها عامدين إلى قضاء أيام فيها يشربون من خمرها المعتق وينادمون رهبانها الذين كانت لهم مشاركة في الشعر والأدب. إن ابن طيفور يعود إلى بغداد بعد رحلة له إلى "سر من رأى" فيأخذ عليه المطر طريقه قرب دير السوسن بعيدًا عن "سر من رأى" فيميل إليه مع غلامه ويقضي الليل شاربًا سكرانًا معربدًا حتى إذا كان الصباح انصرف منشدًا: سقى سر من را وسكانها ... وديرًا لسوسنها الراهب سحاب تدفق عن رعده الـ ... ـصفوق وبارقه الواصب فقد بت في ديره ليلة ... وبدر على غصن صاحبي غزال سقاني حتى الصبا ... ح صفراء كالذهب الذائب ويمضي ابن طيفور في وصف ليلته المعربدة ثم ينهي أبياته بقوله: فيا رب تب واعف عن مذنب ... مقر بزلته تائب إن أحمد بن طيفور أديب شاعر، ونديم ظريف فكه، ولين الأخلاق ظريف المعاشرة راوية وراق، على ما أسلفنا من ذكر عمله وأدبه وأخباره، وإنه لشيء طبيعي بعد ذلك أن يكون إنتاج ابن طيفور وتآليفه صورة لثقافته ومسلكه وطبيعته، وبالتالي تكون تآليفه في الأدب والأدباء والشعر والشعراء والتاريخ والأخبار والرواية. إن ابن طيفور واحد من أولئك الذين ألفوا عددًا ضخمًا من الكتب الأدبية يناهز الخمسين، فقد عدد له ياقوت واحدًا وخمسين كتابًا، وعدد له ابن النديم من قبله حوالي ستين كتابًا يقع بعضها في بضعة عشر جزءًا. هذا ويمكن تصنيف كتب ابن طيفور في نطاق الموضوعات الآتية: أولًا: موضوعات أدبية عامة، وتاريخ أدب، وأخبار أدبية ونقد، ويمكن أن يندرج تحتها كتبه التالية: 1- كتاب المنثور والمنظوم أربعة عشر جزءًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 2- كتاب سرقات الشعراء. 3- كتاب المؤلفين. 4- كتاب المختلف من المؤتلف. 5- كتاب الموشى. 6- كتاب مفاخرة الورد والنرجس. 7- كتاب الحيل، وهو كتاب كبير. 8- كتاب الطرد. 9- كتاب سرقات البحتري من أبي تمام. 10- كتاب رسالة إبراهيم بن المدبر. ثانيًا: موضوعات قصر المؤلف فيها جهده على الشعر والشعراء وقدم مختارات لكل شاعر أنس في شعره الجودة والجدة. ولو وصلت إلينا هذه الكتب لكانت غيرت الكثير من مقايسنا للشعر وتصنيفنا لمقامات الشعراء الذين اقتصرت دراسات الدارسين على شعرهم الذي بين أيدينا الآن. وأما هذه الكتب التي كتبها ابن طيفور في هذا النطاق فهي: 1- كتاب أسماء الشعراء الأوائل. 2- كتاب ألقاب الشعراء، ومن عرف بالكنى ومن عرف بالاسم. 3- كتاب من أنشد شعرًا وأجيب بكلام. 4- كتاب مقاتل الشعراء. 5- كتاب الجامع في الشعراء وأخبارهم. 6- كتاب اختيار أشعار الشعراء. 7- كتاب اختيار شعر بكر بن النطاح. 8- كتاب اختيار شعر العتابي. 9- كتاب اختيار شعر منصور النمري. 10- كتاب اختيار شعر أبي العتاهية. 11- كتاب اختيار شعر بشار. 12- كتاب أخبار مروان وآل مروان واختيار أشعارهم. 13- كتاب أخبار ابن ميادة. 14- كتاب أخبار ابن هرمة ومختار من شعره. 15- كتاب أخبار ابن الدمينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 16- كتاب أخبار وشعر عبد الله بن قيس الرقبات. ثالثًا: كتب في التاريخ والسياسة وفيها -طبقًا لاستنتاجنا- سمات أدبية، والكتب التي تندرج تحت هذه الموضوعات هي: 1- كتاب بغداد. 2- كتاب المعروفين من الأنبياء. 3- كتاب الحجّاب. 4- كتاب مرتبة هرمز بن كسرى بن أنوشروان. 5- كتاب خبر الملك العالي في تدبير المملكة والسياسة. 6- كتاب جمهرة بني هاشم. 7- كتاب مقاتل الفرسان. رابعًا: كتب طرق المؤلف فيها موضوعات أخلاقية وفكاهية موسومة بالسمة الأدبية ويندرج تحت هذه الموضوعات الكتب التالية: 1- كتاب الرسالة: في النهي عن الشهوات. 2- كتاب فضل العرب على العجم. 3- كتاب الملك البابلي والملك المصري الباغيين، والملك الحكيم الرومي. 4- كتاب المصلح والوزير المعين. 5- كتاب الهدايا. 6- كتاب المعتذرين. 7- كتاب المؤنس. 9- كتاب أخبار المتظرفات. خامسًا: كتاب واحد في اللغة هو كتاب المشتق. سادسًا: كتب تشمل موضوعات عامة وهي: 1- كتاب لسان العيون. 2- كتاب الغلة والغليل. 3- كتاب الرسالة إلى علي بن يحيى. 4- كتاب الجواهر. وهكذا تثمر حياة ابن طيفور هذا العدد الكبير من المؤلفات التي تشكل ثروة أدبية كبرى، ذلك أن أكثر كتبه على ما أوضحنا تتناول الأدب وأخباره من شعر ونثر وتقدم تأريخًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وإنتاجًا بشكل مباشر حينًا وتطرق أبوابه بشكل غير مباشر حينًا آخر. إن الخسارة التي مني بها التراث بضياع مؤلفات ابن طيفور خسارة جسيمة، ذلك أنه قدم دراسات وأورد أشعارًا لشعراء نعترف بعظمتهم وتفوقهم ولكن ليس لدينا إلا متفرقات من آثارهم، ومن هؤلاء الشعراء: العتابي، ومنصور النمري، وابن ميادة، وابن هرمة، وابن الدمينة. ومن آثار ابن طيفور التي وصلت إلينا المجلد السادس من كتابه "بغداد" وبذلك يكون ابن طيفور قد سبق أحمد بن علي الخطيب البغدادي صاحب "تاريخ بغداد، أو مدينة السلام" بما يقارب قرنين من الزمان، فإن ابن طيفور توفي سنة 280هـ والخطيب البغدادي توفي سنة 463 ومن الطريف أن كلا من الكتابين يقع في أربعة عشر مجلدًا. هذا ولقد قام المستشرق السويسري كلر keller بتحقيق هذا المجلد السادس من كتاب بغداد لابن طيفور ونشره، وهو يتضمن سيرة المأمون ويؤرخ للحوادث التاريخية ما بين عامي 204 و 218 هجرية. وأما كتاب "المنثور والمنظوم" الذي يقع في أربعة عشر جزءًا، فقد وصل إلينا منه مجلدان اثنان هما الحادي عشر والثاني عشر، فأما الحادي عشر فلقد طبع تحت عنوان "بلاغات النساء وطرائف كلامهن، وملح نوادرهن، وأخبار ذوات الرأي منهن، وأشعارهن في الجاهلية والإسلام" لقد وضع ناشر الكتاب هذا العنوان الطويل الذي يكاد يشكل فهرسًا لمحتويات الكتاب، ولكن لا بأس في ذلك، فإن هذا العنوان يدل دلالة واضحة على مدى الجهد الذي يبذله المؤلف في جزء واحد من أجزائه، فكيف يكون محتوى الأجزاء الأربعة عشر على هذا القياس!! وأما المجلد الثاني عشر فلا يزال مخطوطًا. وابن طيفور في هذا الجزء من "المنثور والمنظوم" الذي طبع تحت عنوان "بلاغات النساء" يعتبر من أطراف الكتب موضوعًا وأنفسها قيمة، وأكثرها احتواء لكل نادر من القول وكل طريف من الحوادث، وكل ما أملاه الذهن المتوقد به سرعة البديهة وقوة العارضة للمرأة العربية. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى يدل الكتاب على ظاهرة في التأليف العربي المبكر لها قيمتها وخطرها، ونعني بذلك ظاهرة التخصص، فهذا الجزء من مؤلف ابن طيفور يتعلق ببلاغة المرأة وأخبارها، وليس فيه من شيء يتعلق بالرجال إلا إذا كان مرتبطًا بالمرأة صاحبة الخبر أو النادرة أو النص الأدبي، ومن ثم يكون العرب قد عرفوا التخصص الباكر حينما بدأوا يرفدون المكتبة العربية النافع من فيض عقولهم وعطاء قرائحهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فإذا ما انتقلنا إلى منهج المؤلف في تأليف كتابه وجدناه قدم مادته في نطاق ما يمكن أن نسلم بأنه منهج علمي حديث وتبويب ظاهر الاتساق والتناسب، باستثناء بعض الاستطراد أو الخبر المقحم بين الحين والحين، ولا بأس عليه في ذلك، فالكتاب في منتصف القرن الثالث الهجري تقريبًا. أما الموضوعات التي طرق المؤلف أبوابها فيمكن عرضها على المنهج الآتي: أولًا: بلاغة بعض أمهات المؤمنين مثل السيدة عائشة والسيدة حفصة، ونماذج من أقوالهن وخطبهن في مناسبات متعددة، ونماذج من بلاغة نساء آل بيت الرسول في مقدمتهن البتول فاطمة الزهراء والسيدتان زينب وأم كلثوم ابنتا علي بن أبي طالب، ثم نماذج أخرى لبلاغة شهيرات النساء اللاتي ساعدن علي بن أبي طالب بخطبهن وبلاغتهن، والإتيان بصورة لمواجهاتهن لمعاوية بعد أن اعتلى دست الحكم، وما جرى بينه وبين كل واحدة منهن من حوار، فقد حرص معاوية على أن يواجه أكثر النساء الائي ساعدن عليًّا ضده، ولكنه كان من الحصافة بحيث لم يوقع بواحدة منهن أذى بل ربما أحسن إلى بعضهن، فمن هؤلاء النساء البليغات اللاتي واجهن معاوية: سودة بنت عمارة، والزرقاء بنت عدي، وبكارة الهلالية، وأم الخير بنت الحريشي وأخريات. كما اهتم هذا الباب من الكتاب ببليغات باسلات أخريات مثل صفية المنقرية وأسماء بنت أبي بكر، الأولى وهي وافقة على قبر قريبها الأحنف بن قيس ترثيه، والثانية وهي تحاور ولدها عبد الله بن الزبير وتدفع به إلى قتال جيش الأمويين. كما أورد الكتاب نصوصًا أخرى كثيرة بليغة وألوانًا عديدة من الحوار الممتع الذي جرى على ألسنة النساء العربيات اللاتي من بينهن كثيرات من الأعلام. ثانيًا: الاهتمام بالمرأة وبلاغتها في الجاهلية وإيراد نماذج عديدة لقوة عارضة المرأة العربية في الجاهلية ولسنها وسرعة بديهتها وحصيلتها الكبيرة من الألفاظ القوية، والدقة المتناهية في استعمالها، مثل ذلك الحوار الذي جرى بين جمعة وهند ابنتي الخس والقلمس الكناني في سوق عكاظ، وسوف نعرض طرفًا منه بعد قليل. ثالثًا: كلام النساء العربيات وبلاغتهن في وصف حياتهن الاجتماعية وصلاتهن بأزواجهن بين مدح وقدح ورضى ونقد، ومنازعات الضرائر ووصايا الأمهات لبناتهن عند الزواج ومشاحنات الفتيات وزوجات أبيهن -كل ذلك يجري شعرًا ونثرًا تمشيًا أمينًا مع العنوان الكبير للكتاب وهو المنثور والمنظوم، وسوف نعرض بعد قليل أنموذجًا لهذا اللون الطريف من خلال الحوار الذي جرى بين بنت روح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ابن زنباع وزوجها النعمان بن بشير، وآخر جرى بين فتاة وأمها في شأن اختيار الزوج. رابعًا: أخبار ذوات الرأي والظرف من النساء وأقوال جرت على ألسنتهن ونوادر حدثت لهن روينها في ظرف وفكاهة، مثل حديث عاتكة بنت عبد الله بن مطيع مع الوليد بن عبد الملك حين تزوجها، وكان مزواجًا مطلاقًا، وعائشة بنت عثمان حين خطبها سعيد بن العاص، والحجاج وهند بنت أسماء بن خارجة، وفي هذه النوادر يجمع المؤلف بين أخبار القيان والإماء ونوادرهن، وإلى نوادر العربية المسلمة نوادر العربية الجاهلية. وهذا القسم من الكتاب يقدم متعة نفسية وذهنية نفيسة، والنوادر -حسب منهج الكتاب- وردت منثورة ومنظومة. خامسًا: خصص المؤلف قسمًا لأخبار النساء الماجنات وأحاديثهن، وهو ما يسمى بالأدب المكشوف، وكل ما أورده المؤلف في هذا القسم من كتابه يخدش الحياء وينفر منه الذوق السليم، ولكن يبدو أن قطاعًا من مجتمع ذلك الزمان -شأن كل زمان- كان يقبل على قراءة هذا اللون من الأخبار. سادسًا: أفرد المؤلف قسمًا من هذا الجزء من كتابه لأشعار النساء العربيات في الجاهلية والإسلام، وعصر بني أمية ومستهل عصر العباسيين، ولم ينس أشعار الإماء أيضًا، فجاء بنصوص طريفة لليلى الأخيلية وشعرها في توبة بن الحمير العقيلي، والخنساء وأخبارها ومراثيها في أخيها صخر، فضلا عن نماذج عديدة لشاعرات عديدات ينتسبن إلى مختلف القبائل، مثل جنوب الهذلية، والفارعة بنت معاوية القشيرية، وفاطمة بنت مر الخثعمية التي أرادت الزواج من عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول صلى الله عليه وسلم، والجوزاء بنت عروة البصري، ومارية بنت الديان. ومن الطريف أن كل نص شعري جاء به المؤلف إلى هذا الباب ربطه بحادث تاريخي، أو خبر اجتماعي، أو طرفة تسري عن الأديب وتفيد المتأدب. هذا وفي الكتاب بعض الأساطير الطريفة مثل قصة ملكة سبأ وحوارها مع نساء متزوجات زين لها الزواج فعزمت على الزواج على مسئوليتهن، إن أصابت خيرًا من خلاله نالهن منها خيرًا، وإن لم تحمد نتيجة الزواج أصابتهن بضر شديد. والكتاب إلى جانب ذلك مليء بالكنوز من شعر الترقيص الذي كان يجري على لسان الرجل العربي، وهو يداعب وليده، والمرأة العربية وهي تلاعب صغيرها. وكثيرًا ما كان يستعمل هذا اللون من شعر الترقيص كحوار غير مباشر بين الزوج وزوجه. وإذا كان الكتاب كنزًا لشعر الترقيص، فهو في الوقت نفسه معين ثر للنوادر العربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 والملح الأدبية شعرًا ونثرًا. ذهبت جمعة وهند بنتًا الخس إلى سوق عكاظ في الجاهلية، فاجتمعنا عند القلمس الكناني، فقال لهما: إني سائلكما لأعلم أيكما أبسط لسانًا وأظهر بيانًا وأحسن للصفة إتقانًا، قالتا: سلنا عما بدا لك، فستجد عندنا عقولًا ذكية، وألسنة قوية، وصفة جلية، فأخذ يوجه إلى الواحدة منهما السؤال فتجيب عنه بأبلغ لسان وأعمق بيان ولا تكاد تنتهي الأخت من إجابتها حتى تلتقط الأخت الثانية حبل الحديث وتضيف إلى كلام أختها جديدًا. سألهما عما يمدح ويذم من الإبل والخيل والماعز والسحاب والنساء والرجال وغير ذلك، وهما تجيبان إجابة المرأة البليغة العارفة الحكيمة المثقفة، فلنستمع إلى رأي الأختين في النساء والرجال: قال القلمس كلتاكما محسنة، فأي النساء أحب إليك يا جمعة؟ قالت: أُحب الغريرة العذراء الرعبوبة العيطاء الممكورة اللفاء ذات الجمال والبهاء والستر والحياء، البضة الرخصة كأنها فضة بيضاء1. قال: كيف تسمعين يا هند؟ قالت: وصفت جارية هي حاجة الفتى ونهبة الرضا2 وغيرها أحب إلي منها. قال: فقولي. قالت: أحب كل مشبعة الخلخال ذات شكل ودلال وظرف وبهاء وجمال. قال القلمس: كلتاكما محسنة فأي النساء أبغض إليك يا جمعة؟ قالت: أبغض كل سلفع بذية، جاهلة غيية، حريصة دنية، غير كريمة ولا سرية، ولا ستيرة ولا حيية 3، قال: كيف تسمعين يا هند؟ قالت: وصفت امرأة صاحبها خليق أن لا تصلح له حال، ولا ينعم له بال، ولا يثمر له مال، وغيرها أبغض إلي منها. قال: فقولي. قالت: أبغض المتجرفة الشوهاء، المنفوحة الكبداء، العنفص الوقصاء، الحمشة الزلاء، التي إن ولدت لم تنجب وإن زجرت لم تعتتب وإن تركت طفقت تصخب4 قال القلمس: كلتاكما محسنة فأي الرجال أحب إليك يا جمعة؟ قالت: أحب الحر النجيب، السهل القريب، السمح الحسيب، الفطن الأريب، المصقع 5 الخطيب، الشجاع المهيب. قال القلمس: كيف تسمعين يا هند؟ قالت: وصفت رجلًا سيدًا جوادًا ينهض إلى الخير صاعدًا، ويسرك   1 الغريرة: الطاهرة الخُلُق "بالضم" ومن لا تجربة لها والرعبوبة البيضاء الحسنة أو الناعمة. والعيطاء: الطويلة العنق، والممكورة: المستديرة الساقين، واللفاء: الضخمة الفخذين والبضة: الرقيقة الجلد الممتلئة، والرخصة: الناعمة. 2 نهاية الرضاء. 3 السلفع: السيئة الخلق، والسرية: ذات المروءة في شرف. 4- المتجرفة: الهزيلة المضطربة. والمنفوحة: من نفح العرق نزى منه الدم. والكبداء من كبد مرض. والعنفص القليلة الحياء والجسم في خبث. والوقصاء القصيرة العنق، والحمشاء الدقيقة الساقين. والزلاء الخفيفة الوركين تعتتب من اعتتب رجع عن أمر كان فيه. والصخب شدة الصوت. وطفقت استمرت. 5 المصقع: الجهوري الصوت في فصاحة وثبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 غائبًا وشاهدًا، وغيره أحب إلي منه. قال: فقولي. قالت: أحب الرحب الذراع، الطويل الباع، السخي النفاع المنبع الدفاع، والدهمي المطاع، البطل الشجاع، الذي يحل باليفاع، ويهين في الحمد المتاع1. قال: كلتاكما محسنة فأي الرجال أبغض إليك يا جمعة؟ قالت: أبغض السآلة اللئيم، البغيض الزنيم، الأشوه الدميم، الظاهر المعصوم، الضعيف الحيزوم2. قال: كيف تسمعين يا هند، قالت: ذكرت رجلًا خطره صغير، وخطبه يسير وعيبه كثير، وأنت ببغضه جدير3 وغيره أبغض إلي منه، قال: فقولي قالت: أبغض الضعيف النخاع4 القصير الباع الأحمق المضياع الذي لا يكرم، ولا يطاع، قال القلمس: كلتاكما محسنة. ومن المحاورات الطريفة الحكيمة تلك التي جرت بين أم تحسن لابنتها الزواج من شيخ له مال وزعامة ورئاسة، والابنة ترد عليها مفضلة الشاب زوجًا ولو كان بلا مال. فقد رحل الحارث بن السليل الأسدي زائرًا لعلقمة بن حفصة الطائي وكان حليفًا له، فنظر إلى ابنة له يقال لها الرباب، وكانت أجمل أهل زمانها، فأعجب بها فقال: جئتك خاطبًا، وقد ينكح الخاطب، ويدرك الطالب، وينجح الراغب. فقال علقمة: أنت كفؤ كريم، ثم انكفأ5 إلى أمها فقال: الحارث بن السليل سيد قومه حسبًا ومنصبًا وبيتًا، أتانًا خاطبًا فلا ينصرفن من عندنا إلا بحاجته فأريدي 6 ابنتك على نفسها في أمره. فقالت: يا بنية أي الرجال أحب إليك الكهل الحجحاج7، الفاضل الهياج أم الفتى الوضاح، الذمول الطماح؟ قالت الجارية: الطماح، قالت: إن الفتى يغيرك8، وإن الشيخ يميرك، وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل، كالحدث السن، الكثير المن، قالت: يا أمه، إن الفتاة تحب الفتى كحب الرعاة أنيق الكلا 9، قالت: يا بنية إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب، وإن الكهل لين   1 النفاع الاسم من النفع، والدهشمي الكريم. واليفاع العلو. ويهين الخ أي أنه يهين ماله ببذله إياه في اكتساب الحمد. 2 السآلة -بتشديد الهمزة الممدودة- الكثير السؤال. والزنيم المعروف باللؤم والشر أو الدعي في نسبه، والعصوم الأكوال، والحيزوم الصدر. 3 خطوه قدره، وخطبه شأنه. 4 النخاع مخ العظم وضعفه يكون من ضعف البنية. 5 رجع. 6 راودي. 7 العظيم الجانب. 8 من أغار أهله تزوج عليها فغارت. 9 أي معجب العشب عشب الرعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الجناح1، قليل الصياح: يا أمه أخشى الشيخ أن يدنس ثيابي، ويبلى شبابي، ويشمت بي أترابي2، فلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث بن السليل على خمس ديات من الإبل وخادم وألف درهم. فابتنى بها3 ورحل إلى قومه، فبينما هو جالس ذات يوم بفناء مظلته وهي إلى جنبه إذ أقبل فتية من بني أسد نشاط يعتلجون ويصطرعون فتنفست صعداء4 ثم أرخت يمينها بالدموع. فقال لها: ثكلتك5 ما يبكيك؟ قالت: مالي والشيوخ الناهضين كالفروخ! قال: ثكلتك أمك، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. فذهبت مثلًا. وقال: الحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك. فقالت: أسر من الرفاء6 والبنين. ولعل هذا الحوار يكشف لنا عن ظاهرة اجتماعية كريمة في المجتمع العربي المبكر وهو أن الفتاة كانت تستشار في أمر زواجها. ومن طرائف الأحاديث البليغة، هذا الحوار الذي جرى بين حميدة بنت النعمان بن بشير وروح بن زنباع، فقد لحظ يومًا أنها تنظر إلى بعض بني قومه من قبيلة جذام وقد اجتمعوا عنده، فلامها على ذلك محاولًا توبيخها، فردت عليه قائلة مستنكرة: وهل أرى إلا جذامًا؟ !! فوالله ما أحب الحلال منهم فكيف بالحرام، ثم قالت تهجوه: بكى الخز من "روح" وأنكر جلده ... وعجت عجيجًا من جذام المطارف وقال العبا قد كنت حينًا لباسهم ... وأكسية كردية وقطائف فنالت منه ومن قومه الذين بكى الحرير واشتكت المطارف من جلودهم وأجسادهم؛ لأنهم ليسوا أهل نعمة. ومن منظوم العربيات العفيفات الوفيات ما ساقه المؤلف في هذه القصة الطريفة: قال رجل: خرجت في بغاء بعير لي فسقطت على امرأة في فناء ظلها لم أر لها شبهًا، فقالت: ما أوطأك رحلنا يا عبد الله؟ قلت: بعير لي أضللته فأنا في التماسه. قالت: أفلا أدلك   1 أي الجانب. 2 نظرائي في السن. 3 زفها أو تزوجها. 4 يعتلجون يتصارعون ويتقاتلون. صعداء أي تنفسًا طويلًا. 5 أي فقدتك من الثكل وهو فقدان الحبيب. 6 الاتفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 على من هو أجدى عليك في بعيرك منا؟ قلت: بلى. قالت: الله فادعه دعاء واثق لا مختبر. قال: فشغلتني والله بقولها عن وجهها. فقلت: يا هذه أذات بعل أنت؟ قالت: كان فمات يرحمه الله. فقلت: هل لك في بعل لا يعصيك؟ فأكبت على الأرض طويلًا ثم رفعت رأسها، فقالت: كنا كغصنين في أرض غذاؤهما ... ماء الجداول في روضات جنات فاجتث خيرهما من أصل صاحبه ... دهر يكر بأحزان وترحات وكان عاهدني إن خانني زمن ... أن لا يواصل أنثى بعد مثواتي وكنت عاهدته أيضًا فشط به ... ريب المنون لمقدار وميقات فاصرف عنانك عمن ليس يصرفه ... عن الوفاء خلابات التحيات إن كتاب المنثور والمنظوم -الذي فقدنا منه اثنى عشر مجلدًا- يعتبر في ضوء القليل الذي وصل إلينا منه من أنفس ما ألف في الأدب العربي منهجًا وموضوعًا ونصوصًا وأخبارًا. إنه بالجاحظ وابن قتيبة وأبي حنيفة الدينوري وأبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وأحمد بن طيفور وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي وغيرهم من صفوة العلماء الذين عاشوا في النصف الثاني من القرن الثاني وطوال القرنين الثالث والرابع -الذين سوف نعرض لهم بالحديث بعد قليل- تكون أعمدة المكتبة العربية قد أرسيت على أساس ثابت، وتكون أركانها قد تأصلت، ويكون التأليف الذي يتصف بتعدد الموضوعات وشمولها لمؤلف واحد قد وصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل العقل البشري إليه في مثل تلك الحقبة القصيرة من الزمان. وإن المرء ليصاب بالدهشة الحقيقية حين يراقب هذه الظاهرة الغريبة في أمة لم تعرف القراءة، وإذ بها في أقل من ثلاثة قرون تصبح سيدة أمم زمانها علمًا ومعرفة وثقافة وتأليفًا وعدد علماء ووفرة مؤلفات. ونعود لكي نسائل أنفسنا مرة أخرى، هل كان للمكتبة العربية مراحل ميلاد وطفولة ويفاع حتى وصلت إلى مرحلة الشباب التي غمرت من خلالها بألوان العلوم وفروع المعرفة العديدة الأصيلة، ثم لا نلبث أن نحار في الإجابة، فإننا لا نكاد نلمس للمكتبة العربية مرحلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 طفولة بالمعنى الصحيح، وإنما المنصف من العلماء لا يستطيع إلا أن يراها، وقد ولدت شابة قوية خصبة معطاة، إن الأمر جد يسير ويكمن في العقيدة الجديدة التي آمن بها العرب، والتي أول آية من آيات كتابها العزيز: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الفصل السابع: أبو بكر الصولي .... -335هـ: إن أبا بكر محمد بن يحيى الصولي واحد من أولئك الأعلام الكبار الذين توفروا على الأدب العربي وأدبائه -وبخاصة الشعراء منهم- توفرا مجيدًا منتجًا مثمرًا بحيث بلغت آثاره حسبما أوردها المترجمون له خمسة وثلاثين مؤلفًا ثمينًا شملت بالإضافة إلى الأدب، التاريخ واللغة وعلوم القرآن. وأبو بكر الصولي يجمع بين انتماءين رفيعين بارزين، انتماء الأصل الذي ينتهي به إلى أحد جدوده "صول" الذي كان هو وإخوته ملوكًا على منطقة طبرستان، ثم أسلموا وأسهموا في الحضارة والفكر والآداب والسياسة الإسلامية بنصيب، والانتماء الثاني انتماء قريب، إنه واحد من أعلام الصوليين البلغاء الأذكياء الذين خدموا الثقافة العربية والسياسة الإسلامية على عهد العباسيين. فعم أبيه إبراهيم الصولي المتوفى سنة 243هـ كاتب العراق في عصره صاحب القلم الذهبي نثرًا، وصاحب الملكة الساحرة شعرًا حتى إن دعبلًا الخزاعي الشاعر الذي لا يشق له غبار قال فيه: لو تكسب إبراهيم بن العباس بالشعر لتركنا بغير شيء، وأما المسعودي فيقول عنه: لا يعلم فيمن تقدم وتأخر من الكتاب أشعر منه. ومهما كان في قول كل من دعبل والمسعودي من مبالغة أو مجاملة، فإن الأمر الذي لا شك فيه أن إبراهيم كان من أرق الأدباء شعرًا وأكثرهم لماحية، وأسرعهم خاطرة وأخصبهم قلمًا. وكان في الوقت نفسه من أصحاب المؤلفات وإن تكن قليلة، فقد ترك -فضلًا عن ديواني شعره ونثره- كتاب الدولة، وكتاب العطر، وكتاب الطبيخ1.   1 راجع أخباره في وفيات الأعيان "ج1/ 44" ومعجم الأدباء "1/ 261" ط المأمون، وتاريخ بغداد "6/ 117" وفي كتابنا الأدب في موكب الحضارة الإسلامية "ص401" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ومن أعمام أبيه أيضًا عمرو بن مسعدة المتوفى سنة 217هـ، وكان عمرو صاحب علم وفضل وبلاغة وسياسة، عمل وزيرًا للمأمون وللحسن بن سهل، ولسحر قلمه في الكتابة كان المأمون يردد بعض كتبه إعجابًا واستحسانًا، وقرأ له جعفر البرمكي توقيعًا ذات يوم وكان لا يزال كاتبًا صغيرًا في ديوانه فضربه على كتفه ضربة إعجاب وأردف، قائلًا: أي وزير في جلدك1؟. إن لأبي بكر الصولي من أسباب الانتماء الأدبي والأسرى ما يمكن أن يهيء له سبل النبوغ الأدبي والإبداع العلمي فيما لو تعهد نفسه وصقلها باكتساب المعرفة. ولقد فعل. فإنه روى وتتلمذ على أبي داود السجستاني وأبي العباس ثعلب، وأبي العباس المبرد وكثيرين غيرهم من صفوة علماء زمانه الذين أورد أسماءهم تفصيلًا بعض من ترجموا له2. وقد بلغ من هيام أبي بكر بالمعرفة والكتب أن اقتنى في بيته مكتبة كبيرة أحسن ترتيبها وتأنق في تجليد كتبها وتعدد ألوانها. وكان أكثر ما فيها من كتب -على ما يبدو- تلك التي دونها أو نسخها أو ألفها بنفسه، وكان يقول مشيرًا إليها: هذه كلها سماعي. فإذا احتاج إلى مراجعة شيء قال: يا غلام، هات الكتاب الفلاني. ويبدو أن ذلك لم يعجب بعض معاصريه، فقد ألفوا من العلماء أن يحاضروا أو يتكلموا دون الرجوع إلى ورقة أو كتاب مثلما كان يفعل ابن الأعرابي، ومن ثم فإن أبا سعيد هجا أبا بكر الصولي من خلال مكتبه قائلًا هذه الأبيات الطريفة3: إنما الصولي شيخ ... أعلم الناس خزانه إن سألناه بعلم ... طلبًا منه إبانه قال يا غلمان هاتوا ... رزمة العلم فلانه وإذا كان قد بدا للعقيلي أن مراجعة أبي بكر لكتبه نقيصة فإنه قد جانب الصواب؛ لأن استشارة الكتاب ومراجعته واجبة في كل عصر وكل زمان. وأبو بكر له أيضًا مشاركة في رواية الحديث، وقد ذكره الخطيب البغدادي أكثر من مرة كواحد من المحدثين الذين ينسلكون في عنعنة إسناد أكثر من حديث4. وشأن كثير من الأدباء، إن لم يكن جميعهم، قال أبو بكر شعرًا رقيقًا ولكنه ليس من   1 راجع أخباره في تاريخ بغداد "12/ 202" ومعجم الأدباء "6/ 88" والأدب في موكب الحضارة "394". 2 تاريخ بغداد "3/ 427" ووفيات الأعيان "4/ 356". 3 الوافي بالوفيات "5/ 192". 4 تاريخ بغداد "3/ 427، 428، 431". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الكثرة أو الوفرة بمكان. فأكثر الذين يشتغلون بالعلم والتعليم ويتفرغون للثقافة حصادًا وتأليفًا قلما يجدون من وقتهم ما يسمح لهم بالإكثار من قول الشعر، ومن ثم أبو بكر الصولي ومن هم على شاكلته من العلماء المؤلفين كالمرزباني والمبرد وثعلب والثعالبي، ومن إليهم يقولون الشعر ولكن في قلة وندرة. ومع ذلك فإن ما روي لأبي بكر الصولي من شعر لم يخل من مسحة رقة وجمال رونق، فمن ذلك قوله: أحببت من أجله من كان يشبهه ... وكل شيء من المعشوق معشوق حتى حكيت بجسمي ما بمقلته ... كأن سقمي من جفنيه مسروق إنه شعر رقيق لا شك، ولكنه على رقته خالٍ من عاطفة الشاعر ولوعة المحب وحرارة المشتاق، ولقد أورد له كل من ابن خلكان والخطيب البغدادي وصلاح الصفدي أكثر من مقطوعة شعرية1. وأسهم أبو بكر في تربية بعض الخلفاء وتعليمهم، فقد كان معلمًا للراضي ثم أصبح له نديمًا. ونادم غير الراضي من ملوك بني العباس مثل المكتفي والمقتدر. ومنادمة الملوك آنذاك لم تكن مجرد لقاء على كأس أو مجالسة على شراب، وإنما كانت المنادمة في كثير من حالاتها مجالسات أدبية ومطارحات علمية ومبادهات فكرية، ولقاءات فكاهية. واحتفاظ ثلاثة من الخلفاء بمنادمة إنسان بعينه له دلالة كبيرة على فصل هذا النديم وظرفه وأدبه. بقيت صفة هامة من صفات أبي بكر الصولي، أو بالأحرى موهبة جديرة بالإشارة والتسجيل، تلك هي براعته الفائقة في لعب الشطرنج، الأمر الذي جعل لقب "الشطرنجي" متصلًا باسمه بحيث إن كل كتب التراجم تذكر اسمه مقرونًا بهذا اللفظ فيقال: أبو بكر محمد بن يحيى الصولي الشطرنجي، أو أبو بكر الصولي الشطرنجي، وأحيانًا أبو بكر الشطرنجي دون ذكر الصولي، ولبراعة الصولي الفائقة في لعب الشطرنج أصبح مضربًا للمثل فكان يقال في مجال الإعجاب بلاعب شطرنج "إنه يلعب الشطرنج مثل الصولي" بل إن بعض العامة -لكثرة ما سمعوا عن إتقانه اللعبة- ظنوا أنها من اختراعه. وإذا ما تحدثنا عن أبي بكر الصولي المؤلف فإننا سوف نلقى العديد من الكتب التي قدرنا عدد ما وصل إلينا منها بنيف وثلاثين كتابًا في الأدب من شعر ونثر، وأخبار الأدباء من شعراء وكتاب، والتاريخ والدين والمجتمع. ففي الأدب كتب الصولي "كتاب الأوراق"،   1 وفيات الأعيان "4/ 356" وتاريخ بغداد "3/ 429" والوافي بالوفيات "5/ 191". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وكتاب "أشعار أولاد الخلفاء" وكتاب "أدب الكتاب" وثلاثتها مطبوعة ميسورة بين أيدينا ومن أخبار الشعراء كتب الصولي: "أخبار أبي تمام" و "أخبار البحتري"، وهما مطبوعان، و "أخبار أبي عمرو بن العلاء" و "أخبار ابن هرمة" و "أخبار السيد الحميري" و "أخبار إبراهيم ابن المهدي" و "أخبار إسحاق بن إبراهيم" و "أخبار أبي نواس" و "أخبار سديف ومختار شعره" و"أخبار الفرزدق". وفي مجال جمع الشعر فإنه جمع شعر ابن الرومي، وجمع شعر أبي تمام وهو ديوانه، وجمع شعر البحتري، كما جمع شعر كل من: أبي نواس، والعباس بن الأحنف، وعلي بن الجهم، وابن طباطبا، وإبراهيم بن العباس الصولي، وأبي عيينة المهلبي، وأبي شراعة، وكلهم من شعراء العربية المرموقين الذين يمثلون الجانب المشرق من الشعر العربي. ولسوء الحظ فإن القليل من هذه الأعمال هو الذي وصل إلينا، أما أكثره فقد ضاع بين ما ضاع من تراث وكنوز. ويكتب أبو بكر الصولي كتابًا آخر يضم أخبار جماعة من الشعراء المحدثين وقد رتبه على حروف المعجم، ولعل المرزباني الذي سوف يأتي حديثه بعد حين قد ألف كتابه "معجم الشعراء" على شاكلته. ولقد أسهم أبو بكر في جمع شعر بعض القبائل فكتب كتابًا عن شعراء مضر. وفي مجال التاريخ كتب الصولي عدة كتب هي: "أخبار الخلفاء" و "أخبار أبي سعيد الجنابي" وهو الحسن بن بهرام القرمطي صاحب هجر، وكتاب "مناقب ابن الفرات" ورسالة صغيرة في وقعة الجمل و "كتاب أخبار القرامطة". ولقد أسهم أبو بكر الصولي في قافلة كتب الأمالي فكتب كتابًا في الأمالي أسماه "الغرر" ولعل الشريف المرتضى قد اقتفى ذلك العنوان في "أماليه" التي أسماها "غرر الفوائد ودرر القلائد" التي سوف يأتي حديثها حينما نعرض لكتب الأمالي. وفي الطبقات ترك لنا الصولي كتابًا أسماه "كتاب العبادلة" وهو في التعريف بمن أسمهم "عبد الله" من الأعلام والأعيان. واهتم الصولي بأخبار بعض المتصوفة فكتب كتابين أحدهما في "أخبار الحلاج" والثاني في "أخبار الجبائي". ولما كان الصولي حسن الاعتقاد، ذا دين وشمائل، فقد كان من الطبيعي أن يسهم في تأليف بعض الكتب التي تتصل بالعبادات والعلوم الإسلامية، فترك لنا في هذا الشأن "كتاب العبادة" و "كتاب الشامل في علوم القرآن" و "كتاب سؤال وجواب رمضان" و "كتاب السعادة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وفي مجال الثقافة العامة والطرائف والنوادر كتب الصولي كتابًا في "الشباب والنوادر" عمله لابن الفرات و "كتاب الأنواع". تلك هي مؤلفات الصولي كما وردت في العديد من المصادر التي اهتمت به وفي مقدمتها كتاب "وفيات الأعيان" و "الوافي بالوفيات" و"تاريخ بغداد" و "الفهرست" و "مقدمة أخبار أبي تمام" التي كتبها محققو الكتاب، ومقدمة الصولي نفسه لكتاب "أخبار أبي تمام". هذا ما كان من أمر مؤلفات أبي بكر الصولي، وهي وفيرة قيمة متنوعة وإن كانت كثرتها تدخل في مضمار الأدب والشعر أكثر مما تندرج تحت لواء آخر من ألوية العلوم والفنون، وذلك يضفي أهمية خاصة عند المتأدبين على كل ما خطته يراع الصولي جمعًا أو تأليفًا أو إخبارًا. غير أن الأمر الجدير بالأهمية هو المنهج الذي يتبعه الصولي عندما كان يكتب كتابًا، أو يؤلف مؤلفًا. بين أيدينا عدد من كتبه المطبوعة مثل "أخبار أبي تمام" و "أخبار البحتري" و "أدب الكتاب" و "الأوراق" و "أشعار أولاد الخلفاء" وقد يغني تتبع منهجه في واحد من هذه الكتب التي بين أيدينا عنه في بقيتها لتقارب الموضوعات التي تناولها فيها. ولما كان أشهر كتبه التي بين أيدينا هو كتابه "أخبار أبي تمام" فلقد يكون من المقبول أن نجعل تتبعنا لمنهج المؤلف منطلقًا من خلال هذا الكتاب. أخبار أبي تمام منهجًا وعرضًا: الذي لا شك فيه أن الصولي واحد من المتحمسين لأبي تمام، المتعصبين لشعره وفكره وشخصه، وسوف نلاحظ ذلك في أكثر صفحات الكتاب وفصوله إن لم يكن في كل الصفحات وكل الفصول. بدأ أبو بكر كتابه برسالة طويلة كتبها إلى مزاحم بن فاتك يشرح فيها سبب تأليفه الكتاب ويذكر صراحة أنه إنما كتب هذه الرسالة دفاعًا عن الشاعر الطائي الكبير، وتحتل هذه الرسالة بضعًا وخمسين صفحة من صفحات الكتاب. ثم يفرد الصولي فصلًا طويلًا يقارب المائة صفحة إلا قليلًا في تفضيل أبي تمام، وفي سياق هذا الفصل الطويل يعمد بين الحين إلى إثبات نص حسن للشاعر وتعليق بعض كبار الأدباء والشعراء عليه من أمثال "المبرد" أو "علي بن الجهم" ويأتي بالأبيات الجميلة التي قالها في نسب الأخوة الذي يجمع بين أديب وأديب الموجهة إلى علي بن الجهم: إن يُكْدِ مطَّرِف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من غمام واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 أو يفترق نسبٌ، يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد ويحمل الصولي على دعبل الخزاعي حملة شعواء؛ لأن هذا الأخير كان ينال من أبي تمام وشعره ويتهمه بالسطو عليه وسرقة معانيه، كما يحمل على إبراهيم بن المدبر لتعصبه على أبي تمام1. ويستغل الصولي سماحة البحتري ووفاءه لأبي تمام فيلح على تلك المعاني ويكرر للبحتري أقوالًا طيبة في أستاذه كقوله: والله ما أكلت الخبز إلا به". ولما كان أبو تمام مشهورًا بالاستفتاحات الغريبة والمعاني المستغلقة الفهم، فإن الصولي يدافع عن أبي تمام من خلال حوار قصير رواه ابن الأعرابي جرى بين أبي تمام وأحد معاصريه فقد قيل لأبي تمام: لم لا تقول من الشعر ما يعرف؟ فأجاب سائله: وأنت لم لا تعرف من الشعر ما يقال؟ ويربط صاحب الخبر بين هذا الحوار وسرعة بديهة أبي مام بقوله: كان أبو تمام إذا كلمه إنسان أجابه قبل انقضاء كلامه2. ومن المعروف أن أكبر منافسي أبي تمام من معاصريه جودة شعر ورصانة أسلوب وقوة بديهة وشدة عارضة، هو تلميذه البحتري، ومن هنا يركز الصولي على البحتري ضاربًا العديد من الأمثلة الشعرية التي اختارها بعناية وذكاء والتي اشترك في القول فيها كل من الشاعرين الكبيرين بحيث يظهر أبا تمام في مظهر المتقدم على منافسه الظاهر عليه3. وربما أتى الصولي بالقصة الطويلة المملة؛ لا لشيء إلا لأن فيها بيتا لأبي تمام جرى استحسانه من خلال سرد القصة وروايتها. وبعد هذا الفصل والمقدمة التي سبقته -وهما أهم ما قصد إليه الصولي وراء تأليفه هذا الكتاب- يفرد المؤلف فصلًا لأخبار الشاعر مع كل ممدوح من ممدوحيه: فصلًا له مع القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وفصلًا آخر مع القائد خالد بن يزيد الشيباني، وفصلًا تاليًا له مع الكاتب الحسن بن رجاء. وفي كل هذه الفصول يعمد الصولي إلى الحديث عن لقاء الشاعر بممدوحه وإنشاده إياه وبعض الحوار الذي جرى بينهما أو بين الشاعر والمستمعين. ولا يفوت المؤلف أن يذكر من الأخبار في هذه اللقاءات كل ما يرفع من شأن أبي تمام كشاعر أو كعالم أو كإنسان. فهو يروي خبرًا عن الحسن بن رجاء يصف فيه أبا تمام بقوله: رأيت رجلًا علمه وعقله فوق شعره4 كما يروي قصة إنشاده لاميته في الحسن بن رجاء، وكيف أن   1 أخبار أبي تمام "97". 2 المصدر "72". 3 المصدر "73-88". 4 المصدر "167". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الحسن حين سمع قول الشاعر فيه: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي وتنظري خبب الركاب ينصها* ... محيي القريض إلى مميت المال يقوم واقفًا ويقول للشاعر: والله لا أتممتها إلا وأنا قائم1. وفي معرض -تعظيم أبي تمام والتحمس له يروي الصولي خيرًا عن المبرد مفاده أنه -أي المبرد- ما سمع الحسن بن رجاء يذكر أبا تمام إلا قال: ذاك أبو التمام، وما رأيت أعلم بكل شيء منه2. ومن خلال هذه الأخبار التي تخلع ثياب المجد والتمجيد على أبي تمام ينتهز الصولي المناسبة فيذكر بعض الأخبار التي كانت سببًا في مؤاخذة الشاعر، ويدافع عنه وقد هيأ القارئ لتقبل دفاعه بما خلعه عليه من صفات كثيرة جليلة. فمن ذلك على سبيل المثال الخبر الذي رواه أحمد بن طاهر وهو أنه دخل على أبي تمام وهو يعمل شعرًا وبين يديه شعر أبي نواس ومسلم، فقال له: ما هذا؟ فأجابه أبو تمام: هذان اللات والعزى وأنا أعبدهما من دون الله من ثلاثين سنة3. إن الكثيرين من المتأدبين أخذوا هذا القول على أبي تمام ووجهوا إليه نقدًا شديدًا لمثل هذا الأسلوب الذي يتنافى مع جلال عبادة الله، وبعض الناس كفره بسببه، ولكن الصولي يؤول قول أبي تمام تأويلًا يرفع عنه غضب من غضب وتكفير من كفر قائلًا: "هذا إذا كان حقًّا فهو قبيح الظاهر، رديء اللفظ والمعنى؛ لأنه كلام ماجن مشغوف بالشعر، والمعنى أنهما قد شغلاني عن عبادة الله عز وجل، وإلا فمن المحال أن يكون عبد اثنين لعله عند نفسه أكبر منهما أو مثلهما أو قريب منهما". ويستطرد الصولي متناولًا الموضوع -لصالح أبي تمام- تناولًا طريفًا قائلًا: "على أنه ما ينبغي لجاد أو لمازح أن يلفظ بلسانه أو يعتقد بقلبه ما يغضب الله عز وجل، ويثاب من مثله، فكيف يصح الكفر عند هؤلاء على رجل شعره كله يشهد بضد ما اتهموه به حتى يلعنوه في المجالس؟ ولو كان على حال الديانة لأغروا من الشعراء بلعن من هو صحيح الكفر، واضح الأمر، ممن قتله الخلفاء -صلوات الله عليهم- بإقرار وبينة، وما نقصت بذلك رتب أشعارهم، ولا ذهبت   * ينص الناقة يستعجلها ويستخرج أقصى ما عندها من سرعة، الركاب الإبل واحدتها راحلة. 1 أخبار أبي تمام "168". 2 المصدر "171". 3 المصدر "173". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 جودتها، وإنما نقصوا هم في أنفسهم، وشقوا بكفرهم1. ويمضي الصولي في هذا الشوط طويلًا ذاكرًا المؤاخذات المتماثلة عند شعراء العربية -في نطاق الإيمان والكفر- ابتداء من امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى إلى الأخطل، منتهيًا إلى الحكم بأن فساد عقيدة الشاعر لا ينسحب على شعره. ويمضي الصولي في كتابه "أخبار أبي تمام" عاقدًا فصولًا له مع بقية ممدوحيه، مع الحسن بن وهب، ومع آل طاهر بن الحسين، ومع القائد أبي سعيد الثغري، ومع أحمد بن المعتصم، وكلها لا تخرج من حيث منهجها عن أخباره معهم وبعض قصائده فيهم، واستماحته إياهم، وقوة عارضته في الارتجال، مع اغتنام الفرصة بين الحين والحين لإيراد رأي يرفع من قدر الشاعر ويمجد المعجبين به ويحط من شأن حساده وناقديه. فإذا ما انتهى الصولي من عرض فصوله العديدة التي مجد فيها الشاعر وتعصب له فيها تعصبًا ظاهرًا ودافع عنه من خلالها دفاعًا طيبًا، أفرد فصلين اثنين يتصلان بشاعره، ولكنهما يتعارضان مع حماس المؤلف للشاعر: فصلًا ضم أهاجي مخلد بن بكار الموصلي في أبي تمام، وقد هجاه حيًّا وميتًّا. وربما كان الصولي من الذكاء بحيث عمد إلى ذكر أهاجي ابن بكار في أبي تمام بعد أن مات كي ينال من قدر الشاعر الذي يهجو الأموات وهو بذلك لم يقصد إلى ذكر شعر ينال من قدر أبي تمام بقدر ما قصد إلى النيل من مروءة ابن بكار2. وفصلًا آخر قصيرًا عن معائب أبي تمام ذكر فيه بعضًا من المآخذ التي أخذها الدارسون والرواة والنقاد على أبيات من شعره. يعود الصولي مرة أخرى إلى تمجيد أبي تمام بذكر محفوظاته، وما عنده من روايات، وما لديه من مختارات يرددها في مجالسه، وجعل ذلك تحت عنوان "ما رواه أبو تمام" وهي في جملتها عذبة طريفة مما يحسن سمعه ويجمل ترديده، فمن ذلك على سبيل المثال: قال رجل لرجل: ما أحسن حديثك؟ فأجابه: إنما حسنه حسن جوار سمعك. أو قوله: حدثني يحيى بن إسماعيل الأموي عن إسماعيل بن عبد الله، قال جدي: الصمت منام العقل، والنطق يقظته، ولا منام إلا بيقظة، ولا يقظة إلا بمنام3. ثم أردف الصولي بذكر فصل آخر عن "صفة أبي تمام وأخبار أهله"، وهو فصل قصير ذكر فيه صفات الشاعر وسماته وقسماته، وذكر أخاه سهمًا وولده تمامًا، وجاء لهما بشعر يترجح بين التوسط والرداءة.   1 أخبار أبي تمام "173". 2 أخبار أبي تمام "234" وما بعدها. 3 أخبار أبي تمام "258". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ثم يجد الصولي بين ما يجد من مادة أبي تمام التي لديه بعض الأخبار، فاته أن يضمنها الفصول الماضية فيعقد لها فصلًا تحت عنوان "أخبار لأبي تمام متفرقة" وهو تحايل منهجي إن لم يكن مقبولًا موضوعًا فهو طريف شكلًا. وتلك الأخبار التي ضمنها المؤلف هذا الفصل طريفة في جملتها، فمنها على سبيل المثال أن أبا تمام كان يقول: أنا ابن قولي: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل1 ويذكر الصولي ضربًا آخر طريفًا حول أبي تمام والمطلع الذي انتقده الناس بسببه: "كذا فلحل الخطب وليفدح الأمر" مفاده أن عمرو بن أبي قطيفة رأى أبا تمام في النوم فقال له: لم ابتدأت بقولك: "كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر" فأجابه: ترك الناس بيتًا قبل هذا، إنما قلت: حرام لعين أن تجف لها شفر ... وأن تطعم التغميض ما أمتع الدهر كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر2. وبعد أن يعقد المؤلف صفحة وبعض صفحة لفصل بين فيه وفاة أبي تمام وتاريخها يختم كتابه بفصل عن المراثي التي قيلت فيه، وهي في جملتها لا تزيد على خمس قصائد ومقطوعتين، ولعل أبلغها وأرقها جميعًا مرثية الحسن بن وهب3. كان هذا منهج الصولي في كتابه أخبار أبي تمام، وعلى الرغم من أن الصولي قد جعل من كتابه هذا ميدانًا للدفاع عن أبي تمام والتحمس له، فإن هذا الكتاب من الناحية الموضوعية والمنهجية قد وفى بالغرض الذي استهدفه مؤلفه من حيث التعريف بأبي تمام وبحياته الخاصة والعامة وبثقافته، وعلاقته بالناس بصفة عامة وبممدوحيه بصفة خاصة وبشعره بصفة أخص. فإذا تركنا الصولي لأبي تمام وغضضنا النظر عنه، فإن ذلك قد لا ينال كثيرًا من جوهر الكتاب والمقصد من تأليفه.   1 المصدر "263". 2 المصدر "265". 3 أخبار أبي تمام "175". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ويمكن أن نطبق منهج الصولي في كتبه عن أخبار الشعراء الآخرين التي مر ذكرها، فإذا استعرضنا مثلًا كتابه "أخبار البحتري" وجدناه من حيث المنهج لا يختلف كثير عن منهج أخبار "أبي تمام" اللهم إلا في ذلك الحماس الذي ميز به الصولي كتابه عن أبي تمام ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة إلى الكتب الأخرى التي ورد ذكر اسمها، ولم تصل إلينا نصوصها مثل: أخبار ابن هرمة، وأخبار السيد الحميري وأخبار الفرزدق وأخبار إسحاق بن إبراهيم، وأخبار أبي نواس. ومهما كان الأمر في كتاب "أخبار أبي تمام" والهدف الذي استهدفه الصولي من وراء تأليفه، فإنه يمكن أن يعد نوعًا من الدفاع الواضح غير المستتر عن أبي تمام تجاه الدفاع المستتر عن البحتري، والعصبية الأدبية التي ضمنها الآمدي كتابه "الموازنة". وبعبارة أخرى فإننا نستطيع أن نقتبس رأي الأستاذ أحمد أمين الذي ورد في تقديمه لكتاب أخبار أبي تمام بقوله "قد مضى زمان كنا لا نسمع فيه إلا نغمة الانتصار للبحتري، فكان في هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن ما يعدل هذه النغمة ويلطف هذه الحدة فتتجاوب النغمتان، وتتعادل الكفتان، ويكون أمام القاضي العادل أقوال الخصوم والمؤيدين تامة في غير نقص". ومجمل القول في كتاب "أخبار أبي تمام" للصولي أنه ضرورة دراسية ومصدر أساسي لا غنى عنه لمن يريد التصدي لدراسة أبي تمام والتحدث عن شعره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الفصل الثامن: المرزباني ... محمد بن عمران المرزباني: 297-384هـ هو أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني الذي ولد بعد أن قتل ابن المعتز وابن الجراح بعام واحد إذ إنه ولد سنة 297هـ وعمر حتى عام 384، والمرزباني واحد من ألمع العلماء الأدباء الذين أثروا المكتبة العربية بكل نفيس جليل من فيض العقل العربي، وإن كان الرجل فارسيًّا كما هو بادٍ من لقبه، غير أن المرزباني لم تكن تربطه بالفارسية إلا رابطة النسب، وأما العقل والفكر والنتاج والولاء الثقافي فعربي محض. إن أشهر كتب الطبقات التي ألفها المرزباني وما زالت بين أيدينا نرجع إليها ونعتمد عليها وننهل من فيض عطائها كتاباه "معجم الشعراء" و "الموشح". كما أن له كتابًا آخر على جانب كبير من الأهمية هو "أشعار النساء" غير أنه لا يزال مخطوطًا لم تمتد إليه يد التحقيق، والإخراج والطبع والنشر، ونلاحظ أن المرزباني قد خص شعر النساء بكتاب مستقل يقع في نحو ستمائة ورقة، وبذلك يكون المرزباني ثاني اثنين من الأدباء الذين أعطوا أدب المرأة اهتمامًا خاصًّا، أما الأول فهو ابن طيفور حسبما مر بنا فيما مضى من صفحات، وكان أدب المرأة يجيء قبل ذلك، وبعد ذلك أيضًا، في جملة ما يقدمه المؤلفون تبعًا لطبيعة الموضوع الذي يطرقون، أو حسب إطار المنهج الذي يتبعون. على أن الأمر عند المرزباني يكاد يكون أقرب إلى التخصص منه عند ابن طيفور، فإن ابن طيفور عرض في كتابه "بلاغات النساء" لبلاغة المرأة أيا كان طابع بلاغتها شعرًا أو نثرًا، وأما المرزباني فإنه قد خص بكتابه شعر النساء دون نثرهن. والمرزباني صاحب كتب كثيرة في الأدب والتاريخ والنوادر والثقافة بصفة عامة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 والشعر بصفة خاصة، ووضع على قدم المساواة مع كل من العالمين الكبيرين الجليلين الجاحظ وابن قتيبة، بل إن بعض العلماء قال: إنه أحسن تصنيفًا من الجاحظ1 وكان أبو علي الفارسي يقول: إن أبا عبد الله المرزباني من محاسن الدنيا. وكان المرزباني صاحب منهج دقيق يلتزمه حين يقبل على تأليف أحد كتبه، فقد كان يجمع المادة العلمية للكتاب كما نفعل في عصرنا، ومن هذه المادة ينتقي ما يصلح لأن يضمه بين دفتي كتاب. فقد ذكر أنه سود ذات مرة عشرة آلاف ورقة صح له منها ثلاثة آلاف2. وكان المرزباني يعيش مع العلم وأهل العلم، وقد ذكر أنه كان عنده خمسون لحافًا ودواجًا -والدواج هو اللحاف الذي يلبس- لأهل العلم الذين كانوا يبيتون في داره3، وليس من شك في أن هؤلاء جميعًا كانوا إما أدباء أصدقاء أندادًا وإما تلامذة كبارًا يساعدون شيخهم نسخًا أو إملاء، فإن العدد الكبير الذي تركه من الكتب يدفع بنا إلى الاستنتاج أن الرجل كان يستعين ببعض تلامذته. هذا وكان المرزباني يجمع بين التشيع والاعتزال وشرب النبيذ، فأما الاعتزال والتشيع فأمر منطقي مقبول لارتباط التشيع بالاعتزال للأسباب التي يعرفها المهتمون بالمذاهب. وأما الجمع بين التشيع والاعتزال وشرب النبيذ فأمره غريب، وقد تواترت الأخبار على أن المرزباني كان يضع المحبرة وقنينة النبيذ بين يديه فلا يزال يكتب ويشرب4. وكان المرزباني من سمو المكانة بحيث كان عضد الدولة الملك البويهي الأديب يزوره بين الحين والحين سائلًا عن حاله، وقد سأله ذات مرة: كيف الحال؟ فأجابه بصيغة الاستفهام الاستنكاري الفكه: كيف حال من هو بين قارورتين؟!! يعني المحبرة وقدح النبيذ. هذا ومن كانت تلك حاله من مصافاة الكأس ومنادمتها، ومن صفاء القريحة وعطائها فلا بد أن يصور بعض خواطره وينسجها شعرًا ما دامت ملكة الشعر حاضرة لديه. فمن شعر المرزباني قوله5: ولي ولها إذا الكاسات دارت ... رقى سحر يفك عرى الهموم   1 تاريخ بغداد "3/ 135". 2 المصدر السابق "3/ 135، 136". 3 معجم الأدباء "18/ 269". 4 تاريخ بغداد "3/ 136". 5 وفيات الأعيان "4/ 355". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 معاتبة ألذ من الأماني ... وبث جوى أرق من النسيم وأما مؤلفات المرزباني فمن الكثرة والتنوع والقيمة بمكان، لقد كتب المرزباني في موضوعات الأدب وأخبار الأدباء من كتاب وشعراء، وكتب في التاريخ وكتب في اللغة وكتب في الزهد وعلم الكلام والدين والأخلاقيات، كما كتب في الموضوعات العامة التي تتصل بالثقافة في شتى فروعها ومختلف ألوانها. أولًا: ففي مجال الشعر والشعراء ترك لنا المرزباني هذه الكتب: 1- كتاب أخبار الشعراء المشهورين والمكثرين من المحدثين: مبتدئًا ببشار منتهيًا بابن المعتز وقد أسمى مؤلفه "المستنير" وذلك حسبما أورده الثعالبي في كتابه "ثمار القلوب" وكان يقع في عشرة آلاف ورقة أي ما يعادل خمسة آلاف صفحة في الطباعة المعاصرة. 2- كتاب أخبار أبي تمّام. 3- كتاب أخبار عبد الصمد بن المعذل، وكان شاعرًا سكيرًا هجاءً شديد العارضة بصريًّا توفي سنة 240هـ. 4- كتاب أشعار النساء، ويقع في ستمائة ورقة. 5- كتاب أشعار الجن الممثلين في من يتمثل منهم بشعر. 6- كتاب شعر حاتم الطائي. 7- كتاب المعجم، وهو معجم الشعراء المعروف لدينا والذي سوف يأتي حديثه عند حديثنا عن كتب طبقات الشعراء، وكان يقع في ألف ورقة، وهو الآن حسبما هو في أيدينا يقع في خمسمائة صفحة وبضع صفحات. 8- كتاب أشعار الخلفاء. 9- ديوان يزيد بن معاوية الأموي، وقد سلف القول إن الهيثم بن عدي المتوفى سنة 207 هـ قد جمع الديوان نفسه. 10- كتاب المفيد في أخبار الشعراء في الجاهلية والإسلام وديانتهم ونحلهم، ويقع في نيف وخمسة آلاف ورقة. وقد سبق ابن الكلبي المتوفى قبل ذلك بما يناهز قرنين من الزمان أن كتب في مثل هذا الموضوع. 11- كتاب المونق في أخبار الشعراء "الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين على طبقاتهم" ويقع في خمسة آلاف ورقة. 12- كتاب الرياض في أخبار المتيمين من الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 13- كتاب المراثي، ويقع في خمسمائة ورقة. 14- كتاب أخبار شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160هـ، وهو عالم الأدب والشعر وشيخ المحدثين في العراق. ثانيًا: ما كتبه المرزباني من كتب تجمع بين الأدب والحياة الاجتماعية والنوادر والطرف: 1- كتاب أخبار الأولاد والزوجات والأهل وما جاء فيهم من مدح وذم. 2- كتاب الأنوار والثمار فيما قيل في الورد والنرجس وجميع الأنوار من الأشعار وذكر الثمار والفواكه وما جاء فيها من مستحسن النظم والنثر. 3- كتاب الشباب والشيب، ويقع في ثلاثمائة ورقة. 4- كتاب نسخ العهود إلى القضاء، ويقع في مائتي ورقة. 5- كتاب المديح في الولائم والدعوات، ويقع في خمسمائة ورقة. 6- كتب المستطرف في الحمقى والنوادر، ويقع في ثلاثمائة ورقة. 7- كتاب المزخرف في الإخوان والأصحاب ويقع في أكثر من ثلاثمائة ورقة. 8- كتاب الرائق في أحوال الغناء وأخبار المغنين والمغنيات. ثالثًا: وفي مجال التاريخ ألف المرزباني الكتب الآتية: 1- كتاب أخبار أبي مسلم الخراساني، ويقع في مائة ورقة. 2- كتاب أخبار البرامكة، ويقع في خمسمائة ورقة. 3- كتاب الأوائل في أخبار الفرس القدماء وأهل العدل والتوحيد، وشيء من مجالسهم ويقع في ألف ورقة. 4- كتاب المغازي، ويقع في ثلاثمائة ورقة، وهو نمط من التأليف درج على الكتابة فيه الكثير من العلماء السابقين. 5- كتاب أخبار ملوك كندة، وقد سبق لابن الكلبي المتوفى سنة 204هـ أن كتب كتابًا في أخبارهم. رابعًا: وفي مجال اللغة والنقد كتب المرزباني الكتب الآتية: 1- كتاب المفصل في البيان والفصاحة، ويقع في ثلاثمائة ورقة. 2- كتاب المقتبس في أخبار النحويين. 3- كتاب الموسع في ما أنكره العلماء على بعض الشعراء من كسر ولحن وعيوب في الشعر. 4- كتاب الشعر: محاسنه، وعيوبه، وأوزانه وأجناسه، وضروبه، ومختاره وأدب قائليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ومنشديه ومنحوله ومسروقه. خامسًا: موضوعات الزهد والعبادة والعلوم الدينية وأعلام العلماء: 1- كتاب الدعاء ويقع في مائتي ورقة. 2- كتاب ذم الحجاب ويقع في مائتي ورقة ويدخل في باب الأخلاق والاجتماع وهما موضوعان مرتبطان بالعنوان الذي اخترناه لهذه المجموعة. 3- كتاب ذم الدنيا، ويقع في خمسمائة ورقة. 4- كتاب الزهد وأخبار الزهاد. 5- كتاب العبادة، ويقع في أربعمائة ورقة. 6- كتب الفرج، ويقع في مائة ورقة. 7- كتاب المحتضرين، ويقع في مائة ورقة. 8- كتاب المرشد في أخبار المتكلمين، ويقع في مائة ورقة. 9- كتاب المشرف: في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه، ومواعظه ووصاياه. 10- كتاب المنير: في التوبة والعمل الصالح، ويقع في أربعمائة ورقة. 11- كتاب المتوج: في العدل وحسن السيرة. 12- كتاب أخبار محمد بن حمزة العلاف، ولعله قصد من وراء ذلك التحدث عن المعتزلة، ذلك أن المشهور هو محمد بن الهذيل، ولعل خطأ في النقل قد غير تكوين الاسم على هذه الصورة. 13- كتاب أخبار أبي حنيفة النعمان بن ثابت ويقع في خمسمائة ورقة. سادسًا: كتب في موضوعات المعرفة العامة. 1- كتاب تلقيح العقول، ويقع في ثلاثة آلاف ورقة، مقسم على مائة باب. 2- كتاب الأزمنة ويقع في ألف ورقة، ويتكلم عن الفصول الأربعة، وبخاصة أوصاف الربيع والخريف، والحر والغيوم، والبروق والرياح والأمطار، وطرف من الفلك، وأيام العرب والعجم، وما يلحق بذلك من أخبار وأشعار1. لقد كانت حياة المرزباني المديدة موقوفة على العطاء العقلي والسخاء العلمي، التزم بيته حيث يفد إليه العلماء والباحثون عن المعرفة، بل كان الملك البويهي يسعى إليه بنفسه تكريمًا لعلمه وتبجيلًا لقدره، فإن من هذا عطاؤه جدير بالتوقير والتكريم.   1 راجع مؤلفات المرزباني في الفهرست "ص196-199". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الفصل التاسع: أبو منصور الثعالبي 350-429هـ: الثعالبي واحد من الثلاثة الكبار الذين أهدوا إلى المكتبة العربية أكبر قدر من الكتب الأدبية الخالصة بمعناها المعاصر، أي قدموا الأدب بمفهوم الشعر والنثر والاختيارات دون ما مزج بعلوم اللغة والأخبار والنوادر، وأما الكاتبان الآخران فهما أبو بكر الصولي وأبو عبد الله المرزباني وقد مر ذكرهما. لقد ألف الثعالبي العديد من الكتب النفيسة في موضوعاتها وعناوينها، ومع ذلك فإن كتب التراجم لا تكاد تذكر عن حياة هذا العالم الجليل أكثر من تاريخ ميلاده ووفاته، وأنه لقب بالثعالبي؛ لأنه كان في أول أمره فراء في مدينته نيسابور يخيط جلود الثعالب، ومن ثم فقد نسب إلى مهنته نسبته إلى بلدته. وليس الثعالبي هو العالم الوحيد الذي كان يتكسب من عمل يده، فكثرة من الأئمة والعلماء كانوا يعيشون من كدح أيديهم، فالإمام العظيم أبو حنيفة النعمان كان يبيع الخز، وكان العالم اللغوي إبراهيم بن السري بن سهل يشتغل بقطع الزجاج، ولذلك فقد اشتهر بمهنته فعرف بين جمهرة العلماء بلقب الزجّاج، وكان العالم الفقيه الواعظ عبد الملك الخركوشي يعمل القلانس ويأمر ببيعها حتى لا يدري أحد أنها من صنعه. وهكذا كان الثعالبي في أول أمره، ثم ما لبث أن مهد العلم له أكناف الإبداع وهيأت له المتابعة والقراءة والاكتساب أسباب التأليف الغزير الوفير المتنوع الموضوعات والأبواب، فخلب ألباب جمهرة القراء والمؤلفين فضلًا عن صفوتهم بحيث إن عالمًا جليلًا مثل ابن بسام يقتفي طريقته في التأليف، وينهج نهجه ويسير على خطاه، ثم يصفه هذا الوصف الجميل "كان في وقته راعي تلعات العلم، وجامع أشتات النثر والنظم، رأس المؤلفين في زمانه، وإمام المصنفين بحكم قرانه، وسار ذكره سير المثل، وضربت إليه آباط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الإبل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب، طلوع النجم في الغياهب، تواليفه أشهر مواضع، وأبهر مطالع، وأكثر راوٍ لها وجامع من أن يستوفيها حد أو وصف، أو يوفيها حقوقها نظم أو رصف"1. وهكذا لا تخرج أخبار الثعالبي وتاريخه عن مجرد ألفاظ مديح وكلمات إطراء، ولكن لا علينا في ذلك، فحياة المرء تؤرخ بما قدم من نفع للعلم وإنتاج للبشرية. وإذا كانت تفصيلات حياته تلقي أضواء على شخصيته وتسهم في الإفصاح عن كنه أمره ونبوغه، فإن آثار المرء العلمية -في مجال استجلاء شخصيته- تؤدي بعض العوض وإن كانت لا تفي بكل الغرض. غير أننا من خلال كتب الثعالبي ومقدماتها نستطيع أن نقرر أنه قضى حياته في نيسابور وأنه كان وثيق الاتصال بالعالم الجليل الأمير أبي الفضل الميكالي عميد أسرة بني ميكال التي عرف أبناؤها بالفضل والأدب وتكريم العلم وتقريب العلماء، واقتنوا الكثير من الكتب القيمة الثمينة النافعة، وكانوا أصحاب مكتبة أفاد من محتوياتها العام والخاص، ونعرف أيضًا من مقدمات كتب الثعالبي أنه كان متصلًا بالأمير أبي نصر سهل بن المزربان وكان بدوره عالمًا فاضلًا أديبًا شاعرًا، كما اتصل بالأمير مأمون بن مأمون خوارزم شاه، ولقد كان الثعالبي صديقًا لكثير من أعلام الأدب من عصره وفي مقدمتهم كاتب العربية النابغة أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني فقد كانا متقاربين في العمر، فلم يكن الثعالبي يكبر بديع الزمان بأكثر من ثماني سنوات2. وهذا وإن كثرة التأليف والتوفر على الكتابة والاحتفال بالثقافة والقراءة إلى حد التفرغ كل ذلك لم يمنع الثعالبي من أن يعبر عن خواطره ويفصح عن مشاعره في نطاق شعر لطيف قيل في أغراض مختلفة، ومواضيع شتى بين غزل وخمر ووصف طبيعة ومدح ومساجلات إخوانية، فمن شعره في وصف الطبيعة والربيع قوله3: الغيم بين معصفر ومجسد ... والماء بين مصندل ومعنبر والروض بين مدملج ومتوج ... والورد بين مدرهم ومدنر والأرض قد برزت لنا في أخضر ... في أصفر في أبيض في أحمر لتروقنا ببدائع وطرائف ... من حسن منظرها وطيب المخبر   1 وفيات الأعيان "3/ 178". 2 ولد بديع الزمان سنة "358 هـ" وولد الثعالبي سنة "350هـ". 3 خاص الخاص صفحة "233". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 سبحان محيي الأرض بعد مماتها ... وكذاك يحيي الخلق بين المحشر ومن خطرات نفسه الرقيقة وقد عمد إلى الصنعة البديعية1. تراني لست أحسن نظم لفظ ... يزيد جليله المعنى الدقيق ولكن لا تدق بنات فكري ... إذا ما قيل قد فني الدقيق وللثعالبي غير قليل من القصائد والمقطوعات ورد بعضها في "وفيات الأعيان" وورد أكثرها في آخر كتابه "خاص الخاص"2. فإذا ما عمدنا إلى الحديث عن كتب الثعالبي فسوف نلاحظ أنها من الكثرة بمكان وأنها أيضًا من النفع والقيمة والخصوبة بمكان، ولعل أشهرها وأكبرها كتابه "يتيمة الدهر" الذي سوف يأتي دوره عند الحديث عن كتب طبقات الشعراء، وأما بقية كتبه فبعضها مطبوع وبعض آخر لا يزال مخطوطًا، وهي في الشعر والنثر والطرائف الأدبية، وفقه اللغة والبلاغة والتاريخ والتراجم الأدبية. فأما كتبه المطبوعة فهي -فضلًا عن اليتيمة- فيما يتناول الأدب بفروعه: خاص الخاص، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، سحر البلاغة وسر البراعة، من غاب منه المطرب، لطائف المعارف، نثر النظم وحل العقد، سر الأدب، المؤنس الوحيد، أحسن ما سمعت ويعتبر كتاب "من غاب عنه المطرب" الذي مر ذكره ذيلًا لهذا الكتاب، اللطائف والظرائف، يواقيت المواقيت، المنتحل، المبهج، برد الأكباد في الأعداد، العقد النفيس ونزهة الجليس3. وأما كتبه في فقه اللغة والبلاغة، فإن المطبوع منها: فقه اللغة، الإعجاز والإيجاز، الكتابة والتعريض ويسمى أيضًا النهاية في الكتابة، الأمثال ويسمى أيضًا الفرائد والقلائد، وقد شكك محرر مادة الثعالبي في دائرة المعارف الإسلامية في نسبة هذا الكتاب إلى الثعالبي وذهب إلى أن مؤلفه هو الأهوازي المولود سنة 544هـ. وأما كتبه في التاريخ فأهمها "غرر السير" ويشك محرر مادة الثعالبي في دائرة المعارف الإسلامية أيضًا في نسبة الكتاب إلى الثعالبي ويذهب إلى أن مؤلفه، هو أبو منصور الحسين بن محمد بن المرغني الثعالبي4.   1 خاص الخاص "ص240". 2 وفيات الأعيان "3/ 178، 179". 3 خاص الخاص "ص229-246". 4 راجع مادة الثعالبي في دائرة المعارف الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وللثعالبي أكثر من كتاب في الأدب الأخلاقي: المطبوع منها: مرآة المروءات وأعمال الحسنات، ومكارم الأخلاق. وأما كتب الثعالبي المخطوطة، أو على الأقل تلك التي نعلم بوجودها فهي التجنيس، غرر البلاغة وطرف البراعة، الغلمان، تحفة الوزراء، الشكوى والعتاب، المقصور والممدود، المتشابه، التمثيل والمحاضرة، طبقات الملوك. هذا وإذا أردنا أن نستعرض موضوع كتاب أو أكثر من كتب الثعالبي فسوف نجد أن المؤلف كان متأنقًا في اختيار عناوين كتبه بحيث جعل لها جرسًا منغمًا، وإيقاعها منبهًا، والأمر في ذلك من الوضوح بمكان. كتاب ثمار القلوب: ولكن ماذا تحوي هذه العناوين الجذابة؟ الحق أنه بين العنوان والموضوع صلة أكيدة ووشيجة قريبة، فلو عرضنا لكتابه ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، نجد أن المؤلف يقدم منهج بحثه في مستهل كتابه قائلًا: "وبناء هذا الكتاب على ذكر أشياء مضافة ومنسوبة إلى أشياء مختلفة يتمثل بها، ويكثر في النثر والنظم على ألسن الخاصة والعامة استعمالها، كقولهم غراب نوح، ونار إبراهيم، وذئب يوسف، وعصا موسى، وخاتم سليمان، وحمار عزير، وبردة النبي صلى الله عليه وسلم، وكقولهم كنز النطف، وقوس حاجب، وقرط مارية، وصحيفة المتلمس، وحديث خرافة، ومواعيد عرقوب، وجزاء سنمار ... وكقولهم أفاعي سجستان، وثعابين مصر، وعقارب نصيبين، وجرارات الأهواز، وحمى خيبر". ويمضي المؤلف في مقدمته على هذا النسق، ثم يذكر أنه ضمن الكتاب واحدًا وستين بابًا جعل الباب الأول "فيما يضاف إلى اسم الله تعالى عز ذكره وجل اسمه" والباب الثاني "فيم يضاف وينسب إلى الملائكة والجن والشياطين" وهكذا يذكر موضوع كل باب حتى الباب الواحد والستين "في الجنات". فلو اخترنا من الكتاب بابًا اختيارًا عشوائيًّا لكي نقدمه، وليكن الباب الخامس عشر مثلًا فستجد موضوعه "فيما يضاف وينسب إلى طبقات الشعراء" وموضوعات الباب هي حلة امرئ القيس، يوم عبيد، حكم لبيد، حوليات زهير، صحيفة المتلمس، قدح ابن مقبل، منديل عبدة، لسان حسان، سيف الفرزدق، بنات نصيب، غزل ابن أبي ربيعة، عين بشار، طبع البحتري، تشبيهات ابن المعتز، عتاب جحظة، غلام الخالدي1.   1 ثمار القلوب "ص170". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 يتنقل المؤلف بعد ذلك مباشرة إلى الحديث عن كل قضية أو معنى من القضايا والمعاني التي أوردها بالشرح والإبانة وذكر المناسبة الخاصة بها مع استشهاد بالشعر إذا لزم الأمر. ففي مجال الاستشهاد بحلة امرئ القيس يجعلها "مثلًا للشيء الحسن يكون له أثر قبيح، والمبرة يكون في ضمنها عقوق، والكرامة يحصل منها إهلاك، ذلك أن أمرأ القيس بن حجر لما خرج إلى قيصر يستنجده على قتلة أبيه ويستعينه في الاستيلاء على ملكه أكرمه وأمده بجيش، ثم لما صدر من عنده وشى الوشاة به إليه، وأخبروه بما يكره من شأنه، وخوفوه عاقبة أمره، فندم على تجهيزه وأتبعه بحلة مسمومة عزم عليه أن يلبسها في طريقه. فلما لبسها تقرح جلده وتساقط لحمه واشتد سقمه ففي ذلك يقول: وبدلت قرحًا داميًا بعد صحة ... وبدلت بالنعماء والخير أيؤسا ولو أن نومًا يشترى لاشتريته ... قليلًا كتغميض القطا حيث عرسا فلو أنها نفس تموت صحيحة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا ثم لما نزل أنقره مات بها وإنما سمى "ذا القروح" لهذه القصة. والكتاب في جملته عمل أدبي رفيع القدر جليل الشأن ومن ثم فقد أهداه المؤلف إلى الأمير الجليل الأديب أبي الفضل الميكالي في نيسابور. كتاب خاص الخاص: وإذا ما عرضنا لكتاب "خاص الخاص" وجدناه هو الآخر له من اسمه نصيب كبير بحيث وصف بأنه "وعاء ملئ علمًا" و"ظرف حشي ظرفًا" فهو منتخبات شعرية نثرية جميعها من بدائع النثر وطرائف الشعر. وخاص الخاص يقع في ثمانية أبواب: الباب الأول: فيما يقارب الإعجاز من إيجاز البلغاء وسحرة الكتاب. الباب الثاني: في أمثال العرب والعجم. الباب الثالث: فيما جاء من الأمثال على وزن "أفعل من كذا". الباب الرابع: في لطائف الظرفاء: شخصيات عديدة ومناسبات مختلفة. الباب الخامس: في "كلمات" لأصحاب الصناعات والمهن والحرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الباب السادس: في التوقيعات عن الملوك والوزراء والكبراء. الباب السابع: في عجائب الشعر والشعراء، ويضم نماذج مختارة لمائة وخمسة وثمانين شاعرًا ابتداء من الجاهليين مستفتحًا بامرئ القيس وانتهاء بمعاصري المؤلف من الشعراء والأدباء. الباب الثامن: نماذج من شعر المؤلف يزعم أنه لم يسبق إليها في معانيها. والكتاب في جملته يدل على ذوق أدبي رفيع شأنه شأن أكثر كتب الثعالبي المؤلف الأديب السخي العطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني الفصل الأول : أحمد بن عبد ربه "والعقد الفريد" مدخل ... الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني إن كثيرًا من كتب الأدب والأخبار لقيت من الشهرة والذيوع ما هي جديرة به لنفاسة محتواها، وسمو مكانتها العلمية والأدبية مثل البيان والتبيين للجاحظ، ومثل كتاب الحيوان للمؤلف نفسه، ومثل كتابي عيون الأخبار وأدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، وكتاب الفصيح والمجالس لثعلب، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، والأمالي لأبي علي القالي وغيرها من تلك الروائع التي كتبها رواد الأدب العربي وأساتذة الفكر الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ولكن واحد من هذه الكتب على نفاسة أكثرها لم ينل من الشهرة والذيوع والتعليق والذكر على أفواه المتأدبين والدارسين والإقبال عليه والاحتفال به كما نال كل من "العقد الفريد" لأحمد بن عبد ربه، و "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. إن كلا من الكتابين يشكل بمفرده موسوعة ضخمة من الثقافة العربية ودائرة معارف تكاد تكون مستكملة الحلقات من الأخبار والنصوص الأدبية. ومن الغريب أن مؤلف العقد أندلسي المولد والإقامة والوفاة، ومؤلف الأغاني عراقي المولد والإقامة والوفاة، فكان الأول السفير الأندلسي للثقافة العربية في الأندلس والمغرب والمشرق جميعًا. فكما عاش كتابه في الأندلس رفيع القدر ثابت الجذور، جيء به إلى المشرق فاختلف أول الأمر في شأنه ثم ما لبث أن نال حظه من الاحتفال به والتقدير لشأنه. وكان الثاني السفر المشرقي للثقافة والأدب العربي في المشرق جميعًا وفي الأندلس كذلك حينما بعث مؤلفه بالنسخة الخطية الأولى منه هدية إلى المستنصر الملك المثقف الأندلسي. ومجمل القول إن كتابي العقد الفريد، والأغاني قد طغيا بلمعانهما -إن حقًّا وإن باطلًا- على أقرانهما من الكتب النفيسة الأخرى التي إن لم تعدلهما فإنها لا تقصر عنهما كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ونحن من أجل ذلك أفردنا لهذين الكتابين الكبيرين بابًا منفردًا، استقل كل منهما بفصل من فصليه، ندرس شخصية مؤلف كل منهما ووزنه العلمي وقدره الأدبي ومنهج كتابه ومحتواه، وما حفلت به دفتاه من علم ثمين وكنز دفين، أو ما ضمناه من غث الأخبار ورخيص الاختيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الفصل الأول : احمد بن عبد ربه و" العقد الفريد " إن أحمد بن محمد بن عبد ربه عاش نيفًا وثمانين عامًا في الأندلس بمدينة قرطبة مولدًا ووفاة بين عامي 246، 328هـ، أي أنه عاش النصف الأخير من القرن الثالث وأكثر قليلًا من الربع الأول من القرن الرابع، فقد عاش إذن في الفترة التي كانت الأندلس تبني فيها شخصيتها العربية الإسلامية، وذلك بالإقبال على العلم والدرس والتحصيل اعتمادًا على العلوم والمؤلفات الوافدة بكثرة ووفرة من المشرق العربي والإسلامي. ولقد عاش أحمد بن عبد ربه ناسكًا في محراب العلم، عاكفًا على أسباب الثقافة متحليًا بالخلق والدين والورع، بحيث أجمع كل من أرخ له أنه كان أهل علم وأدب ورياسة وشهرة مع ديانة وصيانة، وكان موضعًا لاحترام الملوك الأندلسيين الكبار ابتداء من أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الأوسط، حتى عبد الرحمن الناصر. وقد كان ملوك الأندلس جميعًا وبغير استثناء يحترمون العلماء ويضعونهم موضعهم من الإجلال والتقدير والاحترام؛ ذلك لأنهم كانوا ملوكًا مثقفين على علم وأدب، ولم يكونوا سوقة أو مغامرين. وفي الوقت نفسه كان العلماء متحلين بأخلاق العلم لابسين ثوب الحشمة والوقار، غير متهافتين على المناصب ولا مترخصين في سلوكهم، ولا متهاونين في كراماتهم، الأمر الذي جعل الملوك يحترمونهم ويخشون نقدهم ويتحاشون جانب الاعتداء عليهم. بل إنهم كانوا يستمعون منهم إلى النقد العنيف إذا ما ندت ندوة من ملك أو سقطة من سلطان، فلا يملك هذا الملك أو ذاك على جليل ملكه ورفعة شأنه إلا الطاعة للعالم والامتثال لنصائحه. إن أحمد بن عبد ربه عاش في هذا المحيط، ونال التكريم من ثلاثة ملوك كبار عاصرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وعايشهم ومدح مواطن المدح فيهم، وهم: المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الذي قال عنه المؤرخون إنه لم يكن أحد من الخلفاء قبله في شجاعته وصرامته وحزمه وعزمه، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الشجاع الأديب الباطش الشديد التواضع، وعبد الرحمن الناصر أشهر ملوك الدنيا وأسعدهم حظًّا وأطولهم فترة حكم1. لقد مدح ابن عبد ربه هؤلاء الملوك الثلاثة، بل لقد ضمن كتابه "العقد الفريد" شعرًا طويلًا في التأريخ لانتصارات الناصر لدين الله، ومن ثم فقد كان الرجل على ولاء شديد وإعجاب أشد بهؤلاء الملوك الذين تحلوا بالأدب -فليس بينهم إلا شاعر- واتصفوا بالشجاعة، وتجملوا باحترام العلم وإجلال العلماء. وابن عبد ربه يبدو شخصية واضحة المعالم من ناحية علمه، وأدبه، وخلقه، وسلوكه في آثاره الأدبية والعلمية التي تركها بين يدي الدارسين والمؤرخين والمتأدبين، وهذه الآثار تتمثل في شعره، وفي كتابه "العقد الفريد". فأما ابن عبد ربه الشاعر فإن مكانته بين شعراء الأندلس تأتي في الصدارة، رغم أن الدارسين المحدثين لم يعنوا بذلك، وربما كان السبب في ذلك هو ضياع شعر الأديب الكبير الذي كان مجموعه فيما يذكر الحميدي نيفًا وعشرين جزءًا هي جملة ما جمعه الأدباء من شعره للحكم المستنصر الذي فتن بالكتب فأنشأ مكتبة كبيرة فريدة في ترتيبها وتنسيقها بين مكتبات ذلك الزمان، إن لم يكن هذا الزمان، مع إسقاط الوسائل الحديثة في سرعة الطباعة من الحساب. أما مكتبة المستنصر فكانت محتوياتها مزينة بجيد التجليد وأنيق التذهيب، وفنون الخط، وترتيب الفهارس وتنظيم الإعارة وتشجيع القراءة. على أن المهم في شعر ابن عبد ربه ليس الكم والعدد ولكنه الكيف والفن والتجديد، فقد تواترت الأخبار الأدبية وبخاصة عند ابن بسام صاحب "الذخيرة" أن أحمد بن عبد ربه هو أول من أنشأ "الموشحات" وإن لم يأت لنا بأنموذج واحد من موشحاته، ولنا رأي مخالف لذلك بصدد نشأة الموشحات وأنها مشرقية محضة2. إن أحمد بن عبد ربه يعتبر على كل حال -في نطاق الخير الذي أورده عنه ابن بسام واحد من رواد الإبداع والتجديد في الشعر الأندلسي، بل إن ابن سعيد، وهو من هو في تأريخ أدب الأندلس يقول عنه إنه إمام أهل المائة الرابعة وفرسان شعرائها في المغرب كله. وإن ما قد وصل إلينا من شعر ابن عبد ربه يترجم عن نفس شاعرة رقيقة شفافة متملكة   1 راجع أعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب ص23-29. 2 راجع باب الموشحات في كتابنا "الأدب الأندلسي: موضوعاته وفنونه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 نواصي الشعر مكتملة وشائجة وأسبابه، قديرة واعية متقنة صناع، إنها كذلك في مختلف ميادين الشعر وأغراضه حتى ما كان منها متناقض الأهداف كالمديح والهجاء، أو كالغزل والزهد. إنه يمدح المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط -وقد مر ذكر صلته به- فيقول هذا الشعر التقي ابتكارًا وإيقاعًا من جملة قصيدة طويلة1: بالمنذر بن محمد ... شرفت بلاد الأندلسْ فالطير فيها ساكن ... والوحش فيها قد أنسْ وقد ظلت هذه القصيدة تسير في أعطاف السنين حتى قرعت أسماع أبي تميم، المعز لدين الله الفاطمي العبيدي ملك إفريقية، ثم مصر فشق عليه انتشارها بين الناس حفظًا وترديدًا، فما كان من شاعره أبي الحسن علي بن محمد الإيادي التونسي إلا أن أنشأ قصيدة يعارض بها سينية ابن عبد ربه إرضاء للمعز مطلعها: ربع لزينب قد درس ... واعتاض من نطق خرس ولكن الفارق بين القصيدتين جودة ورقة ومعنى كالفرق بين الثرى والثريا. وعندما يكتب ابن عبد ربه شعرًا في لوعة الحب وانصراف الغواني عن العاشق مع انصراف شبابه فإنه يأتي بالطريف من المعاني في ثوب من جيد الشعر ورقة الإيقاع. وهذا قوله في الموضوع نفسه. إن الغواني إن رأينك طاويًا ... برد الشباب طوين عنك وصالًا وإذا دعوتك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن خبالا ومن روائع أبياته التي يقول ياقوت إنها من شعره السائر2 هذان البيتان الساحران اللذان تأثر بهما ابن زيدون دون شك حين كان يبكي حبه ولادة بنت المستكفي مغتربًا في البلاد سائحًا في الربوع ضاربًا في مشارق الأندلس ومغاربها. يقول ابن عبد ربه في بيتيه القائلين: الجسم في بلد والروح في بلد ... يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد   1 وفيات الأعيان "1/ 111، 112". 2 مطمح الأنفس "ص52" ومعجم الأدباء "4/ 216". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 إن تبك عيناك لي يا من كلفت به ... من رحمة فهما سهمان في كبدي هذا وللمتنبي في شعر ابن عبد ربه رأي جميل وإعجاب بادٍ، وكان يطلق على أحمد بن عبد ربه "مليح الأندلس" وهو بهذا اللقب جدير. إن الفتح بن خاقان مؤرخ شعراء الأندلس وصاحب "المطمح" و "القلائد" يذكر أن الخطيب أبا الوليد بن عباد مر على مصر في طريق عودته بعد أداء فريضة الحج وتطلع إلى لقاء المتنبي -وكان إذ ذاك في مصر- فصار إليه حيث كان جالسًا في مسجد عمرو بن العاص. وبعد أن جرى بينهما بعض الحديث قال له المتنبي: أنشدني لمليح الأندلس -يعني ابن عبد ربه- فأنشده: يا لؤلؤًا يسبي العقول أنيقا ... ورشا بتقطيع القلوب رفيقا ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... وردًا يعود من الحياء عقيقا وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا يا من تقطع خصره من رقة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا فلما أكمل أبو الوليد إنشاده استعاده المتنبي ثم قال: يا ابن عبد ربه، لقد تأتيك العراق حبوًا1. وقارئ شعر ابن عبد ربه لا يجد كبير غرابة في إعجاب المتنبي به، ذلك أن المتنبي وكثيرًا من معانيه عيال على معاني ابن عبد ربه وبخاصة في الحربيات. ولابن عبد ربه شعر رائق في الزهد قاله حين تقدمت به العمر، وهو لم يفعل ذلك ندمًا على ذنوب تورط في اقترافها في غمرة شبابه، فقد كان الرجل طوال عمره صاحب عفة وتصون، وإنما قال في الزهد نسكًا وطبيعة. فمن قوله في الزهد في الدنيا الأبيات الحكيمة2:   1 مطمح الأنفس "ص52". 2 معجم الأدباء "4/ 218". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ألا إنما الدنيا غضارة أيكةٍ ... إذا اخضر منها جانب جف جانب هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات إلا مصائب وكم أسخنت بالأمس عينًا قريرة ... وقرت عيون دمعها الآن ساكب فلا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب ولقد عمر ابن عبد ربه حتى الثانية والثمانين. وهو حين يصل إلى هذه السن الكبيرة يهتم ويشكو هموم الكبر وشكوى الشيخوخة، فيقول هذين البيتين الذين هما آخر ما قال من شعر: بليت وأبلتني الليالي بكرِّها ... وصرفان للأيام معتوران وما لي لا أبكي لسبعين حجة ... وعشر أتت من بعدها سنتان والزهد في شعر أبي عمر، أحمد بن عبد ربه على صدقه، وعمقه ليس مجرد أبيات أو مقطعات قالها معبرًا عن هموم شيخوخته واسترخاص دنياه، وإنما كان للرجل مذهب فريد في هذا الضرب من الشعر. فقد أنشأ عديدًا من القصائد أطلق عليها الممحصات، وذلك أنه محص شعر شبابه بأن نقض كل قطعة قالها هناك في صباه في الصبابة والغزل بقطعة أخرى من بحرها وقافيتها في المواعظ، وهو مذهب لم يسبق إليه على قدر علمنا في مثل تلك الصورة. وإذا كان لنا أن نتمثل لهذا النوع من شعر ابن عبد ربه، فهذه مقطوعة قالها في بعض من أحب وكان أزمع على الرحيل في غداة بعينها فأتت السماء في تلك الغداة بمطر غزير حالت دون رحيل ذلك الذي أحب فكتب أبو عمر ابن عبد ربه يقول1: هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر؟ ... هيهات! يأبى عليك الله والقدر   1 معجم الأدباء "4/ 216". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ما زلت أبكي حذار البين ملتهفًا ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر يا بردة من حيا مزنٍ على كبر ... نيرانها بغليل الشوق تستعرُ آليت ألا أرى شمسًا ولا قمرًا ... حتى أراك فأنت الشمس والقمرُ ويكتب شاعرنا أبو عمر ممحصة لقصيدته هذه ملؤها المواعظ وفيضها الزهد فيقول1: يا قادرًا ليس يعفو حين يقتدر ... ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر عاين بقلبك إن العين غافلة ... عن الحقيقة واعلم أنها سقر سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت ... للظالمين فما تبقى وما تذر لو لم يكن لك غير الموت موعظة ... لكان فيك عن اللذات مزدجر أنت المقول له ما قلت مبتدئا ... هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر؟ ولعلنا لاحظنا أن المصراع الثاني من البيت الأخير في الممحصة، هو نفسه المصراع الأول من البيت الأول في قصيدة الغزل التي محصها بهذه المواعظ الشعرية الزهدية النفيسة. هذا هو أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الشاعر الكبير الرقيق المبدع ذو العبارة الأنيقة واللفظة المنتقاة والمعنى المختار والقوافي الموقعة، والقصائد الكثيرة الوفيرة الرائقة الشائقة في مختلف موضوعات الشعر وأغراضه. لقد وصف ابن عبد ربه الحرب قبل وصف المتنبي لها، فقال من جملة قصيدة هذه الأبيات في تصوير الموقعة2: ومعترك ضنك تساقت كماته ... كؤوس المنايا من كلى ومفاصل   1 المصدر "4/ 223، 224". 2 يتيمة الدهر "2/ 76". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 يديرونها راحًا من الراح بينهم ... ببيضٍ رقاقٍ أو بسمرٍ ذوابل وتسمعهم أم المنية وسطها ... غناء صهيل البيض تحت المناصل إن الرجل قد جعل من وصف الحرب على فظاعتها معزوفة موسيقية ولكنها موسيقى دامية، وهي مقدرة لم تتوفر لغيره. إنه يستعمل الصيغ النحوية في شعره ولكن لا يفسد بها شعره، كما فعل المتنبي بعد ذلك تقليدًا له فلم يحسن التقليد، يقول ابن عبد ربه1: يا من يجرد من بصيرته ... تحت الحوادث صارم العزم رعت العدو فما مثلت له ... إلا تفزع منك في الحلم أضحى لك التدبير مطردًا ... مثل اطراد الفعل للاسم رفع العدو إليك ناظره ... فرآك مطلعًا مع النحم إن البيت الثاني مأخوذ من قول أشجع السلمي في الرشيد: وعلى عدوك يا ابن عم محمد ... رصدان: ضوء الشمس والإظلام فإذا تنبه رعته، وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام وأما البيت الثالث فإن المتنبي قد اقتبس ما فيه من تعريفات نحوية في كثير من مدائحه لسيف الدولة في مثل قوله: إذا كان ما تنويه فعلًا مضارعًا ... مضى قبل أن تُلقى عليه الجوازمُ وإذا كان الحديث، عن ابن عبد ربه الشاعر ليس هذا مجاله بل مجرد إثبات شاعريته والتمثل لها فلننتقل إذن إلى ابن عبد ربه العالم المؤلف.   1 المصدر "2/ 75". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الفصل الثاني: العقد الفريد : أسلفنا القول في التمهيد لهذا الباب من كتابنا أن كتاب العقد الفريد نال حظًّا وافرًا من الشهرة لم يشاركه فيها إلا كتاب الأغاني للأصبهاني، وهو قول حق في كتاب يعتبر الأول من نوعه في الأندلس من حيث الإفاضة والشمول والتنوع وكثرة التمثل، عن أدب قومه المشارقة. وإذا كان "العقد الفريد" و "الأغاني" يعتبران أشهر كتابين في الأدب على الرغم من أن أولهما كتب في الأندلس، والثاني كتب في العراق، فإن للعقد كمؤلف أندلسي في الأدب عامة وأدب المشارقة خاصة، منافسًا في الشهرة ألف في المكان نفسه الذي ألف فيه العقد وهو كتاب: الأمالي لأبي علي القالي، الذي يجيء ذكره وذكر كتابه في باب "الأمالي" من أبواب هذا الكتاب. وإن الفارق الزمني بينهما غير بعيد، فقال: دخل أبو علي القالي قرطبة ضيفًا على عبد الرحمن الناصر عام 330 هـ أي بعد وفاة ابن عبد ربه بعامين اثنين، وما لبث أن أملى كتابه النفيس الذي عرف بـ"الأمالي". غير أن لكل من الكتابين مذاقه الخاص به وموضوعاته المتميز بها. فالعقد موسوعة أدبية اجتماعية تاريخية إخبارية ناعمة سهلة، والأمالي موضوعات لغوية منبثقة من خلال نصوص أدبية مع أخبار ونوادر حسبما نقدمها تفصيلًا في باب كتب الأمالي. فإذا ما عرضنا لكتاب ابن عبد ربه من عنوانه وجدناه صورة من صاحبه، فالتسمية تسمية ناعمة "العقد الفريد" جمعت إلى خيال الشاعر واقع الأدب. وقد قصد المؤلف إلى هذه التسمية قصدًا، فهو قد تصور كل باب من أبواب الكتاب جوهرة من جواهر العقد في جيد الحسناء، وعقد الحسناء يتكون من خمس وعشرين حبة ثمينة، لكل واحدة منها اسم في اللغة والعرف. وأثمنها عادة هي الحبة الوسطى التي يكون عن يمينها اثنتا عشرة حبة وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 يسارها مثلها، والحبة الوسطى تسمى الواسطة، ومن هنا شبه كل شيء نفيس بين أقرانه بواسطة العقد أي الأفضل بينهم، فإذا تصورنا عقدًا في جيد حسناء إن أثمن حبة فيه هي الواسطة، وكل حبة عن اليمين أو عن اليسار هي على الترتيب: المجنبة، ثم العسجدة، ثم اليتيمة، ثم الدرة ثم الزمردة، ثم الجوهرة، ثم الياقوتة، ثم المرجانة، ثم الجمانة، ثم الزبرجدة، ثم الفريدة، ثم اللؤلؤة، وعلى هذا النسق إذا أردنا أن نتصور العقد بشكل أوضح تكون كل من الحبتين الأوليين في طرفي العقد لؤلؤة، والحبتين اللتين تليانهما الفريدة، وهكذا حتى نصل إلى الواسطة. وابن عبد ربه كصاحب مؤلف ضخم قضى في تأليفه، وجمعه وتنسيقه وتبويبه سنوات طوالًا، لم يفته شأن كل مؤلف عربي نابهٍ أن يقدم لقارئه منهاج كتابه. وهو منهج يخضعه صاحبه للمنطق العلمي ويقنع به القارئ ويتلمس لذلك الأسباب من قول الحكماء والبلغاء ضاربًا المثل بأقوال لجعفر البرمكي الأديب الأريب، وكلثوم بن عمرو العتابي الحكيم البليغ. ويورد ابن عبد ربه أخباره ورواياته من دون إسناد في أكثر الأحيان. ويتوقع أن ذلك النهج سوف يثير تساؤلات القارئ اللبيب الحصيف؛ لأن العرب قد ألفوا أن يردوا كل حديث إلى مصدره وكل خبر إلى منبعه عن طريق الإسناد الصحيح، فيعد المؤلف إجابة بادية التعليل على هذا التساؤل المتوقع. وهكذا نلمس في الرجل منهج العالم وذكاء الأديب، فلنستمع إليه يقدم كتابه وموضوعاته على النهج الذي رسمه والوضع الذي اختاره والنسق الذي تصوره1: "وقد ألفت هذا الكتاب وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الأخبار، وفضل الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش في صدر كل كتاب، وأما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله وقال الشاعر: قد عرفناك باختيارك إذا كا ... ن دليلا على اللبيب اختياره وقال أفلاطون: عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم. فتطلبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال، ثم قرنت كل جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابًا على حدته، ليستدل الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كل باب.   1 العقد الفريد "1/ 2-6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرًا، وأظهرها رونقًا، وألطفها معنى، وأجزلها لفظًا، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة، آخذًا بقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} . وقال يحيى بن خالد: الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون ويتحدثون بأحسن ما يحفظون. وقال ابن سيرين: العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كل شيء أحسنه. وفيما بين ذلك سقط الرأي، وزلل القول، ولكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة. وفي بعض الكتب: انفرد الله تعالى بالكمال، ولم يبرأ أحد من النقصان. وقيل للعتّابي: هل تعلم أحدًا لا عيب فيه؟ قال: إن الذي لا عيب فيه لا يموت أبدًا، ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة. وقال العتابي: من قرض شعرًا أو وضع كتابًا فقد استهدف للخصوم واستشرف للألسن، إلا عند من نظر فيه بعين العدل، وحكم بغير الهوى، وقليل ما هم. وحذفت الأسانيد من أكثر الأخبار طلبًا للاستخفاف والإيجاز، وهربًا من التثقيل والتطويل؛ لأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد باتصاله، ولا يضرها ما حذف منها. وقد كان بعضهم يحذف أسانيد الحديث من سنة متبعة، وشريعة مفروضة، فكيف لا نحذفه من نادرة شاردة، ومثل سائر، وخبر مستطرف، وحديث يذهب نوره إذا طال وكثر. سأل حفص بن غياث الأعمش عن إسناد حديث. فأخذ بحلقه وأسنده إلى حائط وقال: هذا إسناده! وحدث ابن السماك بحديث، فقيل له: ما إسناده؟ فقال: هو من المرسلات عرفًا. وروى الأصمعي خبرًا، فسئل عن إسناده. فقال: هو من الآيات المحكمات التي لا تحتاج إلى دليل وحجة. وحدث الحسن البصري بحديث، فقيل له: يا أبا سعيد، عمن؟ قال: وما تصنع بعمن يا ابن أخي؟ أما أنت فنالتك موعظته، وقامت عليك حجته. وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة فوجدتها غير متصرفة في فنون الأخبار، ولا جامعة لجمل الآثار، فجعلت هذا الكتاب كافيًا شافيًا جامعًا لأكثر المعاني التي تجري على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 أفواه العامّة والخاصة، وتدور على ألسنة الملوك والسوقة، وحليت كل كتاب منها بشواهد من الشعراء تجانس الأخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها، وقرنت بها غرائب من شعري، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته، وبلدنا على انقطاعه، حظًّا من المنظوم والمنثور. وسميته كتاب "العقد الفريد" لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السلك وحسن النظام، وجزأته على خمسة وعشرين كتابًا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءًا في خمسة وعشرين كتابًا. وقد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد، فأولها: كتاب اللؤلؤة في السلطان. ثم كتاب الفريدة في الحروب ومدار أمرها. ثم كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد. ثم كتاب الجمانة في الوفود. ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك. ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب. ثم كتاب الجوهرة في الأمثال. ثم كتاب الزمردة في المواعظ والزهد. ثم كتاب الدرة في التعازي والمراثي. ثم كتاب اليتيمة في النسب وفضائل العرب. ثم كتاب العسجدة في كلام الأعراب. ثم كتاب المجنبة في الأجوبة. ثم كتاب الواسطة في الخطب. ثم كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة. ثم كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم. ثم كتاب اليتمية الثانية في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة. ثم كتاب الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم. ثم كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه. ثم كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ثم كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه. ثم كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن. ثم كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين. ثم كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان وتفاصيل البلدان. ثم كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب. ثم كتاب اللؤلؤة الثانية في النتف والهدايا والفكاهات والملح. وإذا غضضنا النظر عن الدرر والجواهر التي جعل المؤلف من كل واحدة منها عنوانًا لموضوع من موضوعات كتابه، فإننا يمكن أن ننتهي إلى القول بأن الكتاب موسوعة ثقافية عربية كبيرة تشمل الفنون الأدبية والفكرية على النحو الآتي: أولًا:- الشعر بمختلف موضوعاته، كل قصيدة أو مقطوعة يذكرها المؤلف حسب الغرض الذي استهدفه من التمثل بها، وهو يختار نماذجه بعناية فائقة يعمل فيها ذوقه الفني كشاعر صاحب إجادة وامتياز، هذا وكثير من فصول الكتاب يكاد الشعر يكون العنصر الأساسي في تكوينها كما هو الحال في "كتاب الفريدة" الذي خصصه للحرب، وهي مجال رحيب للتمثل بشعر الحماسة والمواقع الحربية. ولا يكتفي ابن عبد ربه في هذا المجال بالنماذج الكثيرة التي يوردها لكبار الشعراء، وإنما يتمثل بشعره أيضًا قائلًا: "ومن قولنا في وصف الرمح"، أو "ومن قولنا في وصف الفرس" وغير ذلك من الموضوعات التي كتب فيها بحيث جعل من كتابه بستانًا في جنباته أزاهير شعره وأبكارها. بل إنه يخص الشعر بأكثر من دراسة في أكثر من باب. ويبدو ذلك واضحًا في كتاب الزمردة الثانية الذي جعله في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، وكتاب الجوهرة الثانية الذي جعله في أعاريض الشعر وعلله وقوافيه. فالمؤلف والحال كذلك لم يجعل من الشعر وسيلة استشهاد وأداة تمثل، وغاية إطراف وحسب. وإنما قدم عنه دراسة نقدية فنية عروضية. كما صنع دراسة مفصلة لأوزان الشعر والعروض وزحافاته وعلله وقوافيه بشيء من التوسع، وألحق بها أرجوزة طويلة مشتملة على أصول علم العروض، ثم أتبعها بنماذج لكل بحر من بحور الشعر1. ثانيًا:- الخطابة، وهي تتمشى في كيان الكتاب وجوهره وفي مواضع كثيرة كل في مكانها من فصول الكتاب، هذا فضلًا عن الحشد الكبير من الخطب التي زين بها ابن عبد ربه   1 العقد "5/ 424-518". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أعطاف عقده وركز عليها في "واسطة" العقد، فخصص الواسطة كلها للخطب، لقد استهله بخطبة الوداع للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ثنى بعدد من خطب الخليفة أبي بكر الصديق، وقدر مماثل لها للفاروق عمر، وخطبة واحدة قصيرة للخليفة عثمان -إذ لم يكن له كبير مشاركة في الخطابة- ثم أورد عددًا كبيرًا من خطب الإمام علي بن أبي طالب، وخطبًا كثيرة لكل واحدة من ملوك بني أمية وقوادهم، وأخرى كثيرة لملوك بني العباس، ثم عرج على خطب من عرفوا بالفصاحة والإبانة من العرب والمسلمين فتمثل لكل منهم بخطبة أو أكثر مثل أم المؤمنين عائشة وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير. وجعل فصلًا من "الواسطة" لخطب الخوارج، وأمر لخطب الزواج، وغيره لخطب الأعراب. ثالثًا: ويلقى النثر عناية كبرى من المؤلف، فيهتم بالكتابة وأدواتها من أقلام وحبر وصحف، وعن الكتاب وصفاتهم، وما ينبغي أن يتحلوا به من كريم الشمائل. هذا فضلًا عن النماذج الكثيرة التي يتضمنها "العقد" في أماكن عديدة، فضلًا عما جمعه في كتاب التوقيعات والفصول، وهو بهذه المناسبة لا يكاد ينسى علمًا من أعلام الخلفاء والملوك والوزراء والقواد والكتاب إلا وجاء لهم بالعديد من التوقيعات البليغة الرائعة. هذا -ومع الإضافة في إيراد نماذج النثر- لا يغفل ابن عبد ربه عن ذكر تاريخ الكتابة ونشأتها. رابعًا: على أن الأدب بفروعه المختلفة وموضوعاته العديدة يشكل السمة الأصيلة الشاملة في الكتاب من أوله إلى آخره تقريبًا، نجدها في فصل السلطان، وفصل الأجواد، وفصل الوفود، وفصل مخاطبة الملوك، وفصل المواعظ، وفصل التعازي والمراثي، وفصل الخطب وفصل الوقيعات والصدور وأخبار الكتبة -وقد سلف الحديث عنهما- وفصلي الشعر، بل إنه خصص فصلًا كاملًا رائعًا في العلم والأدب هو "كتاب الياقوتة". خامسًا: نال التاريخ العربي والإسلامي اهتمامًا كبيرًا في أكثر صفحات "العقد" ومن خلال موضوعاته، بل لقد أنشأ المؤلف فصولًا متكاملة يصلح كل منها؛ لأن يكون كتابًا في التاريخ الإسلامي. إن كتاب اللؤلؤة في السلطان، والجمانة في الوفود، والعسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم، واليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة والدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم، إن هذه الفصول جميعًا تشكل سجلًا دقيقًا راقي المنهج للتاريخ الإسلامي في فترات متلاحقة من أحقابه، بل ربما زاد على كتب التاريخ التقليدية بما أورد من أخبار حول أحداث اجتماعية وجوانب شعبية لم نألف التعرف إليها إلا عند الثقة من صفوة المؤرخين العرب. وعلى الرغم من أن الكتاب اهتم بالمشرق اهتمامًا كليًّا، فإنه لم يهمل تاريخ الأمراء الأمويين في الأندلس ابتداء من عبد الرحمن بن معاوية الذي لقب بالداخل وانتهاء بعبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الرحمن بن محمد الذي عرف بعبد الرحمن الناصر، وهو الملك الذي مات المؤلف إبان حكمه. بل إنه زاد على ذلك بأن أرخ لعبد الرحمن الناصر وحروبه ووقائعه ومغازيه حتى سنة 332 هـ في أرجوزة مفرطة الطول زادت على الأربعمائة وخمسين بيتًا1. سادسًا: اهتم الكتاب بالعرب وأنسابهم وأمثالهم، وهما العدة الأولى لمن يريد أن يلج باب الدراسات العربية من مدخله الصحيح، فعقد بابًا كاملًا هو كتاب الجوهرة وخصصه للأمثال، وليس المقصود بالأمثال هنا تلك الأمثال التي تضرب للأمر في المناسبات بعينها وإنما هناك التمثل للمعاني والقيم، وهذا الباب بما جمع من شعر وبلاغة من الثراء والنفاسة بمكان، وبابًا آخر كاملًا هو كتاب اليتيمة وخصصه لنسب العرب وفضائلهم، وقد ذكر في هذا الباب أكثر من مائتين من أسماء القبائل والبطون والأفخاذ والرهوط والبيوتات في سعة وإفاضة، كما اهتم بكلام العرب في باب كامل طريف هو كتاب العسجدة وجعله في كلام الأعراب. ويمكن أن ندرج تحت هذا الموضوع بابًا سبقت الإشارة إليه عند الحديث عن التاريخ هو كتاب الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم. ومن ثم فإن للعرب نسبًا وأيامًا وثقافة ولهجات موضعًا رحيبًا في العقد الفريد. سابعًا: نالت الأخلاق والزهد والتدين نصيبًا لا بأس به في العقد، ففي كتاب الأمثال فصل نفيس عن الأمثال في مكارم الأخلاق، والأمثال في القربى، وإن فصل الزهد بأكمله يدعو إلى التدين ومعرفة الله مليء بالأدعية الصالحة، وهو بعيد كل البعد عن التشجيع على ترك الدنيا تمامًا وإنما يضع المعايير الطيبة للحياة الصالحة مع قدر من المعرفة بالزهد وحياة بعض الزهاد. هذا والفصل الخاص بالتعازي من كتاب التعازي والمراثي لمما يؤنس وحشة المحزون ويرد الجزع إلى رحاب الهدوء والسلو والاطمئنان، كما أن كلا من باب الأجواد وباب مخاطبة الملوك يحتوي على الكثير من نماذج نقاء السلوك والأريحية، وحسن التعامل مع الناس والمجتمع. ثامنًا: لم يهمل العقد الإمتاع النفسي والتسرية عن القارئ الذي ينشد القراءة الخفيفة لسلوى ينشدها، أو هم يزيحه، فأنشأ ثلاثة أبواب لطيفة أحدها في الألحان، وهو كتاب الياقوتة الثانية عرض فيه للألحان وأعذبها ورأي الدين فيها، كما عرض لنوادر المغنين وبعض المغرمين بالسماع وأخبار القيان وأعذب ما تغنى به الشعر، والكتاب الفكه الثاني هو كتاب الجمانة الثانية جعله المؤلف عن المجانين والبخلاء الطفيليين وأخبارهم وسلوكهم وحوادثهم وظرفهم، وهي صفحات تدفع الكثير من الهموم عن نفس قارئها. ولم   1 العقد "4/ 500 - 527". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ينس ابن عبد ربه أن يضمن هذا الباب أشهر رسالة كتبت في البخل، وهي رسالة سهل بن هارون التي أنشأها مكيدة في العرب الذين اشتهروا بالكرم فدفعت به شعوبيته وحقده عليهم إلى كتابه رسالة في تمجيد البخل1. والباب الثالث في الفكاهة، هو آخر كتاب في لآلئ العقد، إنه كتاب اللؤلؤة الثانية وقد جمع فيه ابن عبد ربه أشتاتًا من الفكاهات والأخبار المضحكة والنوادر الطريفة وأكثرها حدث لأعلام معروفين أو جرى لهم، ولا ينسى ابن عبد ربه أن يطرز حواشي هذا الباب كما يفعل دائمًا كلما سنحت له الفرصة أو ساعده المنهج بالأبيات اللطيفة والمقطوعات الطريفة من عذب الشعر ومختاره. تاسعًا: وهذه الفقرة من تقديمنا للعقد الفريد تتصل بالثقافة العامة التي استهدفها صاحب الكتاب في بعض أبوابه، والحق أنه لا يخلو باب من أبواب الكتاب الخمسة والعشرين وما يتفرع عن كل باب من فصول من كل لون من ألوان الثقافة العامة رغم العمد إلى التخصص الدقيق في الموضوع نفسه، غير أن هناك أكثر من باب من أبواب الكتاب يمكن أن ننسب إلى المؤلف أنه حين كتبها كان يقصد إلى ما يمكن أن يسمى الثقافة الاجتماعية أكثر مما يقصد إلى الثقافة الموضوعية، فمن ذلك النسق مثلًا الباب الذي كتبه في طباع الإنسان وسائر الحيوان وتفاضل البلدان، وهو الذي أطلق عليه "كتاب الزبرجدة الثانية" إنه يتحدث فيه عن النفس والدار واللباس والتزين والتطيب والمشي والركوب ويتحدث عن الحيوان من خيل وبغال وحمير وعن السباع والطير والأنعام، ويتحدث عن مصايد الطير ومصايد السباع، وينحو منحى جغرافيًّا تاريخيًّا حين يتحدث عن بعض الأقطار مثل العراق والشام والجزيرة ومصر وفارس، ويتحدث عن المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، ثم ينتقل فجأة إلى الحديث عن الطب والحجامة والتعويذ والرقي والسم والسحر والعين والحسد. ومن أبواب الثقافة الاجتماعية في "العقد" كتاب "الفريدة الثانية في الطعام والشراب، وهذا الباب على طرافة عرضه ومحتواه يكاد يكون كتابًا في الصحة العامة" بلغة دراسة الطب في عصرنا الحاضر مع عرض لبعض أنواع الأطعمة التي يقبل عليها من يهتمون بالأكل ويغرمون بلذيذ الطعام. وما دام الشراب يشكل قسمًا من هذا الباب فإن المؤلف يتحدث عن الخمر وبعض الأخبار عمن حد من الأشراف في شربها، والفرق بين الخمر والنبيذ -حسب رأيه ورأي غيره- ومناقضة ابن قتيبة قوله في الأشربة، ويعارض أقواله من خلال منطق النقاش أكثر منه من خلال التحليل والتحريم2. ويكاد   1 العقد "6/ 200". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 يقصر ابن عبد ربه حديثه هذا الذي يختص بالشراب على النبيذ، ومن حلل شربه وحجته، ومن حرم شربه وحجته، ويورد رسالة عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار في الأنبذة. ويمكن أن نعد كتاب "المرجانة الثانية" في النساء واحدًا من أبواب الثقافة الاجتماعية، فقد ضم الكثير من أخبارهن وصفاتهن ومكرهن وغدرهن والسرية والهجناء، وإن كان هذا الباب قد ضم أحيانًا من فحش القول ما كان يجمل برجل كابن عبد ربه أن يترفع عن ذكره. هذا عرض سريع موجز للكتاب العظيم النفيس الفريد "العقد الفريد". ولكن يبقى لنا ملاحظتان على جانب كبير من الأهمية تقتضينا أمانة البحث العلمي أن نعرض لهما في إيجاز: أولًا: إن ابن عبد ربه وإن كان قد قسم "العقد" إلى خمسة وعشرين كتابًا يحمل كل منها اسم درة من درر عقد الجيد، فإن ذلك لا يعني أنه لم يتأثر إن لم يكن نقل عن العالم المشرقي الجليل ابن قتيبة منهجه في "عيون الأخبار". إن ابن قتيبة قسم "عيون الأخبار" إلى عشرة كتب، هي كتاب السلطان، كتاب الحرب، كتاب السؤدد، كتاب الطبائع، كتاب العلم، كتاب الزهد، كتاب الإخوان، كتاب الحوائج كتاب الطعام، كتاب النساء. إن هذه الأقسام بمسمياتها ولفظها قد أخذها ابن عبد ربه، وأطلقها على أهم فصول كتابه، فالكتب الستة الأولى أخذها ابن عبد ربه بمسمياتها وأطلق على كل واحد منها اسم حجر كريم من أحجار عقده، وهي على الترتيب اللؤلؤة في السلطان، الفريدة في الحروب، الزبرجدة في الأجواد والأصفاد وهي تسمية تكاد تساوي "السؤدد" في عيون الأخبار، الزبرجدة الثانية في طبائع الإنسان والحيوان، الياقوتة في العلم، الزمردة في المواعظ والزهد، الفريدة الثانية في الطعام والشراب، المرجانة الثانية في النساء، بقي كتابان في عيون الأخبار هما كتاب الإخوان وكتاب الحوائج لم ينقلهما ابن عبد ربه نصًّا ولكنه ضمن موضوعاتهما أبواب كتابه. إن ابن عبد ربه عظيم، وكتابه كتاب عظيم، وفيه إضافات وشمول وتناول وأخبار تزيد كثيرًا على ما عند ابن قتيبة، ولكن أمانة العلم كانت تقتضيه أن يشير في مقدمة كتابه، أو في ثناياه إلى أنه استنار بمنهج ابن قتيبة في عيون الأخبار بل استعاره منه، ولكنه لم يفعل، وهذا عيب كبير في دنيا العلم، وهو عوضًا من أن يثني عليه كان يخطئه وينال منه كلما سنحت له المناسبة بذلك، تمامًا كما فعل الأندلسي ابن شهيد حين أخذ هيكل قصته -   1 العقد "6/ 354-356". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 التوابع والزوابع- وفكرتها ومنهجها من إحدى مقامات بديع الزمان -المقامة الإبليسية- بل انتفع بمقامات أخرى غير المقامة الإبليسية، كالمقامة المضيرية، والجاحظية، والحمدانية والبغدادية، انتفع بالفكرة وقلد الأسلوب تقليدًا ولكنه أي ابن شهيد لم ينكر على بديع الزمان فضله وحسب، بل حمل عليه وحاول أن ينال من قدره في "توابعه وزوابعه" وهو خلق بعيد عن روح الأمانة العلمية تمنينا لو أن رجلًا عظيمًا كابن عبد ربه قد نأى بنفسه عنه، ورحم الله الحريري العالم العظيم حين استهل مقاماته بذكر الفضل ونسبته إلى صاحبه المبتكر الأول لفن المقامات ومنشئها بديع الزمان الهمذاني. ثانيًا: ذكر أكثر من مؤرخ من مؤرخي ابن عبد ربه أن الصاحب بن عباد سمع عن العقد الفريد فما زال يسعى في طلبه حتى حصل على نسخة منه وما إن اطلع عليها حتى قال: هذه بضاعتنا ردت إلينا، فقد ظن أن الكتاب يشتمل على أخبار الأندلس وأدبها فإذا به يشتمل على أخبار المشرق وأدبه. إن الصاحب بن عباد كان معروفًا بالغلو في أحكامه، بل في أسجاعه، فقد اشتهر بالحرص على السجع في القول والكتابة، وهو صاحب السجعة المشهورة: أيها القاضي بقم، قد عزلناك فقم. فلما بلغ القاضي خبر عزله قال: والله ما عزلني إلا السجعة. الصاحب إذا -وقد عرف بالمبالغة الشديدة- بالغ في الإقلال من شأن كتاب العقد الفريد، اللهم إلا إذا كان قد لاحظ على الكتاب ما لاحظناه نحن قبل قليل، وهو اغتصابه منهج عيون الأخبار، وما أظنه فطن إلى ذلك وإلا فما كان يفوته أن يذكر ذلك. وأما عبارة هذه بضاعتنا ردت إلينا، فليس العلم بضاعة تمتلك أو سلعة تباع وتشترى وإنما العلم ملك للجميع، ولقد كان الأندلسي العالم على وعي بأن بلاده في حاجة إلى علم المشرق حيث لم يكن العلم وافرًا ناضجًا متألقًا إلا في المشرق، والأندلسيون محتاجون إلى هذا العلم في زمن ابن عبد ربه وبعد زمنه، وهذا أبو علي القالي يدخل الأندلس بعد وفاة ابن عبد ربه فلا يجد من العلم ما يؤدب به القوم إلا علم المشرق وأدبه فيملي دروسه التي جمعت في كتاب مشهور كل الشهرة عرف "بالأمالي" حسبما سبق القول أكثر من مرة، وهو من عيون الكتب في العربية ولا بد أن الصاحب قد سمع به، وبامتداح العلماء له، ومع ذلك لم يقل في حقه كلمة تنال منه. هذا والصاحب نفسه هو صاحب التمجيد الغالي لكتاب الأغاني للأصبهاني حسبما سوف نوضح في الفصل التالي، وقال عنه: إنه كان يستغني به عن مكتبة كاملة، مع أن الأغاني قد جمع بين الغث الموغل في التدني، والسمين النفيس، ولبس العقد كذلك، فالعقد يعتمد على العلم الجاد في معظمه، والأغاني يعتمد على القيان والغرائز بنسبة يمكن القول إنها أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 من كبيرة. هذا فضلًا عن أن العقد حوى الكثير من فيض خواطر ابن عبد ربه وذوب نفسه ورهافة حسه، أعني بذلك شعره العذب الرقيق الجميل، وهو من خلال العقد -أي الشعر- هدية الأندلس إلى المشرق فيما لو قبلنا من الصاحب قولته: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ولكننا لسنا بفاعلين. هاتان ملاحظتان على جانب من الأهمية راعينا في إبدائهما التجرد العلمي والنصفة في الحكم ملاحظة آخذنا من خلالها المؤلف، والأخرى دافعنا عنه من خلالها دفاعًا نحن به مقتنعون. وبعد فإن العقد الفريد عقد ثمين في جيد "العربية" حسنًا وأدبًا ونفاسة وقيمة وتراثًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الفصل الثاني: أبو الفرج الأصفهاني والأغاني كتاب الأغاني ... كتاب الأغاني لعل كتابًا من كتب العربية لم ينل حظًّا من الشهرة والذيوع والاحتفال به وإدمان القراءة له والاستفادة من مادته، كما نال كتاب الأغاني، وليس في ذلك أي غرابة، فالكتاب جدير بالشهرة قمين بالذيوع خليق بأن يستفاد منه، فهو جيد رائع يدل على ملكة التأليف الأصيلة والمثابرة الواعية وسعة الأفق وتنوع الثقافة عند المؤلف العربي. ومؤلف الأغاني شخصية بارزة من غير شك من شخصيات الفكر العربي ولكنه -شأن بعض العباقرة- فيه من الصفات وله من التصرفات ما يجعل المرء حائرًا بعض الشيء أمامه، فاسمه علي بن الحسين بن محمد المرواني الأموي وهو من نسل مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية ومع ذلك نجده شيعيًّا متحمسًا، بل إن تحمسه لتشيعه دفع به إلى تأليف كتاب حول ما تعرض له الطالبيون من عسف وعنت وقتل سماه "مقاتل الطالبين". ومن غرائبه أنه على علمه وفضله كان وسخًا قذرًا لم يغسل له ثوبًا منذ أن فصله إلى أن قطعه، وهو مع هيئته الرثة هذه كان من ندماء الوزير المهلبي القريبين إليه الخصيصين به، والمهلبي هو من نعلم أناقة وأبهة ونظافة وأسلوب حياة، ولكن المهلبي كان يحتمله لما يعلم من فضله وربما لطول لسانه، فلقد كان أبو الفرج جيد الشعر ولكنه كان أجود في الهجاء، وله في الوزير المهلبي بدائع كثيرة في مناسبات عديدة ولكن الوزير على إحسانه إليه لم يسلم من هجائه، فلقد تصور يومًا أن الوزير ينظر إليه نظرة فيها شيء من الاستخفاف -ربما لقذارته- فقال فيه1: أبعين مفتقر إلي رأيتني ... بعد الغنى فرميت بي من حالق   1 معجم الأدباء "ص13/ 100". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 لست الملوم، أنا الملوم لأنني ... أملت للإحسان غير الخالق والواقع أن الناس جميعًا -على ما يذكر ياقوت- كانوا يحذرون لسانه ويتقون هجاءه ويصبرون على مجالسه ومعاشرته، مواكلة ومشاربة على كل صعب من أمره؛ لأنه كان وسخًا في نفسه وفي ثوبه وفي نعله، إلى غير ذلك من الصور التي لا تليق بالعلماء والتي أكثر المترجمون له من ذكرها وفي مقدمتهم ياقوت الحموي صاحب معجم الأدباء والتنوخي صاحب نشوار المحاضرة، وهلال الصابي صاحب أخبار الوزير المهلبي. على أن فضل الرجل وعلمه كانا يشفعان له عند الأمراء من حكام زمانه، فكما أنه كان أثيرًا لدى الوزير أبي محمد المهلبي، كان حظيًّا أيضًا عند ركن الدولة البويهي الذي جعله واحدًا من كتابه، وكان الكاتب الكبير أبو الفضل بن العميد وزيرًا لركن الدولة كما نعلم، وكان أبو الفرج يتوقع منه أن يحترمه وأن يجله في دخوله وخروجه، فلم يفعل، ولابن العميد عذره في ذلك، فلقد كان يحفظ رسالة عبد الحميد إلى الكتاب المليئة بألوان النصح إليهم، والتي منها أن يكون الكاتب نظيفًا أنيقًا ومهندمًا ومهذبًا. وكان أبو الفرج على العكس من ذلك تمامًا على ما مر بنا، ومن ثم فلم يحفل به ابن العميد ولم يحترمه، فعمد أبو الفرج إلى أقرب سلاح إليه، وهو الهجاء وشهره في وجه ابن العميد قائلًا هذه الأبيات اللطيفة التي هي أقرب إلى التقريع والعتاب منها إلى الهجاء: مالك موفور فما باله ... أكسبك التيه على المعدم ولم إذا جئت نهضنا؟ وإن ... جئنا تطوالت ولم تتمم وإن خرجنا لم تقل مثل ما ... نقول؟ قدم طرفه قدم إن كنت ذا علم فمن ذا الذي ... مثل الذي تعلم لم يعلم؟ ولست في الغارب من دولة ... ونحن من دونك في المنسم وقد ولينا وعزلنا كما ... أنت فلم نصغر ولم تعظم تكافأت أحوالنا كلها ... فصل على الإنصاف أو فاصرم وأبو الفرج يحكي عن نفسه قصصًا عديدة تدل على أنه لم يكن يتحرز من سلوكه حتى سنة 355هـ وهي السنة السابقة على وفاته. فإذا عرفنا أنه ولد سنة 284هـ كان معنى ذلك أنه لم يكن بعيدًا عن مسارب الانحراف عن الجادة وهو في السبعين من عمره. وأخبار الأصفهاني كثيرة ومثيرة، وهو شاعر صاحب ملح وطرائف مع علية أهل زمانه كما أنه وصاف ماهر. ولعل أطرف قصائده ما كتب به إلى الوزير المهلبي يشكو الفأر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ويصف الهر1: يالِحُدب2 الظهور قعص الرقاب ... لدقاق3 الأنياب والأذناب خلقت للفساد مذ خلق الخلـ ... ق وللعيث4 والأذى والخراب ناقبات في الأرض والسقف والحيـ ... ـطان نقبًا واعيًا على النقاب آكلات كل المآكال لا تأ ... ـمنها شاربات كل الشراب آلفات قرض الثياب وقد يعـ ... ـدل قرض القلوب قرض الثيباب زال5 همي منهن أزق6 تركـ ... ـي السبالين أنمر7 الجلباب ليت غاب خلقًا وخلقًا فمن لا ... ح لعينه خاله ليث غاب ناصب طرفة إزاء الزوايا ... وإزاء السقوف والأبواب ينتضي الظفر حين يظفر للصيـ ... ـد وإلا فظفره في قراب9 لا يرى أخبثيه10 عينا ولا يعـ ... ـلم ما جنتاه غير التراب   1 معجم الأدباء "13/ 106، 107". 2 يا للاستغاثة وحدب الظهور جمع أحدب، والهر إذا تنمر رفع ظهره، والقعص جمع أقعص: وهو معوج العنق. 3 أي يستغيث بالقطط من الفيران. 4 أي الفساد. 5 أي زاله عن مكانه لغة في أزال. 6 أي هر أزرق، والسبالان، أي طويل السبالين. والأتراك تطيلهما. 7 أي ذو جلد كجلد مرقط مخطط. 8 أي يثب. 9 هو غمد السيف، أي يبرز أظفاره من غلفها عند الصيد، ويدخلها في غلافها بعد. 10 أي البول والثقل؛ لأنه يحفر ويواريهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قرطقوه1 وشنفوه وحلو ... هـ أخيرًا وأولًا بالخضاب فهو طورًا يمشي بحلي عروسٍ ... وهو طورًا يخطو على عناب حبذا ذاك صاحبًا وهو في الصحـ ... ـبة أوفى من أكثر الأصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مؤلفات أبي الفرج : لقد عاش أبو الفرج الأصبهاني اثنتين وسبعين سنة، فقد ولد سنة 284هـ، وتوفي سنة 356، ولكنها سنوات حافلة بالتأليف والجد في سبيل التحصيل العلمي، ويكفي أن المدة التي استغرقها تأليف كتاب الأغاني كانت خمسين سنة، غير أن السنوات الخمسين لم تكن كلها في تأليف الكتاب وحده، وإنما كانت جمعًا لمادته وتنسيقًا لموضوعاته في فترات متقاربة حينًا، متباعدة أحيانًا، بحيث استطاع أن يقدم آثاره الأخرى الوفيرة التي أحصاها المترجمون فإذا هي خمسة وعشرون كتابًا بالإضافة إلى "الأغاني" وهي: 1- مجرد الأغاني. 2- التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها "وقيل في مآثر العرب ومثالبها". 3- مقاتل الطالبيين. 4- أخبار القيان. 5- كتاب الإماء الشواعر. 6- كتاب المماليك الغرباء. 7- كتاب أدباء الغرباء. 8- كتاب الديانات. 9- كتاب تفضيل ذي الحجة. 10- كتاب الأخبار والنوادر. 11- كتاب أدب السماع. 12- كتاب أخبار الطفيليين.   1 أي أن هواة القطط يلبسونها القرطق والشنف ويخضبونها، والقرطق: قباء ذو طاق واحد. والشنف: ما يعلق من الحلي في أعلى الأذن وأما ما يعلق في أسفلها فقرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 13- كتاب مجموع الأخبار والآثار. 14- كتاب الخمارين والخمارات. 15- كتاب الفرق والمعيار في الأوغاد والأحرار "رسالة عملها في هارون بن المنجم صاحب كتاب البارع". 16- كتاب دعوة النجار. 17- كتاب أخبار جحظة البرمكي. 18- كتاب جمهرة النسب. 19- كتاب أيام العرب، ذكر فيه ألفًا وسبعمائة يوم. 20- كتاب نسب بني عبد شمس. 21- كتاب نسب بني شيبان. 22- كتاب نسب المهالبة. 23- كتاب نسب بني ثعلب. 24- كتاب الغلمان المغنين. 25- كتاب مناجيب الخصيان. إن صاحب معجم الأدباء بعد أن يذكر هذا الحشد من المؤلفات يقول: "وله تصانيف أخرى جياد كان يصنفها، ويرسلها إلى المسئولين على بلاد المغرب، يقصد الأندلس من بني أمية، وهما الناصر وابنه المستنصر. هذا ويذكر للأصبهاني غير ما ذكر ياقوت من الكتب كتاب الديارات وكتاب الحانات. وإن نظرة إلى نوعية تأليف الأصبهاني، تدل على أن الرجل كان من أعلام المعرفة من تاريخ وأنساب وسير وأعلام ولغة ومغاز وغناء وقيان، ولكنه قد خصص نفسه فيما يبدو في أمور الإماء والقيان، والسماع، والخمر، ودرس كل ما يتعلق بهذه الفنون ودون كل ما يتصل بها سواء أكان ذلك في كتابه "الأغاني" أو في عدد كبير من الكتب العديدة التي مر ذكرها والتي تحمل العناوين الدالة على ذلك، هذا بالإضافة إلى كون الأصبهاني راوية نسابة على ما هو واضح من كتبه أنساب القبائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 قيمة كتاب الأغاني ومنهجه : مر بنا أن كتاب الأغاني يعتبر أوسع كتب الأدب العربي شهرة وأوفرها حظًّا وأكثرها تداولًا على ألسنة المتأدبين، لضخامته مبنى وحجمًا، ونفاسته قيمة ومحتوى. ومر بنا أيضًا أن صاحبه أبا الفرج الأصبهاني ألفه في خمسين سنة، وتتركز الروايات حول إهدائه إياه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 لسيف الدولة الحمداني أمير حلب1، وأن سيف الدولة بعث إليه بألف دينار، ويستقل الرواة هذا المبلغ؛ لأن سيف الدولة الذي عرف بإكرام الشعراء والأدباء والعلماء، كان ينبغي أن يقدر هذا العمل العلمي الجليل، وأن يوفيه ما يستحق من جائزة تكون أضعافًا مضاعفة لهذا المبلغ الضئيل بالنسبة للوزن العلمي للكتاب. وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح فإنها قد فجرت انتباه صفوة العلماء والأعيان ممن كانوا معاصرين للأصبهاني أو ممن جاءوا بعده إلى قيمة الكتاب، فذكروا فضله وأوفوه حقه وزيادة، بما يربو على أي مبلغ يمكن أن يمنحه سيف الدولة للمؤلف فيما لو كانت قصة الإهداء والألف دينار كاملة الصحة. إن القصة حينما تبلغ الصاحب بن عباد وزير عضد الدولة بن بويه، وكل من الوزير والأمير أديب عالم، يقول: لقد اشتملت خزائني على مائتي ألف وستة آلاف كتاب، ما منها ما هو سميري غيره ولا راقني منها سواه2. وكتاب الأغاني -فما يذكر أبو القاسم، عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة- لم يكن يفارق عضد الدولة في سفره ولا في حضره، وأنه كان جليسه الذي يأنس إليه، وخدينه الذي يرتاح نحوه. وتتكرر قصة الألف دينار واستصغار القيمة والثناء على الكتاب عند أكثر من ترجم للأصفهاني من المؤرخين أو الأدباء أمثال ابن منظور في مختصره "مختار الأغاني في الأخبار والتهاني" والعيني في "عقد الجمان" وطاشكبري زاده في كتابه "مفتاح السعادة"، وأطرى الكتاب وأفضله على جميع الكتب التي احتوتها خزائنه وإن اختلفوا في تقدير عددها، فمن قائل إنها كانت مائتي ألف وستة آلاف كتاب ومن قائل إنها كانت مائة ألف وسبعة عشر ألف سفر، وقائل آخر إن الصاحب كان يستصحب حين يسافر ثلاثين جملًا محملة بالكتب فلما وصل إليه "الأغاني" استغنى به عنها. إن الكتاب من حيث قدره يعتبر كنزًا لا يسهل تثمينه، وهو أمر متفق عليه حتى عند من لم يكونوا متوفرين على الأدب توفرًا كاملًا مثل أبي تغلب بن حمدان -ابن أخي سيف الدولة   1 يرى الدكتور محمد أحمد خلف الله في كتابه "صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية" أن سيف الدولة الذي أهدى إليه الأصفهاني كتابه "الأغاني" ليس بسيف الدولة الحمداني وإنما هو سيف الدولة أبو الحسن صدقة، وجاء في صدد تعليله هذا بحجج لا تخلو من وجاهة، وهي جديرة بالمناقشة والوقوف عليها "انظر الكتاب ص90-93". 2 معجم الأدباء "13/ 97". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فقد بعث عرس الموصلي يبحث له عن نسخة منه فاشتراه له بعشرة آلاف درهم من صرف 18 درهم بدينار -وهي مجرد نسخة وليست الأصل- فلما وقف عليه ورأى عظمته وجلال ما حوى، قال: لقد ظلم وراقه المسكين وإنه ليساوي عنده عشرة آلاف دينار، ولو فقد لما قدرت عليه الملوك إلا بالرغائب، وأمر أن تكتب له نسخة أخرى. لقد شغل الكتاب الناس شغلًا كبيرًا حتى بدا أن السبب في ذلك هو تقصير سيف الدولة في جائزته للمؤلف، والواقع أن قيمة الكتاب تنبع من عظم شأنه وجلال قدره في عالم التأليف، ومن أنه شيء جديد في محتواه تنوعًا وثراء وتشعبًا وشمولًا وتخصصًا واستطرادًا. لقد جمع الكتاب مادة وفيرة مثيرة على ما سوف نبين بعد قليل. وأما رواية إهداء المؤلف الكتاب إلى الأمير سيف الدولة، وأنه لم يكتبه إلا مرة واحدة في عمره وهي النسخة التي أهداها إلى الأمير الحمداني، هي برغم أن الوزير المهلبي رواها على لسان المؤلف تبدو مغايرة للواقع، ذلك أن ياقوت الحموي يذكر أن ما أهدي إلى سيف الدولة كان منتخبات من الكتاب ولم يكن الكتاب كله. والخبر هكذا معقول، فسيف الدولة على رفعة شأنه لم يكن يليق بقدره أن يهدي إليه منتخبات من كتاب، ومن ثم فإن الألف دينار التي بعث بها إلى المؤلف تعتبر فضلًا منه، وأما النسخة الأصلية من "الأغاني" فيما يروي المقري صاحب "نفح الطيب" فقد بعث بها المؤلف إلى المستنثر الأموي الأندلسي1-وكانا ذوي قربى فكلاهما أموي- فأرسل إليه نظيرهما ألف دينار من الذهب العين، وينص صاحب نفح الطيب على أن الأصفهاني بعث إلى الملك الأندلسي بنسخة من كتابه قبل أن يخرجه إلى أهل العراق، وهو رأي نميل إليه، خاصة وأن الرواية قد تكررت عند صاحب تاريخ بغداد من أن أبا الفرج كان يبعث بتصانيفه سرًّا إلى صاحب الأندلس2، ومعنى ذلك أنه أرسل مصنفات قبل الأغاني إلى عبد الرحمن الناصر، ثم إلى ابنه الحكم المستنصر، والمتتبع لسلوك أبي الفرج وسيرته يستطيع أن يرجح رأينا في إهداء الكتاب. وأما هدف الكتاب ومنهجه فهو مزيج من الموسيقى والأدب، فمن خلال الموسيقى جمع الأصوات المائة التي اختارها المغنون للرشيد، والأصوات بلغة عصرنا هي الألحان، ومن خلال الأدب حشد أبو الفرج في كتابه استطرادًا من النص الشعري الملحن اسم مغنيه وقائله وأخباره وأشعاره وبيئته وثقافته وصلاته بالناس وصورة عصره، ووصف مجتمعه إلى غير ذلك، مما سوف نعرض له بعد قليل بشيء من التفصيل. فمن ناحية الغناء، وهي الصفة الملازمة للكتاب ملازمة أبدية؛ لأن اختيار المؤلف   1 نفح الطيب "1/ 362". 2 تاريخ بغداد "13/ 382". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لعنوانه كان "الأغاني"، فإن الأصبهاني قد عمد إلى ذكر المائة صوت المختارة للرشيد، وهي التي كان قد أمر كلا من المغنين الكبار: إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامع، وفليح بن العوراء باختيارها له من الغناء الذي عرفوه. وهذه الأصوات "الألحان" المائة كانت قد رفعت بدورها إلى الواثق بن المعتصم، فرأى أن يدخل بعض التعديلات في اختيار الأصوات التي جمعت لجده، وكان مولعًا بالطرب محبًّا للموسيقى مشاركًا فيها حتى إنه صح بنفسه مائة صوت "لحن" ليس فيه صوت ساقط. إن الواثق يأمر إسحاق الموصلي أن يختار مما جمعه أبوه وزملاؤه أحسنها، ويبدل منها ما ليس جديرًا بأن يكون في المرتبة العليا من الأصوات بحيث يحصي تلك التي تجمع النظم العشر المشتملة على سائر نغم الأغاني والملاهي والأرمال الثلاثة، إلى غير ذلك من التفاصيل الموسيقية التي لا يستطيع هضمها إلا من كانت له مشاركة فعالة في الموسيقى ثقافة وعزفًا. والواقع أن الرشيد حين أمر المغنين بأن يختاروا له مائة صوت وتم له ما أرد، أمرهم بأن يختاروا عشرة منها فاختاروها، ثم أمرهم أن يختاروا أفضل ثلاثة منها فاختاروها. ولكن أبا الفرج في "أغانيه" يستفتح عمله بذكر الأصوات الثلاثة، ثم لا يلبث أن ينطلق منها صوتًا بعد صوت حتى يتم المائة إحصاء، أو بعبارة أخرى حتى يتمها تسعة وتسعين، وهي عدد الأصوات الحقيقية التي سجلها. وكتاب الأغاني فريد في بابه من حيث كونه أكبر مرجع عربي في ذكر الغناء وتاريخه وقواعده والآلات الموسيقية التي كانت على عصره أو سابقة عليه، ولكي نكون على شيء من الحرص فنحن نستثني من ذلك كتاب "الموسيقى الكبير" للفارابي، فإنه أكبر وأعظم عمل موسيقي عربي، إلا أن هناك فرقًا كبيرًا بين طبيعة الكتابين، بحيث لا يجمل الخلط بينهما ولا تحمد المقارنة. وكمصدر أعلى للغناء العربي فإن الأصفهاني يلم بكل المغنين والمغنيات وفنونهم، وأخبارهم وألحانهم في أجزاء الكتاب على سعة رقعتها، ويعرف بأول مَن دون الغناء العربي، وهو الكاتب يونس بن سليمان من أهل المدينة، الذي أخذ فنه عن الرعيل الأول من رواد الغناء العربي مثل معبد والغريض وابن سريج وابن محرز. ولقد وصل صيت يونس وفضله إلى الوليد بن يزيد، وهو من نعرف حبًّا للطرب وشغفًا بالموسيقى وإقبالًا على الملذات، فاستقدمه من المدينة وقربه إليه وظل مقيمًا في الشام عنده حتى مقتله1. وقارئ كتاب الأغاني سوف يصادف في طريقه كثيرًا من المصطلحات التي يستغلق   1 الأغاني "4/ 399". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 عليه فهمها، ذلك؛ لأنها مصطلحات موسيقية بحتة، وكلها متعلق بالعود العربي، فمن هذه المصطلحات البم والمثلث والمثنى والزير، إنها أوتار العود من أعلى إلى أسفل1. وللعب الأصابع على الأوتار أماكن ذات مسميات فنية أيضًا، منها دستان الخنصر ودستان السبابة ودستان البنصر ودستان الوسطى. ولعلنا نلاحظ أن الخنصر والبنصر والسبابة والوسطى هي الأصابع التي تتحرك بنانها على الأوتار مشدودة على عنق العود في رشاقة وانتظام، فتحرك الأنغام متى كان صاحبها ملمًّا بفنه عارفًا بأصول العزف. وسوف يصادف قارئ الأغاني وبخاصة عند الأصوات أسماء يشكل عليه أمرها حتى ليكاد ذهنه ينصرف إلى أوزان أبطال الرياضة في زماننا، مثل ثقيل أول وثقيل ثان، وخفيف الثقيل الثاني، وخفيف الخفيف، فلا عليه، إنها قوانين الغناء وهي لا تخرج عن ثمانية قوانين. إن هدف الكتاب في طبيعته حسبما ذكرنا موسيقي من ناحية الشكل العام، ولكنه في واقعة كتاب عظيم من كتب أدبنا العريق، بل إن الناحية الأدبية فيه أوسع وأشمل منها من الناحية الموسيقية، فهو والأمر كذلك لا يمكن اعتباره كتاب طبقات رغم احتوائه على هذا العدد الهائل من شعراء الجاهلية والإسلام حتى نهاية القرن الثالث الهجري، فإن تلك الفكرة لم تجر لمؤلفه على خاطر ولم تلح له على بال. إن الكتاب موسوعة أدبية فنية ثمينة. إنه ما يكاد يذكر صوتًا أي لحنًا حتى ينطلق منه ببراعة ورشاقة إلى المغني وأخباره، والشاعر وأشعاره وإن كان متصلًا بخليفة أو ملك تحدث عن هذا الملك أو ذلك الخليفة، وهو يدعم روايته بالإسناد، وإذا تعددت الروايات أثبتها على اختلافها. وفي أجزاء الكتاب العشرين وعلى سعة صفحاته تنتشر أخبار العرب وأيامهم وأنسابهم ومفاخرهم ومياههم ووصف لحياتهم الاجتماعية في أكثر من عصر وأكثر من مكان، ويركز المؤلف على مراكز الغناء وخاصة المدينة ومكة وبغداد. هذا فضلًا عن مئات التراجم وعديد السير، يضاف إلى ذلك كله تلك المجموعات الهائلة من الصور الأدبية من شعر وكتابة وخطابة وقصص ونوادر. والأصفهاني يؤلف عن دراية ويكتب عن خبرة، فهو حين ينتقل انتقالًا مفاجئًا موضوع إلى غيره لا يصدر في ذلك عن غفلة، أو قلة دراية بأساليب التأليف ومناهجه، وإنما هو يعمد إلى ذلك عمدًا، فيقول في الصفحات الأولى من افتتاحية كتابه "فلو أتينا بما غني به من شعر شاعر ولم نتجاوزه حتى نفرغ منه، لجرى هذا المجرى وكان للنفس عنه نبوة،   1 مقدمة الأغاني "ص39، 40". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وللقلب منه ملة. وفي طباع البشر محبة الانتقال من شيء إلى شيء، والاستراحة من معهود إلى مستجد، وكل منتقل إليه أشهى إلى النفس من المنتقل عنه، والمنتظر أغلب على القلب من الموجود، وإذا كان هذا هكذا، فما رتبناه أحلى وأحسن، ليكون القارئ له بانتقاله من خير إلى غيره ومن قصة إلى سواها، ومن أخبار قديمة إلى محدثة، ومليك إلى سوقة وجد إلى هزل أنشط لقراءته وأشهى لتصفح فنونه، ولا سيما والذي ضمناه إياه أحسن جنسه، وصفو ما ألف في بابه، ولُباب ما جمع في معناه"1. ولعل أكثر الأدباء الأعلام تحمسًا للأغاني، هو الصاحب بن عباد حين أكثر القول في استغنائه به عن كتبه مقيمًا ومرتحلًا واصفًا الكتاب بأنه مشحون بالمحاسن المنتخبة والفقر الغريبة، فهو للزاهد فكاهة وللعالم مادة وزيادة، وللكاتب والمتأدب بضاعة وتجارة وللبطل رجلة وشجاعة، وللمتطرف رياضة وصناعة، وللملك طيبة ولذاذة2. إن للأغاني كل هذه الوجوه المشرقة من الجودة والإفادة والإتقان والأعماق، والجهد والإبداع، ولكن في الكتاب الكثير مما ينبو عن الذوق، وتنفر منه النفس السوية، وتتقزز منه السليقة المستقيمة، فهو مليء بالقصص المستهجنة، والحكايات الخليعة والأشعار البذيئة والاصطلاحات الساقطة، وإكثار من ذكر العورات وتعريتها في إلحاح وإلحاف يبدوان وكأنهما مقصودان. إن كل كتب أدبنا القديم لا تخلو من شيء من ذلك، ولكنها تجيء بنت المناسبة وفرض السياق، وأما الأصبهاني فكأنما كانت القبائح الكثيرة الوفيرة التي ذكرها هدفًا من أهداف الكتاب، بل أغلب الظن أنها لكذلك، ولو أنه يسر على نفسه ولم يسرف على القراء بالإلحاف في ذكر ما ذكر من إباحية ومخاز، لما نقص الكتاب شيئًا بل إنه كان زاد قدرًا وسما منزلة، ولا حاجة بنا إلى أن نشير إلى أن احتواء هذا الكتاب على الساقط من القصص والخليع من الأخبار ينال منه عند ذكره نيلًا شديدًا، ولقد تنبه إلى ذلك بعض الفضلاء من الأدباء الأقدمين فجردوه من مباذله وقدموه، نظيفًا طهورًا تحت اسم "مختصر" أو "منتخبات" أو "تهذيب" أو غير ذلك مما سوف نذكره بعد قليل. هذا من الناحية الأخلاقية والاجتماعية، وأما من الناحية المنهجية، فهناك بعض المآخذ على الكاتب حين أغفل ترجمات بعض كبار شعراء العربية مثل أبي العتاهية وأبي نواس وابن الرومي. لقد نبهنا ياقوت الحموي إلى شيء من ذلك في نقده للكتاب وقد قرأه مرات واستوعبه   1 مقدمة الأغاني "ص7". 2 أبو الفرج في أغانيه "ص186" عن تجريد الأغاني لابن واصل الحموي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 استيعابه لغيره، وذلك في قوله: "وجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في أخبار أبي العتاهية: "وقد طالت أخباره ها هنا وسنذكر أخباره مع عتبة في موضع آخر"، ولم يفعل. وقال في موضع آخر: "أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت". ولم يتقدم شيء. ويتابع ياقوت عدد الأصوات التي ذكر الأصفهاني أنها مائة ويحصيها فيجدها تسعة وتسعين لا غير. ونحن نقف موقف الغرابة من إغفال الأصفهاني ذكر أبي نواس بصفة خاصة، ذلك أن صفات الشبه وسمات السلوك ومنعطفات الانحراف متشابهة إلى حد التطابق بين الرجلين بل إن ذكر أبي نواس وقصص مجونه والمنحرف من شعره، مما يتمشى مع هوى الأصبهاني في كتابه هذا. ومن هنا فلربما كان فرط الحرص مع هذا العمل الضخم سببًا في نسيان إلحاق فصل عن أخبار أبي نواس بالكتاب. وأما إغفاله ترجمة ابن الرومي فنحن نميل إلى أنها مقصودة، بل إنه إهمال متعمد، وذلك لسلاطة لسان ابن الرومي ومرارة هجائه وشدة تطاوله على الناس بحيث كان أشد وطأة على بعضهم من بشار في أهاجيه. وأبو الفرج حين ذكر ابن الرومي في كتابه ذكره في سياق خبرين ينالان من مروءته ويطعنان في مسلكه، فقد ذكره مرة على أنه سارق منتحل والمرة الأخرى على أنه بعيد عن المروءة شامت في نكبة سليمان بن وهب1. ولم يكن الأصبهاني أول من أهمل ذكر ابن الرومي من مؤرخي الأدب فإن ابن المعتز صنع الشيء نفسه.   1 الأغاني "9/ 28، 20/ 72". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 مختصرات الأغاني : لا شك أن في كتاب الأغاني من المظاهر والبواطن ما يغري بعض العلماء على اختصاره أو تبسيطه. واختصار الكتب الكبيرة أمر جرت عليه طبيعة الثقافة العربية. وقد عرفنا كيف كان بعض العلماء يختصرون كتبهم المطولة كما فعل العماد الأصبهاني مع كتابه "الخريدة" وكما فعل البيهقي مع "دمية القصر". إن هناك من رأوا ضرورة اختصار "الأغاني" وتخليصه من الأسانيد ومفاتيح الموسيقى التي لا يفهمها إلا المتخصص، والتي أشرنا إلى شيء منها فيما مضى من صفحات بحيث يصبح الكتاب أدبًا محضًا، وهناك من رأى ضرورة تجريد الكتاب مما يخدش الحياء ويتنافى مع القيم الأخلاقية، وهناك من رأى إعادة ترتيبه بشكل زمني وإضفاء طابع كتب الطبقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 عليه، وهكذا لكل من حاول اختصاره وجهة نظر خاصة به طبقها حين مارس عملية الاختصار التي أقدم عليها. وتنتهي إلى علمنا ثماني محاولات من هذا القبيل كان أولها ما قام به الوزير الحسين بن علي بن حسين أبو القاسم المعروف بالمغربي المتوفى سنة 418هـ، ومعنى ذلك أنه بدأ يختصر كتاب الأغاني ولما يمض على وفاة مؤلفه نصف قرن من الزمان. وكان آخرها ما قام به الشيخ محمد الخضري العالم المصري الجليل الذي توفى سنة 1927. غير أن أشهر مختصرات الأغاني وأكثرها فائدة فيما نرى هي: 1- ما قام بعمله ابن واصل الحموي المتوفى سنة 697هـ وكان يلقب بقاضي القضاة، وشيخ الشيوخ بحماة، واسمه كاملًا: محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل. وقد سمى كتابه "تجريد الأغاني من ذكر المثالث والمثاني" وعنوان المختصر يفيد أنه جرده من صفته الموسيقية، وهذا هو ما قام به بالفعل، كما أنه خلصه من التكرار والعنعنات، وزاد بأن شرح الصعب من الألفاظ، ولا يزال الكتاب مخطوطًا بدار الكتب المصرية. 2- ما قام به ابن منظور المصري المتوفى سنة 711هـ صاحب "لسان العرب" واسمه محمد بن علي، وكنيته أبو الفضل جمال الدين بن منظور، وكان سخي الذهن نابغ الفكر خصب الإنتاج ويكفيه فضلًا قاموسه "لسان العرب" الذي لم يستطع فرد ولا جماعة حتى الآن تصنيف ما يماثله دقة وعمقًا وإحاطة وشمولًا. ومن الطريف أن ابن منظور في الوقت الذي نرى له أطول وأفضل قاموس، نجده في الوقت نفسه مولعًا باختصار المطولات من كتب الأدب مثل الحيوان للجاحظ، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وذخيرة ابن بسام وأغاني الأصبهاني وهو الذي يعنينا في هذا المقام وسماه "مختار الأغاني في الأخبار والتهاني" وهو من الأعمال الجليلة التي تيسر النفع وتصل بالباحث إلى ضالته في سرعة ويسر. 3- ما قام به الشيخ محمد الخضري الأستاذ بالجامعة المصرية، وصاحب المؤلفات النفسية في اللغة والأدب والتاريخ، إنه لم يختصر كتاب الأغاني على النحو الذي مر ذكره، ولكنه في الواقع هذب الكتاب وصنع منه شيئًا آخر، وهو لذلك سماه "تهذيب الأغاني" وجعله في سبعة أجزاء وخصص جزءًا أضافه إلى السبعة ضمنه الفهارس والملاحظات. وقد فصل الشيخ الخضري بين الغناء والشعر، ورد الأشعار إلى أصولها طبقًا لروايتها الصحيحة وليس تبعًا لما غناه المغنون أو المغنيات وأتم القصائد المبتورة، وقسم الشعراء إلى طبقات زمنية: جاهليين، ومخضرمين، وإسلاميين، ومخضرمي الدولتين، ومحدثين. وخص كل طبقة بجزء حسب الترتيب الذي ذكرناه. ولما كان الشعراء المحدثون من كثرة العدد ووفرة الإنتاج بمكان فقد خصص لهم جزءين هما الخامس والسادس، وأما الغناء والمغنون فقد أفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 لهم جزءًا منفردًا هو الجزء السابع من الكتاب. ومهما كان الأمر، فإن كتاب الأغاني بكل ما فيه من غث وسمين، وبكل ما اشتمل عليه من حسن وقبيح، وبكل ما ضمنه من درر وبحص، يعتبر حتى الآن قمة التأليف في الأدب العربي، ولا يزال نسيج وحده منهلًا للأدباء وموردًا سائغًا للدارسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الباب السادس: كتب الأمالي : الفصل الأول: نشأة الأمالي ذهب بعض العلماء في مناهج تآليفهم إلى إملاء الموضوعات التي يريدون طرحها على أسماع تلاميذهم، فمثلًا كتاب "مجالس ثعلب" أطلق عليه أيضًا "أمالي ثعلب"، وليس في ذلك كبير مبالغة. فالكتاب مجموعة من الأمالي التي تضم ألوانًا من الأدب، والتاريخ، واللغة، وإن كان للغة فيه النصيب الأوفى. ونحن لا نرى كبير فرق بين عنوان "الأمالي" أو عنوان "المجالس" فلقد كان الطلاب في واقع الأمر يجلسون متحلقين حول أستاذهم، وأمامهم المحابر وبأيديهم الدفاتر يحسنون الاستماع، ويقيدون ما يجري على لسان أستاذهم الذي يكون في العادة من كبار العلماء الثقات، فإذا جمعت هذه الأمالي لكي تصدر في شكل كتاب كانت إما أن تعرض على الأستاذ نفسه، أو يقوم على مراجعتها بعض النابهين من تلامذته الذين يقومون بدورهم بروايتها منسوبة إليه. وكتب الأمالي في ميدان الدراسات العربية والإسلامية من الكثرة بمكان، وتشمل بعض الموضوعات المتخصصة كالتفسير حينًا والحديث حينًا آخر والنحو حينًا ثالثًا وهكذا. غير أن الذي يعنينا من كتب الأمالي في هذا المقام هي "الأمالي" في نطاق الأدب، ونحن نستطيع بشيء من التيسير على أنفسنا أن نعد كتاب "مجالس ثعلب"، أول كتاب أنشئ في هذا الميدان، وقد عاش ثعلب حسبما مر بنا في ترجمته بين سنتي 200هـ، 291هـ، ويليه في الميدان نفسه أمالي اليزيدي: أبي عبد الله محمد بن العباس المتوفى سنة 310هـ، ويليه أمالي الزجاج أبي إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل المتوفى سنة 311هـ، وكان معاصرًا لليزيدي وتلميذًا ومريدًا للمبرد. وتلى هذه الأمالي الثلاث أمالي جحظة البرمكي المتوفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 سنة 324هـ، واسمه الحقيقي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى البرمكي، الوزير الخطير، وإنما لقب بجحظة لنتوء كان في عينيه فأطلق عليه عبد الله بن المعتز، جحظة لهذا السبب فاشتهر به، ونسي المتأدبون حقيقية اسمه، وقد كان جحظة أديبًا ظريفًا موسيقيًّا شاعرًا راوية، وكثيرًا ما روى عنه أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني". وتلى أمالي جحظة من حيث الزمان أمالي أبي بكر بن الأنباري المتوفى سنة 328هـ وأحد أعلام الأنباريين الذين عرفوا بعلوم الأدب واللغة والنحو والرواية، ويعاصر جحظة البرمكي عالم كبير وأديب لغوي، وشاعر، هو أبو بكر بن دريد المتوفى سنة 321هـ في الثامنة والتسعين من عمره، وقد أجمع المؤرخون على أنه أملى كتابه الكبير "الجمهرة" الذي يعد من أنفس كتب العربية كما يعتبر واحدًا من الأمالي المرموقة. على أن أحاديث ابن دريد ذات الشهرة الواسعة أيضًا والتي نهج فيها المنهج الأدبي لكي يصل من خلالها إلى أهدافه اللغوية من تلقين، وشرح وتدريس وتعليق تعتبر بدورها أمالي أخرى؛ لأن الأدبي الكبير قد أملاها على تلاميذه بالطريقة نفسها التي أملى بها "الجمهرة" بل لقد ذهب كثير من المترجمين إلى تسميتها فعلًا بالأمالي. إن هذه الأحاديث -أعني أحاديث ابن دريد بل أماليه لم تصل إلينا منفردة في كتاب، وإنما جاءت متفرقة في ثنايا أشهر كتاب بين كتب الأمالي هو "أمالي القالي". وإذا كان أبو بكر بن دريد، قد طابت له الحياة في المشرق حالًا ومرتحلًا بين البصرة حيث ولد، وعمان حيث أهله وقومه، ونيسابور حيث اتصل بآل ميكال ومدحهم بالمقصورة الشهيرة فأكرموه وقلدوه ديوان فارس، وبغداد حيث اتصل بالمقتدر العباسي فأكرمه وأجرى عليه مرتبًا شهريًّا حتى نهاية حياته، فإن أبا علي إسماعيل بن القاسم المتوفى سنة 356هـ لم تطب له الحياة في بغداد بعد إقامة خمسة وعشرين عامًا فيها، فهاجر إلى المغرب فالأندلس حيث استقبل فيها استقبالًا كريمًا أو رسميًّا على مجرى التعبير المعاصر، ولقي تكريمًا عظيمًا من ملك عظيم، هو عبد الرحمن الناصر. فلما مات الناصر وتولى بعده ابنه الحكم المستنصر زاد في تكريمه وجعله مستشارًا له لشئون الثقافة, ووضع له تحت يده الأموال الوفيرة التي كانت تشترى بها نفائس كتب المشرق كي تضمها وتزدان بها مكتبة قرطبة التي كانت تعتبر على أيام المستنصر من أكبر مكتبات العالم، بل لعلها من حيث الترتيب والتنظيم، والتجليد، والتذهيب والفهرسة، والصيانة تعتبر حتى الآن من أعظم المكتبات في التاريخ. ويلي أمالي القالي من حيث الأهمية والزمنية كتاب عظيم لأديب مفكر عظيم، هو "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي المتوفى سنة 400هـ الذي ألقاه في سلسلة محاضرات في ندوة أبي عبد الله العارض بن سعدان، وزير بني بويه في بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وتأتي بعد ذلك أمالي الشريف المرتضى نقيب الطالبين في بغداد، صاحب مجالس الأدب ومنتدى الثقافة الذي عاش بين سنتي 355-436هـ. وتمر فترة غير قصيرة من الزمن حتى يأتي عالم جليل يملي "أمالي" أخرى جيدة فياضة بأنماط العلم مترعة بأسباب الأدب، هو هبة الله بن الشجري الذي عاش بين عامي 450-544هـ. وأمالي ابن الشجري تختتم الأمالي المشهورة، ولكن ذلك لا يعني أنه لم تسبقها أمالٍ أو تعقبها أمالٍ أخرى، فإن الشيوخ والمحدثين والعلماء والمؤدبين كانت لهم مجالس أملوا فيها أماليهم، وهي من الكثرة بمكان بحيث يصعب إحصاؤها ويجهد استقصاؤها. وأكثر "الأمالي" عددًا هي ما كان في علم الحديث، ولكن ذلك لم يمنع عددًا كبيرًا من رجال الأدب واللغة، على مر عصور ازدهار الثقافة العربية من أن يجلسوا إلى تلاميذهم ويسمعوهم ما في صدورهم من علم وما في عقولهم من معرفة، وما تجود به خواطرهم من آداب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الفصل الثاني: مجالس ثعلب سلفت الإشارة إلى أن مجالس ثعلب تعتبر أول محاولة صادقة في تأليف هذا النوع النافع من الكتب، الذي اصطلح على تسميته بالأمالي، وقد سبق لنا الحديث عن شخصية المؤلف وعلمه الغزير، وأدبه الوفير وخلقه وشمائله، كما سبق الحديث عن كتابه "الفصيح". وها نحن أولاء نحاول أن نبسط أمامنا المجلس لنتتبع طريق إلقائها ومنهج إنشائها، وما قد حوت من آداب ولغة وبقية فروع المعرفة التي عرض لها العالم الكبير أبو العباس، ثعلب. أولًا: أما كتاب "المجالس" أو "الأمالي" كما يسميه بعض المؤرخين وكما ورد في آخر كل فصل من فصول الكتاب، فهو وإن لم يصب من الشهرة ما أصاب كتاب الفصيح، فإن ذلك لا يعني الغض من شأن الكتاب؛ فالمجالس كتاب فريد في نوعه؛ لأنه تسجيل دقيق للدروس التي كان يلقيها ثعلب على تلاميذه، والتي تشتمل على شرح آيات قرآنية شريفة وتخريج مفرداتها، أو حديث نبوي شريف أو التمثل بالشعر من خلال نصوص جديدة أحسن العالم الجليل اختيارها لخدمة تلاميذه وأكثرها لشعراء ثقات مجيدين وإن يكونوا جميعًا مشهورين، أو أرجوزة أو حديث أعرابي، أو أعرابية. ثانيًا: ولقد اقتضت المجالس أن يفيض الشيخ في دروسه فإذا استغلق معنى على أحد التلاميذ سأل أستاذه عمَّا استغلق عليه فهمه، ومن هنا فإن الكتاب يحوي ألوانًا من المحاورات اللطيفة، وفي بعض صفحات الكتاب نلاحظ أن الشيخ أبا العباس لم يكن يتردد في أن يجيب على سائله بقوله: لا أدري، وهذه خلة جليلة عرف بها الشيخ الكبير. وإن أبا عمر الزاهد يؤكد شيئًا من ذلك، فيقول: كنت في مجلس أبي العباس ثعلب فسأل سائل عن شيء فقال: لا أدري، فقال له السائل: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد؟ فقال له ثعلب: لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 كان لأمك بعدد ما "لا أدري" بعر لاستغنت1. ثالثًا: والكتاب يعتبر الصورة الواضحة لمدرسة الكوفة النحوية، ذلك أن أبا العباس إمام مدرسة الكوفة هذه ورأس علمائها، ومن هنا كانت القضايا النحوية، واللغوية التي يتضمنها الكتاب -وما أكثرها- تعالج على طريقة الكوفيين، غير أن وجهات نظر البصريين كثيرًا ما ترددت أيضًا على صفحاته في كثير من المجالس من قبيل المعارضة، والمناقشة واستعراض آراء المدرسة المخالفة في الرأي. رابعًا: أما عدد المجالس التي يضمها الكتاب من واقع العناوين المثبتة في النسخة المطبوعة فهي سبعة فقط، ولكن كل مجلس يشكل دائرة معارف أدبية صغيرة تضم الكثير من الأخبار المتعلقة بالأعلام العرب من خلفاء وأعيان وشعراء، وعلماء مع نصائح أو وصايا أو خطب أو محاورات، ونحن نشك في أنها سبعة فقط، إذ لا يتأتى أن يلقى هذا الحجم الكبير من المعرفة، وهذا الفيض الغامر من الدروس في سبعة مجالس فقط، خاصة وأن الكتاب مقسم على اثني عشر جزءًا، وهناك تداخل بين تقسيمه على أجزاء، وتقسيمه على مجالس. إنها ظاهرة تحتاج إلى مزيد من الدراسة تقع على عاتق الذين قاموا على تحقيق الكتاب. خامسًا: وفي الكتاب بعض الأخبار الاجتماعية الطريفة، مثل قول أعرابية في وصف أبغض الرجال، وأبغض النساء أو وصية رجل لابنه في اختيار زوجه، أو حديث امرأة زوجت أولادها، ثم غابت عنهم هي الأخرى فترة من الزمن وعادت تسألهم عن زوجاتهم. إن مثل هذه القضايا على قدر ما تعطي صورة لمجتمع زمانها فإن أبا العباس يجعل منها وسيلة لتعليم تلاميذه؛ لأن الأمر لا يخلو من كلمات تحتاج إلى شرح وتعليق، واستطراد. سادسًا: ويضم كتاب المجالس نماذج رائعة من عيون الشعر العربي لشعراء ممتازين موهوبين لشعراء مثل حسان بن ثابت، والنابغة الجعدي، والكميت، وابن هرمة، والحسين بن مطير، وقيس بن ذريح صاحب لبنى، وعروة بن حزام، ثم هو يورد بعد ذلك نماذج من الشعر الرفيع لشعراء غير مشهورين مثل خارجة بن فليح المكي، أو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أو عبيد الله بن شبيب، وكل قصيدة أو مقطوعة يجعل منها أبو العباس منطلقًا لدرسه. هذا فضلًا عن عشرات المقطوعات الشعرية الجيدة النفيسة لشعراء عاشوا في مختلف الأزمنة حتى زمان   1 تاريخ بغداد "5/ 208". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الشاعر نفسه، وكلها اختيرت بعناية وافرة وذوق رفيع، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على الحس الأدبي المرهف الذي كان يتحلى به المؤلف. سابعًا: وكذلك اهتم ثعلب بالأراجيز اهتمامًا كبيرًا، إذ الأراجيز -لصفتها البدوية الأعرابية- تعطيه فرصة كبيرة للشرح والتعليق والاستطراد. فمن الأراجيز التي أتى بها أرجوزة منظور بن حبة: يا أيها المعتر بالضلال ... إن كنت في تنحل الأقوال فاسأل فإن العلم بالسؤال ... من فارجون ليلة البلبال وأرجوزة عبد الرحمن بن منصور، بن عمرو بن كلاب: أشاقك الربع الخلاء المقفر ... غيره والدهر قد يغير مر الجديدين وهيف مغبر ... ورائح يتبعه مهجر وأرجوزة عمر بن عيسى البهدلي: ضجت ولجت في العقاب والعذل ... صخابة ذات لسان وجدل إلى غير ذلك من الأراجيز الكثيرة التي أوردها المؤلف مثل أرجوزة معروف بن عبد الرحمن وأرجوزة عمر ذي كلب، وأرجوزة ابن ميادة النونية، فضلًا عن أراجيز عديدة لرجاز كثيرين، الأمر الذي يجعل "المجالس" واحدًا من أهم الكتب التي اهتمت بفن الرجز، وعرض نصوصه أحسن عرض وشرحها أوفى شرح. ثامنًا: ويتحدث الكتاب عن لهجات العرب في مواضع شتى ويجري مقارنات بين لهجات بعض القبائل، فيقول: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء. ثم يستطرد أبو العباس شارحًا هذه القضايا من عنعنة وكشكشة، وكسكسة إلى آخر ما ذكر من عيوب القبائل. ويضرب أبو العباس مثالًا للكشكشة التي هي جعل الشين مكان الكاف من خلال رجز لرجل من ربيعة في قوله: علي فيما أبتغي أبغيش ... بيضاء ترضيني ولا ترضيش وتطبي ود بني أبيش ... إذا دنوت جعلت تنئيش وإن نأيت جعلت تدنيش ... وإن تكلمت حثت في فيش حتى تنقى كنقيق الديش ولكي نتخلص من الكشكشة فما علينا إلا أن نجعل مكان "الشين" كافًا حتى تعود إلينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 اللهجة المألوفة، فنقول: علي فيما أبتغي أبغيك ... بيضاء ترضيني ولا ترضيك ... إلخ تاسعًا: ويضمن أبو العباس مجالسه أو بالأحرى موضوعات تعليمه يكون التفريغ والاستطراد من خلالها ميسرًا حسبما ذكرنا، فيجعل موضوعه مثلًا حول الخيل وأجودها، أو حول التمر والرطب، أو صفة الأعراب للمطر والبرد فيحتل هذا الموضوع من كتابه ما يناهز العشر صفحات، أو صفة الأعراب للنبت والمرعى والغيثن ويفيض أبو العباس في ذلك أيضًا بحيث لا يجعل فيه مزيدًا لمستزيد، أو الماء والشجر ويأتي فيه أيضًا بالعجيب الغريب من الأسماء والصفات، ووصف الضب في شعر يستغلق فهمه على غير المختص لما فيه من ألفاظ غريبة وسمات لا يعرفها إلا من عاشر البدو وتعرف بالضب وأكله كما يأكله الأعراب. عاشرًا: وكتاب المجالس ليس بعيدًا عن الأحداث التاريخية وروايتها والاهتمام بها، وإن مؤلفه يدلف بين الحين والحين إلى لب الأحداث التاريخية يعرضها عرض الثقات ويردد ما حولها من نصوص ويشرح ما قد أحاط بها من مواقف. إنه على سبيل المثال يعرض لمقتل الحسين، ولموقف أبي بكر من الأنصار، ولعلي زين العابدين بن الحسين، ولمعاوية وعتبة بن أبي سفيان يوم التحكيم، وكتاب معاوية إلى مروان في بيعة يزيد، ونصيحة المنصور لابنه المهدي في شأن أخلاق الخليفة، كل ذلك لا يشكل أخبارًا وأحداثًا تاريخية وحسب، وإنما يؤلف وثائق تاريخية بالغة الأهمية وإن بدت في نظر بعض الناس مجرد أخبار وشتيت روايات. حادي عشر: وإن شخصية ثعلب الجادة الوقورة لم تمنعه من أن يطرز كتابه بطرفة من هنا أو نكتة من هناك أو خبر خفيف يزيح عن كاهل النفس مشقة الدرس ومتاعب التركيز، ففضلًا عن الأخبار الاجتماعية التي أشرنا إليها قبل قليل مثل وصف أعرابية لأبغض الرجال والنساء، أو حديث امرأة زوجت أولادها، بأبي ثعلب بكثير من الطرف الأدبية مثل مية مولاة معاوية وبعض نوادر السائلين معها، أو عروة بن أذينة وهشام بن عبد الملك، أو عمر بن أبي ربيعة وعبد الملك بن مروان، أو الأصمعي والرشيد في مواقف متعددة، أو خبر هلال بن الأسعر حتى جاع فذبح بعيره وأكله، أو ذم بغداد، هذا فضلًا عن أخبار الأعراب والأعرابيات وأقوالهم التي لا تخلو من غرابة. وفي الوقت الذي يطرز ثعلب كتابه بهذه الطرائف، فإنه لا يغفل أن يزينه بالكثير من الأقوال الحكيمة التي جرت على ألسنة عقلاء العرب وحكمائهم، هذا فضلًا عن ذكر مواقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 عديدة لبعض الأعلام تتسم بالعقل، والحكمة التي تربي النفس، وتهذب الأخلاق. إن مجالس ثعلب من الكتب العربية الباكرة الفريدة المثال من حيث التركيز على تعليم اللغة من خلال النص الحسن الانتقاء الذي يدل على ذوق فني رفيع، واختيار دقيق، فضلًا عن التدفق والفيض اللذين يصدران عن العالم الجليل أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وهو يعرض بضاعته العلمية النفيسة. هذا ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن عددًا من الأخبار متشابه في كامل المبرد، ومجالس ثعلب، والمنثور والمنظوم لابن طيفور الذي سيأتي حديثه بعد حين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الفصل الثالث: أمالي اليزيدي إن لأمالي اليزيدي نصيبًا من الشهرة لا يتفق مع فرصة الاطلاع عليها؛ ذلك لأنها غير متوفرة بين أيدي قراء العربية توفر كتب الأمالي الأخرى المشهورة التي نعرض لها في هذه الدراسة، فقد طبعت في الهند منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، ولم يتهيأ لكثير من الدارسين اقتناؤها بحيث يتيسر التوفر على قراءتها وبالتالي تنال ما هي جديرة به من ذيوع وشهرة أو خمول ونسيان. والحق أن صاحب هذه الأمالي قد قدم ألوانًا من الآداب، وأشتاتًا من الحكايات وأخبار من التاريخ بما يتفق وعنوان كتابه هذا، وهو قبل ذلك واحد من أسرة اليزيديين التي ضمت عددًا وافرًا من العلماء الفضلاء، والأدباء النجباء الذين أثروا المكتبة العربية بالعشرات العديدة من الكتب في فنون اللغة، والنحو، والتاريخ، والرواية والشعر. فأما صاحبنا مؤلف هذه الأمالي فهو أبو عبد الله، محمد بن العباس بن محمد اليزيدي المتوفى سنة 310هـ وقيل 313 عن اثنين وثمانين عامًا، وكان من الفضل والعلم بحيث روى عنه أبو بكر الصولي والزجاج وأبو الفرج الأصفهاني، وإن له من الكتب غير أماليه هذه: كتاب الخيل، كتاب مناقب بني العباس، كتاب أخبار اليزيديين "قومه"، مختصر في النحو. فإذا ما تناولنا أمالي اليزيدي بالدراسة والعرض فإننا يمكن أن نحصر منهجه ونلخص مادته فيما يلي من فقرات. أولًا: يغلب على الكتاب عنصر الشعر، فإن عددًا متتاليًا من صفحاته يبدو بين الحين والحين مشحونًا بعدد من القصائد، أو مجموعات من المقطوعات، والشعر الذي يضمه الكتاب لشعراء من مختلف العصور من جاهليين ومخضرمين وإسلاميين، وأمويين وعباسيين، ومنهم شعراء معروفون مشهورون مثل المهلهل والشماخ والخنساء، ومالك بن الريب وجرير والفرزدق وإسحاق الموصلي، ومنهم شعراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 مغمورون لم تدع أسماؤهم مع ما ذاع من أسماء من جمهور الشعراء. والكثير من الشعر الذي يرويه غير معروف قائله، وإنما هو يكتفي بذكر من سمعه منه، وهو غالبًا ما يكون عمه أبا العباس الفضل بن محمد. فإذا ما نظرنا في موضوعات الشعر التي مثل لها وجدنا أكثرها في الرثاء، والبقية في فنون أخرى كالمديح، والهجاء، والخمر، والحكمة، والسؤدد. ثانيًا: تضم أمالي اليزيدي نصوصًا غير قليلة من الراجز لرجاز معروفين مثل العجاج ورؤبة، وأبي نخيلة، ودكين، والمرار. والأراجيز تلقى على صفحة الكتاب إلقاء دون إبداء مناسبة أو تعليق أو حتى ذكر الموضوع الذي قيلت فيه. ثالثًا: أملى اليزيدي كثير من كلام الأعراب ومتشابهه، وغريبه، وحوشيه، وأخبارهم، ونوادرهم في الجاهلية والإسلام، كما أنه يأتي بشواهد شعرية ويشرح غريبها1. رابعًا: يكثر من ذكر الأخبار والأحداث التاريخية مثل بعض الغزوات، ويوم الجمل وعدد القتلى فيه وأسماء بعضهم2 كما يذكر أخبار بعض الخوارج. ويهتم اليزيدي في هذا الجانب من أماليه بأخبار الخلفاء الراشدين وبخاصة الخلفاء عمر وعثمان وعلي. ويقص إحدى قصص الخليفة عمر المشهورة حين كان يستقصي أحوال رعيته ليلًا فسمع صوتًا في بيت فوقف خلف الباب ينصت، فإذا امرأة تردد لنفسها هذين البيتين: تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وغاب خليل كنت مما ألاعبه فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لحرك من هذا السرير جوانبه فلما أصبح بعث إلى المرأة فسألها عن زوجها فأخبرته أنه غازٍ وأنه قد طالت غيبته، فبعث الخليفة إلى إحدى بناته المتزوجات وسألها: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فسكتت: فقال: أتصبر سنتين؟ قالت: لا. قال: فسنة؟ قالت: لا. قال: فستة أشهر؟ قالت: نعم، وذاك كثير. فكتب عمر في إحضار زوج المرأة، وأمر ألا يغيب الأزواج في الغزاة عن ستة أشهر3. وعن بني أمية يتحدث اليزيدي غير قليل عن ملوكهم وبخاصة معاوية وعبد الملك بن   1 راجع أمالي اليزيدي صفحات "56، 59، 60، 63، 65، 72، 142، 143". 2 المصدر "97، 105". 3 المصدر "98، 99". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 مروان، وسليمان بن عبد الملك، وهو في ذكره الأخيرين يعرض لهما عرضًا كريمًا يظهرهما بمظهر الفروسية، والعدل الأمر الذي يجعلنا نتصور أن هواه كان أمويًّا، فهو يورد قول عبد الملك لبنيه: إياكم ودماء آل أبي طالب1 أو تصرف سليمان مع مظلوم اغتصبت أرضه فردها إليه مع مساحة مساوية لها2. فإذا ما عرض لبني العباس، فإنه يكثر من ذكر مساوئ أبي جعفر المنصور، ويأتي له بالأخبار التي تنال منه مثل نسبة اللحن إليه في القرآن أو شدة بخله3. خامسًا: يورد اليزيدي في أماليه بعض الأخبار التي تصور المجتمع البدوي من خطبة فتاة أو طلاق امرأة يحبها زوجها، أو مهر مقداره باطية خمر إلى غير ذلك من غرائب الأخبار التي تدخل تحت باب النوادر، وإن لم تكن في الكتاب من الكثرة بمكان. سادسًا: كان على اليزيدي أن يزين صفحات كتابه بين الحين والحين -مثلما فعل أكثر أصحاب المؤلفات والأمالي- بحديث شريف يرويه، ويذكر مناسبته ويشرح معناه. هذا وأمالي اليزيدي في جملتها لا تخضع لنمط معين من التأليف بل هي حشد للموضوعات التي ذكرنا في غير نظام أو ترتيب أو منهج أو إغراء للقارئ بالاستمرار في الإقبال عليها، ولكن طالب المعرفة في نطاق ما ينبغي أن يتصف به من صبر، وأن يتحلى به من جلد يستطيع أن يأخذ من هذه الأمالي شيئًا جديدًا وإن يكن غير كثير.   1 المصدر "73". 2 المصدر "140". 3 المصدر "89-91". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الفصل الرابع: أمالي القالي مدخل ... الفصل الرابع: أمالي القالي: لقد ألف أبو علي عددًا من الكتب النفيسة التي أهمها كتابه المشهور "الأمالي" وهو أول كتاب يحمل هذا الاسم صراحة، كما أنه في الوقت نفسه أشهر كتب الأمالي على الإطلاق. وليس كتاب الأمالي -على نفاسته- الأثر العلمي الوحيد لأبي علي القالي، وإنما كان لذلك العالم الجليل الذي وهب حياته كلها للعلم العديد من الكتب النفيسة المشهورة مثل كتاب "الممدود والمقصور والمهموز" و "كتاب الإبل" و "كتاب حلى الإنسان والخيل وشياتها" و "كتاب مقاتل الفرسان" و "كتاب تفسير السبع الطوال" و "كتاب البارع" في اللغة على حروف المعجم جمع فيه كتب اللغة ويقع في ثلاثة آلاف ورقة، وقد امتدحه تلميذه ومعاصره العالم اللغوي أبو بكر الزبيدي صاحب كتاب "مختصر العين" قائلًا: لا نعلم أحد من المتقدمين ألف مثله. إن أبا إسماعيل بن القاسم القالي لم يكن موضع تكريم الدولة الرسمية الأندلسية وحسب، وإنما كان موضع الإجلال بين العلماء وعامة الناس، وكان ممثلًا للثقافة المشرقية التي كانوا يتطلعون إليها ويتابعون كل جديد فيها، وقد امتدحه كثير من الشعراء وفي مقدمتهم الرمادي الشاعر الأندلسي المشهور قائلًا: روض تعاهده السحاب كأنه ... متعاهد من عهد "إسماعيل" قسه إلى الأعراب تعلم أنه ... أولى من الأعراب بالتفضيل حازت قبائلهم لغات فُرِّقت ... فيهم وحاز لغات كل قبيل فالشرق خالٍ بعده فكأنما ... نَزَلَ الخراب بربعه المأهول وكأنه شمس بدت في غربنا ... وتغيبت عن شرقهم بأفول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 هذا وكان أبو علي نفسه على علمه الوفير، وأدبه الزاخر شاعرًا رقيقًا، له شعر رقيق يؤثر عنه ومداعبات عذبة جرت بينه وبين كبار علماء زمانه الأندلسيين الذين كانوا يحيطونه بالرعاية والاحترام. ومع كل الإجلال الذي لقيه القالي في الأندلس، وكل أسباب النعمة التي عاش فيها، ورغم السنوات الثلاثين التي عاشها هناك، فإنه لما حضرته الوفاة أحس بالغربة وأوصى أن يكتب على قبره هذان البيتان: صلوا لحد قبري بالطريق وودعوا ... فليس لمن وارى التراب حبيب ولا تدفنوني بالعراء فربما ... بكى إن رأى قبر الغريب غريبُ والأمالي يضم الكثير من الأخبار الأدبية ومختارات الأشعار، ومن الطريف أن كل ما حوى من أخبار وأشعار كان من آداب المشارقة، على الرغم من أن الكتاب أملي في الأندلس، ولكنه أراد أن يعلم الأندلسيين آداب المشارقة التي كانوا يهتمون بها كل الاهتمام. والكتاب أمالٍ حقيقية كان يمليها أبو علي القالي على تلاميذه يوم الخميس من كل أسبوع بقرطبة، وفي المسجد الجامع بالزهراء الضاحية الفخمة لقرطبة التي بناها عبد الرحمن الناصر، إن القالي يذكر ذلك صراحة في مقدمة الأمالي حين يقول: " ... فأمليت هذا الكتاب من حفظي في الأخمسة في قرطبة وفي المسجد الجامع بالزهراء المباركة". ويقدم المؤلف منهج كتابه، وأهم ما احتفل به من موضوعات فيقول مستطردًا "وأودعته فنونًا من الأخبار وضروبًا من الأشعار، وأنواعًا من الأمثال، وغرائب من اللغات، على أني لم أذكر فيه بابًا من اللغة إلا أشبعته، ولا ضربًا من الشعر إلا اخترته، ولا فنًّا من الخير إلا انتخلته، ولا نوعًا من المعاني والمثل إلا استجدته، ثم لم أخله من غريب القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، على أنني أوردت فيه من الإبدال ما لم يورده أحد، وفسرت فيه من الاتباع ما لم يفسره بشر"1. والحقيقة أن الكتاب يقف من القارئ موقف المعلم، فما يكاد يرد فيه نص شعرًا أو نثرًا إلا وقد أتبعه المؤلف بشرح مستفيض، ونلاحظ أن أبا علي كان يعمد عمدًا إلى الإتيان بالنصوص الصعبة من شعر ونثر لكي يقوم على شرحها مفرداتها، وأما استغلق فهمه من معانيها وهو في ذلك ينهج نهج كل من المبرد في الكامل وثعلب في المجالس، وليس في ذلك كبير   1 أمالي القالي "1/ 3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 غرابة؛ لأن الرجل نشأ وتعلم في بغداد، وكان قريب العهد بالعالمين الكبيرين؛ لأنه ولد سنة 288هـ أي في العقد نفسه الذي مات فيه القطبان الكبيران: المبرد وثعلب، وفي ذلك يقول أبو محمد بن حزم الأندلسي: كتاب نوادر أبي علي -يقصد الأمالي والنوادر- مبارٍ لكتاب الكامل الذي جمعه المبرد، ولئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحوًا وخبرًا، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعرًا. هذا والكتاب يتسم بالصعوبة والدسامة، فأبو علي يريد من خلاله أن يكرس صفة العمق والإفاضة والوفرة العلمية لعلماء المشرق الذين يمثلهم في الأندلس. وإذا كان لنا أن نزيد معرفة بالكتاب ومحتواه فإنه يمكن عرض ذلك في النقاط التالية: أولًا: أورد القالي الكثير من غريب القرآن إذ يتلو الآية، ثم يعرض لألفاظها ومعانيها مع تركيز على الجانب اللغوي1. ثانيًا: أورد المؤلف الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة في مقام استئناس، أو استشهاد مع شرحها، وإن كنا لاحظنا أنه لم يكثر من الأحاديث النبوية. ثالثًا: ضمن المؤلف كتابه -على طريقة علماء المشارقة- الكثير من كلام الحكماء وأحاديث البلغاء والوصايا بأنواعها، كوصايا الآباء لأبنائهم والأمهات لبناتهن، والعلماء للخلفاء. رابعًا: انفرد الكتاب دون غيره بذكر أحاديث ابن دريد المشهورة التي جعل كلا منها وسيلة لاستيعاب وحفظ أكبر قسط من الألفاظ الصعبة والمفردات غير الجارية على الألسنة. خامسًا: الكتاب غزير المحتوى للنصوص الشعرية في مختلف الموضوعات ولمختلف الشعراء، ومع عناية وذوق في اختيار النص وعرضه وشرحه. وقد اهتم بعدد غير قليل من الشعراء مثل عمر بن أبي ربيعة، وجميل بن معمر والسموأل بن عاديا وذي الأصبع العدواني وكعب بن سعد الغنوي، ونصيب، وأبي حية النميري وغيرهم كثيرين من مغمورين ومجهولين، كما أورد بعض المقصورات. سادسًا: اهتم أبو علي بالرجز -شأن جميع اللغويين- وضمن كتابه الكثير من أراجيز العرب، وبخاصة المرقصات منها وهو في ذلك شبيه بابن طيفور في "المنثور والمنظوم". سابعًا: اهتم المؤلف بالأمثال العربية، وأورد الكثير منها في مواطن عديدة من كتابه، مع شرحها، وبيان نشأتها والمناسبة التي تقال فيها. ثامنًا: منح المؤلف الموضوعات اللغوية والدراسات الصوتية من الجهد وقدم مادة   1 الأمالي للقالي "2/ 268، 275، 282 289، 295، 308، 312". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 غنية في هذا الشأن، وذلك أن الطابع اللغوي هو السمة الأولى للكتاب، وهو في ذلك ينهج مناهج أربعة: أ- أن يورد أحاديث بعينها جرت على لسان إنسان بعينه في الموضوع الذي يراد طرق بابه مثل وصف أعرابي للنساء، أو وصف الشاب للفرس الذي اشتراه، ومن خلال الحديث الأول ينفذ المؤلف إلى صفات النساء، ومن خلال الحديث الثاني ينفذ المؤلف إلى الكلام على صفات الفرس، هذا فضلًا عن أحاديث كثيرة جرت على ألسنة الأعراب حفل بها الكتاب وقدم المؤلف من خلالها مفردات لغوية وفيرة1. ب- أن يطرق المؤلف موضوعه مباشرة حين يريد تقديم مفردات لغوية كأن يتحدث عن ترتيب أسنان الإبل وأسمائها، أو الفرس وصفاتها مع ذكر شواهد حيث استحسن ذكر الشاهد. وفي كثير من الأحيان يعمد إلى التوسع في سرده وشرحه، حتى إن صفة الفرس اقتضت منه ثماني صفحات من كتابه على سبيل المثال2. جـ- يأتي بمادة لغوية بعينها ويحللها مثل مادة خ ل ف3 - ح س س4 - ع ق ب5 - وت ر6 ع ور7 وهكذا. هـ- يعرض المؤلف للحروف التي تختلف رسمًا، وتتشابه نطقًا أو ذات المخارج الواحدة ويقدم عنها دراسة في نطاق الصوتيات والإدغام والإبدال مثل ما يكون بالهاء والخاء، أو الصاد والطاء، أو الدال، والطاء، أو التاء، والطاء، أو السين، والزاي، أو ما تعاقب فيه النون والميم، أو ما يقال بالهمز والواو، أو ما يقال بالهمز والواو، أو ما يقال بالياء والهمز، كما يفرد عدة أحاديث لأحرف الإبدال. تاسعًا: ضم الكتاب الكثير من خطب العرب في الجاهلية والإسلام ومغامراتهم وألوانًا من الحوار الفصيح جرت بين أعلام المشارقة من خلفاء، وعمال، وحكام، وأدباء، وأعيان.   1 الأمالي للقالي "1/ 41". 2 المصدر "1/ 21، 2/ 246-254". 3 المصدر "1/ 156". 4 المصدر "1/ 183". 5 المصدر "1/ 182". 6 المصدر "1/ 231". 7 المصدر "1/ 58". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 عاشرًا: والكتاب يستهدف الثقافة العامة إلى جانب استهدافه الثقافة الخاصة، ومن ثم فإن ضم الكثير من الأخبار التاريخية الهامة الكبيرة والخطيرة التي تبدو صغيرة، كما تضمن العديد من أخبار بني أمية، وخلفائهم وعمالهم وشعرائهم وخصومهم والأحداث الهامة التي جرت في تاريخ العرب في الشرق جاهليه وإسلاميه وأحيانًا يتعدى ذلك إلى أخبار تاريخية هندية أو فارسية. حادي عشر: لم يفت المؤلف -وقد توسم الجد وصعوبة الموضوعات التي طرقها في أغلب صفحات الكتاب- أن يخفف عن القارئ كما فعل سابقوه من المشارقة بإيراد طرفة هنا وملحة هناك فيصيب بذلك هدفين: التسرية عن القارئ الذي يكون عرضة للسأم والملل، وإضافة معلومات فكهة إلى حصيلته في مجتمع كان للملحة خطرها في المحافل العامة والخاصة. هذا ونود أخيرًا أن نبدي ملاحظتين هامتين حول الكتاب، الأولى الدقة المتناهية في الإسناد والرواية إذ لا يكاد أبو علي يذكر نصًّا إلا وقد وصل إسناده إلى صاحبه، عن طريق الرواية الدقيقة، والثانية أن الكتاب نقل كثيرًا عن "الكامل", "مجالس ثعلب" و "بلاغات النساء" وبخاصة فيما يتعلق بأخبار النساء وفصاحتهن وصفاتهن ونوادرهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ذيل الأمالي والنوادر : بعد أن انتهى أبو علي القالي من كتابه هذا الذي أطلق عليه اسم "الأمالي" تجمعت لديه مادة علمية أخرى فأملاها على النسق نفسه وأطلق عليها اسم "ذيل الأمالي" ثم لم يلبث أن تجمعت لديه مادة أخرى من الأخبار، والقصائد، والدروس فقدمها تحت اسم "ذيل الأمالي" ثم لم يلبث أن تجمعت لديه مادة أخرى من الأخبار والقصائد، والدروس اللغوية فقدمها تحت اسم "النوادر". قد يوحي العنوان الجديد بتحول أو تغيير في طريقة الكتاب وعرضه ومادته، غير أن شيئًا ذا بال لا نكاد نحسه أو نلمسه في هذا السبيل اللهم إلا غلبة الأخبار على ما سواها من المواد التي ألفناها من أبي علي في "الأمالي" و "الذيل". على أن الملامح التي تربط بين الأمالي والذيل والنوادر متشابهة، والموضوعات مشتركة والسمات متقاربة، وليس ذلك بغريب طالما كان المؤلف واحدًا والهدف واحدًا والمنهاج واحدًا. ومهما كان الأمر فكتاب الأمالي لأبي علي القالي يعتبر سفارة ثقافية فريدة نفيسة فرضها أبو علي العقل الأندلسي والثقافة الأندلسية من واقع الثقافة المشرقية الكلاسيكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الفصل الخامس: كتاب الإمتاع والمؤانسة : يعتبر أبو حيان التوحيدي 400هـ، واسمه الأصلي علي بن محمد بن العباس، واحدًا من ألمع مفكري العربية، وأدبائها حتى إنه لقب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ذلك أن كتبه تجمع إلى عمق الفكرة أناقة العبارة ورشاقة الأسلوب، ومن أجل ذلك أيضًا، فضلًا عن انتهاجه مذهب المعتزلة فإن بعض المؤرخين يلقبونه بالجاحظ الثاني. وأبو حيان على نباهة شأنه كان سيء الحظ في حياته مضطهدًا محدود الرزق. عمل بالوراقة والنسخ حينًا، وفي خدمة الوزير ابن العميد ثم الوزير الصاحب بن عباد حينًا آخر، ولم يلق من أي منهما إلا كل إهمال واحتقار، الأمر الذي دفع به إلى أن يكتب فيهما كتابًا كبيرًا أسماه "أخلاق الوزيرين" أو "مثالب الوزيرين" نال من قدرهما بقسوة على ما فيهما من فضل وعلم ومروءة. لقد كان أبو حيان خصيب الفكر ثر العطاء متبحرًا بعمق في عديد من ألوان المعرفة، وألف أكثر من عشرين كتابًا من عيون الفكر العربي وآدابه، ولكن حين ضاقت به أسباب الرزق -على عمله الوفير- بحيث اضطر إلى أن يأكل حشيش الأرض، حقد على الناس جميعًا، وتبلور حقده عليهم في إحراق كتبه حتى يحرم الجمهرة فضله، ولم يسلم منها إلا ما كان منها من نسخ في أيدي الناس. ولقد حير أبو حيان المؤرخين من حيث أفكاره، وعقيدته فبينما يخلع عليه ياقوت الحموي لقب شيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء، يتهمه ابن الجوزي بالزندقة، ويجسم من خطره فيجعله أخطر الزنادقة جميعًا، يقول ابن الجوزي: زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، والتوحيدي، والمعري، وشرهم التوحيدي؛ لأنهما صرحا ولم يصرح، أي لأن كلا من ابن الرواندي وأبي العلاء المعري أعلنا زندقتهما، وأما أبو حيان فلم يعلن زندقته أو يصرح بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ومهما كان الأمر فإن أبا حيان عاش نيفًا وثمانين عامًا في شظف من العيش ومرارة الحرمان، ربما كان هو نفسه مسئولًا بعض الشيء عن ذلك، وتوفي سنة 400هـ ووصل إلينا من كتبه حتى الآن: 1- الإمتاع والمؤانسة. 2- الصداقة والصديق. 3- المقابسات. 4- الإشارات الإلهية. 5- البصائر والذخائر. 6- الهوامل والشوامل. 7- مثالب الوزيرين، أو أخلاق الوزيرين. وكل هذه الكتب مطبوعة منشورة، وكلما ظهر له جديد من تلك الكنوز المخطوطة، التي لا تزال مدفونة في المكتبات الخاصة متفرقة من العالم سارع العلماء إلى تحقيقها ونشرها. كتاب الإمتاع والمؤانسة: إن لهذا الكتاب من عنوانه نصيبًا كبيرًا، فهو يمتع قارئه بما حوى من أدب وعلم" ويؤنسه بما ضم من طرف وحوار. لقد صنفنا هذا الكتاب مع مجموعة الأمالي والمجالس؛ لأنه تسجيل لأحاديث وأمالٍ ومحاضرات، ومناقشات ألقيت في أربعين ليلة، ألقاها أبو حيان على مسامع أبي عبد الله الحسين العارض بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة بن بويه في بغداد. لقد كان ذلك العصر عصر الندوات العلمية الدائمة التي تعقد في قصور الأمراء والوزراء، ومن أشهر هذه الندوات، ندوة عضد الدولة بن بويه في شيراز، وندوة ابن العميد في الري، وندوة الصاحب بن عباد في أصبهان، وندوة الوزير المهلبي في بغداد، وقد سبقتها في بغداد، ندوة ابن سعدان هذا الذي وزر لصمصام الدولة لمدة ثلاث سنوات على وجه التقريب بين 373، 375هـ. لقد كانت ندوة ابن سعدان تضم عددًا من مشاهير الأدباء، والفلاسفة، والشعراء، والرياضيين منهم ابن زرعة الفيلسوف، ومحمد بن محمد بن يحيى اليوزجاني المعروف بأبي الوفاء المهندس نابغة الهندسة والرياضة، وأبو سعد بهرام بن أردشير، ومسكويه عالم الأخلاق، وابن شاهويه، وابن حجاج الشاعر الماجن، وأبو عبيد الخطيب الكاتب. وأخيرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 انضم إلى هذه الندوة صاحبنا أبو حيان، الأمر الذي جعل ابن سعدان يفاخر بها الندوات الأخرى التي كان يلتئم شملها عند من ذكرنا من الأمراء والوزراء. أما قصة هذا الكتاب فإن أبا الوفا المهندس الذي مر ذكره كان صديقًا لكل من أبي حيان، والوزير ابن سعدان، فقرب أبو الوفا أبا حيان إلى الوزير وجعله من سماره، فسامره أربعين ليلة عالج فيها أبو حيان الكثير من الموضوعات من أخبار أدبية، وشعر، ونثر، ولغة، وفلسفة، ومنطق، وأخلاق، وطبيعة، وإلهيات، وتفسير، وحديث، وبلاغة، وسياسة، وحيوان، وطعام، وشراب، ومجون، وغناء، وموسيقى، وتاريخ، وتحليل لشخصيات العصر من ساسة وعلماء وفلاسفة وأدباء، وتعرض للحياة الاجتماعية المعاصرة بالدراسة والعرض والتحليل، وكانت تجري في أثناء هذه الأحاديث مناقشات بين الوزير وأبي حيان تدل على ما كان لهذا الوزير من مشاركة في مختلف موضوعات الأدب واللغة والفلسفة والإلهيات، وكان أبو حيان يختتم كل ليلة من ليالي المسامرات هذه بملحة يطلبها منه الوزير ويسميها ملحة الوداع التي تكون تارة قصة فكهة قصيرة أو أبياتًا من الشعر طريفة. المهم أنه بعد أن انتهى أبو حيان من لياليه الأربعين التي سامر فيها الوزير، فطن أبو الوفاء المهندس إلى ما فيها من موضوعات نفيسة جديرة بالحفظ، خاصة ما حوته من مناقشات الفكر وخطرات العقل، وعطاء البديهة، وما قد عرضه أبو حيان نتيجة الدراسة والتحصيل وإعداد السابق، كل ذلك جعل أبا الوفاء المهندس يطلب من أبي حيان -لاجئًا إلى نوع من الضغط الأدبي- أن يكتب هذه المسامرات كل ليلة بليلتها، فاستجاب له أبو حيان، وكتب أحاديث الأربعين بكل ما حوت من فنون المعرفة، وتفاصيل المناقشات. هذا وكانت الليالي تختلف طولًا وقصرًا، كما أن موضوعًا واحدًا من موضوعات الحديث كان يستغرق أحيانًا أكثر من ليلة كما حدث في الليلتين الرابعة، والخامسة، فقد كان موضوع الحديث فيهما عن الكتاب وأعلامهم مع طرق موضوعات أدبية ونقدية، والليلتين التاسعة والعشرين والثلاثين حين كان الحديث في التفسير واللغة والنحو. وإذا كان لنا أن نستعرض بعض الليالي وما عولج فيها من موضوعات، ففي الليلة الرابعة والعشرين على سبيل المثال، عالج أبو حيان موضوع الزهد والأخلاق وقصص الزهد وأخبارهم. وفي الليلة الخامسة والعشرين طلب الوزير من أبي حيان أن يسمعه كلامًا في مراتب النظم والنثر، فقدم أبو حيان استعراضًا بديعًا عذبًا للنظم والنثر، مع حديث عن البلاغة والأدب. وفي الليلة السادسة والعشرين كان الحديث عن الكلمات القصار من حكم وأمثال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فقدم أبو حيان حشدًا من مختارات الحكم نظمًا ونثرًا. وفي الليلة السابعة، والعشرين كان الحديث عن الصوفية، والتوكل على الله مع قصص لطيفة مأثورة، ثم عرج أبو حيان بناء على طلب الوزير إلى الحديث في المنطق، ثم في اللغة مع تطرق لموضوع الفأل والطيرة. وكانت الليلة الثامنة والعشرون ليلة طويلة، وساعد على طولها طبيعة الموضوع المطروق، فقد كان الحديث عن الغناء والقيان ومحبي الطرب وشعر الغناء، وما يتصل بهذا الموضوع من قريب أو بعيد. وبينما كانت الليلة الماضية حديثها القيان والقصف، والغناء فإن حديث الليلة التاسعة والعشرين كان في التفسير واللغة، ويستمر حديث اللغة والنحو فيستحوذ على الليلة الثلاثين. وفي الليلة الخامسة والثلاثين يكون الحديث عميق التناول؛ لأنه حديث عن النفس والروح وصفتهما، والفرق بينهما، وما الإنسان؟ وما الطبيعة؟ وما العقل؟ وما المعاد؟ ويتطرق الحديث إلى علم النفس، والفلسفة. وحديث الليلة الأربعين يتناول الشعر والشعراء والنقد، وعلم الكلام وأشتاتًا من الموضوعات مع مناقشات لطيفة وحوار عذب. الواقع أن كتاب الإمتاع والمؤانسة يعتبر نسيج وحده بين كتب "المجالس" و "الأمالي" وإن كنا نصنفه في كتب المجالس فهو إليها أقرب. إن أبا حيان شخصية خطيرة عندما يعرض لتحليل الأشخاص وعرض الموضوعات، ولقد كشف اللثام عن كثير من الموضوعات الاجتماعية والسياسية وحلل شخصيات عصره اللامعة من أمثال ابن العميد والصاحب بن عباد وأبي سليمان المنطقي. ومن الموضوعات الفريدة التي جاءت في الإمتاع والمؤانسة -على سبيل المثال- المناظرة الفريدة الممتعة التي جرت بين أبي سعيد السيرافي، وأبي بشر متى بن يونس في المفاضلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، كما أن الإمتاع والمؤانسة هو أول كتاب يميط اللثام عن رسائل إخوان الصفا وأشخاص مؤلفيها. ولعل من أهم سمات الفكاهة في الكتاب تلك الملح التي كان ينهي بها أبو حيان حديثه بناء على رغبة الوزير، فمن تلك الملح النثرية قول أبي حيان: حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بناء ليبني له حائطًا فحضر، فلما أمسك اقتضى البناء الأجرة، فتماسكا، وذلك أن الرجل طلب عشرين درهمًا، فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهمًا؟ قال: أنت لا تدري، إني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 قد بنيت لك حائطًا يبقى مائة سنة، فبينما هم كذلك اهتز الحائط وسقط، فقال جحظة: هذا عملك الحسن؟ قال: فأردت أن يبقى ألف سنة؟!! قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفى أجرتك. ومن الطرف الشعرية التي ختم بها أبو حيان إحدى لياليه روايته هذه الأبيات: إذا استمتعت منك بلحظ طرفي ... حيى نصفي ومات عليك نصفي تلذذ مقلتي ويذوب جسمي ... وعيشي منك مقرون بحتفي فلو أبصرتني والليل داجٍ ... وخدي قد توسط بطن كفي ودمعي يستهل من المآقي ... إذن لرأيت ما بي فوق وصفي إن كتاب الإمتاع والمؤانسة -حسبما وصفه أستاذنا أحمد أمين- أشبه شيء بألف ليلة وليلة ولكنها ليست ليالي للهو والطرب وكيد النساء ولعب الغرام، إنما هي ليالٍ للفلاسفة والمفكرين والأدباء1.   1 الإمتاع والمؤانسة: المقدّمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الفصل السادس: أمالي الشريف المرتضى : إن هذه الأمالي هي الأخرى من أرفع كتب الأمالي قيمة وأنفسها محتوى وأكثرها شهرة، وقد يطلق عليها اسم آخر، إنه الاسم الذي خلعه عليها مؤلفها "غرر الفوائد ودرر القلائد" وقد يختصر هذا الاسم الطويل فيعرف الكتاب باسم "الغرر والدرر". وإذا كان أبو علي القالي مؤلف أول كتاب في مجموعة الأمالي وأشهرها رفيع القدر سامي المكانة لدى ملوك الأندلس وعلمائها، فإن علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى، كان في بغداد التي ولد فيها سنة 355هـ ومات فيها سنة 436 أعلى قدرًا وأوفر حظًّا، فقد كان مثال العالم المتبحر في العلوم الدينية، وعلم الكلام صاحب حظ وفير من العلم والثقافة والأدب، تولى منصب نقيب الطالبين بعد أن زهد فترة طويلة لانشغاله بالتحصيل والدرس والتأليف. لقد كان محل احترام الخلفاء العباسيين والأمراء البويهيين الذين كانوا الحكام الحقيقيين لبغداد، وكان واسع الثراء يملك ثمانين قرية تمتد بين بغداد وكربلاء يشقها نهر صغير، ولكنه كان يفيض من ثروته على العلماء والطلاب والمحتاجين، وكان كريمًا سخيًّا أديبًا ناقدًا صاحب ملحة، وفكاهة. ومن المآثر الجميلة التي تحكى عنه أن الأديب أبا الحسن علي بن أحمد الفالي -بالفاء- كان يمتلك نسخة جيدة من جمهرة ابن دريد فدعته الحاجة إلى بيعها، فباعها وكان المشتري الشريف المرتضى الذي دفع ستين دينارًا ثمنًا لها، فلما تصفحها وجد عليها أبياتًا بخط الفالي يبكي فراق نسخته العزيزة وفيها يقول1: أنست بها عشرين حولًا وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني   1 وفيات الأعيان "3/ 316". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهل شئوني فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ ... مقالة مكوي الفؤاد حزين وقد تخرج الحاجات يا أم مالكٍ ... كرائم من رب بهن ضنين فما إن وقعت عينا الشريف على الأبيات حتى أعاد النسخة إلى صاحبها وترك له الدنانير. هذا وكان الشريف نفسه شاعرًا رقيقًا ترك ديوانًا فقد مع ما فقد من آثاره العلمية والأدبية، ولكن مقاطع كثيرة جميلة قد حفظت في بطون الكتب التي ترجمت له، فمن رقيق أبياته قوله يتعشق نجدًا وقصد في الحقيقة حسان نجد: أحب ثرى نجد ونجد بعيدة ... ألا حبذا نجد وإن لم تفد قربا يقولون: نجد لست من شعب أهلها ... وقد صدقوا لكنني منهم حبًّا كأني وقد فارقت نجدًا شقاوةً ... فتًى ضل عنه قلبه ينشد القلبا ومن الأبيات العذبة التي يطرب لها محب الشعر قول الشريف المرتضى1: يا خليلي من ذؤابة قيس ... في التصابي رياضة الأخلاق عللاني بذكرهم تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق ويسمع هذه الأبيات شاعر طريف لعله كان من المحبين الولهين الذين يتعشقون لوعة السهر فيعلق قائلًا: المرتضى قد خلع ما لا يملك على من لا يقبل. وكان للمرتضى مكتبة كبيرة تمده بكل أسباب المتعة الفكرية بالإضافة إلى أملاكه الكثيرة التي كانت توفر عليه الوقت الذي يبذله الكادحون في الحصول على أسباب العيش، وقد قدر ما فيها من كتب بثمانين ألف كتاب، ولذلك استطاع الشريف أن يترك آثارًا علمية   1 المصدر "3/ 314". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 تناهز السبعين مؤلفًا ما بين كتاب وكتيب ورسالة شملت مواضيع عديدة من تفسير، وفقه، وعلم كلام، وأصول، وعقيدة، وتاريخ، وأدب ونقد وبلاغة ولغة بقي منها بين أيدينا الكتب الآتية: 1- الأمالي أو الغرر والدرر. 2- الشهاب في الشيب والشباب. 3- تنزيه الأنبياء. 4- الانتصار، في الفقه. 5- المسائل الناصرية، في الفقه. 6- تفسير القصيدة المذهبية، وهي قصيدة للسيد الحميري. 7- إنقاذ البشر من الجبر والقدر. هذا وينسب بعض المؤرخين إليه أنه جمع "نهج البلاغة" وأنه وضع الكثير مما فيه من الخطب ونسبها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهناك مؤرخون آخرون نسبوا هذا الأمر إلى شقيقه الشاعر المرهف والأديب المطبوع محمد بن الحسين المعروف بالشريف الرضي. أما الأمالي نفسها فهي تشمل ثمانين مجلسًا كان الشريف يلقي خلالها أماليه التي لم يكن يتحرى يومًا بعينه لإملائها، وإنما كانت تخضع للمناسبة، وكلما كان مستعدًّا لذلك. ويبدو أنه كان يعد نفسه لكل مجلس إعدادًا منظمًا مرتبًا، فنحن نستطيع أن نحس بروح التنسيق التي كان يقدم بها المرتضى أماليه: أولًا: إنه عادة يفتح المجلس بآية كريمة يختارها ثم يقوم بتفسيرها بشيء من الإبانة والإضافة، ولكن على مذهب المعتزلة أو أهل العدل كما كانوا يسمون أنفسهم، وقد كان الشريف معتزلي الفكر والعقيدة، وغالبًا ما كان الشريف ينتقل من الآية إلى تناول حديث نبوي شريف بالشرح والإبانة خاصة إذا كان هناك بين العلماء من قد اختلفوا في تأويله. ثانيًا: وكان الشريف في أماليه يهتم بالشعراء وأخبارهم، وأشعارهم، وما فيها من مبتكر جديد أو ترديد وتقليد لشعراء سابقين، ونحن لا نكاد نجد شاعرًا مرموقًا في الجاهلية، والإسلام حتى زمان الشريف إلا وعنه خبر أو نص أو دراسة، ومن بين هؤلاء جميعًا من خصهم الشريف بعناية ملحوظة وسلط عليهم الأضواء أمثال السيد الحميري، ومروان بن أبي حفصة والحسين بن مطير، وأبي حية النميري. ثالثًا: ومرات عديدة يختار الشريف في أماليه موضوعًا بعينه ويستعرض أقوال الشعراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 فيه، ولا ينسى قسطه من الإسهام فيه بشيء من شعره متى سنحت الفرصة بذلك، فيختار حينًا موضوع وصف الثغر والحديث، أو طيف الخيال، أو الزهد في الدنيا، أو الشيب، إلى غير ذلك من الموضوعات التي يعن له تصورها كأديب قارئ صاحب إلمام عريض ودراسة واسعة. رابعًا: والشريف على تقاه ومكانته لا يتردد في طرق بعض موضوعات الأدب المكشوف، والشعر الخليع في بعض الأحيان1. هذا وللشاعرات النساء قسط، ونصيب في الكتاب وإن لم يكن بالقدر الذي يشفي غلة أو يطفئ صدى. والشريف البلاغي حاضر في عدد كبير في موضوعات الأمالي، فكثيرًا ما عالج موضوعات بلاغية علاج البلاغي الناقد الأديب كأن يعقد فصلًا طريفًا موسعًا للتشبيه أو يعرض لموضوع الإيجاز والاختصار والحذف2. وأمالي الشريف المرتضى مليئة بأخبار الخطباء المفوهين البلغاء، والذين وقفوا على المنابر فارتج عليهم، ومن نصوص الخطب أو الشعر يتخذ الشريف وسيلة لشرح معاني الكلمات الغريبة ويستطرد منها إلى دروس في علوم اللغة ولكن بشكل أقل كثيرًا من القالي في أماليه. ولما كان الشريف المرتضي صاحب مكانة دينية سامية بل صاحب دين، وإيمان فإن شخصيته المؤمنة تنعكس على الكثير من أبواب أماليه أو بالأحرى موضوعاتها، فهو يكثر من الكلام على مذهب أهل العد، ويتحدث عن المفكرين من أعلام الإسلام مثل الحسن البصري، وواصل بن عطاء رأس المعتزلة، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، وبشر بن المعتمر3. ومن منطلق الإيمان يعمد إلى فضح المتآمرين على الإسلام من زنادقة الشعراء والأدباء الذين يبدأون عنده من الوليد بن يزيد، ثم يمضي في ذكرهم وهم حماد الراوية، وحماد بن الزبرقان، وحماد عجرد، وابن المقفع، وأبو العيناء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن الحارثي، وصالح بن عبد القدوس، ويأتي ببعض أخبارهم ومجونهم. والشريف المرتضي على رغم جدية أماليه غير متعسف ولا متزمت وإنما يربط أماليه بين   1 أمالي المرتضي "2/ 62-64". 2 المصدر "2/ 124، 130، 209-214". 3 المصدر "1/ 148-152". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الحين والحين بملحة طريفة أو نادرة فكهة من تلك التي سبق أن وردت عند الجاحظ، أو المبرد مع إكثار من طرائف الأصمعي وأخباره. وهذا وإن الشريف قد ألقى آخر حلقة من سلسلة أماليه في الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة 413هـ وكانت سنه آنذاك ثمانية وخمسين عامًا، وأما السنوات الثلاث والعشرون التي عاشها بعد ذلك فلم يلق فيها من الأمالي إلا القليل التي ألحقت بآخر الكتاب، نحا فيها النحو نفسه ونهج النهج عينه. والأمر الذي لا شك فيه أن لأمالي المرتضى لونًا خاصًّا بها وذوقًا متميزًا، ونهجًا مختلفًا، وشخصية متماسكة، وإذا كانت هناك بعض السمات التي تربط بينها وبين مثيلاتها من أمالٍ ومجالس، فإن الأغلب على أمالي المرتضى شخصيتها المتميزة، وموادها النفيسة التي ربما كانت أخف على النفس وأقرب إلى القلب وأيسر على الخاطر، وأنشط على الإفادة والاستيعاب. فإن فرقًا كبيرًا نستطيع أن نلمسه بين أمالي القالي وأمالي المرتضى، أمالي الأول تتسم بروح الجدية والإغراب والعمد إلى إظهار الوفرة العلمية عمدًا، وأما الثاني ففي أماليه سمات شخصيته السمحة، الخالية من التعقيد، الواثقة من نفسها وعلمها وفي مجتمع يكن لها الاحترام الموروث والمكتسب، فإن منصب نقيب الطالبيين كان يحظى بالكثير من الاحترام والإجلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الفصل السابع: أمالي ابن الشجري : ابن الشجري عالم جليل كان فيما يقول ياقوت: أوحد زمانه وفرد أوانه في علم العربية، ومعرفة اللغة وأشعار العرب، وأيامها وأحوالها 1، وإذا كان كل من صاحبي الأمالي اللذين مر ذكرهما قد احتل مكانة رفيعة لدى السلطان وجمهرة العلماء، فاضلًا سمحًا كريمًا، فإن ابن الشجري كان امتدادًا لهذه الدرجة العلمية الظليلة، ولعله كان في خلقه، ومكانته، وعلمه أقرب إلى الشريف المرتضى منه إلى أبي علي القالي، فلقد كان ابن الشجري من الدوحة العلوية، وكان نقيبًا للطالبيين في الكرخ نيابة عن والده، كما كان بيته منتجع الطالب ومقصد المتأدب ومنتدى الفضل ودوحة العلم، وهو في هذه الخلات شبيه بالشريف المرتضى، ثم هو بعد ذلك شاعر أديب، ومؤلف في علوم العربية له تآليف جليلة القدر طيبة الأثر. إن اسمه كاملًا هبة الله بن علي بن محمد ... بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكنيته أبو السعادات، وشهرته ابن الشجري، وقد اختلف المؤرخون في هذه النسبة، وهل هي إلى "شجرة" قرية من ضواحي المدينة، أم إلى أحد أجداده الذي كان اسمه شجرة؟ فقد كان من الأسماء التي يسمي العرب بها أبناءهم اسم شجرة2. لقد عمر أبو السعادات طويلًا حتى نيف على التسعين 450-544هـ كان أهلًا للفضل جادًّا في حياته، أنفقها كلها في العلم، وهو يصور الجد في قوله: لا تمزحن فإن مزحت فلا يكن ... مزحًا تضاف به إلى سوء الأدب   1 معجم الأدباء "19/ 282". 2 وفيات الأعيان "6/ 50". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 واحذر ممازحة تعود عداوةً ... إن المزاح على مقدمة الغضب ومن مثالياته التي صورها حكمه في شعره قوله: وتجنب الظلم الذي هلكت به ... أمم تود لو أنها لم تظلِمِ إياك والدنيا الدنية إنها ... دارٌ إذا سالمْتَهَا لم تَسْلَمِ أما مؤلفات ابن الشجري، فهي وإن لم تكن كثيرة العدد إلا أنها نفيسة القيمة عظيمة القدر خطيرة الشأن جليلة الأثر، وهي الأمالي - موضوع حديثنا- والحماسة التي حاكى في تأليفها حماسة أبي تمام، ومختار الشعراء، وهذه الكتب الثلاثة مطبوعة، وله أيضًا شرح التصرف المملوكي، وشرح اللمع لابن جني، وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه. وأما كتابه "الآمالي" فإنه أنفس كتبه، وهو من الكتب الممتعة، أملاه في أربعة وثمانين مجلسًا، ونهج فيه نهج الشريف الرضي في أماليه، وطرق موضوعات القرآن، والحديث والأخبار والشعر، والنثر، وأخبار الشعراء، والخطباء وطرزه بكثير من الحكم، والطرف، والملح، وتبدو في موضوعات الكتب سمة الأديب حينًا وسمة اللغوي النحوي حينًا آخر، وقد كان أبو السعادات مبرزًا في الميدانين، على أن قوسه في اللغة أوسط وسهمه في النحو أوفر. ومن الأحداث الغريبة أن ابن الشجري لما انتهى من إملاء كتابه حضر إليه أبو محمد عبد الله بن الخشاب الأديب اللغوي القارئ صاحب الخط الجميل، وطلب منه أن يسمع عليه "الأمالي" فاعتذر الشيخ عن ذلك، فانصرف ابن الخشاب غاضبًا، وتوفر على قراءة الكتاب محاولًا أن يرصد بعض الأخطاء، وكتب ردًّا على الأمالي مستعرضًا بعض ما ظنه خطأ فيه فوقع الرد في يد أبي السعادات الذي كتب ردًّا على الرد به وجوه خطأ ابن الخشاب، وجعله في كتاب صغير أسماه "الانتصار". فإذا ما تتبعنا مواد الدرس التي ألقاها ابن الشجري من خلال أماليه فإننا سوف نلاحظ أنه كان يجلس، لكي يملي ما عنده من مادة في موضوع بذاته، ولكنه لا يتقيد بالحديث في موضوعه تقيدًا كاملًا، بل يتصرف في مجلسه ويستطرد وينوع، فيجمع في مجلس النحو مثلًا طرائف وأخبارًا، وفي حديث الشعر قضايا نحوية ونكتًا لغويةً وأسمارًا، وفي تفسير القرآن الكريم يقدم شواهد شعرية، ويقف على قضايا لغوية حسبما تمليه طبيعة المجلس والمادة الملقاة، ولكننا نحس في الوقت نفسه أن ابن الشجري قد أعد نفسه إعدادًا علميًّا لمجلسه قبل مواجهة مستمعيه بحيث يبدو فيه التركيز والجدية، مع خلفية علمية وافرة وابتعاد عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الترخص في القول أو السطحية في التناول، هذا وإن الروح العلمية والحس الأدبي لا يتخليان عن الرجل في كل مجالسه التي أحصيت بأربعة وثمانين مجلسًا، وإن كان الذي بين يدي منها ثمانية وسبعون لا غير، ومن الطريف أن أكثر هذه المجالس ينص قبل البداية في تسجيلها على اليوم والتاريخ، الذي ألقيت الأمالي فيهما. وإذا كان لنا أن نقدم صورة لأمالي ابن الشجري ومادتها فإننا يمكن أن نلفت النظر إلى أهم موضوعاتها على النحو التالي: أولًا: تفسير القرآن الكريم، فقد احتل التفسير عددًا من المجالس مثل الثامن، والتاسع، والعاشر، والسادس والسبعين، وبعض الفصول من المجلس الثالث والستين، والرابع والستين والتاسع والستين، وهذه المجالس الثلاثة الأخيرة قد خصصت لموضوعات أساسية أخرى، وكان التفسير القرآني فيها أمرًا فرعيًّا حسبما سنبين بعد قليل. فإذا ما تمثلنا لواحد من المجالس التي خصصت للتفسير مثل المجلس الثامن فإننا نجد ابن الشجري قد خصصه لتفسير الآية الكريمة: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ولعل أهم ملحظ نلحظه في طريقة تفسير صاحب الأمالي، أنه يبدأ من منطلق لغوي نحوي ويلح عليه إلحاحًا شديدًا ويقف عند القضايا النحوية مبديًا رأي كل من النحاة البصريين والكوفيين. وهو في تفسيره يستعين بالعديد من الآيات القرآنية الأخرى، ويستشهد بالكثير من الأبيات الشعرية التي تعينه في تفسيره وتخدم وجهة نظره. هذا وابن الشجري يعمد في تفسيره إلى الصيغة الجدلية، وهي طريقة المعتزلة في البرهان، كقوله: فإن قيل كذا قيل كذا، وهلم جرَّا1. وفي المجلس السادس والسبعين يفسر السورة الكريمة: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . ولكنه في تفسيره يمزج الفكر الديني بالفروض والتكاليف بعلوم اللغة بفنون النحو بشواهد الأدب بقضايا الإعراب بمذاهب اللغويين والنحاة، مع الاستعانة بالعديد من الآيات القرآنية. على أن ابن الشجري لا يجد مجلسه قد استوفى درسًا، أو ربما أحس بأن الزمن الذي استغرقه تفسير الآية لا يشكل مجلسًا متكاملًا، فينتقل إلى مواضع أدبية وتقديم نماذج شعرية في وصف الأسد للمتنبي، ووصف الفرس للجعدي، ويذكر آراء ونظريات لأبي علي   1 الأمالي "1/ 47" وما بعدها: المجلس الثامن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الفارسي تتصل بالموضوع الذي يعرض له من قريب حينًا، ومن بعيد حينًا آخر، ويكمل المحاضر مجلسه، أو بالأحرى درسه، بأنماط من الموضوعات مترابطة ومتباعدة، توشى بالآية القرآنية حينًا، وبيت أو بيتين من الشعر أحيانًا، وبقضية نحوية حينًا ثالثًا حتى يستوفي مجلسه أو درسه أو إملاءه1. ثانيًا: والعنصر الثاني من عناصر الأمالي هو الشعر، وقد كان ابن الشجري يمنحه الكثير من العناية في التناول والبسطة في الشرح إلى المدى الذي يجعل مجلسًا بكامله لدراسة بيت واحد من الشعر كما هو الحال في المجلس الخامس، أو المجلس السادس، فالمجلس الخامس بأكمله يستغرق شرح بيت للشريف الرضي في مدح الطائع العباسي وفيه يقول: قد كان جدك عصمة العرب الألى ... فاليوم أنت لهم من الإعدام وإذا لم يكن البيت من جودة البناء ولا من رقة الشاعرية بمكان، فإنه من وجهة نظر ابن الشجري يؤدي غرضين على الأقل، الغرض الأول ينضوي تحت معنى التحية والتكريم للشريف الرضي يذكره في مجلسه لما بينهما من وشائج القربى وصلة المذهب، فضلًا عن أن كلا من الشريف وابن الشجري كان نقيبًا للطالبين رغم أن الفرق الزمني بينهما يزيد على قرن من الزمان، والغرض الثاني أدبي محض، فإن صاحب الإملاء يقضي مجلسه في شرح الكلمات، وإبانة مستبهم المعاني التي قصد الشاعر إليها، ويستطرد بالإتيان بنماذج لشعراء سابقين في المعنى نفسه أو قريبة منه، ويقوم على تحليل هذه النماذج الجديدة تحليلًا مفصلًا مطولًا فيه استطراد وإطناب2. ويتكرر ذلك عند ابن الشجري أكثر من مرة عندما يجعل المجلس السادس كله لبيت المتنبي: وتراه أصغر ما تراه ناطقًا ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم أو عندما يقضي المجلس الثاني عشر كله في تناول بيت للشاعر نفسه هو قوله: أي يوم سررتني بوصالٍ ... لم ترعني ثلاثة بصدود ولعلنا نلاحظ أن ابن الشجري لا يختار البيت لجمال ظاهر فيه، وإنما الأمر على   1 الأمالي "2/ 324" وما بعدها. 2 الأمالي "1/ 29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 العكس، إنه يختاره لما يلتحف به البيت من غموض يحتاج إلى الاجتهاد في شرحه، وفهمه وتعليل معانيه، وهي نغمة كانت مستحبة في الشعر آنذاك وإن كان المنصفون من النقاد يرون ذلك عيبًا من عيوب شعر المتنبي، فالكلام المستغلق المعاني أبعد شيء عن البلاغة، ومن باب أولى يكون الشعر المبهم المعنى أبعد شيء عن الشعر الجيد. ولكن لا بأس من أن نطل على ابن الشجري في مجلسه السادس، وهو يتناول بيت المتنبي الذي مر ذكره قبل قليل، إن حديثه عن البيت يستغرق مجلسًا بأكمله حسبما ذكرنا ويحتل سبع صفحات كاملة من أماليه1، إنه يتحدث عن الرؤية من قوله "وتراه أصغر ما تراه" ويتساءل: هل هي رؤية العين أو رؤية القلب، ويطيل في صيغ الاستفهام، ويكثر من تعديد الأسئلة، ثم يتولى بعد ذلك الإجابة عنها إجابة مفصلة في نطاق النحو والصرف، مطولة في نطاق الاستشهاد والتأويل المعنوي الأدبي، مع التمثيل لكل ما يقول بآراء السابقين من الأدباء واللغويين مثل الأصمعي وابن الأعرابي، ويجيء بأمثلة لبعض الشعراء أو من كانوا يصطنعون الشعر مثل الأعشى، والكسائي، وكثير بن عبد الرحمن، وذي الإصبع العدواني، وطرفة، وامرئ القيس، هذا فضلًا عن شعر كثير لشعراء عديدين لم يذكر أسماءهم. وأحيانًا يقضي الشجري مجلسين متتاليين لدراسة عدة من الأبيات لشاعر واحد، فقد قضى المجلسين التاسع عشر والعشرين في شرح أبيات ثمانية لأعشى تغلب "ربيعة بن نجران" قالها في هجاء بني مروان والفخر عليهم، يتناولها من خلال المنهج اللغوي، والنحوي نفسه مع ذكر بعض الوقائع والأيام وأحداث التاريخ، والتمثل بشعر الآخرين2. وأغلب الظن أن ابن الشجري كان ذا هدف في إيراد هذه الأبيات والإفاضة في شرحها في مجلسين يومي السبت السابع عشر من رجب، والرابع من شعبان سنة 524هـ. إنه بحكم كونه طالبيًّا هاشميًّا يحمل عداوة ظاهرة أو مستترة لبني أمية لما فعلوه بآل البيت ولاغتصابهم الخلافة منهم، ومن ثم كان وقوفه طويلًا على أبيات أعشى ربيعة يحمل معنى التشفي والراحة النفسية، ذلك أن بني أمية قد مدحوا بما لم يمدح به غيرهم من الخلفاء أو الملوك الذين ولوا إمرة المسلمين بعدهم، لقد مدحهم جرير والأخطل، والفرزدق، والقطامي، وعدي بن الرقاع، بل لقد مدحهم بعض من كان يكن لهم الكراهية والموجدة مثل كثير عزة، لقد مدحهم الفحول الكبار بما خلدهم كممدوحين كبار، فلا غرابة أن يتصيد ابن الشجري -وهذا موقفه منهم- أبياتًا في هجائهم والفخر عليهم يعثر عليها عند شاعر ينتمي إلى الدين نفسه الذي كان ينتمي   1 المصدر "1/ 35-42". 2 الأمالي "1/ 123-137". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 إليه الأخطل شاعرهم الأول، فكل من الأخطل وأعشى ربيعة كان نصرانيًّا. وهي أبيات ذات فحولة وجزالة وطنين ورنين يقول فيها صاحبها: كأن بني مروان بعد وليدهم ... جلاميد ما تندى وإن بلها القطر وكانوا أناسًا ينفحون فأصبحوا ... وأكثر ما يعطونك النظر الشزر أأنسى إذا ما لم تنبكم كريهة ... وأدعى إذا ما هزهز الأسل الحمر ألم يك غدرًا ما فعلتم بشمعل ... وقد خاب من كانت سريرته الغدر كأين دفعنا عنكم من كريهةٍ ... ولكن أبيتم لا وفاء ولا شكر"*" ومن الأمالي الجديدة ذات الذوق الرفيع في اختيار الشعر ما أملاه ابن الشجري في المجلس الثالث والستين1، إنه يملي ويشرح قصيدة بائية قالها ابن نباتة السعدي في الفخر، أبياتها سبعة وثلاثون يقول في مستهلها: رضينا وما ترضى السيوف القواضب ... نجاذبها عن هامكم وتجاذب فإياكم أن تكشفوا عن رءوسكم ... ألا إن مغناطيسهن الذوائب نصون ثرى الأقدام عن وتراتها ... فتسرقه ريح الصبا وتسالب "**" وهبنا منعناه الصبا بركوبنا ... أنمنع منه ما تطاه الركائب إن ابن الشجري يشرح القصيدة شرحًا معتدلًا، وهو في تناوله هذه القصيدة يأخذ جانب الحس الأدبي أكثر مما يجنح إلى الإطناب اللغوي، وإن كان يعلل بعض الضرورات التي   "*" الشزر: النظر بمؤخر العين، وهو يعني التكبر، الكريهة الحرب، شمعل هو شمعلة بن قائد بن هلال التغلبي، وكان قد ناله بعض الضرر من عبد الملك بن مروان. 1 الأمالي "2 / 183-190". "**" الوترات واحدتها وترة، وهي الحاجز بين المنخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 يبيحها الشعر مثل "تطاه" فأبدل الشاعر الهمزة ألفًا لينة، ولم يستشهد بشعر شعراء آخرين غير مرتين اثنتين، مرة بيتين للأبيوري في تشبيهه السيوف باللجين قبل الضرب بها، وبالعسجد بعد الضرب بها في قوله: ولله در السيف يجلو بياضه ... غياهب يوم قاتم الجو أربدا بمعترك يلقى به الموت بركه ... يسل لجينًا ثم يغمد عسجدا1 ومرة أخرى ببيت لشاعر لم يذكر اسمه: نصف النهار، الماء غامره ... ورفيقه بالغيب ما يدري ولأن ابن الشجري قد اقتصر على المعاني الأدبية في شرح القصيدة، فإنه لم يستوفِ بها الوقت المحدد للدرس رغم طولها، فعمد إلى الانتقال إلى تفسير الآية الكريمة {أولئك أصحاب الجنة} حسبما مر بنا عند حديثنا عنه مفسرًا. ومن مجالس الشعر المجلس الرابع والستون2 وهو يعرض فيه قصيدة في لقاء الأسد، ذكر أنها أجود شعر قيل في مثل هذا الموقف، ونسب القصيدة إلى من اسمه بشر بن عوانة العبدي ومطلعها: أفاطم لو رأيت ببطن خبتٍ ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرَا إذن لرأيت ليثًا أمَّ ليثًا ... هزبرًا أغلبًا لاقى هزبرًا وابن الشجري صادق في قوله إن هذه القصيدة من أحسن الشعر الذي قيل في لقاء الأسد، ونسب روايتها إلى بديع الزمان الهمذاني سماعًا من ابن أخته محمد بن عبد السلام القزويني. وفات ابن الشجري أنه ليس هناك شاعر اسمه بشر بن عوانة العبدي، فبشر هذا اسم لشخص وهمي جعل منه بديع الزمان المهذاني بطلًا لإحدى أقاصيصه في الحب والبطولة والتضحية في سبيل من يريد الزواج منها، وهي ابنة عمه فاطمة التي هي بدورها شخصية وهمية، وهذه الأقصوصة الممتعة التي يكتبها بديع الزمان وضمنها هذه القصيدة   1 البرك في قوله بركة: الصدر، استعاره للموت. 2 الأمالي "2/ 192". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الرائية عنوانها "المقامة البشرية" وهي وغيرها من مقامات بديع الزمان تعتبر الأصل الحقيقي للقصة العربية القصيرة، وليس بالصحيح ما ذكره بعض من لم يطلعوا على تاريخ أجدادهم من المحدثين من أن القصة القصيرة وافدة علينا من الغرب الأوربي1. إن بديع الزمان بمكره وظرفه ألبس قصيدته ثوبًا منسوجًا من ألفاظ تحتاج إلى شرح، حتى تبدو القصيدة وكأنها جاهلية حقيقية، الأمر الذي جعل ابن الشجري يقف أمامها وقفات طويلة متوفرًا على شرح الألفاظ، والإفاضة في طرح المعاني المستفادة مع وقفات نحوية ولغوية عديدة، ورطه فيها مكر بديع الزمان وسعة حيلته في نحل القصيدة ونسبتها إلى شاعر جاهلي موهوم. ثالثًا: وهذا العنصر الثالث هو عنصر النحو واللغة ونصيبهما من أمالي ابن الشجري، والحق أن نصيبهما كبير، فصبغة الرجل صبغة لغوية نحوية على نسق الرعيل الأول من كبار المؤلفين الذين كانوا يحتفلون باللغة وقضاياها والنحو ومسائله أكثر من احتفالهم بالقضايا الأدبية، ونحن إذا نظرنا في مجموعة المجالس التي احتوتها أمالي ابن الشجري، وجدناه يعقد المجلس الأول لعرض مسائل نحوية عدة والإجابة عنها فيقول مثلًا: "إنما وجب بناء ما قبل ياء المتكلم على الكسر؛ لأنهم لو أعربوه لم تسلم الياء مع الضم والفتح، إذ الضم يقتضي قلبها إلى الواو، والفتح يقتضي قلبها ألفًا، فإن قيل قد فعلوا ذلك في نحو: يا غلامًا، قيل إنما فعلوا ذلك في النداء" ويستطرد ابن الشجري في ذكر الأسباب وإيراد الأمثلة، ويناقش بعض آراء النحاة واللغويين كابن جني وغيره في قضايا مماثلة. ويخصص ابن الشجري المجلس الثاني من أماليه للغة من نحو وصرف، فيتحدث في إفاضة عن التثنية وفلسفتها ومعناها وضرورتها وأقسامها، وهذا المجلس يشكل فصلًا لغويًّا لطيفًا، شواهده آيات قرآنية، وأبيات منتقاة من الشعر العذب، وأحكام شرعية وبعض الطرائف2. ويعقد صاحب الأمالي مجلسين هما الثلاثون والحادي والثلاثون للحديث في النحو خاصة، ويتناول بعض القضايا المشوقة مثل علة حذف نون المثنى عند الإضافة، أو الحديث عن الخلاف في اسم المفعول من قال، وباع، ولماذا هو مقول في الأول ومبيع في الثاني، وأصل كل منهما في صيغته الأصلية على مفعول قبل الحذف، وأي الحروف حذفت ولماذا؟ مع ذكر مذهب كل من الخليل وسيبويه والأخفش. والبحث في جملته طريف على ما فيه من   1 راجع كتابنا "بديع الزمان الهمذاني رائد القصة العربية" "ص289". 2 الأمالي "1/ 3" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 جفاف الموضوع وتعقده1. ويطلق ابن الشجري نفسه على سجيتها، فإذا بها تفرغ لأبواب اللغة من نحو وصرف ثمانية وعشرين مجلسًا متتابعة ابتداء من المجلس الرابع والثلاثين إلى المجلس الثاني والستين، فيجعل المجلس الرابع والثلاثين -على سبيل المثال- في الحديث عن الاستخبار، والاستفهام، ثم يتحدث عن أقسام الاستفهام، ثم نتقل إلى عقد فصل عن الأمر، وفصل آخر عن النهي. وأحيانًا يعقد مجلسين متتاليين لموضوع واحد، قد يبدو في ظاهره بسيطًا، ولكنه في حقيقته طويل معقد، فقد جعل صاحب الأمالي المجلسين الخامس والخمسين والسادس والخمسين للقول في الترخيم، وهو يكثر في الفصلين من ضرب الأمثلة الكثيرة ويحاول أن يقعد قواعد للترخيم في نطاق جهد مبذول ودرس مكدود، بل إن الترخيم لغلبته على ابن الشجري فإنه يبدأ به قبل المجلسين المذكورين، لقد بدأه في النصف الثاني من مجلسه الرابع والخمسين، وفيه عرف به لغة وتمثيلًا، وكان المجلس نفسه قد بدئ بدرس في حذف الياء من أم وعم2. وابن الشجري وإن لم يتبع مذهبًا نحويًّا معينًا، فإنه يميل في أكثر أحكامه إلى آراء البصريين دون الكوفيين، فالمجلس التاسع والخمسون يعقده للحديث في "التعجب" ويرجح مذهب البصريين، كما يعقد المجلس الستين للحدث عن "نعم وبئس" ويفعل الشيء نفسه من أخذ برأي البصريين، وترجيحه على رأي الكوفيين. ولا يكاد ابن الشجري ينصرف إلى الشعر والأدب في مجالس عدة حتى يعادوه الحنين إلى اللغة والنحو والصرف، فيجعل مجالسه التاسع والستين حتى الخامس والسبعين كلها في هذا اللون من الثقافة اللغوية، ويتناول موضوعاته برشاقة، وعمق في الوقت نفسه، إنه يجعل المجلس التاسع والستين للحديث عن الظروف، وهو من خلال ذلك يدلف إلى شواهد من القرآن الكريم، فيفسر قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ويركز على لفظ "قريب" وتعليل مجيئها في صيغة المذكر، ثم يستطرد فيفسر قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} ويذكر القراءات التي جاءت في "بينكم" وهي الشاهد في الآية الكريمة، ويعالج حركتها وهي هل منصوبة أو مرفوعة، ويذكر من قرأها منصوبة وتعليله للنصب، ومن قرأها مرفوعة وتعليل الرفع3.   1 الأمالي "1/ 196-211". 2 المصدر السابق "2/ 78-100". 3 الأمالي "2/ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وهكذا يظل ابن الشجري يغازل اللغة وفنونها من نحو وصرف في موضوعاتها العديدة البسيطة حينًا المعقدة أحيانًا حتى نهاية المجلس الخامس والسبعين. ومهما كان الرأي في المنهج الذي اتبعه ابن الشجري -إذ لا نكاد نلمس له منهجًا واضحًا- فإنه كان فياض العلم وافر المعرفة كثير المحفوظ واسع الاطلاع يحتفل بتلاميذه فيعد نفسه إعدادًا حسنًا قبل مجلسه الذي يلقي أثناءه أماليه. ثم هو بعد ذلك يتنفس اللغة أكثر مما يتنفس الأدب، إننا نحس به مرتاحًا منسابًا متخصصًا حين يقدم على الحديث في اللغة وعلومها، وليس الأمر كذلك حين يتناول قصيدة شعرية أو قضية أدبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الباب السابع: طبقات الشعراء الفصل الأول: طبقات ابن سلام الجمحي مدخل ... الفصل الأول: طبقات ابن سلام الجمحي: الشعر العربي في حقيقته يعتبر الشعر الوحيد بين كل فنون الشعر العالمي من حيث طول الفترة التي عاشها عيشة ممتدة موصولة الأسباب، فمنذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا لم ينقطع إنشاده وإنشاؤه يومًا واحدًا أي أن عمره يمتد إلى ستة عشر قرنًا موصولة من الزمان صادف خلالها فترات من القوة والنشاط والازدهار، كما صادف أيضًا فترات من الزمان عصبية انحط فيها مستواه وتخلخلت عرى أسباب قوته، ودوافع نشاطه ومباعث تألقه. ومهما كان الأمر فما زلنا نردد شعر امرئ القيس والنابغة وزهير باللذة نفسها التي نردد بها شعر شوقي ومطران وناجي في مصر، والزهاوي والرصافي وحافظ جميل في العراق، والأخطل الصغير والشاعر القروي في لبنان، وعمر أبي ريشة وبدوي الجبل في سورية، وأبي القاسم الشابي في تونس مارين بشعراء الأحقاب الزمنية من المبرزين الموهوبين في صدر الإسلام، وعهد بني أمية وزمان بني العباس وشعر الأندلس، وشعر العصر المملوكي إلى غير ذلك من عهود وأمكنة، شعر مفهوم للجميع لم يحدث للغته انكسار أو تغير كما حدث بين اليونانية القديمة والحديثة أو اللاتينية ومتفرعاتها، أو حتى الفارسية وتغيرها. هو إذن ظاهرة خالدة ذلك الشعر العربي الذي يوجد في طبيعته ما يحافظ عليه، ويحول بينه وبين أن يندثر على كثرة ما ضاع منه ووفرة ما أهمله الرواة وأضاعه المهملون. لم يكن الشعر يدون في أول أمره على صفحات ونعني بذلك عصوره الباكرة في الجاهلية وصدر الإسلام وبني أمية، وإنما كان يحفظ في صدور الرواة، فكان لكل شاعر روايته وأحيانًا يكون للشاعر الواحد أكثر من راوية، وكان هذا الراوية بمثابة الديوان، ولكنه ديوان متحرك من البشر يكبر ويهرم وتتعرض ذاكرته للضعف الذي يؤدي إلى النسيان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 والنسيان قد يؤدي بالشعر الذي في الحافظة إلى الضياع ما لم يتلقه راوية آخر. لم يكن الحال والأمر كذلك ليستمر طويلًا، وبخاصة بعد أن أخذت أسباب الرقي الفكري تعم المجتمع الإسلامي. وعرف العرب الكتابة والقراءة. فكان من الطبيعي أن تولد ظاهرة التدوين، التدوين في كل مجال في الحديث وفي الأحكام وفي الشعر أيضًا، وكان الشعراء المحدثون على عهد بني العباس يكتبون شعرهم ويجمعونه في دواوين، أما الشعر السابق على تلك الفترة فكان إعادة تدوينه مع التعريف بأصحابه ومدى تقدم الواحد منهم على أقرانه أو تخلفه عنهم، أي دراستهم على أنهم طبقات يتفاوتون جودة ورداءة، نقول كان ذلك ضرورة أملتها طبيعة التطور فبدأت الحياة الأدبية تثمر، وظهر بعض العلماء الذين تحملوا هذا العبء كل على قدر استطاعته. هذا وينبغي أن نلفت النظر بشدة إلى الدقة الكبيرة التي كان الشعر يروى بها في نطاق من أمانة الرواية واهتمام الرواة، وإذا وجدت حالات انتحال أو خطأ في الرواية فليس معنى ذلك أن المسألة كانت ظاهرة متفشية، وإنما هي حالات قليلة جرت في فترة بعينها ابتغاء كسب المال، وأما الأصل فهو الرواية الصحيحة الدقيقة ذات النهج الواضح، ولعل أمة من الأمم لم تحتفل بالرواية الصادقة، ووضع أصول لها كما فعل المسلمون عند اهتمامهم بجمع الحديث الشريف. إن الذين جمعوا الشعر لم يكونوا بعيدين كثيرًا عن الذين جمعوا الحديث ورووه، وقد وجد المدلس، والوضاع عند كل من الفريقين، فليس معنى وجود بعض المدلسين والوضاعين بين المحدثين أن حديث رسول الله لم يرو رواية صالحة، وبالتالي لا يعني وجود طبقة أو بالأحرى عدد من الوضاعين والملفقين في نطاق رواية الشعر أن الشعر المروي القديم قد فقد شيئًا من قيمته ومدى نسبته إلى أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي : إن محمد بن سلام الجمحي، هو أول من ألف كتابًا على هذا النحو في طبقات الشعراء، ونحن لا نعرف تاريخ ولادة ابن سلام على وجه التحديد، وإذا كان كل من الخطيب البغدادي وياقوت يذكر أنه مات سنة 231 أو 232هـ وأنه مات كبيرًا، وذكر صاحب تاريخ بغداد أن ابن سلام قدم على الحسين بن فهم سنة 222هـ فاعتل علة شديدة فما تخلف عنه أحد، وأهدى إليه الأجلاء أطباءهم، وكان ابن ماسويه الطبيب المشهور ممن أهدى إليه، أي ممن دعوا إلى فحص علته، فلما جسه ونظر إليه قال له: ما أرى من العلة كما أرى من الجزع، فقال: والله ما ذاك لحزني على الدنيا مع اثنتين وثمانين وسنة، ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة، ولو وقفت بعرفات وقفة، وزرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم زورة، وقضيت أشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 في نفسي لرأيت ما اشتد علي من هذا قد سهل. فقال له ابن ماسويه: لا تجزع فقد رأيت في عرقك من الحرارة الغريزية وقوتها ما إن سلمك الله من العوارض بلغك عشر سنين أخرى1. ومن الطريف أن يوافق القدر كلام الطبيب ابن ماسويه، فيعيش ابن سلام عشر سنوات أخرى ويموت سنة 232هـ ويكون قد عمر تبعًا لذلك اثنين وتسعين عامًا، وبحسبة بسيطة يكون ابن سلام الجمحي قد ولد سنة 140هـ، ونحن لا نعرف من اهتم بجمع الشعر والتأليف فيه من قد ولد في هذا التاريخ أو قبله. ويذكر ياقوت الحموي أن لابن سلام فضلًا عن طبقات الشعراء كتاب غريب القرآن2. وإن مثل ابن سلام، وهو مقدم على تأليف كتاب طبقات العشراء لا بد له أن يكون متسلحًا بالرواية، رواية الشعر ورواية الحديث. وتذكر المصادر التي ترجمت له أنه كان محدثًا، وأن الشيخ الجليل الإمام ابن حنبل قد أخذ عنه، وإن كانت هناك أخبار تشكك في قدره كمحدث؛ لأنه كان يرمي بالقدر، ومن ثم فقد قيل عنه: إنما يكتب عنه الشعر وأما الحديث فلا. وإن الذي نهتم له هنا هو الشعر، فقد روى الرجل الشعر وهو أيضًا أول من ألف فيه، وهو إلى جانب ذلك أي إلى جانب كونه راوية، يذكر عنه أنه أخباري نحوي لغوي من مدرسة البصرة، ونستطيع أيضًا أن نلمح لديه سمات النقد التي تتمشى مع طبيعة مثل هذا الفن في أول نشأته. ولابن سلام رأي في الشعر وله معايير في تمييز الجيد من الرديء، والصحيح من المنحول فيقول، وكأنه أراد أن يقدم لكتابه بدراسة مختصرة عن الشعر: "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم، والصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا يعرف جودتها بلون ولا مس ولا طراز ولا حس ولا صفة ويعرفها الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها وستوقها ومفرغها. ومنه البصر بغريب النخل والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده وتشابه لونه ومسه وذرعه، حتى يضاف كل صنف منها إلى بلده الذي خرج منه، وكذلك بصر الرقيق فتوصف الجارية، فيقال ناصعة اللون جيدة الشطب نقية الثغر حسنة العين والأنف جيدة النهود طريفة اللسان واردة الشعر، فتكون هذه الصفة بمائة دينار وبمائتي دينار   1 تاريخ بغداد "5/ 329". 2 معجم الأدباء "18/ 204". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وتكون أخرى بألف دينار، وأكثر لا يجد واصفها مزيدًا على هذه الصفة، قال ابن سلام وإن كثرة المدارسة تعين على العلم قال محمد. قال خلاد بن يزيد الباهلي لخلف بن حيان أبي محرز، وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله: "بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تروى؟ قال له: هل تعلم أنت منها ما إنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم، قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم منك بالشعر؟ قال: نعلم قال: فلا تنكر أن يعرفوا من ذلك ما لا يعرفه أنت، قال: ابن سلام. وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنه فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك، فقال له: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء هل ينفعك استحسانك له"1. وأما الكتاب من حيث تقسيمه فهو قسمان: قسم جاهلي وقسم إسلامي، ويفهم من بعض كلام المؤلف أنهما كانا كتابين: أمي جاهلي ألفه وانتهى منه ثم ألحقه بالقسم الثاني، وهو الخاص بالشعراء الإسلاميين. والكتاب من حيث منهجه ينطبق على عنوانه كل الانطباق، فقد قسم الشعراء جميعًا من جاهليين وإسلاميين إلى طبقات متتابعة كل حسب قيمتها الغنية من وجهة نظره وتبعًا لمعاييره الخاصة التي لم يفصح عنها كل الإفصاح وإنما جعل نفسه كالخبير الذي يميز الجيد من الرديء والصيرفي الذي يميز الدينار الصحيح من الدينار المزيف. لقد قسم ابن سلام الشعراء الجاهليين إلى عشر طبقات، جعل امرأ القيس والنابغة الذبياني وزهيرًا والأعشى في الطبقة الأولى وحدهم دون غيرهم، ولعل ذلك يفسر لنا القضية النقدية المبكرة التي تجيب على سؤال عن أفضل الشعراء الجاهليين، فكانت الإجابة: امرؤ القيس إذا ركب، وزهيرًا إذا رغب، والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب. وفي الطبقة الثانية من الشعراء الجاهليين يضع ابن سلام الحطيئة وكعب بن زهير، ولسنا ندري إلى أي جانب من الصواب هو محق في حكمه، فإنه لكل من الشاعرين صفة أخرى غير الجاهلية، فلقد شهد كلامهما الإسلام واعتنقه، ومن ثم فإنهما يعتبران شاعرين مخضرمين، وهي التسمية الصحيحة علمًا أن لكل منهما شعرًا كثيرًا في الإسلام وبخاصة الحطيئة رغم رقة دينه وارتداده بعد وفاة الرسول. ولكنه ما لبث أن آمن أو تظاهر بالإيمان وعاش إلى ما بعد عهد عمر بن الخطاب. وفي الطبقة الثالثة يضع النابغة الجعدي وأبا ذؤيب الهذلي والشماخ بن ضرار، ولبيد بن ربيعة، وأربعتهم شعراء فحول ولكن اعتراضنا على أن نسبتهم إلى الجاهلية لا تزال قائمة،   1 طبقات ابن سلام صفحة "3، 4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 فكلهم أسلموا وعاشوا في الإسلام طويلًا، بل إن منهم من عاش في الإسلام خمسين سنة مثل النابغة الجعدي الذي هجر الخمر، والأوثان قبل الإسلام، ثم أسلم وأدرك صفين مع علي بن أبي طالب، ومنهم من حضر الفتوحات وأبلى فيها بلاء حسنًا، وهو أبو ذؤيب الهذلي واسمه خويلد بن خالد بن محرث ومات سنة 27هـ بعد أن شهد فتح إفريقية، والشماخ بن ضرار من كبار الشعراء المخضرمين وألمعهم، وقد بايعه الحطيئة قبل أن يموت، وقال وهو يحتضر: أبلغوا الشماخ عني أنه أشعر غطفان، وأما لبيد فإنه رغم إسلامه وأنه عمر بعد الإسلام طويلًا فإنه احترامًا لتدينه أقلع عن قول الشعر منذ أن أسلم، ولم يقل غير بيت واحد هو: ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلح الجليس الصالح وكان كريمًا جوادًا وهو صاحب المعلقة المشهورة: عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها وقد يكون ابن سلام على حق في نسبته لبيدًا إلى الشعراء الجاهليين فشعره كله جاهلي أما شخصيته فإسلامية أو بالأحرى مخضرمة. ويمضي ابن سلام على رسله في هذا التصنيف الذي تفرد به فيجعل طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص وعلقمة بن عبدة -وهم من الشعراء في الذروة- من الطبقة الرابعة. ويضع عمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد والحارث بن حلزة في الطبقة السادسة ولا يذكر سببًا لتأخير هؤلاء الثلاثة المبرزين وزحزحتهم إلى هذا السفح البعيد كثيرًا عن القمة. وبين شعراء الطبقة التاسعة يضع ابن الجمحي سحيمًا عبد بني الحسحاس وكان ذلك مثارًا لتساؤلنا عن السبب الذي جعل الجمحي يضع سحيمًا في موكب الشعراء الجاهليين مع أنه ولد في أوائل عصر النبوة ورآه الرسول، ويقال إنه أعجب بشعره وكان عبدًا حبشيًّا يجيد الشعر ولا يجيد النطق، وكان كلما أعجب ببيت شعر له قال: أحسنك والله أي أحسنت والله، ولقد قتله سادته بنو الحسحاس سنة 40هـ؛ لأنه كان يشبب بنسائهم، وقد قص ابن سلام بنفسه بعض الأبيات التي أنشدها لعمر بن الخطاب، وهي أبيات جيدة رغم خبث غرضها، وكان عبد الله بن أبي ربيعة قد اشتراه وكتب بذلك إلى عثمان بن عفان وذكر له أنه -أي العبد- شاعر، فكان رد عثمان عليه أن أردده فلا حاجة بنا إليه فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه أنه إذا شبع أن يشبب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم1، ويذكر ابن سلام قول   1 الشعر والشعراء لابن قتيبة "ص408". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 عثمان ولكن بألفاظ أخرى وهي قوله: لا حاجة لي به إن الشاعر لا حريم له1. إن تساؤلنا لا يزال قائمًا إزاء نسبة شاعر إسلامي إلى الجاهلية، وعلى النهج نفسه يجعل ابن سلام الكميت بن معروف الأسدي، وهو غير الكميت بن زيد من الطبقة العاشرة من الشعراء الجاهليين مع أن الشاعر عاش أكثر حياته في الإسلام، فلقد مات سنة 60هـ ويسميه الكميت الأوسط تمييزًا له عن جده الكميت بن ثعلبة والكميت بن زيد الشاعر المتشيع المعروف المتوفى سنة 126. وابن سلام يقول عنه أي عن الكميت الأوسط: إنه أشعرهم قريحة. وهكذا ينهي ابن سلام تقديم الطبقات العشر من الشعراء الجاهليين وقد جهلنا كل الجهل الأساس الذي عليه رتبهم طبقات والأسباب التي من أجلها جعل المخضرمين والإسلاميين جاهليين. وفي القسم الأول نفسه من الكتاب أي القسم الخاص بالجاهليين يفرد ابن سلام بابًا لأصحاب المراثي من الشعراء ويجعلهم "طبقة بعد العشر طبقات" وهو باب قصير لم يشغل من كتابه أكثر من أربع صفحات ولم يشمل أكثر من ثلاثة شعراء وشاعرة. فأما الشعراء الثلاثة فمنهم جاهليان هما أعشى باهلة "عامر بن الحارث" وكعب بن سعد الغنوي، وأما الثالث فهو متمم بن نويرة الشاعر الفارس المخضرم، وأما الشاعرة فهي الخنساء "تماضر بنت عمرو بن الحارث" وهي مخضرمة صحبت أولادها الأربعة إلى موقعة القادسية ودفعت بهم إلى خضمها فخاضوها ببسالة وهم يرتجزون واستشهد أربعتهم، فلما بلغها خبر استشهادهم، قالت: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. ويفرد ابن سلام بابًا ثالثًا في القسم الأول من كتابه تحت عنوان شعراء القرى العربية، وهي المدينة، ومكة، والطائف، واليمامة، والبحرين، ويقول: وأشهرهن قرية المدينة أي شعراء المدينة، ويعدد من شعرائها حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وقيس بن الخطيم وأبا قيس بن الأسلت، ثم يقدم حسانًا عليهم جميعًا. ويعدد بعد ذلك شعراء مكة ويذكر منهم عبد الله بن الزبعري الذي حارب الدعوة الإسلامية وهجا المسلمين وألب عليهم العرب، كما يذكر منهم مسافر بن أبي عمرو وآخرين، ومن الطائف يعدد أربعة من بينهم أمية بن أبي الصلت الذي كان متحنفًا قبل الإسلام فلما جاءت الدعوة الإسلامية امتنع عن الإسلام، ويقول عنه ابن سلام إنه أشعرهم   1 طبقات ابن سلام "ص43". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أي أشعر أهل الطائف. ومن شعراء البحرين يعدد ثلاثة بينهم المثقب العبدي المتوفى سنة 35 قبل الهجرة واسمه العائذ بن محصن بن ثعلبة، وقد مدح النعمان بن المنذر وعمرو بن هند. فإذا ما أراد الحديث عن شعراء اليمامة قال: "ولا أعرف باليمامة شاعرًا مشهورًا". هذا وقد أفرد ابن سلام قسمًا للشعراء اليهود ووصف شعر بعضهم بالجودة، وعدد منهم السموأل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف وغيرهم، وهذان الأخيران ممن خاضوا معارك الشعر والحرب ضد المسلمين. وأما القسم الثاني من كتاب طبقات ابن سلام فقد خصصه للشعراء الإسلاميين ويعني بذلك الشعراء الذين عاشوا في عصر بني أمية ويقسمهم إلى طبقات عشر أيضًا يعمد في بعضها إلى النصفة والاعتدال حين يجعل جريرًا والفرزدق والراعي، والأخطل في الطبقة الأولى ويكثر من ذكر الاستشهاد بشعرهم وبخاصة في النقائض، وحين يجعل البعيث والقطامي وكثيرًا وذا الرمة في الطبقة الثانية. ولكنه يجحف كل الإجحاف حين يجعل جميل بن معمر، والأحوص في الطبقة السادسة، وحين يجعل عدي بن الرقاع وزيادًا الأعجم في الطبقة السابعة، ويشتط في الإجحاف حين يضع كبار الرجاز من أمثال أبي النجم العجلي، والعجاج وولده رؤبة في الطبقة التاسعة، وليس لدينا من تفسير لذلك إلا أن ابن سلام كان يكره الغزل ويحط من قدر الرجز. هذا وقد أهمل ابن سلام ذكر عمر بن أبي ربيعة على سمو قدره في الشعر وصدارته بين شعراء العرب، كما أنه جرد قريشًا من صفة الشعر مع أنها قد أنجبت خمسة من الشعراء العظام هم عمر والحارث المخزومي والعرجي وأبو دهبل وعبيد الله بن قيس الرقيات. لا بد أن ذلك الأمر قد غاب عن ذاكرة ابن سلام، وإذا كان ذلك كذلك فلا شك أنه قرأ آراء كل من جرير والفرزدق وهما يشكلان ذروة الشعر الإسلامي في نظره، حين قال الأول في شعر عمر لما سمع رائيته: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر، وحين قال الثاني أي الفرزدق لما سمعها أيضًا: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار ووقع عليه هذا. لقد أهمل ابن سلام شأن شاعرين آخرين عظيمين هما الطرماح بن حكيم شاعر الخوارج، والكميت بن زيد الأسدي صاحب الهاشميات الرائعة وشاعر آل البيت. ومهما كان الأمر، فهذه صورة الكتاب الأول الذي اهتم بالشعر والشعراء ولئن خانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 التوفيق في الإنصاف في ترتيب الشعراء فإن شفيعه للقارئين أنه قدم لنا المحاولة الأولى في التأليف المتخصص في موضوعات الشعر والشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الفصل الثاني: الشعر والشعراء لابن قتيبة : مر بنا قبل قليل تعريف بابن قتيبة العالم الواسع المعرفة المسهم في كل علم بطرف وافٍ ونصيب موفور، غير أننا هنا نعرض لابن قتيبة الأديب الناقد الدارس المهتم بشعر العرب والتأليف فيه، والتعريف بالشعراء الذين سبقوه أو عاشوا قريبًا من عصره. نذكر ونحن نكتب عن ابن قتيبة أننا قلنا إنه كان من أهل السنة يحتل المكانة التي يمثلها الجاحظ عند المعتزلة، والواقع أنهما كانا فرسي رهان، وإن كانت صفة الأديب المرح تغلب على الجاحظ، وصفة العالم الوقور تغلب على ابن قتيبة، وإذا كان ابن قتيبة قد ألف في الشعر والشعراء فإن الجاحظ بدوره قد أسهم في هذا الموضوع، ولكن يبدو أن إسهامه كان في شيء من الأنانية؛ لأنه ألف كتابًا أو بالأحرى رسالة عن الذين اسمهم "عمرو" من الشعراء، وكأنما تعمد أن يختار من اسمهم عمرو هؤلاء؛ لأن اسمه -أي الجاحظ- عمرو، ولعل تفسيرنا هذا أقرب إلى المنطق طالما أن الرسالة أو الكتاب قد فقدت. أما ابن قتيبة فقد قدم للشعر العربي والمهتمين به خدمات جليلة بكتابه الشعر والشعراء الذي نال تقديرًا وذيوعًا بين أمثاله من كتب الطبقات. على أن الأمر الجدير بالذكر أن ابن قتيبة لم يسهم في موضوع خدمة الشعر بهذا الكتاب وحده، وإنما ذكرت له تآليف أخرى في الشعر، وهي من جلال القدر وسمو التأليف بمكان حسبما يبدو من وصف المؤرخين لها، ومن تبويبها والأشعار التي بقيت منها وظلت مخطوطة لم تنشر حتى الآن. فمن هذه الكتب التي ألفها ابن قتيبة خدمة لشعر هذه الأمة "كتاب معاني الشعر الكبير" ويحتوي على اثني عشر كتابًا حسب التقسيم الذي اختطه ابن قتيبة لأقسام كتبه، أي أنه يضم اثني عشر بابًا أو قسمًا أو فصلًا، وهذه الأقسام التي ضمها كتاب معاني الشعر الكبير هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 كتاب الفرس، وكتاب الإبل، وكتاب الحرب، وكتاب الديار، وكتاب الرياح، وكتاب السباع والوحوش، وكتاب الهوام، وكتاب الأيمان والدواهي، وكتاب النساء والغزل، وكتاب النسب واللين، وكتاب تصحيف العلماء. إننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكتاب قد تضمن الشعر الذي قالته العرب في كل موضوع من الموضوعات السابقة، ولا بد أنه عمل من الطرافة والجهد والفائدة بمكان. ومن كتب ابن قتيبة في الشعر كتابه عيون الشعر، وهو أيضًا فيما يصفه من رآه يشمل عدة كتب أو أقسام هي: كتاب المراثي، كتاب القلائد، كتاب المحاسن، كتاب المشاهدة، كتاب الجواهر، كتاب المراكب. وهذه العناوين كلها طريفة لافتة للخواطر، وما دمنا نعرف قيمة ابن قتيبة العلمية والأدبية فإننا نستطيع أن نتصور كم هو طريف ذلك الكتاب الذي أطلق عليه كتاب "عيون الشعر" وهو فيما يبدو على نسق كتابه عيون الأخبار، والذي يقرأ كتاب "أدب الكاتب" الذي قدمنا دراسة مبسطة عنه قبل قليل، وكتاب "عيون الأخبار" ويقف على ما فيهما من ثروة شعرية نفيسة هائلة يستطيع أن يتخيل كم هو قيم نفيس كتاب عيون الشعر هذا الذي نحن بصدده. ويذكر بروكلمان لابن قتيبة كتابًا باسم "كتاب أبيات المعاني"1 ويقول: إنه غير كتاب عيون الشعر -ونحن نوافقه على ذلك- ولكننا نرجح أن هذا الكتاب هو نفسه "كتاب معاني الشعر الكبير"؛ لأن بروكلمان يذكر أن القسم الأول من هذا الكتاب -كتاب أبيات المعاني- مخطوط في أيا صوفيا، وهو أبيات المعاني في الخيل، ولما كان الكتاب الأول أو بالأحرى الفصل الأول من كتاب معاني الشعر الكبير هو "كتاب الفردوس" فقد تكون هذه قرينة عن أن الكتابين كتاب واحد وإنما أورده الرواة بعنوانين متقاربين. لننتقل بعد ذلك من الكتب غير المطروقة هذه إلى الكتاب الذي بين أيدينا، وهو كتاب الشعر والشعراء الذي يطلق عليه أحيانًا اسم طبقات الشعراء تمثلًا بكتاب ابن سلام؛ ولأنه يقدمهم على نظام الطبقات، كما أنه يسمى أحيانًا ديوان الشعراء. وابن قتيبة يقدم في كتابه "الشعر والشعراء" مائتين واثنين من الشعراء مرتبين ترتيبًا زمنيًّا، فهو يبدأ بامرئ القيس وينتهي بعلي بن جبلة المعروف بالمكوك المتوفى سنة 213هـ. وعلى عادة العلماء الكبار يقدم ابن قتيبة منهجًا لكتابه في المقدمة التي كتبها له، فيقول إنه كتب عن الشعراء المشهورين الذين يعرفهم جل أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب، ويقول: إنه أخبر فيه عن أزمانهم وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم،   1 تاريخ الأدب العربي "2/ 225". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم وعما يستحسن من أخبارهم ويستجاد من أشعارهم. كما يسجل ابن قتيبة على شعرائه ما أخذ عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم ومعانيهم، ويذكر ما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون، كل ذلك يذكره ابن قتيبة مضافًا إليه أقسام الشعر وطبقاته. وابن قتيبة متواضع تواضع العلماء صريح غير متعالٍ ولا مدَّعٍ، فهو يقول إنه ترك غير المشهورين الذين لا يعرفهم إلا الخواص إذ إنه لا يعرف منهم إلا القليل، وحتى هؤلاء لا يعرف عنهم إلا القليل من الأخبار، وهو لذلك يقول إنه لا حاجة بالقارئ إلى أن يسمي له أسماء يستطيع أن يدل عليها بخبر أو زمان أو نسب أو نادرة، أو بيت يستجاد أو يستغرب. ويمضي ابن قتيبة في تواضع العلماء، قائلًا: "إن الشعراء المعروفين بالشعر عند قبائلهم في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف وراء عددهم واقف ولو أنفد عمره في التنقيب عنهم واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال، ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من ملك القبيلة شاعر إلا عرفه ولا قصيدة إلا رواها"1. ويدلل ابن قتيبة على وفرة عدد الشعراء عند العرب، وكثرتهم بحيث يستحيل الإلمام بهم بقصة الفتيان الذين جاءوا إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال لهم: "ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قلتم كبر الشيخ فنتلعبه عسى أن نأخذ عليه سقطة، فأنشدهم لمائة شاعر -وقيل لثمانين شاعرًا- كلهم اسمه عمرو. ويمضي ابن قتيبة معلقًا: فهذا ما حفظه أبو ضمضم، ولم يكن بأروى الناس -أي بأكثرهم رواية للشعر وحفظًا له- وما أقرب من لا يعرفه من المسلمين بهذا الاسم أكثر ممن عرفه". ويمضي ابن قتيبة في التعريف بكتابه ومنهجه فيذكر أنه لم يذكر في كتابه إلا الشعراء الذين عرفوا بكونهم شعراء بحيث غلب عليهم الشعر دون غيره من فنون القول كما أنه يزن الشعراء بميزان سليم هو جودة شعر الشاعر، لا يشفع له أنه متقدم، ولا ينال من قدرته أنه متأخر، وهو في ذلك يخالف من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، أو من لا يأبه بالشعر الرصين ويحفل به؛ لأنه قيل في زمانه، ويعلل نظرته هذه بأن الله لم يقصر العلم والشعر والبلاغة على زمن دون غيره ولا خص قومًا دون قوم "بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره. فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين، وكان أبو عمر بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن - أي   1 مقدمة الشعر والشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 المحدث من الشعر- حتى هممت بروايته"1. وابن قتيبة لا يذكر الشاعر جزافًا ولا يثبت القصائد أو المقطوعات خبط عشواء وإنما هو يضع لنفسه مبدأ فيما يختار ويقدم من شعر فهو يذكر من رفعه الله بالمديح، ومن رفعه بالهجاء ويحدث عما أودعته العلوم من الأخبار النافعة والأنساب الصحاح، والحكم المساوية لحكم الفلاسفة، "والعلوم في الخيل، والنجوم وأنواعها والاهتداء بها، والرياح وما كان ميسرًا أو جلا، والبروق وما كان منها خلبًا أو صادقًا، والسحاب وما كان منها جهامًا أو ماطرًا وعما يبعث منه البخيل على السماح، والجبان على اللقاء، والداني على السمو". نحن إذن أمام عالم جليل في التخطيط لما يكتب قبل أن يبتدئ، ووضع المنهج لنفسه قبل أن يندفع في سكب الحبر على صفحات الكتاب، إنه يكتب بترتيب ويؤلف بتنسيق شأنه في ذلك شأن أي عالم محدث أو مؤلف حاذق. ولكن الأمر لا يقف بابن قتيبة عند حد تخطيط الفكرة وتنسيق المنهج، إنه يعرف حق المعرفة أنه لا ينبغي للمؤلف أن يطرق موضوعًا لا يكون له فيه مشاركة فعالة ودراية مفيدة، وخبرة هادية، ولما لم يكن من الضرورة بمكان لمن يتصدى لدراسة الشعر ونقده أن يكون شاعرًا فقد اقتضت الضرورة أن يكون على علم بأصول النقد وصاحب دربة بأوجه الجيد وأسباب الرديء وطبيعة الحسن ومخبر الرديء، ولذلك فإن ابن قتيبة يقدم دراسة جيدة بمقياس الجودة على زمانه في نقد الشعر، كل ذلك في مستهل كتابه، ويذكر أنه تدبر الشعر فوجده أربعة أضرب: ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه وضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه. ويضرب ابن قتيبة لكل ضرب من ضروب الشعر هذه التي ذكرها مثالًا بل أمثلة. ونحن إن قبلنا هذا التقسيم من ابن قتيبة فقد لا نتفق معه كثيرًا في الأمثلة التي ضربها تأييدًا لوجهة نظره، فهو -على سبيل المثال- حين يذكر الشعر الذي حسن لفظه فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى يتمثل بقول جرير: ولما قضينا من منًى كل حاجةٍ ... ومسح بالأركان من هو ماسح   1 الشعر والشعراء "ص63". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وشدت على حدب المهارى رحالنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الحديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح المؤسف حقًّا ألا يتنبه ابن قتيبة، وهو من هو علمًا وأدبًا ولماحية إلى ما في هذه الأبيات من رونق اللفظ وعمق المعاني، الأمر الذي جعل طائفة من المتأدبين المعاصرين تسير في دربه وتتخذ من هذا الحكم المجانب للصواب قضية تطلقها على هذه الأبيات دونما تبصر أو تعمق أو مراجعة. إن جريرًا يريد أن يقول إنه بعد انتهاء أداء الفريضة، وإعداد الرحال والانطلاق في الطريق إلى العودة إلى الأوطان كان الحديث هو الوسيلة لقطع وقت المسافر الذي يشعر بالملل والسأم في الوقت الذي أخذت فيه المطي تنهب الأباطح نهبًا فجعل الصورة مقلوبة أي جعل الأباطح تسيل تحت أعناق المطايا. إنها صورة رائعة المعنى قبل أن تكون عذبة اللفظ حلوة الصياغة. وابن قتيبة حين يذكر ضرب الشعر الذي جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه ويريد أن يتمثل لذلك يخطئه التوفيق كل الخطأ، إنه يتمثل بالبيت الوحيد الذي قاله لبيد في الإسلام؛ لأن لبيدًا كان كما تعرف في المرتبة العليا بين شعراء الجاهلية، فلما أسلم ترك الشعر وتنسك ولم يؤثر عنه أنه قال شعرًا في الإسلام غير هذا البيت الذي استشهد به ابن قتيبة على الشعر الذي جاد معناه وقصر لفظه، والبيت هو: ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح إن البيت في واقعه متكامل الإنشاء والبنيان معنًى ولفظًا. إن ملاحظاتنا هذه على كل حال لا تنال من قدر ابن قتيبة الناقد ذي البصيرة الثاقبة في تقديم الشعر وتحليل القصيد، إنه يعرض لشعر المديح الذي جرت العادة أن يستفتح بالوقوف على الأطلال والدمن والبكاء، والشكوى، واستيقاف الرفيق، والتشبيب والرحلة إلى الممدوح فيقدم عنه دراسة موجزة ولكنها تنم عن ملكة ناقدة وخبرة عميقة وبصر بعيد وعلم بتقويم الشعر ومعاييره في نطاق الحدود النقدية على زمانه، ولنتركه يقدم هذه الدراسة الممتعة القصيرة بقلمه فيقول1: "وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها   1 الشعر والشعراء "ص74-76". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد* في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليمل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسب، وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة"**" التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشياء، وصغر في قدره الجزيل. فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد. فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيار والى خراسان لبني أمية1، فمدحه بقصيدة، تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله ما بقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفًا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب، فأتاه فأنشده: هل تعرف الدار لأم الغمر ... دع ذا وحبر مدحة في نصر فقال: ولا هذا ولكن بين الأمرين. على أن ابن قتيبة يركز دراسته النقدية للشعر، ويتبعها للمنهج الذي وضعه لكتابه وجعله مقدمة واستهلالًا، وتظل الروح النقدية تتقلص رويدًا حتى تنعدم في متن الكتاب اللهم إلا في حالة رد معنى إلى شاعر سابق أو سحبه على شاعر لاحق. هذا وابن قتيبة يغفل في كتابه هذا عن تاريخ ولادة الشعراء وسنوات وفاتهم غفلة تامة.   *نازلة العمد: هم أصحاب الأبنية الرفيعة الذين ينتقلون بأبنيتهم، ونحو ذلك فسر الفراء قوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} "إنهم كانوا أهل عمدة ينتقلون إلى الكلأ حيث كان ثم يرجعون إلى منازلهم". ** الذمامة، بفتح الذال وكسرها: الحق والحرمة. 1 ولي نصر بن سيار خراسان سنة 125هـ، وولاه إياها الوليد بن يزيد بن عبد الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بل إن هذه العدوى قد انتقلت منه إلى محقق الكتاب حينما كان يذكر ترجمة للشاعر موضوع الرواية في هامش الكتاب المطبوع، فيعرف بالشاعر ويكسل عن البحث عن سنة وفاته إلا إذا جاءته دون جهد مبذول. ومهما كان الأمر فكتاب الشعر والشعراء من الكتب التي لا يستغني عنها دارس أو باحث أو أستاذ في مجال الدراسات الأدبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز : إن هذا الكتاب سِفر نفيس لمؤلف يختلف عن بقية المؤلفين والأدباء؛ لأن مؤلف الكتاب شاعر مبدع وكاتب كبير، وهو إلى ذلك عالم جليل وناقد ذواقة، وهو بعد ذلك وقبله ملك سليل ملوك، إنه عبد الله بن الخليفة المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن أبي جعفر المنصور. إنه ينحدر من أصلاب ستة ملوك جلسوا على أشهر عروش الدنيا، وهو عرش بني العباس. ولكن كلا من عبد الله وأبيه كان سيء الحظ؛ لأن عبد الله تولى الخلافة ليوم واحد ثم قتل، وأبوه تولاها لفترة أربعين يومًا وقتل، بل إن جده المتوكل مات قتيلًا هو الآخر، إنه ثلاثي ملكي بائس منحوس، ولكن عبد الله إذا كان منحوسًا في دنيا السياسة وعلى دست العروش فقد كان سعيدًا مسعدًا في دنيا الأدب، ومحافل المعرفة وميادين الثقافة ومضامير الفنون. إن عبد الله قد رُبِّي كما كان يربى أبناء ملوك بني العباس، كان يستدعى لهم عظام أساتذة زمانهم حتى تستوي لهم أسباب المعرفة من دينية ودنيوية، وحتى تتهيأ لهم أطراف الثقافة، ففي الحسبان أن كل واحد منهم معدٌّ؛ لأن يكون ملكًا، وقد اشتهر جميع ملوك بني العباس بالثقافة والعلم والمعرفة باستنثاء المعتصم، فقد كان كل اهتمامه منصبًّا إلى قيادة الجيش وخوض المعارك، وفيما عدا ذلك فقد كانوا في مكانة سامية من المعرفة وعلى ذرى رفيعة من الثقافة بل كان منهم المأمون الذي عده بعض المؤرخين أبًا للثقافة والمعرفة. فعبد الله والحال كذلك كان له من الأساتذة من قد عدوا نجوم المعرفة على زمانه مثل محمد بن يزيد المبرد العالم الأديب اللغوي الكبير، وكان منهم أيضًا أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، ومحمد بن هبيرة الأسدي صاحب الفراء وأحمد بن صالح المشهور بابن أبي فنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 هذا وكان عبد الله بن المعتز ذكيًّا أديبًا فطنًا نابهًا ذا نظرات وأعماق، ومن كانت هذه طبيعته وتلك نشأته، فإننا لا نتوقع منه مجرد شاعر أو مؤلف كتاب واحد لأبناء فنه، وإنما ترك عبد الله مجموعة من الكتب بينها الرائد الأصيل والقيم النفيس، لقد ألف ابن المعتز اثني عشر كتابًا في الأدب والشعر، والبديع، والصيد، والسرقات، والغناء، والطبقات وغيرها وها هي مؤلفاته1: 1- كتاب الزهر والرياض. 2- كتاب البديع. 3- مكاتبات الإخوان بالشعر. 4- كتاب الجوارح والصيد. 5- كتاب أشعار الملوك. 6- كتاب الآداب. 7- كتاب حلى الأخبار. 8- كتاب طبقات الشعراء 9- كتاب الجامع في الغناء. 10- كتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح. 11- كتاب السرقات. 12- كتاب فصول التماثيل. 13- كتاب فيه أرجوزة في تاريخ بني العباس. 14- ديوان شعر كبير. إن هذا التراث الضخم من الآداب والفنون خلفه ابن المعتز للمعرفة وألفه على قصر حياته، إنه لم يعش أكثر من تسع وأربعين سنة هجرية فقد ولد سنة 247 وقتل سنة 296هـ، ولكن حياته على قصرها كانت حياة عريضة خصيبة رغم ما كان يتورط فيه من ملاذٍّ وإقبال على الشراب والمنادمة كما يفعل أكثر أبناء الملوك في كل زمان. على أن الذي يهمنا بصفة أصلية في هذا المجال هو كتابه طبقات الشعراء، وإنما ذكرنا هذه النبذة القصيرة عن حياته وصفاته حتى يكون تمثلنا لكتابه تمثلًا صحيحًا، فالكتاب غالبًا صورة لصاحبه. غير أننا ونحن نذكر كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز لا بد لنا من أن نذكر كتابًا آخر   1 الفهرست "ص17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ألَّفه أديب معاصر له، وتكاد الصورة تتكرر لما حدث، ونحن نقدم الشعر والشعراء لابن قتيبة، ففي الوقت الذي كان فيه ابن قتيبة والجاحظ فرسي رهان في ميدان التأليف والمعرفة ويؤلف كل منهما في الشعر، الأول يكتب عن الشعر والشعراء وترفق به الأقدار حتى يصل إلينا، والثاني يكتب كتابه "من اسمه عمرو من الشعراء" ويضيع ولا يصل إلينا، نجد أن كلا من ابن المعتز وهو طبقات الشعراء فإنه يصل إلينا، وأما كتاب الثاني وهو "البارع" في أخبار الشعراء المولدين، فإنه ضاع ولم يصل إلينا، غير أن هناك فرقًا شاسعًا في القيمة الفنية بين كتيب الجاحظ "من اسمه عمرو من الشعراء" وكتاب ابن المنجم "البارع" فقد مجد المؤرخون الكتاب الثاني وذكروا الكثير من فضله وقيمته، فابن خلكان رأى الكتاب، ويقول عنه: "صنف كتاب "البارع" في أخبار الشعراء المولدين، وجمع فيه مائة وواحدًا وستين شاعرًا وافتتحه بذكر بشاد بن برد العقيلي وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، واختار فيه من شعر كل واحد عيونه.." وينقل ابن خلكان طرفًا من منهج الكتاب الذي أثبته صاحبه في مقدمته على المنوال الذي سار عليه كبار المؤرخين، وابن المنجم هارون هذا من أفاضلهم فيقول: "إني لما عملت كتابي في أخبار شعراء المولدين ذكرت ما اخترته من أشعارهم، وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته معرفتي وانتهى إليه علمي، والعلماء يقولون: دل على عاقل اختياره، وقالوا: اختيار الرجل من وفور عقله1. ويذكر ابن خلكان على لسان ابن المنجم أن هذا الكتاب أي البارع مختصر من كتاب ألفه قبل هذا في هذا الفن، وأنه كان طويلًا فحذف منه أشياء واقتصر على هذا القدر الذي هو مائة وواحد وستون شاعرًا. ويمضي ابن خلكان في تعريفه بالكتاب فيقول: إنه يغني عن دواوين الجماعة الذين ذكرهم، فإنه اختصر أشعارهم وأثبت منها زبدتها وترك زبدها، ويسجل صاحب الوفيات مرة أخرى أن كتاب الخريدة للعماد الأصفهاني وكتاب الحظيري وكتاب الدمية للباخرزي وكتاب اليتيمة للثعالبي -وهي من أمهات كتب الشعر وتراجم الشعراء- فروع عليه، وهو الأصل الذي نسجوا على منواله. وهذا القول الذي أذاعه ابن خلكان عن كتاب ابن المنجم كلام خطير جدًّا، فإذا كانت قيمة كل من التيمية والخريدة ودمية القصر والسلسلة المتفرعة منها ما تعلم خطرًا وقدرًا، وكان معنى ذلك أن كتاب "البارع" هو الأصل في كتب الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء التي التزمت الترجمة لعصر بعينه، ولنا في ذلك رأي سوف نوضحه فيما يستقبل من حديث. إننا -وقد جنحنا في مجال الحديث عن ابن المعتز إلى ما يمكن أن يسمى استطرادًا   1 وفيات الأعيان "5/ 127". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ضروريًّا- نرى أن ابن المعتز في تقدمته لكتابه يقول1: "خطر علي الخاطر في بعض الأفكار أن أذكار في نسخة ما وضعته الشعراء من الأشعار في مدح الخلفاء والوزراء والأمراء من بني العباس؛ ليكون مذكورًا عند الناس، متابعًا لما ألفه "ابن نجيم" قبلي بكتابه المسمى "بطبقات الشعر الثقات" مستعينًا بالله المسهل الحاجات وسميته طبقات الشعراء المتكلمين من الأدباء المحدثين". فنحن أمام قضيتين كلاهما على جانب من الأهمية، فيما يتعلق بكتاب طبقات الشعراء لابن المعتز، الذي هو في نظر الباحثين والمتأدبين من أهم كتب الطبقات وفي صدر الصفوة منها لما له من مميزات كثيرة سوف نعرض لها بعد قليل. القضية الأولى أن الهدف من الكتاب كانت الترجمة لمن مدح بني العباس من الشعراء حتى زمن ابن المعتز، وتبعًا لذلك فإن ابن المعتز يكون قد أهمل في كتابه الشعراء الذين لم يمدحوا بني العباس مهما خطر شأنهم ونفس شعرهم، وهذا يفسر لنا لماذا بدأ ابن المعتز كتابه بالشاعر ابن هرمة السكير الذي بلغ به الدلال عند الخليفة العباسي بحيث يجعله يكتب إلى عامله بالمدينة ألا يوقع عليه حد الخمر إذا ضبط سكران حسب القصة الطريفة المروية في كتب الأدب، ويثني ابن المعتز في كتابه بالحديث عن بشار بن برد الذي كان على كراهيته لبني العباس صاحب قصائد طويلة عديدة في المهدي، ثم يثلث بالحديث عن السيد الحميري الذي كان على تشدده في تشيعه وإيمانه برجعة محمد بن الحنفية يمدح المنصور وبني العباس. ويظل ابن المعتز يقدم الدراسة تلو الدراسة حتى ينهي كتابه بالحديث عن الشاعرات على عهد بني العباس متوقفًا عند فصل الشاعرة. وأما القضية الثانية فهي ما ذكره ابن المعتز من أنه أنشأ كتابه متابعًا لما ألفه ابن نجم قبله بكتابه المسمى "بطبقات الشعر الثقات" وكان أول ترجمة اشتمل عليها كتاب ابن نجيم هي ترجمة بشار بن برد. إننا الآن أمام مشكلة ينبغي أن نصل فيها إلى حل، فهل ابن نجيم الذي سار على دربه ابن المعتز هو نفسه ابن المنجم سالف الذكر، إن الفرق كبير بين الاسمين من حيث الرنين والكتابة بحيث أن وقوع اللبس فيهما لا يعتبر من الأمور التي يسهل تصورها، ولكن محقق كتاب طبقات ابن المعتز يعتبرهما شخصًا واحدًا وليس أمامه إلا دليل واحد، وهو أن كلًّا من الكتابين أي كتاب البارع وكتاب "طبقات الشعر الثقات" قد استهل ترجماته ببشار بن برد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فلا بد أنه -أي محقق طبقات ابن المعتز قد حاول أن يصل   1 طبقات ابن المعتز "ص18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 إلى ترجمة أو معرفة شيء عن ابن نجيم في كتب التراجم وتاريخ الأدب فلم يوفق إلى ذلك، ومن ثم فقد اعتبر الكتابين كتابًا واحدًا وأن ابن نجيم الذي أخذ عنه ابن المعتز هو نفسه ابن المنجم صاحب البارع. ولقد حاولنا من جانبنا أن نعثر على من اسمه ابن نجيم في جميع ما هدانا إليه تفكيرنا وما أسعفتنا به خبرتنا من مظانٍّ فلم نعثر على مؤلف في الشعر بهذا الاسم، ومن ثم فنحن نميل إلى تصور صحة ما ذهب إليه محقق ابن المعتز من أن ابن نجيم هو نفسه ابن المنجم هارون بعد تحريف المهملين من النساخ، ونزيد على ذلك بأننا نتصور أن كتاب "طبقات الشعر الثقات" الذي أورد ابن المعتز ذكره وأخذ عنه، هو الكتاب الكبير الذي ألفه هارون ابن المنجم والذي نعته بالطول ورأى أن يختصره "فاختصر أشعارهم، وأثبت منها زبدتها وترك زبدها". ثم رأى ابن المنجم أن يضع اسمًا جديدًا لكتابه المختصر فاختار له اسم "البارع" في إخبار الشعراء المولدين. إن هذا الذي سطرناه إنما هو من ضرب الاستنتاج القائم على حدود المنطق حتى يظهر غير ذلك، وحتى نعثر في كتب التراجم أو الطبقات، أو تاريخ الأدب على من اسمه ابن نجيم. هذا ونحب أن نشير إلى أن هارون بن المنجم هذا كان حافظًا راوية للأشعار حسن المنادمة لطيف المجالسة ومات في ريعان شبابه سنة 288هـ أي قبل ابن المعتز بثماني سنوات، وله من الكتب غير ما ذكرنا "كتاب النساء" وما جاء فيهن من الأخبار، ومحاسن ما قيل فيهن من الأشعار، هذا فضلًا عن كونه شاعرًا بذاته وفي شعره لمحات رقة مع أخذ بأسباب رعونة الشباب فهو القائل: الغانيات عهودهن ... إلى انصرام وانقضاب من شاب شبن له المود ... ة بالخديعة والكذاب ما دمت في ورق الصبا ... وغصونه الخضر الرحاب فافخر بأيام الصبا ... واخلع عذارك في التصابي واعط الشباب نصيبه ... ما دمت تعذر بالشباب هذا هو هارون المنجم رأس مدرسة أصحاب الطبقات الذين تخصصوا في تقديم شعراء بعينهم قالوا في غرض بعينه محدود بفترة زمنية وحدود مكانية. هذه الوقفة الطويلة مع ابن المنجم وتحديد معالم شخصيته كانت أمرًا لا مفر منه قبل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ندلف إلى لب الحديث عن كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز. لقد عرف ابن المعتز عند طائفة من جمهرة الدارسين بأنه الشاعر المترف الملكي في أسلوبه ونهجه وتفكيره، وبناء صيغته ورسم صوره وانتقاء ألفاظه واختيار كلامه، وهذا صحيح كل الصحة، إلا أن لابن المعتز وجهًا آخر هو وجه الأديب العالم الناقد الذواقة الراوية الذي كان يتقمص شخصية العالم ويلبس لباس الوقار ويرتدي قميص التواضع عندما يعمد إلى كتابة الجد الخطير من الكتب أو القضايا، فهو حين يستهل كتابه طبقات الشعراء ويقدم له، يقول: أفقر العباد إلى الله عبد الله بن المعتز بالله المتوكل على الله ... إلخ. وآية ذلك الكتب الاثنا عشر التي ألفها وعددناها في صدر هذا الحديث والتي أشهرها دون شك كتاباه: "طبقات الشعراء" و "البديع" اللذان طبقت شهرتهما الآفاق، وهما بذلك جديران؛ لأنهما يعتبران نوعًا من الإنجاز العلمي الرائد الرفيع مما لا يفترض فيه أن ينجز مثل هذا العمل الرائع لسببين ظاهرين، السبب الأول أنه أمير أعد نفسه للملك والأمراء يعدون أنفسهم للملك بطريق الثقافة وليس بطريق التأليف، والملوك المؤلفون قلة نادرة لا تكاد تعي منهم ذاكرتي غير أبي الفدا ملك حماة صاحب كتاب التاريخ المعروف باسمه من المشارقة، والسبب الثاني أن ابن المعتز لم يعمر كما عمر غيره من عمالقة المؤلفين الذين لم تكن أعمارهم في المتوسط تحد بأقل من السبعين عامًا، وتمتد أحيانًا إلى المائة وما فوقها، لقد ولد العالم الشاعر الأمير الخليفة سنة 247هـ وقتل 296هـ فيكون قد عاش تسعة وأربعين عامًا هجريًّا، ولم يخل معظمها من اضطهاد وأذى على رغم كونه أميرًا مما اضطره إلى مصانعة من هم دونه مقامًا، وأقل منه رتبة فمدحهم بشعره وهنأهم في المناسبات السقيمة مثل ما فعل مع عبد الله بن عبد الله بن طاهر أو الوزراء من أبناء أسرة الوهبيين. وإذن فحياة ابن المعتز مليئة بالبركة والسعة والعمق من ناحية الإنتاج الفكري والعلمي، كما كانت عريضة من حيث اللهو واقتناص اللذات. وأما اسم الكتاب كاملا كما ذكره ابن المعتز، وسماه بنفسه فهو "طبقات الشعراء المتكلمين من الأدباء المتقدمين"1، على أن الذين عرضوا للكتاب بعد ذلك بالشرح أو التحقيق أسموه تارة "طبقات الشعراء المحدثين" وتارة أخرى أطلقوا عليه "طبقات الشعراء" وهو الاسم الذي سار عليه جمهرة الدارسين من بعد، وعرف به حتى الآن. إن طبقات الشعراء هو ثالث كتاب كبير مشهور مطبوع بين أيدينا لهذا اللون من الدراسة بعد ابن سلام وابن قتيبة، وهو السادس بين الكتب المشهورة، ولكن لعبت يد الضياع ببعض   1 الطبقات "18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 منها وترتيبها هكذا: طبقات ابن سلام الجمحي، ثم من اسمه عمرو من الشعراء للجاحظ، ثم الشعر والشعراء لابن قتيبة، ثم البارع لهارون بن المنجم، ثم من سمي عمرًا من الشعراء في الجاهلية والإسلام، والورقة لمحمد بن داود الجراح وزير ابن المعتز خلال يوم خلافته، وقد تم تحقيقه وتهيئته للطبع على يد المستشرق كرنكو في ليبسك، ثم كتاب الطبقات لابن المعتز هذا الذي بين أيدينا. وإذا كان لنا أن نزيد طبقات ابن المعتز تعريفًا فإننا يمكن أن نذكر ما يمتاز به عن الكتب السابقة له بما يلي: أولًا: أن الكتاب تخصص في عصر بعينه فذكر شعراءه، وهم الشعراء الذين مدحوا بني العباس واتصلوا بهم بمن في ذلك الشعراء من مخضرمي الدولتين، فأولئك المخضرمون الذين مدحوا بني العباس أمثال ابن هرمة وابن ميادة وسديف وغيرهم، فضلًا عن بقية الشعراء الذين عاشوا إلى زمن تأليفه الكتاب، وكل أولئك قد قدم لهم ابن المعتز شيئًا من أشعارهم وأطرافًا من أخبارهم بحيث بلغ مجموع الشعراء الذين كتب عنهم مائة واثنين وثلاثين شاعرًا. ثانيًا: يعترف ابن المعتز بأنه لا يهتم بكل شعر الشعراء وأخبارهم، فذلك موجود في دواوينهم - ولا شك أنها كانت موفورة طوع اليدين على أيامه- وإنما هو يقدم من الشعر ما ليس موجودًا إلا عند الخواص، وهو بذلك يقدم من هذا الشعر غير المعروف للجمهرة قصائد أو مقطوعات1. ثالثًا: طبيعة الأديب الناقد الكامنة في شخصية ابن المعتز جعلته يقدم كتابه بأسلوب رخي رضي شائق، ثم هو بعد ذلك ينقد ويزن ويبدي رأيه في القصائد أو المقطعات طبقًا لمعايير نقدية صالحة مقبولة، وهو حسن الاختيار جيد الانتقاء. رابعًا: برغم أن الكتاب كتاب طبقات إلا أنه لم يهمل الأحداث التاريخية الدقيقة التي ربما لم يلتفت إليها جمهرة المؤرخين؛ لأنها في نظرهم لم تكن تعني شيئًا خطيرًا، ولكنها من وجهة نظر مؤرخ الأدب تعني الكثير، وتشكل مفاتيح لقضايا كثيرًا ما كانت تبدو مغلقة، فهو يؤرخ للأحداث بعامة والمرتبطة بقصائد بعينها بخاصة كما هو الحال عند الحديث عن سديف وأبي نخيلة الراجز، إنه كثيرًا ما يذكر الشيء المهم الذي أهمله التاريخ. خامسًا: يذكر ابن المعتز في "طبقاته" بعض القصص والأخبار بأسلوب مترسل لطيف ويصف ألوانًا من الحياة الاجتماعية على زمانه ويصور زوايا بعينها من المجتمع بشيء من رقة   1 المصدر "48". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الأديب وانطباع الإنسان فيجمع بين قصص المجون التي حدثت، والقصص الإنسانية المتعلقة بالأدباء والتي يمس بعضها أوتار القلوب مسًّا عميقًا مثل قصة محمود الوراق وجاريته سكن1. سادسًا: يعمد ابن المعتز إلى ذكر أطراف من المساجلات الشعرية التي كانت تحدث بين سابقيه اللهم إلا ما ذكروه من نقائص، والمساجلات بطبيعة الحال لون أرقى من النقائض وأرق وأنظف وأعطر. سابعًا: يذكر ابن المعتز بين الحين والحين طرفًا أدبية وملحًا اجتماعية ونكات تدفع الابتسامات إلى الشفاه دفعًا، وهو في ذلك لم يخرج عن منهج موضوعه، ولكنه لا شك رتب ذلك في نطاق سلامة منهجه حتى يبعد الملل عن نفس قارئه ويثير الفضول إلى متابعة قراءة ما يقدم من أدب، ويحلق عنصر تشويق وإمتاع لمتابعي كتبه2. ثامنًا: وامتدادًا للعنصر السابق من عناصر ميزات طبقات ابن المعتز ما يرمي به المؤلف في طريق القارئ وأما عينيه من أبيات للحمقى تثير الضحك والإشفاق أو قصائد للشعراء الهزليين الفكهين الذين ينتزعون الضحك انتزاعًا من أعماق القلوب، وفي أقل القليل يكون هذا الشعر عامل تسرية ومبعث ترفيه، على أن المؤلف قد لا يحتشم في بعض الأحيان ولكنها قليلة -فيأتي بشعر ماجن ولكن في مقام الإضحاك أيضًا. وأما المآخذ التي يمكن أن تسجل على كتاب طبقات ابن المعتز، فلعل أهمها أنه كان به شيء من الأنانية، وقليل من البعد عن الموضوعية، فهو يهمل ذكر عدد كبير من الشعراء عن عمد مع أن بعضهم مدحوا قومه وهم من الشعراء الأعلام وفي مقدمتهم ابن الرومي وديك الجن ويحيى بن زياد الحارثي. ولكن لعل لابن المعتز عذرًا في أن يخلي كتابًا ألفه من قوم أنف أن يكونوا نجومًا على صفحاته، فابن الرومي كان معاديًا لابن المعتز، وكان يعيش في كنف القاسم بن عبيد الله الذي كان واحدًا من الذين أوقعوا بابن المعتز كثيرًا من الأذى. هذا ولا يستطيع ابن المعتز -وهو محق في ذلك كل الحق- أن ينسى لابن الرومي هجاءه في أبيه المعتز بالله يوم أن خلع عن كرسي الخلافة، وابن الرومي سليط اللسان مر الهجاء. إن ابن المعتز لا يستطيع أن ينسى قوله في أبيه:   1 الطبقات "385، 367". 2 المصدر "55، 59، 342، 374". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 دع الخلافة يا معتز عن كثب ... فليس يكسوك منها الله ما سلبا أترتجي لبسها من بعد خلعكها ... هيهات هيهات فات الضرع ما حلبا تا لله ما كان يرضاك المليك لها ... قبل احتقابك ما أصبحت محتقبا فكيف يرضاك بعد الموبقات لها ... لا كيف، لا كيف إلا المين والكذبا إن ابن المعتز، وهو إنسان له مشاعر البنوة وعزة الإمارة لا يؤاخذ إذا ما أهمل ذكر ابن الرومي في كتاب ألفه. وقد يكون لابن المعتز رأي مقبول في إهمال ذكر الشاعر عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن، فابن المعتز أمير عربي هاشمي من بيت الملك الهاشمي الذي ذاق المتاعب، وغرق في الفتن بسبب تآمر الشعوبيين، وكان ديك الجن من أكثر الناس كراهية للعرب، وأشدهم عصبية عليهم وشعوبية ضدهم، ومن ثم فقد يكون هذا هو السبب في إهمال شأنه. وأما بالنسبة لإهمال ذكر يحيى بن زياد الحارثي، فإنه كان من كبار الزنادقة بل كان كبيرهم، وكانت صفة الزنديق على عهده لا تنصرف إلى أحد إلا إلى يحيى الحارثي، وكان يحيى على زندقته موسومًا بالظرف، فكان الناس إذا وصفوا إنسانًا بالظرف قالوا: هو أظرف من الزنديق، يعنون بذلك يحيى الحارثي. وابن المعتز رغم انغماسه في الترف وتورطه في المجون فما عرف عنه انحراف في عقيدته ولا ترخص فيها، وهو لذلك ربما كره أن يذكر في كتابه إنسانًا كان يتفاخر بزندقته ويعلنها على الناس في غير ما تحرج ولا تحشم. بقي بعد ذلك أن ابن المعتز لم يكن يذكر سنوات وفاة شعرائه إلا نادرًا، إنه لم يكن يرى أن ذلك شيء ضروري بالنسبة إليه؛ لأنه يؤرخ لمجموعة من الشعراء في فترة محددة بما يزيد قليلًا على قرن واحد من الزمان، فهو لذلك كان يصرف اهتمامه إلى الفترة الزمنية التي عاشها الشاعر لا إلى التاريخ المحدد الذي يحد ميلاده ووفاته. ومهما كان الأمر فكتاب طبقات الشعراء لابن المعتز يمثل لونًا فريدًا من التأريخ للشعراء ودراسة شعرهم، وهو بعد ذلك يعتبر بداية للتخصص في ميدان كتب طبقات الشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الفصل الرابع: معجم الشعراء للمرزباني : إنه أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني 297-384هـ وقد مر حديثه، وأما كتابه الذي نعنيه هنا في جملة طبقات الشعراء فهو "معجم الشعراء" ولعل كلمة معجم تصلح لأن تكون عنوانًا لقاموس لغوي أكثر من صلاحها عنوانًا لكتاب ألفه صاحبه للتعريف بالشعراء، والترجمة لهم، وتقديم نماذج لأشعارهم، ولكن المرزباني أقدم على هذه التسمية وفي ذهنه المقصد المعجمي، فكما أن المعجم اللغوي يعرف بمعنى الكلمة، فإن معجم الشعراء يعرف بالشاعر بشكل أو بآخر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد يمكن القول أيضًا إن المرزباني قد اعتمد أول حروف المعجم وهو العين مفتاحًا لتقديم أسماء شعرائه، وهو والأمر كذلك لم يلتزم التقسيم الزمني أو التحديد الموضوعي حين قدم الشعراء. أما وإن حروف المعجم تبدأ بالعين حسبما هو معروف فإن المرزباني قدم أول ما قدم من شعراء أولئك الذين تبدأ أسماؤهم بحرف العين، التي كادت أن تحل محل الأسماء، وهو يعني الأسماء بحقائقها وليس بالكنى أو أسماء الشهرة أو الصفات، فالقطامي مثلًا لا يجيء تحت حرف القاف وغنمًا يقدمه المؤلف تحت العين؛ لأن اسمه الحقيقي عمير بن شييم، والفرزدق على سبيل المثال لا يجيء تحت حرف الفاء وإنما يقدمه المؤلف تحت الهاء؛ لأن اسمه الحقيقي همام بن غالب، وأبو سعد المخزومي يقدمه المؤلف تحت اسمه الأصيل عيسى بن خالد بن الوليد، ومن ثم فإنه يصعب على القارئ الوصول إلى موضع شاعر ذي كنية أو صفة ما لم يكن يعرف اسمه الأصيل كما هو الحال في القطامي والفرزدق، وهذا يشكل بطبيعة الحال عيبًا من عيوب الكتاب. نعود إلى الحديث عن ترتيب الشعراء في المعجم فنجد أن المؤلف قد ابتدأ بالشعراء الذين تبدأ أسماؤهم بحرف العين حسبما سلف القول، ثم يثني بأولئك الذين تبدأ أسماؤهم بحرف الفاء، ثم القاف، ثم الكاف فاللام فالميم فالهاء فالياء، وهكذا تتوالى الأسماء بعد العين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 في ترتيبها الطبيعي المعروف. وإذا كان لنا أن نتتبع طريقة عرض المؤلف لشعرائه من خلال حرف من الحروف وليكن حرف العين على سبيل المثال فإننا نلاحظ أنه بدأ باسم عمرو، وأتى بمائة وثلاثة وسبعين شاعرًا اسم كل منهم عمرو، وابتدأ بعمرو بن عبد مناف، وهو الاسم الحقيقي لهاشم بن عبد مناف جد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يأت له بأكثر من مصراع في أرجوزة له هو قوله: عذت بما عاذ به إبراهيم وفي الوقت نفسه يذكر كنية هاشم، وهي أبو نضلة، ولما كان عمرو بن عبد مناف قد لقب هاشمًا؛ لأنه هشم الثريد لقومه أيام الجدب والمجاعة، فإن المؤلف يورد بيت مطرود بن كعب الخزاعي الذي يفيد أن عمرًا هو نفسه هاشم يقول فيه: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنِتُون عجاف1 ويفعل المؤلف بطرفة بن العبد ما فعله بهاشم بن عبد المطلب، فيذكره مع الطائفة التي اسمها "عمرو" من الشعراء، ذلك أن اسمه الحقيقي عمرو بن عبد بن سفيان، وإنما لقب بطرفة لقوله هذا البيت: إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطروفة لم تشدد ويبدو لنا أن عددًا كبيرًا من شعراء العرب كانوا يحملون اسم عمرو، فمؤلفنا يذكر بين ما ذكر من الشعراء الذين تبدأ أسماؤهم بحرف العين مائة وثلاثة وسبعين عمرًا، ولقد أسلفنا القول أن لكل من محمد بن داود بن الجراح والجاحظ كتابًا مفردًا تحت عنوان "من سمي عمرًا من الشعراء". وتحت حرف العين أيضًا يذكر المرزباني اثنى عشر شاعرًا يحملون اسم "عمير" منهم من هو مشهور كبير، ولكن تحت اسم آخر كالقطامي "عمير بن شييم" ومنهم من فاتته الشهرة كعمير بن جيدع العجلي -وجيدع هي أمه- ويذكر له هذه الأبيات2 تركت أخا البطاح على ثلاث ... يكوس كأنه بكر عقير*   1 معجم الشعراء "ص2". 2 معجم الشعراء "ص72". * كاس الإنسان يكوس مشى على رجل واحدة، وكاس الحيوان عرقبت إحدى قوائمه فمشى على ثلاث، وكاس العقير يكوس يعني سقط على رأسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وتتبعه بصائر واردات ... كما قدت من الجزر السيور فلا تفخر علي فإن عجلًا ... لها عدد إذا حسبوا كثير ويورد المرزباني شاعرين تحت اسم "عويمر" وسبعة تحت اسم "عمارة"، وثمانية عشر تحت اسم "عدي" منهم من هو معروف مشهور كعدي بن الرقاع العاملي الشاعر الدمشقي في عصر بني أمية، ومنهم من ليس كذلك مثل عدي بن حاتم الطائي الذي كان يكنى بأبي طريف، وفي مقام التعريف به يذكر المرزباني أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، فلما قامت حركة الردة ثبت على إسلامه، ويذكر المرزباني لقاء له مع الخليفة عمر بن الخطاب، يقول عدي أثناءه: أتعرفني يا أمير المؤمنين؟ فيقول له الخليفة: نعم، أنت الذي آمن إذ كفروا ووفى إذ غدروا، وكان عدي مع الخليفة علي بن أبي طالب يوم الجمل وفقئت عينه في المعركة، وقد عمر حتى بلغ المائة والعشرين، وقد عبر عن كبر سنه بشعر إنساني رقيق، ذلك أنه لما استولى المختار بن أبي عبيد على الكوفة، وكان بينه وبين عدي شجار، هم عدي أن يخرج إليه ولكنه لم يستطع أن يفعل لكبر سنه وضعف جسمه فأنشأ يقول: أصبحت لا أنفع الصديق ولا ... أملك ضرًّا للشانئ الشرس وإن جرى بي الجواد منطلقًا ... لم تملك الكف رجعة الفرس1 ومع حرف العين يذكر المرزباني، سبعة عشر شاعرًا يحملون اسم "عثمان" وقد جعل الخليفة الثالث عثمان بن عفان واحدًا منهم وأورد له شعرًا جليل المعنى مما يتمشى مع خلق عثمان الرفيع2، ثم ذكر المؤلف أحد عشر شاعرًا تحت اسم "عيسى" منهم عيسى بن خالد بن الوليد المشهور بأبي سعيد المخزومي الذي تهاجى ودعبل الخزاعي في معركة شعرية حامية مثيرة طريفة3 ومنهم عيسى بن موسى بن محمد، وهو من مشايخ بني هاشم ورءوس العباسيين وكان السفاح عهد له بالخلافة العباسية بعد المنصور، ولكن المنصور آثر ابنه محمدًا بها ونقض العهد، فقام عيسى مهددًا في شعر من أجود فن القول:   1 معجم المرزباني "ص84، 85". 2 المصدر السابق "ص88". 3 راجع ذلك في كتابنا "رحلة الشعر من الأموية إلى العباسية" في الفصل الخاص بدعبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 بدت لي أمارات من الغدر شمتها ... أظن رواياها ستمطركم دما وما يعلم العالي متى هبطاته ... وإن سار في ريح الغرور مسلما أتهضمني حقًّا تراه مؤخرًا ... بحكم إلهي حين صرت مقدمًا سننت انتقاض العهد فاصبر لمثله ... بنقضك من عهدي الذي كان أُبرِما وكأنما أحس المرزباني أن صفات عيسى ومكانته قد تحجبه عن عالم الأدب كواحد من أجود الذين يقولون شعرًا في العربية فحرص على أن يورد له أكثر من أنموذج شعري، ولكنه شعر مرتبط بحياة الشاعر السياسية والحربية والمحنة التي حلت به بإقصائه عن ولاية العهد وبالتالي عن تولي الخلافة، فمن قوله هذا الذي يضعه في صف الشعراء الفرسان الفحول: صليت بنار الحرب آلام لفحها ... ولم يصلها منصورها ونصيرها أقاتل عنهم عصبة ما أردتها ... بسوء، كبيرٌ في العيون صغيرها أقطِّع أرحامًا علي أعزةً ... وأسدي مكيداتٍ لها وأنيرها فلما وضعت الأمر في مستقره ... ولاحت به شمس تلألأ نورها دفعت عن الحق الذي أستحقه ... وسارت بأوساق من العذر عِيرها1 ويمضي المرزباني في التعريف بشعرائه ممن تبدأ أسماؤهم بحرف العين فيذكر سبعة شعراء تحت اسم "العباس"، واثنين تحت اسم "عتبة"، وثلاثة تحت اسم "عتاب" بينهم بطبيعة الحال "عتاب بن ورقاء" ويذكر لعتاب بن ورقاء أسمى قصائده، وهل هناك أسمى من وصف القلم. إن المرزباني يورد لعتاب بن ورقاء قصيدته في وصف القلم التي منها2:   1 المصدر "96، 97". 2 المصدر "ص107". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 لك القلم الذي لم يجر إلَّا ... أبان لك العدو من الولي إذا استرعفته ألقى سوادًا ... على القرطاس أبهى من حلي فيا طوبى لمن أولى إليه ... بإحسان وويل للمسي شباة سنانه في الخطب أمضى ... وأنفذ من شباة السمهري وتحت اسم "عِتبان" بكسر العين، يورد المرزباني شاعرًا واحدًا هو عتبان بن أصيلة الشيباني1، وهو من الشعراء الفحول غير المشهورين. ويمضي المؤلف في عرض شعرائه الذين يختلفون عدًّا بين القلة والكثرة على هذا الترتيب "عيينة" ثم "عياض" ثم "عصام" ثم "عاصم" ثم "عصمة" ثم "عصم" بالضم فالسكون، ثم "عوف" ثم "عابس" ثم "عياش" ثم "علي" وقد ذكر منهم -أي من اسمهم علي- تسعة وأربعين ثم "العلاء" ثم "عطية" ثم "عطاء" ثم "عطاف" ثم "العوام" ثم "عقيل" بفتح العين، ثم "عقيل بضم العين، ثم "عجلان" ثم "عائذ" ثم "عباءة" ثم "علباء" ثم علبة" ثم "عدل" ثم "عش" ثم "عرنس" ثم "عزيز" ثم "عنبر"، ثم "علاته" ثم "عرعرة" ثم "عتيك" ثم "عويذ" بالضم فالفتح. وهذا ولم يلتزم المرزباني في معجمه خطة التمثيل لكل شاعر بشيء من شعره، ففي حالات غير قليلة كان يكتفي بذكر اسم الشاعر، وبعض خبره حسبما فعل مع "عمارة بن عطية" فإن كل الذي قاله عنه هو: "لقيه الأصمعي وأخذ عنه"2 وحسبما فعل مع "علي بن عبد الكريم المدائني" فلم يزد على أن قال في خبره: يتشيع ويكثر من مدح آل البيت عليهم السلام"3 بل إن المرزباني لم يأت في التعريف بعدي بن وداع الأزدي الشاعر بأكثر من صفة "الأعمى". إن مثل هذه الحالات يمكن أن تشكل نقدًا لمنهج المرزباني في طريقة تأليفه الكتاب، إذ ما الذي يمكن أن يستفيده طالب معرفة عن شاعر كل ما قدم عنه المؤلف من تعريف أنه كان أعمى، أو أنه كان يتشيع لآل البيت ويكثر من مدحهم دون أن يأتي ببيت واحد من شعر الشاعر؟! ويعمد المؤلف من ناحية أخرى إلى الإطالة نسبيًّا في التعريف بشعراء آخرين، ربما   1 المصدر "108". 2 المصدر "78". 3 المصدر "154". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 لإعجابه الشخصي بشعرهم حسبما فعل مع ابن الرومي، أو علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم، أو علي بن الجهم. تلك ملاحظة هامة حول منهج المؤلف، وأما الملاحظة الثانية، فهي أن الأسماء التي تبدأ بحرفين اثنين هما العين والميم قد احتلت ثلاثمائة وخمسًا وسبعين صفحة من صفحات الكتاب البالغ عددها بضعًا وخمسمائة صفحة، احتل حرف العين مائة وثلاثًا وسبعين صفحة، واحتل حرف الميم مائتين واثنتين من الصفحات. هذا ويبدو لنا أن الكتاب لم يطبع كاملًا، وأن ذلك الذي بين أيدينا منه إنما يشكل جزءًا من الكتاب وليس الكتاب كله، وإلا فأين الشعراء الذين تقع أسماؤهم بين الهمزة والظاء وهم من الكثرة بمكان، خاصة وأن المؤلف حاول أن يغطي بعمله الشعراء الجاهليين المخضرمين والإسلاميين، والأمويين، والعباسيين، هذا رأي عن لنا ونحن نقدم منهج المرزباني في معجم الشعراء، ربما قال قائل إنه من الجائز أن يكون المرزباني قد استغنى من ذكر عدد كبير من الشعراء؛ لأنه قدمهم في مؤلف آخر من مؤلفاته -وما أكثرها- ومن ثم فلم يرد أن يكرر نفسه في أكثر من مؤلف، فقد سبق القول بأنه ألف كتابًا عن الشعراء المشهورين المحدثين سماه "المستنير" يقع في عشرة آلاف ورقة أي خمسة آلاف صفحة من الحجم المتوسط بحروف المطبعة المعاصرة، بدأه بذكر بشار بن برد وانتهى به عند عبد الله بن المعتز. غير أن هذا الافتراض يقع في جانب التخمين وهو على الأغلب غير صحيح؛ لأن الكتاب الذي بين أيدينا تنقصه مقدمة المؤلف، وكان المؤلفون الكبار -والمرزباني في مقدمتهم- يحرصون على أن يكتبوا مقدمات لكتبهم يوضحون فيها مقاصدهم ومناهجهم، ولقد فعل ذلك المرزباني في كتابه "الموشح" الذي سوف يأتي ذكره في مكانه من هذا الكتاب وكتب له مقدمة نفيسة ممتعة، ومن ثم فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن ما بين أيدينا من "معجم الشعراء" ليس إلا نصف الكتاب وليس جميعه. والحق أنه مهما كانت هناك من مآخذ أو هنات حول كتاب "معجم الشعراء" فإنه ينبغي الالتفات إلى أن المؤلف، قد عمد إلى منهجه عمدًا، إنه معجم وحسب، لم يقصد من خلاله أن يترجم للشاعر أو ينقده، فإنه تناول هذه الأمور في كتب أخرى له، تناول الترحمة في "المستنير" وتناول النقد في "الموشح" الذي هو بين أيدينا نرجع إليه عند الحاجة فنصيب منه نفعًا كثيرًا وفوائد جليلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الفصل الخامس: بقية الطبقات حسب التدرج الزمني : إنه من الفائدة بمكان أن نعرض لذكر كتب الطبقات التي ترجمت للشعراء على أساس منهجي متخصص، سواء أكان ذلك على أساس الفترة الزمانية، أو البقعة المكانية، أو التجميع لشعراء يحملون اسمًا واحدًا كمحمد أو عمرو بعد أن قدمنا أصحاب الطبقات الذين حشدوا أكبر عدد من الشعراء في كتبهم- وإن يهملوا جانب التسلسل التاريخي -وهم ابن سلام المتوفى سنة 232هـ في كتابه "طبقات الشعراء" وابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ في كتابه "الشعر والشعراء" ونضيف إليهم مصنفًا ثالثًا، هو محمد بن عمران بن عبد الله المرزباني المتوفى 384هـ في كتابه "معجم الشعراء"، وبهذه المناسبة فإن المرزباني يقارب كلا من ابن قتيبة والجاحظ غزارة علم وسعة أفق وتعدد معرفة ووفرة تأليف. وقد قالوا عنه إنه جاحظ زمانه، غير أنه مختلف تمامًا عن الجاحظ وابن قتيبة في السلوك، فقد كان كل من الجاحظ وابن قتيبة متحفظين سلوكًا متمسكين دينًا، وأما المرزباني فكان يضع أمامه المحبرة وقنينة النبيذ يكتب ويشرب حسبما مر القول إبان الحديث عن شخصيته العلمية. نعود إلى طبقة المتخصصين من أصحاب طبقات الشعراء ونحاول أن نرتبهم تاريخيًّا وأن نعرف بمن لم نعرف به منهم بعد. 1- هارون بن يحيى المنجم 251-288هـ صاحب كتاب "البارع" وكتابه يعتبر أو لكتب الطبقات التي اختصت بفترة زمانية بعينها، فقد مر بنا أنه ابتدأه ببشار بن برد واختتمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، وجملة من ترجم له مائة وواحد وستون شاعرًا، وقد كان الكتاب معروفًا لكثير من أصحاب كتب التراجم، ورآه ابن خلكان ووصفه وصفًا مفصلًا، ومن نظرة إلى تاريخ ولادة هارون ووفاته نلحظ أنه مات شابًّا في السابعة والثلاثين، ومع ذلك فكتابه يعتبر أساس كتب التراجم ذات الطابع المتخصص. 2- عبد الله بن المعتز 247-296هـ وقد مر الحديث عنه، وعن كتابه طبقات الشعراء بما فيه الكفاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 3- محمد بن داود الجراح 243-296هـ وكان صديقًا لابن المعتز ووزيره خلال اليوم الذي ولي فيه العرش على ما مر بنا قبل قليل، وله كتابان في الطبقات لكل منهما صبغة تخصص بعينه، فأما كتابه الأول، فهو في "من اسمه عمرو من الشعراء" والتخصص هنا يقع في نطاق الاسم دون الزمانية أو المكانية أو الموضوعية، والكتاب محقق ومعد للطباعة حسبما مر بنا قبل قليل، وأما الكتاب الثاني لابن الجراح، فهو كتاب "الورقة" وقد حققه أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ عبد الستار فراج، وهو بين أيدي القارئين، وقد ضم ترجمة لثلاثة وستين شاعرًا وشاعرة، كلهم ممن اتصلوا ببني العباس، بينهم عدد من مخضرمي الدولتين، غير أن الكتاب صغير الحجم مختصر الترجمات، وإن كان ذلك لا يحط من قدره، فكثير مما به من الأخبار والأشعار قد انفرد بها مثلما فعل ابن المعتز. 4- عبد الملك بن محمد الثعالبي 350-429هـ صاحب يتيمة الدهر وواحد وعشرين كتابًا آخر من رفيع المعرفة لغة وأدبًا وتاريخًا وفنًّا كلها مطبوعة سبقت الإشارة إليها فضلًا عن عدد آخر من الكتب المخطوطة يناهز الثمانية. واليتيمة تعتبر أولى طبقات الشعراء ذات الصفة الموسوعية، وإن كان ابن خلكان جعلها هي وغيرها من الكتب الجليلة التالي ذكرها فروعًا من كتاب "البارع" الذي مر ذكره. على أن كتاب اليتيمة قد قارب حد الشمول في ترجمته لشعراء القرن الرابع، جاعلًا لكل مصر من الأمصار الإسلامية قسمًا من كتابه، مبتدئًا من بلاد الجبل وما وراء النهر شرقًا، مارًّا بالعراق العجمي، والعراق العربي، والشام والجزيرة، ومصر وإفريقية، والأندلس مطيلًا مسهبًا عند من ينبغي الوقوف والإطالة عندهم مثل المتنبي وابن العميد، والصاحب بن عباد وأبي إسحاق الصابي، وأبي فراس وغيرهم من صفوة شعراء العربية في القرن الرابع غير أنه يختصر في بعض الأحيان ويغفل بعض الأعيان، كما فعل حين لم يشر إلى الصنوبري شاعر الطبيعة الأول وإمام مدرستها في الشعر العربي. هذا ولا تزال اليتيمة بأقسامها الأربعة الثمينة، العمدة لكل من يرغب في تثقيف نفسه في أدبنا في القرن الرابع الهجري وقد أعجب بها الأدباء والباحثون والشعراء قديمًا وحديثًا مما جعل أبا الفتوح بن قلاقس الإسكندري يقول فيها: أبيات شعر اليتيمة ... أبكار أفكار قديمة ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سميت اليتيمة 5- علي بن الحسن الباخرزي المتوفى 467هـ صاحب "دمية القصر وزهرة أهل العصر" ونلاحظ أن التسمية من حيث الصياغة جاءت على وزن "يتيمة الدهر" وإن كانت مركبة من سجعتين مما يوحي بأن مؤلفها قد جعلها امتدادًا أو ذيلًا ليتيمة الدهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 والباخرزي -شأنه في ذلك شأن الثعالبي النيسابوري- لم يكن مجرد مؤلف لكتاب طبقاته، ولكنه كان شاعرًا أديبًا كاتبًا محدثًا فقيهًا، فقد كان ملازمًا للشيخ أبي محمد الجويني، والد إمام الحرمين الجويني. وللباخرزي مشاركة وافرة في قول الشعر، ويذكر ابن خلكان أن شعره مجلد كبير تغلب عليه الجودة والمعاني الغريبة. وفي الحق أن شعره صورة دقيقة لشعراء عصره الذين أوغلوا في الصنعة إيغالًا شديدًا ولكنه مع ذلك لم يخل من طرافة مثال ذلك قوله في شدة البرد: كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لسكان الجحيم حسودا وترى طيور الماء في وكناتها ... تختار حر النار والسفودا وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرك لنا عودًا وحرق عودا ونحن نلاحظ، فضلًا عن طرافة المعاني، التلاعب بالألفاظ من جناس بين "عقيق وعقود" و "حرك وحرق"، كما نلاحظ أيضًا اللف والنشر في البيت الأخير. فإذا كان لنا أن ننعطف إلى الحديث ثانية عن "دمية القصر" فهي واحدة من حلقات سلسلة الطبقات بعد حلقة "يتيمة الدهر". وقد ذكر ابن خلكان أن أبا الحسن علي بن زيد البيهقي، قد وضع كتابًا يعتبر ذيلًا للدمية أسماه "وشاح الدمية" وإن كان هذا الكتاب، الذي نعتقد أنه من الفائدة بمكان، لم يصل إلينا لسوء الحظ. 6- سعد بن علي بن القاسم الأنصاري الوراق الحظيري الملقب بأبي المعالي المعروف بدلال الكتب المتوفى سنة 568هـ صاحب "زينة الدهر وعصرة أهل العصر وذكر ألطاف شعر العصر" ولعلنا نلاحظ هنا أيضًا أن اسم الكتاب طويل نوعًا، ويتكون من ثلاث سجعات، ومن ثم كان اختصاره أمرًا مطلوبًا لدى جمهور الأدباء فأطلقوا عليه جزءًا منه فقال "زينة العصر". وزينة الدهر تعتبر ذيلًا على دمية القصر للباخرزي، أو بالتعبير السوي هي حلقة ثمينة في السلسلة العظيمة لكتب طبقات الشعراء المخصصة في عصر بذاته. ولعلنا نلاحظ أن قرنًا كاملًا من الزمان يشكل الفارق بين الباخرزي، والحظيري، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 هنا كانت مادة الحظيري في "زينة الدهر" تمثل التخصص الزمني في قرن بذاته بدأ من حيث انتهى الباخرزي وانتهى قبيل وفاة المؤلف. والحظيري عاش ومات في أطراف بغداد في موضع يقال له الحظيرة، وكان أديبًا شاعرًا، وله ديوان شعر، ذكر ابن خلكان أطرافًا منه بدت سقيمة في نظري رغم إعجابه بها؛ ربما لأن اختيارها كان في فن من فنون الغزل الذي ترفضه الأذواق وتنكره الأخلاق. غير أن الطريف في أمر الحظيري أنه كان وراقًا ودلال كتب، ومع ذلك قدم لأدبنا عدة مؤلفات غير "الزينة" منها "لمح الملح" و "الإعجاز في الأحاجي والإلغاز"، ومعنى ذلك أن الأدب والتأليف، والكتابة كانت متاحة لمن له القدرة على ذلك، ولم تكن مقصورة على طبقة بعينها تحتكر تسويد الصفحات اقتحامًا دون ما استعداد أو تأهل أو تخصص، فتؤذي أذواق الناس بما تفرضه على أذهانهم، متخفين وراء لقب أو محتمين بجاه سلطان. 7- عماد الدين محمد بن محمد صفي الدين المشهور باسم العماد الأصفهاني 19هـ-197هـ وقد قدم العمل الأدبي الكبير الذي أسماه: خريدة القصر وجريدة العصر". وليست الخريدة هي العمل العلمي والفني الوحيد لعماد الدين الأصفهاني، بل إن له تآليف عديدة قيمة تأخذ شكل الموسوعات مثل كتاب "البرق الشامي في أخبار صلاح الدين وفتوحاته" وله ديوان رسائل، وديوان شعر، وله أيضًا كتاب "نصرة الفترة وعصرة القطرة" في أخبار الدولة السلجوقية. وسوف نلحظ أن العماد متأثر كل التأثر بأسلوب زمانه من حيث الصناعة البديعية التي لم تكن تنسحب على أعماله الفنية وحدها من شعر وكتابة، وإنما انسحبت أيضًا على عناوين كتبه مثل كتابنا هذا الذي نقدم له "خريدة القصر وجريدة العصر" فالمجانسة واضحة بين خريدة وجريدة وبين القصر والعصر، وهي أكثر وضوحًا وتصنعًا في كتابه "نصرة الفترة وعصرة القطرة" الذي مر ذكره قبل قليل. وغلو العماد في صناعته الفنية لم يكن يخلو أحيانًا من طرافة، فهو صاحب الأبيات التي تعتبر مثالًا صارخًا للصنعة البديعية في قوله موجهًا أبياته إلى القاضي عبد الرحيم البيساني: أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك والجو منه مظلم ... لكن أنارته السنا بك يا دهر لي عبد الرحيم ... فلست أخشى مس نابك بل إنه كثيرًا مما عمد إلى الأحاجي في اصطناعه الإطراف الأدبي كإنشاء جمل تقرأ طردًا وعكسًا، فقد رأى القاضي الفاضل، وهو يمتطي صهوة جواده، فقال له، فيما يظن البعض أنها بديهية: سر فلا كبا بك الفرس. وإذا نظرنا إلى هذه الجملة وقرأناها من اليسار إلى اليمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وجدناها هي نفسها التي نكتبها من اليمين إلى اليسار، وتمضي الرواية، فتقول: إن القاضي الفاضل كان من الذكاء بحيث التقط التحية فرد عليها على الفور بمثلها، قائلًا: دام علا العماد، وهذه الجملة شبيهة بجملة العماد من حيث قراءتها طردًا وعكسًا. فإذا ما عدنا إلى الخريدة وجدناها تشمل الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى السنة 572هـ وهي السنة التي انتهى فيها العماد من تأليفها. ولا ترجع قيمة الخريدة إلى تغطية هذه الفترة من الزمان التي تناهز ثلاثة أرباع القرن وحسب، وإنما تكمن قيمتها في كونها قد غطت المساحة المكانية المترامية الأطراف من الأرض الإسلامية فضمت كل شعراء العراق والعجم والشام، والجزيرة، ومصر، والمغرب، فجعل العماد قسمًا لكل قطر من هذه الأقطار بحيث ضم الكتاب أربعة أقسام، وكل قسم يشتمل على عدة أجزاء، فهناك القسم الخاص ببلاد الشام، والقسم الخاص بمصر وصقلية والمغرب والأندلس، والقسم الخاص بشعراء العراق، والقسم الخاص ببلاد العجم وفارس وخراسان. ويذكر العماد كل بلدة أو مدينة ويتبعها بشعرائها فيتحدث في قسم الشام عن شعراء حمص وحماة وشيزر، فالمعرة، وحلب، ومنبج، وحران، ويتعدى ذلك فينشئ بابًا يخص به شعراء جزيرة بني ربيعة وديار بكر وما يجاورها. ومن الطريف أنه يلحق شعراء الحجاز وتهامة واليمن بالقسم الثالث الخاص ببلاد الشام. ولم يقف جهد العماد الأصفهاني عند مجرد الشعر الذي يصل إليه إنما كان يتنقل من مكان إلى مكان، ومن قطر إلى قطر يقابل الشعراء والرواة، ويسمع منهم ويناقشهم، ثم يقوم بعملية تدوينه البارعة. وإذا كان البيهقي قد ألف ذيلًا على دمية الباخرزي أسماه وشاح الدمية، فإن العماد الأصفهاني قد أنشأ بنفسه ذيلًا لخريدته أسماه "السيل على الذيل"، ولعله في ذلك قد آثر أن يستدرك ما فاته بنفسه بدلًا من أن يستدرك عليه غيره كما فعل البيهقي مع الباخرزي. وتمر فترة طويلة من الزمان تناهز الأربعة قرون أو أكثر قليلًا قبل أن تستأنف حلقات هذه الموسوعات الرائعة من كتب طبقات شعراء العربية، ولكن قبل أن ننتقل هذه النقلة الواسعة فإن أمرًا على جانب كبير من الخطورة يلفت نظرنا بحيث لا يستطيع أن نهمل ذكره، أو نتفادى خطره، ذلك أننا إذا أمعنا النظر في أسماء ونسبة كبار هؤلاء المؤلفين فإننا سوف نجد الثعالبي منتسبًا إلى "نيسابور"، والباخرزي منتسبًا إلى "باخرز" وهي بلدة من نواحي نيسابور أيضًا، والعماد الأصفهاني منتسبًا إلى "أصفهان" بل هو مولود فيها، تمامًا كما أن الباخرزي مولود في باخرز والثعالبي مولود في نيسابور، وهي قصة إن دلت على شيء فإنما تدل على سحر في أدبنا تغلغل في نفوس كل من اشتغل به من عرب أو عجم، فملك عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 كل أسباب اهتمامهم، وملأ عليهم كل نواحي حياتهم، ففنوا فيه وأصبحوا نساكًا في محرابه، وتوفروا عليه بمجامع خواطرهم وفيض عواطفهم وذوب قلوبهم، بحيث قدموا لنا هذه الموسوعات الرائعة الخالدة، ذلك أن الوطن وأن اللغة وأن الأدب كانت كلها للمسلمين جميعًا، وليست لطائفة دون الأخرى من عرب أو عجم أو سود أو بيض، وأن الثقافة العربية كانت من السماحة بحيث استقطبت كل هذه الأجناس، وأن الأدب العربي كان من رحابة الصدر وسعة الأفق بحيث بسط جناحيه على هؤلاء جميعًا، فاستظلوا بظله ونعمه بفيئه فكانت ظلاله، وأفياؤه من الحنان، والرفق، والإيحاء، والخصوبة بحيث جعلت العطاء وفيرًا والحصاد مباركًا. 8- أبو العباس أحمد بن محمد، شهاب الدين الخفاجي المتوفى سنة 1069هـ، وهو أحد القضاة المصريين الذين جابوا الأقطار الإسلامية وانتقلوا بين ديارها، فأتاحت له ثقافته كما ساعدته همته على أن ينشئ العديد من الكتب النافعة، وفي مقدمتها كتابه "ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا" و "شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل" و "شرح درة الغواص في أوهام الخواص للحريري" و "نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض" و "عناية القاضي وكفاية الراضي" وهي حاشية على تفسير البيضاوي. وهذه الكتب جميعًا مطبوعة برد حياضها المتأدبون وينهل من فيضها الباحثون. هذا وله كتب مخطوطة لم تخرج إلى النور بعد، مثل "خبايا الزوايا بما في الرجال من البقايا" و "ريحانة الندمان" و "ديوان الأدب في ذكر شعراء العرب" و "السوائح"، كما أن له ديوان لا يزال مخطوطًا. فالخفاجي، وهذه مؤلفاته ومخلفاته، علم من أعلام اللغة والأدب، وهو قاض جليل في مدن الخلافة العثمانية عاش متقلدًا القضاء متنقلًا بين الولايات في مصر ودمشق وحلب وسلانيك والبلقان، على أن أهم ما يعنينا من تلك المؤلفات في هذا المقام هو كتابه "ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا" الذي قدم فيه نماذج مختارة من التعريف بشعراء الشام ومصر والمغرب وجزيرة العرب، ولكن عمله هذا الجليل لم يكن من الاتساع بمكان، فجاء من بعده عالمان جليلان رسمًا على منواله وأتما عمله، هما المحبي وابن معصوم. 9- محمد أمين بن فضل الله محب الله المحبي المتوفى سنة 1111هـ، ولعل شهرة المحبي ترتبط بعمله العلمي الكبير الجليل "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" وهو أكبر المراجع التي نستشيرها حينما نحاول الإلمام بشخصية من شخصيات ذلك القرن، كما أن له، وهذا هو الذي يعنينا، كتاب "نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة". وهو الحلقة من حلقات كتب طبقات الشعراء المتممة لكتاب الخفاجي الذي مر ذكره: "ريحانة الألبا". وقد اتسع المحبي في "نفحته" اتساعًا فيه عمق وشمول. والكتاب ضخم كبير، ظهرت منه حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الآن عدة مجلدات أثبتت قيمتها للباحث في ميدان الدراسات الأدبية في القرن الحادي عشر، والمحبي بنص في مقدمته على أنه قد وجد بعض النقص في كتاب الخفاجي وربما بعض الإغفال، فكان ذلك هو السبب في تأليفه كتابه الكبير الذي أسماه، كما مر بنا، "نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة" وكأنما هو يعترف بفضل الخفاجي ويحمد له عمله: "الريحانة" ومن ثم فقد اعتبر كتابه الكبير نفحة من نفحات الخفاجي فسماه "نفحة الريحانة" وزاد "ورشحة طلا الحانة". على أن "نفحة الريحانة" مرتب على ثمانية أبواب: الباب الأول يشتمل على "محاسن شعراء دمشق ونواحيها" ويختص الثاني "بنوادر أدباء حلب" ويتناول الثالث "نوابغ بلغاء الروم"، ويتضمن الباب الرابع "ظرائف ظرفاء العراق والبحرين" والباب الخامس في "لطائف لطفاء اليمن" والسادس من "عجائب نبغاء الحجاز" والسابع في "غرائب فقهاء مصر" والثامن في "نجائب أذكياء المغرب". ولا يفوتنا أن نذكر أن مؤلفنا الكبير كان هو الآخر صورة لزمانه الذي ولع أدباؤه بالصنعة ولعًا لافتًا للأنظار حتى في عناوين كتبهم. فنلاحظ أن مؤلفنا يقول: محاسن شعراء، ونوادر أدباء، ونوابغ بلغاء، وظرائف ظرفاء، ولطائف لطفاء وعجائب نبغاء ... إلخ مما مر بنا من عناوين أبوابه وقد التزم صيغتين للسجع بعينهما، هما: "فعائل فعلاء". على أنه مما لا ينبغي غض الطرف عنه أن للمحبي فضلًا عن كتابيه الكبيرين: "خلاصة الأثر" و"نفحة الريحانة" كتبًا أخرى ذات وزن وقيمة في الأدب، واللغة منها: "قصد السبيل بما في اللغة من دخيل"، وهو لا شك بذلك متمم ومذيل لكتاب الخفاجي "شفاء العليل في ما في كلام العرب من الدخيل"، ومشى فيه على حروف المعجم حتى بلغ حرف الميم. كما أن للمحبي أيضًا كتاب "ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه" و"جني الجنتين في تمييز نوعي المثنيين" و"الأمثال"، وكل من "الأمثال" و"المضاف والمضاف إليه" لا يزالان مخطوطين. هذا وإن له ديوان شعر مخطوطًا، وهو في ثقافته ومؤلفاته، كأنما يحذو حذو سلفه الخفاجي. وإذن فهناك وجوه شبه كبيرة بين كل من العالمين الأديبين بل إنهما متشابهان في الوظيفة التي وليها كل منهما، والأماكن التي تنقلا فيها على اختلاف زمانهما، فالأول ينتسب إلى النصف الأول من القرن العاشر، والثاني ينتسب إلى النصف الثاني منه، وإلى طرف من القرن الثاني عشر. 10- ابن معصوم وهو علي بن أحمد بن محمد معصوم الذي يعرف أيضًا بعلي خان بن مرزا، المتوفى سنة 1119هـ. وهو كما نرى في تاريخ وفاته معاصر للمحبي، غير أنهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وإن تعاصرا زمانًا، فقد اختلفا إقامة ومكانة، فالمحبي دمشقي، وأما ابن معصوم فهو شيرازي الأصل مكي المولد، هندي الإقامة شيرازي الوفاة، وكما أخذ المحبي على الخفاجي بعض النقص في كتاب "ريحانة الألبا" فإن ابن معصوم قد أدرك الإدراك نفسه وأخذ على الخفاجي إهماله جماعة من مجيدي الشعراء ومفيدي البلغاء على حد تعبيره، ولكنه في الوقت نفسه يلتمس له العذر في ذلك لبعد دياره عن ديارهم وأن الليالي لم تأته بأسمائهم. ومن ثم فقد قام باستدراك النقص الذي رآه وضمنه كتابه "سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر" وهو في سلافته قد نهج تقسيمًا مشابهًا لتقسيم المحبي. وإن كان المحبي أغزر وأوفر وأوسع مادة وشعرًا ورأيًا. المهم أن صاحب "السلافة" اختار من ترجم لهم من أهل المائة الحادية عشرة، وجعلهم في خمسة أقسام: القسم الأول جعله في محاسن أهل "الحرمين الشريفين" وجعل الثاني في "الشام ومصر ونواحيهما" والثالث في "اليمن" والرابع في "العجم والبحرين والعراق" والخامس في "أهل المغرب". ولم يقتصر نشاط ابن معصوم، على رغم كونه أعجميًّا، على "سلاسة العصر" وحدها، ولكنه مؤلف لمجموعة أخرى من الكتب الأدبية مثل "أنوار الربيع" وهو مطبوع و "سلوة الغريب" الذي وصف فيه رحلته إلى حيدر أباد كما أن له ديوان شعر. ولما كان ابن معصوم من أعلام الشيعة على زمانه، وله في مذهبه مشاركة ودراسة، فقد ألف كتابًا لا يزال مخطوطًا تحت عنوان "الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة". وإذا كان لنا أن نلخص سلسلة طبقات الشعراء في "طبقات الشعراء" لابن المعتز، ثم "من اسمه عمرو من الشعراء" و "الورقة" لا بن داود الجراح، ثم "يتيمة الدهر" للثعالبي، ثم "دمية القصر وزهرة أهل العصر" للباخرزي، ثم "زينة الدهر" لسعد بن علي المعروف بالحظيري الوراق، ثم "خريدة القصر وجريدة العصر" للعماد الأصفهاني، ومعها كتابه "السيل على الذيل" ثم "ريحانة الألبا وزهرة أهل الدنيا" للشهاب الخفاجي، ثم "نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة" للمحبي، ثم "سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر" لابن معصوم. إن هذه السلسلة من الكتب النفيسة القيمة هي لنوع واحد من الطبقات، ولكن هناك أيضًا كتب أخرى للاختيار من شعر الشعراء نفيسة القيمة، وفيرة المادة شهيرة الفائدة بدأت بالقصائد التي اختارها المفضل الضبي للمهدي العباسي وسماها "المفضليات" ثم تتابعت السلسلة في مختارات الأصمعي التي سماها "الأصمعيات" وغيرها، ثم المختارات التي سميت بكتب الحماسة بادئة من القرن الثالث الهجري بحماستي أبي تمام والبحتري، منتهية بحماسة البارودي في القرن الماضي، ولنا في هذا الشأن حديث قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الباب الثامن: الاختيارات الشعرية والحماسات الفصل الأول: المراحل الأولى في الاختيارات السموط أو المعلقات : سلف القول إن الشعر كان يحفظ في صدر الشعراء وصدور رواتهم غير مكتوب أو مدون، وكان لكل شاعر صديق يحفظ شعره ويرويه الناس، وكان شعر شاعر ما ينتقل من جيل إلى جيل من خلال الرواية التي كانت صادقة أمينة على الأغلب، اللهم إلا حين كانت ذاكرة الراوية تخونه في بيت أو بيتين في قصيدة بعينها، أو أن تصيبه الشيخوخة فيعتور ذاكرته بعض الضعف، وحتى في هذه الحالة الأخيرة، وقبل أن تشيخ الذاكرة، كانت ذاكرة شابة أخرى تلتقط من الراوية كل ما عنده أو أكثر، وبهذا النهج أمكن المحافظة على قدر غير قليل من الشعر العربي. وحين شاعت الكتابة بين الناس بدأ الرواة والمتأدبون يسجلون ما في حوافظهم من شعر لهذا الشاعر، أو ذاك أو لشعراء هذه القبيلة أو تلك، فجمعت منتخبات لشعراء أفراد، وقصائد لشعراء القبائل، واختيارات لكبار الشعراء. وكان أول من أقدم على مثل هذا العمل من الرواة حماد بن سابور بن المبارك الذي يعرفه المتأدبون باسم حماد الراوية الذي توفي على الأرجح سنة 155هـ. لقد كثرت الأخبار حول ضخامة القدر الذي كان يحفظه من شعر الأقدمين، وكان ملوك بني أمية يبعثون إليه في العراق ليزورهم في الشام ويروي لهم مما يحفظ، أو يجيب عما يسألون، وله قصص طريفة مع كل من يزيد وهشام ابني عبد الملك ومع الوليد بن يزيد1.   1 نزهة الألباء "ص35 وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 على أن الذي نهتم له هنا هو أن حمادًا هذا كان أول من دون شعرًا، فقد جمع القصائد الجاهلية المشهورة وسماها المعلقات أو السموط، وهناك اختلاف في عدد المعلقات التي جمعها وأصحابها، وهل هي خمس أو سبع أو عشر. غير أن هناك اتفاقًا في الروايات على أن خمسًا منها من جمعه وهي معلقات امرئ القيس، وطرفة، ولبيد، وزهير، وعمرو بن كلثوم، والمعلقتان الأخريان المختلف عليهما هما قصيدتا عنترة والحارث بن حلزة، أو قصيدتا النابغة الذبياني والأعشى. وإن كان المفضل الضبي يرى أن المعلقتين السادسة والسابعة هما للنابغة والأعشى حسبما ذكر بروكلمان1. ولقد لقيت المعلقات من عناية الدارسين والشارحين ما لم تنله أي مجموعة، أو ديوان من دواوين الشعراء ربما باستثناء ديوان المتنبي، وهي أحيانًا تذكر بعنوان المعلقات العشر أو القصائد العشر بإضافة قصيدة عبيد بن الأبرص إلى القصائد التسع التي مر ذكرها. على أن أهم الشروح التي كتبت لهذه القصائد وأجودها هي شروح الحسين بن أحمد الزوزني المتوفى سنة 486هـ وأبي بكر الأنباري المتوفى 327هـ ويحيى بن علي التبريزي المتوفى 502هـ.   1 تاريخ الأدب العربي "ص 67". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 المفضليات : وهي كما يبدو من عنوانها من جمع واختيار المفضل الضبي المتوفى سنة 175هـ، والذي سبقت لنا دراسة مختصرة لحياته في مستهل هذا الكتاب، والحق أن المفضليات تعتبر أول جمع أو اختيار يسجل على صفحات قرطاس ويعلم به فرد بذاته، ومن ثم فإن المفضليات من حيث ارتباطها بمنهج هذا الكتاب يمكن أن يكون مكانها في باب الأمالي؛ لأنها أمليت على الأمير العباسي محمد بن جعفر المنصور الذي صار خليفة فيما بعد وتلقب بالمهدي، ويمكن أن يكون مكانها في باب كتب الحماسة واختيارات الشعراء -أعني هذا الباب-؛ لأنها تضم قصائد مختارة، ومن ثم آثرنا إثباتها وزميلات لها مثل مختارات الأصمعي " الأصمعيات " ومختارات القرشي "جمهرة شعراء العرب"، وديوان الهذليين هنا في هذا الباب لارتباطه بتدوين الشعر، وأول من حاول جمع اختيارات منه ونماذج. ويضم ديوان المفضليات التي بين أيدينا، ونعتمد عليها في هذه الدراسة مائة وثلاثين   1 تاريخ الأدب العربي "ص 67". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 قصيدة1، ويذكر محققا هذه النسخة أن عدد القصائد التي رويت بشرح أبي محمد الأنباري الكبير مائة وست وعشرون قصيدة وأنهما أضافا القصائد الأربع المكملة لعدد المائة والثلاثين من نسخ أخرى غير نسخة ابن الأنباري. وأما ابن النديم، فيذكر أن عدد قصائد المفضليات مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة مختارة2. على أن هناك شبه اتفاق على أن المفضليات التي بين أيدينا ليست جميعها من اختيار المفضل الضبي، وأن عدد القصائد التي قرأها المفضل على المهدي، ولقنه فهم تاريخ الأدب ونصوصه بواسطتها ثمانون فقط، ثم قرأها بعض أصحاب الأصمعي عليه، وقد أضافوا إليها بعض ما أعجبوا به من خيار الشعر وسألوه عن غريبه فزاد عددها3. بل إن الطريف في الأمر أن المفضليات الثمانين ليست من اختيار المفضل نفسه، وإنما هي من اختيار إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي الذي خرج على المنصور هو وأخوه محمد، وآل الحسن كلهم أدب وفضل وشمائل وكانوا مقصد الشعراء وموئل القصاد، كان إبراهيم متواريًا عند المفضل، وكان يقضي وقته في القراءة تفاديًا للسأم الذي يشعر به صاحب الفراغ فعكف على كتب كان المفضل يقدمها إليه، فاختار إبراهيم سبعين قصيدة4 ثم أضاف المفضل إليها عشرًا من اختياره هو فكانت الثمانين قصيدة التي حملت اسمه، وعرفت بالمفضليات، فلما احتفظ المنصور بالمفضل الضبي بعد أن قضى على ثورة بني الحسن كلفه أن يخرج ولده محمدًا في الشعر فعلمه من خلال القصائد التي اختيرت بعناية وذوق واهتمام. وإن أكثر قصائد المفضليات لشعراء جاهليين ومخضرمين وإسلاميين، ولكنهم على شهرة بعضهم من المقلين المجيدين في إنشائهم المجودين في شعرهم مثل أفنون التغلبي وبشامة بن عمرو، وبشر بن عمرو بن مرثد، وتأبط شرًّا، والشنفرى، والحصين بن الحمام المري، وأبي ذؤيب الهذلي، والحارث بن حلزة، وذي الإصبع العدواني، ومتمم بن نويرة، وعلقمة الفحل، وعامر بن الطفيل، والمثقب العبدي، والمخبل السعدي، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، والمسيب بن علس وغيرهم، وهي في أكثرها أسماء معروفة لخاصة   1 المفضليات تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون. 2 الفهرست "128". 3 ذيل الأمالي "130". 4 مقاتل الطالبين "ص339". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الدارسين دون عامتهم، ولكن لشعرهم وزنًا وعمقًا وفحولة في إطار من مقدرة القول وملكة الشعر. ومن الطريف أن المنصور نفسه كان ذا رأي في اختيار هذا اللون من الشعر لهذا الصنف من الشعراء المقلين، فقد كان المنصور واسع العلم والأخبار محبًّا للشعر وبخاصة الجيد منه، وكان كملك وأب يعد ولده لتولي الملك يشرف من بعيد على النهج الذي يسلكه مربي ولده والموضوعات التي يتفقه من خلالها، فقد مر ذات يوم بالمهدي يقرأ على أستاذه المفضل قصيدة المسيب بن علس العينية التي مدح بها القعقاع بن معبد بن زرارة عظيم بني تميم في الجاهلية والإسلام، والذي كان يقال له لكرمه وجوده "تيار الفرات" فلم يزل واقفًا من حيث لم يشعر به أحد حتى استوفى سماعها، ثم ذهب إلى مجلسه وبعث في طلب التلميذ الأمير والأستاذ العلامة، فلما حضرا أبدى المهدي إعجابه الشديد بحسن اختيار المفضل للشعر وأثنى عليه، ثم قال له: لو عمدت إلى أشعار المقلين واخترت لفتاك -أي للمهدي- لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا1 ومن هنا كانت المحافظة على هذا اللون الفخم من الشعر الجزل في القول، المكين في البناء. فلنتفقد بعض أبيات تلك القصيدة التي أعجبت المنصور والتي تأدب وتخرج عليها المهدي. يستهل المسيب مديحته بالنسيب البدوي فيقول: أرحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع من غير مقلية وإن جبالها ... ليست بأرمام ولا أقطاع إذ تستبيك بأصلتي ناعم ... قامت لتفتنه بغير قناع ومها يرف كأنه إذ ذقته ... عانية شجت بماء يراع أو صؤب غادية أدرته الصبا ... ببزيل أزهر مدمج بسياع   المعاني: العطاس قيل هو الصباح، المقلية: البغض، أرمام وأقطاع أي حبال من قطع موصولة، الأصلتي: الخد الناعم الحسن، المها: البلور، العانية خمر عانة، اليراع: القصب أي مزجت الخمر العانية بماء جدول نبت على ضفتيه القصب، وهي كما ترى صورة بدوية خالصة، السباع: الطين. 1 ذيل الأمالي: "130-132". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فرأيت أن الحكم مجتنب الصبا ... وصحوت بعد تشوق ورواع ويصف المسيب ناقته التي تحمله إلى ممدوحه بهذا الوصف العجيب: وإذا تعاورت الحصى أخفافها ... دوى نواديه بظهر القاع وكأن غاربها رباوة مخرم ... وتمد ثني جديلها بشراع وإذا أطفت بها أطفت بكلكل ... نبض الفرائض مجفر الأضلاع مرحت يداها للنجاء كأنما ... تكرو بكفي لاعب في صاع فعل السريعة بادرت جدادها ... قبل المساء تهم بالإسراع فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع* هذا وإنه مهما اخترنا من نماذج المفضليات وقدمناها فلن نشفي لقارئ غلة، فإن المفضليات من اللون الشعري ذي الأعماق والآفاق والذي لا يصبر عليه إلا من كان أعد لفهم الشعر، فإذا كان لديه هذا الاستعداد استطاع أن يتذوق طعمه وأن يسبر عمقه وأن يقدره حق قدره. إن هذا الشعر هو الذي جعل المهدي يجلس للشعراء في مصلاه يستمع إلى المجيد فيثيبه، وإلى المقلد فيرد عليه شعره، وربما سهر مسهدًا في بيت أو بيتين من الشعر الإنساني حتى يجد من يخفف عليه ويسري عنه.   * نوادي الحصا ما أسرع منه وتقدم، القاع ما استوى من الأرض، الغارب ما بين السنام والعنق، الرباوة بتثليث الراء منقطع الغلظ من الجبل حيث أشرق، الجديل الزمام، الكلاكل الصدر، النجاء السرعة، تكرو تلعب بالكرة، الجداد ما بقي من خيوط الثوب، شبه الناقة في سرعة يديها بامرأة تحوك ثوبًا، فهي تبادر إلى إتمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الأصمعيات : إن الأصمعيات هي مجموعة القصائد التي اختارها عبد الملك بن قريب الأصمعي على نسق اختيار أستاذه المفضل الضبي، وإذا كانت مجموعة اختيار المفضل سميت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 بالمفضليات لشهرته باسمه دون لقبه، فإن مجموعة عبد الملك الأصمعي سميت بالأصمعيات لشهرته بلقبه دون اسمه، والنسخة التي نعتمد عليها في هذه الدراسة هي نسخة الشنقيطي المنسوخة سنة 1285هـ، عن نسخة قديمة عليها خط ابن الأنباري، ولقد قام على تحقيق هذه النسخة، وأشرف على طبعها المحققان أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون. وإذا كانت المفضليات التي مر ذكر حديثها تضم اثنتين وتسعين قصيدة، منها إحدى عشرة قصيدة مكررة في المفضليات للشعراء وأحيانًا للشاعر الواحد أكثر من قصيدة مكررة كما هو الحال بالنسبة لكل من حاجب بن حبيب الأسدي، زبان بن سيار المري، سنان بن أبي حارثة المري، عامر بن الطفيل، عبد قيس بن خفاف، فإن لكل واحد من هؤلاء الشعراء قصيدتين مكررتين في كل من المفضليات، والأصمعيات. وهناك شاعر واحد ذكرت له قصيدة واحدة مكررة في كل من المجموعتين، هو سبيع بن الخطيم. والحق أن للكتب جدودًا سعيدة، وحظوظًا كما أن للبشر جدودًا سعيدة وحظوظًا، فإن المفضليات من الشهرة والجريان على الألسنة والشفاه بحيث تتضاءل أمامها الأصمعيات، مع أن قارئ المجموعتين بإمعان وحيدة سوف يكون أكثر إعجابًا وأشمل طربًا بنماذج الأصمعيات منه بأختها المفضليات، فالأصمعي أديب حافظ راوية ظريف وقد انعكست شخصيته إلى حد كبير على مختاراته، أما مختارات المفضل فحادة جادة فحلة فخمة مليئة بالألفاظ التي يحتاج فهمها إلى كشاف أو معجم لغوي وليس الأمر كذلك في الأصمعيات، وربما كان الناس في الماضي يطربون للإنشاءات المليئة بالألفاظ الغريبة الكثيرة أكثر من طربهم بقريناتها السهلة العذبة، بل إن الأمر في ذلك في مقام التأكيد، وليس الترجيح فكان أن غلبت شهرة المفضليات حسن اختيار الأصمعيات تمامًا كما غلبت -فيما بعد- شهرة مقامات الحريري على صعوبة ألفاظها ووعورة سجعها، مقامات بديع الزمان على رقة أسلوبها وخصب خيالها وجمال إيقاعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 جمهرة أشعار العرب وتأتي جمهرة أشعار العرب كمثال للجمع والاختيارات المبكرة للشعر العربي، فإذا كانت المعلقات هي المحاولة الأولى، والمفضليات هي المحاولة الثانية، والأصمعيات هي المحاولة الثالثة فإن جمهرة شعراء العرب لجامعها أبي زيد محمد بن أبي طالب الخطاب القرشي تعتبر المحاولة الرابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ربما ذهب بعض الدارسين إلى وجوب وضعها في الفترة نفسها التي وضع فيها الضبي مفضلياته، ذلك أن البستاني في مقدمة الإلياذة حدد وفاة أبي زيد القرشي صاحب الجمهرة بسنة 170هـ وهذا التحديد بعيد كل البعد عن الحقيقة، ذلك أن من روى عنهم أبو زيد والمعاصرون له قد عاشوا في منتصف القرن الثالث الهجري، ذلك أن أبا زيد يذكر أحد الأخبار قائلًا: "وعن المقنع، عن أبيه، عن الأصمعي قال: دخلت البادية من ديار فهم، فقال لي رجل منهم: ما أدخل القروي باديتنا؟ فقلت: طلب العلم، قال: عليك بالعلم فإنه أنس في السفر، وزين في الحضر، وزيادة في المروءة، وشرف في النسب، وفي مثلهذا يقول الشاعر: عي الشريف يشين منصبه ... وابن اللئيم يزينه الأدب"1 وإنهذا الخبر على طرافته لا يعنينا كثيرًا من حيث كونه خبرًا، وإنما يعنينا من حيث الرواية التي تحدد لنا الفترة الزمنية التي عاش فيها صاحب الجمهرة، إن الأصمعي قد توفي سنة 216هـ وأبو زيد لم يرو عنه مباشرة وإنما روي عن جيلين بعده، وهما المقنع وأبوه، فإذا افترضنا أن بين كل جيل وسابقه خمسة وعشرين عامًا يكون أبو زيد قد عاش حوالي سنة 250هـ يعني منتصف القرن الثالث. وعلى كل حال فإنه بالتأكيد لم يمت عام 170هـ كما ذكر البستاني، وإنما عاش على التأكيد بعد وفاة الأصمعي بجيلين، ولقد ذكرنا من قبل أن الأصمعي مات سنة 216هـ. وبذلك يتأكد لنا أن جمهرة أشعار العرب تمثل المرحلة الرابعة في اختيارات الشعر. وإذا كان كل من حماد والمفضل والأصمعي لم يقدم لاختياراته بدارسة أو مقدمة، فإن أبا زيد القرشي قد كتب مقدمة غير قصيرة لكتابه تجمع بين الصواب والخطأ، وتقرن الغث بالسمين، ففي مقدمته نسب شعرًا إلى سيدنا آدم ونسب شعرًا آخر إلى إبليس وإلى العمالقة وغيرهم من الأمم التي بادت مثل عاد وثمود، بل إنه ذكر طرائف كثيرة عن الجن وأشعارهم يمكن للقارئ أن يتسلى بها على ألا يأخذها مأخذ الحقيقة والجدية. غير أنه قدم فصولًا على جانب من القيمة وإن كانت قصيرة نوعًا في أخبار كبار شعراء الجاهلية مثل زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني، ولبيد وأعشى بكر بن وائل ومن قدموهم على غيرهم، كما ذكر أخبارًا قصارًا عن كل من عمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد. والرجل لغرامه بالأشعار التي جعلته ينسب بعضها إلى من ذكرنا من أصحاب عاد   1 جمهرة أشعار العرب -مقدمة المؤلف "ص 36". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وثمود وهود، لا يجد كبير حرج في أن ينسب شعرًا لكل خليفة من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلي1. وفي مجال الإطراف يكتب القرشي فصلًا في شياطين الشعراء، ويذكر في ذلك بعض أسماء هؤلاء منهم: هبيد شيطان عبيد بن الأبرص ومدرك بن واعم شيطان الكميت إلى غير ذلك من الأخبار التي تحلو قراءتها إزجاء للوقت وطلبًا للسمر. ويورد أبو زيد في مقدمته أخبارًا عن الأعراب والشعراء وبعض ملوك بني أمية. ومهما كان الأمر فإن صاحب الجمهرة هو الوحيد بين أصحاب الاختيارات الأول الذي صنع مقدمة لمختاراته مجتهدًا في أن يسبغ عليها ثوبًا علميًّا ولو أنه قد تورط في بعض الخيالات ونأى عن بعض الحقائق. وربما كان صاحب الجمهرة هو أول أصحاب الاختيارات الذين قسموا حصيلة مختاراتهم إلى أقسام متعددة بأسماء مختلفة جذابة، فجعل قسمًا منها تحت اسم المعلقات، وأدرج المعلقات وأدرج تحته قصائد كل من امرئ القيس، زهير بن أبي سلمى، نابغة بني ذبيان، أعشى بكر بن وائل، لبيد بن ربيعة، عنترة بن شداد. والقسم الثاني من اختياراته وضعها تحت اسم المجمهرات، ومعناها المحكمة السبك، ذلك أن الناقة المتداخلة الخلق كأنها جمهور من رمل كانت تسمى المجمهرة، وهي تسمية ابتكرها أبو زيد اجتهادًا منه ولا علينا إذا ما تقبلناها في إطار منطقه، ووضع أبو زيد تحت المجمهرات قصيدة بعينها لكل من: عبيد بن الأبرص، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب. وهي من القصائد الجيدة الممتازة التي تتسم بالفحولة إنشاء والجزالة لفظًا وحبكًا. ومن البداهة بمكان أن كلا من أصحاب المجمهرات هذه، له قصائد أخرى عديدة جيدة. والقسم الثالث من الاختيارات أطلق عليها أبو زيد اسم "المنتقيات" وهي قصيدة منتقاة لكل من المسيب بن علس -وهي غير القصيدة التي أوردها المفضل الضبي- والمرقش الأصغر، والمتلمس "جرير بن عبد المسيح"، وعروة بن الورد، والمهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمنتخل بن عويمر الهذلي. والمجموعة الرابعة التي اختارها أبو زيد أسماها "المذهبات" وقدم لكل واحد من أصحابها قصيدة واحدة وهم: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان وقيس بن الخطيم، وأحيحة بن الجلاح، وأبو قيس بن الأسلت، وعمرو بن امرئ القيس.   1 جمهرة أشعار العرب "ص37". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 والملاحظ أنهم من الأوس والخزرج. والمجموعة الخامسة من مختارات القرشي في جمهرته وضعها تحت عنوان "أصحاب المراثي"، وجاء بسبع من المراثي الجيدة التي نال بعضها شهرة كبيرة، مثل القصيدة العينية لأبي ذؤيب الهذلي، والقصيدة اليائية لمالك بن الريب، التي رثى بها نفسه، والقصيدة العينية لمتمم بن نويرة، ومرثية ذي جدن الحميري في رثاء دولة حمير، ومرثية محمد بن كعب الغنوي في أخيه أبي المغوار الذي قتل في يوم ذي قار، ومرثية أعشى باهلة في أخيه "المنتشر" الذي قتله بنو الحارث بن كعب، ومرثية أبي زيد الطائي في أخيه الجلاح. والمجموعة السادسة التي اختارها القرشي وضعها تحت عنوان "أصحاب المشوبات" وربما قصد بذلك أنها قد شابها الكفر والإسلام، وهي رائية للنابغة الجعدي، ولامية كعب بن زهير "بانت سعاد" ولامية للقطامي عمير بن شييم، ولامية للحطيئة وقصيدة زايية للشماخ بن ضرار التي تناول فيها رحلة حمر الوحش، وقصيدة رائية لعمرو بن أحمر، وأخرى لتميم بن مقبل العامري. والمجموعة السابعة وضعها أبو زيد تحت عنوان "أصحاب الملحمات" وهي قصائد سبع شهيرة لسبعة من الفحول هم: الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي، وذو الرمة، والكميت بن زيد الأسدي، والطرماح بن حكيم الطائي. والذي نلاحظه أن عددًا غير قليل من قصائد الجمهرة قد ورد عند كل من المفضل والأصمعي في مختاراتهما، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن القرشي قد أبدى اهتمامًا بالشعراء المشهورين الفحول المكثرين مثل: الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي، وذي الرمة، والقطامي، والحطيئة، والشماخ، والكميت، والطرماح، وهو في ذلك يخالف المفضل وصاحبه الأصمعي مخالفة جوهرية في منهج القصائد، فلا زلنا نذكر نصيحة أبي جعفر المنصور للمفضل الضبي حين أوصاه بأن يختار لتأديب ولده المهدي قصائد الشعراء المجيدين المقلين الأمر الذي لم يلتزمه أبو زيد القرشي في اختياراته التي أسماها الجمهرة. ومهما كان الأمر فإن في الجمهرة منهجًا وترتيبًا واختيارًا ونصوصًا، ما يميزها عن سابقاتها من محاولات الاختيار، ولكنها تظل حلقة متينة في هذه السلسلة الباكرة من اختيارات الشعراء التي إن تعددت عناوينها وتباينت أسماؤها فهي في آخر الأمر تقصد إلى الهدف نفسه، وتصل بنا إلى الموضوع الذي خصصنا له هذا الباب، وهو موضوع الاختيارات من شعر الشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 5- شعر القبائل : إن شعر القبائل من الكثرة بمكان والوفرة بمكان، ما من قبيلة إلا وكان لها عدد من الشعراء المبرزين فضلًا عن أولئك الذين كانوا يجيدون الشعر في نطاقها دون أن ينالوا حظًّا من الشهرة أو قسطًا من الاهتمام. ومع ذلك فقد اهتم الرواة بجمع شعر القبائل يجوسون خلال ديارهم يسمعون أخبارهم ويروون أشعارهم، وأشهر من نعرف من جامعي شعر القبائل الأصمعي، وأبو عمرو إسحاق بن مرار الذي كان يجاور شيبان للتأدب فيها فنسب إليها وصار فيما بعد من الأئمة الأعلام في اللغة والشعر والرواية، ولكن نال من شأنه في الأخيرة اشتهاره بشرب النبيذ. والذي يعنينا من شأن أبي عمرو أنه كان أحد المهتمين بجمع شعر القبائل. فلقد جمع وحده شعر نيف وثمانين قبيلة، وكان كلما فرغ من شعر قبيلة وقدمه للناس كتبًا مصحفًا وجعله بمسجد الكوفة حتى كتب نيفًا وثمانين مصحفًا بخط يده1. ولم يكن جمع شعر القبائل هو العمل العلمي الوحيد الذي عمله أبو عمرو، فإن له أعمالًا أخرى علمية مجيدة منها "كتاب الخيل"، "وكتاب اللغات" ويعرف أيضًا بكتاب الحروف وأحيانًا أخرى يعرف بكتاب الجيم، وله أيضًا "كتاب النوادر الكبير"، و"كتاب غريب الحديث"، و"كتاب النخلة"، و"كتاب الإبل، و"كتاب خلق الإنسان". ولا يستكثرن أحدهذه الأعمال -وخصوصًاهذا القدر الضخم من شعر القبائل- لأنه كان هو وأقرانه العلماء من أولي العزم والقوة. هذا فضلًا عن كونه وهب عمرًا مديدًا مباركًا فلقد عاش مائة وستة عشر عامًا، وقيل مائة وعشرة أعوام وتوفي سنة 123هـ في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي.   1 وفيات الأعيان "1/ 202". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 شعر الهذليين : إنه على الرغم من الجهود الكبيرة التي قام بها العلماء والرواة من جمع شعر القبائل، فإنه لم يصل إلينا منها إلا شعر قبيلتين اثنتينهما مضر وهذيل، فأما مضر فلا يزال ما وصل إلينا من شعرها مبعثرًا في خزائن المخطوطات لم يشهد النور بعد. وأما شعر الهذليين فهو مطبوع في ديوان من مجلدين مع شرح أبي سعيد الحسن السكري المتوفى سنة 275هـ، وكان معاصرًا دون شك لأبي زيد القرشي صاحب جمهرة شعراء العرب التي مر ذكرها، والتي حوت بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 قصائد لشعراء من هذيل. ويضم المجلد الأول من ديوان شعر الهذليين شعر أحد عشر شاعرًا أشهرهم أبو ذؤيب -بطبيعة الحال- وأبو جندب، ومعقل بن خويلد، ومالك بن خالد. وإن أكثرهم عدد قصائد وفحولة قول هو أبو ذؤيب فإن له وحده في هذا الجزء من الديوان ثلاثًا وثلاثين قصيدة وأرجوزة واحدة أولاها وأولى قصائد الديوان قصيدته العينية المشهورة التي قالها في رثاء أولاده الخمسة، حين ماتوا جميعًا بالطاعون في مصر والتي مطلعها: أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع وهي من عيون قصائد الرثاء في الشعر العربي، ولا يكاد كتاب أدب نفيس يخلو منها. هذا وقد ضم هذا المجلد الأول خمس عشرة قطعة بين قصيدة ومقطوعة لأبي جندب، وإحدى وعشرين أخرى لمعقل بن خويلد، واثنتى عشرة قصيدة لمالك بن خالد، وتسع عشرة قصيدة مشتركة بين صخر الغي، وأبي المثلم؛ لأن أكثرها نقائض بينهما. ويضم المجلد الثاني من الديوان قصائد لاثنين وخمسين شاعرًا وشاعرة واحدة هي عمرة أخت ذي الكلب ترثيه بقصيدة مطلعها1: سألت بعمرو أخي صحبه ... فأقطعني حين ردوا السؤالا على أن أكثر هؤلاء الشعراء قولًا لم تصل عدد قصائده إلى عشر باستثناء أبي صخر الهذلي -الذي تعدل شهرته شهرة أبي ذؤيب ولا يقل شعره جودة عن شعر ابن عمه- فإن له في الديوان عشرين قصيدة أتى بها الشارح متتابعة وجعلها آخر ما أورده من شعر الهذليين2. وإذا كانت هذيل واحدة من القبائل المشهورة بجودة الشعر ووفرته في الجاهلية والإسلام، فإنه يبدو أن أكثر شعرها في الجاهلية قد فقد وضاع؛ لأن ما بين دفتي ديوان الهذليين هذا الذي نتحدث عنه من شعر أكثره للإسلاميين منهم وأقله للجاهليين.   1 شرح أشعار "2/ 583". 2 المصدر السابق "2/ 913-976". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الفصل الثاني: كتب الحماسة مدخل ... الفصل الثاني: كتب الحماسة: بعد اختبارات أبي الخطاب القرشي التي أطلق عليها عنوان "جمهرة شعراء العرب" بدأ هذا الاتجاه في الاختيارات يأخذ اسمًا آخر ومنهجًا شبه ثابت. لقد عمد كل من أصحاب "الاختيارات" السابقين إلى تسمية مجموعته الاسم الذي يرتضيه لها حسبما مر بنا في الفصل السابق، فلما جمع أبو تمام اختياراته جعل كل مجموعة تشترك في غرض بعينه تحت العنوان الذي قيلت فيه وهي الحماسة، المراثي، الأدب، النسيب، الهجاء، الأضياف، المديح، السير والنعاس، الصفات، الملح، مذمة النساء، ولما لم يجد أبو تمام اسمًا بعينه صالحًا؛ لأن يكون عنوانًا لكتاب يضم كلهذه الأغراض من الاختيارات، فقد اختار اسم المجموعة الأولى وهي الحماسة وجعلها عنوانًا للكتاب كله من قبيل تسمية الكل باسم الجزء، ومن ثم صار اسم الكتاب الحماسة. أصبحت اختيارات الشعر بعد ذلك تقليدًا عند كبار الشعراء والأدباء، فأخذ كل من هؤلاء يختار مجموعة من شعر الشعراء السابقين عليه زمنًا ويطلق عليها اسم "الحماسة" فظهر بعد ذلك حماسة البحتري، حماسة الخالدين أبي عثمان سعيد وأبي بكر محمد ابني هاشم الخالدي وكانا شاعرين من شعراء سيف الدولة، وتعرف حماستهما أيضًا باسم "الأشباه والنظائر"، وهناك أيضًا "الحماسة الشجرية" لأبي السعادات هبة الله علي بن حمزة بن الشجري المتوفى سنة 542هـ، و"الحماسة البصرية" التي جمعها صدر الدين بن أبي الفرج بن الحسين البصري المتوفى سنة 659هـ وكان قد قدمها إلى الملك الناصر أمير حلب سنة 647هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ومن الطريف أن أحد شارحي حماسة أبي حاتم بل أفضلهم من وجهة نظرنا على الأقل -أبا علي المرزوقي- قد خصص فصلًا قصيرًا للفظ "حماسة" استهل به الباب الأول من حماسة أبي تمام، فقال: الحماسة الشجاعة، والفعل منه حمس بفتح ثم كسر، ورجل أحمس، وكانت العرب تسمي قريشًا حمسًا لتشددهم في أحوالهم دينًا ودنيا، وتسمى بني عامر الأحامس. وقال ابن دريد: وبنو حماس قبيلة من العرب وكذلك بنو حميس. وهكذا تطور منهج الاختيار فأصبح يشمل موضوعات متنوعة تجتمع كل مجموعة من القصائد، أو المقطعات ذات الغرض الواحد في باب بذاته، فتكونت لدينا هذه الثروة النفيسة من الشعر العربي المختار بعنوان "الحماسات" التي تشكل زادًا لكل أديب، وريا لكل من يهدف إلى التعرف بنماذج من تراث قومه الشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 حماسة أبي تمام : من مأثور القول عن ذوق أبي تمام وثقافته -وما أكثر ما قيل في ثقافته وذوقه وموهبته- أن الحسن بن رجاء قال: ما رأيت أحدًا قط أعلم بجيد الشعر قديمه وحديثه من أبي تمام. وإن هذا الرأي في علم أبي تمام بالشعر وجيده وروائعه قد أجمع عليه الذين ترجموا له ابتداء من أبي بكر الصولي في كتابه "أخبار أبي تمام" مرورًا بأصحاب الطبقات من أطال منهم ومن أوجز إلى عصرنا الحاضر. فإذا ما دعت الضرورة أبا تمام، لأن يختار شيئًا من شعر العرب كنماذج لموضوعاته المختلفة، فإننا نتوقع في غير شك حشدًا من الشعر المختار، وعددًا من القصائد المنتقاة وأشتاتًا من المقطعات المصطفاة. وأما كيف اختار أبو تمام حماسته ولماذا؟ فمرد ذلك إلى المصادفة المحضة، ذلك أن أبا تمام كان قد توجه إلى خراسان ليمدح عبد الله بن طاهر بن الحسين، ولما كان في طريق عودته مارًّا بهمذان استضافه أبو الوفاء بن سلمة أحد فضلاء المدينة وأكرم وفادته، وكان الفصل شتاء، وأصبح أبو تمام ذات يوم ليجد الثلوج قد تراكمت وسدت المنافذ والدروب، فأصاب الحزن صدر أبي تمام وسأل مضيفه عن المدة التي يذوب فيها الثلج، وتمهد المسالك والدروب، فقال له المضيف: وطن نفسك على هذا المقام فإن الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان غير قصير. وهنا لم يجد أبو تمام بدًّا من أن يتوفر على القراءة في مكتبة مضيفه فجمع خلال تلك المدة فصولًا من الشعر ضمت منه فنونًا وفصولًا فأطلق عليها اسم "الحماسة" على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 اعتبار أن أول أبواب المجموعة كان في هذا الضرب من قول الشعر حسبما مر بنا قبل قليل، وليس هناك ثمة شك في أن عنوان "الحماسة"، هو من اختيار أبي تمام نفسه، وليس من ابتكار الدارسين المتأخرين. وهذه الحماسة تضم ثمانمائة وإحدى وثمانين قصيدة أو مقطوعة، أو حماسية وتسمى بالحماسة الكبرى، تمييزًا لها عن حماسة أخرى للشاعر، أصغر حجمًا وأقل من حيث عدد القصائد، والمقطوعات تعرف حينًا بالحماسة الصغرى وحينًا آخر بالوحشيات، وإن لم يكن بينهما كبير فرق في الأبواب والموضوعات. ذكرنا أن أبواب حماسة أبي تمام تشمل موضوعات الحماسة، والمراثي، والأدب بمعنى السلوك والتربية، والنسيب، والهجاء، والأضياف، والمديح، والسير والنعاس، والصفات، والملح، وذم النساء. إي أن باب الحماسة وما قيل فيه من شعر يفوز بنصيب الأسد من حيث عدد القصائد والمقطوعات التي قيلت فيه، وقد بدأ أبو تمام اختياراته الحماسية بالقصيدة المشهورة لأحد بني العنبر1: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانَا إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة بانا قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... قاموا إليه زرافات ووحدانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا وهذه الأبيات من أكثر ما قيل في الشعر العربي إثارة للحماس عن طريق الامتهان   الحماسة: شرح المرزوقي "1/ 23". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 المقنع وتوليدًا للغيرة وإحياء للنخوة في قوم متكاسلين عن نصرة أحد بني قومهم. وينهي أبو تمام مختاراته "حماسته" بالمقطوعة رقم 881 وفيها يروي لشاعر لم يذكر اسمه1: صوت النواقيس بالأسحار هيجني ... بل الديوك التي قد هجن تشويقي كأن أعرافها من فوقها شرف ... حمر بنين على بعض الجواسيق على نعانع سالت في بلاعمها ... كثيرة الوشي في لين وترقيق كأنما لبست أو ألبست فنكًا ... فقلصت من حواشيه عن السوق* وإذا كانت آخر الأبواب في "الحماسة" باب مذمة النساء فإن هذه المقطوعة الأخيرة لا تمت إلى ذلك الموضوع بسبب، بل هي في وصف الديكة، ولذلك فإن الشارح لا يفوته أن يستدرك على ذلك، فيقول: "وهذه المقطوعة وما قبلها، باب الصفات أولى بهما فاتفق وقوعهما هنا، وهذا آخر الاختيار، والحمد لله رب العالمين وصلواته على النبي محمد وآله أجمعين". هذا ونود أن نشير في مقام التعريف بحماسة أبي تمام إلى أمور عدة هامة: أولًا: الذوق الرفيع الذي اتسم به اختيار أبي تمام للقصيدة، أو المقطوعة من حيث تصويرها للغرض الذي اختيرت من أجله، وهذا يبين مدى الجهد الذي بذله أبو تمام في انتقاء هذه المختارات فضلًا عن موهبته وجلده، وهو يعمد إلى الشعر الجيد الذي يفي بالغرض الذي جمعه ونال إعجابه بسببه بغض النظر عن شهرة الشاعر أو غمرته. ومن ثم فإن كثيرًا من قصائد الحماسة ومقطوعاتها لشعراء مغمورين، بل أحيانًا لشعراء غير معروفة أسماؤهم، وإن هذه الإجادة في الانتقاء والبراعة في الاختيار جعلتا التبريزي أحد شارحي "الحماسة" بنسب إلى بعض المتأدبين قولهم: إن أبا تمام في اختياره الحماسة أشعر منه في شعره2.   1 المصدر "4/ 1884". * النعانع: أعراف الديكة. الجواسيق مفردها جوسق، وهو القصر أو ما يشبه القصر. 2 مقدمة الحماسة "ص10". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 هذا وأكثر المختارات قليلة عدد الأبيات يتراوح أكثرها بين الستة والتسعة، غير أنها في بعض الأحيان تطول حتى تصل إلى اثنين وعشرين بيتًا كما هو الحال في قصيدة عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي اللامية القافية التي ينسبها بعض الرواة إلى السموأل بن عادياء1 وأحيانًا تتقلص المقطوعة فتصبح بيتًا واحدًا كما هو الحال في القطعة رقم 851 وهي لشاعر غير معروف: إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... على الرجل المسكين كاد يموت أو القطعة رقم 854 وهي الأخرى لشاعر غير معروف، يقول: وإنا لنجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يضرى بنا فيعود وهاتان القطعتان -أعني البيتين- جاءنا في باب الملح2. ثانيًا: نود أن نلفت النظر إلى أنه ليس صحيحًا ما ذكره بروكلمان، وهو يتحدث عن حماسة أبي تمام من أنه قصر اختياره على شعراء الجاهلية والإسلام، فإن أبا تمام وسع دائرة اختياره ابتداء من الشعراء الجاهليين وانتهاء بشعراء معاصرين له، مرورًا بطبيعة الحال بالإسلاميين، والأمويين، ومخضرمي الدولتين من أمثال أبي حية النميري والحسين بن مطير الأسدي، معرجًا على رواد المرحلة العباسية من أمثال مسلم بن الوليد، وأبي نواس، وأبي العتاهية، وأبي الشيص، ومنصور النمري. وأكثر هؤلاء قد عاصروه، بل إن منصورًا النمري ولد معه في سنة واحدة 188هـ، وماتا معًا في سنة واحدة هي سنة 231هـ، بل إنه جاء بإحدى المختارات التي يشتبه في أنها لدعبل الخزاعي الذي عمر طويلًا وولد قبل مولد أبي تمام ومات بعد موته 148-246هـ، بل إنه هجا صاحب الحماسة وربما كان ذلك السبب الرئيسي -فيما لو صحت الرواية- في عدم نسبة الحماسية لشاعر بعينه 3. ثالثًا: خص أبو تمام موضوع الحماسة وحده بمائتين وإحدى وستين حماسية، فإذا كانت المختارات كلها ثمانمائة وإحدى وثمانين حماسية، يكون موضوع الحماسة يشكل أكثر من ربع الكتاب، ومن ثم يكون أكثر شعرائه من الجاهليين والإسلاميين، الأمر الذي أوقع بروكلمان في الخطأ الذي سبقت الإشارة إليه قبل قليل، وتكون تسمية الكتاب بهذا العنوان الذي أطلقه عليه جامعه تسمية مناسبة. والموضوع الذي يلي "الحماسة" من حيث   1 الحماسة قطعة "15 جـ1/ 110". 2 المصدر "ص1855، 1856". 3 المصدر: القطعة رقم "831 جـ4/ 1842". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 عدد المقطوعات أو الحماسيات -حسبما يسمِّيها المؤلف أو الشارح- هو الغزل الذي يجمع له أبو تمام مائة وأربعين مقطوعة، وتأتي بعد ذلك حماسيات المراثي وعدها مائة وسبع وعشرون، وتتوزع بقية الحماسيات على بقية الأغراض التي جاءت في صدر حديثنا عن موضوعات كتاب الحماسة. رابعًا: إذا كانت المرأة قد جرى ذكر مذمتها في باب من أبواب الكتاب، فإن أبا تمام لم يهمل شعرها. بل اختار للمرأة العربية نماذج من رفيع الشعر ورائعه بثها خلال أبواب الديوان، وإن كان قد ركز عليها كشاعرة تحسن الرثاء وتجيده في صدق وعمق، وهذا الأمر في حد ذاته ينصف المرأة العربية ويكرمها كأم وأخت وزوجة وابنة، لقد أورد أبو تمام في باب الرثاء أكثر من عشرين مقطوعة وقصيدة قالتها المرأة العربية في رثاء أب أو أخ أو أم أو زوج أو ابن، ومن هؤلاء الشاعرات قتيلة بنت النضر بن الحارث ترثي أباها، وزينب بنت الطئرية ترثي أخاها زيد، وعمرة الخثعمية ترثي ابنيها، وعمرة بن مرداس ترثي أخاها عباسًا، وبطة بنت عاصم، والعوراء بنت سبيع، وعاتكة بنت زيد بن نفيل، وغيرهن كثيرات. حبذا لو كان أبو تمام خص شعر المرأة بباب منفرد فإن أكثر ما قالته المرأة العربية ضاع بين ما ضاع من كنوز شعر الآخرين1. خامسًا: نالت حماسة أبي تمام من اهتمام الرواة، والشراح أكثر مما ناله شعره، فقد شرحها عدد كبير من العلماء يزيدون على العشرين. قد لا يعنينا أمرهم جميعًا. وإنما يعنينا أن من أشهر من قام على شرحها أبا بكر الصولي المتوفى 335هـ وأبا القاسم الآمدي صاحب الموازنة المتوفى 371هـ وأبا الفتح ابن جني المتوفى 392هـ، وأبا هلال العسكري المتوفى 395هـ، وأبا علي أحمد بن محمد المرزوقي المتوفى 421هـ، وأبا العلاء المعري المتوفى 449هـ، وأبا الحسن علي بن سيده المتوفى 458هـ، وأبا الفضل الميكالي المتوفى 475هـ وأبا زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي المتوفى 502هـ، وأبا الفضل علي الطبرسي المتوفى 548هـ، وأبا المحاسن مسعود بن علي البيهقي المتوفى 544هـ، وأبا البقاء عبد الله بن الحسين العكبري المتوفى 616 شارح ديوان المتنبي. ومن الشروح الحديثة شرح الأستاذ محمد سعيد الرافعي الذي يشك في نسبته إليه، ويرجح أنه للشيخ إبراهيم الدلجموني2، وشرح الشيخ سيد المرصفي. إننا اكتفينا بذكر الأعلام فقط من الشراح دون من لم تألف آذان الجمهرة سماع   1 راجع الحماسيات التي أرقامها "326، 332، 338، 339، 219، 308، 317، 328، 367، 370، 373، 381، 386، 390-397". 2 مقدمة المحقق "ص15". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أسمائهم الأمر الذي يدل على مدى أهمية وشهرة حماسة أبي تمام ومدى إعجاب المتأدبين بها وإقبالهم عليها. ولعل خير ما بين يدي القراء المعاصرين من الشروح شرحان هما شرح المرزوقي، وشرح التبريزي، وكلاهما من الإتقان والإحاطة بمكان، وقد كتب كل منهما مقدمة نفيسة لشرحه وإن كان شرح التبريزي يتسم بالاهتمام اللغوي والقضايا النحوية، وشرح المرزوقي يهتم بالتناول الأدبي، والتذوق الفني ووضع المعنى الشارد بين يدي القارئ في يسر وبساطة. ولعل ما يتميز به شرح المرزوقي، هو تلك المقدمة النقدية الطويلة التي تناولت قضايا فن القول من شعر، ونثر في نطاق أحكام نقدية بارعة غير مغفل الحديث عن أبي تمام الشاعر، متحدثًا عن عمود الشعر عند العرب معرفًا به مبينًا عناصره ضاربًا المثل إثر المثل، الأمر الذي يجعل قارئ شرح المرزوقي يرزق فائدتين ويخرج بحصيلتين فائدة المقدمة، وحصيلة النص والشرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 3- حماسة البحتري إن أبا عبادة، الوليد بن عبيد المشهور بالبحتري الشاعر، المبدع الرقيق كان تلميذًا لأبي تمام وإليه ينتمي في القربى والمحتد، فكل منهما طائي، وكل منهما أيضًا مدح الكثير من الطائيين الذين تولوا مراكز مرموقة في الدولة العباسية فضلًا عن مدحهما الخلفاء أنفسهم، وقد كان البحتري مثالًا نبيلًا في الولاء لأستاذه أبي تمام، وحينما نضج شعره ورق وذاع وجرى على الألسنة، وأنشد في المحافل والمنتديات حاول بعض المتأدبين أن يجاملوه بتفضيل شعره على شعر أبي تمام، فكان البحتري -وفاء منه لأستاذه- يقول: والله ما أكلت الخبز إلا به. وكان البحتري يحتذي مسيرة أبي تمام في فنه وإن اختلف معه في ديباجة الشعر وصوغه، ولكنه وقد رأى أستاذه انتخب تلك الاختيارات الشعرية الرائعة وأسماها "الحماسة" لم يرد أن يتخلف عنه في هذا الصنيع، وأقبل على دواوين الشعراء وصدور الرواة وحرك حافظته النثرية الغنية، واختار العديد من القصائد والمقطوعات وضمنها كتابًا أطلق عليه نفس عنوان كتاب اختيارات أستاذه وسماه أيضًا: الحماسة. والجدير بالذكر أن البحتري ليس غريبًا على التأليف فضلًا عن الاختيار والتصنيف، فقد ذكر له كثير من مترجمي حياته أنه ألف كتابًا عرف باسم "كتاب معاني الشعر"1.   2 معجم الأدباء "6/ 35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وإذا كانت اختيارات البحتري قد حملت اسم "الحماسة" عنوانًا لها فإن ذلك يعني أنه اقتفى أثر أبي تمام في إطلاق اسم الجزء على الكل، فإن البحتري استهل "حماسته" بالعديد من الأبواب في ذكر شعر الحماسة، فإذا كان أبو تمام قد استهل حماسته بالقصيدة المشهورة: لو كنت من مازن لم تسبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا فإن البحتري يستهل حماسته بأبيات عمرو بن الإطنابة الخزرجي التي يقول فيها1: أبت لي عفتي وأبى إبائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإعطائي على المعسور مالي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي وأدفع عن مكارم صالحات ... فأحمي بعد عن عرضٍ صحيح وهي أبيات ربما فاقت في سمو معانيها، وشدة حماستها معاني أبيات العنبري التي افتتح بها أبو تمام حماسته، إن هذه الأبيات الحماسية التي استهل بها البحتري حماسته كانت السبب فيما يروى عن معاوية بن أبي سفيان في ثباته يوم صفين وعدم فراره، قد روي عنه أنه قال: لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين وهممت بالفرار فما منعني إلا قول ابن الإطنابة: أبت لي عفتي وأبي إبائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح إلى آخر الأبيات: وإذا كان أبو تمام قد جعل "حماسته" في أحد عشر بابًا، فإن البحتري قد جعل "حماسته" في مائة وأربعة وسبعين بابًا، ولكن شتان الفرق بين الباب عند أبي تمام وبينه عند البحتري، فهو عند الأول أطول ويحتوي على موضوعات فرعية أكثر، ولكن الذي لا شك فيه أن حماسة البحتري أكبر من حماسة أبي تمام من حيث عدد المقطوعات والقصائد التي ضمتها دفتا كل منهما، فإذا كانت حماسة أبي تمام تضم ثمانمائة وإحدى وثمانين حماسية ما   1 حماسة البحتري "ص9". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 بين قصيدة ومقطوعة، فإن حماسة البحتري تضم ألفًا وأربعمائة وأربعًا وخمسين حماسية ما بين قصيدة ومقطوعة. ونستطيع أن نوضح منهج حماسة البحتري وملامحها على الوجه التالي: أولًا: عمد البحتري إلى الإكثار من وضع عناوين لأبواب حماسياته بحيث صارت إلى العدد الكبير الذي ذكرناه قبل قليل ربما ليعين القارئ على الانتفاع بهذه المختارات وييسر له طريق الانتفاع بها، فهو يجعل للشيب والشباب على سبيل المثال سبعة أبواب تبدأ من الباب المائة والستة عشر، وتنتهي عند الباب المائة والثاني والعشرين، وهذه الأبواب السبعة تضم مائة وسبعًا وثلاثين حماسية. بل إن البحتري -في نطاق منهجه الذي ييسر من خلاله على القارئ- يجعل عناوين أبواب الشيب والشباب على النحو التالي: الباب رقم 116 يتمثل فيه بما قيل في الشباب والشيب بإحدى وأربعين حماسية، ويجعل الباب رقم 117 فيما قيل عن الاعتذار عن الشيب، والباب رقم 118 فيما قيل في مدح الشباب، والباب 119 فيما قيل في قبح الصبابة بذي الشيب، والباب 120 في مدح الشباب وذم الشيب، وكل باب من هذه التي ذكرنا -باستثناء الباب 116 - يضم ثماني حماسيات، ثم يجعل الباب رقم 121 فيما قيل في مدح الشيب وذم الشباب، ويأتي فيه بست حماسيات، ثم يجعل الباب رقم 122 فيما قيل في الكبر والهرم ويضم سبعًا وثلاثين حماسية. إن البحتري قصد في منهج وضع اختياراته إلى التفصيل عمدًا، بل إنه جعل من الحماسة نفسها -التي احتلت بابًا واحدًا عند أبي تمام- تمثل عنده خمسة عشر بابًا على الترتيب التالي ابتداء بالأول وانتهاء بالباب الخامس عشر: فيما قيل في حمل النفس على المكروه، فيما قيل في الفتك، فيما قيل في الإصحار للأعداء والمكاشفة لهم وترك التستر منهم، فيما قيل في مجاملة الأعداء وترك كشفهم عما في قلوبهم، فيما قيل في الإطراق حتى تمكن الفرصة، فيما قيل في بقاء الإحنة ونمو الحقد وإن طال الزمن، فيما قيل في الأنفة والامتناع عن الضيم والخسف، فيما قيل في ركوب الموت خشية العار، فيما قيل في الاستسلام على الذل بعد الامتناع، فيما قيل في التحريض على القتل بالثأر وترك قبول الدية، فيما قيل في الامتناع عن الصلح، فيما قيل في التشمير عند الحرب ورفض النساء، فيما قيل في إدراك الثأر والاشتفاء من العدو، فيما قيل في ذم الفرار والتعبير به، فيما قيل في استطابة الموت عند الحرب. بل إن البحتري يغلو في إطالة عنوان الباب غلوًّا شديدًا يخرجه عن طبيعة كونه عنوانًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 مثل الباب الأربعين وعنوانه يطول هكذا: فيما قيل في من يدنو من إخوانه إذا استغنى ويتباعد إذا افتقر، ويزيده غناه إكرامًا لمن افتقر. أو مثل الباب المائة والستين وعنوانه بهذا الطول: فيما قيل في إسعاف الكريم بحاجته، وترك احتقاره إن تحامل الدهر عليه رجاء أن تعود العاقبة بما يسره. وقس على ذلك كثير. ثانيًا: جعل البحتري الأخلاق والتربية -فيما نرجح- هدفًا من أهدافه في جميع اختياراته، وذلك أن حماسته تخلو من الشعر الماجن أو الملح التي تخدش الحياء كتلك التي أورد أبو تمام كثيرًا منها في حماسته. إننا إذا نظرنا إلى أبواب حماسيات البحتري وجدنا بينها الكثير الوفير مما يحفز على فعل المكارم، ويجنب التردي في المزالق، فمن بين أبواب كتابه تلك الموضوعات: ما قيل في إخلاف الوعد، ما قيل في صحة المودة وحفظ الإخاء، ما قيل في إخلاص المودة وإدامتها، ما قيل في رعاية الأمانة وترك الخيانة، ما قيل في ذم عاقبة البغي والظلم، ما قيل في الحرص والشره وذمهما، ما قيل في المطامع وإنها تذل صاحبها، ما قيل في جر صغير الأمر للكبير، ما قيل في الغدر والخيانة وذمهما، ما قيل في الوفاء وحمده، ما قيل في إنجاز الوعد وترك المطل، هذا قليل من كثير من أبواب الأخلاق والشمائل في حماسة البحتري، وكل باب من هذه الأبواب يحتوي على العديد من النماذج الشعرية التي اصطلح بعض الشرح على تسميتها حماسات. هذا وكثير من الحماسات تزيد على عشرين بيتًا1 وأحيانًا كثيرة تكون الحماسية بيتًا واحدًا، وهو منهج مشابه لأبي تمام في هذا النحو حسبما مر عند حديثنا عن حماسة أبي تمام. ثالثًا: خص البحتري شعر المرأة العربية بباب طويل هو الباب الأخير من حماسته ولكنه اقتصر على إيراد المراثي من شعرهن، وهي مراث من الشعر الرفيع لشاعرات بعضهن معروفات مشهورات لجمهرة الدارسين المتخصصين مثل ليلى بنت طريف المعروفة بالفارعة، ومثل الخنساء، وليلى الأخيلية، وبعض آخر منهن غير مشهورات مثل عمرة الهذلية، وطيبة الباهلية وسلمى بنت الأحجم، وزينب بنت الطثرية، وأروى بنت الحباب، وقتيلة بنت النضر بن الحارث، وكلهن يرثين أبا أو أخا أو زوجًا باستثناء ليلى الأخيلية فإن رثاءها كان في صاحبها توبة الحميري، وقصتهما مشهورة معروفة. وإذا كانت قصائد ليلى الأخيلية والفارعة والخنساء معروفة بالجودة والجزالة وقوة السبك، فإن ذلك لا يعني أن الأخريات أقل منهن جودة شعر وبراعة قول. فهذه طيبة الباهلية ترثي زوجها فتقول2:   1 حماسة البحتري "ص276". 2 المصدر "273، 274". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 عشنا جميعا كغصني بانة سمتا ... حنيًا على خير ما تنمي له الشجر حتى إذا قيل قد عمت فروعهما ... وطال قنواهما واستنصر الثمر أخنى على واحدي ريب الزمان ولا ... يبقي الزمان على شيء ولا يذر فأذهب حميدًا على ما كان من حدث ... فقد ذهبت فأنت السمع والبصر وما رأيتك في قوم أسر بهم ... إلا وأنت الذي في القوم تشتهر كنا كأنجم ليل بيننا قمر ... يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر وهذه سلمى بنت الأحجم ترثي إخوتها فتقول1: رعوا من المجد أكنافًا إلى أمدٍ ... حتى إذا كملت أظماؤهم وردوا ميت بمصر وميت بالعراق وميت ... بالحجاز منايا بينهم بدد كانت لهم همم فرقن بينهم ... إذا القعادد عن أمثالها قعدوا بذل الجميل وتفريج الجليل وإعـ ... ـطاء الجزيل إذا لم يعطه أحد وهذه زينب بنت الطثرية ترثي أخاها يزيد بن الطثرية فتقول2: أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... مقيمًا وقد غالت يزيد غوائله فتى قد قد السيف لا متضائل ... ولا رهل لباته وبآدله   1 حماسة البحتري "ص274". 2 حماسة البحتري "275". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فتىً لا يرى خرق القميص بخصره ... ولكنما توهي القميص كواهله فتىً ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يومًا دمًا فهو آكله يسرك مظلومًا ويرضيك ظالمًا ... وكل الذي حملته فهو حامله إذا القوم أموا بيته فهو عامد ... لأحسن ما أقواله وهو فاعله إذا نزل الأضياف كان عذوَّرًا ... على الحي حتى تستقر مراجله إذا كان حين الجد يرضاك جده ... وذو باطل إن شئت أرضاك باطله مضى وورثناه دريس مفاضة ... وأبيض هنديًّا طويلًا حمائله وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... وأنت على من مات بعدك شاغله إن ثمة فرقًا كبيرًا في طريقة الاختيار بين كل من أبي تمام والبحتري، فحين يورد أبو تمام اختيارات من الشعر الذي قيل في ذم المرأة ويجعله في باب مستقل بذاته من أبواب حماسته، ويبعثر شعرها النفيس في الأبواب الأخرى، أو يضمنه باب الرثاء دون الإشارة إليه في عناوين أبواب حماسته ومحتوياتها، يخصص البحتري في حماسته بابًا كاملًا يأتي فيه بنماذج جيدة رائعة لشعر المرأة نفسها وإن قصره على الرثاء. حبذا لو كان توسع في بابه هذا فجعله يشمل أغراضًا أخرى من شعر النساء. رابعًا: على الرغم من أن البحتري أتى في حماسته بمختارات تكاد تصل إلى ضعف مختارات أبي تمام من حيث العدد، إلا أنه، أي البحتري، وقف باختياراته عند شعراء مخضرمي الدولتين. لقد وقف عند مطيع بن إياس المتوفى سنة 166هـ وأكثر من الاختيار لمعاصر مطيع وصديقه صالح بن عبد القدوس الذي توفي أو قتل قبل صاحبه بست سنين، وجاء له بخمس وأربعين قطعة -وهو عدد كبير- مفرقة على الأبواب المختلفة، وإن اختيار هذا العدد الكبير من المقطوعات لصالح بن عبد القدوس يشكل قرينة واضحة على أن البحتري استهدف من وراء اختياراته الحكمة وغرس الخلق الكريم، فقد كان "صالح" على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الرغم مما اتهم به من زندقة صاحب شعر عذب المعاني، نفيس القيمة، موشى بالحكمة والأخلاق. نقول: إن البحتري وقف باختياراته عند بعض المخضرمين، وليس كلهم فليس يذكر الحسين بن مطير ولا ابن ميادة ولا مروان بن أبي حفصة، وكل هؤلاء شعراء مجيدون من مخضرمي الدولتين، وهو بالتالي لم يذكر أحدًا من الكبار العباسيين، ولم يختر لهم على الرغم من أن شعر كثير منهم يعتبر كله اختيارات كالعتابي والخريمي ومسلم بن الوليد وأشجع السلمي وأبي العتاهية، وفي النهاية أستاذه وموجهه أبي تمام. أما حماسة أبي تمام، فلم يغفل صاحبها عن أن يأتي بكثير من الاختيارات النفيسة لعدد غير قليل من الشعراء المعاصرين له، وهذه ميزة كبرى، ميزة السبق الزمني على الرغم من أن أبا تمام مات قبل البحتري بأكثر من نصف قرن من الزمان. وأخيرًا وبعد هذا العرض وتلك المقارنة السريعة فإن صاحب السبق فضلًا، وللمتبع أيضًا فضل، وإن هذه تكمل تلك بالنسبة للدارس المحصل، غير أن حماسة البحتري -والحق يقال- لم تلق ما هي خليقة به من الاحتفال حتى الآن، ففي الوقت الذي حظيت فيه حماسة أبي تمام بالعدد الوفير من الشراح من أعلام القدامى والمحدثين، فإن حماسة البحتري، وهذه قيمتها، وتلك نفاستها لم تجد حتى الآن من يعطيها جزءًا يسيرًا من الاهتمام التي حظيت به أختها حماسة أبي تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 4- حماسة الخالديين "الأشباه والنظائر" الخالديان شاعران أخوان أحدهما محمد وكنيته أبو بكر توفي 380هـ، والثاني سعيد وكنيته أبو عثمان توفي 371هـ، وهما ابنا هاشم بن وعلة الخالدي نسبة إلى الخالدية، وهي قرية من أعمال الموصل. والخالديان الشقيقان كانا يمثلان ظاهرة أدبية فريدة، فقد كانا يكتبان القصيدة فتنسب إليهما معًا، وتروى لهما دون أن يعرف أي منهما أنشأها، وليس من شك في أن الأخوين كانا يشتركان في إنشائها وإن يكن أحدهما مصمم فكرتها وراسم منهجها وواضع خطوطها الأولى، ولكن ذلك لم يمنع من أن تنسب قصائد أخرى إلى كل منهما على حدة. وإذا كانت القصائد تنسب إليهما معًا في أكثر الأحوال، فكذلك نسبت أعمالهما الأدبية وكتبهما التي ألفاها إليهما معًا، ومنها هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه. وقليلون أولئك الذين جمعوا بين الشعر والتأليف في أدبنا العربي، ومن هذا القليل الشاعران الشقيقان الخالديان اللذان ما افترقا في حل وإقامة ولا في ظعن أو سفر، فحينما أرادا الثقافة ارتحلا معًا إلى بغداد، واستمعا معًا إلى أحاديث ابن دريد وجحظة البرمكي وأبي بكر الصولي وابن الخياط، وشاركا معًا في ارتياد المنتديات الأدبية والمجالس الثقافية، وحضرا في بغداد المناظرة الطريفة النفيسة التي جرت بين أبي بشر متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي في منتدى الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وكان موضوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 المناظرة النحو العربي والمنطق اليوناني. وحينما غادرا بغداد غادراها إلى حلب والتحقا بندوة سيف الدولة الحمداني، وشاركا في محافله الأدبية وحلقاته الشعرية التي أمها كبار شعراء العربية في ذلك الزمان مثل المتنبي وأبي فراس، والنامي، والناشي، وابن نباتة السعدي والوأواء الدمشقي، وأبي الفرج الببغاء، والسري الرفاء وغيرهم من صفوة علماء الأدب واللغة كأبي علي الفارسي، والحسين بن خالويه وأبي الطيب النحوي، وأبي بكر الخوارزمي فضلًا عن المعلم الثاني أبي نصر الفارابي الذي أسهم في هذه الندوة لفترة من الزمان. وحينما أراد سيف الدولة أن يعهد بمكتبته الثمينة إلى من يحسن إعدادها وتنسيقها والسهر عليها، وتغذيتها بكل جديد عهد إلى الأخوين معًا أبي بكر محمد، وأبي عثمان سعيد لكي يقوما بهذا العمل الجليل، فأغنيا مكتبة سيف الدولة، وأغنيا المكتبة العربية عامة بما ألفا من كتب جليلة الفائدة أتاحتها لهما فرصة لزومهما للمكتبة وعكوفهما عليها، فألفا معًا وجمعا هذه الكتب: كتاب التحف والهدايا، كتاب شعر المحدثين، كتاب أخبار أبي تمام ومحاسن شعره، اختيار شعر البحتري، اختيار مسلم بن الوليد وأخباره، اختيار شعر ابن المعتز والتنبيه على معانيه. وفي مجال التاريخ الأدبي الاجتماعي ألفا كتاب أخبار الموصل وكتاب الديارات. هذا وينسب إليهما كتاب مطبوع نكثر من الانتفاع به هو كتاب المختار من شعر بشار، هذا فضلًا عن كتاب الحماسة. إنهما في كتبهما هذه ليسا مجرد جامعين ولكن رأيهما يبدو واضحًا فيما يقدمان من مؤلفات، وذلك من واقع التنبيه إلى مواطن المعاني عند ابن المعتز أو أخبار هؤلاء الشعراء. هذا ومن الفائدة بمكان أن ننوه بهما كشاعرين تعرضا لتهمة خطيرة، هي سرقة شعر السري الرفاء ونسبته إليهما، وقد كان كل من الأخوين من ناحية والسري الرفاء من ناحية أخرى قد خاضا معركة شعرية شغلت معاصريهم وقسمتهم قسمين: قسما يؤيد السري الرفاء وقسمًا آخر يؤيد الشاعرين الأخوين، وحينما نذكر كلمة المعاصرين فإنما نهدف إلى الشمول الذي يدخل فيه أهل الشام، وأهل العراق. لقد مدح الخالديان أبا البركات لطف الله بن ناصر الدولة، فاتهمهما السري بأن ما قالاه فيه من مديح مسروق منه وكتب إليه قصيدة يقول في بعضها: إن توجاك بدر فهو من لججي ... أو ختماك بياقوت فأحجاري باعا عرائس شعري بالعراق فلا ... تبعد سباياه من عونٍ وأبكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 والله ما مدحا حيًّا ولا رثيا ... ميتًا ولا افتخرا إلا بأشعاري ولكن جانبهما كان الأرجح عند الخاصة، ودليل ذلك أن أبا إسحاق الصابي بعلمه وفضله وأدبه مدحهما شعرًا وزكاهما نثرًا. فإذا ما تركنا شخصية المؤلفين -وكان من الضرورة بمكان أن نعرف بهما هذا التعريف السريع- وانتقلنا إلى استعراض الكتاب نفسه فإننا نستطيع أن نعرضه من خلال هذه الوجوه: أولًا: ذهب محقق الكتاب1 إلى أن هذا الذي بين أيدينا هو "كتاب الأشباه والنظائر" للخالديين وليس "كتاب الحماسة" وبالتالي يكون هناك كتابان للمؤلفين يحمل أولهما عنوان "الحماسة" ويحمل الثاني عنوان "الأشباه والنظائر" وتمنينا لو استطاع الأستاذ المحقق أن يأتي برأي شافٍ، وينتهي إلى حكم قاطع ودليل مقنع، فهو وإن اجتهد في التدليل على رأيه اجتهادًا حميدًا لم يستطع أن يضع في خواطرنا من الأسباب ما نقره بها على رأيه، وقد يثبت المستقبل صدق حدسه ومشكور اجتهاده إذا ظهر الكتاب الذي أنكر وجوده. والواقع الذي نراه أن كتاب الأشباه والنظائر للخالديين هو نفسه كتاب حماسة الخالديين حسبما ذكر ابن النديم، وهو معاصر للمؤلفين. ثانيًا: إن استهلال الكتاب والمعاني أو الموضوعات الأولى التي عالجها متصلة كل الاتصال بموضوع الحماسة، تمامًا كما افتتح كل من أبي تمام والبحتري "حماسته" بهذا الضرب من الشعر. يبدأ الخالديان حماستهما هكذا2: قال المهلهل بن ربيعة: بكره قلوبنا يا آل بكر ... نغاديكم بمرهفة النصال لها لون من الهامات جون ... وإن كانت تغادى بالصقال ونبكي، حين نذكركم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي ثم يستطرد قائلًا: "أبيات المهلهل هذه هي الأصل في هذا المعنى، ومثله قول الحصين بن الحمام المري:   1 حقق الكتاب الدكتور السيد محمد يوسف. 1 الأشباه والنظائر "1/ 4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 نفلق هامًا من رجالٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما وأخذه بعضهم فقال: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللًا ... ولئن قتلت لأوهنن عظمي وأخذه مالك بن مطفوف السعدي، فقال: قتلنا بني الأعمام يومًا أوارة ... وعز علينا أن نكون كذلكا هم أخرجونا يوم ذاك وجردوا ... علينا سيوفًا لم يكن بواتكا وأخذه حرب بن مسعر فقال: ولما دعاني لم أجبه لأنني ... خشيت عليه وقعة من مصمم فلما أعاد الصوت لم أك عاجزًا ... ولا وكلًا في كل دهياء صيلم عطفت عليه المهر عطفة محرج ... صؤولٍ ومن لا يغشم الناس يغشم وأوجرته لدن الكعوب مقوّمًا ... فخر صريعًا لليدين وللفم وغادرته والدمع يجري لقتله ... وأوداجه تجري على النحر بالدَّم فأخذ هذا المعنى ديك الجن، فقال في جارية كان يحبها فقتلها: قمر أنا استخرجته من دجنةٍ ... لبليتي وجلوته من خدره فقتلته وله علي كرامة ... ملء الحشا وله الفؤاد بأسره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 عهدي به ميتًا كأحسن نائم ... والحزن ينحر عبرتي في نحره وإلى المعنى الأول نظر أبو تمام في قوله: قد انثنى بالمنايا في أسنته ... وقد أقام حياراكم على اللقم جذلان من ظفر حران أن رجعت ... أظفاره منكم مخضوبةً بدم ومن هذا المعنى أخذ البحتري قوله: إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها ويبدي صاحبا الحماسة رأيهما في تناول كل من البحتري والمهلهل للمعنى قائلين: بيت البحتري أطرف وأبدع من بيت المهلهل، إلا أنه -أي المهلهل- أرشده إلى المعنى ودل عليه، ويستطردان قائلين: ومثله قول القتال الكلابي: فلما رأيت أنه غير منتهٍ ... أملت له كفي بلدن مقوم فلما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم بهذا المثال من الأشباه والنظائر استهل الخالديان حماستهما فعنوان الكتاب الحماسة، وهو يجمع المتشابه والمتناظر من معاني الشعر وموضوعاته، ومناسباته، وهو نسق البحتري نفسه في حماسته. وإذا كان البحتري يأتي بالمقطعات أو القصائد المتشابهة أو المتناظرة -على حد تعبير الخالديين- تحت عنوان معين، فإن الخالديين يفعلان ذلك ولكن -قصورًا منهما- بغير عنوان، فالحماسية الثانية المتسلسلة المعاني المتشابهة المتناظرة في الحماسة أيضا، إنهما يبدآنها هكذا1: قال الحكم بن عبدل الأسدي:   1 الأشباه والنظائر "1/ 7" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 إذا كنت جارًا خائفًا ومحولًا ... ولا قيت عمران بن ورقاء فانزل هو الغيث والشهر الحرام وضامن ... لك الدهر إن أخنى عليك بكلكل ويتبع الخالديان هذين البيتين بقولهما في غير ما تعليق، أو تعليل أو تنبيه قال عمرو بن براقة الهمداني: تقول سليمى لا تعرض لتلفةٍ ... وليلك من ليل الصعاليك نائم وكيف ينام الليل من جل ماله ... حسام كلون الملح أبيض صارم كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... مراغمة ما دام للسيف قائم متى تجمع القلب الذكي وصارمًا ... وأنفًا حميًّا تجتنبك المظالم ومن يطلب المال الممنع بالقنا ... يعش ماجدًا أو تخترمه الخوارم ثم يستأنفان عرض بضاعتهما قائلين: ومثله: ومن يطلب المال الممنع بالقنا ... يعش مثريًا أو يود فيما يمارس* إذا جر مولانا علينا جريرة ... صبرنا لها، إنا كرام دعائم وننصر مولانا ونعلم أنه ... كما الناس مجروم عليه وجارم وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يال همدان ظالم ثانيًا: إن الخالديين في كتابهما الحماسة قد عمدا -لكي يميزاه عن حماسة البحتري- إلى إضافة عبارة "الأشباه والنظائر" ولكنهما مع ذلك لم يصيبا من هذه العبارة المضافة شيئًا   * هكذا في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ذا بال، فإن الموضوعات التي طرقاها شبيهة كل الشبه بعناوين أبواب حماسيات البحتري، والفرق بين الكتابين من هذه الناحية أن البحتري وضع عناوين لأبوابه، وأما الخالديان فإنهما لم يفعلا شيئًا من ذلك، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن البحتري مرتب الفكر ذو أسلوب ومنهج في التأليف، وليس الأمر كذلك عند الخالديين. إن مجموعة الأبيات المتسلسلة المتناظرة التي تطلب من المرء أن يرحل من دار أو مقام يلقى فيه الهوان1 هي نفسها موضوع من موضوعات حماسة البحتري، وإن موضوع وصف حديث النساء2 أيضًا يضاهي إحدى موضوعات حماسيات البحتري بل أبي تمام، فالبحتري أتى بباب في شعر المرأة العربية في الرثاء، وأبو تمام جاء بمقطوعات قالها الشعراء في مذمة المرأة، والخالديان جاءا بموضوع يضم مقطوعات وأبياتًا في وصف حديث المرأة ورقته. وموضوعات حماسة الخالديين فيها طرافة وحسن انتقاء، وتسلسل لطيف رغم قطعهما الموضوع فجأة للانتقال إلى موضوع آخر. فمن موضوعاتهما الطريفة: فضل البدو على الحضر3 ويتبعان ذلك مباشرة بموضوع "فضل البدوية على الحضرية"4، ومن موضوعاتهما الطريفة أيضًا ما قيل في "الأماني"5 ومنها وشاية الطيب والحلي على أصحابها6. لنستعرض بضاعة الخالديين التي أورداها في فضل البدو على الحضر: قال بعض الأعراب وغزا في أيام الفتوح إلى ناحية خراسان، واعتل فكان في قصر من قصور الري وجاشت الديلم، وكان في كل يوم ينادي المنادي بالنفير، فقال: لعمري لجو من جواء سويقة ... أسافله ميت وأعلاه أجرع به العين والآرام والأدم ترتعي ... وأم الرئال والظليم المجنع   1 الأشباه والنظائر "1/ 193-197، 2/ 48". 2 المصدر "1/ 53-56، 201-204". 3 المصدر "2/ 32-34". 4 المصدر "2/ 34، 35". 5 المصدر "2/ 232، 233". 6 المصدر "2/ 73-76". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 أحب إلينا أن نجاور أهلنا ... ويصبح منا وهو مرأى ومسمع من الجوسق الملعون بالري لا يني ... على رأسه داعي المنية يلمع يصيح عليه الديدبان فلا أرى ... نهاري ولا ليلى من الخوف أهجع يقولون لي اصبر واحتسب قلت طالما ... صبرت ولكن ما أرى الصبر ينفع فيا ليت أجري كان قسم فيهم ... ومن دوني الصمان والرمل أجمع فكان لهم أجري هنيئًا وأصبحت ... بي البازل الكوماء في الرمل تضبع ولأعرابي دخل الحضر فاشتاق البدو: لعمري لأصحاب المكاكي بالضحى ... وسحم تنادي بالعشي نواعبه أحب إلينا من فراخ دجاجة ... صغار ومن ديك تنوس غباغبه مثله لآخر: والله للنوم بوادي ذي غضًا ... مختلط فيه الحمام بالقطا وقد جرت في روضة ريح الصبا ... وانحل في قيعانه خيط السما أشهَى إلى قَلبيَ مِن ريح القرَى أخذ أبو تمام قوله: وانحل في قيعانه خيط السما" فقال: "وانحل فيها خيط كل سماء" والبيت الأول خير مما قال أبو تمام. مثله لآخر: وليت لنا بالجوز واللوز كمأة ... جناها لنا من بطن نخلة جان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وليت لنا بالديك صوت حمامة ... على فنن من أرض بيشة دان وليت القلاص الأدم قد وخدت بنا ... بواد تهام في ربًا ومتان بواد تهام تنبت السدر صدره ... وأسفله بالمرج والعلجان وقريب منه لآخر: يجيئوننا بالورد كل عشية ... وللشيح في عيني أذكى من الورد ولا سيما إن كان من شيح تلعة ... بوادي سبيبٍ جاده صيب الرعد فتلك لعمري نظرة لو نظراتها ... ستذهب وجدي أو تزيد على وجدي ثالثًا: وكما تأثر الخالديان في حماستهما بموضوعات حماسة البحتري، فإنهما تأثرا كذلك بمنهج ابن المعتز في كتابه طبقات الشعراء، ذلك أن ابن المعتز قد ذكر أنه لا يأتي من نصوص الشعر لمن ترجم لهم إلا ذلك الذي لم يكن محفوظًا، أو شائعًا بين الناس، إن رسالتنا هذه مختار ما وقع إلينا من أشعار الجاهلية، ومن تبعهم من المخضرمين ونجتنب أشعار المشاهير لكونها في أيدي الناس، فلا نذكر منها إلا الشيء اليسير ولا نخليها من غرر ما روينا للمحدثين، ونذكر أشياء من النظائر إذا وردت والإجازات إذا عنت، ونتكلم على المعاني المخترعة والمتبعة". ومن ثم فإن الكتاب يعتمد أكثر ما يعتمد على شعر الجاهليين، والمخضرمين، ويقلل من إيراد شعر غيرهم، وهذا بعينه هو طريق البحتري في حماسته. رابعًا: إن الكتاب على نفاسته والجهد الذي بذل في تأليفه والسهر على جمع شواهده يعيبه أمران أساسيان منهجيان: الأمر الأول هو إغفال عناوين الموضوعات، وكان تلافي ذلك من اليسر بمكان لو أن المؤلفين فطنا إلى ذلك، وهي هفوة سقط فيها أكثر من مؤلف قديم قدير. والأمر الثاني هو ذكر شواهد أو أبيات الموضوع الواحد على مجموعات مفرقة في أماكن عدة من الكتاب، بل إنه كثيرًا ما تتكرر الأبيات نفسها بسبب الغفلة عن ذكرها في موضع سلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ومع ذلك كله فإن حماسة الخالديين الموسومة بالأشباه والنظائر من الكتب النفيسة التي تضم موضوعات ومختارات من الشعر العربي، يفيد منها المتأدب كل الفائدة ويستشف أساليب الشعراء وطريقة تناولهم للمعنى الواحد والموضوع الواحد على مسيرة قرون عدة بدأت بالجاهليين وانتهت بالعباسيين1.   1 مقدمة الكتاب "1/ 322". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 5- الحماسة الشجرية إن صاحب الحماسة الشجرية، هو نفسه أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة المعروف بابن الشجري صاحب "الأمالي" التي مر حديثها في باب الأمالي الذي توفي عام 524هـ بعد أن عمر عمرًا غير قصير وأنتج بين ما أنتج من آثار أدبية، هذه الحماسة التي تحمل اسمه مثلما حملته الأمالي أيضًا. وينبغي لنا ألا نخلط بين حماسة ابن الشجري ومختارات أشعار العرب لابن الشجري فهما كتابان مستقل كلاهما عن الآخر، ذلك أن ديوان مختارات ابن الشجري لا يزال مخطوطًا، ويختلف في منهجه وطريقة اختياره اختلافًا جوهريًّا عن الحماسة. إنه خمسون قصيدة وبضع مقطوعات كلها لشعراء جاهليين باستثناء الحطيئة فإنه مخضرم، وهو يكاد يكون مجموعة دواوين صغيرة لبعض الشعراء الذين ذكرنا صفتهم، إنه يضم بين ما يضم من القصائد سبعًا لزهير، واثنتى عشرة لعبيد بن الأبرص وثلاث عشرة للحطيئة. أما حماسة ابن الشجري فإنها امتداد طبيعي لسلسلة كتب الحماسة التي بدأ أبو تمام بتصنيفها ثم حذا حذوه تلميذه البحتري. وإنه لمن الطبيعي أن يتأثر ابن الشجري بمنهج كل من سابقيه أبي تمام والبحتري، ثم يزيد على منهجيهما ما أملته طبيعة مسيرة الزمن وتطور فن الشعر. ذلك أن حماسة ابن الشجري أقرب من حيث التبويب إلى حماسة أبي تمام منها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 البحتري، وهي من حيث التفصيل أقرب إلى حماسة البحتري منها إلى أبي تمام، هذا فضلًا عن تغيرات في المنهج وتفصيلات في العرض وملاحظ في مجموعها سوف نسوق حديثها بعد قليل. إنها من حيث العدد تبلغ تسعمائة وأربعًا وأربعين حماسية، ومن حيث التبويب تشمل الأبواب الآتية: باب الشدة والشجاعة، وباب اللوم والعتاب، وباب المراثي، وباب المديح، وباب الهجاء، وباب الأدب، وباب النسيب، وباب الصفات والتشبيهات، وباب الملح. هذا ونود أن نستعرض حماسة ابن الشجري من خلال نظرة فاحصة لما اتسمت به من مواقف تتصل بالشعر والشعراء أملتها طبيعة الزمن، ولما وضح فيها من تغيرات في الموضوعات أملاها المنهج الذي اختاره المصنف لنفسه. فأما من حيث الشعر والشعراء فإننا نلاحظ ما يلي: أولًا: أولى ابن الشجري اهتمامًا كبيرًا للشعراء المحدثين، وبعض الأمويين فعمد إلى الإكثار من الاختيار لشعرهم بحيث يجعل منهم نجومًا لحماسته، وهم: أبو نواس، أبو تمام، البحتري، ابن الرومي، ابن المعتز، الشريف المرتضى. ومن الأمويين أكثر من الاختيار لكل من جرير والفرزدق، والأخطل. ثانيًا: واصل ابن الشجري متابعة مسيرة الشعر حتى عصره، أي القرن السادس ولكن في تعثر شديد، فكان ضنينًا بالاختيار من شعر شعراء القرون الرابع، والخامس، والسادس، ففي الوقت الذي وفى فيه شعراء القرنين الثاني، والثالث حقهم من الاختيار لهم بدًّا وكأنه يخيل بشعراء القرن الرابع، فإذا ما اختار حماسيات لبعضهم فإنه يختار في بخل وحذر، اللهم إلا الشريف الرضي فإنه اختار له ثلاث عشرة مقطوعة أو حماسية، بل إنه مما يدعو إلى التعجب أن يتجاهل ابن الشجري أبا الطيب المتنبي شاعر العربية الكبير، فلا يأتي له إلا بمقطوعتين كل منهما بيتان قصد بهما تشبيهًا بلاغيًّا وليس هدفًا موضوعيًّا1. ويكاد يفعل الأمر نفسه مع أبي فراس الحمداني، لقد اختار له أربع قطع: واحدة في الغزل وأخرى في الرثاء واثنين في العتاب. أما الحماسة والفروسية، فإنه تجاهلهما تمامًا وكأن أبا فراس لا علاقة له بالحماسة ولا بالحرب ولا بالفروسية، وكأنهم لم يقل شيئًا من هذا القبيل في شعره، ولعمر الحق إذا لم يكن كل من أبي الطيب المتنبي، وأبي فراس الحمداني شعراء حرب   1 الحماسيتان رقم "869، 870 ص 897" من الحماسة الشجرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وفروسية وحماسة فمن يكون إذن لها؟ وأما شعراء القرن الخامس، فلا نكاد نرى له من الاختيارات إلا ما اختاره للشريف المرتضى الذي عاش نصف عمره الأدبي في القرن الرابع، ونصفه الآخر في القرن الخامس. وأما شعراء القرن السادس، فكانوا أوفر حظًّا فقد اختار لاثنين منهمهما القاضي الأرجاني المتوفى سنة 544هـ أي بعد عامين من وفاة ابن الشجري، وزيد بن الحسن الكندي 520 - 613هـ، هذا ويمكن أن نشك في أن أبيات القاضي الأرجاني من اختيارات ابن الشجري فقد وردت في آخر قسم من الديوان تحت عنوان "الأشعار المزيدة على أصل الكتاب". ثالثًا: لم يضن ابن الشجري على الشاعرات العربيات بنصيب جعله لهن في اختياراته، وإن كانت أكثر اختياراته لهن في الرثاء، فأورد مختارات فيهذا الباب لكل من رفاعة بنت شداد المرية، كبشة بنت الشيطان الكندية، سعدى بنت الشمردل، جنوب الهذلية، ليلى الأخيلية، الخنساء، مية أخت قبيصة بن ضرار، ليلى بنت طريف، وهي نفسها الفارعة بنت طريف الشيبانية: أورد لها ستة أبيات فقط من مرثيتها الفائية الرائعة، بنت ملاعب الأسنة ترثي أباها بأرجوزة ولم يذكر اسم الشاعرة. وقد جاء بمقطوعة غزلية لرضا الهلالية، ومقطوعتين من الشعر المكشوف لأم الضحاك المحاربية. إن ابن الشجري لم يزد إلا القليل على ذلك الذي أورده أستاذاه في حماسيتهما في بعض ناحية، وقصر عنهما في ناحية أخرى. رابعًا: عمد ابن الشجري، وربما لأول مرة بين أصحاب دواوين الحماسة إلى رواية قصة يتمثل بطلها بلون معين من الشعر وهو الغزل، ويجعل من كل مثال يتمثل به مقطوعة مستقلة أو حماسية مستقلة، ولو كانت بيتًا واحدًا لا غير، وهي محاولة -كما ذكرنا- فريدة عند أصحاب كتب الحماسة، وقد يكون من الترويح على أنفسنا وعلى قارئنا أن نوردهذا المنزع الجديد في الحماسيات المتضمنة في قصة أو خبر1: روى ابن دريد قال: أخبرنا الرياشي عن الأصمعي قال، حدثني منتجع بن نبهان قال أخبرني رجل من بني الصيداء من أهل الصريم قال: كنت أهوى جارية من باهلة فأخافني قومها وأخذوا علي المسالك، فخرجت ذات يوم فإذا حمامات يسجعن في أفنان أيكات متناوحات في سرارة واد فاستفزني الشوق، فركبت وأنا أقول:   1 حماسة ابن الشجري "ص 512 - 515". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 دعت فوق أغصانٍ من الأيك غدوة ... مطوقة ورقاء في إثر آلف فهاجت عقابيل الهوى إذ ترنمت ... وشبت ضرام الشوق بين الشراسف بكت بجفون دمعها غير ذارف ... فأغرت جفوني بالدموع الذوارف ثم سرت فأتيت أرضها فأواني الليل إلى حي، فخفت أن يكونوا من قومها فبت بالقفز فلما هدأت الرجل، ورنقت في عيني سنة إذا قائل يقول: تمتع من شميم عرار نجدٍ ... فما بعد العشية من عرار فتفاءلت -علم الله- ثم غلبتني عيناي فإذا آخر يقول: ولاميَّ بعد اليوم إلا تعلة ... من الطيف أو تلقى لها منزلًا قفرا فزادني ذلك قلقًا فمنت فإذا ثالث يقول: لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار فقمت وركبت ناقتي متنكبًا الطريق، فلما برق الفجر، إذا راعٍ من الشروق قد سرح غنمًا، وهو يتمثل: كفى بالليالي مخلقات لجدة ... وبالموت قطاعًا حبال القرائن فأظلمت علي الأرض، فتأملته فعرفته فقلت: فلان؟ فقال: فلان. قلت ما وراءك؟ قال: ضاجعت والله رملة الثرى، فما تملكت أن سقطت عن بعيري فما أفقت حتى حميت علي الشمس، فاستيقظت، وقد عقل الغلام ناقتي ومضى فكررت وأنا أقول: يا راعي الضأن قد أبقيت لي كمدًا ... يبقى ويقلقني يا راعي الضأن نعيت نفسي إلى نفسي فكيف إذن ... أبقى ونفسي في أثناء أكفان؟ وأما من حيث الملامح التي بدت لنا متغيرة عن سالف منهج الحماسات، فيمكن أن نلم بها في القضايا الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 أولًا: إن باب الحماسة -باب الشدة والشجاعة- الذي عودنا أصحابها السابقون وبخاصة أبو تمام أن يكون أطول باب من أبواب هذا اللون من التصنيف، لم يعد أطول الأبواب عند ابن الشجري، فإن عدد حماسياته لم تزد على مائة وإحدى وثمانين في حين عدد الحماسيات جميعًا تسعمائة وأربع وأربعون. وليس ذلك هو ما لفت نظرنا وحده، وإنما هناك ظاهرة أخرى بدت واضحة في طريقة اختيار ابن الشجري لشعراء هذا الباب، فبعد أن كانت الأبيات تنتخب للشعراء الفرسان من جاهليين وإسلاميين دون ما سمة مذهبية لاحظنا أن صفة ابن الشجري الشيعية الهاشمية تنعكس على اختياراته في باب الشدة والشجاعة، فإلى جانب شعر عنترة، وعمرو بن معد يكرب، وشعراء المعلقات نجد شعرًا لكل من العباس، وأبي طالب ابني عبد المطلب1 وإن كان قد خص أبا طالب بخمس حماسيات، وعبد المطلب بحماسية واحدة، هذا فضلًا عن شعر وقعتي الجمل وصفين. ولكن الرجل والحق يقال لم يغفل ذكر شعر بعض معارضي الشيعة، فقد اختار حماسيات لقطري بن الفجاءة رأس الخوارج، ونفر آخر من الشراة، بل إنه أتى بعدة حماسيات من شعر الصعاليك. ومهما يكن من أمر قصر هذا الباب نسبيًّا فإن به تلوينًا لا بأس به وتنويعًا وتفريعًا لشعر الحماسة، الأمر الذي دفع به إلى أن يجعل عنوان بابه الأول الشجاعة والشدة. ثانيًا: عمد ابن الشجري إلى تفريع بعض أبواب حماسته تفريعًا فنيًّا فيه الكثير من التشويق، والتنويع بخاصة في بابي النسيب، والصفات والتشبيهات، وهذا الباب الثاني لنا معه حديث بعد قليل، فإذا ما عرضنا لباب الغزل وجدنا ابن الشجري يقسم هذا الباب إلى فصول عدة، جعل الفصل الأول لاختيارات من شعر العشاق المشهورين في نطاق حماسيات يبدون من خلالها شكواهم ولوعتهم ووجدهم وصبابتهم مثل المجنون، وقيس بن ذريح ويزيد بن الطثرية، وعروة بن حزام، وجميل بن معمر، وكثير بن عبد الرحمن، والأحوص، والعرجي، وبعض من أحسنوا القول في الغزل مثل سحيم، وأبي حية النميري، والحسين بن مطير. وفي الفصل نفسه يأتي بقطعتين من غزل النساء لأم الضحاك المحاربية، وقطعة لضاحية الهلالية. ولعل من الغرابة بمكان أن يختار ابن الشجري لأكثر الشعراء العشاق من عذريين وماديين ويغفل أو ينسى عمر بن أبي ربيعة في حين أتى بمقطوعات لتلميذيه الأحوص، والعرجي. إن هذا الفصل من باب الغزل يشتمل على غنائيات كثيرة مما يطرب له السمع، وتلذ الأذن ويهتز الوجدان.   1 الحماسيات "رقم 37، 38، 39، 40، 41،" لأبي طالب والحماسية رقم "42" للعباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وفي نطاق باب النسيب يفرد ابن الشجري، فصلًا لطيفًا يضم مقطوعات عدة قيلت في الحنين إلى الأوطان، ثم يتبعها بفصل آخر في الارتياح عند هبوب الريح، وآخر في الاشتياق عند لمعان البروق، وآخر في النزاع عند نوح الحمام، وغيره في الشوق عند حنين الإبل يتبعه بفصل في الطيف، والخيال أكثر مقطوعاته للبحتري، ولشدة إعجاب ابن الشجري بمن عرفوا بالشعراء المحدثين يجعل آخر فصل في باب النسيب هذا الوفير الفصول لمقطتفات أكثرها من شعر هؤلاء المعروفين بهذه الصفة. إنه باب ممتع على كل حال من أبواب حماسة ابن الشجري. ثالثًا: إن أكبر باب من أبواب هذه الحماسة، هو باب الصفات والتشبيهات، إنه باب جديد على الحماسات وأما الصفات فقد فهمنا أنه قصد بها الوصف ولا بأس في ذلك، ولكن أن يقرن المصنف الوصف بالتشبيه ويفرد لهما بابًا واحدًا وإن تعددت فصوله، فذلك شيء جديد على فن الحماسات إن جاز لنا أن نسمي هذا اللون من التصنيف فنًّا، لقد ضم هذا الباب ثلاثمائة وثماني وخمسين حماسية -أي مقطوعة أو قصيدة- وهذا يعني أن هذا الباب استغرق ثلث الديوان مضافًا إليه أربعًا وأربعين مقطوعة. لقد فرضت طبيعة الباب، وتشعب موضوعاته على ابن الشجري أن يقدمه بهذا الطول، وأن يقسمه إلى فصول عدة هي حسب ترتيبها: فصل من صفات النساء، فصل في وصف النار، فصل في وصف التنائف والوحش، والإبل، والركب وأخبية السفر، الصفات، والتشبيهات في الليل والنجوم والمجرة والهلال والصبح، الصفات والتشبيهات في الرياض والمياه والنبات، الصفات والتشبيهات في السحاب والغيث والبرق، صفات آلة الحرب وتشبيهاتها، صفات الكتب والخط وآلته، صفات الشعر، الصفات في الشيب والشباب والخضاب، الصفات والتشبيهات الخمرية، التشبيهات الغزلية، تشبيهات المدح، تشبيهات الهجاء، تشبيهات وصفات في معانٍ مختلفة. قد يبدو لنا أنه كان من الميسور على المصنف أن يختصر هذا الباب الطويل في ما لو رد الكثير من فصوله إلى أبوابها الأصيلة، ففصل النساء مثلًا يضم مقطوعات من عذوبة الريق، وطيب الحديث، والعين والنظر، والوجه والثغر، وحسن الحديث وطيبه، وهو فصل طويل نوعًا وكان من الممكن أن يدخل في باب النسيب الذي أفرد له المصنف بابًا سبق لنا استعراضه والحديث عنه. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن التشبيهات الغزلية. وفصل تشبيهات المدح كان من الممكن أن يلحق بباب المديح، والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة إلى فصل تشبيهات الهجاء، وهكذا يكون ابن الشجري قد خرج عن جادة المنهج السليم، الذي انتهجه أبو تمام في حماسته طالما كان تبويبه أقرب ما يكون إلى أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 تمام دون غيره من أصحاب الحماسات. ولكن ابن الشجري ربما فكر في أن يجعل هذه الفصول المتنافر منها والمتآلف تحت عنوان أقرب ما يكون إلى علم البيان وهو التشبيهات، ومن ثم التمس لنفسه عذرًا فحشد هذا الشتات المتآلف والمتخالف تحت فصل واحد يجمعه عنوان التشبيهات. أما بقية التفريعات الأخرى مثل فصل الليل والنجوم، والهلال والصبح، أو الرياض والمياه والنبات، أو السحاب والغيث والبرق، أو آلة الحر، أو الكتب والخط، أو الشعر، أو الشيب أو الخضاب، فإنه مما يمكن أن يجمع تحت باب واحد. وأما فصل الخمر فأكثره لأبي نواس فقد أتى فيه وحده بتسع عشرة قصيدة أو مقطوعة، وجاء لغيره من بقية شعراء العربية بأربع عشرة قصيدة أو مقطوعة، ومع أن أبا نواس هو أشهر شعراء الخمراء فإن طبيعة منهج الاختيارات يقتضي التنوع، ولو شاء ابن الشجري لتمثل لشعراء مجيدين في هذا الفن من شعراء القرن الرابع الذين أهمل شأنهم، وأخمل ذكرهم وفي مقدمتهم كشاجم والوأواء الدمشقي والسري الرفاء والصنوبري، ولكل منهم في الخمر أبيات فريدة ومعانٍ مبتكرة، بل إن واحدًا منهم هو كشاجم قد ألف كتابًا أسماه "أدب النديم" ذكر فيه الكثير من شعر الخمر، من وصف وتشبيهات وصفات للنديم، والساقي، والاستضافة، والاستهداء إلى غير ذلك مما فضله المتأخرون من الشعراء وبرعوا في إجادة القول فيه. على أنه من النصفة بمكان أن نذكر لابن الشجري في هذا الباب الأخير أمرين على جانب من الأهمية والخطورة: الأمر الأول: هو تذوقه الفني للشعر وشفافيته الصافية في حسن الاختيار بحيث قدم في أكثر فصول هذا الباب الطويل نماذج من طرف الشعر وبديعه، وهل هناك ألطف من أبيات ابن الرومي وهو يصف غروب الشمس قائلًا1: إذا رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورسا مدعدعا ولاحظت النوار وهي مريضة ... وقد وضعت خدًّا إلى الأرض أضرعا كما لاحظت عواده عين مدنفٍ ... توجع من أوصابه ما توجعا   1 حماسة ابن الشجري -حماسية رقم "660، ص734". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وظلت عيون النور تخضل بالندى ... كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا والأمثلة والنماذج كثيرة متناثرة في فصول هذا الباب، تناثر الجوهر على صدر الحسناء. والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا الباب، هو اهتمام ابن الشجري وفطنته إلى الشعر المرتبط بأسباب الثقافة، والعلم كوصف الكتب والرسائل التي يتبادلها الأنداد والأصحاب والمتحابون، فهذا أبو محمد المهلبي الوزير يصف كتابًا بهذا الشعر الطريف1: وفضضته فوجدته ... ليلًا على صفحات نور مثل السوالف والجباه الـ ... ـبيض زينت بالشعور وكنظم در كالثغو ... ر وكالعقود على النحور أنزلنه مني بمنـ ... ـزلة القلوب من الصدور أو قول أبي تمام في الغرض نفسه وهو أرق وأحلى من قول سابقه على رقته2: فضضت ختامه فتبلجت لي ... غرائبه عن الزهر الجني وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحلي ولا يسعنا أن نتجاهل أبيات زيد بن الحسن الكندي، وهو يصف الدفاتر هذا الوصف الخلاب الفريد3: خرس تحدث آخرًا عن أول ... بعجائب سلفت ولسن أوائلا سقيت بأطراف اليراع بطونها ... وظهورها طلًّا أحم ووابلا تلقاك في حمر الثياب وسودها ... فتخالهن عرائسًا وثواكلا   1 حماسية ابن الشجري، حماسية رقم "744، ص802". 2 المصدر نفسه، الصفحة نفسها. 3 المصدر السابق الحماسية رقم "742، ص800". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وتريك ما قد فات من دهر مضى ... حتى تراه بعين فكرك ماثلا وكان باستطاعة ابن الشجري أن يكثر من الإتيان بعديد النماذج لهذا اللون من شعر الثقافة والمثقفين، مثل وصف القلم لأبي تمام أو وصف الكتاب للعتابي، وغيرهم ممن أحسوا بجلال المعرفة وحلاوة العلم فصاغوا في أدواتهما شعرًا عذبًا جميلًا موافقًا. رابعًا: أفرد ابن الشجري بابًا "بكامله" للملح لم يزد على أن أتى فيه بثلاث وثلاثين مقطوعة قصيرة أكثرها يمكن ردها إلى باب بعينه من أبواب الشعر -ولا بأس في ذلك- إلا أن منهجًا متكاملًا لا يستقيم بباب عدد حماسياته ثلاث وثلاثون، وباب آخر عدد حماسياته ثلاثمائة ثمان وخمسون أي ما ينوف عن عشرة أضعاف العدد. وأكثر ملح هذا الباب ليست من الملاحة بمكان بل إن بعض ما جاء به مصنفنا في باب الهجاء ربما كان أكثر طرافة وأوفر ملاحة، على الرغم من سلاطة لسان قائله، مثال ذلك قول شاعر أغفل المصنف اسمه1: إذا ولدت حليلة باهلي ... غلامًا زيد في عدد اللئام ولو أن الخليفة باهلي ... لقصر عن مساعاة الكرام أو قول الفرزدق2: لو أن قدرًا بكت من طول ما حبست ... على الجفوف بكت قدر ابن عمار ما مسها دسم مذ فض معدنها ... ولا رأت بعد نار القين من نار ومهما يكن من أمر حماسة ابن الشجري فهي واحدة من أنفس الحماسات، التي وصلت إلينا وأثمنها قيمة وأرفعها قدرًا، يجد فيها الآمل بغيته وطالب الثقافة حاجته، والمتأدب زاده وعدته، وهي إحدى الثمار الجنية النفيسة التي تركها هذا العالم الجليل الذي سبق أن تحدثنا عن تحفته الأخرى "الأمالي" حسبما مر بنا ذلك في مكانه من هذا الكتاب.   1 المصدر نفسه الحماسية رقم "367 ص 443". 2 المصدر: حماسيته رقم "384 ص 457". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 6- الحماسة البصرية : إن هذه الحماسة، هي آخر الحماسات التي وصلت كاملة إلى أيدينا حتى الآن، جمعها صدر الدين، أبو الفرج بن الحسين البصري المتوفى سنة 659هـ. إننا لا نكاد نعرف شيئًا عن حياة أبي الفرج البصري هذا أكثر من أنه جمع ديوانه، وأهداه إلى الملك الناصر أبي المظفر يوسف بن عبد الملك العزيز بن الملك الظاهر أمير حلب سنة 647هـ، وأن له مؤلفًا بعنوان "المناقب العباسية والمفاخر المستنصرية" في تاريخ الدولة العباسية. ولسنا ندري على وجه التحقيق السبب الذي من أجله أهمل المؤرخون، وكتاب التراجم شأن أبي الفرج البصري، فأغفلوا ذكره وأخملوا شأنه. بل إننا لا نكاد نلمس سببًا واضحًا لتسميةهذا الديوان من الحماسة باسم "الحماسة البصرية" إلا أن يكون المصنف قد نسبها إلى بلدته التي منها خرج وهي البصرة، على الرغم من أننا نستنتج أن أكثر مقامه كان في حلب. وإذا كانت هذه الحماسة البصرية تعتبر من أكبر دواوين الحماسة عدة مقطوعات وقصائد وأوفرها عدد أبيات، وأكثرها احتواء للشعراء، فإننا لا نكاد نرى فيها جديد إلا القليل. إنها تضم ألفًا وستمائة وثماني وأربعين حماسية بين مقطوعة وقصيدة، وربما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 المقطوعة بيتًا واحدًا، وربما ناهز عدد أبيات القصيدة عشرين بيتًا، ولا بأس في ذلك فإن أكثر مصنفي الحماسات قد نهجوا النهج نفسه. وإن عدد أبيات حماسياتها يزيد على ستة آلاف بيت، ومجموع الشعراء الذين وردت لهم فيها نماذج ومختارات من أشعارهم يناهزون خمسمائة شاعر، ولكنها مع ذلك صورة مهتزة لحماسة أبي تمام، وعالة على حماسة البحتري والخالديين وكتب الاختيارات التي صنفها المفضل الضبي، والأصمعي وأبو يزيد القرشي والحيوان للجاحظ. ويمكن لنا أن نستعرض منهج هذه الحماسة أو بالأحرى نقدمها على النحو التالي: أولًا: إنها من حيث عناوين أبوابها مطابقة كل المطابقة لعناوين أبي تمام في حماسته بزيادة بابين أحدهما في الإنابة والزهد مستمدًّا نهجه من بعض موضوعات البحتري في حماسته، والثاني جديد من ابتكار المصنف هو "باب ما جاء في أكاذيبهم وخرافاتهم". هذا وقد قام صاحب الحماسة البصرية بغارة كبيرة على حماسة أبي تمام بحيث أخذ من باب الحماسة الكبرى وحده إحدى وأربعين قطعة، وقس على ذلك في بقية الأبواب، هذا فضلًا عن أن فصولًا بأكملها مثل الغزل، والرثاء، والهجاء تكاد تكون صورة أمينة لمثيلاتها عند أبي تمام وابن الشجري من حيث الحماسية، وصاحبها أو صاحبتها. ثانيًا: إن أخطاء كثيرة تبدو واضحة من نسبة كثير من المقطوعات إلى أصحابها والشيء نفسه في نسبة الشعراء إلى قبائلهم، أضف إلى ذلك أخطاء أخرى في ربط كثير من الشعراء بأزمنتهم، فكثيرًا ما يذكر أن الشاعر أموي بينما هو مخضرم بين الجاهلية، والإسلام، أو مخضرم بين دولتي بني أمية، وبني العباس، والأمثلة لذلك أكثر من أن تحصى. وبمناسبة الأزمنة، فإن المصنف بالرغم من أنه عاش حتى نهاية النصف الثاني من القرن السابع 656هـ فقد وقف بشعراء حماسياته عند منتصف القرن الثالث الهجري عند دعبل الخزاعي وديك الجن، ولا نكاد نجد عنده أثرًا لشاعر بعد هذه الفترة رغم تطاول الأزمان ووفرة المصادر لديه إلا مقطوعة وحيدة للخالديين في وصف قلعة1. ومن ثم كانت فرصة المصنف في أن يفيد قارئه صغيرة طفيفة. ثالثًا: وقع المصنف في الأخطاء المنهجية نفسها التي وقع فيها ابن الشجري، من حيث إيراد أكثر من باب في خدمة غرض واحد، وبمعنى أوضح كان من الأفضل منهجيًّا أن يجعل باب الهجاء وباب الأضياف بابًا واحدًا موضوعه الهجاء؛ لأن كل الحماسيات التي جاء بها تحت عنوان الأضياف مقسمة على فصلين تقع كلها في نطاق فن الهجاء وذلك باستثناء   1 الحماسة البصرية "2/ 346". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 المقطوعتين اللتين اختارهما من شعر الفرزدق والنجاشي الحارثي في نزول الذئب ضيفًا على كل منهما1. هذا ويمكن أن يقع باب مذمة النساء في النطاق نفسه وأن يميز بجعله فصلًا من فصول باب الهجاء. رابعًا: أصاب أبو الفرج البصري كثيرًا من التوفيق في اختياراته التي ضمنها باب الصفات والنعوت، فقد أورد بعض غريب الأوصاف مثل وصف أبي حيان الأسدي للحية ذات الأجراس2 أو وصف مرو بن شاس لحية أخرى3، أو وصف أبي الشيص للهدهد4، أو وصف كل من كعب الأشقري والخالديين لقلعة5، أو وصف يحيى بن ثابت للديك، ولكنه لسوء الحظ لم يأت إلا ببيت واحد منها لم يف بالغرض هو قول الشاعر: صوت النواقيس بالأسحار هيجني ... بل الديوك التي قد هجن أشواقي6 ومن الغريب أن المقطوعة جاءت كاملة عند أبي تمام في حماسته في مكان لا ينسى؛ لأنها جاءت ختامًا لحماسياته. وإذا ما كان الأمر متعلقًا بوصف الديك فكان ينبغي للمصنف أن يلتفت إلى وصف الديك عند ديك الجن، خاصة وأنه تمثل له -أي لديك الجن- بمقطوعة في وصف سحابة، فكان من اليسير عليه لو كان باذلًا جهدًا أن يمتع قارئه وأن يزين مختاراته بقطعتين لا قطعة واحدة للشاعر ديك الجن يصف ديكًا. خامسًا: أفرد مصنف الحماسة البصرية بابًا جديدًا للإنابة، والزهد، وجعل أكثر مختاراته من قول الجاهليين، مثل قس بن ساعدة، وحاتم الطائي، ولبعض المخضرمين، مثل لبيد، وأمية بن أبي الصلت، وتناسى المحدثين فلم يأت لهم إلا بمقطوعات قليلة: ثلاث لأبي العتاهية واثنين للعتابي وواحدة لأبي فراس، وكان من اليسير بمكان أن يجعل المصنف من هذا الباب واحدًا من أكثر أبواب حماسته ثراء وإمتاعًا، ولكنه كسول ضعيف الجهد قليل الالتفات يؤثر أن يكون عالة على من سبقوه، وليس مجددًا أو مبتكرًا في اختياراته. سادسًا: ولعل الجديد الوحيد بين أبواب الحماسة هو ما أطلق عليه المصنف "باب ما جاء في أكاذيبهم وخرافاتهم" وقد أتى فيه باختيارات لعشرة شعراء كل مقطوعة تتصل بخرافة   1 المصدر "2/ 249، 250". 2 المصدر "2/ 344". 3 المصدر السابق "2/ 343". 4 المصدر "2/ 341". 5 المصدر "2/ 345، 346". 6 المصدر "2/ 341". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أو عادة من عادات العرب واعتقاداتهم، أو بالأحرى أوابدهم، مثل الاعتقاد في وجود الغول وأنها إذا ضربت ضربة واحدة ماتت، فإذا ضربت ضربة أخرى عاشت1، أو زعمهم أنه إذا عافت البقر الماء لكدرته فإن الجن تكون راكبة الثيران فتمنع البقر عن الشرب2. هذا وقد ألحق المصنف بهذا الباب فصلًا في الترقيص -لعله مقحم عليه بعض الشيء- مكونًا من تسع مقطوعات جمعت مواضيع شتى بين تدليل الأبناء واسترضاء الأزواج وهجائهم والفخر والشكوى. وعلى طريقة الأقدمين في عدم الاستحياء من ذكر ما لا يتمشى مع الحياء أنهى المصنف فصل الترقيص بمقطوعة من بذيء القول ترقص امرأة بها موضع العفة منها. ومجمل القول في الحماسة البصرية إن أهميتها لا تكمن فيما ضمته دفتاها مسبوق إليه، وإنما في كونها آخر "حماسة" تقع بين أيدينا من سلسلة الحماسات الكثيرة، التي توفر الأدباء العرب على مسرى تاريخنا الأدبي على تصنيفها وتقديمها كنماذج شعرية سائغة بين أيدي المتأدبين في فنون الشعر المختلفة لشعراء اختلفت أمزجتهم، وأزمنتهم وسمت أذواقهم ومشاعرهم.   1 الحماسة البصرية "2/ 398". 2 المصدر "2/ 399". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الباب التاسع: كتب التراجم الفصل الأول: الفهرست لابن النديم مدخل ... الباب التاسع: كتب التراجم: الفصل الأول: الفهرست لابن النديم: حين اتسع نطاق المعرفة، وكثر عدد الأعيان الذين لعبوا أدوارًا هامة في تاريخ الحياة العربية والمعرفة الإسلامية، والفنون الأدبية، كان من الطبيعي أن تتجه مناهج المؤلفين إلى الكتابة عن هؤلاء جميعًا بشكل يشفي الغلة ويروي الظمأ في نطاق دراسة علم بعينه أو عالم بذاته أو شاعر بتفرده. أو في نطاق كل ذلك مجتمعًا. فكان أن نشأت أنماط من الكتب التي تتولى الترجمة لأعيان العلماء وعظماء الشخصيات، وكان أهم تلك جميعًا كتب الطبقات، وكتب التراجم. أما كتب الطبقات فإنها تترجم لجماعات من الأعيان اتَّحدت في الغالب مشاربهم، وتلاقت ثقافاتهم، وتوحدت تخصصاتهم، فهناك طبقات الشعراء، وطبقات الأدباء وطبقات المفسرين، وطبقات المحدثين، إلى غير ذلك من كتب الطبقات، وقد خصصنا طبقات الأدباء بباب منفرد في هذا الكتاب مضى قبل صفحات عدة. وأما كتب التراجم فإنها في الأغلب لا تختص بفئة واحدة معينة متفقة المشارب، مشتركة أسباب المعرفة، وإنما تترجم لكل الأعيان من ملوك وسلاطين، ووزراء وقواد، وعلماء، وفلاسفة، وشعراء وأدباء، وفقهاء، وظرفاء إلى غير أولئك ممن تنطبق على الواحد منهم صفة عين من أعيان الزمان، وذلك باستثناء كتابين شهيرين هما كتاب "الفهرست" وكتاب "معجم الأدباء" الذي سوف يأتي ذكرهما بعد قليل ... ونستطيع في ضوء ذلك أن نقسم كتب التراجم إلى خمسة أقسام محاولين أن نستعرض بعضًا منها في كل قسم من أقسامها تلك التي ذكرنا. فأما القسم الأول، فإن له صفة الشمول بمعنى أنه يترجم للمادة العلمية نفسها ويعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 بأعيان علمائها والمؤلفين في ميدانها، ويذكر أسماء الكتب التي ألفها هؤلاء العلماء كل في ميدانه، ويأتي على رأس هذا القسم من كتب التراجم كتاب الفهرست لابن النديم. وأما القسم الثاني، فهو ما يتعلق بتراجم أعيان بلد بذاته بكل ما تعنيه كلمة "عين" من معنى، أي الرؤساء والوزراء والقضاة والفقهاء، والمحدثين والأدباء والشعراء والفلاسفة والمتصوفة والزهاد والنحاة والقواد ومن إليهم. وفي مقدمة كتب التراجم التي التزمت هذا المنهج من الترجمة لأعيان بلد بذاته كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ والذي سوف يأتي حديثه بعد قليل. ومنها أيضًا كتاب "در الحبب في تاريخ أعيان حلب" لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحنبلي، المتوفى سنة 971هـ، وهناك كتب كثيرة التزمت هذا المنهج من التأليف المختص ببلد بعينه. وأما القسم الثالث، فقد عمد المؤلفون فيه إلى التخصص في الترجمة لأعيان فئة بذاتها هي جماعة العلماء من لغويين، وأدباء، وإخباريين، وفلاسفة، وغيرهم من أصحاب المؤلفات وخير كتاب يمثل هذا الصنف من كتب التراجم، هو كتاب "معجم الأدباء لياقوت الرومي المتوفى سنة 636هجرية، وسوف يأتي حديثه بعد قليل. وأما القسم الرابع، من كتب التراجم فقد تحرر مؤلفوه من التخصص العلمي ومن المحدودية بالترجمة لأعيان بلد بذاته فانطلقوا يترجمون لجميع الأعيان منذ أن وجد الأعيان العرب والأعلام المسلمون إلى زمان المؤلف نفسه، ويأتي في مقدمة هذه الكتب كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان المتوفى سنة 681هـ. وكتاب "الوافي بالوفيات" لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764هـ، وكتاب "فوات الوفيات" الذي يعتبر ديلًا على وفيات الأعيان، وقد قام على تأليفه محمد بن شاكر الكتبي المتوفى سنة 764هـ وسوف نتحدث عنهؤلاء جميعًا ومناهج كتبهم تفصيلًا فيماهو قادم من قول. وأما القسم الخامس من كتب التراجم، فهو الذي رأى فيه مؤلفوه أن يحددوا أعيانهم بقرن بذاته من حيث الزمن، ولكنهم يطلقون لأنفسهم العنان من حيث المكان، فهو إذ يحددون فترة زمان أعيانهم بقرن بذاته يساحون على مساحة الأرض الإسلامية، من أقصى الهند وحدود الصين شرقًا إلى حدود الأطلنطي والأندلس غربًا ملتزمين جميعًا الترتيب الهجائي عند عرض أسماءهؤلاء الذين تناولوا سيرتهم بالترجمة والتعريف، ويأتي في مقدمةهذا القسم الخامس في التخصص في الترجمة لأعيان القرون كتاب "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" لشيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني العالم الأجل الذي يعتبر واحدًا من ألمع وأعلم علماء زمانه المتوفى سنة 852هـ، ومنها كتاب الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع للسخاوي المتوفى سنة 905هـ، ومنها كتاب "الكواكب السائرة بأعيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 المائة العاشرة" لنجم الدين الغزي العالم الجليل صاحب التآليف التي تنوف على الثلاثين المتوفى سنة 1061هـ. ومن هذا القسم من الترجمة في نطاق القرون كتاب "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" لعالم زمانه محمد أمين المحبي المتوفى سنة 1111هـ ولنا مع هذا الكتاب وقفة نرجو أن تكون مفيدة، فهو في نظرنا أقرب هذا الصنف من الكتب اتصالًا بالأدب واحتفالًا بالشعر وابتهاجًا بالأدباء وتمثلًا للشعراء. هذا ومن المفيد أن نشير إلى كتابين قديمين نوعًا وآخرين معاصرين لعلماء أجلاء اجتهد كل منهم في أن يخرج للناس كتابًا في الطبقات والتراجم، وأسماء الكتب ومؤلفيها، فأما الكتابان القديمان نوعا فهما كتاب "مفتاح السعادة" لطاش كبرى زاده، وكتاب "كشف الظنون" لحاجي خليفة. وكل من المؤلفين عالم جليل قضى حياته في خدمة العلوم العربية والإسلامية على الرغم من أن كلا منهما تركي المولد واللسان. وأما الكتابان المعاصران، فأولهما للأستاذ عمر رضا كحالة الدمشقي، وقد اختصه صاحبه بالترجمة لأصحاب التآليف من العلماء أسماه "معجم المؤلفين". وأما الكتاب المعاصر الثاني الذي نعنيه فقد عمد صاحبه إلى المنهج العام الذي يعرف فيه بكل من ورد على خاطره من أعلام ثقافتنا حتى المستشرقين منهم، إنه كتاب "الأعلام" للعالم المحقق خير الدين الزركلي، ولئن اكتفى صاحب الأعلام بالترجمة القصيرة لكل علم من أعلامه فإنه يحاول جاهدًا أن يحيل القارئ إلى أكثر المراجع المتاحة التي تمكن الباحث من التوسع في التعرف بمن يريد التعرف به من الأعلام، وهو في الوقت نفسه حريص كل الحرص على أن يمد قارئه بتاريخي ميلاد ووفاة المترجم له ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، والكتاب في واقعه بمجلداته العشرة وباستدراكاته التي تشمل مجلدين آخرين يعتبر المفتاح لكل علم من أعلام الثقافة العربية وأعيان الحضارة الإسلامية ورواد التاريخ القومي، وفي رأينا أن هذا الكتاب الجليل ضرورة لا بد لكل باحث من أن يجعله في متناول يده على الرغم من القليل القليل من الهنات التي تفوت على الباحث المدقق مهما اشتد حرصه وزادت عنايته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الفهرست لابن النديم إن كتاب الفهرست يعتبر المحاولة الأولى في فن التراجم في التراث العربي والإسلامي، وهو مع بكورته زمنًا وأوليته من حيث المحاولة خرج إلى دنيا المعرفة شامخًا ثريًّا خصيبًا، بل إنه ليس المحاولة الأولى في التراجم وحسب بل إنه المحاولة الأولى في الببلوجرافيا العربية وبالتالي الببلوجرافيا العالمية من حيث الممارسة؛ لأن العرب كانوا من أصحاب السابقات في هذا الميدان من غيرهم. فابن النديم -مؤلف الفهرست وهذا حاله- يعتبر رائد علم التراجم في الفكر الإسلامي والمكتبة العربية من حيث التأليف، وأما من حيث التطبيق فإن المكتبات الإسلامية الكبرى مثل مكتبة المستنصر في قرطبة، ودار الحكمة في القاهرة ودار العلم في بغداد فقط كانت تضارع أضخم المكتبات العالمية في زماننا هذا1، هذا فضلًا عن مكتبات الموصل، ودمشق، والبصرة، ونيسابور والري وأصبهان ومرو وغيرها من مكتبات المساجد والمدارس والمستشفيات. إن شهرة ابن النديم من حيث كونه مؤلف أول كتاب عربي في التراجم، والببلوجرافيا واسعة عريضة، ولكن شخصه وسيرته لم يكونا موضع عناية أحد من كتاب التراجم الذين جاءوا بعده وإن استعانوا جميعًا بكتابه، ولا يدري أحد متى ولد أو مات. ولكننا نفهم من خلال كتابه "الفهرست" أمرين: الأول أنه ألف الكتاب على مراحل بدأها سنة 377هـ حسبما هو واضح من مقدمته. والأمر الثاني أنه مات بعد سنة 400هـ؛ لأنه يترجم لأعلام توفوا بعد   1 المكتبات في الإسلام "ص148". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 سنة الأربعمائة مثل ابن نباتة التميمي شاعر سيف الدولة الذي ينص المؤلف على أنه توفي بعد الأربعمائة1. أما مهنة ابن النديم فقد ذكر المؤرخون أنه كان وراقًا، والوراقة كانت مهنة كثير من الأدباء والعلماء. ولا يدخل في معنى الوراقة مجرد التجارة والكسب من الكتب كماهي الحال في أيامنا، فكما أن بين الناشرين في عصرنا علماء أفاضل، وأدباء مرموقين وفي الوقت نفسه يوجد بينهم مجرد مهنيين تجار، فكذلك كان الحال بين وراقي فترة التفجر العلمي الإسلامي والعربي. فياقوت الرومي صاحب المؤلفات الكثيرة الثمينة كان مع علمه الوفير وراقًا، وسعد بن علي المشهور بـ "دلال الكتب" ومؤلف "كتاب زينة الدهر" الذي جعله ذيلًا لدمية القصر -وصاحب غيره من المؤلفات- كان وراقًا، ومحمد بن شاكر الكتبي صاحب "فوات الوفيات" وغيره من المؤلفات الثمينة كان أيضًا وراقًا، وإذًا فابن النديم: محمد بن إسحق كان واحدًا منهؤلاء الوراقين العلماء الذين جعلوا من العلم زادًا لعقولهم، ومن تجارة الكتب ونشرها وتحقيقها وجمعها وتصويبها ومراجعتها وسيلة لكسب قوتهم وأسباب حياتهم.   1 الفهرست "ص 246". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 منهج الكتاب : لقد اعتمد ابن النديم منهج الترجمة للموضوعات والفنون وذكر الكتب، ومن خلالهما ينفذ إلى الترجمة لكل عالم في فنه وكل مؤلف في موضوعه. ويمكن عرض منهج ابن النديم في "فهرسه" على النحو التالي: أولًا: استهدف المؤلف الدخول إلى موضوعه مباشرة دون مقدمات أو مداخل، وليس أدل على ذلك من مقدمته القصيرة التي قدم بها كتابه النفيس بقوله: "النفوس -أطال الله بقاءك- تشرئب إلى النتائج دون المقدمات وترتاح إلى الغرض المقصود دون التطويل في العبارات، فلذلك اقتصرنا على هذه الكلمات في صدر كتابنا هذا إذا كانت دالة على ما قصدناه في تأليفه إن شاء الله، فنقول وبالله نستعين وإياه نسأل الصلاة على جميع أنبيائه، وعباده المخلصين في طاعته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فهذا فهرست كتب جميع الأمم من العرب والعجم، الموجود فيها بلغة العرب وقلمها في أصناف العلوم وأخبار مصنفيها، وطبقات مؤلفيها وأنسابهم وتاريخ مواليدهم ومبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 أعمارهم، وأوقات وفاتهم، وأماكن بلدانهم ومناقبهم ومثالبهم منذ ابتداء كل علم اخترع إلى عصرنا هذا، وهو سنة سبع وسبعين وثلاثمائة للهجرة"1. فمن هذه المقدمة القصيرة نستطيع أن نلمح منهج المؤلف تمام الوضوح، وأنه عمد فيه إلى الإيجاز وادخر الإفاضة للمادة التي يضمها الكتاب. ثانيًا: ويزيدنا المؤلف تعريفًا بماة كتابته في المحتوى الذي قدمه بنفسه في صدر كتابه حين قسم الكتاب إلى عشر مقالات، أو بالحري عشرة أبواب كبار، كل باب يضم عددًا من الفصول. وإن دل ذلك على المنهج وهذا المحتوى على شيء فإنما يدل على عقلية مرتبة، وفكر منظم وخطة منسقة، ذلك؛ لأن المؤلف يتدرج في عرض موضوعاته تدرجًا منطقيًّا، فهو يجعل المقالة الأولى لفنون ثلاثة، هي وصف لغات الأمم من العرب والعجم ونعوت أقلامها وأنواع خطوطها وأشكال كتاباتها، إذ بغير الخط لا تكون كتابة. ثم يثني المؤلف بالشرائع والمذاهب الإسلامية وكتبها، ومن هذا المنطلق ينعطف إلى علوم القرآن الكريم وأسماء الكتب المؤلفة في علومه وأخبار القراء وأسماء الرواة. وينتقل ابن النديم بعد ذلك انتقالًا طبيعيًّا إلى المقالة الثانية، التي يضمن خلالها ثلاثة فصول عن النحو، والنحويين من بصريين، وكوفيين وأخبارهم وأسماء كتبهم. ويجعل ابن النديم المقالة الثالثة، أو الباب الثالث، من الفهرست للأخبار، والآداب، والسير مضمنًا إياه أخبار الإخباريين، والرواة والنسابين، وأصحاب السير والأحداث وأسماء كتبهم. وأخبار القدماء والجلساء والمغنين والمضحكين وأسماء كتبهم. ويخصص المؤلف المقالة الرابعة للشعر والشعراء ابتداء من الشعراء الجاهليين، وانتهاء بالشعراء المعاصرين له وصناع دواوينهم وأسماء رواتهم. والمقالة الخامسة جعلها لعلم الكلام والمتكلمين من معتزلة ومرجئة وشيعة بفرقها وجبرية وخوارج وزهاد ومتصوفة وأخبارهم وأسماء كتبهم. وجعل المقالة السادسة في فنون الفقه والفقهاء والمحدثين وأخبارهم وأسماء كتبهم، والمقالة السابعة عن الفلاسفة والمناطقة والمهندسين، والموسيقيين، والرياضيين، والمنجمين، وصناع الآلات، وأصحاب الحيل والحركات، والأطباء، والمتطببين وأخبارهم وأسماء كتبهم. وجعل المقالة الثامنة عن الأسمار والخرافات والسحر والشعوذة وأصحاب هذه المهن إن صح أن تسمى مهنا وأخبارهم وأسماء كتبهم، هذا فضلًا عن كتب شتى لا يعرف مصنفوها ولا مؤلفوها.   1 مقدمة الفهرست "ص8". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وجعل ابن النديم المقالة التاسعة من كتابه في المذاهب والاعتقادات المعاصرة لزمانه من صابئة، وثنوية، ومنانية، وديصانية، وخرمية، ومزدكية وغيرها مع أخبار رجالها وأسماء كتبهم. وأنهى ابن النديم كتابه بالمقالة العاشرة التي خصصها للكيمائيين، والصنعويين من الفلاسفة القدماء والمحدثين وأخبارهم وأسماء كتبهم. ثالثًا: يعتبر الكتاب والحال كذلك دائرة معارف علمية أدبية فقهية في نطاق فن التراجم، والتراجم في مفهومه تراجم مادة وتراجم أعيان، بمعنى أنه يقدم المادة، ويعرف بها ثم بعلمائها وأعلامها تعريفًا مختصرًا، ولكنه شافٍ مؤدٍ للغرض، ثم يذكر أسماء كتبهم. وهو في هذا الميدان عالم ثقة، ورائد لكل من جاء بعده على مختلف مدارسهم. وهو بعد ذلك كله مبدع على اختصاره، مفصل على إيجازه، جماع ثقة للأخبار، معرف بارع بالأعلام والعلماء، صيرفي في معرفة الكتب وتصنيفها. ومن ثم فإن "فهرست" ابن النديم في عالم المعرفة العربية والتراجم العلمية، مثل قطعة من الجوهر صغيرة الحجم، والجرم، نفيسة القيمة، والمحتوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الفصل الثاني: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي : تاريخ بغداد: إن كتاب تاريخ بغداد واحد من أشهر كتب التراجم في ميدان الثقافة العربية والإسلامية، وهو بالإضافة إلى شهرته قمة شامخة الذروة من كتب التراجم صدق رواية وحسن عرض وثقة أخبار، وهو في الوقت نفسه رأس المدرسة التي تنهج الترجمة لأعيان مدينة بعينها، وهو في هذا المقام رأس أساتذة هذه المدرسة جميعًا*. ومؤلف "تاريخ بغداد"هو الخطيب البغدادي واسمه كاملًا أحمد بن علي بن ثابت وكنيته أبو بكر، ومولده في غزية -منتصف الطريق بين الكوفة ومكة- سنة 392هـ ووفاته في بغداد سنة 463هـ. وصاحب تاريخ بغداد من الرواة الثقات والمحدثين الصادقين والعلماء الأجلاء والأدباء الأبيناء، رحل في سبيل العلم إلى مكة والبصرة والكوفة والدينور حتى إذا استقامت له أسباب المعرفة وتهيأت له مؤهلات الرواية وأسلس العلم له قياده جلس في جامع المنصور في بغداد يلقى دروسه على طالبي العلم. ومن الطريف أنه واحد من العلماء القليلين الذين أخذ عنهم أساتذتهم، فقد روى عنه من شيوخه، الأزهري، كما روى عنه آخرون كثيرون1. وقد ثار عليه الحنابلة أكثر من مرة؛ لأنه كان ينكر الفقه على الإمام أحمد ويقول في ترجمته: أحمد بن حنبل سيد المحدثين. ويقول في ترجمة الشافعي: إنه تاج الفقهاء. وكان الخطيب البغدادي عالمًا وقورًا حسن الشكل، وفير العلم في الفقه والحديث   *هناك كتاب نفيس بعنوان "بغداد" يقع في أربعة عشر مجلدًا لابن طيفور لا يزال مخطوطًا ولم ينشر منه إلا الجزء السادس فقط، وهو كتاب تاريخ وأدب وليس مما يقع تحت موضوعات التراجم. 1 معجم الأدباء "4/ 32". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 والتاريخ واللغة والأدب والأخبار، يذكره ياقوت بقوله: ختم به ديوان المحدثين، ويذكره ابن خلكان فيقول: ومن العجب أنه كان في وقته حافظ المشرق، وأبو عمر يوسف بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب حافظ المغرب، وماتا في سنة واحدة1. ويذكر مؤرخو الخطيب البغدادي خبرًا ينم عن ذكائه وأهليته للرواية وقدرته على كشف الزيف وسرعة بديهته وقوة عارضته فضلًا عن حفظه للتاريخ. أما الخبر فهو أن أحد اليهود أظهر كتابًا ادعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وأنه خط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعرض الكتاب على الخطيب فقال: هذا مزور، فقيل له: من أين لك ذلك؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وكان مات يوم الخندق سنة خمس، وهكذا أثبت الرجل بمنطقه وعلمه بالتاريخ تزوير الكتاب2. ولم يكن مقام الخطيب كله في بغداد، فقد اضطر للاستثار والخروج منها لأسباب اختلف في ذكرها المؤرخون، ووفد إلى الشام، وأقام في "صور" مدة من الزمان تردد خلالها على القدس أكثر من مرة، ومر في طرابلس وحلب وأقام بهما وقتًا قليلًا، ثم عاد إلى بغداد قبل وفاته بعام واحد فوقف كل كتبه، وفرق أمواله في وجوه البر وعلى أهل العلم الحديث، وما لبث المرض أن حط عليه فمات في ذي الحجة سنة 463هـ تاركًا من المؤلفات مائة كتاب على رواية ابن خلكان 3 وستة وخمسين على رواية ياقوت الحموي 4 في مختلف الفنون أهمها على الإطلاق "تاريخ بغداد". على أن للخطيب البغدادي كتبًا أخرى مطبوعة غير تاريخ بغداد منها الكفاية والرواية في مصطلح الحديث، وتقييد العلم، والتطفيل. ومن كتبه المخطوطة: البخلاء، كتاب الخيل، الفوائد المنتخبة في الحديث، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ويقع في عشرة مجلدات، الفقيه والمتفقه في اثنى عشر جزءًا، الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة الأسماء والألقاب، تلخيص المتشابه في الرسم، كتاب التنبيه، والتوقيف في فضائل الخريف. وأما كتبه في الحديث فمن الوفرة والدقة بمكان، منها -غير ما ذكرنا- على سبيل المثال: الرحلة في طلب الحديث، شرف أصحاب الحديث، كتاب المؤتنف في تكملة المختلف والمؤتلف، كتاب التبيين لأسماء المدلسين، كتاب من حدث فنسي، كتاب رواية   1 وفيات الأعيان "1/ 93". 2 معجم الأدباء "3/ 18". 3 وفيات الأعيان "1/ 92". 4 معجم الأدباء "4/ 19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الآباء عن الأبناء، كتاب الرواة عن مالك بن أنس، كتاب الاحتجاج للشافعي فيما أسند إليه والرد على الجاهلين بطعنهم عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 منهج كتاب تاريخ بغداد : إنه بيت القصيد في هذا الفصل وإنما -كعادتنا- وكنهج علمي سليم نجد من الضرورة بمكان التعريف بالمؤلف تعريفًا سريعًا حتى يسبر قارئ كتبه غوره، ويلم بأطراف علمه وطبيعة ثقافته، وإن المؤرخين وكتاب التراجم والطبقات حين يترجمون للخطيب البغدادي يقولون: لو لم يكن له إلا "التاريخ" -يعني تاريخ بغداد- لكفى، فلنعرض إذن لمنهج الكتاب وطبيعته على النسق الذي تعودنا السير عليه والنهج الذي اخترناه لأنفسنا مسلكًا أقرب إلى اليسر للإلمام بالكتاب والإبانة عن مزاياه والإشارة إلى ما فاته فيما إذا كان قد فاته شيء ذو بال. أولًا: لخص المؤلف منهجه لكتابه الطويل -أول الأمر- في سطور قصيرة موجزة غير مطولة، مجملة غير مفصلة وذلك في قوله: "هذا كتاب تاريخ مدينة السلام وخبر بنائها، وذكر كبراء نزالها، وذكر وارديها وتسمية علمائها. ذكرت من ذلك ما بلغني علمه وانتهت إلي معرفته، مستعينًا على ما يعرض من جميع الأمور بالله الكريم، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أخبرنا عبد العزيز بن أبي الحسن القرميسيني قال: سمعت عمر بن أحمد بن عثمان يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: سمعت عبد الأعلى يقول: قال لي الشافعي: يا يونس دخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: ما رأيت الدنيا1. كان ذلك هو منهج الخطيب في تأليفه كتابه الكبير: تاريخ المدينة لفضلها وخبر ساكنيها والوافدين عليها من العلماء في منهج من أدق المناهج، وهو منهج أهل الحديث في تحقيق الأخبار قبل روايتها، وقد مر بنا القول إن المؤلف كان كبير محدثي عصره، وإنه كان حجة في التمييز بين الصحيح، والمدلس من الأخبار. ثانيًا: أفرد المؤلف فصلًا غير قصير تحدث فيه عن بغداد منذ أن كانت أرضًا من أراضي السواد، ثم فكرة المنصور العباسي في بنائها. ومن الحديث، عن السواد ينطلق إلى الحديث، عن فتح العراق، وفارس أيام الخليفة عمر بن الخطاب، ثم يورد مناقب أهل بغداد وظروفهم معرضًا بالأحاديث المدلسة التي رويت في الطعن على أهاليها. ويدفع به حديث تاريخ بغداد إلى الكلام على أبي جعفر المنصور بانيها ومنشئها   1 تاريخ بغداد "1/ 3، 4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وتخطيط المدينة وبناء الكرخ والرصافة وبعض القصور مثل قصر الخلد والقصر الحسني والتاج ودار الخلافة، وأنهار بغداد وجسورها في شيء غير كثير من التفصيل. ثانيًا: يبدأ المؤلف في الترجمة للأعلام أو الأعيان الذين سلفت الإشارة إلى صفاتهم فيجعل ذكر المدائن وتسمية من وردها من الصحابة منطلقًا لترجماته، فيرتب الصحابة على حسب درجاتهم بادئًا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب جاعلًا له الترجمة الأولى، ثم يثني بالترجمة للحسن بن علي، ويثلث بأخيه الحسين، ثم يجعل القائد الفاتح سعد بن أبي وقاص صاحب الترجمة الرابعة، ومن بعده عبد الله بن مسعود ثم عمار بن ياسر ثم أبا أيوب الأنصاري، وهكذا يمضي في الترجمة للصحابة الذين وردوا المدائن -وهي في قلب العراق الذي أصبحت بغداد عاصمة له -الواحد بعد الآخر حتى يكملهم خمسين عدًّا بعبد الله بن الحارث بن ببة. رابعًا: فإذا انتهى الخطيب البغدادي من ذكر الصحابة الذين وردوا المدائن، وقد قرن أخبارهم بالفصل التاريخي الخاص بمدينة السلام يقول: "لم تخل بلد المدائن فيما مضى من أهل الفضل، وقد كان به جماعة ممن يذكر بالعلم فبدأنا بذكر الصحابة مفردًا عمن سواهم، وأما التابعون ومن بعدهم، فإنا سنورد أسماءهم في جملة البغداديين عند وصولنا إلى ذكر كل واحد منهم إن شاء الله تعالى1. ويمضي صاحب "التاريخ" في سرد من سوف يتناول ترجمتهم في كتابه الكبير البالغ أربعة عشر مجلدًا، فيذكر أنهم "الخلفاء والأشراف والكبراء والقضاة والفقهاء والمحدثون والقراء والزهاد والصلحاء والمتأدبون والشعراء من أهل مدينة السلام الذين ولدوا فيها أو في سواها من البلدان ونزلوها، وذكر من انتقل منهم عنها ومات ببلدة غيرها، ومن كان بالنواحي القريبة منها، ومن قدمها من غير أهلها، وما انتهى إلى معرفة كناهم وأنسابهم ومشهور مآثرهم وأحسابهم ومستحسن أخبارهم ومبلغ أعمارهم، وتاريخ وفاتهم، وبيان حالاتهم، وما حفظ فيهم من الألفاظ وعن أسلاف أئمتنا الحفاظ من ثناء ومدح، وذم وقدح، وقبول وطرح، وتعديل وجرح. جمعت ذلك كله وألفته أبوابًا مرتبة على نسق المعجم من أوائل أسمائهم، وبدأت منهم بذكر من اسمه محمد تبركًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتبعته بذكر من ابتدأ اسمه حرف الألف وثنيت بحرف الباء ثم ما بعدها من الحروف على ترتيبها إلى آخرها ليسهل إدراك ذلك على طالبيه وتقرب معرفته من مبتغيه، فإني رأيت الكتاب الكثير الإفادة، المحكم الإجادة، ربما أريد منه الشيء فيعمد من يريده إلى إخراجه فيغمض عن موضعه، ويذهب   1 تاريخ بغداد "1/ 212". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 بطلب زمانه، فيتركه وبه حاجة إليه وافتقار إلى وجوده"2. وهكذا أبان العالم الجليل عن منهجه في إيراد تراجمه إبانة دقيقة، وكأنما قد كابد ما يكابده كل باحث -حتى نحن المحدثين- حين يريد الرجوع إلى موضوع بعينه في متاهات كتب التاريخ والطبقات والآداب والعلوم والتراجم، وقد أغنانا عن مزيد من التفصيل إلا في القليل. وقد كان الخطيب صاحب فضل بين أصحاب التراجم حين استن سنة البداية بالترجمة للمحمدين من الأعلام تبركًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعه في ذلك كثيرون من أصحاب التراجم الذين جاءوا من بعده وفي مقدمتهم صلاح الدين الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات" الذي سنقف معه وقفة غير قصيرة. خامسًا: احتوى تاريخ بغداد على "7831" سبعة آلاف وثمانمائة وإحدى وثلاثين ترجمة على مسرى المجلدات الأربعة عشر، عدد المحمدين فيه ألف وخمسمائة وتسع وسبعون ترجمة ابتداء بمحمد بن إسحاق صاحب السيرة وانتهاء بمحمد بن ياسر أبي عبد الله البزار، وقد استغرقت تراجم المحمدين هؤلاء مجلدين ونصف مجلد من الكتاب هي نصف الأول والمجلدان الثاني والثالث بأكملهما. يضاف إليها ثلاثمائة وست عشرة ترجمة لمحمدين آخرين عاد إلى ترجمتهم فغطى بهم النصف الثاني من المجلد الخامس لسبب غير واضح، إذ كان المنهج الأمثل أن يأتي بهم جميعًا متصلين متلاحقين. إن عدد المحمدين المترجم لهم في الكتاب إجمالًا يبلغ والحال كذلك ألفًا وثمانمائة وخمسًا وتسعين ترجمة تستغرق -حسبما ذكرنا- مجلدات ثلاثة كاملة هي نصف الأول والمجلدات الثاني والثالث ونصف المجلد الخامس، وهو الفريق الأخير من المحمدين الذين وردت ترجمتهم في المجلد الخامس تبدأ أسماؤهم بمحمد بن حنيفة القصبي وتنتهي بمحمد بن عبد الله بن عبيد الله أبي الحسين المقرئ المؤدب. سادسًا: بعد أن ينتهي الخطيب البغدادي من ذكر العدد الوفير من المحمدين أو بالأحرى الدفعة الكبرى من المحمدين في المجلدات الثلاثة الأولى يثني بالترجمة لأعلام "الأحمدين" بادئًا بأحمد بن أحمد بن محمد بن عبيد الله الطالقاني ورقم ترجمته "1580" ألف وخمسمائة وثمانون، وانتهاء بأحمد بن العباس المؤدب الصوفي ورقم ترجمته "2713" ألفان وسبعمائة وثلاثة عشر، فيكون عدد الأحمدين الذين أورد الخطيب ترجمتهم ألفًا ومائة وثلاثا وثلاثين ترجمة شملت المجلد الرابع جميعه ونصف المجلد الخامس.   1 تاريخ بغداد "1/ 212، 213". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 سابعًا: ينتقل المؤلف رأسًا من الترجمة للأحمدين إلى الترجمة للأعلام من "الإبراهيميين" مسقطًا عددًا كبيرًا من الأعلام الذين تضعهم طبيعة التكوين الأبجدي لأسمائهم قبل إبراهيم مثل أبان وغيره، وهو بذلك قد فضل أن يترجم لمن تتفق أسماؤهم مع أسماء الأنبياء من الأعلام، ويتبع ترجمة الأعلام من مادة إبراهيم بالأعلام من مادة إسماعيل، ثم إسحاق. فإذا كان المجلد السابع فإنه يبدأه بالترجمة لمن اسم الواحد منهم "أيوب" ويتبعه بالأدارسة، ويتبع الأدارسة بمن اسمه "أسد" وبذلك يكون قد شذ عن القاعدة التي اختطها لنفسه بالابتداء بذكر من طابقت أسماؤهم أسماء الأنبياء. غير أنه لا يلبث أن يعود إلى أسماء الأنبياء في حرف الهمزة مترجمًا لمن كانت أسماؤهم "إسرائيل" ثم "آدم". وبعد ذلك يمضي في حرف الهمزة غير مرتبط بالترتيب الهجائي للحرف الذي يليها في بنية اسم العلم، فيترجم لمن اسمه "أصرم" ثم "أسود" ثم "أشعب" ثم "أبان" ثم "أشجع" ثم "أسباط" ثم "أسيد" ثم "أزاد" ثم "أنس" ثم "أنيس" ثم "أحيد" ثم "الأحوص" ثم "أسامة" ثم "أزهر"1. وإذا ما انتقلنا إلى حرف الحاء مثلًا وجدناه يبدأ بمن اسمه "حسن" ثم لا يكاد ينتهي من الحسنين حتى يترجم لمن يحملون اسم الحسين، وكلا الاسمين من الوفرة بمكان، وأغلب ظننا أنه بدأ حرف الحاء بالحسنين تبركًا بهما تبركه باستفتاح الكتاب بالتراجم لمن يتشرفون بحمل اسم جدهما عليه الصلاة والسلام. ولكننا لا نلبث أن نعود إلى نقطة عدم الالتزام بالترتيب الهجائي لبنية الاسم باستثناء الحرف الأول منه وهو الحاء، ذلك أنه بعد الحسين يذكر أسماء "حماد" ثم "حميد" ثم "حامد" ثم "حمدان" ثم "حمدون" ثم "حمزة" ثم "حفص" ثم "الحارث" ثم "الحكم" وهكذا يبدو أن الرجل لا يلتزم من الترتيب الهجائي غير الحرف الأول من الاسم الأول، الأمر الذي يعرض الباحث عن عين من الأعيان أو علم من الأعلام إلى مشقة كبيرة في البحث عنه من خلال الحرف الأول من اسمه. ثامنًا: هناك ملاحظة قد تيسر للباحث أمر بحثه للوصول إلى الكشف عن العلم الذي يبحث عنه، إذا كان هذا العلم يحمل اسم نبي من الأنبياء، فحرف السين مثلًا يبدأ بمن اسمه "سليمان"2 وحرف الميم يبدأ بمن اسمه "موسى" وحرف الهاء يبدأ بـ"هارون" وحرف الياء   1 راجع تراجم المجلد السابع. 2 راجع تراجم المجلد التاسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 يبدأ بـ"يحيى" ثم "يعقوب" ثم "يونس" ثم يشذ عن القاعدة، فيذكر "يزيد" ثم يعود مرة ثانية إليها فيذكر "يونس"، ثم ينطلق في ذكر بقية الأسماء التي تبدأ بحرف الياء على غير ترتيب. ومما ييسر على الباحث أيضًا أمره في الأسماء المعبدة، أن المؤلف يبدأ بالعبادلة "من اسمه عبد الله" وهم كثيرون "402 من الأسماء" ثم يثني بعباد الرحمن، ثم بمن اسمهم "عبيد الله" ثم "عبد الملك" ثم "عبد العزيز" ثم "عبد الواحد" ثم "عبد الوهاب" ثم "عبد الصمد" ثم "عبد السلام" ثم "عبد الأعلى" ثم "عبد الكريم" ثم "عبد الرحيم" ثم "عبد الباقي" ثم "عبد الرازي" ثم من اسمه "عبيد" ثم "عبادة" ثم "عبد الجبار" ثم "عبدوس" ثم "عبد الغفار" ثم "عبيدة" ثم "عبد المؤمن" ويمضي بنا المؤلف في ذكر ترجمة بقية ما عبد من الأسماء في غير ما نهج واضح أو غرض ظاهر. ولكنه لا يكاد ينتهي من ذكر المعبدة من الأسماء، حتى ينتقل إلى ذكر من اسمهم "عيسى" والأمر يبدو والحال كذلك أنه من باب التبرك بسيدنا عيسى عليه السلام على اعتبار أنه رسول كريم، وعبد عزيز من عباد الله الكرام. وتكريم الأسماء يبقى ماثلًا في ذهن المؤلف إذ إنه يتبع ذكر تراجم من اسمهم "عيسى" بمن تماثل أسماؤهم أسماء الخلفاء الراشدين: عمر -وهو كثير جدًّا- ثم عثمان ثم علي وهو أوفر كثرة. ويتبع ترجمة "العليين" بمن اسمه "عباس" ثم "عمرو" ثم "عامر" ثم "العلاء" ثم "عاصم" ثم "عمار" ثم "عكرمة" ثم "عقبة" ثم "عمران"، ويمضي المؤلف بعد ذلك في ذكر من بدأت أسماؤهم بالعين في غير ما التزم لطبيعة الترتيب الهجائي لحروف الاسم بعد أن استوفى غرضه من تقديم من رأى أنهم أهل للتقديم. تاسعًا: يعقد الخطيب البغدادي في القسم الأخير من المجلد الرابع عشر من كتابه فصلين متميزين، أحدهما لمن عرف بكنيته دون اسمه، إذ إن كثيرًا من الأعلام عرفوا بكناهم دون أن تعرف أسماؤهم، أو أن تكوين اسم الواحد منهم كنية في حد ذاته، كأن يكون اسمه "أبو إبراهيم" أو "أبو اليزيد" أو "أبو العينين" وهذا شائع في كثير من البلدان العربية وبخاصة مصر. وأول من ترجم لهم الخطيب البغدادي في باب الكنى أبو المؤمن الوائلي "ترجمة رقم 7689" وآخرهم أبو بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد المازني "ترجمة رقم 7799" فيكون عدد الأسماء التي ترجم لها بالكنى مائة اسم وعشرة أسماء. وأما الفصل الخاص الثاني الذي أشرنا إليه فقد جعله المؤلف للنساء من أهل بغداد اللائي ذكرن بالفضل، ورواية العلم وعددهن إحدى وثلاثون من فضليات النساء وشهيراتهن. أولاهن: الخيزران زوجة المهدي "ترجمة رقم 7800" وآخرهن: خديجة بنت محمد بن علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الواعظة المعروفة بالشاهجانية. وكتاب تاريخ بغداد واحد من أنفس وأدق وأصدق كتب التراجم بصفة عامة وتراجم أبناء البلد الواحد بصفة خاصة. والمؤلف بحكم شهرته بالرواية، ومعرفته بالشعر وتبحره بالأدب يرصع تراجمه العديدة التي بلغت سبعة الآف وثمانمائة وإحدى وثلاثين ترجمة بالخبر الأدبي الطريف والنص الشعري الأنيق، والعبارة البارعة والصوغ الأنيق الذي جعل الكتاب لازمًا لكل متأدب ضروريًّا لكل مؤرخ، على الرغم مما في منهج ترتيب تراجمه من صعاب سبقت الإشارة إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 الفصل الثالث: معجم الأدباء لياقوت الرومي : معجم الأدباء: إذا ذكرت كتب التراجم فإن كتاب معجم الأدباء يأتي في مقدمتها شهرة ونفعًا، ويتربع على رأسها أهمية وخطرًا، ذلك أنه يمتاز عن غيره من كتب التراجم التي ذكرنا في هذا الباب بأنه كتاب متخصص في تراجم الأدباء، وبخاصة ذوي التآليف منهم، وليس الأمر كذلك في بقية كتب التراجم التي قدمنا؛ ذلك لأنها اهتمت بكل الأعيان على اختلاف شخصياتهم وصفاتهم ونوازعهم، ومقاماتهم من خلفاء وملوك وعلماء، وفقهاء ومحدثين وزهاد وصوفيين وقضاة ووزراء، وقواد وحجاب وكتاب وشعراء وفلاسفة وأطباء إلى غير ذلك من الأعلام والأعيان. أما هنا في هذا الكتاب فليس ثمة مكان إلا لعالم، وليس من ترجمة أخرى إلا لأديب صاحب تآليف ولذلك كان الكتاب في جوهره مثلما هو في مخبره اسمًا على مسمى. وأما مؤلف الكتاب فهو بدوره من الشهرة بمكان، إنه ياقوت بن عبد الله الحموي. والواقع أن نسبة الحموي لا تعني أن هذا العالم الجليل ذو صلة ما بمدينة حماه الجليلة في القطر الشامي، ذلك أن ياقوت مولود ببلاد الروم حوالي سنة 575هـ، ومن ثم فإنه يعرف بياقوت الرومي، أما صفة الحموي فهي نسبة إلى الرجل الذي ابتاعه، وهو بغدادي اسمه عسكر بن أبي نصر إبراهيم الحموي، ولذلك فإنه تجدر الإشارة هنا إلى الخطأ الذي يقع فيه كثير من المتأدبين حينما يربطون بين ياقوت ومدينة حماة، فقد ذهب عدد منهم إلى أنه حموي المولد وفي مقدمتهم ابن العماد1. إن عالمنا الجليل كان يلقب بشهاب الدين، ويكنى بأبي عبد الله، وهو على الأغلب لم يكن يعرف من أبوه ومن ثم جعل اسمه ياقوت بن عبد الله، وإذن فهو رومي المولد، حموي   1 شذرات الذهب أحداث سنة "626". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 المولى، بغدادي الدار. لقد رغب عسكر مولى ياقوت في أن يعلم فتاه مبادئ القراءة والكتابة، والحساب حتى يساعده في ضبط أمور تجارته، وكان الأرقاء يتاجرون لمواليهم ويرتحلون ويبيعون ويشترون، فقام ياقوت بالعديد من الأسفار، وكان في الوقت نفسه مغرمًا بالعلم فتعلم شيئًا من النحو واللغة وتحسين الخط. وما لبث ياقوت أن نال حريته، وانعتق من عقال الرق بعد جفوة جرت بينه وبين سيده فلم يجد ما يتكسب به قوت يومه غير النسخ بالأجرة، ولعل عملية النسخ هذه هي السبب في الخير الوفير الذي فاضت به ملكة ياقوت في التأليف فترك لنا من الكتب القيمة ما سوف يأتي حديثه بعد حين. ويبدو أن عسكرًا احتاج مرة أخرى إلى ياقوت فطلب إليه معاودة الاتجار له فوافق ياقوت إلى ذلك العرض، وما إن عاد من سفرته الرابحة حتى كان عسكر قد فارق الحياة فأعطي ياقوت أسرة مولاه ما أرضاها من المال واستبقى لنفسه منه ما يستطيع أن يجعله بداية لاستثمار ورأس مال للاتجار. وفي سنة 603هـ ترك ياقوت بغداد واتجه إلى دمشق، وأقام في أسواقها غير أنه كان متأثرًا بمذهب الخوارج شديد التحامل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فصدر عنه في مناظرة مع أحد البغداديين في دمشق ما لا يليق من القول في حق الخليفة الراشد، وتألب الناس عليه فلم يجد بدًّا من أن يغادر دمشق هاربًا بعد إقامة طويلة فيها إلى حلب، ومن حلب انتقل إلى الموصل، وظل يضرب في أكناف الأرض متجهًا إلى إريل ومنها إلى خراسان فاستوطن مرو وعمل فيها بالتجارة التي كانت الكتب تشكل جانبًا منها. ثم عن له أن يخرج من مرو إلى نسا فخوارزم. ويتصادف أن يخرج التتار خروجهم المشئوم وهو في تلك المدينة الأخيرة سنة 616هـ، فلا يجد ياقوت بدًّا من أن ينجو بنفسه فيهرب حتى تلقي به عصا الترحال في الموصل ممزق النفس معذب الخاطر. ومن الموصل يكتب رسالة إلى القاضي جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي وزير صاحب حلب يصف فيها حاله وما حل به من متاعب وما تعرض له من مخاطر تعتبر نفحة من الأدب الرفيع بمعيار ذلك الزمان1. ثم تتهيأ لياقوت أسباب السفر إلى حلب مرورًا بسنجار فأقام بظاهر حلب منذ وصوله إليها حوالى 617 إلى أن وافاه أجله فيها سنة 626هـ. لقد أفاد ياقوت من الأسفار فائدة جليلة ساعدته على تأليف بعض كتبه خاصة كتاب   1 وفيات الأعيان "9/ 128". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 البلدان، كما كان أديبًا أريبًا ذا همة عالية في تحصيل المعارف، ومن ثم فقد ألف عددًا من الكتب ذات النفع الجليل، هي: أخبار الشعراء المتقدمين والمتأخرين1. معجم البلدان، معجم الشعراء، معجم الأدباء، كتاب المشترك وضعًا المختلف صقعًا، كتاب المبدأ والمآل في التاريخ، كتاب الدول، مجموع كلام أبي علي الفارسي، عنوان كتاب الأغاني، المقتضب في النسب، كتاب أخبار المتنبي. غير أن هذه الكتب على نفاستها تأتي في المرتبة بعد كتابيه النفيسين: معجم البلدان، ومعجم الأدباء.   1 لعله الكتاب الذي ورد في بعض المصادر بعنوان إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 منهج ياقوت في معجم الأدباء : لقد اجتهد ياقوت كل الاجتهاد في أن يجعل كتابه هذا متميزًا إلى حد كبير عن بقية كتبه، وعن كتب من سبقه من المصنفين القدامى، ويذكر أن ذلك كان أملًا راوده منذ أن أحب الأدب وأغرم بأخبار العلماء، وشغف بأحوال الأدباء يبحث عن نكت أقوالهم بحث المغرم الصب والمحب من المحب، ويطوف على مصنف فيهم يشفي الغليل ويداوي لوعة العليل فما وجد في ذلك تصنيفًا شافيًا ولا تأليفًا كافيًا1، هذا على الرغم من العديد من العلماء السابقين عليه الذين أولوا هذا الموضوع الكثير من العناية من أمثال أبي بكر محمد بن عبد الملك التاريخي، وأبي محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه، وأبي عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، وأبي سعيد الحسن بن عبد الله المرزبان السيرافي، وأبي بكر محمد بن حسن الإشبيلي الزبيدي، وأبي المحاسن المفضل بن محمد بن مسعر المغربي، وعلي بن فضال المجاشعي، وكمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري، ويمكن أن نعرض منهج ياقوت ونستعرض معجمه عن الأدباء على النحو التالي: أولًا: إن ياقوتا يذكر هؤلاء المؤلفين جميعًا، ولا يحدد من أسماء كتبه إلا القليل مثل شجرة الذهب في أخبار من ذهب للمجاشعي، الذي لا يعتني بالأخبار، ولا يعبأ بالوفيات، ومثل نزهة الألبا في أخبار الأدبا" للكمال بن الأنباري. ويرى ياقوت أن كتاب أبي بكر الإشبيلي الزبيدي هو أفضل هذه الكتب جميعًا وأكثرها فوائد وأوفرها تراجم وفرائد. ولكن هذه الكتب التي ذكرها جميعًا كانت حسب اعترافه مصادره في تأليفه كتابه الذي نحن بصدده، فما يكاد يذكر كتابًا منها حتى يقول: نقلنا فوائده، وبذلك تكون أكثر مصادر ياقوت في معجم الأدباء بعضًا معروف العنوان والمؤلف، والبعض الآخر معروفًا اسم مؤلفه   1 مقدمة معجم الأدباء "1/ 46". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وإن حجب عنا -دون قصد- عنوان الكتاب. غير أن هذه الكتب جميعًا على وفرة نفعها وجلال قيمتها، لم تكن لديه بالمنزلة التي يرتضيها، فحاول تأليف كتاب يرضي به طموحه العلمي شاملًا أخبار كل ذي ثقافة وجميع أصحاب المعرفة من النحويين، واللغويين، والنسابين والقراء المشهورين، والأخباريين، والمؤرخين، والوراقين، المعروفين، والكتاب، والمترسلين والخطاطين، والمؤلفين. إن ياقوتًا يوضح منهجه بهذا القول من مقدمة كتابه: "وكنت مع ذلك أقول للنفس مماطلًا، وللهمة مناضلًا، رب غيث غب البارقة، ومغيث تحت الخافقة إلى أن هزم الياس الطمع، واستولى الجد على اللعب الولع، وعلمت أنه طريق لم يسلك، ونفيس لم يملك، فاستخرت الله الكريم واستنجدت بحوله العظيم، وجمعت في هذا الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويين واللغويين والنسابين، والقراء المشهورين. والأخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين، والكتاب المشهورين، وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل من صنف في الأدب تصنيفًا، أو جمع في فنه تأليفًا، مع إيثار الاختصار، والإعجاز في نهاية الإيجاز ولم آلُ جهدًا في إثبات الوفيات، وتبيين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم، ومستحسن أخبارهم، والأخبار بأنسابهم، وشيء من أشعارهم، فأما من لقيته أو لقيت من لقيه، فأورد لك من أخباره وحقائق أموره، ما لا أترك لك بعده تشوقًا إلى شيء من خبره، وأما من تقدم زمانه، وبعد أوانه، فأورد من خبره ما أدت الاستطاعة إليه، ووقفني النقل عليه، وفي تردادي إلى البلاد، ومخالطتي للعباد، وحذفت الأسانيد إلا ما قل رجاله، وقرب مناله مع الاستطاعة لإثباتها سماعًا وإجازة، إلا أنني قصدت صغر الحجم، وكبر النفع، وأثبت مواضع نقلي ومواطن أخذي من كتب العلماء المعول في هذا الشأن عليهم، والمرجوع في صحة النقل إليهم، وكنت قد شرعت عند شروعي في هذا الكتاب أو قبله، في جمع كتاب في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء، ونسجتها على هذا المنوال، وسبكتها على هذا المثال، في الترتيب، والوضع والتبويب، فرأيت أكثر أهل العلم المتأدبين، والكبراء المتصدرين، لا تخلو قرائحهم من نظم شعر، وسبك نثر، فأودعت ذلك الكتاب كل من غلب عليه الشعر، فدون ديوانه، وشاع بذلك ذكره وشأنه، ولم يشتهر برواية الكتب وتأليفها، والآداب وتصنيفها، وأما من عرف بالتصنيف، واشتهر بالتأليف، وصحت روايته، وشاعت درايته وقل شعره، وكثر نثره، فهذا الكتاب عشه ووكره، وفيه يكون ثناؤه وذكره، وأجتزئ به عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 التكرار هناك، إلا النفر اليسير الذي دعت الضرروة إليهم، ودلتنا عنايتهم بالصناعتين عليهم، ففي هذين الكتابين أكثر أخبار الأدباء من العلماء والشعراء، وقصدت بترك التكرار، خفة محمله في الأسفار، وحيازة ما أهواه من هذا النشوار. وهكذا يكون قد خص الأدباء، وكل من لهم بالأديب وشيجة، أو ربطتهم بالعلم مشاركة دون غيرهم بالترجمة، والرواية لهم والإخبار عنهم وذكر آثارهم العلمية، ومؤلفاتهم الأدبية الأمر الذي جعل هذا الكتاب من كتب التراجم متميزًا عن غيره بالتخصص، متفردًا عما سواه في نهجه وموضوعه. ثانيًا: التزم ياقوت في ترتيب الأعيان والأدباء الذي ترجم لهم حروف المعجم التزامًا دقيقًا في الاسم، ثم في اسم الأب ثم في اسم الجد، فإن تطابقت الأسماء جعل التقدم في الذكر لمن تقدمت وفاته، وأما عن الأقطار والأمصار فلم يميز بين بلد وبلد ولا مصر ومصر، أو صقع وصقع وإنما ذكر أعيان الأدباء على امتداد رقعة العالم الإسلامي من أواسط آسيا شرقًا إلى شواطئ المحيط الأطلنطي غربًا من مغرب وأندلس، ويوضح ياقوت هذا النهج توضيحًا في قوله: "وجعلت ترتيبه على حروف المعجم، أذكر أولًا من أول اسمه "ألف" ثم من أول اسمه "باء" ثم "تاء" ثم "ثاء" إلى آخر الحروف، وألتزم ذلك في أول حرف من الاسم وثانيه وثالثه ورابعه، فأبدأ بذكر من اسمه "آدم" ألا ترى أن أول اسمه "همزة" ثم "ألف" ثم من اسمه إبراهيم؛ لأن اسمه "ألف" وبعد الألف "باء" ثم كذلك إلى آخر الحروف، وألتزم ذلك في الآباء أيضًا، فاعتبره، فإنك إذا أردت الاسم تجد له موضعًا واحدًا لا يتقدم عليه، ولا يتأخر عنه، اللهم إلا أن يتفق أسماء عدة رجال وأسماء آبائهم فإن ذلك مما لا حصر فيه إلا بالوفاة، فإني أقدم من تقدمت وفاته على من تأخرت، وأفردت في آخر كل حرف فصلًا أذكر فيه من اشتهر بلقبه على ذلك الحرف، من غير أن أورد شيئًا من أخباره فيه، إنما أدل على اسمه واسم أبيه، لتطلبه في موضعه، ولم أقصد أدباء قطر، ولا علماء عصر، ولا إقليم معين، ولا بلد مبين، بل جمعت للبصريين والكوفيين، والبغداديين، والخراسانيين والحجازيين، واليمنيين، والمصريين، والشاميين، والمغربيين، وغيرهم، على اختلاف البلدان، وتقارب الأزمان حسب ما اقتضاه الترتيب، وحكم بوضعه التبويب، لا على قدر أقدارهم في القدمة والعلم والتأخر والفهم2.   1 معجم الأدباء: المقدمة "1/ 48". 2 المصدر: المقمة "ص51، 52". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 والحق أن ترتيب التراجم في معجم الأدباء من الدقة بمكان، فقد جنب القارئ بدقته الكثير من المتاعب التي يتعرض لها حين يحاول الاستعانة بكتاب تراجم عظيم آخر، مثل "تاريخ بغداد" على سبيل المثال الذي لم نستطع أن نجد لترتيبه مفاتيح إلا في نطاق اجتهاد محدود وقواعد غير ثابتة يصدق بعضها، ويشذ أكثرها. ومع استعراضنا لمعجم الأدباء كله، واستقراء ترتيبه لم تقع العين إلا على أخطاء قليلة لا تستحق الاحتفال، فقد وردت ترجمة "محمد بن واقد" على سبيل المثال بين ترجمة محمد بن عمر بن عبد العزيز، وترجمة محمد بن فتوح الأزدي1، وكذلك وردت ترجمة ميمونة أبو ربيعة الأصبهاني بين ترجمة مكي بن زيان المكسيني وترجمة منداد بن عبد الحميد الكرخي 2، وواضح أن كلا من الترجمتين قد حشرت في غير موضعها حسب الترتيب الهجائي، ويقيننا أن هذا الخطأ قد وقع من محقق الكتاب وليس من المؤلف. ثالثًا: يتأرجح ياقوت في صدد تقديم كتابه بين طيبة ذوي الوقار، وتواضع العلماء وبين فخر ذوي التيه وإدلال ذوي الخيلاء، وهو في تواضعه ربما كان أكثر إدلالًا من في خيلائه، ولكن في أسلوب الحكيم وسياق الأريب، إنه يقول متواضعًا طالبًا العفو عن الزلل والغفران عن الخطأ هذا القول العذب الطريف3: "وأنا قد اعترفت بقصوري، فيما اعتمدت عن الغاية وتقصيري عن الانتهاء إلى النهاية، فاسأل الناظر فيه ألا يعتمد العنت، ولا يقصد قصد من إذا رأى حسنًا ستره، وعيبًا أظهره، وليتأمله بعين الإنصاف لا الانحراف، فمن طلب عيبًا وجد وجد ومن افتقد زلل أخيه بعين الرضا فقد، فرحم الله امرءًا قهر هواه وأطاع الإنصاف ونواه وعذرنا في خطأ إن كان منا، وزلل إن صدر عنا، فالكمال محال لغير ذي الجلال، فالمرء غير معصوم، والنسيان في الإنسان غير معدوم، وإن عجز عن الاعتذار عنا والتصويب، فقد علم أن كل مجتهد مصيب، فإنا وإن أخطأنا في مواضع يسيرة، فقد أصبنا في مواطن كثيرة، فما علمنا فيمن تقدمنا وأمنا من الأئمة القدماء إلا وقد نظم في سلك أهل الزلل وأخذ عليه شيء من الخطل وهم هم، فكيف بنا مع قصورنا واقتصارنا وصرف جل زماننا في نهمة الدنيا وطلب المعاش، وتنميق الرياش، الذي مرادنا منه صيانة العرض، وبقاء ماء الوجه لدى العرض. وإنما تصديت لجميع هذا الكتاب لفرط الشغف والغرام، والوجد بما حوى والهيام، لا لسلطان أجتديه، ولا لصدر أرتجيه، غير أني أرغب إلى الناظر فيه أن يترجم علي ويعطف   1 معجم الأدباء "18/ 277-282". 2 المصور "19/ 173". 3 المصدر: المقدمة "ص56، 57، 58". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 جيد دعائه إلي، فذلك ما لا كلفة فيه عليه ولا ضرر يرجع به إليه، فربما انتفعت بدعوته وفزت بما قد أمن هو من مغرته. وفي نطاق التيه والإدلال، يرق المؤلف في تيهه ويلتمس العذر لنفسه في إدلاله في نطاق الحجة المقبولة العبارة المستساغة ومن خلال عدة أبيات من الشعر المتوسط فيقول1: ومع ما تقدم من اعتذارنا، ومر من تنصلنا، واستغفارنا، فقد رآني جماعة من أهل العصر وقد نظمت لآلئ هذا الكتاب، وأبرزته في أبهى من الحلي على ترائب الكعاب، فاستحسنوه والتمسوه لينسخوه، فوجدت في نفسي شحًّا عليهم، وبخلًا بعطف جيده إليهم؛ لأنه مني بمنزلة الروح في جسد الجبان، والسوداوين من العين والجنان، مع كوني غير راضٍ لنفسي بذلك المنع، ولا حامد لها على ذلك الصنع، لكنها طبيعة عليها جبلت، وسجية إليها جبرت، حتى قلت فيه مع اعترافي بقلة بضاعتي في الشعر، وعلمي بركاكة نظمي والنثر: فكم قد حوى من فضل قول محبر ... ومن نثر مصقاع ومن نظم ذي فهم ومن خبر حلو طريف جمعته ... على قدم الأيام للعرب والعجم ترنح أعطافي إذا ما قرأته ... كما رنحت شرابها ابنة الكرم ولو أنني أنصفته في محبتي ... لجلدته جلدي وصندقته عظمي ولا عليه في ذلك كله فمن حق المبدع أن يتيه بما أبدع، وكتاب ياقوت يأتي بين الصفوة الممتازة من كتب التراجم التي لا يستغني عنها باحث، ولا يستطيع أن يغفل عن الانتفاع بها دارس، أو أديب. رابعًا: أتبع ياقوت مقدمة الكتاب بدراسة طريفة في فصلين: فصل خصصه للحديث عن فضل الأدب وأهله ضمنه مجموعة ممتعة من الأخبار اللطيفة العذبة حول العلم والجهل، بعضها شعر وبعضها نثر، وهي في جملتها مختارات محبوكة نسج الحواشي بين نكتة، ووصية، ومقطوعة شعرية، ومحاورة عذبة بين العلم والأدب يرجح فيها ياقوت جانب الأدب   1 المصدر "ص59". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 على جانب العلم، مع أقوال من بدائع الأصمعي ولطائف من بدائه التاريخي1، وأما الفصل الآخر فيخصصه لفضيلة علم الأخبار2 مع نخبة من المحاورات والأسماء والأشعار التي جعلها المؤلف بمثابة التوابل اللذيذة، التي توضع على الطعام، فتحبب إلى المرء تناوله في شهية والإقبال عليه في رغبة والاغتراف منه في لذة وتحصيل قدر منه في متعة. خامسًا: يضم الكتاب عددًا كبيرًا من التراجم قدرها ألف وخمس وستون ترجمة لأعلام الآداب، والمعارف على مساحة الأراضي الإسلامية، والعربية كلها منذ القرن الأول الهجري حتى زمان المؤلف بحيث إنه ترجم لبعض من رآهم والتقى بهم وتحدث إليهم. وتبلغ الترجمة أحيانًا حدًّا من الطول بحيث تصلح أن تكون كتابًا بذاته، وتبلغ حدًّا من القصر أحيانًا أخرى بحيث لا تتعدى كلمات سبعًا أو ثمانٍ. فمن التراجم الطويلة على سبيل المثال ترجمة الصاحب إسماعيل بن عباد التي استغرقت النصف الثاني كله من الجزء السادس من المعجم، ومنها ترجمة أحمد بن عبد الله بن سليمان المشهور بأبي العلاء المعري3 ومنها ترجمة الحسن بن عبد الله المرزباني النحوي المشهور بأبي سعيد السيرافي4، ومنها تلك التي لأسامة بن منقذ العالم الفارس الأمير الشاعر بحيث استغرقت ترجمته النصف الثاني بأكمله من الجزء الخامس من المعجم5. يقابل هذه التراجم المفصلة البالغة الطول تراجم أخرى بالغة القصر إلى المدى الذي يكاد يصاب المعجم بسبب قصرها بالخلل، ولكن لم يكن لدى ياقوت من حيلة في ذلك، فهو يرى أن ذكر الشيء القليل مهما بلغ من ضآلة خير من عدمه فمن التراجم البالغة القصر على سبيل المثال، تلك التي أوردها لأحمد بن عبد الله المهاباذي الضرير، يقول فيها ما نصه: "من تلاميذ عبد القادر الجرجاني، له شرح كتاب اللمع"6 أو تلك التي ترجم بها لجعفر بن هارون بن إبراهيم النحوي الدينوري، وفيها يقول: "أبو محمد، روى عنه ابن شاذان في شوال سنة أربع وأربعين وثلاثمائة"7. أو تلك التي ترجم بها لمحمد بن الحسن البرجي   1 مقدمة معجم الأدباء "ص66" وما بعدها. 2 المصدر نفسه "ص91" وما بعدها. 3 معجم الأدباء "3/ 107-218". 4 معجم الأدباء "8/ 145-232". 5 معجم الأدباء "5/ 168-317". 6 المصدر "3/ 219". 7 المصدر "7/ 205". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الأديب الأصفهاني، وفيها يقول "قال ابن مندة: مات في محرم سنة ثمانٍ وأربعين وأربعمائة"1 أو ترجمته للحسين بن أحمد بن بطَّويه، وهي أطراف التراجم القصيرة جميعًا؛ لأن المؤلف يقول فيها ما نصه: "لا أعلم من أمره شيئًا" 2 ثم ينسب إليه مقطوعتين من الشعر، واحدة في ثلاثة أبيات والأخرى في بيتين. هذا وقد يكون من الطرافة بمكان أن نذكر أن أسماء قليلة بعينها قد استولت من الكتاب على نصيب الأسد، أو أكثر بل إنها أربعة أسماء بالذات هي على الترتيب الأبجدي أحمد، والحسن وعلي، ومحمد. "فالأحمدون" استولوا على ثلثي الجزء الثاني فضلًا عن الأجزاء الثالث والرابع والخامس بأكملها. و "الحسنون" استولوا على كل من الجزءين الثامن والتاسع بأكملهما باستثناء أربع تراجم قصيرة في آخر التاسع. و "العليون" استولوا على الربع الأخير من الجزء الثاني عشر وكل من الأجزاء الثلاثة التالية له، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر باستثناء ثلاث تراجم قصيرة في آخر الجزء الخامس عشر، و "المحمدون" استولوا على ثلثي الجزء السابع عشر الأخيرين، وكل الجزء الثامن عشر، والثلث الأول من الجزء التاسع عشر، وبعملية حسابية صغيرة يتبين أن أصحاب هذه الأسماء الأربعة من العلماء قد استغرقوا أحد عشر جزءًا من الكتاب كله البالغ عدد أجزائه عشرين جزءًا. على أن ذلك الذي نذكره حول هذه الأسماء وسيادتها واستيلائها على ناصية العلم ليس إلا من باب الملاحظة العابرة، وهي في مجموعها أسماء لطيفة مباركة. هذا ملخص سريع لمنهج كتاب معجم الأدباء ومحتواه للعالم الهاوي الأريب الأديب النشط المبارك الإنتاج على الرغم من صغر سنه نسبيًّا، وزحمة أعماله وكثرة أسفاره ومشاكل الرق التي كابدها في أول حياته. إنه كتاب ثمين في قيمته، فريد في جوهره، خصيب في عطائه، كريم في فيضه، إنه عطاء العلم وفيض الأدب ممثلًا فيمن ترجم لهم بعناية وإحكام مستعينًا بالمصادر التي يطمئن إليها ذاكرًا أصحابها كلما سنحت له الفرصة أن يذكرهم، والكتاب من الشهرة والقيمة بحيث لا يستغني عنه باحث أو طالب علم، أو أديب، أو معلم.   1 المصدر "18/ 186". 2 المصدر "9/ 199". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الفصل الرابع: وفيات الأعيان وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان: لعل هذا الكتاب هو أشهر كتب التراجم عامة منها ما تخصص في تراجم أبناء بلد بعينه أو ما اشتمل على تراجم عامة بغض النظر عن الزمان والمكان، ولا يكاد يدانيه شهرة من كتب التراجم إلا كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. وهذا الكتاب وأقرانه لا يستطيع التوفر على تصنيفها إلا العلماء من أولي العزم للصبر الذي يحتاج إليه مؤلفه، فضلًا عن سعة في العلم وتبحر في الأدب وتمكن من اللغة، ومعرفة بالتاريخ وثقة في الرواية وحسن سمعة بين الناس. إن شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلكان مؤلف " وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان " كان جامعًا لكل هذه الصفات، لقد عاش بين سنتي 608-681هـ، وكان مولده بإربل وحصل فيها ما استطاع من ألوان العلم والمعرفة، وتتلمذ لمشهوري علمائها، ثم أصبح أستاذًا لكثير من العلماء والفضلاء وعلامة في الأدب والشعر وأيام الناس، ووصف بأنه كان كثير الاطلاع جليل المذاكرة وافر الحجة ذا هيبة ومكانة عند الناس. وإذا كانت الرحلة تفيد في تحصيل المعرفة، وتزيد المرء من تجارب الحياة، فقد رحل ابن خلكان، وسكن فترة من الزمان في كل من الموصل وحلب ومصر حيث تولى فيها نيابة القضاء، ثم رحل إلى الشام حيث تولى القضاء فيها للشافعية. ومن الطريف أن قضاة المذاهب الأربعة الشافعية والأحناف والمالكية والحنابلة كان كل واحد منهم -وابن خلكان منهم- يلقب بشمس الدين فقال في ذلك بعض شعراء دمشق الظرفاء: أهل دمشق استرابوا ... من كثرة الحكام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 إذ هم جميعًا شموس ... وحالهم في ظلام1 غير أن ابن خلكان كان يتمتع من بين هؤلاء جميعًا بمكانة خاصة من الاحترام في قلوب الناس، فقد عزل من قضاء دمشق، ثم أعيد بعد سبع سنوات، فكانت عودته مصدر راحة لنفوس الدمشقيين وصارت هذه المناسبة من الأهمية بحيث قال الأدباء فيها شعرًا طريفًا، فإن سعد الدين الفارقي يقول في ذلك: أذقت الشام سبع سنين جدبًا ... غداة هجرته هجرًا جميلًا فلما زرته من أرض مصر ... مددت عليه من كفيك نيلًا هذا ولابن خلكان نفسه شعر جيد طريف المعاني متعدد الأوزان أورد له كل من صاحب "الوافي بالوفيات" و "فوات الوفيات" شيئًا كثيرًا يصلح للدراسة. وتمنينا لو سمح المقام هنا بذكر شيء منه، غير أن أكثره لسوء الحظ في موضوع ينبو عن الذوق، ويخرج عن المألوف إذ إنه في شعر الغلمان، وهو أمر كان يجمل بعالم كبير مثل ابن خلكان أن يترفع عنه، ويسمو بنفسه عن التدني إليه. فإذا ما انتقل الحديث بنا إلى كتاب ابن خلكان الذي سماه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان مما ثبت بالنقل والسماع، أو أثبته العيان" نجده عنوانًا مفرط الطول الأمر الذي جعل المتأدبين والدارسين يعرفونه بالمقطع الأول من عنوانه "وفيات الأعيان". والكتاب يترجم للنابهين من الناس في المحيط الإسلامي والعربي، أيا كانت صفاتهم أو أمكنتهم أو عصورهم، وليس لطائفة واحدة أو بلدة بعينها كما هو الحال في نسق آخر من كتب التراجم، إنه يترجم للجميع من ملوك ووزارء وأئمة ومحدثين، وفقهاء، وعلماء، وفلاسفة ومتصوفة وأطباء وقضاة وولاة وقواد وكتاب وشعراء، وندماء وظرفاء وشهيرات النساء وكل من يقع السؤال عنه. هذا ويضع المؤلف مقدمة لكتابه يبين فيها منهجه في تأليفه كأحسن وأدق وأحدث ما يكون المنهج العلمي بمراحله المتكاملة. إنه يبدأ بالقراءة سنوات عديدة وفي أثناء ذلك يجمع المادة التي يستمد منها موضوعات كتابه، وهو يتثبت من صحتها وأمانة رواتها، ويوردها مرتبة على حروف المعجم ويبين لماذا اختار هذا السبيل دون غيره. ويتوقع أن قارئًا سوف يلاحظ أنه لم يترجم للصحابة والتابعين فيذكر في منهجه السبب الذي من أجله استثناهم فلم   1 الوافي بالوفيات "7/ 308، 309". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 يضمن كتابه أخبارهم، وفي تواضع العلماء الأصلاء يذكر ابن خلكان أنه غير معصوم من الخطأ، ويرجو ممن يجيئون بعده من أهل -مثابين- أن يصلحوا ما يكون قد وقع فيه من خطأ. بل إنه لا يغفل عن أن يذكر أنه ألف الكتاب في القاهرة في شهور سنة 654 الهجرية. فلنستمع إلى ابن خلكان، وهو يقدم لنا بنفسه في مقدمة كتابه المنهج الذي اتبعه، والطريق الذي سلكه في تأليف الكتاب1: "هذا مختصر في التاريخ، دعاني إلى جمعه أني كنت مولعًا بالاطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباهة وتواريخ وفياتهم وموالدهم، ومن جمع منهم كل عصر، فوقع لي منه شيء حملني على الاستزادة وكثرة التتبع، فعمدت إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، وأخذت من أفواه الأئمة المتقنين له ما لم أجده من كتاب، ولم أزل على ذلك حتى حصل عندي منه مسودات كثيرة في سنين عديدة، وغلق على خاطري بعضه فصرت إذا احتجت إلى معاودة شيء منه لا أصل إليه إلا بعد التعب في استخراجه، لكونه غير مرتب، فاضطررت إلى ترتيبه، فرأيته على حروف المعجم أيسر منه على السنين، فعدلت إليه، والتزمت فيه تقديم من كان أول اسمه الهمزة، ثم من كان ثاني حرف من اسمه الهمزة أو ما هو أقرب إليها، على غيره، فقدمت إبراهيم على أحمد؛ لأن الباء أقرب إلى الهمزة من الحاء، وكذلك فعلت إلى آخره، ليكون أسهل للتناول، وإن كان هذا يفضي إلى تأخير المتقدم وتقديم المتأخر في العصر، وإدخال من ليس من الجنس بين المتجانسين، لكن هذه المصلحة أحوجت إليه. ولم أذكر في هذا المختصر أحدًا من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا من التابعين رضي الله عنهم، إلا جماعة يسيرة تدعو حاجة كثيرة من الناس إلى معرفة أحوالهم، وكذلك الخلفاء: لم أذكر أحدًا منهم اكتفاء بالمصنفات الكثيرة في هذا الباب، لكن ذكرت جماعة من الأفاضل الذين شاهدتهم ونقلت عنهم، أو كانوا في زمني ولم أرهم ليطلع على حالهم من يأتي بعدي. ولم أقصر هذا المختصر على طائفة مخصوصة، مثل العلماء أو الملوك أو الأمراء، أو الوزراء أو الشعر، بل كل من له شهرة بين الناس ويقع السؤال عنه ذكرته وأتيت من أحواله بما وقفت عليه، مع الإيجاز كيلا يطول الكتاب، وأثبت وفاته ومولده إن قدرت عليه، ورفعت نسبه على ما ظفرت به، وقيدت من الألفاظ ما لا يؤمن تصحيفه، وذكرت من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمة، أو نادرة، أو شعر، أو رسالة ليتفكه به متأمله ولا يراه   1 وفيات الأعيان: المقدمة "1/ 19-21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 مقصورًا على أسلوب واحد فيمله، والدواعي إنما تنبعث لتصفح الكتاب إذا كان مفننًا. وبعد أن صار كذلك لم يكن بد من استفتاحه بخطبة وجيزة للتبرك بها، فنشأ من مجموع ذلك هذا الكتاب، وجعلته تذكرة لنفسي، وسميته كتاب "وفيات الأعيان"، وأنباء أبناء الزمان، مما ثبت بالنقل أو السماع، أو أثبته العيان" ليستدل على مضمون الكتاب بمجرد العنوان. فمن وقف عليه من أهل الدراية بهذا الشأن ورأى فيه خللًا فهو المثاب في إصلاحه بعد التثبت فيه، فإني بذلت الجهد في التقاطه، من مظان الصحة، ولم أتساهل في نقله ممن لا يوثق به، بل تحريت فيه حسبما وصلت القدرة إليه. وكان ترتيبي له في شهور سنة أربع وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة مع شواغل عاتقة، وأحوال عن مثل هذا متضايقة، فليعذر الواقف عليه، وليعلم أن الحاجة المذكورة ألجأت إليه؛ لأن النفس تحدثها الأماني من الانتظام في سلك المؤلفين بالمحال، ففي أمثالهم السائرة "لكل عمل رجال" ومن أين لي ذلك والبضاعة من هذا العلم قدر منذور، والمتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور، حرسنا الله تعالى من التردي في مهاوي الغواية، وجعل لنا من العرفان بأقدارنا أمنع وقاية بمنه وكرمه، آمين". إننا من خلال هذه المقدمة، أو هذا المنهج نستطيع أن نوضح أهم ميزات الكتاب وفوائده على النحو التالي: أولًا: يضم الكتاب ثمانمائة وخمسًا وخمسين ترجمة لأعلام المسلمين والعرب وكل من يمكن السؤال عنهم من رجال ونساء على مساحة العالم الإسلامي كله من بخارى سمرقند وحدود الصين شرقًا إلى المغرب والأندلس غربًا. هذا من حيث المكان، وأما من حيث الزمان، فإنه يغطي الحقب الزمنية منذ القرن الأول الهجري حتى قرابة نهاية القرن السابع الهجري، وهي الفترة التي توفي فيها المؤلف. ثانيًا: يذكر الكتاب سنة الميلاد ومكانه لكل عين يترجم له، كما يذكر سنة الوفاة ومكانها، وإذا كان هناك اختلاف بين المؤرخين في سني الوفاة أو الميلاد، فإنه يذكر هذا الخلاف، ثم يرجح ما يرى أنه الصواب، مثال ذلك قوله عن إبراهيم النخعي، وهو أول من ترجم له: "توفي سنة ست وقيل خمس وتسعين للهجرة وله تسع وأربعون سنة وقيل ثمان وخمسون سنة، والأول أصح"1. ثالثًا: التزم المؤلف ذكر من يترجم لهم بحسب ترتيب الحروف الهجائية في الاسم   1 وفيات الأعيان "1/ 25". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الأول فقط دون الاسم الثاني -أي اسم الأب- فإن أول من ترجم له هو إبراهيم بن حارثة ابن سعد بن ... النخع الفقيه الكوفي النخعي، والمترجم له الثاني هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، والثالث إبراهيم بن أحمد إسحاق المروزي الشافعي، ولو كان ابن خلكان سار على مطلق الترتيب الهجائي المعجمي سيرًا سليمًا لكان اتبع ذلك في كل من اسم الشخص المترجم له ثم اسم أبيه وبالتالي يكون المترجم له الثالث إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي مكان إبراهيم بن حارثة النخعي. وأما آخر من ترجم لهم، فهو يونس بن يوسف المخارقي. وإذا كان المؤلف قد فاته هذا الترتيب الحديث فإنه يعوضنا بتدقيقه في ضبط الأسماء والكنى والألقاب، والنسب، وأسماء البلدان التي ترد متصلة بالمترجم له، أو بمكان مولده أو وفاته ضبطًا صحيحًا سليمًا وبذلك يسهم إسهامًا ذا أهمية وخطر في أن يحسن الدارس نطق الأعلام. رابعًا: يذكر المؤلف الأحداث الكبرى والأمور ذات الخطر المتصلة بحياة المترجم، مكارمه إن كان حاكمًا ونماذج من شعره إن كان شاعرًا، وأخرى من كتابته إن كان كاتبًا، ومؤلفاته إن كان عالمًا وهكذا. لقد كان لياقوت فضل كبير على العلم والعلماء حين نقل كثيرًا من صفحات مؤلفات ثمينة ضاعت مع الزمان، فحفظ لنا نماذج تعلن عن طبيعتها، وأسلوبها ومحتواها فيساعد بذلك المهتمين والمحققين. وعلى سبيل المثال يذكر ابن خلكان في ترجمته لابن عبد البر أبي عمر يوسف بن عبد الله كتبه التي ألفها، ويذكر من بين كتبه كتاب "بهجة المجالس وأنس المجالس" وينقل منه ثلاث صفحات تفصح عن قيمة الكتاب1. لقد ظل قراء العربية يشتاقون إلى قراءة هذا الكتاب منذ عهد ابن خلكان حتى سنة 1962م أي قبل نحو عشر سنوات حتى عثر عليه مخطوطًا ونشر الجزء الأول من أجزائه الثلاثة2. وهكذا نجد ابن خلكان حين يترجم لعين من الأعيان يورد أهم ما يتصل بشخصه من أحداث أو أخبار أو طرائف أو نصوص شعرية أو نثرية أو مؤلفات، وهو من الكتب العمد في التراجم العامة في المكتبة العربية.   1 وفيات الأعيان ترجمة "رقم 837 جـ7/ 67" وما بعدها. 2 قام الأستاذ محمد مرسي الخولي بتحقيق الجزء الأول ونشره في القاهرة 1962. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فوات الوفيات : قديمًا قالوا: "الكتاب يقرأ من عنوانه" ولعلّ هذا المثل لا يكتمل انطباقه على شيء قدر انطباقه على كتاب "فوات الوفيات" أي ما فات ابن خلكان ذكره في كتابه "وفيات الأعيان". إن مؤلف فوات الوفيات ينص على ذلك نصًّا في مقدمته لكتابه فيقول " ... إن علم التاريخ مرآة الزمان لمن تدبر، ومشكاة أنوار يطلع بها على تجارب الأمم من أمعن النظر وتفكر، وكنت ممن أكثر لكتبه المطالعة، واستحلى من فوائده المراجعة، فلما وقفت على كتاب "وفيات الأعيان" لقاضي القضاة ابن خلكان، قدس الله روحه! وجدته من أحسنها وضعًا لما اشتمل عليه من الفوائد الغزيرة، والمحاسن الكثيرة، غير أنه لم يذكر أحدًا من الخلفاء، ورأيته قد أخل بتراجم فضلاء زمانه، وجماعة ممن تقدم على أوانه، ولم أعلم أذلك ذهول عنهم، أو لم يقع له ترجمة أحد منهم؟! فأحببت أن أجمع كتابًا يتضمن ذكر من لم يذكره من الأئمة الخلفاء، والسادة الفضلاء، من وفاته إلى الآن، فاستخرت الله تعالى، فانشرح لذلك صدري وتوكلت عليه، وفوضت إليه أمري. وسميته بـ"فوات الوفيات". والله تعالى المسئول أن يوفق في القول والعمل، وأن يتجاوز عن هفوات الخطأ والزلل ... ". أما مؤلف كتاب "فوات الوفيات" فهو محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الكتبي الداراني الدمشقي المولود في داريا من قرى دمشق، فلما نما عوده اشتغل بتجارة الكتب فأصاب ربحًا كبيرًا وغنًى وافرًا وظل وفيًّا للعلم فأسهم على قدر طاقته في التأليف والتصنيف وأهدى إلى المكتبة العربية كتابين نفيسين هما هذا الكتاب الذي نتناوله بالدراسة، وكتابًا آخر لا يزال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 مخطوطًا في مجلدات ستة سماه "عيون التواريخ" وتوفي سنة 764هـ في دمشق. ويمكن أن نقدم الكتاب على النحو التالي: أولًا: ضم الكتاب الذي بين يدي وأقدم من خلاله هذه الدراسة أربعمائة وثلاثًا وثمانين ترجمة سار في تقديم أصحابها على الحروف الأبجدية، تمامًا كما فعل أستاذه ياقوت، بادئًا بالترجمة لإبراهيم بن آدم العجلي الزاهد المجاهد المتوفى سنة 161هـ منتهيًا بالترجمة ليونس بن مودود بن محمد بن أيوب، وهو نفسه الملك الجواد بن الملك العادل الأيوبي، وتشكل التراجم للأدباء والعلماء الجانب الأوفر عددًا من بين تراجم الكتاب، وهو المسار نفسه الذي انتهجه سلفه ابن خلكان. وبصدد عدد من ترجم لهم ابن شاكر، فإننا قد ذكرنا أن النسخة التي بين يدي من الكتاب، وهو في مجلدين تضم أربعمائة وثلاثًا وثمانين ترجمة في حين يذكر الشيخ محيي الدين عبد الحميد محقق النسخة ذاتها في المقدمة التي قدم بها للكتاب أن عدد من ترجم لهم المصنف ثمانمائة وستة وأربعون، ولا ندري ما الذي جعل المحقق يكتب هذا العدد الكبير في مقدمته بينما لا يضم الكتاب إلا العدد الذي أشرنا إليه آنفًا، وهو ما يقارب نصف العدد أو يزيد قليلًا على النصف، ثم يحدث خلاف آخر في العدد حين يذكر الأستاذ محمد خير الدين الزركلي في ترجمته لابن شاكر في كتاب الأعلام أن كتاب فوات الوفيات، يقع في مجلدين اشتملا على خمسمائة واثنتين وسبعين ترجمة. والرأي عندي في ذلك ربما كان العدد الذي ذكره المحقق صحيحًا، غير أنه لم يتوفر بين يديه إلا العدد الذي ضمته دفتا الكتاب، وقد كان من الواجب عليه أن يشير إلى ذلك في مقدمته معللًا السبب في الاختلاف بين العدد الفعلي الذي ضمه الكتاب المحقق والعدد الذي ذكره في المقدمة. ثانيًا: للكتاب ميزة كبرى من حيث إنه ترجم لمن فات ابن خلكان أن يترجم لهم، وذلك واضح من عنوان الكتاب على ما أسلفنا، فضلًا أنه مضى في الترجمة لمشاهير الأعيان عام 753 أي قبل وفاته بأحد عشر عامًا، وكان آخر من ترجم لهم من حيث الزمان الشاعر علي بن محمد بن غالب المعروف بمجد العرب المتوفى في الموصل في العام الذي أسلفنا، وهو بذلك غطى مساحة كبيرة من أعلام المائة الثامنة. هذا ويكثر ابن شاكر من الترجمة لأعيان الأندلس، ولبعض شهيرات النساء مثل السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن، وحمدونة الأندلسية الشاعرة وليلى الأخيلية وعلية بنت المهدي وفضل جارية المتوكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ثالثًا: هناك بعض نواحي النقص أو القصور في الكتاب، ذلك أن المؤلف لا يهتم بسنوات وفاة أعيانه، فإن عددًا كبيرًا منهم قد أغفل ذكر سنوات وفاتهم، بل إنه يخطئ في بعض الأحيان في تحديد سنة الوفاة، فعلى سبيل المثال ذكر أن أبا العباس الأعمى الشاعر "واسمه الحقيقي السائب بن فروخ" قد توفي في حدود المائة. ومن الثابت تاريخيًّا أن حوارًا ممتعًا يتعلق ببني أمية قد جرى بينه وبين المنصور العباسي أثناء تولي المنصور الخلافة أي بعد سنة 136 هـ على وجه اليقين وبذلك يكون الخطأ في تحديد زمن وفاة أبي العباس الأعمى خطأ كبيرًا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه لا يضبط الأسماء والألقاب والكنى والبلاد كما فعل ياقوت، ولعل ذلك أمر طبيعي، إنه طبيعة الفارق الكبير بين ابن خلكان العالم وابن شاكر الوراق. والأمر الثالث أن المؤلف يتناول بعض الأعيان بما لا يشفي غلة أو يعطي فائدة فلا يزيد على أن يذكر للعين مقطوعة أو مقطوعتين من الشعر لا تتعدى المقطوعة بيتين، وتلك ظاهرة واضحة في كثير من صفحات الكتاب في عدد غير قليل من التراجم. وأما الأمر الرابع فهو أن ابن شاكر في ترجماته عالة على معاصره العالم الكبير صلاح الدين الصفدي في كتابه الكبير الوافي بالوفيات الذي سوف يأتي ذكره بعد قليل فإنه يكاد ينقل منه نقلًا، وهوأمر واضح في كثير من الترجمات لعل أقربها إلينا ترجمته لابن خلكان، فضلًا عن أنه كثيرًا ما ينقل من معجم الأدباء لياقوت1. ومع ذلك فإن الكتاب جهد مفيد لا غنى لمن يعمل في حقل الأدب، والمعرفة العامة عن الاستعانة به والاطلاع عليه كلما أراد أن يستجلي أمرًا متصلًا بعين من أعيان تاريخنا وأدبنا.   1 انظر مقدمة مرجوليوت لمعجم الأدباء "1/ 11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الوافي بالوفيات كتاب كبير جليل لمؤلف عالم أديب، شاعر مؤرخ رسام خطاط فنان، هو صلاح الدين الصفدي واسمه كاملًا: خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي الذي ولد في صفد سنة 696هـ وتوفي في دمشق سنة 764هـ، وهي السنة نفسها التي توفي فيها الوراق الأديب ابن شاكر الكتبي الذي مر ذكره. إن صلاح الدين الصفدي واحد من العلماء القليلين الذين أصبحوا فيما بعد أساتذة، أخذ العلم عن عديد من العلماء في صفد ودمشق والقاهرة، أخذ عن الشهاب محمود، وابن سيد الناس، وابن نباتة المصري، وأبي حيان المصري، والذهبي، وابن كثير. ومن الطريف أن بعض هؤلاء العلماء العلام جلسوا للاستماع إليه حين أصبح عالمًا كبيرًا يجلس للدرس فيؤم مجلسه الكبار والصغار. وكان الصفدي صاحب أخلاق رفيعة وشيم جليلة وشمائل طيبة مع علم وافر وإنتاج خصب وقلم معطاء وشاعرية محلقة، وإن كان قلمه حين يكتب يترسم أسلوب زمانه الممعن في السجع والزينات البديعية، لقد قال الشعر الحسن وأكثر من النثر والتواقيع، وكان لكثرة ما كتب يقول: "كتبت بيدي ما يقارب خمسمائة مجلدة، ولعل الذي كتبته في ديوان الإنشاء ضعفًا ذلك"1 فقد تقلد كثيرًا من الوظائف في صفد، ومصر وحلب والشام. وأما مؤلفاته فهي من الكثرة بمكان، أشهرها وأجلها كتاب "الوافي بالوفيات" هذا فضلًا عن نحو مئتي كتاب أخرى وصل إلى أيدينا عدد جليل منها، طبع بعضه ولا يزال   1 راجع ترجمته في الدرر الكامنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 البعض الآخر ينتظر دوره في التحقيق والطباعة، فمن كتبه المطبوعة: الوافي بالوفيات الذي طبع منه حتى كتابة هذا الكتاب ثمانية مجلدات، ونكت الهميان في نكت العميان، والغيث المسجم في شرح لامية المعجم، وجنان الجناس، وتشنيف السمع في انسكاب الدمع، ودمعة الباكي، وتمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون، وتحفة ذوي الألباب فيمن حكم دمشق من الخلفاء والملوك والنواب، وقهر الوجوه العابسة في نسب الجراكسة، ووصف الهلال. وكان صلاح الدين الصفدي مغرمًا بالتراجم، ولذلك فإنه ألف في ذلك عددًا غير قليل في هذا النوع من العلوم، لقد أفرد من كتابه الكبير الوافي بالوفيات البالغ ثلاثين مجلدًا، ستة مجلدات لأهل عصره وأعيان زمانه أسماه "أعيان العصر وأعوان النصر" ومنها الشعور بالعور في تراجم الصور" و "التذكرة" وهي كتاب كبير جدًّا في التراجم والشعر والأدب والأخبار. ومن كتبه التي لا تزال مخطوطة: ألحان السواجع وهي رسائله لبعض معاصريه، ونصرة الثائر في نقد المثل السائر، وديوان الفصحاء يتناول فيه موضوعات في الأدب، وجلوة المذاكرة وهو في الأدب أيضًا، والمجاراة والمجازاة، وفض الختام في التورية والاستخدام، والروض الناسم، والحسن الصريح في مائة مليح، والتنبيه على التشبيه، وجر الذيل في وصف الخيل، وتوشيح الترشيح، ورسالة في وصف الحريق، وغير ذلك كثير ما لم يصل إلى أيدينا حتى الآن، أما تلك الكتب التي ذكرنا فهي جميعًا موجودة، المطبوع منها بين أيدي قراء الأدب والتاريخ وطالبي الثقافة والباحثين عن المعرفة، والمخطوط منها يمكن للمتخصصين الوصول إليها في مكامنها من المكتبات العامة والخاصة المتفرقة في أنحاء العالمين العربي والإسلامي، وبعض مكتبات أوربا وأمريكا.   1 هذا الكاب في شرح الرسالة الجدية، أما الرسالة الهزلية لابن زيدون فقد شرحها ابن نباتة المصري، وأسماها "سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون". 2 ذكره ابن حجر بعنوان "أعوان النصر وأعيان العصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 منهج الكتاب : إنا باستعراضنا للكتب التي ألفها صاحب الوافي بالوفيات نجد أكثرها كتبًا أدبية، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى فنان كصلاح الدين الصفدي، وهو في الوقت نفسه يؤلف في التاريخ، ثم يجمع بين الأدب والتاريخ في كتبه العديدة في التراجم التي أهمها وأكبرها، بل من أكثر كتب التراجم العربية، كتاب "الوافي بالوفيات" الذي كان كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان ماثلًا في خاطره دون شك حين تأليفه إياه، ومن ثم فقد أسماه هذا الاسم الذي يبدو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 فيه المقارعة أو المنافسة والمباراة، وليس هناك أعظم من المنافسة في تقديم العلم إلى الناس بل لعل هذا اللون من المنافسة هو أشرف ألوان المنافسات وأظهرها وأكثرها بركة وأجزلها ثوابًا. إن للكتاب منهجًا واضحًا وغرضًا بينًا، ونحن نفضل أن نترك المؤلف يقدم منهج كتابه، بنفسه وبلغته الأدبية المتميزة به التي تعطي صورة واضحة عن أسلوب الكتابة في القرن الثامن الهجري الذي عاش المؤلف ثلثيه الأول والثاني، إن المؤلف بعد أن يستهل مقدمته بخطبة يحمد الله فيها ويصلي ويسلم على أنبيائه، ويتحدث عن أخبار الماضين وآثار السالفين والحكمة المستفادة من ذلك إذ: وما نحن إلا مثلهم غير أنهم ... مضوا قبلنا قدمًا ونحن على الإثر يقول:1 "والتاريخ للزمان مرآة، وتراجم العالم للمشاركة في المشاهدة مرقاة، وأخبار الماضين لمن عاقر الهموم ملهاة. لولا أحاديث أبقتها أوائلنا ... من الندى والردى لم يعرف السمر وما أحسن قول الإجاني: إذا عرف الإنسان أخبار من مضى ... توهمته قد عاش في أول الدهر وتحسبه قد عاش آخر دهره ... إلى الحشر إن أبقى الجميل من الذكر فقد عاش كل الدهر من كان عالمًا ... كريمًا حليمًا فاغتنم أطول العمر وربما أفاد التاريخ حزمًا وعزمًا، وموعظة وعلمًا، وهمة تذهب همًّا، وبيانًا يزيل وهنًا، وحيلًا تثار للأعادي من مكامن المكايد وسبلًا لا تعرج بالأماني إلى أن تقع من المصايب في مصايد، وصبرًا يبعثه التأسي بمن مضى، واحتسابًا يوجب الرضا، بما مر وحلا من القضا، وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك فكم تشبث من وقف على التواريخ بأذيال معالٍ تنوعت أجناسها، وتشبه بمن أخلده إلى الأرض، وأصعده سعده إلى السهى؛ لأنه أخذ التجارب مجانًا ممن أنفق فيها عمره، وتجلت له العبر في مرآة عقله فلم تطفح لها من قلبه   1 الوافي بالوفيات: المقدمة "1/ 4-7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 جمرة، ولم تسفح لها في خده عبرة، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. فأحببت أن أجمع من تراجم الأعيان من هذه الأمة الوسط، وكملة هذه الملة التي مد الله تعالى لها الفضل الأوفى وبسط، وبخباء الزمان وأمجاده ورءوس كل فضل وأعضاده وأساطين كل علم وأوتاده، وأبطال كل ملحمة وشجعان كل حرب، وفرسان كل معرك لا يسلمون من الطعن ولا يخرجون عن الضرب، ممن وقع عليه اختيار تتبعي واختياري، ولزني إليه اضطرام تطلبي واضطراري، ما يكون متسعًا في هذا التأليف دره منتشقًا من روض هذا التصنيف زهره، فلا أغادر أحدًا من الخلفاء الراشدين، وأعيان الصحابة والتابعين، والملوك والأمراء والقضاة والعمال والوزراء، والقراء والمحدثين والفقهاء، والمشايخ، والصلحاء، وأرباب العرفان والأولياء والنحاة والأدباء والكتاب والشعراء، والأطباء والحكماء والألباء والعقلاء وأصحاب النحل والبدع والآراء، وأعيان كل فن اشتهر ممن أتقنه من الفضلاء، من كل نجيب مجيد، ولبيب مفيد. طواه الردى طي الرداء وغيبت ... فواضله عن قومه وفضايله فقد دعوت الجفلى إلى هذا التأليف، وفتحت أبوابها لمن دخلها بلا تسويغ تسويف، ولا تكليم تكليف، وذكرت لمن يجب فتحًا يسره، أو خيرًا قرره، أو جودًا أرسله، أو رأيًا أعمله، أو حسنة أسداها أو سيئة أبداها، أو بدعة سفها وزخرفها، أو مقالة حرر فنها وعرفها، أو كتابًا وضعه أو تأليفًا جمعه، أو شعرًا نظمه أو نثرًا أحكمه. ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما فاته وفضول العيش أشغال ولم أخل بذكر وفاة أحد منهم إلا فيما ندر وشذ، وانخرط في سلك أقرانه وهو فذ؛ لأني لم أتحقق وفاته، وكم من حاول أمرًا فما بلغه وفاته على أنه قد يجيء في خلال ذلك من لا يضطر إلى ذكره، ويبدو هجر شوكه بين وصال زهره. قال الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: لا يصل إليه محتاجًا إليه؛ لأن المتوقف وجوده على وجود شيء آخر متوقف على وجوده ذلك الشيء، وهكذا كل علم لا يبلغ الإنسان إتقانه إلا بعد تحصيل ما لم يفتقر إليه. فقد أذكر في كتابي هذا من لا مزية له، وجعلت إصبع القلم من ذكره تحت رزه رزية، غير أنه له مجرد رواية، عن المعارف متفردة، ولم تكن له دراية، حمائمها على غصون النقل مغردة والأيك مشتبهات في منابتها ... وإنما يقع التفضيل في الثمر ولكن أردت النفع به للمحدث والأديب، والرغبة فيه للبيب الأريب وجعلت ترتيبه على الحروف وتبويبه، وتذهيب وضعه بذلك وتهذيبه، على أنني ابتدأت بذكر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وسلم إذ هو الذي أتى بهذا الدين القيم وسراجه الوهاج، وصاحب التنبيه على هذه الشرعة والمنهاج، فأذكر ترجمته مختصرًا، وأسرد أمره مقتصرًا؛ لأن الناس قد صنفوا المغازي والسير، وأطالوا الخبر فيها كما أطابوا الخبر، ومليت لما ملئت بشمايله مهارق التواليف، ورفعت لما وضعت تيجانها على مفارق التصانيف". هذا ما كان من أمر منهج المؤلف في مقدمة كتابه الكبير، وأما المقدمة نفسها فتضم أحد عشر فصلًا في الثقافة التاريخية والتأليف التاريخي: الفصل الأول في بداية التاريخ عند العرب، وذكر رأي من قال إنه بدأ بموت كعب بن لؤي، ورأي من قال: إنه بدأ بموت الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم لإعظامهم إياه، ورأي من قال بعام الفيل، ورأي من قال بإعادة بناء الكعبة، ثم يستطرد المؤلف إلى ذكر أقدم التواريخ التي بين أيدي الناس، وجعل المؤلف الفصل الثاني من مقدمته في تمييز الأعداد وضروات الشعر، ذلك أن المؤرخ أديب كاتب يحتاج إلى كتابة الأعداد المرتبطة بالتواريخ ومن ثم ينبغي معرفة تمييز كل عدد، هذا فضلًا عن حاجته إلى رواية الشعر والاستشهاد به، وجعل الفصل الثالث في كيفية كتابة التاريخ قاصدًا بذلك ذكر الأعداد المرتبطة بالشهور وتمييزها والضمائر التي تعود عليها، وما يجوز وما لا يجوز، وصفات الشهور، وصفات بعض الأيام، ويضرب مثالًا بأول شوال وهو عيد النحر، وتاسع المحرم وهو يوم تاسعواء، وعاشره وهو يوم عاشوراء وهكذا. ولما كان المؤرخ محتاجًا إلى استعمال النسب فإن المؤلف يجعل الفصل الرابع للنسب وما يتصل به نحويًّا وصرفيًّا. والفصل الخامس جعله في بيان العلم والكنية واللقب وذكر وجوب تقديم اللقب على الكنية، والكنية على العلم، ثم النسبة إلى البلد ثم إلى الأصل، ثم إلى المذهب في الفروع، ثم إلى المذهب في الاعتقاد إلخ، إنه تفصيل طريف يفيد المهتم بالأسماء والصفات والألقاب والكنى، وجل المؤلف الفصل السادس من مقدمته في الهجاء والكتابة ويهتم بصفة خاصة بالهمزة والألف والواو والياء والفصل السابع يخصصه المؤلف لنوعية على الحروف أليق بالتراجم، وهو يعني هنا ترتيب حروف أهل المشرق، فإن للمغاربة ترتيبًا آخر للأبجدية. والفصل الثامن جعله المؤلف في الوفاة وأصلها ومشتقاتها واستعمال هذه المشتقات والصيغ المختلفة للاسم والصفة والفعل. والفصل التاسع أفرده المؤلف لذكاء المؤرخ، وثقافته، وأمثلة يتعرف من خلالها على الخبر الصحيح والخبر المزيف أو الخاطئ، كما جعل الفصل العاشر لأدب المؤرخ والشروط التي ينبغي أن تتوفر فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 إنها مقدمة طويلة، أو هي بالأحرى دراسة منهجية تتعلق بالمنهج والوسيلة اللذين ينبغي للكاتب المؤلف أن يكون ملمًّا بهما منفذًا لهما، يستوي في ذلك كاتب التاريخ العام، أو كاتب تاريخ الأدب أو تاريخ الحديث. ولما كانت كتب التراجم تأخذ صفة تاريخية؛ لأنها تؤرخ للأعلام، فإن صلاح الدين الصفدي يجعل الفصل الحادي عشر من مقدمته استعراضًا لأسماء كتب التاريخ، وهي: كتب تاريخ المشرق، كتب تاريخ مصر، كتب تاريخ المغرب، كتب تاريخ اليمن والحجاز، كتب التواريخ الجامعة، كتب تواريخ الخلفاء، كتب تواريخ الملوك، كتب تواريخ الوزراء والعمال، كتب تواريخ القضاة، كتب تواريخ القراء، كتب تواريخ العلماء، كتب تواريخ الشعراء، ثم كتب تواريخ مختلفة. لقد سلك صلاح الدين الصفدي مسلك المثقفين من أصحاب التآليف حين عمد إلى التقديم لكتابه بشرح منهجه مقرونًا ببحث عن جوانب كتابة التواريخ. هذا ويمكن أن نعرض لترتيب "الوافي بالوفيات" على النحو التالي: أولًا: يقع الكتاب في ثلاثين مجلدًا، طبع منه حتى الآن ثمانية مجلدات تشتمل على ثلاثة آلاف وتسعمائة وإحدى عشرة ترجمة، وآخر التراجم المطبوعة هي ترجمة إسحاق جارية المتوكل وأم كل من المؤيد والموفق. ثانيًا: يبدأ الكتاب حسبما ذكرنا بالترجمة لأعيان الأدب والتاريخ سالكًا ترتيب الحروف الهجائية المشرقية، غير أنه استثنى المحمدين من الأعيان، فجعل مكانهم في الكتاب يسبق جميع الأسماء، وذلك تبركًا باسم النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر من سموا محمدًا في الجاهلية. وأول من سموا محمدًا من أبناء المهاجرين وأبناء الأنصار، ثم يبدأ في ترجمة للرسول صلى الله عليه وسلم تستغرق نحوًا من أربعين صفحة1 يتبعها بالترجمة لمن اسم أبيه محمد من المحمدين، ثم لمن اسم أبيه وحده محمد من المحمدين، وهكذا حتى يصل إلى ترجمة العين المكون من خمسة محمدين اسمًا وأبًا وجدودًا. هذا والجدير بالذكر أن عدد المحمدين الذين ترجم لهم الكتاب -باستثناء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- بلغ ألفين وثلاثمائة وواحدًا وخمسين عينًا من أعيان التاريخ حتى عصر المؤلف ملأت صفحات المجلدات الأربعة الأولى من الكتاب وثلاثة أرباع المجلد الخامس وآخره محمد بن يونس2 المعروف بالشيخ جمال الدين الساوجي الزاهد شيخ الطريقة القرندلية.   1 الوافي بالوفيات "1/ 56-97". 2 الوافي بالوفيات "5/ 293". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 ثالثًا: بعد أن ينتهي المؤلف من الترجمة للمحمدين من الأعلام يبدأ البداية الطبيعية حسب حروف المعجم، فيترجم لمن بدأت أسماؤهم فيكون آدم الاسم التالي لاسم محمد ويمضي المؤلف على سنته حتى يصل إلى اسم أحمد فإذا بعدد الذين ترجم لهم من الأحمدين يبلغ ألفًا وتسعة وستين اسمًا تستغرق مجلدين وربع مجلد من الكتاب، وبعبارة أدق تستغرق النصف الثاني من المجلد السادس، وجميع المجلد السابع وثلاثة أرباع المجلد الثامن الذي هو الأخير المطبوع بين أيدينا حتى كتابة هذه السطور1. رابعًا: يعني المؤلف بذكر اللقب والكنية للذين يترجم لهم، ويعني بضبط ما يراه ضروريًّا منها وبخاصة النسبة إذا كانت إلى اسم أعجمي أو عربي غير كثير الشيوع. خامسًا: لكثرة ما أورد صاحب الوافي من أعيان فإن الترجمة تختلف طولًا وقصرًا وتفصيلًا وإيجازًا حسب أهمية العين، أو حسب المادة المتاحة حوله لدى المؤلف، فإن عددًا كبيرًا من أصحاب التراجم يحتل الواحد منهم عشرين صفحة، أو يزيد مثل ترجمة ابن سيد الناس2 أو ابن نباتة المصري3. وقد تأتي الترجمة موجزة بحيث تقتصر على الاسم، وتاريخ الوفاة ومكانها 4. وأحيانًا تكون أشد إيجازًا فتقتصر على الاسم وتاريخ الوفاة وحدهما 5 وفي أحيان قليلة يغفل المؤلف ذكر تاريخ الوفاة، ولكنه يجتهد في أن يعطي القارئ قرينة يستطيع أن يتعرف من خلالها إلى الفترة الزمنية التي عاش فيها المترجم له على وجه التقريب6. سادسًا: كان المؤلف من الحصافة بمكان، إنه يعرف أن كثيرين من الأعلام عرفوا بألقابهم أو بنسبتهم أو بأسماء شهرة وأن أسماءهم الأصلية تخفى على كثير من الناس حتى الخاصة منهم، إنه حينئذ يذكر المترجم له شهرته أو نسبته أو كنيته، ثم يردف ذلك باسمه الحقيقي ويحيل القارئ على مكانه حسب الترتيب الهجائي للاسم، فمثلًا الأرجاني الشاعر غير معروف باسمه لدى كثير من المتأدبين فيأتي به المؤلف في مكانه من حرف الهمزة، ثم يقول اسمه الحقيقي أحمد بن محمد بن الحسين فيذهب القارئ باحثًا عنه في مكانه بين الأحمدين 7 أو أرجوان الأرمنية، يقول المؤلف: اسمها قرة العين، يأتي ذكرها إن شاء   1 الوافي بالوفيات الأجزاء "6، 7، 8" من الترجمة رقم 2655 إلى الترجمة رقم 3724. 2 المصدر السابق "1/ 289 - 311" ترجمة رقم "198". 3 المصدر السابق "1/ 311 - 330" ترجمة رقم "199". 4 المصدر السابق "1/ 1/ 311 - 330" ترجمة رقم "271". 5 الوافي بالوفيات "8/ 410" ترجمة رقم "3863". 6 المصدر "8/ 429" ترجمة رقم "3905". 7 الوافي "8/ 399". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الله تعالى في حرف القاف1. إن الوافي بالوفيات عمل جليل من أعمال العلماء الأعلام في ميدان التراجم للأعيان نحس فيه دقة الباحث، ووقار العالم وذوق الأديب وفيض المؤرخ، وهو بعد لا يزال المطبوع منه واقفًا في ظلال حرف الهمزة باستثناء المحمدين، ومعنى ذلك أن الشوط معه لا يزال طويلًا، فإن تم التحقيق والنشر لباقي المجلدات على أساس من الدقة والعناية كان الشوط معه على طوله مثمرًا مباركًا.   1 المصدر الصفحة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الفصل الخامس: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر مدخل ... الفصل الخامس: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر إن هذا اللون من ألوان كتب التراجم يختلف عن سابقيه من حيث كونه يحدد الزمان، ولا يحفل بالمكان، بمعنى أنه يختص بالترجمة للذين تحددت مرحلة حياتهم في خلال قرن واحد من الزمان مهما كان الصقع، أو القطر، أو المصر الذي سكنوه، يستوي في ذلك ساكن الهند أو السند، أو إيران، أو العراق، أو تركيا أو يوغوسلافيا أو منطقة الروم أو الشام أو مصر أو المغرب. وإن لهذا اللون من التراجم أكثر من كتاب مشهور مثل "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" لشيخ الإسلام العالم الجليل شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ قام فيه بالترجمة لأعيان القرن الثامن الذين بلغ عددهم في كتابه ذي الخمسة أجزاء خمسة آلاف ومائتين وأربعة منهم عدد غير قليل من النساء أكثرهن فواطم وزينبات، سار فيه على ترتيب حروف المعجم بادئًا بالهمزة غير أنه استهل ترجماته بمن اسمه "إبراهيم" تيمنًا بسيدنا إبراهيل الخليل مع وجود من اسمه آقش ومن اسمها آمنة، وكل من الاسمين يسبق إبراهيم في الترتيب الهجائي1. وعن المائة التاسعة يكتب شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي كتابه الكبير "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع"، في اثني عشر جزءًا ناهجًا سبيل الترتيب الهجائي أيضًا، غير غافل عن الترجمة لنفسه تراجم طويلة نسبيًّا. ومن هذا اللون من التراجم أيضًا الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للعالم الجليل نجم الدين أبي المكارم محمد الغزي الذين عاش في دمشق بين عامي 967-1061هـ و"الكواكب السائرة" يختلف عن "الدرر الكامنة" اختلافًا بسيطًا من حيث الترتيب.   1 قام بتحقيقه محمد سيد جاد الحق ونشرته دار الكتب الحديثة بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 على الرغم من التزامه فترة زمنية معينة هي القرن العاشر على مساحة الأرض الإسلامية كلها، ذلك أنه قسم القرن إلى ثلاثة أثلاث، أطلق على أعيان كل ثلث لقب "طبقة" وبدأ الترجمة "للمحمدين" في كل طبقة وبعدها يلتزم الأعلام المبتدئة بالهمزة، ويسير على نسق الحروف الهجائية حتى آخر الطبقة، وقد اهتم كثيرًا بالنصوص الشعرية وترجم للأعيان من النساء وبخاصة الشاعرات منهن1. وأما خلاصة الأثر فقد آثرناه بالعرض والدراسة؛ لأنه أكثر مادة وتفصيلًا وأوفر احتفالًا وشمولًا، ومؤلفه هو العالم الجليل محمد أمين المحبي الذي سبقت الإشارة إلى عمله وفضله عند حديثنا على الترتيب التاريخي لطبقات الشعرءا عندما ألمحنا إلى مؤلفه النفيس "نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة".   1 قام بتحقيقه جبرائيل سليمان جبور ونشره محمد أمين دمج في بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 منهج "خلاصة الأثر" أولًا: إن الكتاب كما هو واضح من عنوانه -شأنه شأن سابقيه اللذين ألمحنا إليهما قبل قليل- يترجم لأعيان عاشوا في فترة زمنية محددة بالقرن الحادي عشر، ولكنه أعطى لنفسه حرية أفقية عريضة على مساحة الأراضي الإسلامية من الهند شرقًا حتى المغرب غربًا مرورًا بالقسطنطينية ووسط أوروبا. ويفصل بعض منهجه على هذا النحو: "وكنت شديد الحرص على خبر أسمعه، أو على شعر تفرق شمله فأجمعه، خصوصًا لمتأخري أهل الزمن، المالكين لأزمة الفصاحة واللسن، من كل ملك تتلى سورة فخره بكل زمان، وأمير لم تبرح صورة ذكره تجلى على ناظر كل مكان، وإمام لم تنجب أم الليالي بمثاله، وأديب تهتز معاطف البلاغة عند سماع فضله وكماله، حتى اجتمع عندي ما طاب وراق، وزين بمحاسن لطائفه الأقلام والأوراق، فاقتصرت منه على أخبار المائة التي أنا فيها، وطرحت ما يخالفها من أخيار من تقدمها وينافيها، حرصًا على جمع ما لم يجمع، وتقييد شيء ما قيل إلا ليسمع1. والواقع أن المحبي في أثره هذا ينوع من يترجم لهم، فذكر عددًا من السلاطين منهم السلطان أحمد بن السلطان محمد مراد، وقال عنه إنه كان شاعرًا بالعربية وجاء له بنماذج من شعره ورأى أنه أعظم سلاطين آل عثمان2، كما ترجم لابنه السلطان مراد بن السلطان   1 خلاصة الأثر: مقدمة المؤللف "1/ 2، 3". 2 خلاصة الأثر "1/ 284-292". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 أحمد، وجده السلطان مراد الأقدم بن السلطان سليم1. ومن اليمن ترجم لعدد من الأئمة منهم على سبيل المثال الإمام إسماعيل بن القسام بن محمد بن علي المتوكل على الله الزيدي، وذكر الكثير من أخباره، والمختار من أشعاره2. ومن الأمراء ترجم لعدد غير قليل، نذكر منهم على سبيل المثال -ونحن نكتب هذا الكتاب على أرض لبنان- الأمير فخر الدين بن قرقماص بن معن3، المشهور بالأمير فخر الدين المعني ويذكر الأحداث التي مرت به والطريقة التي انتهت بها حياته، وينتهز المحبي فرصة الحديث عن فخر الدين، فيذكر الدروز وتاريخهم وعقيدتهم بشيء من الإيجاز. وهو إذ يذكر السلاطين في القسطنطينية، والأئمة في اليمن والأمراء في لبنان لا ينسى الحجاز ونجدًا فيترجم للشريف بركات بن محمد بن إبراهيم الحسني صاحب مكة والحجاز ونجد ترجمة حافلة خصيبة طويلة تاريخية الطابع إخبارية المنهج4، ولكنه لا يغادر مكة قبل أن يقدم لنا الشاعر المبدع أحمد بن محمد الجوهري المكي5. ثانيًا: ينفتح المحبي على المساحة الأرضية انفتاحًا عريضًا واسعًا ذاكرًا أهل العلم والأدب والشعر موردًا النماذج العديدة في مختلف موضوعات الشعر في قصيد، موشحات، وأزجال، ودوبيب، ولعل خير من ترجم له جامعًا القول في هذه الفنون هو أبو بكر العمري الدمشقي6، ومن دمشق ينتقل بنا المحبي إلى مكة ليترجم لأبي الفضل بن محمد العقاد المكي الشاعر الوشاح، ويأتي بشيء من أخباره وبعض موشحاته وأشعاره7. ومن مكة ينساح المحبي إلى الهند ليقدم لنا الشاعر الجوهري المكي الذي توفي في آخر عام من أعوام القرن الحادي عشر أعني عام 1099هـ8، ولا يغادر المؤلف الهند قبل أن يترجم لابن معصوم الأب: الأمير محمد بن محمد بن معصوم المتوفى في حيدر أباد سنة 1086هـ مقدمًا الكثير من شعره9. ومن صنعاء يترجم المحبي للشاعر المبدع صلاح بن أحمد بن عز الدين الصنعاني   1 ترجمة السلطانين في "4/ 336، 341" على الترتيب. 2 خلاصة الأثر "1/ 411-416". 3 المصدر السابق "3/ 266-269". 5 خلاصة الأثر: "1/ 436-451". 5 المصدر "1/ 327". 6 المصدر "1/ 99-110". 7 المصدر "1/ 143". 8 المصدر "1/ 327". 9 المصدر "1/ 349-352". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 المتوفى سنة1070هـ مع تقديم باقة جميلة من شعره1. ومن القاهرة يقدم صاحب خلاصة الأثر العديد من الأعيان، ويقدم ترجمة مفصلة للعلامة قاضي القضاة، شهاب الدين الخفاجي المصري2، ومن القاهرة ينتقل إلى شمال إفريقية حتى يترجم لعالم جليل هو أحمد بن محمد المقري التلمساني صاحب كتاب نفخ الطيب3. ومن المنطقة الآسيوية الأفريقية ينتقل المحبي إلى الترجمة للعلماء المسلمين في أوروبا، فيترجم لعالم جليل من البوسنة وتولى الإفتاء في بلغراد فعد أن حصل الكثير من العلم في بلدته هو فضل الله بن عيسى البوسنوي الذي كان أحد العلماء الأعيان معرفة وإتقانًا وحفظًا وضبطًا للفقه وتفهمًا، عارفًا بالحديث وفنون اللغة4. ومن المنطقة نفسها يترجم المحبي لعديد من العلماء، ويميط اللثام عن أن هذه المنطقة من أوروبا قد أخصبت علوم الدين واللغة بالعديد من العلماء الأفذاذ الكبار. ولكننا وحن نعرض هؤلاء الأعيان ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن المؤلف يترجم لهم حسب الترتيب الهجائي لأسمائهم وإن كنا سمحنا لأنفسنا بعرض نماذج منهم متفرقين لكي نصور للقارئ امتداد رقعة الأرض التي ترجم لأعلامها امتدادًا غير محدد بالمساحة وإن كان محددًا بالزمان. ثالثًا: تمتاز ترجمات المحبي لأعيانه في خلاصة الأثر باللون الأدبي، وكثرة ذكر الأدباء من العلماء والوزراء والملوك، والسلاطين، والأطباء من إليهم بحيث إنه لولا العرض النهائي للأسماء لخطر على الظن أننا نقرأ في نفحة الريحانة، ذلك أن أكثر من نصف مساحة الأجزاء الأربعة من خلاصة الأثر فنون شعرية خالصة، ومن هنا كان اختيارنا لهذا الكتاب كأنموذج لكتب التراجم على نظام السنين يمكن أن يؤدي لقارئ الأدب ساعدًا ويدًا. بل إن الترجمة لأديب واحد قد تعادل من حيث القدر والمساحة ما يترجم فيه لعدد من الأعيان غير الأدباء. هذا وقد خلا الكتاب بأكمله من الترجمة لعين واحدة من النساء. رابعًا: الكتاب يقوم على ترتيب التراجم حسب الحروف الهجائية مع التزام الدقة من غير تقديم الأسماء ذات الطابع المبارك كالمحمدين أو العبادلة -وهذا شيء أشرنا إليه-   1 المصدر "2/ 245". 2 المصدر: "1/ 331". 3 المصدر "1/ 302. 4 خلاصة الأثر "3/ 226". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 ولكن الأمر الذي يدعو إلى احترام المؤلف، والإعجاب بالكتاب أن المؤلف ذكر مراجعه التي اعتمد عليها، وهو يؤلف كتابه وذلك في قوله1: "وقد وجد عندي مما أحتاج إليه من المعونة، والآثار المتعلقة بهذه المؤنة، ذيل النجم الغزي وطبقات الصوفية للمناوي، وتاريخ الحسن البوريني وذيله لوالدي المرحوم، وخبايا الزوايا والريحانة للخفاجي، وذكرى حبيب للبديعي، ومنتزه العيون والألباب لعبد البر الفيومي، هذا ما عدا المجاميع والتلقيات من الأفواه والمكاتبات، وكان بقي على بعض أخبار اليمن والبحرين والحجاز، وقد تعسر علي في طريق تطلب حقيقتها المجاز، فلما من الله علي وله المنة، والمنحة التي لا يشوبها كدر المحنة، بالمجاورة في بيته المعظم، والالتقاط من بحار أهليه الدر المنظم، تلقيت من الأفواه تراجم لأناس يسيرة، كانت في التحصيل علي عسيرة، وهم وإن كانوا قليلين في العدد، فإنهم كثيرون بسب أنهم ذريعة للمدد في كل المدد، وقد يقال إن أعداد الكبار الشم الأنوف، ربما عدلت عشراتها بالمئين ومئوها بالألوف، ثم وقفت في أثناء السنة على ذيل الجمالي محمد الشبلي المكي الذي ذيل به على النور السافر، في أخبار القرن العاشر، للشيخ عبد القادر بن الشيخ العيدروس، والمشرع الروي في أبخار آل باعلوي له أيضًا، وعلى تراجم منقولة من تاريخ ألفه الصفي بن أبي الرجال اليمني في أهل اليمن، فأجلت فكري في مجالها، وألحقتها بحسب ترتيبها في محالها. وكان وصلني خبر الكتاب الذي أنشأه السيد علي بن معصوم ذيلًا على الريحانة، ووسمه بسلافة العصر، في شعراء أهل العصر، فلم أزل حتى حصلته، وقطعت به أمر الطلب ووصلته. وأتحفني بعض الأفاضل بذيل الشقائق الذي ألفه ابن نوعي بالتركية، وضمنه معظم أهل الدولة العثمانية، ووصلني بعض الإخوان بقطعة من تاريخ أنشأه الشيخ مدين القوصوني المصري ذكر فيه تراجم كبراء العلماء من أهل القاهرة، وزين طروس سطوره بمآثرهم الباهرة، فكانتا عندي فاكهتين باكورتين وتحفتين بلسان البراعة مشكورتين فجمعت الجميع على نية الترتيب، مستعينًا في خصوصه بالفياض المجيب، وأضفت إلى تلك الأخبار المواليد والوفيات، حسبما حررته من التعاليق التي هي بهذا الغرض وافيات، وما أقدمني على هذا الشأن، إلا تخلف أبناء الزمان، عن إحراز خصل الفضل في هذا الميدان: لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم فإنا ذلك الهشيم، الذي سد مسد الكريم، كيف وقد نجم نجم الجهل، وصوح نبت   1 مقدمة المؤلف 1/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 بنت الفضل، وصدئت القلوب، وضعف الطالب والمطلوب، وربما يظن أن ما تخالج فيه صدري وهجس، لرعونة أوجبها الفراغ والهوس، كلا بل ذلك لأمر يستحسنه اللبيب، ويحسن موقعه لدى كل أريب لما فيه من بقاء ذكر أناس شنفت مآثرهم الأسماع، وجمع أشتات فضائل حكم الدهر عليها بالضياع. خامسًا: يهتم المؤلف بالمترجم ويحتفل به من حيث ذكر اسمه كاملًا مع صفته وكنيته ونسبته ومحل ميلاده وتاريخه ودار الإقامة والتنقل والأسفار وتحصيله العلم، وآثاره العلمية إن كان مؤلفًا والأدبية إن كان أديبًا وأخباره مفصلة إن كان شخصية عامة والوظائف التي تقلدها والأعمال التي أسندت إليه، مع مراعاة الدقة التامة في ذكر تاريخ الوفاة ومكانها إلا في حالات قليلة لا يكاد المرء يلتفت إليها. سادسًا: أما والمؤلف يجمع بين صفتي الأدب والعلم فإنه حين يقدم لكتابه يتبع أسلوب عصره فيعمد إلى السجع المتواتر والجناس الملتزم وبقية الصناعة البديعية من مقابلة وطباق وتصريع، فإذا ما انعطف إلى ميدان القول في التراجم كان سهل الأسلوب عذب العرض رشيق العبارة في غير ما تكلف، أو تصنع إلا في حالات من يريد أن يضفي على شخصياتهم اهتمامًا خاصًّا من أعيانه فإنه حيئنذ -وتلك حالات غير كثيرة- يستبيح لنفسه قليلًا من الصنعة وبعض الأناقة في العرض. وبعد، فكتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر يعتبر خير كتب التراجم التي حصر أصحابها أنفسهم بفترة زمنية محدودة. على أننا في الوقت نفسه لا ننال من قدر بقية لاكتب الأخرى التي انتهجت السبيل نفسه، بل التي سبقت إلى السبيل نفسه مثل "الدرر الكامنة" و "الكواكب السائرة" فكلها يقع بين درة مكنونة أونجم وهاج يهدي إلى القلوب نور المعرفة وإلى العقول سبل الثقافة ومناهج الرشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 الباب العاشر: التأليف والمؤلفون في التراث الأدبي الأندلسي : الفصل الأول: نشأة التأليف عن الأندلس : من المسلمات التاريخية أن العلماء في الأندلس لم يكتبوا عن آدابهم، وعلومهم وتاريخهم إلا في وقت متأخر نسبيًّا، فإن أول كتاب كتبه أندلسي -فيما نعمل- هو "كتاب القضاة بقرطبة" لمؤلفه محمد بن حارث الخشني1 المتوفى سنة 360هـ، والخشني ليس أندلسيًّا بالميلاد، وإنما هو تونسي من القيروان، دعاه إلى قرطبة الخليفة الأموي الأندلسي المثقف الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر، وكان الحكم المستنصر قد أنشأ مكتبه نفيسة فريدة تضم أربعمائة ألف مجلد في كل فنون العلم والآداب والفنون في ذلك الزمان التي كانت تمثل مدينة قرطبة فيه صفة العاصمة الثقافية للعالم كله. إسلامي وغير إسلامي. مكن الخليفة المستنصر لضيفه العالم الإفريقي القيرواني في أن يقيم في قرطبة إقامة ميسرة الأسباب، وأتاح له فرصة الانتفاع بالمكتبة المستنصرية الكبيرة وطلب إليه تأليف كتاب القضاة سالف الذكر، فأذعن العالم الجليل لطلب الخليفة العالم المثقف، وفرغ من تأليف كتابه هذا قبل سنة 360هـ، وهي السنة التي توفي فيها المؤلف. وهنا قد نسمح لأنفسنا -ما دام المؤلف غير أندلسي المولد- أن نقرر أن الكتاب من تأليف مؤلف غير أندلسي، وإنما هو إفريقي هاجر إلى الأندلس. غير أننا نسارع إلى القول إن كتابًا آخر في تاريخ الأندلس، قد كتب في تلك الفترة الزمنية نفسها أو بعدها بقليل، إنه "تاريخ افتتاح الأندلس" للعالم الأندلسي المولد والأصل أبي بكر محمد القرطبي المعروف بابن القوطية المتوفى سنة 367هـ.   1 قام على نشره المستشرق ريبيرا وترجمه إلى الأسبانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ويتناول الكتاب تاريخ الأندلس منذ الفتح الإسلامي حتى سنة 300هـ منتهيًا بوفاة الأمير عبد الله الأموي الأندلسي1. وكان ابن القوطية على علم بالعربية بصيرًا بفروعها، كما كان حسن التدين، ضليعًا في العلوم الدينية وله في ذلك عدة من المؤلفات، غير أنه لم يكن محايدًا في بعض أحكامه التاريخية، وكان يميل إلى التحمس لجانب قومه الأندلسيين القوطيين، ويجنح إلى التعصب على العرب والنبل منهم، فإذا ذكر ملوك الأسبان - وهو من سلالة بعضهم- بالغ في مدحهم وإعلاء منزلتهم، وإذا ذكر العرب نال من قدرهم وحط من شأنهم، ويبدو ذلك واضحًا في خلع صفات السياسة والكياسة والعلم والثقافة على "قريبه" الأمير أرطباس القوطي، وفي الوقت نفسه يرمي الصميل بن حاتم القائد العربي المتوفى سنة 142 في سجن عبد الرحمن الداخل بالجهل والغفلة، ويسوق خبرًا مضحكًا في هذا السبيل ملخصه أن الصميل سمع معلمًا يقرأ على الصبيان الآية الكريمة {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فقاطعه الصميل قائلًا: بل الآية: وتلك الأيام نداولها بين العرب. وهنا تنبه المعلم إلى خطئه وأعاد قراءة الآية على سمعه قراءة صحيحة، فصاح الصميل قائلًا: سبحانك ربي أن تجعل الحكم في أرذال الناس دون العرب. إن القصة على ما فيها من فكاهة، تدل على عصبية ظاهرة عند ابن القوطية على العرب، فليس كل العرب على نمط الصميل، وليس كل القوط على نمط أرطباس، الأمر الذي يسم ابن القوطية بسمعة الشعوبية، وهي نغمة كريهة في كل زمان ومكان، وإن الأمر الذي لا يجعل لابن القوطية وسيلة يبرر من خلالها تصرفه هذا الخاطئ المنحرف أنه ألف كتابه -فيما لو تأكد أن الكتاب له- في زمن الناصر والمستنصر حينما كانت الأندلس بكل سكانها -وصفوتهم من العرب- تتألف بنور المعرفة وتتيه على الدنيا كلها علمًا وثقافةً وأدبًا وسماحة وقوة. على أن هناك قرينة تضعف من نسبة الكتاب إلى ابن القوطية وتميل إلى أنه من تأليف أحد تلاميذه؛ لأن عبارات بعينها تردد على صفحات الكتاب مثل: قال شيخنا أبو بكر -يعني ابن القوطية- أو عبارة: قال ابن القوطية. ويجيء صديقنا وزميلنا الدكتور أحمد مختار العبادي بقرينة أخرى هي أن ابن الفرضي صاحب معجم "تاريخ علماء الأندلس" لم يذكر الكتاب في جملة ما ذكر من مؤلفات ابن   1 قام على نشر الكتاب باسكوال دي جانيجوس، وترجمه ريبيرا إلى اللغة الأسبانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 القوطية الأخرى، مع أن ابن الفرضي كان أحد تلاميذه1. نفهم مما سبق قوله أن صاحب "كتاب القضاة بقرطبة" لم يكن أندلسيًّا، وأن المؤلف الآخر الذي لا شك في أندلسيته، ونعني به ابن القوطية مشكوك في نسبة كتاب "تاريخ افتتاح الأندلس" إليه، بل إن الأمر يتعدى هذا النطاق إلى ما هو أخطر منه، فإن ابن القوطية قد استقى أكثر أخبار كتابه ورجع في أكثر رواياته إلى ما ألفه العلماء والمؤرخون المصريون عن المغرب والأندلس، وقد أفرد الشيخ محمد رضا الشبيبي كتابًا قيمًا في هذا الشأن، وتابع ابن القوطية في مصادره وردها إلى أصولها، وأطلق الشيخ على كتابه اسم "أدب المغاربة والأندلسيين في أصوله المصرية"2. 2- فإذا فتشنا عن كتب أخرى في تاريخ الأندلس أو الأدب الأندلسي كتبت في وقت مبكر، فإن الفكر يذهب بنا إلى كتاب العقد الفريد لأحمد بن عبد ربه المتوفى سنة 328هـ وقد عاش النصف الثاني من القرن الثالث، وأكثر من ربع القرن الرابع، وأنه من المعروف أن "العقد الفريد" موسوعة أدبية تاريخية فكرية إخبارية عن المشرق وليس عن الأندلس، وإذا تابعنا قراءته بعناية فلن نعثر فيه إلا على صفحات قليلة بين مجلداته العديدة أرخ فيها باختصار إلى ذلك، فإنه كان يتحدث عن بني أمية في المشرق - والكتاب أنشئ عن المشرق هدفًا ومقصدًا- فرأى أن يجاهل الملوك الأمويين الأندلسيين الذين كانوا يوفونه قدره من التوقير والتكريم بأن يذكر شيئًا من تاريخهم، ولم يزد على ذلك شيئًا سوى بعض شعره وأشعار أخرى قالها في فتوح عبد الرحمن الناصر ووقائعه الحربية. ربما تقع أنظارنا على أسماء بعض الكتب التي ألفها مؤلفوها الأندلسيون، مثل كتاب "وصف الأندلس" لأحمد بن محمد الرازي المعروف بابن لقيط الكاتب المتوفى سنة 433هـ، وكتاب "مختصر تاريخ الطبري" لعريب بن سعد القرطبي طبيب المستنصر، وقد ألحق بمختصره هذا جزءًا خاصًّا بتاريخ المغرب والأندلس3، وكتاب "تاريخ الأندلس" لعيسى بن أحمد الرازي القرطبي المتوفى في أواخر القرن الرابع الهجري، وكتاب "تاريخ   1 في التاريخ العباسي والأندلسي صفحة "476". 2 الكتاب من مطبوعات معهد الدراسات العربية بالقاهرة. 3 قام دي خويه على نشر الجزء الخاص بتاريخ المشرق، وأما الجزء الخاص بالمغرب والأندلس فإنه مفقود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 علماء الأندلس" لابن الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي القرطبي ميلادًا ووفاة في مستهل القرن الخامس، فقد قتله البربر في داره بقرطبة يوم فتحها سنة 403هـ إبان الفتنة الأموية. نقول إن أنظارنا تقع على أسماء هذه الكتب التي ألفها مؤرخون، وعلماء أندلسيون في القرن الرابع، ولكن أيدينا لا تمسك من بينها إلا بكتاب واحد هو "تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي، فأما الكتب الأخرى التي ذكرنا فهي مفقودة. ومن ثم يكون الكتاب الوحيد المبكر زمنًا وتأليفًا الذي لا تحوم حول مؤلفيه شكوك من حيث أندلسيته، أو نسبة الكتاب إليه هو الكتاب الأخير، ومؤلفه -ابن الفرضي- مؤرخ دقيق، وحافظ لعلوم الحديث والفقه، وأديب شاعر وكاتب، وقاض وسياسي فقد ولي قضاء بلنسية في دولة محمد المهدي المرواني، ولابن الفرضي غير "تاريخ علماء الأندلس" كتابًا في الحديث هما "المؤلف والمختلف" والمتشابه في أسماء رواة الحديث وكناهم" وله أيضًا كتاب "أخبار شعراء الأندلس"1. نريد أن ننتهي إلى القول بأن الأندلسيين لم يؤلفوا في تاريخهم أو أدبهم قبل القرن الرابع، وربما كان كتاب "أخبار شعراء الأندلس" الذي مر ذكره قبل قليل هو أول محاولة لتدوين أسماء وأخبار الشعراء الأندلسيين وأشعارهم، ولكنه قد ضاع مع غيره من كتب أخرى، ومن ثم فإنه يصعب علينا إصدار حكم عليه إلا من خلال ثقتنا بقدرة مؤلفه العلمية وحسن الظن به. 3- ولكن هل من المعقول ألا تكون هناك كتب في تاريخ الأندلس وآدابها قبل القرن الرابع الذي هو استغرق حديثنا في الصفحات القليلة الماضية؟ الواقع أن هناك أكثر من مولف حول الأندلس كتب قبل القرن الرابع، هذا فضلًا عن الأخبار والروايات، التي كانت تلقى في دروس جامع عمرو بن العاص في مصر عن أخبار الأندلس وفتوحاتها، واشتغل بذلك علماء أجلاء مصريون مثل عبد الله بن لهيعة المتوفى 174هـ والليث بن سعد المتوفى 175هـ. لقد اشتغل العلماء المصريون بقضايا الأندلس وأخباره -بحكم موقع مصر بين الشرق الإسلامي وغربه- منذ القرن الثاني الهجري، فلما كان القرن الثالث الهجري ظهر أول كتاب عن المغرب الأندلسي هو "فتوح مصر والمغرب والأندلس" لعبد الرحمن بن عبد الله بن   1 راجع الصلة لابن بشكوال "ص248" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 عبد الحكيم العالم المصري المتوفى سنة 257هـ الذي تتلمذ عليه عدد من علماء المغاربة والأندلسيين، ويعتبر كتاب ابن عبد الحكم من أدق الكتب التي عالجت تاريخ فتح الأندلس، وقد يكون من الأمور الطريفة أن يصبح هذا الكتاب مصدرًا للمؤرخين الأندلسيين أنفسهم مثل ابن الفرضي في كتابه "تاريخ علماء الأندلس" وابن خير في "الفهرست" والحميدي في "جذوة المقتبس" وغيرهم1. وعبد الرحمن بن الحكم ينتمي إلى أسرة علم وفضل ورياسة، فإن الإمام الشافعي لما نزل مصر أقام عندهم فترة من الزمن وكان موضع ترحيب من لدن عبد الله والد عبد الرحمن كما أن لعبد الرحمن أخًا نجيبًا هو محمد بن عبد الله بن الحكم الذي كان صديقًا للإمام الشافعي وموضعًا لتقديره لعلمه وفضله وفقهه، وقد انتهت إلى محمد هذا الرئاسة في مصر2، ومن طريف الخبر أن أسرة ابن عبد الحكم على الرغم من وثيق صلتها بالشافعي كانت على مذهب مالك. وبين أيدينا كتاب آخر عن تاريخ الأندلس كتبه مؤلفه في القرن الثالث الهجري، أما الكتاب فهو "كتاب خلق الدنيا" وأما مؤلفه فهو عبد الملك بن حبيب الإلبيري المتوفى سنة 238هـ ولذلك فإن الكتاب يعرف بـ "تاريخ عبد الملك بن حبيب الألبيري"3. وربما قفز إلى الخاطر القول بأن المؤلف أندلسي كما هو واضح من اسمه ونسبته، وهذا أمر كامل الصواب، فالرجل أندلسي، قرطبي الوفاة، ولكنه ترك الأندلس فترة طويلة من الزمان، ووفد إلى مصر وعاش فيها ودرس على علمائها وفيها ألف كتابه هذا الذي هو موضوع حديثنا، مستقيًا أخباره ومادته المصرية، على الرغم من أن المؤلف عاد في آخر أيامه إلى قرطبة حيث اشتغل معلمًا بمسجدها. وهكذا تكون الكتابة عن الأندلس تاريخًا وإخبارًا وأدبًا إلى حد ما قد بدأت في مصر على يد عالم مصري، وآخر أندلسي الميلاد مصري الثقافة والإقامة، وبعد ذلك كان الأندلسيون قد بلغوا رشدهم الثقافي فتناولوا أمورهم الثقافية والأدبية، والتاريخية بأنفسهم فأصدروا تلك الكنوز الثمينة من الكتب في مختلف فنون المعرفة ومن بينها الأدب الذي هو موضوع دراستنا في هذا المقام.   1 في التاريخ العباسي والأندلسي "ص473، 474". 2 وفيات الأعيان "4-193". 3 قام بنشر القسم الأندلسي منه الدكتور محمود علي مكي في مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد سنة "1952". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 الفصل الثاني: بداية التأليف عن الأدب الأندلسي مدخل ... الفصل الثاني: بداية التأليف عن الأدب الأندلسي: إن مصادر الأدب العربي في الأندلس من الكثرة بمكان، بعضها أندلسي النشأة والتأليف، وبعضها الآخر مشرقي النشأة والتأليف، وليس من قبيل المصادفة أن يكون البادئون بالترجمة للأدب الأندلسي وأدبائه من العلماء المشارقة، الحق أن المؤلفين المشارقة كانوا من الوعي العقلي وسعة الاطلاع العلمي بحيث يتابعون كل ما يجري على الأرض الإسلامية التي كانت العربية لغتها فكرًا وأدبًا وتعبيرًا، وكتابة من أطراف الصين شرقًا إلى مراكش والأندلس غربًا، ولدينا على الأقل عالمان مشرقيان اهتما بشئون الأدب الأندلسي من شعر ونثر وبالأدباء الأندلسيين من شعراء وكتاب قبل أن يبدأ الأندلسيون أنفسهم في التأليف في أدبهم، ونعني بهذين العالمين المشرقيين أبا منصور الثعالبي في يتيمة الدهر، والباخرزي في "دمية القصر"، وسوف نقدم ذلك تفصيلًا في الفصل التالي من هذا الباب. فإذا ما نظرنا إلى مصادر الأدب الأندلسي بأقلام المؤلفين الأندلسيين أنفسهم وجدنا كتبه التي بين أيدينا ترجع إلى القرن السادس الهجري، هذا إذا ضربنا صفحًا عن كتاب "أخبار شعراء الأندلس" الذي ينسب إلى ابن الفرضي المتوفى سنة 403 والذي سبقت الإشارة إليه، وكتاب "الحدائق" في أشعار الدولة المروانية والمدائح العامرية الذي أملاه ابن فرج الجياني، واهتم فيه بدراسة شعر القرن الرابع الهجري، وكل من الكتابين يعتبر من التراث المفقود. إن النهج الأمثل، هو أن نقسم الكتب التي قدمت لنا الأدب الأندلسي إلى قسمين: قسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 أدبي بحت، انصرفت كل اهتمامات المؤلف فيه إلى الأدب والأدباء من شعر ونثر وأخبار، وما تضمنته هذه الكتب في غير هذا النطاق فإنما هي من قبيل الفروع والاستطرادات. وقسم ثانٍ يندرج تحت موضوعات التاريخ والتراجم. لكن هذه الكتب جميعها -باستثناء القليل منها- مليئة بالنصوص الشعرية وأخبار الشعراء مترعة بالنماذج النثرية وأخبار الكتاب. ولا يغيب عن الذهن أن أكثر الرجال الذين يهتم بهم التاريخ في الأندلس، وهم الملوك والأمراء والوزراء والقضاة والكتاب كانوا جميعًا من الأدباء، ومن ثم فإن كاتب التاريخ لا يستطيع راضيًا أو كارهًا أن يغض الطرف عن الجوانب الأدبية التي كانت ترتبط بهذه الشخصيات التاريخية أو بالأحداث التاريخية نفسها التي كانت على جانب كبير من الإثارة، على طول الفترة الزمنية التي عاشها العرب في الأندلس، وعلى عرض المساحة الأرضية التي غطاها النفوذ الإسلامي في كل من المغرب والأندلس. إن هذا النوع من الكتب الأدبية الأندلسية من الكثرة بمكان، ونستطيع أن نذكر منها تبعًا للترتيب التاريخي كتاب "قلائد العقبان" وشقيقه "مطمح الأنفس" لأبي نصر الفتح بن خاقان المتوفى سنة 529هـ وقيل سنة 533هـ، وكتاب "الزخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لأبي حسن علي بن بسام الشنتريني المتوفى سنة 542هـ، وكتاب "المغرب في حلى المغرب" لأبي الحسن علي بن موسى بن سعيد المتوفى سنة 685هـ وآخرين من بني سعيد، و "الكتيبة الكامنة في شعراء المئة الثامنة" للسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ و "نفح الطيب" لأحمد المقري المتوفى سنة 1041هـ وهو آخر المصادر الكبيرة التي تناولت الآداب الأندلسية وأكبرها حجمًا وأغزرها مادة. وهناك كتب أخرى تحمل أسماء تاريخية، لكنها إلى الدراسات الأدبية أقرب منها إلى التاريخ، وسوف نتناول بعضها بالدراسة بعد أن ننتهي من الحديث على هذه الكتب التي ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 قلائد العقيان ، ومطمح الأنفس ... قلائد العقبان، ومطمح الأنفس: مؤلف هذين الكتابين هو الفتح بن محمد بن عبد الله بن خاقان القيسي الإشبيلي المتوفى في حدود سنة 533هـ وهو غير الفتح بن خاقان بن أحمد القائد وزير المتوكل العباسي وصديقه وخدينه والذي قتل معه سنة 247هـ ومن المصادفات العجيبة أن تكون نهاية حياة كل من هذين الفتحين قتلًا، فابن خاقان الإشبيلي قتل ذبحًا في الفندق الذي كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ينزل فيه في مدينة مراكش، والفتح بن خاقان القائد قتل بالسيوف مع المتوكل على النحو المذكور في كتب التاريخ. وأخبار الفتح بن خاقان الإشبيلي ليست مما يثلج الصدر دائمًا، فلقد كان على أدبه وفصاحته وبلاغته وشاعريته بذيء اللسان هجاء، سيء السمعة، ولعل هذه النقائص كانت السبب في نهايته المؤسفة. ولكن الفتح -على الرغم من ذلك- واحد من رواد التأليف الأدبي أو بالأحرى التأليف في طبقات الأدباء في الأندلس، وإن كتابيه قلائد العقيان ومطمح الأنفس من الثراء الأدبي ومن الجهد الفني، ومن القيمة التاريخية بحيث لا يستغني عنها كل من عرض الدراسات الأندلسية بعامة، والأندلسية الأدبية بخاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 قلائد العقيان : أولًا: كتاب قلائد العقيان يضم نصوصًا شعرية ونماذج نثرية لعدد وفير من معاصريه الأدباء والشعراء والوزراء، والرؤساء والأمراء الذين يبلغ عددهم ثمانية وخمسين عينًا. ويذكر ياقوت الحموي أن الفتح عمد إلى طريقة بارعة بل ماكرة في جمع كتابه، فقد جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك الأندلس، ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر يعرفه عزمه على تأليف كتابه ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره، ولكي يضمه إلى مادة الكتاب، فعمد أكثرهم إلى إرسال منتخبات من أعمالهم الأدبية إليه مصحوبة بالهدايا والمال، ويستطرد ياقوت قائلًا: فكل من أرضته صلته أحسن في كتابه وصفه وصفته، وكل من تغافل عن بره هجاه وثلبه1. ويبدو أن رواية ياقوت على جانب كبير من الصدق، فإننا نلاحظ أن صاحب القلائد يسرف في مدح بعض من يترجم لهم إسرافًا شديدًا، ويمعن في النيل من شمائل بعضهم الآخر نيلًا شديدًا ولو كانوا من ذوي الأدب والفضل. يقول ياقوت مدللًا على ذلك إن الفتح كان قد أرسل إلى أبي بكر بن باجه المعروف بابن الصائغ للغرض نفسه، وكان حينئذ وزيرًا لصاحب المرية، فلما وصلت إليه رسالته تهاون في الرد عليه، ولم يجبه إلى طلبه، وبالتالي لم يرسل إليه شيئًا من عطاء، فلم يكن من الفتح إلا أن أورد في كتابه "القلائد" ترجمة مليئة بالهجاء، مفعمة بالسباب كلها تشهير ونيل من فضل ابن باجه، يقول في مستهلها: "هو رمد جفن الدين وكمد نفوس المهتدين،   1 معدم الأدباء "جـ16، ص187". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 اشتهر سخفًا وجنونًا وهجر مفروضًا ومسنونًا، وضل فيما يتسرع ولا يأخذ في غير الأباطيل ولا يشرع، ولا يرد سوى الغمة ولا يكرع، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة ... الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله العلي العظيم1. ويمضي الفتح إمعانًا في هجر الوزير الفيلسوف والنيل من قدره، وتقبيح معتقده وتشويه صورته وكأنما قد صنع فيه قصيدة من أقذع أنواع الهجاء، الأمر الذي يجعلنا نصدق ياقوتًا فيما ذهب إليه؛ لأن ابن باجه كان صاحب عقل ومنطق وفكر وقلم وأدب وعلم وفلسفة ودين. فإذا ما ترجم الفتح لمن وصله بعطاء، وأهدى إليه بعض المال ولو كان خامل الذكر، فإنه يخلع عليه من أسباب المديح ما يضعه في مرتبة الكواكب، فحين يترجم لأبي العلاء بن صهيب مثلًا -وهو أقل من أن يقارن بالفيلسوف ابن باجه- يقدمه هكذا "نبيل المنازع جميل المنازع، كريم العهد ذو خلائق كالشهد، كثير الافتتان، جال في ميدان الذكاء بغير عنان: وكالسيف إن لاينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان مع فخر متأصل، وفهم إلى كل غامض متوصل، شقي بأبي أمية أوانًا، ولقي كل من صاحبه خزيًا وهوانًا2.. إلخ" وهكذا نجد الفتح بن خاقان معيبًا في طريقة ترجمته لأعيان كتابته، ومن ثم فإننا نأخذ روايته الأخبار بحذر، وأما النصوص التي ضمنها كتابه فهي من الإمتاع بمكان، ذلك أنها انتقاء أصحابها، واختيار منشئيها، وليس للمؤلف فيها من فضل إلا التجميع والتحبير. ثانيًا: وإذا كانت هذه هي مآخذنا على كتاب القلائد فإننا لا نستطيع أن نحجب مزاياه الظاهرة وفوائده الواضحة الوافرة، والكتاب يضم ثماني وخمسين ترجمة هي عدد الأدباء الذين تحدث عنهم، وهم يمثلون كل أقاليم الأندلس على زمانه تقريبًا، ومن ثم فإن الكتاب يغطي من هذه الناحية فترة زمنية محدودة بالنصف الثاني من القرن الخامس، والربع الأول من القرن السادس الأمر الذي يدل على غنى الأرض الأندلسية من الأدباء شعراء وكتابًا، وقد قسم الفتح كتابه إلى أربعة أقسام، صنف أعيانه تصنيفات متجانسة، فجعل القسم الأول للملوك والرؤساء، من أمثال المعتمد بن عباد، والمتوكل المظفري، والمعتصم بن صمادح وغيرهم ممن هم أمثالهم في المكانة والرئاسة. وجعل القسم الثاني في الترجمة للوزراء.   1 قلائد العقيان "ص298". 2 المصدر نفسه "ص281". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 وكانت مؤهلات الوزارة آنئذ هي العلم والفضل، والأدب، والثقافة، والكياسة، والسياسة، فمن الوزراء الذين ترجم لهم -وهم في الوقت نفسه قمم الشعر في الأندلس- أبو الوليد أحمد بن زيدون، أبو بكر ابن عمار، أبو الحسن ابن الحاج، أبو محمد ابن عبدون، أبو الفضل ابن حسداي، وغيرهم من وزراء الأقاليم الأندلسية، وضمن المؤلف القسم الثالث من كتابه الترجمة لأعيان القضاة والعلماء والفقهاء، وكان كثير من هؤلاء يتسنمون رتبة الوزارة بل كان بعضهم -أعني الفقهاء- يتلقب بذي الوزارتين مثل الفقيه أبي أمية إبراهيم بن عصام الذي كان يلقب بذي الوزارتين وقاضي قضاة الشرق، ومن الذين شملهم هذا القسم الفقيه الإمام الحسن بن زنباع وغيرهم. وأما القسم الرابع والأخير فيترجم لأعيان الشعراء وفحولهم الذين غلبت عليهم صفة الشعر وسمة الأدب أكثر من أي سمات أخرى مثل أبي إسحاق ابن خفاجة، أبي بكر الداني المعروف بابن اللبانة، الأعمى التطيلي، أبي محمد ابن سارة الشنتريني، أبي جعفرالبني. ثالثًا: بغض النظر عن الأهواء الشخصية التي كانت تتحكم كثيرًا في الترجمة للشعراء والأدباء فإن الفتح بن خاقان ما كان يستطيع أن يخمل شأن البارزين من الشعراء واللامعين من الأدباء، بل كان يخصهم -دون غيرهم- بتراجم طويلة مفصلة بعض الشيء، كما كان يكثر من تقديم النماذج المختارة من أشعارهم ويميزهم من غيرهم بمساحات أكبر من صفحات كتابه، لقد فعل ذلك للمعتمد بن عباد، وهو كبير ملوك الأندلس وملك شعرائها، وكما فعل مع ذي الوزارتين الشاعر المبدع أحمد بن زيدون، والفقيه الشاعر أبي محمد إسحاق بن خفاجة، وشاعر بني عباد أبي بكر الداني المعروف بابن اللبانة، وأبي محمد بن سارة الشنتريني، وأبي جعفر الأعمى التطيلي. رابعًا: لما كان الفتح بن خاقان يقوم بأول محاولة من هذا النوع في تأليف كتاب في طبقات شعراء الأندلس، فإنه لم يجد كبير غضاضة في أن ينهج نهج أبي منصور الثعالبي في يتيمته وأن يرسم على منواله فيها، وإن مثل هذا التصرف من جانبه لا يعتبر عيبًا ما دام المؤلف يرتاد أرضًا لم يسبقه إليها مرتاد، وينهج نهجًا لم تسر فيه من قبله خطى سائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس: إنه اسم طويل لكتاب آخر للمؤلف عينه الفتح بن خاقان، حاول أن يجعله ذيلًا للقلائد فترجم فيه تراجم مقتضبة لعدد من الشعراء النابهين وعددهم ستة وتسعون شاعرًا، من شعراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 الأندلس الذين عاشوا على أرضها على مختلف العصور، وليس في فترة زمنية محددة، فهو يترجم لشعراء عاشوا في القرن الثالث، مثل أحمد بن عبد ربه، وآخرين عاشوا في القرن الرابع مثل الفقيه منذر بن سعيد البلوطي، وأبي عمر يوسف بن هارون المعروف بالرمادي والفقيه المؤرخ أبي برك بن القوطية، ومحمد بن هانئ، كما يترجم لعدد وافر من شعراء القرنين الخامس والسادس. من هنا يختلف المنهج الذي التزمه الفتح بن خاقان في هذا الكتاب عنه في قلائد العقيان، فالمطمح لا يختص بالترجمة لشعراء فترة بعينها، وإنما يختار شعراءه منذ أن بدأ الشعر ينمو ويترعرع في الأندلس، وأما القلائد فيختص بزمن معين سبق أن أشرنا إليه. هذا هو المنهج الذي استخلصناه من قراءتنا لمطمح الأنفس، واستعراضه، ولقد قدم المؤلف لكتابه هذا في نطاق مفهومنا الذي أشرنا إليه قائلا بأسلوبه المزخرف الموقع المسجوع: "كان بالأندلس أعلام، فتنوا بسحر الكلام، ولقوا منه كل تحية وسلام، فشعشوا البدائع وروقوها، وقلدوها بمحاسنهم وطوقوها، ثم هووا في مهاوي المنايا، وانطووا بأيدي الرزايا، وبقيت مآثرهم غير مثبتة في ديوان، ولا مجملة في تصنيف أحد من الأعيان، تجتلي فيه العيون وتجتني منه زهر الفنون، إلى أن أراد الله إظهار إعجازها، واتصال صدورها بأعجازها فحللت من الوزير أبي العاص حكم بن الوليد عند من رحب وأهل، بمكارمه وانهل، وندبني إلى أن أجمع في كتاب وأدركني من التنشط إلى إقبال من ندب إليه، وكتابة ما حدث عليه، فأجبت رغبته، وحليت بالإسعاف لبته، وذهبت إلى إبدائها وتخليد عليائها"1. ويقسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أقسام يشتمل أولها على "غرر الوزراء وتناسق درر الكتاب والبلغاء"، وثانيها يشتمل على "محاسن أعلام العلماء وأعيان القضاء والفهماء"، وثالثهما يشتمل على "سرد محاسن الأدباء النوابغ النجباء". أما وأن المترجم لهم ليسوا من المعاصرين للمؤلف، فإن الحيدة والبعد عن التحيز يشكلان أساسًا لهذه الترجمات الست والتسعين والتي نهج فيها المؤلف نهج الاقتضاب الشديد، والإيجاز المسرف بحيث يكاد يخص المترجم له في حالات كثيرة بأقل من نصف صفحة، ولكنه لا يبخل على الأدباء الكبار والأعيان المرموقين بإيفائهم حقهم من الترجمة، ولو أدى ذلك به إلى إطالة لا تتفق مع نهج الإيجاز الذي التزمه المؤلف من مطمحه، فمن الأعيان التي أطال القول في ترجمتهم بعض الشيء الوزير أبو عامر بن شهيد، والفقيه أبو   1 مقدمة مطمح الأنفس "ص2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الحسن منذر بن سعيد البلوطي فخر علماء الأندلس علمًا وفضلًا، وعدلًا وشجاعة ومكانة، والشاعر المبدع أبو عمر يوسف بن هارون المعروف بالرمادي، والشاعر محمد بن هانئ. وكتاب "مطمح الأنفس" -على صغر حجمه- يضم القصائد الفريدة والأخبار الطريفة التي لم تتكرر في غيره من الكتب التي عرضت للأدب الأندلسي، وأدبائه عند من كانت لهم دراسات تاريخية، فلقد قام الفتح بعمل دراسة ميدانية حسبما يسميها علماء الاجتماع المعاصرون. هذا وكل من "قلائد العقيان" و"المطمح" يعتبر من المصادر الأصيلة لكل من كتب أو ألف أو ترجم في نطاق الأدب الأندلسي ابتداء من أبناء سعيد في المغرب وانتهاء بلسان الدين بن الخطيب، كل في كتبه العديدة التي يقول فيها بين الحين والآخر "قال الفتح في قلائده" أو جملة "ذكره الفتح في القلائد" أو جملة "ومن القلائد"، ثم يأتي بالنص أو بالخبر. وإذا كان ثمة عيب ظاهر في كل من القلائد والمطمح، فهو أن الفتح بن خاقان لم يضع في اهتمامه ذكر تواريخ مواليد ووفيات الأعيان الذين عرض لهم بالترجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة : يعتبر كتاب الذخيرة من أشهر الكتب التي ألفها العلماء الأندلسيون وأنفسها قيمة فيما يتصل بتاريخ أدب وطنهم الأندلس، ولقد قام بتأليفه علي بن بسام الشنتريني نسبة إلى بلدة شنترين التي ولد فيها وعاش في رحابها معظم سني حياته، وشنترين تقع في أقصى غرب الأندلس -أي في البرتغال المعاصرة- وتعرف المدينة الآن باسم Santarem. ولقد هاجر ابن بسام من مدينته الجميلة حين بدأت تتعرض للغزو الأسباني المسيحي، وتضطرب أسباب العيش فيها، فاتجه مهاجرًا إلى جهة الشرق حيث ألقى عصا الترحال في إشبيليه، وبها استقر مقامه بضع سنوات وفيها ألف "الذخيرة" ثم توفي فيها سنة 524هـ وهي السنة نفسها التي فيها وقعت مدينته في يد الروم، ولعل خبر سقوط مدينته العزيزة على نفسه، وقع على قلبه في مغتربه موقعًا أليمًا فكان من الأسباب التي أودت بحياته؛ لأنه عاش في إشبيلية حياة مضطربة غير مستقرة، محوطًا بالحساد مقترًا عليه في الرزق بعد رفاهية عيش في موطنه ونعومة حياة في بلدته شنترين. وهو يذكر ذلك في مقدمة كتاب مسجلًا ذلك للتاريخ قائلًا1:   1 مقدمة الذخيرة "1/ 1/ 8". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 "وعلم الله تعالى أن هذا الكتاب لم يصدر إلا عن قلب مكلوم الأحناء، وفكر خامد الذكاء، بين دهر متلون تلون الحرباء؛ لانتباذي كان من شنترين قاصية المغرب، مفلول الغرب، مروع السرب، بعد أن استنفد الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، بتواتر طوائف الروم، علينا في عقر ذلك الإقليم، وقد كنا عنينا بكرم الانتساب عن سوء الاكتساب، واجتزأنا بمذخور العتاد عن التقلب في البلاد، إلى أن نثر علينا الروم ذلك النظام، ولو ترك القطا ليلًا لنام، وحين اشتد الهول هنالك اقتحمت بمن معي المسالك، على مهامه تكذب فيها العين الأذن وتستشعر فيها المحن: مهامه لم تصحب بها الذئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه حتى خلصت خلوص الزبرقان من سراره، وفزت فوز القدح عند قماره، فوصلت حمص -أي إشبيليه- بنفس قد تقطعت شعاعًا، وذهب أكثرها التياعًا، وليتني عست منها بالذي فضلا فتغربت بها سنوات أتبوأ منها ظل الغمامة، وأعيا بالتحول عنها عي الحمامة، ولا أنس إلا الانفراد، ولا تبلغ إلا بفضلة الزاد، والأدب بها أقل من الوفاء حامله أضيع من قمر الشتاء، وقيمة كل أحد ماله، وأسوة كل بلد جهاله، حسب المرء أن يسلم وفره، وإن ثلم قدره، وأن تكثر فضته وذهبه، وإن قل دينه وحسبه". ويبدو أن الرجل العالم الكريم قد كابد الكثير من الحرمان في إشبيليه، وكابد غير قليل من المكائد، وواجه ألوانًا من الحسد وشظف العيش. ومدينة أشبيلية لم تكن من ناحية العلم والجد على مستوى رفيع بل كانت مدينة لهو وعبث، على عكس قرطبة التي كانت مدينة العلم والثقافة والنور، وقد قال الفيلسوف ابن رشد في مناظرة له مع الشاعر المبدع ابن زهر، وكان الأول متعصبًا لقرطبة والثاني متعصبًا لإشبيلية: ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيليه فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة، وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيليه. لقد كانت إشبيلية إذن مدينة قصف ومجون وليست مدينة جد وعلوم الأمر الذي جعل ابن بسام يقول فيها قولًا شبيهًا بقول ابن رشد وإن كان أسبق منه زمانًا: "ولا أنس إلا الانفراد، ولا تبلغ إلا بفضلة الزاد، والأدب بها أقل من الوفاء، حامله أضيع من قمر الشتاء". إنها إشبيلية ما بعد عصر بني عباد على كل حال، فلقد كانت على عهدهم عاصمة الأندلس ثقافة وأدبًا وفنًّا وعزةً وامتناعًا. لقد كتب ابن بسام ذخيرته إذن في إشبيلية، ولما كانت سنة وفاته هي 524هـ وإقامته في إشبيلية سنوات -على حد تعبيره- فإن معنى ذلك أنها من قبل الاستنتاج العقلي لا تزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 على العشر، ويكون ابن بسام ألف كتابه في حدود سنة 532 وما بعدها، أي أنه كتبه بعد وفاة الفتح بن خاقان احتمالًا، وبعد تأليف الفتح كتابيه "القلائد" و "المطمح" ترجيحًا إن لم يكن قطعًا. على أن هذا الترتيب الزمني بين كتابي الفتح بن خاقان، وكتاب ابن بسام لا يعني أن التقدم الزمني يرتبط بالسبق الفني، فإن ذلك أمر غير وارد، فإن إعجاب المتأدبين بالذخيرة لا يقاس به إعجابهم بالقلائد أو المطمح، بل إن أمر زيادة الاستحسان نحو الذخيرة يكمن في أن رجلًا نشأ في قاصية الغرب يستطيع إبداع مثل هذا الكتاب، ولقد استغرب صاحب المسهب حسبما يروي ابن سعيد "أنه يبعث من مدينة شنترين قاصية الغرب، ومحل الطعن والضرب من ينظمها قلائد في جيد الدهر، ويطلعها ضرائر للأنجم الزهر"1. وليس من شك في أن ابن بسام كان يحيا حياة مرحة باسمة، ويعيش عيشة ناعمة إن لم تكن صاخبة في شنترين قبل أن يرزأ بآلام الغربة وقلق الشتات، ولعل هذه الأبيات من شعر تعتبر قرينة على ذلك حين يقول في صدر شبابه وهو بشنترين: ألا بادر فما ثانٍ سوى ما ... عهدت: الكأس والبدر التمام ولا تكسل برؤيته ضبابًا ... تغص به الحديقة والمدام فإن الروض ملتئم إلى أن ... توافيه فينحط اللثام هذا وأبو الحسن علي بن بسام الشنتريني كاتب أنيق الأسلوب في الكتابة مع التزام السجع والمحسنات -شأن كل كتاب زمانه- وأما شعره الذي أورد الكثير منه في "الذخيرة" فإنه لا يضعه في مرتبة مرضية بين شعراء الأندلس. ومهما كان الأمر فإن عمله الكبير والوحيد هو كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" فلنعرض إذن لكتاب الذخيرة.   1 المغرب "1/ 417". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ملامح كتاب "الذخيرة" ومنهجه : أولًا: يعالج الكتاب أدب القرن الخامس الهجري وحده من شعر ونثر، ويعرف بشعرائه وكتابه تعريفًا يفي بغرض الدارس، ويعلن عن ذلك في مقدمة كتابه بقوله: "واعتمدت المائة الخامسة من الهجرة فشرحت بعض محنها، وجلوت وجوه فتنها، ولخصت القول بين قبيحها وحسنها، وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم على الإقليم، وألمعت بالأسباب التي دعت ملوكها إلى خلعهم، واجتثاث أصلهم وفرعهم، وعبرت عن أكثر ذلك، بلفظ يتتبع الهم بين الجوانح، ويحل العصم سهل الأباطح"1.   1 مقدمة الذخيرة ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ويؤكد ابن بسام على التزامه بالترجمة لأدباء القرن الذي عاشه دون سواه من العصور السابقة إيمانًا منه بالتخصص، والتخصص سبيل الإجادة، فيقول: "ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية، ولا المدائح العامرية، إذ كان ابن فرج الجياني قد رأى رأيي في النصفة، وذهب مذهبي في الأنفة، فأملى في محاسن أهل زمانه "كتاب الحدائق" معارضًا "كتاب الزهرة" للأصبهاني، فأضربت أنا عما ألف، ولم أعرض لشيء مما صنف، ولا تعديت أهل عصري، ممن شاهدته بعمري، أو لحقه بعض أهل دهري، إذ كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول"1. وإذن فإن إحدى خواص كتاب الذخيرة أنه متخصص في قرن بعينه، هو القرن الخامس وهو أزهى عصور الأندلس في الأدب والعلم والثقافة، وقد كتب الفتح بن خاقان كتابه قلائد العقيان على النهج نفسه أي في زمان بعينه، والحق أن كثيرًا مما ضمنه ابن بسام كتابه قد نسبه إليه الفتح بن خاقان في القلائد، ومن ثم فإن ابن بسام لم يلتزم الشعار الذي أطلقه حين قال: "كل مردود مرذول" غير أن نظرة ابن بسام أوسع وأرحب وتناوله أدق وأعمق وتبدو الموضوعية واضحة في معانيه ومراميه، كما أنه متسم بالحيدة في أحكامه على قدر اجتهاده وليس كذلك ابن خاقان في قلائده. ثانيًا: يحمل الكتاب مسحة تاريخية على جانب كبير من الفائدة، ولا تتأتى هذه الفائدة من ناحية كون التاريخ والأدب كلاهما مكمل الآخر، ولكن من ناحية اعتماد ابن بسام في أخباره التاريخية على كتاب "المتين" لابن حيان، ويذكر ابن بسام ذلك صراحة منه وأمانة: فيقول: وعولت في ذلك على تاريخ أبي مروان ابن حبان فصوله، وأوردت جمله وتفاصيله2 وبذلك يكون ابن بسام قدم إلى دارسي الأدب مادة ثمينة، وإلى دارسي التاريخ مجمل كتاب نفيس مفقود. ثالثًا: عمد ابن بسام في كتابه إلى إظهار فضل الأندلسيين في الأدب نثرًا وشعرًا مع تحمس شديد لهم -وهو في ذلك صاحب حق- غير أنه حاول أن ينال من المشارقة برفق وأن يكبح جماح قومه، ويقلل من حماسهم نحو الاقتصار على الاهتمام بأدب المشارقة وحدهم، وهو يظهر غيرة شديدة غير محمودة في هذا المقام، فإذا كان الأندلسيون قد بلغوا مرتبة سامية من المكانة في دنيا الأدب، فإن ذلك لا يعني الانصراف عن أدب المشارقة، ومن ثم فلقد كان ابن بسام مصيبًا في التحمس لأدب قومه، مخطئًا في محاولة التقليل من   1 مقدمة الذخيرة "ص2". 2 المصدر السابق "ص7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 أدب المشارقة، ونرجو مخلصين ألا تكون بالرجل مسحة شعوبية، ويقول ابن بسام في هذا المقام1. وما زال في أفقنا هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الفنين وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيب مكاسر وصفاء جواهر، وعذوبة موارد، ومصادر لعبوا بأطراف الكلام المحلق، فصبوا على قوالب النجوم غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى لولاه حكمه، ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى وما نبح، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنمًا وتلوا ذلك كتابًا محكمًا، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصبة ومناخ الرذية، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتصبح ثماره ثمارًا مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه وقديمًا ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان وخص أهل المشرق بالإحسان؟ إن إسرافًا شديدًا وتحاملًا غير كريم على أدب المشرق وأدبائه يبدو سافرًا صارخًا في تلك السطور التي قدم ابن بسام بها كتابه، وهو عيب يحسب عليه، وسقطة تردى فيها، فما زال شعراء المشرق هم أساتذة الشعر وإن لمع في سماء الأندلس نجوم، وما برح كتاب المشرق هم أئمة الكتاب وكل كتاب الأندلس بلا استثناء حتى عصر المؤلف عيال عليهم وصورة مهتزة عنهم، إن مجرد الحماس أمر لا غبار عليه، وهو مطلوب مفيد في بعض الأحيان أما التحامل والتجني والتحقير، فأمور لا ينبغي أن يتصف بها مؤلف إذا أراد أن ينتظم في عقد الصادقين من المؤرخين والرواة والمؤلفين. ولذلك فيقدر عيبنا ابن بسام حملته تلك الشعواء على المشارقة، فإننا لا نجد ضيرًا عليه في تحمسه لكتابه ومحتواه، وخلع الصفات الغالية عليه حين قال:2   1 مستهل مقدمة الذخيرة. 2 مقدمة الذخيرة "ص3، 4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 "وقد أودعت هذا الديوان الذي سميته بكتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة من عجائب علمهم، وغرائب نثرهم ونظمهم ما هو أحلى من مناجاة الأحبة، بين التمتع والرغبة، وأشهى من معاطاة العقار على نغمات المثاليث والأزيار؛ لأن أهل هذه الجزيرة منذ كانوا رؤساء خطابة، ورءوس شعر وكتابة، تدفقوا فأنسوا البحور، وأشرقوا فباروا الشموس والبدور، وذهب كلامهم بين رقة الهواء، وجزالة الصخرة الصماء، كما قال صاحبهم عبد الجليل بن وهبون يصف شعره: رقيق كما غنت حمامة أيكةٍ ... وجزل كما شق الهواء عقاب على كونهم بهذا الإقليم، ومعاقبتهم لطوائف الروم، وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خطى المآثر العربية، ليس وراءهم وأمامهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط، فحصاة من هذه حاله بتير وثمده بحر مسجور". رابعًا: بينما يتعصب ابن بسام لقومه ذلك التعصب البغيض ضد المشارقة نجده يفاجئنا في القسم الأخير من كتابه بأدب الوافدين على الأندلس من المشرق، وهم كثيرون، وكلهم في الرتبة الرفيعة أدبًا وعلمًا، ولا عليه في ذلك، فربما اعتبرهم أندلسيين ما داموا قد حلوا بالأندلس، وأقاموا فيها إقامة موقوتة أو دائمة، وإنما الذي يدعو إلى الدهشة حقًّا أن يترجم ابن بسام لأدباء مشارقة لم تطأ أقدامهم أرض المغرب أو الأندلس، بل إنهم ليسوا من رجال القرن الخامس الذي أخذ ابن بسام العهد على نفسه ألا يترجم لغير رجاله، فضلًا عن تعمده أن يكونوا أندلسيين، إنه يترجم للعديد من المشارقة من رجال القرن الرابع مثل الشريف الرضي ومهيار الديلمي وأبي منصور الثعالبي وغيرهم، ومن ثم، فإن كتاب الذخيرة، على رغم تحامل صاحبه على المشارقة وتحمسه الشديد للأندلسيين، وتعهده بألا يترجم لغيرهم ملأ صفحات كثيرة من كتابه الكبير بعدد من أدباء المشارقة، وذكر بعض أدبهم وأخبارهم، وهو أمر إن يكن معيبًا منهجيًّا، فإنه مفيد علميًّا، فإن للرجل أسلوبه الخاص وطريقته الواضحة في تقديم الأدباء وآثارهم. خامسًا: وما دمنا بصدد الحديث عن تعصب ابن بسام على المشارقة، فإننا لا نجد مفرًّا من أن نذكر أنه هو نفسه تلميذ للمشارقة وعالة عليهم في منهج كتابه هذا، إنه من حيث المنهج صورة دقيقة للثعالبي في كتاب "يتيمة الدهر". إن الثعالبي قسم كتابه -حسبما مر بنا في مكانه من هذا الكتاب- إلى أربعة أقسام هي: القسم الأول في آل حمدان وشعرائهم وغيرهم من أهل الشام وما يجاورها والموصل ومصر والمغرب والأندلس، والقسم الثاني في أشعار أهل العراق والدولة الديلمية، وكتابهم والقسم الثالث في أشعار أهل الجبل وفارس وجرجان، وطبرستان وأصفهان من وزراء وكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وقضاة وشعراء وأخبارهم، والقسم الرابع في أهل خراسان وما وراء النهر من أدباء الدولة السامانية، والغزنوية، وبخارى. إنه المنهج نفسه، والتقسيم عينه الذي اتبعه ابن بسام في "الذخيرة"، فيقول: وقسمته أربعة أقسام: الأول لأهل خضرة قرطبة وما يصاقبها من بلاد متوسطة الأندلس، ويشتمل من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء ويذكر أسماء من ترجم لهم، وأخبارهم وآثارهم الأدبية، والأحداث التاريخية التي ألمت بتلك المناطق مبتدئًا بالمستعين بالله سليمان ابن الحكم -ومنتهيًا بأبي طالب عبد الجبار من جريرة شقر1 وهذا القسم من الكتاب مطبوع في مجلدين قام على تحقيقه فريق من النابهين من خريجي كلية الآداب، بجامعة القاهرة سنة 1939-1942 على الترتيب. والقسم الثاني من الكتاب خصصه المؤلف لأهل الجانب الغربي من الأندلس، ذكر فيه إشبيليه وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر الرومي "الأبيض المتوسط" ويشتمل على عدد كبير من الأعيان والشعراء والوزراء ابتداء من رأس بني عباد: القاسم بن عباد وانتهاء بالأديب أبي محمد بن سارة الشنتريني2. والقسم الثالث جعله المؤلف لأهل الجانب الشرقي من الأندلس "ومن نجم من كواكب العصر في أفق ذلك الثغر الأعلى إلى منتهى كلمة الإسلام هناك، وفيه من القصص وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء طوائف3. والقسم الرابع أفرده المؤلف للوافدين على بلاد الأندلس خلال القرن الخامس الهجري من شعراء وكتاب، وألحق به ذكر طائفة من مشهوري الأدباء والشعراء في إفريقية والشام والعراق لم تطأ أقدامهم أرض الأندلس، ولكن كانت شهرتهم قد طارت إلى سمائه، وآدابهم كانت وصلت إلى محافله وأجوائه4. ولقد طبع من هذا القسم جانب صغير سنة 1945م يشتمل على أخبار وآثار تسعة شعراء وعلماء المشارقة الوافدين ابتداء من أبي العلاء صاعد اللغوي، وانتهاء بأخبار عبد الكريم بن فضال الحلواني، وهم في مجملهم أعلام مع ذكر كثير من الأحداث التي أوردها المؤلف أثناء الحديث عنهم، وهذا الجانب الذي تم طبعه لا يمثل أكثر من ربع القسم كله، وبذلك يكون المقدار الذي لم يطبع بعد من الذخيرة شاملًا القسمين الثاني، والثالث، وثلاثة أرباع   1 راجع أسماء من ترجم لهم في صفحة 11 من المقدمة. 2 راجع أسماء من ترجم لهم في صفحة 13 من المقدمة. 3 راجع محتويات هذا القسم الثالث في مقدمة الذخيرة ص16. 4 راجع محتويات هذا القسم الرابع في مقدمة الذخيرة صفحة 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الرابع، وهذا المقدار يمثل كنزًا ثمينًا ينبغي إزاحة الستار عنه، وذلك بتحقيقه تحقيقًا دقيقًا ونشره نشرًا متقنًا؛ لأنه لا غنًى عنه لكل من يعرض للدراسات الأدبية الأندلسية. سادسًا: ولم يكن صاحب الذخيرة -على نفاستها- متعصبًا للأندلسيين على المشارقة وحدهم، وإنما كان متعصبًا للكتاب على الشعراء، فهو يخصهم بالتقديم ويغمرهم بالتكريم ويكثر من أخبارهم ومجاملتهم وهذا الأمر لا يعتبر غريبًا لأن ابن بسام ينتسب إلى طائفة الكتاب أكثر من انتسابه إلى طائفة الشعراء، ذلك أن نثره عذب على ما فيه من صناعة وترسله أنيق على ما فيه من إسراف في البديع، وشعره أقرب إلى النظم العادي إلا في حالات قليلة، كما أنه يقدم الملوك والأمراء دائمًا على الأدباء من كتاب وشعراء، إنه والأمر كذلك صورة دقيقة أخرى للثعالبي في "اليتيمة" وحسبنا أن نقرأ ما كتبه الثعالبي عن سيف الدولة الحمداني أو عضد الدولة البويهي من الملوك، وعن الكتاب، يكفينا أن نقرأ ما كتبه عن ابن العميد أو الصاحب بن عباد أو أبي إسحاق الصابي، أو بديع الزمان الهمذاني أو أبي بكر الخوارزمي، أو أبي الفرج الببغاء من الكتاب لنلمس كم كان الثعالبي متعصبًا للكتاب في اليتيمة، مثلما تعصب ابن بسام لهم في الذخيرة. ومهما كان الأمر في المقارنة بين الكاتبين الكبيرين، فإننا نخالف من ذهب إلى تفضيل ابن بسام على الثعالبي، وهو ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور طه حسين في تقديمه للذخيرة، إن جهد ابن بسام كله قد انحصر في كتابه هذا، وأما الثعالبي فقد كان متعدد الثقافات، وله العديد من المؤلفات الطريفة النفيسة -حسبما مر بنا الحديث عنه- وليس من العدل أن نقارن بين شخصيتين، ونقوم بتفضيل صاحب عمل واحد ناجح على صاحب أعمال كثيرة باهرة، هذا فضلًا على كونه -أي الثعالبي- رائد هذا اللون من التأليف الأدبي. وكما أن "قلائد العقيان" ومطمح الأنفس يمثلان مصدرًا أساسيًّا للمؤرخين والمؤلفين المتأخرين في نطاق الدراسات الأندلسية، فإن "الذخيرة" هي الأخرى مصدر غني ومورد عذب نهل منه بغزارة كل من كتب بعد ابن بسام في تاريخ الأندلس وآدابها ويكفي أن كتاب "المغرب في حلى المغرب" أخذ عنه نيفًا وتسعين خبرًا ونصًّا. هذا ومن الطريف أن علماء الأندلس كانوا -مثل المشارقة- يكمل المتأخر منهم ما فات المؤلف المتقدم أن يذكره، أو يصحح في حالات الخطأ، وقد فعل ذلك أبو عمرو ابن الإمام حين ألف كتابًا أسماه "سمط الجمان وسقط اللآلي وسقط المرجان" ذكر فيه من أخل ابن بسام والفتح بن خاقان بتوفية حقه من الفضلاء، واستدرك من لحقه بعصره في بقية المائة الخامسة، وقيل بل السادسة، إلا أن الكتاب لم يصل إلينا وإنما يأخذ عنه صاحبا "المغرب" و "نفح الطيب" كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 ال فصل الثالث: المُغْرِب في حلى المَغْرِب: التعاون والتعاقب في تأليف كتاب واحد : إن هذا الكتاب يعتبر فريدًا في تأليفه ومنهجه وقيمته بين كتب التراث الأدبي الأندلسي بصفة خاصة، والعربي الإفريقي الأندلسي "أي ما بين مصر شرقًا والمغرب والأندلس غربًا بصفة عامة" ومعنى ذلك أن الكتاب معني بكل من مصر، والمغرب العربي والأندلس، ولكل إقليم من هذه الأقاليم الكبار قسم أو مجموعة أقسام تتناول أدباءها من أمراء ووزراء وكتاب وشعراء وفقهاء وزهاد. والذي نهتم له هنا في هذا المقام هو القسم الخاص بالأندلس من كتاب "المغرب في حلى المغرب". ومن الطرائف حول هذا الكتاب أنه ألف في مائة وخمس عشرة سنة، وقبل أن يتساءل المرء عن كيفية تأليف كتاب في هذه المدة المفرطة الطول نسارع إلى تقرير أن الكتاب لم يقم بتأليفه عالم واحد، وإنما قام بذلك ستة علماء، أربعة منهم وزراء الواحد منهم بعد الآخر أولهم شاعر عالم، هو أبو محمد عبد الله الحجاري وبقيتهم خسمة من آل سعيد هم الأمير الوزير عبد الملك بن سعيد ثم خلفه على العمل نفسه ولداه أبو جعفر أحمد، ومحمد، ثم موسى بن محمد، ثم علي بن موسى. إنه نهج جديد في تاريخ التأليف حين يبدأ رأس الأسرة تأليف كتاب، وما يزال أبناؤه وأحفاده يتناولونه بالزيادة من واقع آداب عصرهم حتى يأخذ صورة مكتملة ناضجة فينشره الحفيد على الناس. وتبدأ فكرة الكتاب حين وفد أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري على القائد الأمير عبد الملك بن سعيد، ومثل بين يديه في قلعة بني سعيد غير بعيد عن غرناطة، وكان ذلك سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 530هـ وأنشده قصيدة في مديحه يقول فيها1: عليك أحالني الذكر الجميل ... فجئت ومن ثنائك لي دليل أتيت ولم أقدم من رسول ... لأن القلب كان هو الرسول وهي قصيدة رائعة الأنغام عذبة المعاني والإيقاع، وفيها يصف نفسه وشكله البدوي وذكاءه وفطنته قائلًا: أجل طرفًا لدي فإن عندي ... من الآداب ما يحوي الخليل ومثلني بدن فيه سر ... يخف به ومنظره ثقيل فنال الحجاري عند ابن سعيد حظوة، ومكانة وقربه إليه ولمس فيه القدرة على التأليف الأدبي لكثرة محفوظه وسعة اطلاعه، فطلب إليه تصنيف كتاب في لطائف الشعر وطرائف النثر فكتب له كتاب -أسماه "المسهب في غرائب المغرب" في نحو ستة أسفار، بدأه من فتح الأندلس حتى تاريخ كتابته وهو سنة 530هـ فأعجب به أيما إعجاب، وجعل يطيل القراءة فيه، ثم ثار في خاطره أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري2 بحيث أضفى على الكتاب من أدبه وعقله ما جعله يتخذ شكلًا آخر. فلما مات عبد الملك بن سعيد، تولى أمر الكتاب عناية وزيادة وإضافة ولداه أبو جعفر أحمد الذي اتخذه عثمان بن عبد المؤمن وزيرًا له ثم ما لبث أن قتله غيرة منه لتعلق الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية بحبه وكان عثمان يهواها، وأبو جعفر هو أشعر بني سعيد ونجم لامع من فرسان الشعر والتوشيح في الأندلس3. قام أبو جعفر على السير قدمًا بالكتاب الذي بدأه الحجاري وتابعه عبد الملك والد أبي جعفر. فلما قتل أبو جعفر سنة 550 هجرية تابع الجهد العلمي أخوه عبد الله محمد بن عبد الملك، وكان بنو عبد المؤمن الموحدون قد استوزروه وولوه أعمال إشبيلية وغرناطة ثم سلا بأقصى الغرب، وكان محمد وزيرًا جليلًا ذا همة وعلم وشمائل، ولقد عرف بالعلم والسياسة أكثر مما عرف بالشعر، وكان الشعراء ينتجعون ساحته فيجزل لهم العطاء تقديرًا للشعر وليس   1 المغرب "2/ 35". 2 نفح الطيب "3/ 95". 3 راجع دراستنا له في فصل شاعرات الأندلس من كتابنا "الأدب الأندلسي" والمغرب 2/ 164 والإحاطة 1/ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 أجرًا للمديح، مدحه الرصافي البلنسي بقصيدة جميلة طويلة قال في بعضها1: إن الكرام بني سعيد كلما ... ورثوا العلا والمجد أوحد أوحدا قسموا المعالي بالسواء وفضلوا ... فيها عمادهم الكبير محمدا وعلى يدي محمد هذا بني الجامع الأعظم بإشبيلية وتوفي في غرناطة سنة 589هـ عن خمسة وسبعين عامًا. ومن محمد بن عبد الملك تلقف الكتاب ولده موسى بن محمد، وكان عظيمًا كأبيه له مشاركة في السياسة شأن بقية أسرته، وله في الوقت نفسه إقبال على العلم وشغف بالقراءة والاطلاع ملك عليه حياته، لقد كان واليًا على الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس من قبل المتوكل بن هود، فلما مات المتوكل ترك السياسة، وتفرغ للعلم والاطلاع، والتأليف، والرحلة لجمع المعرفة، واتجه إلى المشرق لأداء فريضة الحج مصطحبًا ولده عليًّا، فتوقفا بعض الوقت في تونس، ثم مضيا في طريقهما حتى وصلا إلى الإسكندرية فمكثا فيها بعض الوقت لتعثر الرحلة إلى الحجاز، غير أن المنية عاجلته حيث هو سنة 640هـ ولقد كان موسى ذا فضل وفير، وهل هناك أفضل من رجل مرموق في السياسة والحكم يتركهما طائعًا لكي يتفرغ للعلم والرحلة في سبيل المعرفة، إن ولده يقول عنه: لولا أنه والدي لأطنبت في ذكره ووفيته حق قدره، وله في هذا الكتاب -أي كتاب المغرب- الحظ الأوفر، وكان أشغفهم بالتاريخ -أي أشغف بني سعيد- وأعلمهم به، وجال كثيرًا إلى أن انتهى به العمر بالإسكندرية2. وهناك الكثير من الأمثلة التي تروى عن مدى تعلق موسى بالعلم والعلماء، والكتب، والصحف حتى وهو أمير على الجزيرة الخضراء، فقد علم أن لدى بعض المنسوبين إلى بيت نباهة كراريس وقال: علي يمين ألا تخرج من منزلي وإن كانت له حاجة فليأتِ على رأسه، فلم تأخذه عزة الإمارة، بل ضحك وطلب إلى ابنه علي أن يسير معه إليه، فقال علي: ومن يكون حتى نمشي إليه على هذه الصورة؟ فقال موسى: إني لا أمشي إليه، ولكن أمشي إلى الفضلاء الذين تضمنت الكراريس أشعارهم وأخبارهم، واستطرد قائلًا: أتراهم لو كانوا أحياء مجتمعين في موضع أنفت أن أمشي إليهم؟ فقال علي: لا فقال إن الأثر ينوب عن   1 المغرب "2/ 162". 2 المغرب "2/ 170". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 العين. وذهبا فاطلعا على الكراريس، وشكر موسى لصاحبها ثم قال لابنه: "إني سررت بهذه الفائدة أكثر من الولاية، وإن هذا والله أول السعادة وعنوان نجاحها"1. وفي مقام ترجمة علي بن موسى لوالده الأمير موسى بن سعيد الذي نحن بصدده تقديم شيء من أخباره قوله: "ومما شاهدت من عجائبه -أي من عجائب موسى- أنه عاش سبعًا وستين سنة، ولم أره يومًا تخلى عن مطالعة كتاب أو كتابة ما يخلده، حتى إن أيام الأعياد لا يخليها من ذلك، ولقد دخلت عليه في يوم عيد، وهو في جهد عظيم من الكتب "الكتابة"، فقلت له: يا سيدي أفي هذا اليوم لا تستريح؟ فنظر إلي كالمغضب وقال: أظنك لا تفلح أبدًا، أترى الراحة في غير هذا؟ والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها، ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب "المغرب" على غرضي"2. إن مثل هذا الأمير العالم الجليل للكتب المغرق في القراءة الدائب على الاطلاع لا بد وأن يكون إسهامه في الكتاب الذي يؤلفه أبوه وعمه وجده والحجاري إسهامًا نفيسًا ذا نفع وقيمة وأثر. تنتهي حياة الأمير الوزير العالم الأديب الشاعر المؤلف موسى بن محمد بن عبد الله بن سعيد على النحو الذي ذكرنا بالإسكندرية، فينهض بالعمل في إتمام كتاب "المغرب" ولده علي بن موسى الذي كان قد أرسله أبوه إلى إشبيلية لينهل من مصادر العلم فيها ويتثقف على كبار علمائها آنئذ، وكانت تضم حفنة من أعلام العصر المرموقين، ويكون زميله في الدراسة إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الذي صار فيما بعد واحدًا من ألمع وزراء الأندلس وأرق شعرائها وأبرع وشاحيها. ولئن أصاب إبراهيم بن سهل الإسرائيلي شهرته العريضة في ثنايا التاريخ بفنه الرقيق، وشعره العذب وتواشيحه الأنيقة فإن علي بن موسى قد أصاب شهرته بالسير في الدرب الذي اختطه جده الأعلى عبد الله بن سعيد وسار فيه من بعده بقية هذه الدوحة العالمة الجليلة في تأليف كتاب "المغرب". والحق أن علي بن موسى الذي ينتسب نسبه ونسب قومه إلى الصحابي الجليل الشهيد عمار بن ياسر كان من الإقبال على العلم والولع بالتحصيل بحيث جعله لسان الدين بن الخطيب "وسطى عقد بيته، وعلم أهله، ودرة قومه". ويمضي ابن الخطيب في إيفاء العالم الجليل حقه فيقول عنه "المصنف الأديب الرحالة، الطرفة، الأخباري العجيب الشأن في   1 نفح الطيب "3/ 95، 96". 2 المصدر السابق "3/ 99". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 التجول في الأقطار، ومداخلة الأعيان للتمتع بالخزائن العلمية، وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية"، ويعدد ابن الخطيب مؤلفات علي بن موسى ويذكر منها "المراقصات والمطربات" و"المقتطف من أزاهر الطرف" و"الطالع السعيد في تاريخ بني سعيد" والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار "المغرب في حلي المغرب" و "المشرق في حلي المشرق"، كما يذكر لسان الدين أن ابن سعيد هذا "خلف "مِرُزَمَةّ" تشتمل على وقر بعير من رزم الكراريس، لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والإخبارية إلا الله"1. لقد ولد علي سنة 610هـ في غرناطة وتوفي في تونس في حدود سنة 685هـ وشأن كبار علماء ذلك الزمان كان لا بد للعالم الأندلسي أو المغربي من أن يرتحل إلى المشرق، وقد فعل علي ذلك، وقام برحلته الأولى في صحبة أبيه، ثم عاد لزيارة مصر مرة ثانية مرورًا بكبار المدائن في إفريقية، والتقى في مصر آنذاك بكبار شعرائها مثل بهاء الدين زهير، وجمال الدين مطروح وابن يغمور، ولقي منهم كل ترحيب وحسن ضيافة. وتصادف أن نزل القاهرة في تلك الفترة المؤرخ المحدث كمال الدين بن العديم صاحب الموسوعة الكبيرة "بغية الطلب في تاريخ حلب" فاصطحبه معه إلى حلب وقربه إلى السلطان الناصر صاحب حلب، وأدخله عليه فأنشده قصيدة جميلة مطلعها. جد لي بما لقي الخيال من الكرى ... لا بد للضيف الملم من القرى ولما علم الناصر بانشغال علي بن موسى بالتأليف مكن له من الاطلاع على خزائن كتبه، ومكن له من الوصول إلى الموصل وبغداد، وكان -لشدة إعجابه بذكائه ورقة شعره- يطلق عليه البلبل. وفي نطاق رحلته العلمية تحول أيضًا إلى دمشق، واتصل بالسلطان المعظم بن الملك الصالح، وكان ذلك حوالي سنة 648هـ. ويمضي علي بن موسى في الارتحال على سبيل العلم وعلى نهج العبادة فيرحل إلى البصرة، ويدخل أرجان ويحج بيت الله الحرام، ثم يعاوده الحنين إلى المغرب، فيشد رحاله إليها ويصنف كتابه النفيس "النفخة المسكية في الرحلة المكية"، ويتصل -حيث استقر في إفريقية- بالأمير أبي عبد الله المستنصر الذي يتقلب مقامه عنده بين الحظوة حينًا والجفوة حينًا آخر. إن من كانت هذه طباعه من حب للعلم، وتلك صفاته من ولع بالرحلة لا يستطيع -   1 نفح الطيب "3/ 38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 على الأغلب- أن يكون صاحب أسرة، ومن ثم فإن عليًّا هذا يعيش عزبًا بغير زواج، ويترجم عن ذلك بشعر لطيف1: أنا شاعر أهوى التخلي دون ما ... زوج لكي ما تخلص الأفكار لو كنت ذا زوج لكنك منغصا ... في كل حين رزقها أمتار دعني أرح طول التغرب خاطري ... حتى أعود ويستقر قرار كم قائل قد ضاع شرخ شبابه ... ما ضيعته بطالة وعقار إذ لم أزل في العلم أجهد دائما ... حتى تأتت هذه الأبكار مهما أرح من دون زوج لم أكن ... كلا ورزقي دائما مدرار وإذا خرجت لفرجة هنيتها ... لا ضيعة ضاعت ولا تذكار وإن عليًّا على علمه وفضله رقيق الشعر، عذب مأخذه، ممتنع محاكاته، رغم أنه لم يعرف في موكب الأدب كشاعر كبير، غير أن من يقرأ شعره الذي أفرد له صاحب نفح الطيب عشرات الصفحات يستطيع أن يمتع نفسه ويسر خاطره بفنون عديدة من الشعر الجميل وضروب لطيفة من الأدب البديع في الغربة، والوحشة، والحنين، وفلسفة الحياة، ووصف الطبيعة، والمساجلات والمدائح مما لا يسمح المقام هنا بالتمثل لها. نعود إلى علي و"المغرب" وقصته مع أبيه يوم العيد، حين قال له أبوه "أظنك لا تفلح أبدًا" إلى آخر ما أوردنا. يقول علي تعليقًا على كلام أبيه "فأثار ذلك خاطري إلى أن صرت مثله لا ألتذ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشعر ولولا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه". ومعنى ذلك أن كتاب "المُغرب في أخبار المغرب" قد اكتمل تأليفه، وخرج على الناس في صورته الأخيرة على يد علي بن موسى، ويكون بين أيدي قراء العربية كتاب ذو محتوى نفيس، وصاحب أغرب قصة في تأليف الكتاب، فلقد بدأه الحجاري سنة 530هـ وأنهاه علي بن   1 نفح الطيب "3/ 35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 موسى سنة حوالي 652 هـ مرورًا بعبد الملك بن سعيد، وأبي جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد، ومحمد بن عبد الملك بن سعيد، وموسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد، غير أن كلمة حق، وقد رافقنا المسيرة الطويلة لتأليف هذا الكتاب الغريب في قصة تأليفه -تدعونا إلى أن نقرر أن صاحبي الفضل الأكبر والنصيب الأوفى في إخراج هذا الكتاب إلى عالم الثقافة هما أبو الحسن علي بن موسى، وأبوه موسى بن محمد بن عبد الله بن سعيد. بل إن كتاب "المشرق في حلى المشرق" لم يكن من تأليف علي وحده، وإنما كان قد وضع خطته ورسم فكرته مع أبيه الأمير العالم موسى بن محمد. والجدير بالذكر أن لعلي كتابين آخرين هما "رايات المبرزين" -وهو محقق مطبوع- و"الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة" الذي حققه الأستاذ إبراهيم الإبياري ونشرته دار المعارف في القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 منهج "المغرب" وخصائصه : أولًا: عمد مؤلفا الكتاب في صورته الأخيرة علي بن موسى، وأبوه إلى تصنيف الكتاب في نطاق منهج بادي الغرابة، ونعني بذلك القسم الخاص بالأندلس، فلقد سبق القول إن هناك قسمين آخرين، قسمًا خاصًّا بإفريقية وقسمًا خاصًّا بمصر، وكل منهما يتكون من عدة أسفار، فإذا ما عدنا إلى منهج القسم الخاص بالأندلسي وجدنا المؤلفين يقسمانه إلى ثمانية عشر كتابًا كل كتاب منها أسمياه "مملكة" مثل كتاب "الحلة المذهبة في حلى مملكة قرطبة" وكتاب "الذهبية الأصيلية في حلى المملكة الإشبيلية" وكتاب "الخلب في حلى مملكة شلب" وكتاب "الرياض المصونة في حلى أشبونه" وكتاب الخلب في حلى مملكة شلب" وكتاب "الرياض المصونة في حلى أشبونة" وهكذا لكل مملكة أو بالأحرى مدينة كبيرة كتاب يتكون اسمه من سجعتين تتفقان في إيقاعهما مع اسم المدينة على النسق الذي تمثلت له فيما سلف من سطور. ولم يكتفِ المنهج بذلك، بل قسم كل مملكة إلى عديد من الكور، وجعل لك كورة كتابًا يتكون من سجعتين، فالكتاب الخاص بمملكة قرطبة، مثلًا ينقسم إلى أحد عشر كتابًا، منها على سبيل المثال: كتاب "الحلة الذهبية في الكورة القرطبية" وكتاب "الدرة المعلونة، في حلى كورة بلكونة" وكتاب "الكواكب الدرية في حلى كورة القبرية"، وكتاب "الدر النافق في حلى كورة غافق". ولا يكتفي المؤلفان بذلك، بل يقسمان كل كتاب خاص بكورة إلى عدد من الكتب الأصغر حجمًا باعتبار البلدان المهمة في الكورة. فكتاب الكورة القرطبية مثلًا ينقسم إلى عدة أقسام صغرى منها على سبيل المثال كتاب "الصبيحة الغراء في حلى حضرة الزهراء" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وكتاب "البدائع الباهرة في حلى حضرة الزاهرة" وكتاب "الوردة في حلى مدينة شقندة". ونحن نعترف أن هذا النهج من التقسيم نهج معقد يدفع بالمرء إلى التوقف، وبالدارس إلى التيه، ومن ثم فإن ضرره أكثر من نفعه، ومساوءه أكثر من محاسنه، غير أن محتويات الكتاب تشفع لهذا التعقيد وتشهد له بالفضل والنفاسة. ثانيًا: يضم الكتاب ما يناهز ستمائة وسبعة وأربعين شاعرًا من شعراء الأندلس على مسيرة تاريخه منذ دخول عبد الرحمن بن معاوية "الداخل" حتى زمان علي بن موسى آخر المؤلفين، أي النصف الثاني من القرن السابع الهجري، هذا من الناحية الزمانية، أما من الناحية المكانية فلقد أتى المؤلفون بنماذج شعرية أو نثرية لأعيان وأدباء وشعراء كل بقعة من بقاع الأندلس على اتساع هذا الإقليم وتعدوا ذلك إلى الجزر خارج الأندلس كميورقة ومنورقة، فضلًا على جهات الثغر التي كانت حينًا من الدهر في يد المسلمين وحينًا آخر منه في يد نصارى الأسبان. وبذلك يكون للكتاب صفة الشمول الزماني "ولا نقول الكفاية الزمانية" والانتشار المكاني في الجزيرة الأندلسية. ثالثًا: اهتم المؤلفون بالمناطق التي أنجبت كبار شعراء الأندلس، مثل مملكة قرطبة التي تمثلوا لها بمائة وسبعة وخمسين شاعرًا وأديبًا، ومملكة إشبيلية التي تمثلوا لها بسبعة وتسعين أديبًا وشاعرًا أيضًا، ومملكة إلبيرة التي تمثلوا لها بتسعة وستين شاعرًا، ومملكة طليطلة التي تمثلوا لها بأربعين شاعرًا، وكل هؤلاء الشعراء من مختلف طوائف الأندلس، منهم الملوك مثل المعتمد بن عباد، وأبيه المعتضد بن عباد، ومثل المتوكل بن المظفر، ومثل المعتصم بن صمادح. ومنهم الوزراء وهم من الكثرة بمكان، مثل ابن زيدون، وابن عمار، وابن عبدون، وبني سعيد وغيرهم. ومنهم علماء اللغة والأطباء، والموسيقيون، والزهاد وأبناء العامة كما أن الكتاب لم يغفل الترجمة والاستشهادات الكثيرة المنتقاة للشاعرات النساء مثل: حمدونة بنت زياد، وولادة بنت المستكفي ومهجة بنت التياني، ونزهون بنت القلاعي، وحفصة بنت الحاج الركونية وحفصة بنت حمدون الحجارية. كما ترجم الكتاب وجاء بنماذج لشعراء من غير العرب وغير المسلمين مثل إسحاق بن شمعون اليهودي الموسيقي القرطبي وحسداي بن يوسف بن حسداي الإسرائيلي، وإبراهيم بن سهل الإسرائيلي الذي أسلم فيما بعد، وقسمونة بنت إسماعيل اليهودية. ومن النصارى ترجم الكتاب لعدد من شعرائهم وكان بعضهم على جانب مرضٍ من الإجادة وقدر وفير من الإبداع مثل ابن المرعز الإشبيلي وابن غرسيه وكان لكل منهما نثر بديع وشعر رقيق، وبذلك يكون الكتاب قد شمل الترجمة لكل طوائف الأندلس من رجال ونساء، وعرب وبربر ومولدين ونصارى ويهود، وقواد وأمراء وعامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 رابعًا: لم يقف نشاط مؤلفي الكتاب عند ذلك الشعر المألوف وحده والنثر المعهود، وإنما أتوا بنماذج عديدة للفنون المستحدثة التي اكتمل نضجها أو ترعرع نماؤها في أرض الأندلس مثل الموشحات بأنواعها المختلفة وموضوعاتها العديدة، ومثل الزجل ومشهوري الوشاحين والزجالين، والكتاب من هذه الناحية يعتبر مصدرًا أساسًا لكل من يريد من الدارسين أن يتمثل لكل من التوشيح والزجل منظورًا متغيرًا متفرعًا ناميًا. خامسًا: لا يقتصر الكتاب على الأدب وحده، وإنما يتناول الأحداث التاريخية والتطورات السياسية والفتن الزمانية بقدر غير قليل من التفصيل بحيث لا يستطيع المؤرخ الأندلسي -لكي يستقيم له منهجه- أن يكون بمنأى عن "المغرب". فلقد كتب تاريخ بني أمية في الأندلس أمرائهم وحروبهم وسفاراتهم كما اهتم بملوك الطوائف والمرابطين والموحدين وما جرى في أيامهم من فتوح وحروب وانتصارات وهزائم وفتن، وقلاقل وأحداث. هذا فضلًا عن الوصف الجغرافي لكثير من البلاد والملامح الاجتماعية التي يمكن استخلاصها صافية دقيقة من أحداث الكتاب وأخباره. سادسًا: أما من ناحية مصادر الكتاب فإنه قد اعتمد على الكثير من الكتب الأندلسية والمغربية والعديد من المصادر المشرقية، فمن الكتب الأندلسية اعتمد على "المسهب" للحجاري الذي هو أصل الكتاب، و"المقتبس" لابن حيان القرطبي و"نقط العروس" لابن حزم، و"الذخيرة" لابن بسام، و"قلائد العقيان" للفتح بن خاقان، و"بغية الملتمس" للمرسي الضبي، و"جذوة المقتبس" للحميدي و"سقيط الدرر ولقيط الزهر" لابن اللبانة، و"سمط الجمان" لابن الإمام، و"المطرب من أشعار المغرب" لابن دحية، و"فرحة الأنفس" لابن غالب. هذا فضلًا عن المشاهدة ومخالطة أدباء الزمان وجمع شعرهم وأدبهم والترجمة لأخبارهم والتعريف بتاريخهم، فقد كان يجالسهم ويعايشهم ويستنشدهم أشعارهم ويستمليهم نثرهم. ولم يقصر مؤلفو الكتاب في الاستعانة ببعض المراجع المشرقية الهامة مثل "يتيمة الدهر" للثعالبي و"خريدة القصر" للعماد الأصفهاني، و"عقود الجمان" للكمال بن الشعار. سابعًا: وإذا كانت هناك ثمة مآخذ على منهج الكتاب ومحتواه فهو إغفال ذكر ميلاد ووفاة كثير من الأدباء والشعراء والأعيان الذين ترجم لهم، كما أنه من ناحية أخرى -لكي يزيد في عدد أعيان كتابه- كان يذكر الواحد منهم ولا يذكر له أكثر من بيتين اثنين، بل كثيرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ما كان يذكر الأديب ويتبع ذكره بخبر واحد عنه في سطر أو بعض سطر. ومهما يكن من أمر فإن كتاب "المغرب في حلى المغرب" واحد من فرائد كتب الأدب الأندلسي محتوى وخبرًا وطريقة تأليف، ولعله الكتاب العلمي الوحيد الذي قام على تأليفه علماء ينتسبون إلى أجيال متتابعة لم تتعاصر على مدى يزيد على قرن وربع قرن من الزمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 الفصل الرابع: مؤلفات علي بن موسى بن سعيد : رايات المبرزين، القدح المعلى، الغصون اليانعة: سبقت الإشارة إلى أن ابن سعيد علي بن موسى قد كان كثير التأليف، حليف أسفار، وسبقت الإشارة إلى أن تآليفه في الأدب والتراجم والاختيارات من الكثرة والنفاسة بمكان، وها نحن أمام ثلاثة كتب أخرى تعتبر من المصادر الأصيلة لتاريخ الأدب الأندلسي ورجاله ومادته. 1- أول هذه الكتب: "رايات المبرزين وغايات المميزين"، ولا نستطيع أن نعتبر هذا العمل كتابًا قائمًا بذاته؛ لأنه في حقيقة أمره مجموعة مختارات من الكتاب الكبير "المغرب في حلى المغرب". لقد سبق القول إن ابن سعيد عليًّا قد زار مصر غير مرة، وطالت إقامته فيها بعض الوقت في إحدى هذه الرحلات، وكان يلي نيابة السلطة آنذاك ابن يغمور الذي اشتهر بالأدب والفضل وتشجيعه العلماء ومصاحبة الأدباء، وكانت الصلة قد توثقت بين نائب السلطان وبين ابن سعيد، فطلب ابن يغمور إليه أن ينتخب له خير ما في كتاب "المغرب" من شعر الأندلسيين والمغاربة والصقليين، فاستجاب له ابن سعيد وقام على اختيار نصوص المختارات وأعمل فيها ذوقه الشعري وحكم في انتقائها حسه الأدبي، ورتبها بين دفتي كتاب أطلق عليه العنوان الذي ذكرنا، ولا يكاد يصدق المثل الذي يقول "يقرأ الكتاب من عنوانه "صدقه على هذا الكتاب، فإنه "أي رايات المبرزين" على صغر حجمه وقصر نصوصه يضم أرق وأنضر ما أنشأه شعراء بلاد المغرب والأندلس وجزيرة صقلية. وقد قام على تحقيقه المستشرق إميليو غرسيه غومس الأستاذ في جامعة مدريد سابقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 2- وثاني هذه الكتب لمؤلفنا الكبير كتابه "القدح المعلى في التاريخ المحلى" وهو كتاب كبير يذكر مؤرخو الأدب أنه يضم العديد من المجلدات، ولم يكن كتاب "القدح المعلى" خاصًّا بأدب الأندلس والمغرب وأدبائهما -فحسب. فإن هذه الآداب كانت موضوع الجزء الأول من الكتاب- بل شمل الكتاب مراحل باكرة من مراحل الأدب العربي وتاريخه، فإن القسم الثاني من "القدح المعلى" يطلق عليه كتاب "نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب" ثم يتلوه قسم ثالث هو "مصابيح الظلام في تاريخ الإسلام". هذا وكتاب "القدح المعلى".. لم يصل إلينا، وإنما الذي بين أيدينا اختصار له أعده أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل، وقد حققه إبراهيم الإبياري تحت إشراف الدكتور طه حسين. ويختلف كتاب "القدح المعلى.." عن أخيه الأكبر "المغرب.." وعن أخيه الأصغر "رايات المبرزين.." بأنه مختص برجال عصره وحدهم دون سواهم، أولئك الذين رأى أكثرهم وجالس بعضهم، ونادم لفيفًا منهم، ورافق ثلة منهم مقيمًا وظاعنًا. ويضم "اختصار القدح" سبعين ترجمة لأعلام العصر، يجري فيها المؤلف على سجيته ويستجيب لقلمه إطالة وتفصيلًا، ولا بأس من أن يكون المؤلف قد أورد لبعضهم ترجمة في المغرب من قبل، ولكن فرقًا كبيرًا في التفصيل وكثرة إيراد النصوص يبدو واضحًا أيما وضوح في "القدح" أكثر منه في المغرب، فعلى سبيل المثال يترجم ابن سعيد في "القدح" للرئيس أبي عثمان سعيد بن حكم في أربع عشرة صحيفة مع إيراد الكثير من نصوص شعره بينما لا يذكر له في "المغرب" أكثر من بيتين اثنين1 ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن ابن سعيد في ترجمته لصديقه إبراهيم بن سهل الإسرائيلي في كل من الكتابين، فحين لا يعرف به في "المغرب.." بأكثر من ثلاثة سطور، ولا يورد له أكثر من ثلاثة أبيات2 من الشعر، نجده يفرد له في "القدح المعلى.." أو بالأحرى "اختصار القدح" ثلاث عشرة صحيفة مثبتًا له الكثير من النصوص الشعرية المتنوعة الموضوعات والأشكال والألوان3. هذا ويتميز "القدح المعلى.." من "المغرب.." بأنه يضم ترجمات مطولة نوعًا ونتاجًا شعريًّا ونصوصًا نثريًّة لكثير من أعلام عصره النجباء الذين لم يسبق أن ذكرهم أو ترجم لهم في كتابه الكبير "المغرب.." ومن ثم فإن كتاب اختصار القدح المعلى.." و"القدح المعلى.." نفسه - إذا عثر عليه مصدر نفيس للأدب الأندلسي رجالًا وأعيانًا، تاريخًا   1 المغرب "2/ 469". 2 المغرب "1/ 264". 3 اختصار القدح المعلى "ص73". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وأخبارًا، شعرًا ونثرًا، لكل من يعرض للأدب الأندلسي بالدراسة. 3- وثالث هذه الكتب هو كتاب "الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة" الذي حققه محقق "اختصار القدح المعلى" إبراهيم الإبياري، كما هو واضح من عنوان الكتاب نعرف أنه من نوع كتب التراجم، ولكنه لا يترجم إلا لطبقة معينة من الأعيان هم الشعراء وحدهم، ولقد بدأ علي بن سعيد كتابة "الغصون" سنة 657هـ ستمائة وسبع وخمسين في تونس، وكان إذ ذاك في خدمة أميرها المستنصر الأول محمد بن يحيى الحفصي، ولقد أهدى كتابه هذا للأمير المذكور. ويبدو أن كتاب "الغصون اليانعة.." واحد من مجموعة كتب ألفها ابن سعيد عن الشعراء، وضمها جميعًا بين دفتي كتاب كبير أسماه "جامع طبقات الشعراء". وتدل خطبة الكتاب في نسخته المخطوطة على أن الشاعر ترجم للشعراء الذين ضمتهم الغصون حتى سنة وفاته، وهي ستمائة وخمس وثمانون، والكتاب حسب حديث المؤلف قد رتب على ثلاثة أقسام: قسم ضم تراجم الذين تحققت سنوات وفاتهم، وقسم ثانٍ ضم تراجم الذين لم يقف لهم على ذلك، وقسم ثالث في من استقر العلم على حياته عند انتهاء عمر المؤلف. غير أن النسخة المطبوعة التي بين أيدينا لا تضم سوى سبعة وعشرين شاعرًا بين سنتي 600 و 605، وبذلك يكون القدر الذي وصل إلينا من الغصون اليانعة لا يمثل إلا قسمًا صغيرًا من هذا الكتاب النفيس الكبير. ومع ذلك فلهذا القسم من الكتاب ميزات ظاهرة، أولها أنه لم يقتصر على شعراء قطر بعينه، وإنما ينتمي الشعراء السبعة والعشرون إلى أقطار عدة مشرقًا ومغربًا، سبعة منهم من العراق، وواحد من الجزيرة، وخمسة من بلاد الشام، ومصريان، وخمسة من المغاربة، وسبعة من الأندلس. وثانيها أن المؤلف لا يكاد يذكر خبرًا أو نصًّا إلا ويتبعه بذكر المصدر الذي استقى الخبر أو النص منه، بحيث إننا لو قمنا بإحصاء للمصادر التي ذكرها ابن سعيد في متن الغصون لتجمع لدينا كنز ثمين من أسماء الكتب النفيسة التي بقي أقلها وضاع أكثرها، بل بقي أقل قليلها وضاع أكثر كثيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 الفصل الخامس: كتب التراجم في الأندلس : كتب التراجم لأدباء الأندلس وأعلامها: تشكل كتب التراجم مصدرًا هامًّا من مصادر التاريخ والأدب على مسيرة فكرنا وأدبنا مشرقًا ومغربًا، قديمًا ووسيطًا وحديثًا. وكما أن المشارقة لهم كتبهم في التراجم التي أفردنا لها بابًا في ما سبق من فصول هذا الكتاب، فإن للأندلسيين طائفة من الكتب تترجم لأعيانهم علماء وأدباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 سلسة كتب تاريخ علماء الأندلس والصلة وتكملة الصلة ... سلسلة كتب تاريخ علماء الأندلس، والصلة وتكملة الصلة: ولعل أول كتاب يصادفنا هو كتاب "تاريخ علماء الأندلس" لأبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي المعروف بابن الفرضي، والمتوفى سنة 403 قتيلًا بقرطبة إبان فتنة الأمويين. وابن الفرضي هذا يلتزم في كتابه نهج الترجمة المختصرة لفقهاء الأندلس وعلمائها ورواتها، مرتبًا إياهم على حروف المعجم، وإذا كان عنوان الكتاب يشير إلى العلماء بمعنى الفقهاء ورواة الحديث، فإنه لم يهمل الترجمة لعدد غير قليل من الأدباء والشعراء، ويجعل لكل اسم بابًا، فيفرد بابًا مثلًا تحت عنوان "باب إسماعيل" ويترجم لكل إسماعيل أندلسي في سطور قليلة لينتهي من ترجمة هؤلاء ويبدأ في ترجمة "إسحاق" ثم "أسد" إلى "باب أسامة" إلى "باب أسعد" وهكذا حتى ينتهي إلى "باب يونس"، ولا يأتي بنصوص لمن ترجم لهم، بل يذكر ميلادهم ووفاتهم وصفاتهم وأعمالهم والبلاد التي قطنوها أو ارتحلوا إليها. ويجيء بعد ذلك من يكمل لابن الفرضي عمله في الترجمة لعلماء الأندلس وأعيانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وأعلامها وأدبائها حين يصنف أبو العباس خلف بن عبد الملك المعروف بابن بشكوال كتاب "الصلة" المتوفى سنة 578هـ وينهج ابن بشكوال في كتابه نهج أستاذه من حيث تبويب الأسماء على حروف المعجم كل اسم في باب، وذكر ميلاد ووفاة وإقامة وصفة ورحلة وشيوخ المترجم له، وهو أكثر اهتمامًا بالأدباء والشعراء من ابن الفرضي، فلا يكاد يذكر شاعرًا إلا ويورد له مختارات من شعره يرصع بها صفحات كتابه النفيس الطويل. والجدير بالذكر أن "الصلة" ليس الوحيد لابن بشكوال هذا، بل لقد ذكر المؤرخ أنه ألف ما يزيد على خمسين كتابًا. وتمضي هذه السلسلة التي بدأت حلقتها بابن الفرضي وتلاه ابن بشكوال قدمًا حين يجيء عالم آخر كاتب شاعر وزير أديب هو محمد بن عبد الله أبو بكر القضناعي البلنسي مولدًا المعروف بابن الأبار المتوفى سنة 658 هـ في تونس ليؤلف ذيلًا لكتاب "الصلة" يسميه "التكملة لكتاب الصلة" ويسير على نهج سلفيه من حيث الترجمة للملوك والعلماء والأعلام والأدباء الأندلسيين مرتبًا أسماءهم على حروف المعجم. إن هؤلاء الثلاثة، ابن الفرضي وابن بشكوال وابن الأبار ليذكروننا بثلاثة مشارقة نهجوا هذا المنهج هم ابن خلكان في وفياته، وابن شاكر الكتبي في "فوات الوفيات" وصلاح الدين الصفدي في "الوافي بالوفيات". هذا وما دمنا بصدد الحديث عن ابن الأبار فإننا نذكر له كتابين آخرين نفيسين هما "الحلة السيراء" و"تحفة القادم" وكل من الكتابين سفر نفيس يحوي أخبار التاريخ، وفنون الكتابة، وروائع الشعر، ولئن كان كتاب "الحلة السيراء" بين أيدينا ننهل منه فإن كتاب "تحفة القادم" لا يزال بعيدًا عنا، ولكن زبدته الأدبية مستخلصة في كتاب أطلق عليه مصنفه "المقتضب من كتاب تحفة القادم". أما ذلك الذي اقتضبه فهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد البلفيقي. والمقتضب يترجم لعدد من الشعراء الأندلسيين والمغاربة الذين وردت أسماؤهم وتراجمهم في "تحفة القادم" ما بين سنتي 519 و 634هـ. والحق أن "المقتضب" من "تحفة القادم" يمثل باقة يانعة من الشعر الأندلسي الحسن الانتقاء، بحيث يورد المصنف اسم الشاعر وبعض خبره مقتضبًا، ثم يتبع ذلك بأنموذج أو أكثر قد أحسن انتقاءه وأبدع اختياره. وهذا المقتضب كتاب أدب خالص ومصدر ثمين لمن يتعشق عذب الشعر ورائق الأدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 المطرب في أشعار أهل المغرب : وهذا مصدر آخر من مصادر الأدب الأندلسي له سمعة طيبة ومكانة حسنة وعند جمهرة المتخصصين والدارسين، ألفه ابن دحية أبو حفص عمر بن الحسن بن علي المولود في بلنسية سنة 547 أو 548 حسب اختلاف الروايات، والمتوفى في القاهرة والمدفون بسفح المقطم سنة 633هـ، فيكون بذلك أندلسي المولد والنشأة، مغربي الشباب والتكوين، مصري الإنتاج والوفاة، شأنه في ذلك شأن الكثرة الوافرة من العلماء والأدباء والشعراء من معاصريه، حيث كانت الرحلة بين المشرق والمغرب العنصر الأساسي في حياة الأديب، ولم تكن الرحلة مجرد أسفار، وإنما كانت إقامة تمتد لسنين عدة، وتوفرًا على الدرس والتحصيل، وتلقيًا من المشايخ والأساتذة في مدينة بعينها أو إقليم بعينه، ويتكرر هذا الحال في العديد من البلدان مع العديد من الأعيان. وابن دحية الكلبي لم يكن مؤلفًا ومصنفًا فحسب بل كان كاتبًا بارعًا وشاعرًا مبدعًا ولغويًّا ثبتًا، وقاضيًا مرموقًا، تولى قضاء "دانية" في الأندلس واشتغل أستاذًا للملك الكامل الأيوبي ابن الملك العادل حين كان الأول وليًّا للعهد. وقد أحصى المؤرخون لابن دحية اثني عشر كتابًا، بعضها في الأدب "كالمطرب" الذي نحن بصدد الحديث عنه، و "مرج البحرين في فوائد المشرقين والمغربين". وبعضها في التاريخ مثل "النبراس في أخبار بني العباس" و "الإعلام المبين في المفاضلة بين أهل صفين" كما اهتم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أحد الأحفاد البررة من ناحية جدته لأبيه الزهراء فاطمة البتول، فمن مؤلفاته في هذا السبيل "الآيات البينات في ذكر ما في أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات" و"التنوير في مولد السراج المنير" و"شرح أسماء النبي". كما كان صاحبنا من مؤلفي كتب المعاجم، فإن له "المعجم في أسماء من لقي من أهل العلم". أما كتاب "المطرب في أشعار أهل المغرب" فهو أشبه بكراسة أو بكناشة منه إلى كتاب واضح المنهج، إنه يضم مختارات لطائفة من شعراء الأندلس وإفريقية وصقلية وجزر البليار، ابتداء من القرن الثاني من أمثال يحيى الغزال، مارًّا بالقرون حتى يصل إلى أوائل القرن السابع الذي عاش فيه، وهو لا يكاد يطيل في الترجمة لشاعره بأكثر من صفحتين كما أنه يوجز في بعض الأحيان إلى إيراد البيتين أو الثلاثة، لكنه ينتقي بحاسة الأديب النصوص التي يوردها لكل شاعر أو أديب، وفي الكتاب مسحة تاريخية، فهو يتحدث عن بعض الدول والملوك والسلاطين، ويترجم لهم مثل قيام دولة الموحدين، وتغلب الملثمين على الأندلس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ومثل سفارة الغزال إلى بلاد المجوس ويذكر بعض الأحداث التاريخية والوقائع الحربية مثل الزلاقة، وغيرها من المعارك التي شهدتها الأندلس والمغرب. ومن منطلق عدم التزامه بمنهج معين فإن ابن دحية يترجم لشاعر بعينه مثل ابن الزقاق ويأتي له بمقتطفات من شعره، ثم ينتقل إلى الترجمة لشاعر آخر، ولا يكاد يقطع في هذا السبيل شوطًا قصيرًا حتى يتذكر مقطوعات أخرى فيعود إليه ليثبت ما فاته إثباته ويورد له المزيد من مقطوعاته الشعرية، ولقد فعل الصنيع عينه مع أبي إسحاق ابن خفاجة حين أتيت له مقطوعات في صفحات عدة من كتاب "المطرب". ويعمد ابن دحية إلى تخصيص فصول بعينها لموضوع بذاته على صفحات كتابه، فيخصص على سبيل المثال فصلًا للنرجس، ويأتي بفقرات شعرية فيه لأكثر من شاعر، أو فصل في الرياح ويفعل الصنيع نفسه. وقد يحشر نكتة لطيفة ذات دلالة نحوية ينثرها هنا وهناك على صفحات كتابه. ومجمل القول في "المطرب" أننا نطرب لمحتواه، لكننا نتعب في متابعته لخروجه على المنهج المألوف في تصنيف الكتب ونده عن المنهج المألوف في تصنيف الكتب ونده عن المنهج السوي في تقديم مادته لقارئه. هذا ومن الكتب الهامة في فصل التراجم كتاب الكتيبة الكامنة للوزير لسان الدين بن الخطيب، وقد رأينا أن يكون الحديث عنها مرتبطًا بالحديث عن لسان الدين، إذ إنه يحتاج إلى شيء من التعريف به لفضله على الدراسات الأندلسية، وهو ما سوف نعرض له في الفصل التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 الفصل السادس: لسان الدين بن الخطيب والكتيبة الكامنة لسان الدين ... الفصل السادس: لسان الدين بن الخطيب والكتيبة الكامنة: التعريف بلسان الدين: و"الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة": كتاب الكتيبة الكامنة واحد من الآثار الأدبية الجلية التي أهداها لسان الدين بن الخطيب إلى المعرفة الإنسانية، والتي تناهز الستين كتابًا. غير أننا ونحن نقدم "هذه الكتيبة" للسان الدين ينبغي أن نعرف القارئ بشخصيته تعريفًا سريعًا، نقول تعريفًا سريعًا حتى لا نتهم بالتقصير، ولا ننال بإيجازنا في القول من تلك الشخصية التاريخية الإسلامية العربية الأندلسية الفذة؛ لأن التعريف بها يحتاج إلى تفصيل قد ينتهي بنا إلى كتاب أو إلى ما يشبه الكتاب. 1- إن اسمه كاملًا محمد بن عبد الله بن محمد بن سعيد.. السلماني، العربي صليبة، اليمنى جدودًا، القحطاني أصولًا. ولد في مدينة لوشة Loja1 غير بعيد من غرناطة غربًا سنة 713هـ في أسرة عرفت بالعلم والفضل والجاه. وكان جده الثالث "سعيد" يجلس للعلم والوعظ فعرف بالخطيب. ومن ثم فإن لقب الخطيب لحق بالأسرة منذ إقامتها في لوشة، وأما قيل ذلك، أي حين كانوا يسكنون قرطبة مع من سكنها من أوائل العرب الفاتحين فكانوا يعرفون ببني الوزير2. ولما كانت لوشة غير بعيدة عن العاصمة غرناطة فقد بات من الطبيعي أن ينتقل ابن   1 ينطقها الإسبان لوخا. 2 نفح الطيب "6/ 312". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 الخطيب إلى العاصمة حيث يعيش أبوه فيها يحتل مركزًا مرموقًا في قصر السلطان محمد بن إسماعيل أميرها، وحيث تتجمع في المدينة آنذاك صفوة علماء الأندلس في مختلف فنون المعرفة وفروعها، فدرس الفتى ابن الخطيب علوم الدين من شريعة وفقه وعلوم اللغة من نحو وصرف، وعلوم التاريخ من أحداث وأخبار، وفنون الأدب من بدائع النثر وفرائد الشعر، ثم أقبل على قراءة الفلسفة وتعلم الطب وكانت الفسلفة والطب توأمين آنذاك، من يدرس هذه يدرس تلك1. ولما مات أبوه في معركة "طريف" المشهورة التي هزمت فيها جيوش المسلمين أمام جيوش النصارى سنة 741هـ ألحقه الرئيس الوزير الكاتب الشاعر أبو الحسن ابن الجياب بالوظيفة التي كان يحتلها أبوه في ديوان الإنشاء بالقصر السلطاني ولم يكن عمره حينئذ يتعدى الثامنة والعشرين. وينتقل الملك إلى أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل، وهو إنسان مستنير مثقف عالم شاعر، وكان إذ ذاك صغيرًا لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره ولكن الأخلاق والشيم والمروءات لا ترتبط بعمر أو سن، وإنما هي شمائل تورث وخلائق تكتسب. ومن عادة الملوك والرؤساء المثقفين أن يختاروا وزراءهم ورجالهم من المثقفين مثلهم -فما وجدنا في التاريخ القديم والحديث والمعاصر حاكمًا جاهلًا إلا وقد أحاط نفسه بمن هم أجهل منه- ولذلك كان من الطبيعي أن يكون الرجل النابه المثقف لسان الدين وزيرًا لأبي الحجاج يوسف راعي الآداب وحامي الفنون، ثم لا يلبث لسان الدين أن يصبح سفيرًا للسلطان جامعًا السفارة إلى الوزارة ينتقل إلى الملوك في المهمات الجدلية، ويسفر إليهم في الأحداث الجليلة. وحين مات السلطان يوسف سنة 755هـ ولي الأمر من بعده ولده محمد الغني بالله الذي قرب إليه لسان الدين وندبه للوصاية على الأمراء والقصر، وشأن بلاط الملوك في أكثر الأزمنة لا تكاد تخلو ساحاتهم من دس ووقيعة وانقلاب، فيقوم إسماعيل بن يوسف بانقلاب ضد أخيه محمد، ويتدخل سلطان المغرب ابن سالم لينقذ رأس كل من السلطان المخلوع ووزيره لسان الدين، ويعبر السلطان السابق والوزير إلى شاطئ المغرب، فيحتفل سلطانها بهما احتفالًا عظيمًا، وينشد لسان الدين في الاحتفال قصيدة نفيسة، وكان حسن الإلقاء بارع الإنشاد يقول فيها2: قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر   1 راجع مشايخه في نفح الطيب "7/ 4". 2 نفح الطيب "7/ 14". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر وفيها يقول ذاكرًا بلاده: بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر وجوى الذي ربى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر يقول ابن خلدون وقد كان حاضرًا هذا الحفل، ثم صار وابن الخطيب صديقين: إن ابن الخطيب أبكى سامعيه تأثرًا وأسى. ويقضي لسان الدين وسلطانه المخلوع في المغرب عامين ونصف عام، استقر لسان الدين خلالها في بلدة "سلا" ثم لا يلبث أن يعود مرة أخرى إلى غرناطة مع الغني بالله حين يسقط إسماعيل، ويصبح لسان الدين ذا الوزارتين ويغرق في السياسة إلى أذنيه، ويسطع كوكبه، وتعز مكانته حتى يشعر بالكائدين من حوله يكيدون له، والحاسدين يتربصون به، فيترك الوزارة مختارًا ويتجه إلى المغرب كي يسترح ويخلو إلى نفسه وعقله ويعايش كتبه ويجالس أشعاره وأفكاره، ويسترد صمته ويسجل ثمرة قراءاته وخبراته بالحياة التي سئمها سلطانًا وحكمًا وقلاها درعًا وزهدًا، بل إنه كان كذلك وهو يتسنم منصب ذي الرئاستين، كان بعيدًا عن كل أبهة في المظاهر، متقشفًا ظاهرًا وباطنًا، وعلى حد تعبيره وهو يصف حاله إبان الحاكم: "خامل المركب، معتمدًا على المنسأة، مستمتعًا بخلق النعل، راضيًا بغير النبيه من الثوب، مشفقًا من موافقة الغرور، هاجرًا الزخرف، صادعًا بالحق في أسواق الباطل، كافًّا عن السخال براثن السباع، ثم صرفت الفكر إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة"1. إن ابن الخطيب يبرئ ساحته من كثير من الاتهامات التي كانت توجه إليه من قبل الكائدين له المتربصين، وما من واحد منهم إلا وابن الخطيب صاحب فضل عليه، فقد كان تلميذه ومعاونه الأديب الشاعر محمد بن يوسف يناوئ سياسته، وتلميذه الآخر أبو عبد الله ابن زمرك الشاعر الوشاح يتهمه بالإلحاد، فقرر أن يهرب من الوزارة والإمارة وغرناطة، بل والأندلس كلها، واستأذن سلطانه ابن الأحمر في أن يتفقد الثغور، ورحل تجاه الجنوب يصحبه أحد أبنائه وبعض حرسه، فلما وصل إلى جبل طارق وكان ذلك سنة 773هـ استقبله حاكمها -وكان جبل طارق حينئذ تابعًا لسلطان المغرب "عبد العزيز المريني" الذي كان   1 المصدر السابق "7/ 7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 لسان الدين على سابق صلة به واتفاق معه -وأعدت له المراكب ليعبر البحر إلى سبتة على الشاطئ المغربي تاركًا متاعب الحكم وتدابير المتآمرين، ولكن شجاعته الأدبية تأبى عليه إلا أن يكتب إلى سلطانه الغني بالله بن الأحمر رسالة تعتبر من أنفس الأدب السياسي الإنساني يبدؤها قائلًا: بانوا فمن كان باكيًا يبكي ... هذي ركاب السرى بلا شك وينتقل إلى النص النثري من الرسالة قائلًا: مولاي، كان الله لكم، وتولى أمركم. أسلم عليكم سلام الوداع، وأدعو الله في تيسير اللقاء والاجتماع، من بعد التفرق والانصداع، وأقرر لديكم أن الإنسان أسير الأقدار، مسلوب الاختيار، متقلب في حكم الخواطر والأفكار، وأنه لا بد لكل أول من آخر، وأن التفرق لما لزم كل اثنين بموت أو حياة ولم يكن منه بد، كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب، ما وقع على الوجوه البريئة من الشرور". ويمضي العالم المؤرخ الفيلسوف الكاتب الشاعر، الهاجر السلطان النابذ الحكم المحتقر الوزارة معتذرًا للسلطان الأحمري عن تصرفه هذا في عبارة لبقة ومعنى عميق وأسلوب رفيع بأن هذا الذي أقدم عليه من الترك والارتحال أمر من الصعوبة بمكان "ولكن سهله علي أمور: منها أن الانصراف لما لم يكن منه بد، لم يتعين على غير هذه الصورة إذ كان عندكم من باب المحال، ومنها أن مولاي لو سمح لي في غرض الانصراف، لم تكن لي قدرة على موقف وداعه، لا والله ولكان الموت أسبق إلي، وكفى بهذه الوسيلة الحسنة التي يعرفها وسيلة، ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به وظن أني لا أصدق، ومنها اغتنام المفارقة في زمن الأمان والهدنة الطويلة والاستغناء، إذ كان الانصراف المفروض ضروريًّا قبيحًا إلى غير هذه الحال، ومنها وهو أقوى الأعذار أني مهما لم أطق تمامًا هذا الأمر، أو ضاق ذرعي به لعجز أو مرض، أو خوف طريق أو نفاد زاد أو شوق غالب، رجعت رجوع الأب الشفيق إلى الولد الرضي، إذ لم أخلف ورائي مانعًا من الرجوع، من قول قبيح ولا فعل، بل خلقت الوسائل المرعية والآثار الخالدة والسيرة الجميلة ... إن فسح الله في الأمد، وقضى الحاجة، فأملى العودة إلى ولدي وتربيتي وإن قطع الأجل، فأرجو أن أكون ممن وقع أجره على الله، فإن كان تصرفي صوابًا وجاريًا على السداد، فلا يلام من أصاب، وإن كان عن حمق وفساد عقل، فلا يلام من اختل عقله وفسد مزاجه، بل يعذر، ويشفق عليه ويرحم، وإن لم يعط مولاي حقي من العدل، وجلبت الذنوب، ونشرت بعدي العيوب، فحياؤه وتناصفه ينكر ذلك، ويستخضر الحسنات من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 التربية والتعليم، وخدمة السلف، وتخليد الآثار، وتسمية الولد، وتلقيب السلطان والإرشاد إلى الأعمال الصالحة". ويمضي ابن الخطيب طارقًا معنى آخر شجاعًا قائلًا: "وأنا قد رحلت فلا أوصيكم بمال، فهو عندي أهون متروك، ولا بولد -وكان قدر ترك كل أولاده وأهله ما عدا عليًّا- فهم رجالكم وخدامكم، ومن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم! ولا بعيال فهي من مزيات بيتكم وخواص داركم". وينطلق ابن الخطيب إلى خطوة أكثر شجاعة وأقرب فهمًا، وأوفر اعتزازًا بالنفس، وكأنما يحذر ذلك السلطان الذي يدين للوزير الأديب بكل شيء قائلًا: "واعلموا أيضًا على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر، وعند كل ملك، واعتقاده وبره والسؤال عنه وذكره بميل والإذن في زيارته حنانة منكم وسعة ذرع ودهاء، فإنما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت ثم انقشعت، وتركت الأزاهر تفوح، والمحاسن تلوح"1. لقد عمدت إلى تسجيل جانب من رسالة الوداع هذه التي ودع لسان الخطيب بها السلطان الغني بالله وأبدى فيها جانب الاعتذار، وإن كان أقرب إلى التقريع والتحذير منها إلى المعنى الظاهر، أقول إني فعلت هذا الصنيع؛ لأني لم أقرأ -إلا في حالات أخرى قليلة- رسالة تعبر عن صميم النفس وصدق المشاعر، وخلجات الإحساس كما عبرت هذه الرسالة؛ ولأن الوزير التارك المرتحل كان يودع معاني أكثر مما يودع أشخاصًا، فإن كان لا بد من وداع الأشخاص، فقد كان يودع أهله وولده ومواطنيه أكثر مما كان يودع شخص السلطان. غير أن رحلة لسان الدين ورسالته لم تكونا لتمرا بيسر وتسامح، فما إن غاب الرجل حتى استأسد خصومه أما ابن زمرك فقد ولي الوزارة مكانه، وأما القاضي أبو الحسن النباهي "قاضي القضاة" فقد أفتى بوجوب حرق كتب ابن الخطيب التي تناولت العقائد والأخلاق، ثم أتبع ذلك برسالة على جانب كبير من العنف والتهجم بعث بها إلى ابن الخطيب في مستقره الجديد في المغرب. ولم يقف الأمر بخصوم ابن الخطيب عند حرق كتبه في الساحة العامة في مدينة غرناطة، بل حوكم غيابيًّا بتهمة الإلحاد والزندقة وصدر حكم يؤيد الاتهام، ثم كانت خطوة أخرى أكثر جرأة، حين أرسل الحكم إلى سلطان مراكش مع وفد من رجال الحكم في غرناطة ومطالبة السلطان بتنفيذ حكم الشرع بإعدام الأديب الضيف، فأساء السلطان لقاءهم   1 تاريخ ابن خلدون "7/ 437". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وأسمعهم قوارص الكلم، وقال لهم: "هلا أنفذتم فيه حكم الشرع، وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه" وكانت هذه الحملة سببًا في زيادة تكريم السلطان عبد العزيز للسان الدين1. ولكن لم تمض سنة واحدة حتى يموت السلطان عبد العزيز في جمادى الاخرة 774هـ، ولم يكن ابنه في سن تسمح له بتحمل مسئوليات الحكم فقد كان لا يزال طفلًا، وتولى الوصاية على السلطة الوزير أبو بكر بن غازي الذي انتقل مع السلطان الطفل من تلمسان إلى فاس فصحبهما ابن الخطيب إليها حيث استقر به المقام، وبدا أن الحياة بدأت تطيب له وأخذ يعكف على الكتابة والتأليف، وتغيرت الأحوال بعد قليل وخلع السلطان الطفل، وتولى الحكم في مراكش نظام موالٍ لابن الأحمر فقبض على ابن الخطيب وسجن، وحوكم بتهمة الإلحاد والزندقة بحضور تلميذه الوزير ابن زمرك الذي وفد من غرناطة تحت هذا الدافع العدائي، وعذب الوزير الكبير أمام جمهرة من الناس، ودبر سليمان بن داود وزير السلطان الجديد مكيدة حين دس بعض مساعديه على ابن الخطيب فقتلوه خنقًا في سجنه وأخذت جثته في اليوم التالي فأضرمت فيها النار فاحترق شعره وجلده ثم دفنت في اليوم التالي. وبذلك انطوت صفحة من تاريخ السياسة والحكم والوزارة والتاريخ والأدب سنة 776هـ، حدث ذلك والرجل يأخذ أهبته لأداء فريضة الحج. ومن الأمور التي تدعو إلى العجب والحزن أن لسان الدين قد رثى نفسه قبل موته شأنه في ذلك شأن بعض كبار شعراء الأندلس مثل المعتمد بن عباد وأبي عامر بن شهيد، رثى المعتمد نفسه، وهو أسير في أغموت، ورثى ابن شهيد نفسه وهو مريض مرضًا لا برء منه، ورثى لسان الدين نفسه وهو في السجن يتوقع الغدر فقال هذه الأبيات الرائعة: بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلاة تلاه القنوت وكنا عظامًا فصرنا عظامًا ... وكنا نقوت فها نحن قوت وكنا شموس سماء العلا ... غربنا فناحت علينا السموت فكم جدلت ذا الحسام الظبا ... وذو البخت كم جدلته البخوت وكم سيق للقبر في خرقة ... فتى ملئت من كساه التخوت فقل للعدا: ذهب ابن الخطيب ... وفات، ومن ذا الذي لا يفوت ومن كان يفرح منهم له ... فقل: يفرح اليوم من لا يموت2   1 تاريخ ابن خلدون "7/ 335". 2 نفح الطيب "7/ 39". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 إن ابن الخطيب كان موسوعة أدبية علمية إنسانية لم تتوفر كثيرًا في الأندلس. لقد كان ابن الخطيب عقل الأندلس وثمرة حضارته، تمامًا كما كان ابن خلدون عقل المغرب وثمرة حضارته، هذا ولا مفر من أن نشير إلى بعض كتب ابن الخطيب قبل أن نعود إلى موضوعنا الأصيل -أعني التراجم- فنشير في إيجاز إلى أهم كتبه وموضوعاته. 2- كان لسان الدين فريد عصره في تملك أسباب الأدب، ووحيد دهره في التمكن من فنون المعرفة، لقد ألف ما يناهز ستين كتابًا في مختلف الفنون والعلوم، في الأدب والتاريخ والتراجم، والرحلات والبلدان، والسياسة، والطب، والفقه، والتصوف، وعلم الكلام، والاختيارات الأدبية، كما كان دنيا بمفرده في عالم الشعر والتوشيح. فمن كتبه في الأدب والتراجم الأدبية "الكتيبة الكامنة" و "التاج المحلى في مساجلة القدم المعلى" وقد تحدث فيه عن مائة شاعر وعشرة وكان حين كتبه في غرناطة لا يزال غض الشباب، وكتابه "الدرر الفاخرة واللجج الزاخرة" وهو اختيارات أستاذه الوزير ابن الجياب وصديقه وأستاذه أبي جعفر بن صفوان، وكتاب "جيش التوشيح" وهو مختارات فريدة ثمينة للوشاحين الأندلسيين، وكتاب "عائد الصلة" في التراجم الأدبية، وكتاب "السحر والشعر" وهو اختيارات لمشاهير شعراء الشرق والأندلس. وفي التاريخ ألف لسان الدين مجموعة ثمينة من الكتب في هذا المجال، وكتب لسان الدين في التاريخ هي في الوقت نفسه كتب أدب، مليئة بالشعر الجميل، مترعة بنفائس القصائد مع ذكر المناسبة التي قيلت فيها كل قصيدة، إن طبيعة لسان الدين الأدبية تفرض نفسها على كل عمل علمي يقوم به، فمن الكتب التي ألفها في هذا الميدان: نفاضة الجراب في علالة الاغتراب" وهو كتاب تاريخ وأدب ورحلات، و "الإحاطة في أخبار غرناطة" وهو من الشهرة بحيث لا يحتاج إلى تعريف يترجم فيه لسان الدين لملوك وأمراء غرناطة وعلمائها وأدبائها والوافدين إليها من المشرق والمغرب، وذكرهم مرتبة أسماؤهم على حروف المعجم، وكتاب "رقم الحلل في نظم الدول" هو تاريخ منظوم للدول الإسلامية في الشرق والغرب، وكتاب "كناسة الدكان بعد انتقال السكان" وهو كتاب تاريخ وحوادث ورسائل، وكتاب "أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام" وهو كتاب في التاريخ الإسلامي نشر منه القسم الخاص بالأندلس، ولكنه يضم نفائس القصائد الشهيرة التي قيلت في المناسبات العظمى في الأندلس والمغرب، وكتاب "اللمحة الدرية في الدولة النصرية". وفي البلدان ألف ابن الخطيب كتاب "معيار الاختيار في ذكر المشاهد والآثار" وصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 فيه مدن مملكة غرناطة وترجم لبعض أعيانها، وكتاب خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف" هو تعريف جغرافي أدبي اجتماعي ببعض بلدان الأندلس، وقد سبقت الإشارة إلى أن "نفاضة الجراب" هو بدوره من قبيل كتب الرحلات. وفي السياسة ألف ابن الخطيب كتاب "الإشارة إلى أدب الوزارة" وترك رسالة في السياسة في شكل مقامة، كما ألف كتاب "بستان الدول" الذي يتحدث ابن الخطيب فيه عن السياسة، والقضاء، والحرب، وأنواع المهن، وأشتات الحرف، ومختلف الطوائف. وألف ابن الخطيب في الطب كتابًا كبيرًا هو "عمل من طب لمن حب" يتحدث فيه عن الأمراض، وأسباب كل مرض وأعراضه وعلاجه والغذاء الذي يناسب المريض، كما يتحدث فيه عن أعضاء الجسم جميعًا حديثًا طبيًا، هذا فضلًا عن رسائل طبية كثيرة منها "المسائل الطبية" و"اليوسفي في الطب" و"رسالة تكوين الجنين" و"الرجز في عمل الترياق" و"الوصول لحفظ الصحة في الفصول" و"رجز الأغذية" و"البيطرة والبيزرة". ولما اتهم القاضي النباهي ابن الخطيب، وهو في منفاه بالإلحاد رد عليه لسان الدين برسالة سماها "خلع الرسن في أمر القاضي أبي الحسن". قد يتساءل المرء: كيف تأتي للسان الدين أن يكتب كل ذلك الصرح العظيم من المؤلفات النفيسة مع انشغاله بالوزارة والإدارة وتدبير شئون الملك والأسفار التي كان يتابع فيها أحوال الدولة؟ والإجابة أن لسان الدين كان يعمل نهارًا للدولة وتدبير المملكة وشئونها ويعمل ليلًا بالتصنيف والتأليف، ومعنى ذلك أنه لم يكن يضيع ليله في النوم، فقد كان مصابًا بأرق متصل فعاش حياته مرتين، ومن ثم فكما أنه كان يلقب بذي الوزارتين كان يقال له ذو العمرين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 منهج الكتيبة الكامنة : اسم الكتاب كاملًا "الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة ويرد في بعض المصادر وبخاصة في "الإحاطة" تحت عنوان "الكتيبة الكامنة في أدباء المائة الثامنة" وليس ثمة خطر في ذلك فإن كثيرًا من الكتب قد ذكرت بأسماء مختلفة تكوين كلمات العنوان وإن كانت في واقعها هي الكتب المقصودة نفسها، ولا يعني اختلاف كلمة في عنوان الكتاب أن الكتاب كتابان وليس كتابًا واحدًا، ولقد سبق القول بأن كتاب "الكتيبة الكامنة" للسان الدين في الأندلس والمغرب هو المقابل لكتاب "الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 في المشرق مع الفارق -طبعًا- بين حجم وقدر هذا وذاك. "فالكتيبة الكامنة" تترجم لمائة شاعر وثلاثة في مجلد واحد، بينما "الدرر الكامنة" تترجم لخمسة آلاف ومائتين وأربعة أعلام بينهم العديد من الشعراء في خمسة مجلدات كبيرة حسبما سبق الحديث في باب كتب التراجم. هذا ويمكننا أن نلخص منهج الكتاب وملامحه في النقاط الآتية: أولًا: إن ابن الخطيب ألف كتابه سنة 774هـ أي بعد أن ترك الوزارة وأقام في المغرب وفي مدينة فاس بالذات حين تخفف من أعباء الرياسة وتبعاتها والدنيا ومتاعبها "فجعلت الهدية من جنس ما تتشوف إليه النفوس الغنية وتتجر في أسواقه الهمم السنية، من وضع يستظرف، أو اختراع إليه يستشرف، وأثر يدل على طور المتوسل، وطريقة المتعرف المسترسل، يظهر منه مصرف عنايته، وشرح كتابته ... فجمعت في هذا الكتاب جملة وافرة، وكتيبة ظاهرة، ممن لقيناه في بلدنا الذي طوينا جديد العمر في ظله، وطاردنا قنائص الآمال في حرمه وحله، ما بين من تلقينا إفادته، أو أكرمنا وفادته، وبين من علمناه وخرجناه، ورشحناه وودجناه ومن اصطفيناه ورعيناه، فما أضعناه ... والمقصود إنما هو إلمام بتعريف، وجلب أدب ظريف، وخبر طريف وسميت هذا الوضع بالكتيبة الكامنة فيمن لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة". لعل هذه الكلمات التي عمدنا إلى اقتطاعها من مقدمة ابن الخطيب لكتابه بأسلوبه، وقلمه توضح لنا جانبًا من فكرة المؤلف إزاء كتابه، وأنه عمد إلى الإطراف وإلى التعريف بمعاصريه من الشعراء أو الأدباء الأندلسيين وحدهم دون غيرهم، مثلما فعل ابن بسام في الذخيرة مثلًا، حين ترجم لبعض أدباء المشرق. وبمناسبة ذكر ابن بسام فلعلنا ما زلنا نذكر استعلاءه ومحاولته النيل من المشارقة على حساب أدباء الأندلس وشعرائه، أما الأمر عند ابن الخطيب، فليس كذلك بل لعل العكس هو الصحيح تمامًا، فلسان الدين بن الخطيب يتحدث عن وقع كتابه لدى المشارقة، ولعله كان قد أهداه إليهم حسبما ذهب صديقنا الدكتور إحسان عباس في مقدمته وهو يحقق الكتاب. إن ابن الخطيب يقول في أدب جم في خطبة كتابه ومقدمته "وإن كان جالب هذا الكتاب إلى البلاد المشرقية أعز الله أهلها، وأمن حزنها وسهلها، جالب نغبة* إلى غدير، وحبابة إلى كأس مدير ... ولو كانت الهدايا التي تجلب إلى أبوابهم، لالتزام ثوابهم، يشترط فيها المماثلة لمحالهم العالية، والمناسبة لأقدارهم الغالية، لسد الباب وعجزت   * النغبة هي الجرعة وهي ملء الفم ماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الألباب، وتقطعت -ونعوذ بالله تعالى- الأسباب"1. إن الفرق يبدو واضحًا كل الوضوح بين رجل مثل ابن بسام لم يقدم للأدب غير كتاب واحد، وبين عالم كبير مثل لسان الدين بن الخطيب، وما كان الاستعلاء ليرفع قدر وضيع وما كان التواضع ليحط من قدر عظيم، فابن الخطيب بتواضعه هذا جعل قارئي العربية يحيطونه بمزيد من الاحترام، هذا وقد سبق القول إن العالم لا يقارن بعالم آخر بمعيار كتاب بعينه لكل منهما، ولكن ميزان المفاضلة ينبني على أساس جميع ما قدم هذا وذاك من كتب وآثار. ثانيًا: قسم ابن الخطيب كتابه هذا الذي يضم مائة شاعر وثلاثة -حسبما سبق القول- إلى أربعة أقسام، جعل القسم الأول منه لشعر "الخطباء الفصحاء والصوفية الصلحاء" وفيه يترجم ويتمثل لتسعة عشر منهم. ومن الطريف أن المؤلف يعطي القارئ عنهم فكرة مجملة قبل أن يقدمها عن كل واحد منهم مفصلة، فيقول: وهذه طائفة أهلها أعلام سرادة ومجادة، وفرسان مرقى وسجادة وليسوا بحجة في إحادة إلا من جرى منهم مجرى إفادة في وفادة"2. وخصص صاحب "الكتيبة" القسم الثاني من الكتاب لـ"طبقة المقرئين والمدرسين والممهدين لقواعد المعارف والمؤسسين" أي للمعلمين بطبقاتهم المختلفة، والمقصود طبعًا من احتراف التعليم وحده وابتعد عن ممارسة الشعر ومعاناته ولم يقل إلا في مناسبة أو استجابة لخطرة طارئة أو فكرة وافدة، فإن أكثر الشعراء الكبار في العصور الوسيطة والحديثة كانوا معلمين. إن ابن الخطيب يجعل هذه الطبقة دون مستوى غيرها في حلبة الشعر ويقول "وهذه الطبقة أولى ممن قبلها بدرجة الانحطاط وغض عنان الاشتطاط، إذ لا خفاء عند المتمرس، بفضل الخطيب في باب الفصاحة على المدرس، إلا ما وقع بالعرض، وخرج عن هذا القياس المفترض"3 وهكذا يتحرز ابن الخطيب في حكمه، وهو الرأي الذي أشرنا إليه قبل سطور، وهؤلاء المعلمون الشعراء الذين أورد ترجمات ونصوصًا لهم عددهم أحد عشر. وخصص ابن الخطيب القسم الثالث من الكتيبة لـ "طبقة القضاة أولي الخلال المرتضاة" وعلى قدر هذا التكريم الذي خلعه ابن الخطيب على القضاة في هذا العنوان، كان التحقير في شأنهم كأدباء شعراء، فيقول في تقديمه لهذه الفئة: "وهذه الطبقة منحطة في البيان،   1 مقدمة ابن الخطيب للكتيبة الكامنة "ص28-30". 2 الكتيبة الكامنة "ص31". 3 المصدر السابق "ص70". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 لاقتصار مداركها على علوم الأديان، وما يصدر عنها فعلى جهة الافتنان وسخاء الأفنان، وربما ندر في هذه الطبقة ما يعيي يد الحالب، ويحسب طلب الطالب، لكن الحكم للغالب"1. وهكذا يتحرز ابن الخطيب ويحسب حساب النابهين من القضاة الذين خرجوا على هذه القاعدة وجاءوا بشعر معجب وبيان مطرب، ولقد تمثل هو نفسه لبعضهم وترجم لبعض المبدعين من الشعراء القضاة مثل القاضي أبي البركات محمد بن أبي بكر البلفيقي، وأورد لهم نماذج شعرية وصفها بالغرابة ووسمها بالعراقة والأصالة2. وابن الخطيب حين يصف طائفة القضاة بأنهم أولو الخلال المرتضاة، يترجم لهم من هذا المنطلق، ولكنه يستثني واحدًا منهم هو القاضي النباهي عدوه اللدود الذي وصفه -أي وصف لسان الدين- بالملحد وأفتى بحرق كتبه، وكان تصرف النباهي غير صادر من حقيقة كونه قاضيًا بقدر ما كان صادرًا من موقع خصومة شخصية وعداوة سياسية، ولعل ابن الخطيب ذكره مع طائفة القضاة بحكم الوظيفة وليس بحكم الحقيقة، فلقد كان النباهي يشغل وظيفة "قاضي الجماعة" وهي نفسها وظيفة "قاضي القضاة" في المشرق، وهي تعادل اليوم منصب "وزير العدل" ولنا مع ابن الخطيب وابن النباهي في هذا المجال حديث قادم، وليس من شك في أن النباهي كان شاعرًا كبيرًا. هذا وإن عدد القضاة الذين ترجم لهم صاحب "الكتيبة" بلغ عددهم أربعة وعشرين قاضيًا. وأما الطبقة الرابعة والأخيرة من شعراء الكتيبة فهي "طبقة من خدم أبواب الأمراء من الكتاب والشعراء" وقد جرت العادة آنذاك أنه ما من كاتب أو شاعر إلا وكانت له صلة رسمية بسلطان أو أمير أو وزير أو نطاق العمل أو الاختصاص به مادحًا أو نديمًا، ويقدم لسان الدين لهذه الطبقة بقوله: وربما كانت هذه الطبقة متميزة الاستحسان، تمييز البركة بمطر النيسان ومظنة لدرر بحر اللسان، الممنون بها على عالم الإنسان، والله يتغمد الكل بالعفو والامتنان، ويبوئهم غرف الجنان بفضله وكرمه". ونظن أن ابن الخطيب قد استثنى في دعائه الله لهم بالرحمة والعفو، الوزير ابن زمرك الذي كان تلميذ ابن الخطيب وعلى يديه تربى وبمساعيه ارتقى، ثم انقلب على أستاذه ودس عليه وخانه وشارك في إصدار الحكم عليه بالقتل، ولنا في ذلك حديث موجز بعد قليل   1 الكتيبة الكامنة "ص101". 2 انظر ترجمته للبلفيقي "ص127-134". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 وإن عدد الشعراء الذين خصهم لسان الدين في هذا القسم من الكتيبة تسعة وأربعون أي ما يقل قليلًا عن نصف عدد شعراء الكتاب كله، وهم أصحاب النصيب الأوفر من العناية، فأولي القسط الأكبر من الاحتفال بأخبارهم والاهتمام بشعرهم. المهم أن هذه الفئة الأخيرة دون غيرها من الطبقات الأربع التي صنفها ابن الخطيب في الكتيبة، هي الصفوة الشاعرة التي يستمع الأديب بقراءة أشعارها، وهي الوجه الصادق أو جزء من الوجه الحقيقي للشعر والشعراء في القرن الثامن في الأندلس؛ لأن كتاب الكتيبة لا يشمل كل شعراء القرن الثامن وإنما من لقيهم المؤلف من الشعراء. لقد كان لسان الدين بن الخطيب واضحًا الوضوح كله في خطبة كتابه أو بالأحرى في مقدمة كتابه حين حدد المنهج الذي سار عليه والمقصد الذي ذهب إليه. ثالثًا: إن محتوى كتاب الكتيبة من شعر الشعراء، وأخبارهم أو بالأحرى من شعر كل شاعر وأخباره لا ينهض لكي يمثل وجبة كاملة مشبعة، وإنما هي شطائر تدفع الشعور بالجوع لبعض الوقت، ولكنها لا تشبع، ولعل ابن الخطيب -ولست جازمًا في ذلك ولكن مستنتجًا- قد كتبها من ذاكرته، فالرجل معروف بالإفاضة والعمق والإطالة والاستيفاء، وكتبه الأخرى الكثيرة الوفيرة التي يتكون بعضها من العديد من المجلدات شاهدنا على ذلك. إن متوسط الترجمة لكل شاعر إلا في حالات قليلة زيادة ونقصًا -تشغل ما بين ثلاث صفحات إلى خمس. ولقد سبق أن رأينا شيئًا من ذلك في بعض كتب التراجم والطبقات، ككتاب المطرب مثلًا، ولكن شتان الفرق بين ابن دحية ولسان الدين، بل لقد رأينا شيئًا من ذلك في "المغرب" ولكن ابن سعيد عاد فقام بعملية تعويض أخرى للشعراء الذين لم يهتم بهم كثيرًا في المغرب فأضفى عليهم اهتمامًا كبيرًا في كتبه الأخرى حسبما أشرنا إلى ذلك في حينه. رابعًا: يتبع ابن الخطيب في "الكتيبة الكامنة" طريقة سابقيه من كتاب التراجم والطبقات في الأندلس، وغيرهم من خلع صفحات المديح وألقاب الثناء على من ترجم لهم، ولكنه حين يعرض لأعدائه ينال منهم بشدة ويحمل عليهم ويقبح سيرتهم، وربما عمد إلى السخرية منهم والهزء بهم في نهج يجمع بين الهجاء والفكاهة، مثال ذلك قوله حين ترجم للقاضي النباهي. إنه التعريض به ابتداء من ذكر اسمه فيورد اسمه هكذا: القاضي علي بن عبد الله بن الحسين النباهي البني المدعو بجعسوس، والجعسوس -بضم الجيم- القصير الدميم اللئيم الخلق والخلق. ثم يبدأ لسان الدين ترجمته للرجل قائلًا: "أطروقة الزمن، التي تجل غرائبها عن الثمن، وقرد شارد من قرود اليمن، ذنبًا وأحداقًا، وفروة وأشداقًا، وإشارة واصطلاحًا، وخبثًا وسلاحًا، تشغل به الصبيان إذا بكت، وتتملح به الزهاد بعدما نسكت، وعن كل شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 أمسكت، إلا أن خلبه بالنسبة إلى هذا الخلق، والوجه الطلق، حسنة جميلة، وأوصافه بالنسبة إلى معارفه وعلومه أوصاف ابن قاضي ميلة، لا يجلب لأدب يرسم، ولا حظ من حسن الذكر يرسم، ولا لعرف يتنسم، ولا لبركة تتوسم" ويمضي لسان الدين في وصف القاضي النباهي، وكأنما اختار وصفه له من المقامة الدينارية لبديع الزمان الهمذاني التي جعل موضوعها جائزة قدرها دينار لسفيهين شتامين، ينالها من كان أشتم من صاحبه، إن لسان الدين يمضي في وصف القاضي النباهي هكذا: "ومما يعاب به الزين، كي لا تصيبه العين، ويعلق على البيوت تميمة، وإن كانت الأوضاع ذميمة، من حوله ورصاصة منحوتة ومرار ثور، وذنب سنَّور" 1. ويمضي لسان الدين على هذا النحو من الوصف أو الهجاء شوطًا طويلًا، فإذا ما انتقل من الوصف إلى الأخبار جاء بالساخر منها والفكه، يروي لسان الدين هذه الطرفة عمن حضر مجلس النباهي: "سمعته يقول: تنكرون علي ما يكثر من كلامي من لفظ جعسوس كأنه ليس من كلام العرب، وبل ولا من ألفاظ القرآن العظيم، فقلنا له: أما في كلام العرب فربما، وأما في القرآن فلا نعرفه، فضحك وقال: سبحان الله! أعيدوا النظر فيه، فقلنا: والله ما نعرفه، فقال: ألم يقل الله تعالى في القرآن: "ولا تجعسوا ولا يغتب بعضكم بعضا" فقلنا: والله ما قال ذلك قط، وإنما قال: ولا تجسسوا، قال: فاسترجع وقال: يا فقيه، حفظ الصغر". ويبدو أن النباهي قد عرف بشيء من ذلك التخليط؛ لأن لسان الدين يذكر اسم كتاب بعنوان تنبيه الساهي على طرف النباهي". فإذا انتقل لسان الدين إلى إيراد أمثلة من شعر النباهي كان الشعر جيدًا، ولكنه يشكك في إسناده إليه، أو يأتي بقصائد قالها النباهي في مدح لسان الدين حين كان صاحب الإماة والوزارة. على أن لسان الدين في ترجماته الأخرى للنباهي في غير الكتيبة الكامنة" مثل الإحاطة أثنى عليه كثيرًا، بل إنه خلع عليه صفات الفضل والمجد في المرسوم الذي كتبه لسان الدين بنفسه حين ولاه القضاء. والنباهي بعد ذلك صاحب علم وتاريخ، وهو مؤلف كتاب "المرقبة العليا في تاريخ قضاة الأندلس". ولكن لسان الدين بشر، والنباهي وهو أحد صنائعه مشى في الدس لصاحب الفصل عليه شوطًا طويلًا انتهى إلى المدى الذي ذكرنا من موت لسان الدين قتيلًا، ثم إحراق جثته.   1 الكتيبة الكامنة "ص146" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 ويعمد لسان الدين إلى السبيل نفسه من خلع صفات اللؤم والتآمر والخسة والتسلق على الوزير الشاعر أبي عبد الله محمد بن يوسف بن زمرك، فيقول في ترجمته: "مخلوق من مكيدة وحذر، ومفطور اللسان على هذيان وهذر، خبيث إن شكر، خدع ومكر، ودس في الصفو العكر". فإذا انتقل لسان الدين إلى وصف شعر ابن زمرك مدح فنه فأثنى عليه، ولكنه لا يلبث أن ينال منه بذكر بعض أخبار عنه تنال من خلقه وسلوكه. وأما النماذج الشعرية نفسها فأكثرها مما قاله ابن زمرك في مدح لسان الدين. خامسًا: إن الشعراء الذين ترجم لهم لسان الدين في "الكتيبة" ليسوا وحدهم شعراء المائة الثامنة، بل هم الشعراء الذين لقيهم لسان الدين وذلك واضح من عنوان الكتاب، مات بعضهم في حياته، ومات هو وترك بعضهم على قيد الحياة، غير أننا نستطبع أن نقرر أن لسان الدين استطاع أن يعطي صورة واضحة المعالم عن الشعر الأندلسي في القرن الثامن الهجري في كتابه هذا مضافًا إليه محتويات كتبه الأخرى ما كان منها في الأدب وما كان منها في فنون أخرى من فنون المعرفة، فالرجل بطبيعته الأدبية لم يكن يغفل عن ترديد الشعر في كل كتبه. إن الكتيبة الكامنة، والتاج المحلى، والدرر الفاخرة واللجج الزاخرة، وعائد الصلة، وجيش التوشيح، وهي كلها من مؤلفاته الأدبية، مضافًا إليها الشعر الذي ينتشر على صفحات بعض كتبه الأخرى مثل الإحاطة في تاريخ غرناطة، ونفاضة الجراب، وأعمال الأعلام، وخلع الرسن في أمر القاضي أبي الحسن، كل ذلك يمكن أن يشكل ديوانًا للشعر الأندلسي في قرن كامل هو القرن الثامن، بمعنى أن ابن الخطيب وحده وبمؤلفاته وحدها يمكن أن نرسم صورة أقرب إلى الاكتمال عن الأدب الأندلسي شعرًا ونثرًا في المائة الثامنة من الهجرة. أما من أراد أن يغطي القرن الثامن تغطية كاملة من الناحية الأدبية، فلا مفر له من أن يطلع على كتب أخرى لمؤلفين آخرين مثل فهرسة أبي علي الحضرمي، وفهرسة أبي زكريا السراج، ونثير فرائد الجمان فيمن جمعني وإياه الزمان لابن الأحمر، وتنبيه الساهي على طرف النباهي، والبقية والمدرك من شعر ابن زمرك لابن الأحمر، والمرقبة العليا للنباهي، والمؤتمن في أنباء من لقيناه من أبناء الزمن لأبي البركات بن الحاج، ومزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية لأحمد بن علي بن خاتمة، وكتب الرحلات التي قام بها أصحابها في القرن الثامن، فضلًا على متابعة أدباء القرن أخبارًا وأدبًا وأشعارًا في نفح الطيب للمقري التلمساني والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لشيخ الإسلام أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، القاهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 الفصل السابع: كتب تاريخية في خدمة الأدب الأندلسي مدخل ... الفصل السابع: كتب تاريخية في خدمة الأدب الأندلسي: مصادر أخرى تاريخية: التاريخ الإسلامي والأدب العربي فرعان من فروع المعرفة الإسلامية وكلاهما مرتبط بالآخر ملتحم به، ذلك أن الأدب يخدم التاريخ ويحدد بعض وقائعه ويوثق كثيرًا من أخباره بما يرتبط بالحادثة أو الخبر من شعر أو نثر. ومن ناحية أخرى فإن التاريخ يخدم الأدب بالقدر نفسه والسبيل عينه الذي يخدم به الأدب التاريخ. وكتب التاريخ حافلة بالأخبار الأدبية، مليئة بالنصوص الشعرية، وهي أحيانًا تكون المصدر الوحيد لموضوع من موضوعات الشعر العربي فمن ذلك على سبيل المثال شعر الفتوح الإسلامية الذي تتمركز مصادره في صفحات كتب التاريخ دون غيرها، وإن الذي يستقرئ الطبري أو "فتوح البلدان" أو "مروج الذهب" أو "الفخري" أو "الكامل" سوف يزداد اقتناعًا بأن كتب التاريخ الإسلامي تشكل مصدرًا أصيلًا من مصادر الأدب العربي شعره ونثره. ولما كان مؤرخو الأندلس تلامذة لمؤرخي المشرق نسجوا على منوالهم ورسموا على نهجهم، كانت كتبهم بدورها تشكل مصدرًا من المصادر الرئيسية للأدب الأندلسي بفرعيه الشعر والنثر ولقد بدا ذلك واضحًا كل الوضوح في الكتب التاريخية التي خلفها ابن الأثير والتي أشرنا إلى طرف منها قبل قليل ونحن نترجم للسان الدين، مثل كتاب "أعمال الأعلام" وكتاب "كناسة الدكان بعد انتقال السكان" وكتاب "الإحاطة في أخبار غرناطة" وكتاب "نفاضة الجراب" وهكذا ... فإذن نستطيع أن نقرر من واقع الاستنتاج البدهي والاستقراء العملي أن كتب التاريخ الأندلسي تشكل ما قد اعتبرناه مصدرًا رئيسيًّا من مصادر الأدب الأندلسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 وإن أول مؤرخ أندلسي -ابن القوطية- قد ملأ كتابه بالنصوص الأدبية، وهو أول مؤرخ للأندلس من أحفاد الإسبان وذلك في كتابه "تاريخ افتتاح الأندلس" الذي أشرنا إليه في مناسبة سابقة. وقد يجمل بنا أن نذكر في إيجاز أشهر كتب التاريخ الأندلسي، وذلك باستثناء الكتب الأخرى التي سبقت الإشارة إليها عند ابن الخطيب وغيره حين عرضنا لهم بالذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 نقط العروس في أخبار بني أمية بالأندلس : ألفه أبو محمد بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456هـ، وابن حزم من الشخصيات العلمية الفكرية الأدبية المرموقة في الأندلس، فهو معروف بمذهبه "الظاهرية"، ومعروف في الأوساط العلمية بكتابه "طرق الحمامة" و"الفصل في الملل والنحل" وهو من الذين جمعوا بين الإقبال على العلم والاشتغال بالسياسة، غير أن الجانب الذي يعنينا هنا هو الذين جمعوا بين الإقبال على العلم والاشتغال بالسياسة، غير أن الجانب الذي يعنينا هنا هو الجانب المختص بابن حزم المؤرخ، ذلك أن الحديث عن ابن حزم السياسي الكاتب الشاعر الفقيه المفكر حديث طويل ليس هنا مجاله، فقد كانت حياته صراعًا مستمرًّا بينه وبين نفسه وبينه وبين خاصة المثقفين، وبينه وبين عامة الفقهاء، بل بينه وبين أمراء الدولة إلى أن ضاق ذرعًا بنفسه وبموطنه ومواطنيه فقال بيته المشهور: أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب ألف ابن حزم كتابه "نقط العروس في تاريخ بني أمية في الأندلس" بشيء من التفصيل في ما لم يفصله المؤرخون رغم أن الكتاب نفسه صغير الحجم لكنه نفيس المحتوى، ولكي نفهم الأدب الذي ارتبط جانب كبير منه بالملوك وأحداث التاريخ كان علينا أن نطالع كتب التاريخ ومنها هذا الكتاب النفيس الذي ألفه ابن حزم في حدود سنة 420هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 2- المقتبس في أخبار الأندلس : ألفه أبو مروان بن حيان القرطبي المتوفى سنة 469هـ و"المقتبس" يعتبر أعظم كتاب ألف في تاريخ إسبانيا الإسلامية والمسيحية، بالغ الطول كثير التفاصيل، وهو بالنسبة لتاريخ الأندلس بمنزلة تاريخ الطبري بالنسبة للمشرق بل إن شخصية ابن حيان كانت من النبوغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 ووفرة العلم وسعة الثقافة، وإشراق الأسلوب شبيهة بشخصية الطبري ويذكر المؤرخون أن ابن حيان ألف نحو خمسين كتابًا لم يبقَ منها إلى أجزاء من كتابه "المقتبس" وهذه الأجزاء تتناول فترات حكم الحكم الربضي وعبد الرحمن الأوسط والأمير عبد الله الأموي وفترة طويلة من عهد عبد الرحمن الناصر الحكم المستنصر، وقد نشرت هذه الأجزاء جميعًا باستثناء الجزء الذي يتناول عهد عبد الرحمن الناصر. ولعلنا نذكر ونحن نتحدث عن كتاب "الذخيرة" أن مؤلفه ابن بسام قد اعتمد في الجانب التاريخي من كتابه على أحد كتب ابن حبان هو كتاب "المتين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 3- تاريخ المن بالإمامة : ألف هذا الكتاب عبد الملك بن محمد بن أحمد الباجي الشهير بابن صاحب الصلاة، المتوفى سنة 578هـ، والحق أن هذا الذي ذكره في العنوان ليس عنوان الكتاب الحقيقي، فإن عنوانه من الطول بحيث يمكن أن يكون واحدًا من أطول عناوين الكتب التي نعرفها، وكمال عنوان الكتاب هو "تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين بأن جعلهم الله أئمة وجعلهم الوارثين، وظهور المهدي بالموحدين". وكان ابن صاحب الصلاة من المولعين بالأسفار، فلقد ذرع بلاد الأندلس وشمال إفريقية جيئة وذهابًا، وقابل الكثير من أعلام الزمن، وعاصر غير قليل من أحداث حقبة الموحدين وأخذ الثقات من كبار المؤرخين وهو من الدقة بحيث يذكر الأحداث بأيامها في نطاق الأسبوع، وتاريخها في نطاق الشهرين العربي والعجمي، والسنتين الهجرية والميلادية، وهذا ويضم الكتاب رسائل أدبية كثيرة لملوك الموحدين وكتابهم، كما يضم قصائد من الشعر وفيرة لكبار شعراء الزمان، بحيث يمكن أن يشكل الشعر المنبث على صفحاته ديوانًا كبيرًا لكبار شعراء الزمان. ولما كان الكتاب صورة من صاحبه فإن تاريخ المن بالإمامة يعطي فكرة طيبة عن مدى انفتاح الحياة الفكرية، والثقافية في عهد الموحدين في المغرب والأندلس. ويقع الكتاب في جزءين كبيرين: الأول منهما مفقود، والذي بين أيدينا هو الجزء الثاني منه ويضم الأحداث التي جرت بين سنتي 554، 568هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 4- المعجب في تلخيص أخبار المغرب : ألف هذا الكتاب عبد الواحد المراكشي، وهو مؤرخ رحالة، ولد في المغرب وعبر إلى الأندلس، وطوف في أرجائها وجال في أنحائها، وكان آنئذ قد بلغ الثانية والعشرين، وكان الحنين يلح عليه بين الفينة والفينة أن يزور مراكش فكانت له عدة أسفار بين الشمال والجنوب. ويذكر المراكشي إنه ودع المغرب والأندلس جميعًا فركب البحر المائج متجهًا إلى الشرق، فزار مصر والحجاز والشام والعراق، وقابل الكثير من الرجال شأن العلماء المؤرخين الأدباء الرحالين. ونحن نعرف أن عبد الرحمن المراكشي ولد في مراكش سنة 581هـ وأنه كتب كتابه هذا سنة 620هـ وكان إذ ذاك في بغداد وطلب إليه بعض من عاش في رحابهم أن يملي أوراقًا "تشتمل على بعض أخبار المغرب وهيئته وحدود أقطاره وشيء عن سير ملوكه وخصوصًا ملوك المصامدة بني عبد المؤمن منذ ابتداء دولتهم إلى وقتنا هذا وهو سنة 621هـ. ومعنى ذلك أن الكتاب الذي بين أيدينا إملاء من الذاكرة وليس تأليفًا معدًّا، ويبدو ذلك واضحًا في بعض عبارات المؤلف على صفحات الكتاب حين يذكر أنه نسي ذاك الخبر أو اشتبهت عليه تلك الحادثة. ومهما يكن من أمر فإن الكتاب مهتم بعصر الموحدين وإن لم يهمل تاريخ الأندلس قبل حكمهم، وللكتاب صفة التاريخ وصلة الأدب، ونعود فنكرر القول الذي ذكرناه في معرض حدثينا عن كتاب ابن صاحب الصلاة من أن هذا الكتاب "المعجب" شأنه في ذلك شأن "تاريخ المن بالإمامة" مترع الصفحات بالنصوص الأدبية الثمينة، والقصائد الشعرية العصم التي تعين الباحث الأدبي أكثر مما تعين الدارس المؤرخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 5- الحلّة السِّيراء: وقد سبقت الإشارة إلى هذا الكتاب وإلى مؤلفه المؤرخ الأديب العالم الوزير ابن الأبار القضاعي البلنسي المتوفى سنة 658هـ تكلمنا على كتاب التكملة، وحين أشرنا إلى "تحفة القادم" واختيارات البلفيقي منها تحت عنوان "المقتضب"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 و"الحلة السيراء" عنوان طريف لكتاب ثمين، وكأنما أراد المؤلف الأديب أن يلائم بين عنوان الكتاب ومحتواه، فالحلة السيراء هي الثوب الموشى الأنيق وكذلك كان الكتاب، فهو مرصع بالأدب مزدان بأنيق الشعر مترع بأحداث التاريخ، وهو من ناحية التاريخ يبدأ بالقرن الأول الهجري ويمضي منتقلًا من قرن إلى آخر ذاكرًا الملوك والأمراء والحوادث والأشعار من كل من المغرب والأندلس حتى نهاية المائة السابعة، وقد نشر الكتاب ثلاث مرات، نشره المستشرق دوزي ثم المستشرق مولر ثم نشر للمرة الثالثة في القاهرة في جزءين بتحقيق الدكتور حسين مؤنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 6- البيان المُغرب في أخبار المَغرب: ألفه أبو العباس أحمد بن عذاري المراكشي الذي عاش النصف الثاني من القرن السابع وشطرًا من القرن الثامن. ويهتم ابن عذارى في كتابه بأخبار الأندلس والمغرب منذ الفتح حتى سنة 387هـ فيما يتعلق بأخبار الأندلس وحتى سنة 602 فيما يتعلق بأخبار المغرب، وقد نشر الكتاب مجملًا بغير تحقيق دقيق في بيروت كما نشر مجزأ بتحقيق كل من دوزي المستشرق ثم ليفي بروفنسال، ثم إبراهيم الكتابي ومحمد بن تاويت ثم أويثي ميراندا على التوالي. وصفة الكتاب التاريخية غالبة، وإن ما جاء به من نصوص أدبية إنما جاءت عرضًا ودون قصد استهدفه المؤلف أو عمدٍ عمد إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 7- الذيل والتكملة لكتابي الموصل والصلة : ألفه القاضي الفقيه محمد بن عبد الملك المراكشي المتوفى سنة 703هـ ويبدو من عنوان الكتاب أنه تذييل سلسلة التراجم التي بدأها ابن الفرضي في كتابه "تاريخ علماء الأندلس". وكتب ابن بشكوال كتابه "الصلة" ذيلًا على كتاب ابن الفرضي، ثم التقط الخيط منهما ابن الأبار حين ألف التكملة لكتاب الصلة". إن محمد بن عبد الملك المراكشي ذيل هؤلاء جميعًا في كتابه هذا الذي يمكن أن يعتبر قاموسًا عامًّا لرجال الأندلس ومن رحل إليها من مشارقة ومغاربة حتى نهاية القرن السابع الهجري، وهو شأن سابقيه على حروف المعجم، ويذكر عن هذا الكتاب أنه كان يقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 في تسعة أجزاء خصص المؤلف سبعة منها لرجال الأندلس وجزءين للوافدين عليها مع قسم يترجم للشاعرات الأندلسيات والمغربيات اللاتي عشن في الأندلس. لقد ضاعت أكثر أجزاء هذا الكتاب وبقي أقلها مخطوطًا ينتظر من يقوم على تحقيقها ونشرها. هذه أهم الكتب التاريخية التي يستطيع الباحث في حقل الأدب الأندلسي أن يجد بين صفحاتها ما يمكن أن يفيد منه في نطاق كل من فرعي الشعر والنثر. 8- ويبقى بعد ذلك كتابان على جانب كبير من الأهمية في تاريخ كل من المشرق والمغرب، والأندلس لعالم جليل يعتبر غرة بيضاء في جبين الثقافة الإسلامية، أما الكتابان فهما كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في تارخ العرب والبربر، ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر" و"المقدمة". وأما المؤلف فهو العالم الرفيع القدر والشأن عبد الرحمن بن خلدون المولود في تونس سنة 732 من أسرة أندلسية الأصل، المتوفى في القاهرة سنة 808هـ، وكل من كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر" و"المقدمة" تمثلان زبدة الفكر الإسلامي المتألق وثمرة الثقافة العربية الأصيلة، إن الكتابين يمثلان رحلة عقلية في أكثر ميادين المعرفة على مساحة العالم الإسلامي مشرقًا ومغربًا وأندلسًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 الفصل الثامن: المشارقة والدراسات الأدبية الأندلسية 1- المشارقة والأدب الأندلسي : سلف القول بأن المشارقة كانوا أصحاب فضل السبق في تدوين الأدب الأندلسي -شعرًا ونثرًا- والترجمة لأدباء الأندلس وأعيانه. ونستطيع أن نقرر في غير ما إسراف أو غلو أن أبا منصور عبد الملك الثعالبي المتوفى سنة 429هـ، -والذي سبق أن تحدثنا عنه- كان واضع حجر الأساس في تدوين الأدب الأندلسي والترجمة لأدبائه، فخصص مساحة كبيرة من كتابه الثمين -يتيمة الدهر1- لأدباء الأندلس الذين عاصروه أو عاشوا قبله بفترة قصيرة من الزمن، فأفرد على سبيل المثال لا الحصر ترجمات وافية لكل من أحمد بن عبد ربه وجاء له بنماذج وافرة من شعره وخص أبا عامر بن شهيد بعناية كبيرة، وأورد له عددًا من نماذج أدبه شعرًا ونثرًا، وفعل الصنيع نفسه مع أحمد بن دراج القسطلي، وغيرهم من أمثال هذيل وابن شخصي وعبد الملك بن سعيد والمنصور بن أبي عامر، وهكذا. ولم تكن ترجمات الثعالبي لبعض هؤلاء الأندلسيين ترجمات عارضة، بل كانت دراسات وافية الجوانب وافرة النماذج بحيث لا تقل قيمة عن ترجماته الأخرى للعديد من الأدباء المشارقة الذين عني بالتقديم لهم في "يتيمته". ولا شك أن طريقة الثعالبي في كتابه هذا قد لفتت نظر ابن بسام، فاقتفى أثرها ورسم على منوالها في كتابه "الذخيرة" الذي مر ذكره، بل لعل الفتح بن خاقان كان هو الآخر -في كتابيه "القلائد" و"المطمح"- صورة   1 الفصول الأخيرة من الجزء الأول، والأولى من الجزء الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 أخرى من الثعالبي في اليتيمة، وإن تكن أقل تطابقًا من تلك التي التزمها ابن بسام. وإذا كان أبو منصور، عبد الملك الثعالبي يعتبر من خلال "اليتيمة" الرائد الأول في الاهتمام بتدوين الأدب الأندلسي، فإن الباخرزي في "دمية القصر وزهرة أهل العصر" يعتبر الرائد الثاني في الموضوع نفسه، ذلك أن الباخرزي ألف "دميته" قبل سنة 467هـ، وهي السنة التي توفي فيها، ولم يكن أندلسي واحد حتى تلك السنة ولعشرات غير قليلة بعدها من السنين قد سجل شيئًا من آداب قومه في كتاب، وقد أتى الباخرزي بعدد غير قليل من النصوص الأندلسية في القسم الثاني من كتابه الذي ضم إلى جانب ذلك عددًا من شعراء الشام وديار بكر والجزيرة وآذربيجان. ويهتم عماد الدين الأصفهاني في "فريدة القصر" بأدباء المغرب والأندلس اهتمامه بأدباء مصر والشام والعراق والجزيرة، وقد خصهم بقسم كبير من كتابه يقع في أكثر من مجلد"1. فإذا عرفنا أن العماد عاش بين سنتي 519هـ - 579هـ أدركنا أن كتابه قد تأخر قليلًا من حيث زمن كتابته عن كتاب الذخيرة لابن بسام، ومن ثم فقد حوى أخبارًا وأشعارًا وتراجم لأدباء أندلسيين لم يترجم ابن بسام لهم، ولم يقدم دراسات عنهم فيما لو اعتبرنا أن ما قدمه ابن بسام دراسات، وليست مجرد أخبار وأشعار ونماذج نثرية. ويجدر بنا أن نشير إلى أن كلا من الثعالبي والباخرزي، والعماد الأصفهاني كانوا من كتاب الطبقات، أي من أصحاب الدراسات وليسوا مجرد ناقلي نصوص أو مرددي أخبار، فقد كانت لهم أذواقهم الأدبية، وأحكامهم الفنية، يصدرونها في مقام النقد إعجابًا أو رفضًا في كثير من المواقع على مدى صفحات كتبهم العريضة. 2- ننتقل من كتاب الطبقات إلى كتاب التراجم المشارقة، ونقصد إلى القول إن كتاب التراجم -شأهم في ذلك شأن إخوانهم مؤلفي الطبقات- لم يتوانوا عن الترجمة لأعلام الأندلس، وإنما منحوهم من الاهتمام وخلعوا عليهم من الاحتفال ما منحوه لأعلام المشارقة، وما خلعوه على أعيانهم، وليس في ذلك شيء من الغرابة، فإن هؤلاء المؤلفين جميعهم من كتاب طبقات أو جامعي تراجم كانوا يتعاملون مع وطن واحد هو الوطن الإسلامي من تخوم وبخارى وسمرقند وأذربيجان شرقًا حتى شواطئ الأطلنطي غربًا، وكانوا يترجمون لمواطنين، مهما بعدت عنهم الشقة أو نأى بهم المكان وكانت المواطنية هذه إن   1 تم تحقيق الجزء الأول وطبعه في تونس سنة 1966. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 صح التعبير أو الجنسية حسب التعبير المعاصر هي الجنسية الإسلامية، يخرج المواطن من بخارى شرقًا ضاربًا بأقدامه أو سنابك جواده وجه الأرض مشرقًا حتى تبتل قدماه من مياه المحيط غربًا فلا يسأل من أين أتى، ولا إلى أين يذهب، بلد واحد وأهل واحد وثقافة واحدة ولغة واحدة، ودين واحد باستثناء بعض أهل الكتاب الذين كانت لهم الامتيازات نفسها في المواطنية والحل والترحال. طبيعي إذن أن يهتم كتاب التراجم بالأدباء الأندلسيين اهتمامهم بغيرهم من أدباء البلدان الإسلامية. وفي مقدمة كتب التراجم التي إياها نقصد "معجم الأدباء" لياقوت الرومي وقد حوى الكثير من التراجم لأدباء الأندلس، يضع الواحد منهم في مكانه من "المعجم" حسب الترتيب الأبجدي لاسمه الأول، فابن عبد ربه مثلًا يذكره تحت اسم "أحمد" وابن بسام يذكره تحت اسم "علي" وهكذا. ومن الطريف أن يقرر ياقوت في مقدمة كتابه أن واحد من أهم مصادره أندلسي، هو كتاب أبي بكر محمد بن حسن الإشبيلي الزبيدي، ولكنه لم يذكر اسم الكتاب، ونحن نرجح أن كتاب الإشبيلي هذا الذي ضاع كان عمدة مادته ومصدر أخباره حول من ترجم لهم من أدباء الأندلس. وقبل أن ننتقل من معجم الأدباء إلى كتاب آخر من كتب التراجم، قد نرى من الضرورة بمكان أن نشير إلى كتاب آخر من كتب ياقوت هو "معجم البلدان" وهو كتاب جغرافية ظاهرًا، ولكنه كتاب جغرافية وأدب ظاهرًا وباطنًا، إنه يتحدث عن بلدان العالم الإسلامي حتى زمانه، ومن بينها بلدان الأندلس، وما يكاد يتحدث عن بلد إلا ويذكر ما قيل فيه من شعر وما عرض له من أحداث ويعدد الأدباء والأعيان الذين أنجبهم هذا البلد أو ذاك وشيئًا من أدبهم شعرًا كان أو نثرًا، ومن ثم فإن كتاب "معجم البلدان" يعتبر واحدًا من المصادر المشرقية للأدب الأندلسي من خلال التعريف ببلد أندلسي بعينه مثل قرطبة أو غرناطة أو إشبيلية أو بلنسية وهلم جرا. ومن كتب التراجم المشهورة التي عنيت بالترجمة للعديد من الأعلام الأندلسيين كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان المتوفى سنة 681هـ وهو مليء بترجمات لمشاهير رجال الأندلس من علماء وفقهاء وقضاة ولغويين وكتاب وشعراء وأمراء وولاة وظرفاء ونساء مشهورات. ويسلك المنهج نفسه ابن شاكر الكتبي المتوفى سنة 764هـ، وقد شمل ابن شاكر الأدباء والأديبات من بين أعيان الزمان بعناية خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 والقول نفسه نطلقه على كتاب "الوافي بالوفيات" لخليل بن أيبك المعروف باسم صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764هـ وهي السنة نفسها التي توفي فيها زميله الكتبي، غير أن الفرق كبير بين قيمة وحجم كل من الكتابين، ذلك أن الأول يقع في جزءين مطبوعين أما الثاني فيقع في العديد من المجلدات، طبع منها حتى تأليف كتابنا هذا ثمانية مجلدات كبيرة. ويضم الوافي بالوفيات ألفين وثلاثمائة وإحدى وخمسين ترجمة بينها عدد كبير من الترجمات لأدباء وأدبيات من الأندلس. وإذا كان الصفدي قد وقف بتراجم أعيان كتابه عن منتصف القرن الثامن تقريبًا، فإن العالم الجليل ابن حجر العسقلاني 852هـ يفرد كتابًا من خمسة مجلدات خص به الترجمة لأعيان القرن الثامن الهجري وحده دون غيره من القرون أطلق عليه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، وهذا الكتاب يقابل كتاب "الكتيبة الكامنة" للسان الدين بن الخطيب مع فارق منهج كل منهما. وعن أعيان القرن التاسع يكتب شهاب الدين السخاوي كتابه الكبير "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع" في اثني عشر مجلدًا، وكل من "الدرر الكامنة" و "الضوء اللامع" بضم العديد من الترجمات لأعيان الأندلس شأنهم في ذلك من العناية شأن بقية أعيان العالم الإسلامي. ولم يقف الأمر فيما يتصل بعناية المشارقة بالأدب الأندلسي عند من ذكرنا، بل إن كتب الموسوعات التي كتبت في العصر المملوكي -وهي موضوع الباب القادم- مشحونة بالنصوص الأندلسية بين شعر ونثر مفعمة بأخبار الأندلس والأندلسيين من سياسية وأدبية واجتماعية، وفي مقدمة هذه الكتب مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، ونهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي، وهذا الكتاب الأخير المكون من أربعة عشر مجلدًا متخم بالنصوص الأدبية الأندلسية والرسائل الديوانية الرسمية منها بوجه خاص. بل إن بعض كبار أدباء المشرق قد توفروا على بعض الأعمال الأدبية الأندلسية تقديمًا وشرحًا وتعليقًا، فالأديب الكبير ابن نباتة المصري يتلقف رسالة ابن زيدون الهزلية التي كتبها إلى ابن عبدوس على لسان ولادة بنت المستكفي فيعكف على شرح مفرداتها وما حوت من عبارات مستغلقة أو أمثال سائرة، ثم يترجم لكل علم من الأعلام الذين وردت أسماؤهم في الرسالة من شعراء وكتاب وقادة وفرسان وفلاسفة وأطباء بحيث لا يترك علمًا واحدًا دون أن يخصه بدراسة مستفيضة، ويرسم صلاح الدين الصفدي على منوال أستاذه ابن نباتة، فيعكف على رسالة أخرى لابن زيدون -الرسالة الجدية- ويصنع بها صنيع ابن نباتة بأختها. وهكذا يكون المشارقة أول من اهتموا بالأدب الأندلسي دراسة وتدوينًا، وآخر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 اهتموا به كذلك؛ لأن الأندلس قد غربت شمسها منذ زمن بعيد، وأما المشارقة فقد كتب عليهم العيش يشهدون النكبة ويتخذون منها عبرة، إن كان فيهم بقية تعتبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 1- المقري ونفح الطيب : إن العنوان الكامل للكتاب هو "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين الخطيب"، أما مؤلف الكتاب فهو أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني المتوفى في القاهرة سنة 1041هـ ولو أردنا أن نضيف مزيدًا من النسب إلى التلمساني لقلنا الفاسي القاهري بسبب إقامته في كل من فاس، ثم القاهرة لسنين عديدة، بل إن سني حياته الأخيرة كانت في القاهرة حين وصل إليها سنة 1028هـ وتزوج فيها إحدى بنات السادة الوفائية. غير أن طبيعة العلماء الكبار في الوطن الإسلامي كانت مرتبطة بالسفر الكثير والارتحال شبه الموصول، ذلك أن طلب العلم أو منحه كان يقتضي الانتقال من بلد إلى بلد ومن قطر إلى آخر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن العالم يحس بالغربة إذا ما ارتحل؛ فلقد كانت تلك المساحة الشاسعة من الأرض الإسلامية العربية وطنًا واحدًا مهما تعددت أسماء الأقاليم ومهما اختلف حكام الأقطار، وكان العلم موضع تقدير الناس، ومن ثم كان العلماء موضعًا للإجلال والاحترام والترحيب. وشيخنا أبو العباس المقري منسوب إلى مقر بلد أجداده، وهي قرية من قرى تلمسان في شمال إفريقية وفيها ولد ونشأ وحفظ القرآن، وتتلمذ على عمه الشيخ أبي عثمان سعيد المقري مفتي تلسمان لمدة سنة، وعلى عمه قرأ صحيح البخاري سبع مرات، وعنه روى كتب الحديث الستة، ومن ثم فإن الصفة الأولى للمقري أنه محدث كبير، درس الحديث في كل بلد حل فيه، وكان لرجال الحديث شأنهم بالصدق والأمانة العلمية والاستقامة، هذا فضلًا عن فنون أخرى من المعرفة امتلك المقري ناصيتها. قلنا إن المقري كان كثير الارتحال، وهو في هذا السبيل رحل إلى فاس مرتين: مرة سنة 1009 ومرة سنة 1013هـ، وفي كل مرة كان يقيم مدة زمنية غير قصيرة، وبحكم علمه وفضله كان وثيق الصلة بالأمراء والعلماء والعامة على حد سواء، وكان -شأن طبيعة العلماء- مجاملًا مهذبًا، فما كاد ينوي فراق فاس متجهًا إلى المشرق عازمًا على أداء فريضة الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 ثم الإقامة في مصر، حتى رأى أنه من اللائق أن يستأذن صاحب مراكش وأميرها في كتاب رقيق تمثل فيه قول الشاعر الحضرمي علي بن عبد العزيز: محبتي تقتضي مقامي ... وحالتي تقتضي الرحيلا هذان خصمان لست أقضي ... بينهما خوف أن أميلا فلا يزالان في خصام ... حتى أرى رأيك الجميلا فأجابه صاحب مراكش إجابة تنم عن تقديره للرجل من الناحية الشخصية ومن الناحية العلمية على حد سواء قائلًا: لا أوحش الله منك قومًا ... تعودوا صنعك الجميلا وصل المقري إلى مصر سنة 1028، وكان التكريم والإجلال حسبما سبق القول، ويتزوج من أشراف مصر، ويصبح صهرًا للسادة الوفائية، وكانوا أصحاب المكانة العليا في القاهرة آنذاك ولفترات طويلة من الزمان قبل ذاك وبعده. ولسبب غير معروف على وجه الدقة يشكو المقري مصر وأهل مصر بشعره حينًا وتمثلًا بشعر شعراء آخرين حينًا آخر، سأله بعض الناس عن حاله بمصر فأجاب: دخلها قبلنا ابن الحاجب وأنشد فيها: يا أهل مصر وجدت أيديكم ... في بذلها بالسخاء منقبضه لما عدمت القرى بأرضكم ... أكلت كتبي كأنني أرضه بل إنه لا يلبث أن ينشئ أبياتًا يشكو فيها حاله وعيشه في مصر شكوى مريرة وذلك في قوله: تركت رسوم عزي في بلادي ... وصرت بمصر منسي الرسوم ورضت النفس بالتجريد زهدًا ... وقلت لها عن العلياء صومي ولي عزم كحد السيف ماضٍ ... ولكن الليالي من خصومي ولما لم يكن البخل من صفات أهل مصر ولا الإساءة إلى الغريب من شيمهم إلا في حالة واحدة، هي حالة الاعتداء عليهم أو الاستعلاء على أقدارهم، ولا نظن أن المقري قد فعل ذلك، فإننا نستنتج أن المقري كان غير سعيد في بيته، ضائق الذرع بزوجته التي ربما لم تقدره حق قدره ولم تهيئ له أسباب الحياة السعيدة، وإذا لم يكن المرء سعيدًا في بيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 امتنعت عليه كل أسباب السعادة خارجه، ومن هنا كان برمه بالحياة في مصر، ولعل قرينة بعينها ترجح وجهة نظرنا هذه، وهي طلاقه زوجته الوفائية سالفة الذكر قبيل وفاته بقليل. وربما كانت الزوجة البائسة صاحبة عذر في ذلك؛ لأن الرجل كان كثير الأسفار دائم البعد عن بيته الأمر الذي جعلها تضيق ذرعًا بأسفاره وأحواله. كانت القاهرة على كل حال مقرًّا للمقري، استقر فيها، ومنها ينطلق سنة 1029 إلى القدس، ثم يعود لينطلق إلى اليمن سنة 1037 فيؤدي الفريضة ويملي حديث رسول الله فيها ومنها يذهب إلى المدينة المنورة حيث يملي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده وعلى مسمع منه، ويقول إنه قام بهذه الزيارات في تلك السنة سبع مرات. ويمضي بعض زمانه يدرس بالأزهر في القاهرة، ثم يعود فينطلق إلى القدس مرة ثانية سنة 1039 فيجلس لإملاء صحيح البخاري في صحن جامعها ويستمع إلى درسه خلق كثير في مقدمتهم العلماء قبل الطلاب، ولم يتفق لعالم من الواردين على دمشق ما اتفق للمقري من الحظوة، وإقبال الناس على دروسه، وكانت دروس الحديث في مطلع النهار عادة، وأما في الأمسيات فكانت مساجلات أدبية ومطارحات شعرية رائعة تجري بينه وبين علماء دمشق وأدبائها، وفي أمسيات أخرى كان يلقي محاضرات في الأدب، ويكثر من تردد أخبار الوزير لسان الدين بن الخطيب وأشعاره حتى افتتن العلماء بالوزير وخبره وشعره، وطلبوا من العالم الأديب المحدث الراوية المؤرخ أبي العباس أن يكتب كتابًا عن ابن الخطيب، فكان هذا الكتاب الذي بين أيدينا حسبما سوف نفصل بعد قليل. لم تزد إقامة المقري في دمشق في زيارتها الأولى لها عام 1039 عن الأربعين يومًا، رحل منها في أوائل شوال، والقوم يبكون لفراقه عائدًا إلى مصر ثم عاد فزارها مرة ثانية في شعبان سنة 1040هـ، وكأن الرجل كان يتحرى أن يقضي شهر الصيام في دمشق. واستقبل في المرة الثانية بمثل ما استقبل به في المرة الأولى، ولما تركها قال شعرًا لطيفًا في وداعها. وفي القاهرة قر قراره على العودة إلى دمشق ليقيم فيها إقامة دائمة وطلق زوجه الوفائية ولكن المنية عاجلته في جمادى الآخرة سنة 1041هـ، فدفن في مقبرة المجاورين في القاهرة. ذلك ما كان من أمر حياة المقري ومستقره وارتحاله، وهو كما رأينا يمثل حلقة التقاء بين المشرق والمغرب، فهو تلمساني المولد والنشأة، وتلمسان تقع في غرب القطر الجزائري على مقربة من حدود القطر المراكشي الحالي، ونحن لا نعلم السنة التي ولد فيها أبو العباس على وجه التحديد، ولكن من الثابت أنه رحل إلى فاس مرتين، ثانيتهما كانت سنة 1013 وكان آنذاك موضعًا لتقدير أميرها حسبما بينا في سالف الحديث، ومعنى ذلك أنه كان مكتملًا أساب النضوج، ونعلم أيضًا أنه دخل مصر عام 1028، وتوفي فيها عام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 1041هـ، فتكون حياته العلمية والفكرية قد انقسمت قسمين أو بالأحرى نصفين: نصفًا قضاه في المغرب "تلمسان وفاس" ونصفًا قضاه في المشرق مدته ثلاث عشرة سنة، وبذلك ننتهي إلى النتيجة التي بدأناها، وهي أن عمره العلمي مقسم بين المشرق والمغرب ويكون المقري والحال كذلك همزة وصل متينة بين علم المشرق وعلم المغرب، وبين أدباء المغرب وأدباء المشرق. ولما كان المقري على هذا القدر الكبير من العلم والفضل والأدب فإننا نتوقع منه أن يقدم إلى المعرفة الإنسانية بعامة والثقافية بخاصة العديد من الكتب والمؤلفات التي أهمها: 1- "نفح الطيب" الذي نحن بصدد الحديث عنه بعد قليل. 2- "أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض" وهو شبه من حيث مقصده بكتاب "نفح الطيب"، فكما أن "نفح الطيب" كان الهدف منه حديثًا وتأريخًا للسان الدين بن الخطيب فإن الهدف من أزهار الرياض الترجمة للقاضي المغربي عياض بن موسى اليحصبي السبتي، وهو كتاب ثمين مليء بأسباب الأدب وطرائف الأخبار، وإن كان محوره القاضي المذكور، وهو مطبوع في أجزاء أربعة. 3- "إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة" ومن المعروف أن المغاربة والمصريين والشوام غالبيتهم العظمى إن لم تكن جملتهم من أهل السنة والجماعة، والكتاب مطبوع. 4- الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين. 5- قطف المهتصر في أخبار البشر. 6- عرف النشق في أخبار دمشق. 7- الغث والسمين والرث والثمين. 8- روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيه من أعلام مراكش وفاس. 9- أزهار الكمامة. 10- حاشية على شرح أم البراهين "في علم التوحيد". 11- إتحاف المُغري في تكميل شرح الصغري "متصل بالكتاب السابق في شرح السنوسية في علم التوحيد". 12- كتاب البدأة والنشأة "كله أدب من شعر ونثر". 13- فتح المتعال، وهي رسالة كتبها في وصف نعال النبي صلى الله عليه وسلم. تلك أشهر الكتب التي كتبها أبو العباس المقري وهي تمثل ذخيرة ثمينة من كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 الحديث والعلوم الشرعية والتوحيد والتاريخ والتراجم والأدب، وقد ضاع أكثرها، وكل الذي بين أيدينا منها الكتب الثلاثة الأولى وهي من النفاسة والقيمة بمكان، غير أن ما نهتم له هنا هو كتابه "نفح الطيب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 2- منهج نفح الطيب وموضوعاته : أولًا: كان أبو العباس المقري محبًّا للسان الدين بن الخطيب الوزير العالم الأديب الغرناطي الذي مر حديثه، معجبًا بأشعاره مغرمًا بعلمه وأفكاره كثير الترداد لاسمه والاستشهاد بشعره في مجالسه إبان زيارته الأولى لدمشق، وكان يكثر من ذكر الأندلس ومجال طبيعتها، ونباهة شأن علمائها، ورقة شعر شعرائها، فطلب إليه أحمد بن شاهين القبرسي "القبرصي" المعروف بالشاهيني، وكان الشاهيني آنذاك كبير أدباء دمشق وشعرائها وفضلائها، ترك السيف وانعطف إلى القلم، وتمنى على صديقه وضيفه أبي العباس أن يكتب كتابًا عن لسان الدين يعرف بأحواله وأخباره وأدبه وكتبه، فاعتذر المقري أول الأمر عن الإقبال على مثل هذا العمل الجليل؛ لأنه لا يستطيع إيفاء من كان في مكانة ابن الخطيب حقه، فلما ألح الشاهيني في طلبه مستعينًا بصداقته ومودته وما له من دالة على المقري استجاب له أبو العباس ووعده بتحقيق رغبته بعد أن يعود إلى مصر. وما إن عاد عالمنا الكبير، وكان ذلك سنة 1039 حتى عكف على الكتابة عن لسان الدين وبالمثابرة والمتابعة، والعزم والذاكرة الحافظة الواعية انتهى المقري من كتابه وجعل عنوانه "عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب"، ثم عن له أن يعزم "على زيادة ذكر الأندلس جملة، ومن كان يعضد به الإسلام وينصر وبعض مفاخرها الباسقة، ومآثر أهلها المتناسقة؛ لأن كل ذلك لا يستوفيه القلم ولا يحصر1. فلما أخذ الكتاب سمته الجديدة بهذه الإضافة رأى المؤلف أن يعيد النظر في عنوانه فجعله "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب". وهكذا بدأ المقري كتابه حول شخصية أندلسية واحدة، ثم ما لبث أن جعل منه موضوعًا للأندلس كلها. ثانيًا: جعل المؤلف كتابه في قسمين، وجعل كل قسم في ثمانية أبواب فخص القسم   1 النفح "1/ 108". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 الأول بأبوابه الثمانية بالأندلس وما يتعلق بها من وصف لأرضها ومحاسنها ومآثرها وطبيعتها وكورها وفتحها، وقوة الإسلام فيها، والخلافة الأموية، وقرطبة العاصمة، وجامعها، والزهراء الناصرية، والزهراء العامرية، والبساتين والمصانع، وإيراد القرائح والأفكار. وقد ضمن المقري هذا القسم أيضًا تعريفًا ببعض الشخصيات الأندلسية التي رحلت إلى المشرق، وكانت الرحلة إلى المشرق من كمال علمهم وضرورة تثقيفهم، وهؤلاء الذين ذكرهم المقري في نطاق الرحلة من الشهرة ووفرة العلم وسعة الثقافة بمكان، فكل من رحل من الأندلس ذكره المقري في هذا القسم من كتابه وترجم له، ويدخل في هذه المجموعة كثيرون من بني سعيد الذين مر حديثهم مفصلًا بعض الشيء ومنهم الوشاح وأبو بكر بن زهر، ومنهم يحيى الغزال. ومن الطريف أن المقري حين يذكر من وصل إلى الفسطاط أو القاهرة أو دمشق منهم ينصرف إلى وصف الفسطاط ومساكنها ومساجدها وجزيرة الروضة ومدينة القاهرة وقصورها وبركة الفيل التي كان المقري يسكن على شاطئها إبان إقامته في القاهرة. ويصف دمشق وجامعها وغوطتها ويذكر ما قاله الشعراء فيها ويعرض لكبار أدبائها إلى غير ذلك مما يتعلق بطرائف المشرق. وفي هذا القسم عينه المقري الوافدين على الأندلس من أهل المشرق، ومنهم كثرة أدت إلى الأندلس أجل الخدمات علمًا وأدبًا وفنًّا مثل موسى بن نصير، ويوسف بن عبد الرحمن الفهري، وعبد الرحمن بن معاوية المعروف "بالداخل" والصميل بن حاتم، وأبي علي القالي، وصاعد البغدادي، وزرياب المغني، وغيرهم، كما يذكر طرفًا من الأخبار التي تتعلق ببدء تحرك نصارى الأندلس إلى الاستيلاء على الأندلس الإسلامية. ويقول المقري: إنه لم يخل بابًا في هذا القسم من كلام للسان الدين بن الخطيب وإن قل. وهذا القسم مليء بالأخبار اللطيفة والأشعار الكثيرة الوافرة الطريفة والترجمة لشخصيات الأندلس ما بين ملوك وأمراء وقواد ووزراء وحجاب وشعراء، وكتاب وعلماء وقضاة وزهاد وفجار ونساء شاعرات وجوارٍ مرموقات، مع غلبة الطابع الأدبي على أي طابع آخر من طوابع المعرفة التي ترصع جنبات الكتاب. وأما القسم الثاني فهو لب الكتاب وأصله بأبوابه الثمانية التي ترتبط أسبابها بأسباب لسان الدين الخطيب أصلًا ومنشأ وحياة ومذهبًا وثقافة ومنصبًا وسفارة وتألقًا وشعرًا وموشحات وزجلًا، وتلامذة ومريدين، وندماء وأصدقاء، وكائدين، ومصنفات ومؤلفات واعتزالًا وارتجالًا ووفاة. ثالثًا: تعتبر مقدمة الكتاب معلمًا من معالمه السابقة، فهي قطعة من روائع الأدب المطرَّز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 بالسجع التي تتضمن الكثير من الموضوعات والمواقف، ففيها ما يمكن أن يسمى بأدب الرحلة، مثل رحلته في البر والبحر من المغرب إلى مصر، ووصف المراكب وسيرها على صفحة الماء، وتأرجحها على هامة الأمواج، وتمزقها من عاتية الرياح، وراكب البحر وما يسيطر عليه من خوف، ويتمثل بالبيت الشعري اللطيف: ثلاثة ليس لها أمان ... البحر والسلطان والزمان ويبدع أيما إبداع، ويحلق أيما تحليق، ويشف أيما شفافية، وهو يقترب من البيت العتيق، ويطوف حوله، ويتألق ويتشوق، ويتصوف، وهو يحبو إلى رحاب طيبة حيث مستقر الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم. وحين يصل إلى مصر يصفها ونيلها وروضتها، ويردد شعرًا كثيرًا قيل فيها وفي نيلها ويستشهد بقول ابن ناهض فيها: شاطئ مصر جنة ... ما مثلها في بلد لا سيما مذ زخرفت ... بنيلها المطرد وللرياح فوقه ... سوابغ من زرد ويورد قول شاعر آخر في النيل: انظر إلى النيل الذي ... ظهرت به آيات ربي فكأنه في فيضه ... دمعي وفي الخفقان قلبي وقول آخر في النيل وفيضانه المنتظم: كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه فيأتي حين حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه ومن مواقف اللوعة التي تتسم بها المقدمة وصف المؤلف لبلاده ووداعه لموطنه وارتحاله عن بلده بمقطوعات من الشعر العاطفي الوجداني، ومختارات رائعة لغيره من الشعراء في وصف الوطن والأسى لفقد ربوعه والحزن لفراقه الأهل والأحباب، واللوعة لمغادرة الديار بحيث جعل المقري من مقدمته الطويلة خزانة لفنون من أدب الرحلة وأدب الديار ومساجلات الأدباء ومطارحات الشعراء، وإن عابها بعض مواقف الإطالة وبعض أساليب الإطناب. رابعًا: والكتاب في جملته مكتوب بأسلوب مشرق جذاب وإن كان يضم الكثير من الصنعة والعديد من الأسجاع، ولعله كان في ذلك يتشبه بأسلوب لسان الدين بن الخطيب، وينسم من خلاله شذاه ولكن الفرق بينهما بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 وفي الوقت نفسه ينبغي الإشارة إلى أن المقري قد عاب كتابه بالاستطرادات الطويلة الكثيرة التي تلقي بالقارئ في متاهات صعبة بحيث يكاد ينسى الموضوع الذي كان متوفرًا عليه. خامسًا: ومن عيوب الكتاب أيضًا التكرار، والتكرار غير الاستطراد، ذلك أن المقري يأتي بالخبر الطويل المقترن بالشعر الكثير، ثم لا يلبث أن يكرره مثنى وثلاثًا في أماكن عديدة من الكتاب بنصفه ومحتواه، ثم يعود مرات أخرى لكي يكرره من أوله تارة، ومن وسطه تارة ثانية ومن آخره تارة ثالثة ولو قد خلص الكتاب من التكرار لزاد قدره قيمة على قيمته، غير أن عذرًا قد يلتمس للمؤلف، ذلك أنه حينما يكرر في بعض الأحيان يكون سبب التكرار رواية لمصدر غير المصدر ذي الرواية الأولى. سادسًا: والحديث عن المصادر يدفع بنا إلى ذكر حسنة كبرى من حسنات "نفح الطيب"، ذلك أن المقري -بحكم كونه راوية محدثًا- يعتمد أسلوب الرواية في ما يورده من أخبار، فيرد كل خبر إلى أصله وكل شعر إلى مصدره، فيتجمع لنا من خلال روايات المقري في نفحه عدد كبير من مصادر الأندلس التاريخية والأدبية، ما ضاع منها وما قد نجا من آفة الضياع والاحتراق والإخفاء والسرقة والتلف. وكتاب "نفح الطيب" يعتبر خاتمة الموسوعات الكبرى المتخصصة في عرض التراث الإسلامي الأندلسي من تاريخ وبلدان وآداب وترجمات وسياسة ووزارة وفتوح وحروب ودس وهزائم وصفحات ناصعة وأخرى مخزية، وهو في جملته بالنسبة للأدب الأندلسي كتاب الكتب وسفر الأسفار. والكتاب لأهميته طبع إلى الآن مرات أربعًا، ثلاث مرات في مصر، أولاها في مطبعة بولاق سنة 1279، وثانيتها في المطبعة الأزهرية، وثالثتها بتحقيق محيي الدين عبد الحميد سنة 1367هـ، والرابعة في بيروت بتحقيق الدكتور إحسان عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 الباب الحادي عشر: الموسوعات العربية الفصل الأول: ظهور الموسوعة العربية والعصر المملوكي ظهور الموسوعة العربية ... الباب الحادي عشر: الموسوعات العربية: الفصل الأول: ظهور الموسوعة العربية والعصر المملوكي إذا كان لكل عمل علمي سمة يوسم بها أو ميدان يختص به من لغة أو أدب أو تاريخ أو سياسة أو آثار أو بلدان، فإن عددًا غير قليل من الكتب العربية يمكن أن يوسم بكل هذه الموضوعات مختصًّا بها اختصاصًا جزئيًّا، مسهمًا في ميدان كل منها بنصيب وافر، وهذا الصنف من الكتب الكبيرة الضافية الشمول هو ما يمكن أن نضعه تحت اسم "الموسوعات" قد كتب في العصر المملوكي، الأمر الذي جعل عددًا غير قليل من الدارسين يطلق عليه عصر "الموسوعات العلمية" وهو حكم صحيح إلى حد كبير، ذلك أن عصرًا تكتب فيه كتب جمعت إلى ضخامة الحجم نفاسة المحتوى، وإلى وفرة العدد أصول علومنا الحضارية، لا ينبغي لأحد أن يبخل عليه بهذه التسمية ولو جنح فيها إلى بعض ألوان المبالغة المقبولة، فأشهر الموسوعات التي ظهرت في العهد المملوكي هي نفسها أشهر ما عرف باسم الموسوعات في رحاب الفكر الإسلامي على امتداد زمانه طولًا، وعلى سعة أرضه عرضًا إنها: 1- لسان العرب 2- نهاية الأرب في فنون العرب 3- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار 4- صبح الأعشى في كتابة الإنشا. 5- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 6- الخطط للمقريزي 7- الدرر الكامنة لابن حجر 8- الوافي بالوفيات للصفدي. إن هذه الكتب الكبيرة النفيسة الرحيبة لا يكاد يستغني عنها باحث، ولا يستطيع أن يغض من شأنها دارس، فهي زاد طيب لكل باحث ونبع ثر العطاء لكل من الطالب والأستاذ على حد سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 الموسوعات والعصر المملوكي : وإن لظهور هذه النفائس في العصر المملوكي على وجه الخصوص معنى كبيرًا لا ينبغي أن تفوتنا دلالته العميقة التي تصحح دون ريب تصورًا خاطئًا وقر في أذهان كثير من الدارسين لقد ذهب بعض الكتاب دونما قصد في الأحكام، أو تروٍّ في إصدارها إلى أن العصر المملوكي كان عصر تخلف علمي، وتأخر أدبي، واخترعوا لذلك أسبابًا وابتدعوا تعلات ودواعي، ولم يخطر ببالهم قبل إصدار تلك الأحكام أن يلتفتوا بعض الشيء إلى هذه الأعمال العلمية الكبرى الوفيرة العدد التي يغني الواحد منها عن مائة كتاب، كما أنهم لم يزنوا طبيعة العصر ودقته وخطره ولم ينتبهوا إلى أنه كان يمثل جانبًا من الوطن الإسلامي الكبير، الذي خرج من محنة التتار منهوك القوى مثخنًا بالجراح مجردًا من كنوز عقوله المسجلة في روائع الكتب التي ألقيت في نهر دجلة فطمته، وسود مدادها صفاء مائه لفترة من الزمان كانت شاهدًا على أكبر جريمة ارتكبت في حق الإنسانية على مر الدهور، هذه واحدة، ومن ناحية أخرى، لم تقف ملكة التأليف السخية بأصحاب الموسوعات عند اقتصار كل واحد منهم على موسوعته وإنما جادت قرائحهم الخصيبة بأعداد وفيرة من المؤلفات لم تلقَ من حظ الشهرة -على نفاستها- ما لقيته أخواتها على ما سوف نبين بعد قليل، ومن ناحية ثالثة لم يكن هذا العصر مجرد عصر إحياء ما ذوي ولم شتات ما اندثر من آثارنا الفكرية وتسجيل ما هو مهدد بالزوال من أدبنا ما كان منه مسطرًا في الكتب أو مبعثرًا في الأذهان وحسب1، وإنما كان عصر عطاء وبناء وابتكار، وآية ذلك ظهور العالم الجليل والمفكر الأديب، والمؤرخ الدقيق والفيلسوف العميق والسياسي العظيم عبد الرحمن بن خلدون، إن الظاهرة الخلدونية لا يمكن أن تتوفر لها أسباب الظهور في مجتمع متخلف الفكر جامد العطاء، كل مهمته تسجيل ما فات وتحبير نتاج فكر مضى، وإنما معنى ذلك أن المجتمع -رغم أن حكامه لم يكونوا عربًا- وكان مجتمع علم اتسم بالوقار واتصف بالعمق ونأى بنفسه عن أسباب الضجيج التي سايرت بعض العصور السابقة له. هذا وليس معنى كون الحكام آنذاك -في مصر مركز الثقافة- غير عرب أن يتخلف العلم، ويجف مداد الأقلام وتتوقف العقول عن التفكير وتعجز القرائح عن العطاء، فتلك نظرية خطيرة لم يثبت التاريخ صحتها؛ ذلك لأن هؤلاء الملوك أنفسهم كانوا مسلمين وإن لم يكونوا عربًا، والحضارة في جوهرها حضارة إسلامية قبل أن تكون عربية، ولم يكن من المعقول أو المقبول أن يقف الملوك الذين قهروا التتار وحاربوا الصليبيين في وجه الفكر   1 كتاب الحركة الفكرية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي "ص315"، وكتاب القلقشندي في صبح الأعشى "ص13" لمؤلفهما الدكتور عبد اللطيف حمزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 الإسلامي والحيلولة دون عطائه برغم قلة حصيلتهم من العربية، بل العكس هو الصحيح فقد كانوا يحسنون اختيار وزرائهم -رؤساء ديوان الإنشاء- وينتقونهم من بين خيرة العقول المثقفة العالمة الواعية، ويكفي أن يكون ابن فضل الله العمري صاحب "مسالك الأبصار" واحدا من وزرائهم، وأن يكون القلقشندي وابن منظور صاحب "لسان العرب" والنويري صاحب "نهاية الأرب"، والمقريزي صاحب "الخطط" من رجالهم وموظفي ديوانهم. ومن الأمور الجديرة بالذكر أن عصر الموسوعات كان قريب العهد بالعصر الذي زخرت فيه الأندلس بكبار العلماء والفلاسفة والمفكرين والمؤلفين، ولم تكن هناك حدود ولا سدود تفصل أرض المسلمين وإن تشعبت إلى ممالك متفرق بعضها عن بعض، بل كانت الرحلة دائمة والأسباب موصولة، فلم يكن الفكر في الشرق بمعزل عن نظيره في المغرب والأندلس، ومن ثم كان التفاعل قائمًا والعطاء متصلًا. هذا ولا يستطيع الباحث المدقق أن يغفل أن هذه الموسوعات المملوكية كانت منصبة في أكثر جوانبها على دراسة البيئة المصرية بصفة خاصة دراسة أدبية اجتماعية سياسية تاريخية اقتصادية جغرافية، متناولة البيئة الإسلامية بصفة عامة في ميادين الدراسة نفسها سالفة الذكر، ومن ثم فهي صدى ثقافة بيئة ونتاج عقول منطقة من أرض المسلمين، إليها انتهت الزعامة الحربية والرئاسة السياسية، فتوفر علماؤها على التأليف والكتابة من منطلق خاص هو الأرض الإسلامية المصرية، فكانت السمات البيئية الثقافية -والأمر كذلك- عنصرًا لا يستطيع الباحث أن يغض من شأنه حين يعرض لتحليل ظهور هذا النوع من الموسوعات زمانًا ومكانًا. تلك حقائق تاريخية وعلمية أردنا في إيجاز شديد أن نصحح من خلالها خطأ ربما كان غير متعمد لحق بعصر الموسوعات المشهورة، ومن ثم أوقع حيفًا على أهله هم منه بنجوة وبراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 الفصل الثاني: الموسوعات المملوكية وكتابها : ابن منظور ولسان العرب : إن أول هؤلاء من الناحية التاريخية على الأقل جمال الدين أبو الفضل محمد بن علي المصري المشهور بابن منظور ولادة ووفاة 633-711هـ، لقد توفر ابن منظور على إنجاز أكبر وأغنى قاموس عرفته اللغة العربية حتى الآن ضمنه ثمانين ألف مادة ضمها عشرون مجلدًا بحروف المطبعة الحديثة، ولا يزال هذا القاموس الجليل في مقدمة ما يرد على الذهن من مراجع لغوية إذا احتاج المرء إلى الكشف عن كلمة غمضت عليه أو استبهم أمرها واستعصى فهمها، وإن الشمول الذي يتصف به ابن منظور في "لسان العرب" والصواب الذي يلازمه في كل مواده، والفيض الذي يترع دفتيه ليس وليد مصادفة أو حظ باسم، وإنما هو حصاد عمل موصول وثمرة كد لا يعرف الملل، ذلك أن الرجل ما ترك مصدرًا سابقًا إلا استشاره، ولا كتاب لغة ثبت الأصول إلا رجع إليه، وفي مقدمة ذلك "التهذيب" للأزهري، و"الصحاح" للجوهري وكتابا ابن سيده "المحكم" و "المخصص". وإذا سأل سائل كيف أمكن لابن منظور وقد كان له عمل آخر هو الكتابة في ديوان الإنشاء أن يجد من فسحة وقته ما يسمح له بالقيام بهذا العمل الكبير؟، فإن الإجابة قد لا تخلو من طرافة إذا عرف أن "لسان العرب" لم يكن وحده العمل العلمي الذي أنجزه -على بسطته وعمقه وطوله - ابن منظور، بل لقد ترك الرجل عددًا آخر من الأعمال العلمية الجليلة واهتم باختصار المطولات من كتب الأدب كما سماها الأقدمون، والموسوعات كما نسميها نحن المحدثين، فاختصر الحيوان للجاحظ، وتاريخ دمشق لابن عساكر، والذخيرة في محاسن الجزيرة لابن بسام، والأغاني للأصبهاني، ومن الطريف أيضًا أن تلك الكتب التي اختصرها لم ينل من جوهرها أو يقلل من فرصة الانتفاع بها، بل قدمها ميسرة خالية مما لا يهتم له أكثر القراء من حشو وأسانيد وعنعنات، فابن منظور والأمر كذلك عبقري موهوب، والعبقرية تذلل أمام صاحبها كل أمر يصعب على غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 النويري ونهاية الأرب : فإذا عرضنا لموسوعة أخرى لعالم آخر، وراعينا التسلسل الزمني، كان أحمد بن عبد الوهاب القرشي التيمي البكري المصري المعروف بالنويري لمولده في قرية نويرة ببني سويف في أسفل صعيد مصر، هو موضع الإشارة وصاحب الاهتمام، لقد عاش النويري بين سنتي 677-733هـ، ولعل أهم مصدر لحياة النويري ومنهج تفكيره هو مقدمة موسوعته العظيمة "نهاية الأرب في فنون العرب. إنه يذكر في إيجاز أنه اشتغل بالكتابة في ديوان الناصر محمد بن قلاوون، ثم تقلد بعض وظائف أخرى في الدولة، ولعل هذه الوظائف جميعًا وأشرفها هي قيادته إحدى فرق جيوش المسلمين التي تمركزت في كل أنحاء الإقليم الشمالي من المملكة المصرية الشامية، فقد ولي النويري قيادة الجيش المرابط في طرابلس لفترة غير قصيرة من الزمان، ثم ما لبث أن تخلى عن ذلك كله وتفرغ للكتابة التي كانت ثمرتها "نهاية الأرب" الذي كتبه في ثلاثين جزءًا والذي بلغ ما طبع منه ثمانية عشر جزءًا فقط حتى الآن. والذي يتتبع النويري في "نهاية الأرب" يحس بروعة العمل الذي قام به هذا العالم الجليل والفارس النبيل، ويلمس عمق فكره وسعة اطلاعه لما حوى كتابه من موضوعات متعددة قد تبدو أحيانًا متباعدة، ولكنه يربط بينها في براعة ويسر، ويقدمها على صفحات كتابه فياضة متواكبة، فبينما يتحدث عن الموسيقى والغناء والزندقة والخمر نراه يتحدث عن الزهد والتعبد، وبينما يتحدث عن الشعر والنثر في مكان يتحدث عن الجيش، وأسلوب الحكم والحرب بحرًا وبرًّا في مكان آخر، وهكذا. إن موسوعة النويري -شأن كل موسوعة- تضم ألوانًا من المعرفة، وأشتاتًا من الأخبار، وموضوعات من الأدب، وقضايا من التاريخ، ونماذج من أنظمة الحكم، ظواهر من الكون، كل ذلك في نطاق العلوم المتعارف عليها، غير أنه يبدو واضحًا أن النويري في منهجه وكثرة استطراده، وطريقة عرض شواهده متأثر كل التأثر بمنهج كل من الجاحظ في "كتاب الحيوان" وابن قتيبة في "عيون الأخبار"، ولعل منهج الجاحظ عنده أبين وأوضح، وهو يعترف بذلك في مقدمته للكتاب بقوله: "وما أوردت فيه إلا ما غلب على ظني أن النفوس تميل إليه، وأن الخواطر تشتمل عليه، ولقد تتبعت فيه آثار الفضلاء قبلي، وسلكت منهجهم فوصلت بحبالهم حبلي". على أن موسوعة النويري في حقيقتها أثمن بكثير من تقويم صاحبها لها، ذلك أنها حوت الكثير الفريد من العلوم والنادر الخطير من أخبار التاريخ، وبخاصة ما أشار إليه المستشرق فازيلييف من أخبار خطيرة كأخبار صقلية كانت موضع اهتمام النويري نقلها عن مؤرخين قدماء لم تصل إلينا أخبارهم، مثل ابن الرقيق وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ومن الأمور الهامة التي ينبغي ألا تفوت الباحث أن العلم الواسع والمعرفة الشاملة لم يكونا وقفًا على عالم واحد في زمان بعينه، لا يشاركه فيهما أحد ولا ينازعه فيهما منازع، المسألة لم تكن تسلسلًا زمنيًّا منسقًا بحيث يموت علم من أعلام المعرفة فيظهر من بعده آخر، وإنما كان العلماء الكبار يتعاصرون ويلتقون، خصوصًا أولئك الذين كانوا يعيشون في مصر والشام، هذين البلدين الذين ظلَّا يشكلان بلدًا واحدًا على مدى عصور التاريخ، وكانت ظاهرة الوحدة بينهما أكثر وضوحًا في العصر المملوكي منها في بقية العصور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 صلاح الدين الصفدي، وابن شاكر الكتبي: نعود إلى فكرتنا عن معاصرة العلماء الأعلام بعضهم لبعض، إنه في الوقت الذي عاش فيه النويري بين سنتي 677-733هـ منسوبًا إلى مصر باعتباره مولودًا في إحدى قراها، كان يعيش في بلاد الشام عالمان هما صلاح الدين الصفدي وابن شاكر الكتبي . لقد عاش العالم الجليل صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي -وقد مر بعض خبره- بين عامي 696 و764هـ معاصرًا للنويري مدة أربعين عامًا، وليس هناك ثمة شك في أنهما التقيا، فكل منهما عاش لفترة من الزمن في بلد الآخر. والصفدي وافر الإنتاج كثير التأليف غزير المادة، ألف عشرات من الكتب التي لا يخلو بعض موضوعاتها من طرافة، فمن ذلك على سبيل المثال كتابه "نكت الهميان في نكت العميان" الذي ترجم فيه لمشاهير العميان من العلماء والأدباء والأعلام، وتحدث عن طرفهم وبعض ما يريح الخاطر من أخبارهم وأمورهم ونوادرهم الأدبية، ولا زالت أحفظ منذ فجر صباي أبياتًا طريفة أوردها الصفدي في كتابه، هذا لشاعر يتغزل في عمياء يقول فيها: إن الكمال أصاب في محبوبتي ... لما أصاب بعينه عينيها زادت حلاوتها فصرت تخالها ... وسنى وقد أسر الكرى جفنيها وكما علمت وللدبيب حلاوة ... فكأنني أبدًا أدب إليها ليس هذا على كل حال موضوعنا فربما كان دافعي إلى ذكر هذه الطرفة هو شيء من الترويح عن النفس، وإنما الذي يهمنا أن صلاح الدين الصفدي، قد قرأ كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان -وهو أكثر موسوعات التراجم دقة وثقة- ورأى أن يستدرك ما فات ابن خلكان وأن يغطي الفترة الزمنية التي فصلت بينهما فأنشأ موسوعته النفيسة "الوافي بالوفيات" التي لم يطبع منها لسوء الحظ -حسبما ذكرنا في الباب الماضي- إلا أجزاء ثمانية حتى كتابة هذه الأسطر، وتقوم على نشرها الآن في فسبادن بألمانيا هيئة من المهتمين بنشر التراث العربي. وأما ابن شاكر الكتبي فقد عاصر الصفدي بل إنه مات في العام نفسه الذي مات فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 رفيقه أي عام 764هـ، أما تاريخ مولده فغير معروف لنا؛ لأن الرجل ولد في قرية من قرى دمشق هي داريا من أسرة خاملة الذكر، ولذلك فإنه ينسب إلى قريته حين يذكر اسمه كاملًا، وهو -وقد مر حديثه أيضًا- محمد بن شاكر بن أحمد بن عبد الرحمن الكتبي الداراني الدمشقي1. ومن الطريف أنه اتخذ لنفسه صفة هي "صلاح الدين" تمامًا مثل معاصره خليل بن أيبك الصفدي، الذي اتخذ لنفسه الصفة ذاتها. إن ابن شاكر -وقد أسلفنا بعض خبره- كان وراقًا يشتغل بتجارة الكتب التي غيرت حاله من الفقر المدقع إلى الثراء الوفير، وربما رأى أن الوفاء يقتضيه أن يرد بعض الجميل إلى المهنة التي دفعت به إلى عالم الثراء، فأقبل على العلم دراسة، وعلى التأليف إنتاجًا فقدم لدينا المعرفة موسوعتين نفيستين إحداهما مرتبطة باسمه دائمًا، وهي "فوات الوفيات" التي طبعت في مجلدين، وأما الموسوعة الثانية، فهي "عيون التواريخ" التي تقع في ستة مجلدات لا تزال مخطوطة تنتظر من يفرج عنها ويحققها ويطبعها. غير أن الأمر الجدير بالذكر أن الكتابين سالفي الذكر يدخلان في نطاق علم التراجم الذي يحدده منهج لا يستطيع المؤلف أن ينفلت منه إلا في القليل؛ لأن كل ما يذكر فيها من أحداث إنما يكون سوقها مرتبطًا بحياة شخص معين بخلاف الموسوعات المصطلح عليها بهذا الاسم فإنها تنطلق في دنيا المعرفة طولًا وعرضًا وفي ميادين العلوم تنوعًا وشمولًا.   1 نحب أن نلفت نظر القارئ إلى أن معجم مطبوعات سركيس قد أخطأ حين حاول التعريف بابن شاكر الكتبي وذكر أن اسمه غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري، فذلك أديب آخر عاش بعد ابن شاكر بأكثر من قرن من الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 ابن فضل العمري ومسالك الأبصار ... ابن فضل الله العمري ومسالك الأبصار: وثالثة الموسوعات المملوكية من حيث التاريخ، وأوفرها شهرة، وأكثرها حظًّا من حيث احتفال الأدباء والدارسين بها هي موسوعة "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العمري الذي عاش بين سنتي 700 - 749هـ، والذي شغل وظيفة رئيس ديوان الإنشاء التي تعتبر في زماننا هذا مساوية لوظيفة رئيس الوزراء ووزير الخارجية. إن شخصية العمري شخصية فذة فريدة قليلة المثال في التاريخ، فالرجل لم يعش أكثر من تسع وأربعين سنة وصل فيها إلى أوج الرتب بتوليه ديوان الإنشاء وتدحرج إلى الحضيض حينما غضب عليه السلطان الناصر، وقطع يده وزج به في غيابة السجن لفترة غير قصيرة الأمد1 ثم ما لبث أن أفرج عنه، فإذا ما أسقطنا من عمر أديبنا الكبير سنوات طفولته وفترة   1 انظر ترجمته في الدرر الكامنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 تحصيله العلم في سنوات يفاعه التي تتلمذ فيها لصفوة علماء العصر، وفي مقدمتهم الإمام العالم الفارس الورع أحمد بن تيمية، وإذا أسقطنا من حسابنا أيضًا سنوات المحنة التي تعرض لها العالم الجليل والوزير النابه، لم نستطع أن نخفي دهشة ليس إلى تجاهلها من سبيل؛ لأن الآثار العلمية لابن فضل الله العمري تكون قد كتبت في أقل من خمس وعشرين سنة مزدحمة إلى جانب ذلك بهموم الوزارة ورئاسة ديوان الإنشاء، لقد خلف العمري بالإضافة إلى موسوعنه الكبيرة عددًا كبيرًا من الكتب النفيسة التي يبلغ الواحد منها أحيانًا بضعة مجلدات مثل "فواصل السمر في فضائل آل عمر" الذي يقع في أربعة مجلدات، ويسبب تأليفه -فيما يذكر صاحب الدرر الكامنة- لقب شهاب الدين بالعمري. ومن كتبه المطولة أيضًا كتابه "صبابة المشتاق" في المدائح النبوية ويقع هو الآخر مثل سالفه في أربعة مجلدات، وبقية كتبه تدل دلالة واضحة على عبقرية الرجل وتعدد ميادين ثقافته، وموهبة أصيلة في اقتناص المعرفة وهضمها بحيث تنبثق من خواطره بعد ذلك علمًا غزيرًا فياضًا كما تتفجر ينابيع الجبال إثر شتاء سكوب المطر وافر الثلوج، فمن هذه الكتب الأخرى ما هو في التاريخ والجغرافيا مثل كتابيه "ممالك عباد الصليب" والدائرة بين مكة والبلاد، ومنها ما يتصل بعلوم الحديث مثل كتابه "التعريف بالمصطلح الشريف" ومنها ما يتصل بتعليم الإنشاء مثل كتابه "النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية" ومنها ما كان فيض وجدانه وذوب خواطره في ميادين الأدب مثل "نفحة الروض" و "يقظة الساهر" ومجموعة رسائله التي أسماها "الثنويات". الحق أننا أمام شخصية أدبية فكرية علمية سياسية فريدة، قصيرة العمر خصيبة الإنتاج، مجرد ظهورها وظهور أترابها ممن نحن بصدد ذكرهم يرفع من قيمة العصر الذي يعيشون فيه ويعلي شأنه ويمجد أيامه. فإذا ما رجعنا بالحديث إلى كتاب "مسالك الأبصار" وهو فيما يرى مؤرخو الرجل، أجل أعماله وأرجحها وزنًا وأعلاها قيمة، وجدنا أنفسنا أمام موسوعة طابعها العام التخصص غير المقيد بحدود، وهو تعبير قد يبدو غريبًا بعض الشيء، ولكن منهج العمري الجغرافي لم يمنعه من أن يستطرد في حدود المنطق والمنهج إلى التاريخ والأدب والعمارة والآثار والمساجد والكنائس والمعابد والديارات والحانات والأجناس، إن ابن فضل الله العمري في موسوعته "مسالك الأبصار" ينتقل بقارئه في غير ما ملل ولا سأم من واحة أدبية إلى جنة فكرية إلى باحة تاريخية إلى عمائر أثرية، وهو في ذلك كله أدبي السرد جغرافي المنهاج. والعمري يشرح بنفسه منهج كتابه -في مقدمته- رابطًا بين المنهج والعنوان حين يقول: إنه قسمان "أولهما في الأرض وثانيهما في سكان الأرض، والقسم الأول منهما -أي الأرض- على نوعين: أولهما المسالك وثانيهما الممالك" ويمضي العالم الجليل يقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 موسوعته القيمة في تفصيل منطقي، وتقسيم منهجي يشهد له بما هو أهل له من شهرة وتقديم، ولكي يدخل المؤلف الاطمئنان إلى قلب قارئه ويزيد ثقة بالمعلومات التي يبسطها بين يديه، خاصة إذا كان القارئ من العلماء المدققين، فإنه يؤكد ذلك بقوله: "ولم أذكر عجيبة حتى فحصت عنها، ولا غريبة حتى ذكرت الناقل عنه لتكون عهدتها عليه". ثم يستطرد العالم الجليل زيادة في إشعار القارئ المتخصص بالراحة النفسية، وذلك بقوله: "ولم أنقل إلا عن الأعيان الثقات من ذوي التدقيق في النظر والتحقيق في الرواية" الأمر الذي جعل عالماً جليلاً من خيرة مؤلفي كتب التراجم هو ابن شاكر يقول عنه: كتاب حافل ما أعلم أن لأحد مثله. إن كتاب "مسالك الأبصار" كموسوعة يهم كل عالم ومثقف، كلاً في تخصصه، ولكنه من الناحية الخاصة يهم عالم الجغرافية بمختلف فروعها، ويهم عالم الأدب لتوسعه في موضوع بعينه متصل بالأدب العربي في جانب منه اتصالاً وثيقاً، وهو موضوع "الديارات" التي ألف فيها عدد من المؤرخين كتباً ذهب أكثرها وبقي أقلها؛ ولأن ما كتبه صاحب مسالك الأبصار عن الديارات يشكل وحده كتاباً نفيساً في هذا الفرع من فروع مسالك الشعراء بخاصة، وموضوعات الأدب بعامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 القلقشندي وصبح الأعشى : والموسوعة الرابعة في الترتيب التاريخي هي "صبح الأعشى في كتابة الإنشا" ومؤلف هذه المسوسوعة النفيسة، هو أبو العباس محمد بن عبد الله القلقشندي نسبة إلى قلقشندة إحدى قرى محافظة القليوبية بمصر الذي عاش بين سنتي 756 - 821هـ. ولم يكن "صبح الأعشى" على نفاسته وشموله وضخامته، هو المؤلف الوحيد لصاحبه، وإنما ترك القلقشندي مجموعة أخرى من الكتب النفيسة. وحتى جهد القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى" تكون الموسوعات ذات طابع الاشتمال على كل شيء قد بدأت مناهجها تتحدد، وخطوط الاستطراد الطويلة فيها تقصر، وتعدد الموضوعات وفروع المعرفة التي تحتويها تتقلص، ليس على حساب العلم -بطبيعة الحال- بقدر ما هي لحساب التخصص، ذلك أن أول موسوعة تظهر حسب الترتيب التاريخي بعد موسوعة القلقشندي كانت موسوعة المقريزي المعروفة باسم "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" وهي كما نرى من عنوانها موسوعة تاريخ، وكتاب قائم على التخصص في موضوع بذاته. ومن هنا فقد حدثت النقلة الكبيرة في مناهج التأليف الموسوعي من نطاق التعدد والشمول لموضوعات شتى إلى نطاق التحدد والشمول لموضوع بذاته، على أن هذه النقلة المفاجئة إلى ميدان التخصص لا تعني بأي حال النيل من الروائع الموسوعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 السابقة ذات القيمة الخالدة، فليست موسوعة "لسان العرب" إلا لتخصص هناك كان -على ما ألمحنا- في نطاق السعة والشمول، والتخصص هنا على موسوعيته في نطاق الموضوع محدد مع بعض التسامح في الاستطراد بعيد عن عنوان الموضوع مع ارتباط في الوشيجة وصلة في الجوهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 المقريزي ومؤلفاته : إن المقريزي إن لم يكن مؤرخ مصر الأول وعمدة مؤرخيها، فإنه دون ريب بموسوعته "الخطط" يقف في الصف الأول بين المؤرخين المسلمين. وهو وإن لم يكن أول من ابتكر الكتابة في الخطط كما أنه ليس آخرهم، إلا أنه كان أعظم كتاب الخطط في تاريخ مصر الإسلامية1. وخطط المقريزي من الدقة والتفصيل والإفاضة والوقوف عند منحيات التاريخ ومنعطفاته ما دق منها، وما عظم أمر مسلم به، ولكن الأمر الذي ينبغي أن نبسط عليه الضوء هنا هو أن موسوعة المقريزي على تخصصها التاريخي قد أفسحت من صفحاتها العديدة للمعرفة مكاناً رحيباً، فكتابات المقريزي التاريخية -على ما يقول علماء الجغرافية مصدر له وزنه في دراسة الجغرافية لمصر2، فضلًا عن أن خطط المقريزي تقدم صفحات طويلة عن جغرافية مصر الاقتصادية والمحصولات الزراعية. والشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي القاهري المولد والوفاة -وإن كان بعلبكي الآباء من حارة المقارزة- قد أوتي بسطة من العمر فقد عاش بين سنتي 766-845هـ، استغل الجانب الأكبر منها في الاشتغال بعلم التاريخ، ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يقدم لنا كتباً أخرى على جانب من القيمة العلمية وإن لم تنل حظ "الخطط" من وفرة الشهرة، وأهم هذه الكتب هي الكتاب القيم "البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب" و"إغاثة الأمة بكشف الغمة" و"السلوك في معرفة دول الملوك" وهو موسوعة تاريخية لم يطبع منها غير جزء وبعض جزء، وله موسوعة ثالثة مخطوطة هي "إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع" وتقع في تسعة مجلدات، ومن كتبه المطبوعة "تاريخ الأقباط" و"تاريخ الحبش" و"التنازع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم" و"اتعاظ الحنفا في أخبار الأئمة الفاطميين الخلفا". هذا وقد فتن المقريزي بمؤلفاته وعلمه ومنهجه عالمين فرنسيين مستشرقيين كبيرين هما: دي ساسي، وكاترمير، فتناول كل منهما قدرًا من كتبه، وجانبًا من شخصيته بالدراسة.   1 الدكتور محمد الصياد: من الوجهة الجغرافية "دراسة في التراث العربي" ص99. 2 المصدر السابق "ص101". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 والعرض والتحليل. إن المقريزي ثروة فكرية هائلة، فقد كان يمثل شخصية العالم العامل، الخصب القريحة المأمون المعرفة الوافر العطاء، حتى إن السخاوي يذكر في ترجمته له في الضوء اللامع أنه قرأ بخطه أي خط المقريزي أن تصانيفه زادت على مئتي مجلد كبار، هذا على الرغم من أن عالمنا الجليل قد تولى الحسبة والإمامة والخطابة مرات عديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 ابن حجر ومؤلفاته : ولا شك أن الفترة الزمنية الممتدة بين أول الثلث الأخير من القرن الثامن والنصف الأول من القرن التاسع الهجريين كانت من أكرم الفترات عطاء وأوفرها سخاء على المعرفة بعامة وعلى التاريخ والعلوم الدينية بخاصة، فإن ابن حجر العسقلاني العالم الجليل الذي أصبح حافظ الإسلام وشيخه على عصره قد عاش الحقب الزمنية نفسها التي عاشها المقريزي. فقد ولد ابن حجر ومات في القاهرة بين عامي 773-852هـ، فهو إذن قد عرف المقريزي ولقيه، وإذا كان المقريزي رغم ميلاده ووفاته في القاهرة بعلبكي الآباء، فإن ابن حجر هو الآخر رغم ميلاده ووفاته في القاهرة عسقلاني الآباء، إلا أن ابن حجر شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني كان حليف أسفار كثير الارتحال، ليس حبًّا في الرحلة لذاتها، وإنما طلبًا للعلم وبحثًا عن المعرفة، فسافر إلى الحجاز وزار اليمن لسماع شيوخ العلماء. وفي اعتقادنا أن ابن حجر قد بلغ شهرة أكبر من شهرة معاصره المقريزي، ونالت كتبه حظوة أكبر من حظوة مؤلفات المقريزي رغم أن فضل كل منهما كبير وإنتاجهما غزير حتى إن تلميذه السخاوي يقول عنه في ترجمته له: "انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر" الأمر الذي يذهب بنا بضعة قرون في أعماق تاريخ ثقافتنا حين كان الأكابر يتهافتون على كتب الجاحظ وأغاني الأصفهاني في المشرق والأندلس. وبرغم مشاركة ابن حجر العسقلاني في الحياة العامة بتوليه القضاء مرات عدة، فإنه -مثل قرينه المقريزي- قدم للفكر الإسلامي عدة موسوعات متخصصة، وعديدًا من الكتب المتنوعة متصلة بأسباب الأدب والتاريخ والحديث الشريف. على أن أشهر موسوعات ابن حجر هي "تهذيب التهذيب" في رجال الحديث وتقع في اثني عشر مجلدًا، "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" وهي خمسة مجلدات، و"لسان الميزان" في التراجم أيضًا ويقع في ستة مجلدات، ولابن حجر كتاباه المشهوران "الإصابة في تمييز الصحابة" و"فتح الباري في شرح حديث البخاري" هذا فضلًا عن مجموعة هائلة من الكتب الثمينة الأخرى مطبوعة ومخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 الحق أن هناك شبهًا كبيرًا في منهج كل من المقريزي، وابن حجر من حيث طريقة التأليف وإن كان المقريزي تميز بالخطط وعلم التاريخ في حين تميز ابن حجر بالتراجم وعلم الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 ابن تغري بردي ومؤلفاته : وتثمر طريقة المقريزي في تبني فكرة الموسوعة التاريخية حين يتوفر معاصره -الأصغر عمرًا- أبو المحاسن جمال الدين يوسف ابن تغري بردي ابن عبد الله الظاهري الحنفي ويقدم لنا موسوعته الثمينة "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة". والاسم الذي عرف به مؤلفنا واشتهر -ابن تغري بردي- كلمة تترية معناها "عطاء الله" ذلك أن تغري بردي هذا كان أحد مماليك السلطان برقوق ومن أمراء جيشه المتقدمين، وحين مات سنة 815هـ كان عمر ولده يوسف عامين، فسهر على تربيته وفاء واحتسابًا جلال الدين البلقيني الذي كان يشغل منصب قاضي القضاة، وعهد به إلى من لقنه الأدب والحديث والتاريخ، وعلمه النغم والإيقاع ودربه على الفروسية، فكان حصاد ذلك كله ذخيرة ثمينة في علوم زمانه. إن ابن تغري بردي القاهري المولد والوفاة، شأنه في ذلك شأن المقريزي وابن حجر، عاش بين سنتي 813-874هـ أي أنه كان في الثانية والثلاثين حين مات المقريزي ومن ثم -وقد كان المقريزي شيخ مؤرخي عصره- يكون ابن تغري بردي واحدًا من تلاميذه العظام، وذلك هو السبب في أنه حاول إكمال كتاب "السلوك" الذي ألفه أستاذه فكتب كتابه "حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور" وجعله ذيلًا للسلوك، وهي طريقة علمية نبيلة درج على السير في نهجها كثير من علماء المسلمين في أكثر ميادين المعرفة حينما كان يكمل العالم عمل العالم الذي سبق، بحيث ترك لنا علماء حضارتنا سلاسل متصلة الحلقات موصولة الأسباب والأزمان في كثير من علوم الأدب والتاريخ واللغة. ليس من شك في أن أبا المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري التتري واحد من هدايا الحضارة الإسلامية إلى علم التاريخ الإسلامي فلم تمنعه تتريته من أن يكون صاحب عدد من الموسوعات، وليس موسوعة واحدة، ذلك أن الحضارة الإسلامية ليست مقصورة على جنس دون جنس وإنما كل من أظلته سماحة العقيدة وأنارت الثقافة الإسلامية طريقه يستطيع متى أحسن إعداد نفسه أن يكون إمامًا في علمه ورائدًا في فنه. لقد عمدنا إلى تأكيد هذا المعنى؛ لأن أبا المحاسن نفسه ثمرة حقيقية لغرس إسلامي دفع به إلى أن يترك لنا خمسة كتب كبيرة، أربعة منها تعتبر موسوعات تاريخية جليلة هي "النجوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" في اثني عشر جزءًا تنتهي عند أحداث سنة 841هـ و"حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور" الذي سبقت الإشارة إليه، و"البحر الزاخر في علم الأوائل والأواخر"، وهو أيضًا موسوعة تاريخية نفيسة، و"المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي" وهو موسوعة في التراجم لم يلبث أن اختصره بنفسه وسماه "الدليل الشافي على المنهل الصافي"، وهذه أيضًا طريقة عمد إليها بعض سابقيه من العلماء حينما كان الواحد منهم يؤلف موسوعة علمية ضخمة، ثم لا يلبث أن يشعر بمحدودية الاستفادة منها فيختصرها في غير ما إخلال بجوهرها تمامًا كما فعل كمال الدين بن العديم في موسوعته "بغية الطلب في تاريخ حلب" ثم عاد واختصرها وسماها "زبدة الحلب في تاريخ حلب" هذا والجدير بالذكر أن "المنهل الصافي" ومختصره "الدليل الشافي" يعتبران تتمة لكتاب الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي. أما الكتاب الخامس في تلك المجموعة النفيسة التي كتبها ابن تغري بردي فهو "مورد اللطافة فيمن ورد السلطنة والخلافة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 السخاوي وكتبه : وإذا كان ابن تغري بردي يعتبر تلميذًا أمينًا منتميًا إلى مدرسة المقريزي، فإن لابن حجر بدوره تلميذًا نجيبًا وفيًّا، هو شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي الذي بلغ من إعجابه بأستاذه وتقديره لعلمه وشخصه أن ألف فيه كتابًا أسماه "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر". لقد عاش السخاوي بين سنتي 831، 902 الهجريتين، وأسرته من قرية سخا في شمال دلتا النيل، ولكن مولده كان بالقاهرة ووفاته كانت في المدينة، وقد ترك من التآليف ما يناهز المائتي مصنف، غير أن الذي نهتم له ونحن نتحدث عن الموسوعات، هو كتابه "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع" وقد سبقت الإشارة إليه في باب التراجم، ويقع في اثني عشر مجلدًا، ومن الطرائف أنه لم ينس ذاته فترجم لنفسه في حوالي ثلاثين صفحة من كتابه هذا. إننا نريد -وقد هدفنا إلى هذا العرض للموسوعات المملوكية- أن نصل إلى رأي ينصف العصر ويقشع عن سمائه الغمامة ويزيل ما التبس من أمره عند جمهرة العامة وكثرة من الخاصة، ونقرر أن العصر المملوكي الذي ظهر فيه القلقشندي "بصبحه" والنويري "بنهاية أربه" وابن فضل الله العمري "بمسالكه" قد ظهر إلى جوارهم فيه كثيرون غيرهم يتفاوتون فضلًا ويتمايزون قدرًا، ولكن ليس بينهم إلا صاحب فضل وفير وعلم غزير وخلق وإبداع بالإضافة إلى التأليف والتصنيف، يستوي في ذلك من مر ذكرهم قبل قليل أو من ضاقت المناسبة عن تفصيل أسمائهم وأعمالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 الفصل الثالث: موسوعات ما قبل العصر المملوكي بواكير الموسوعات : موسوعات ما قبل العصر المملوكي: هذا ومن الخطأ البين أن يقال إن الموسوعات كانت مقصورة على الحقبة الزمنية المملوكية، فقد عرفت قبل ذلك بوقت طويل: لقد ألف علي بن الحسن الدمشقي المعروف بابن عساكر الذي عاش بين عامي 499-571هـ موسوعته الضخمة "تاريخ دمشق الكبير" أو "مرآة الزمان في تاريخ الأعيان" -حسبما حلا له أن يسميه- في أربعين مجلدًا ضخمًا، وذلك قبل أن يظهر التتار أو يبين لهم أثر، ما دام البعض من الدارسين قد ذهب إلى أن السبب الرئيسي لتأليف الموسوعات هو غزو التتار لبغداد، ومن ثم وجب إنفاذ التراث، وتبعًا لهذا الحكم فإن فترة تأليف الموسوعات تتجرد من كل خلق فكري ومشاركة علمية وإبداع فني، وهو حكم ينبغي إعادة النظر فيه ونسخه تمهيدًا لتصحيحه وتصويبه. وقبل التتار بزمان طويل ظهر العالم الجليل ابن الجوزي: عبد الرحمن بن علي القرشي البغدادي، عاش بين 508-597هـ وألف ثلاثمائة كتاب بينها موسوعته الأدبية التاريخية الفريدة "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" الذي لم يطبع منه لسوء الحظ غير ستة مجلدات. على أن ابن الجوزي نفسه -فضلًا عن كتابه المنتظم- كان موسوعة هائلة من العلم والفن، وينبوعًا من المعرفة فياض العطاء، لقد ألف كتبًا في مختلف الأغراض المتنوعة منها على سبيل المثال "الأذكياء وأخبارهم" و"الحمقى والمغفلين"، "تلبيس إبليس"، "مناقب عمر بن عبد العزيز"، "روح الأرواح"، "المدهش في المواعظ والأخبار"، "دفع شبهة التشبيه والرد على المجسمة"، وهكذا عشرات من الكتب كل كتاب أو مجموعة كتب في فن قائم بذاته، وإذن لم يكن كتاب "المنتظم" وحده موسوعة، ولكن مؤلف المنتظم هو بنفسه موسوعة. وقبل التتار أيضًا يولد ويموت ابن الأثير علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 الشيباني الجزري أبو الحسن عز الدين بين سنتي 555-630هـ، ويقدم للمعرفة موسوعتين نفيستين لا موسوعة واحدة هما "الكامل في التاريخ" من اثني عشر مجلدًا رتبه على السنين حتى عام 629هـ أي قبل وفاته بعام، و"أسد الغابة في معرفة الصحابة" في خمسة مجلدات، فضلًا عن مؤلفات أخرى كثيرة من أشهرها تاريخ الدولة الأتابكية. وكانت تلك الفترة الزمنية من السخاء العقلي والفيض العلمي بحيث تستطيع أن تقدم للإنسانية أسرة كل أفرادها من العلماء الأفذاذ، لقد كانت أسرة ابن الأثير واحدة من تلك الأسر، فكان عالمنا عز الدين مؤرخًا كبيرًا، وكان أخوه "نصر الله" أديبًا بلاغيًّا مرموقًا وهو صاحب كتاب "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" وكان أخوه الثالث "المبارك" محدثًا ثبتًا وأستاذ زمانه في علم الحديث. وفي الموكب الحضاري العقلي الإسلامي المستمر العطاء يظهر ياقوت الحموي الرومي بموسوعتيه الكبيرتين النفيستين "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" المشهور باسم "معجم الأدباء"، "ومعجم البلدان" أثقل كتب الجغرافية الأدبية وزنًا وأعلاها قيمة. وربما لم تكن المعجزة الفكرية كامنة في تأليف الموسوعتين المذكورتين على نفاستهما بقدر ما هي ماثلة في مؤلف الموسوعتين نفسه. إنه الغلام الرومي ياقوت الذي كان يملك رقبته رجل من بغداد اسمه عسكر بن إبراهيم الحموي، إن سيده اشتراه وكان غلامًا في العقد الأول من عمره، وعلمه ورباه وسمح له أن يتاجر له، ثم أعتقه سنة 569هـ وكان عمر ياقوت حينئذ اثنين وعشرين عامًا إذ إنه مولود سنة 574هـ وكانت وفاته سنة 626هـ، لقد ظل ياقوت يعمل بالتجارة ويطوف في مشرق الدولة الإسلامية وشاهد انطلاقه التتار في الشرق وبعض المذابح التي جبلوا على اقترافها فعاد مسرعًا إلى المشرق واستقر في بلاد الشام إلى أن مات في حلب. إن ياقوت غير العربي، المسلم في أول أمره تربية أو ولاء تفتح له الحضارة الإسلامية ذراعيها مرحبة فيلقي بنفسه بين راحتيها وهو الذي عاش أكثر عمره تاجرًا مسافرًا، فيقدم للمعرفة الموسوعتين النفيستين اللتين أشرنا إليهما واللتين لا يستغني عن واحدة منهما أي مشتغل بالأدب أو التاريخ أو الجغرافيا، هذا فضلًا عن كتب أخرى قيمة للأديب الباحث الحضاري ياقوت مثل "المشترك وصفًا والمفترق ضعفًا" و"المقتضب من جمهرة النسب". وفي الفترة الزمنية نفسها تظهر موسوعة أخرى فريدة في نوعها وإن كان أصل موضوعها التاريخ، بل تاريخ بلدة بعينها، إنها "بغية الطلب في تايخ حلب" لكمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جرادة المشهور بابن العديم الذي عمر أطول كثيرًا مما عمر ياقوت، وإن كان ياقوت يسبقه ميلادًا بأربعة عشر عامًا، فقد ولد ابن العديم سنة 588 وتوفي 660هـ، وإن "بغية الطلب" الموسوعة الضخمة التي كتبها ابن العديم هي بغية كل مشتغل بالأدب أوبالتاريخ أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 بالجغرافية في نطاق حلب وما حولها وشطر من بلاد الروم. إن الموسوعات ظهرت متتابعة متسلسلة يلاحق بعضها بعضًا ويتتابع مؤلفوها على مسرى الزمان تتابعًا متصل الحلقات قصير الفواصل الزمنية، وهي إذن ليست مختصة بالعصر المملوكي لسبب بعينه، وإنما هي امتداد طبيعي متطور متغير لقافلة الفكر الإسلامي ومسيرة العقل الإنساني، وإن قصرها على عصر معين لسبب معين أمر ينبغي إعادة النظر فيه واستبعاد النتائج التي بنيت عليه وترتبت على أساسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 بواكير الموسوعات : ولماذا نذهب بعيداً؟ لقد عرف العقل الإسلامي الموسوعات على أول عهده بالتأليف، وربما كانت الموسوعات الأولى مثل الحيوان للجاحظ وعيون الأخبار لابن قتيبة أقرب منهجًا إلى الموسوعات المملوكية، ولعل عيون الأخبار أكثر قربًا إليها من غيرها، وليس من شك في أن البيان والتبيين، والحيوان، وعيون الأخبار موسوعات أدبية لغوية تاريخية سياسية علمية، وهناك الموسوعات التاريخية التي بدأت مبكرة منذ القرن الثاني، مثل السيرة لابن هشام المتوفي 223هـ، ومثل "أخبار الرسل والملوك" لمحمد بن جرير الطبري 244 - 310هـ، وتقع هذه الموسوعة التاريخية في أحد عشر جزءًا، وعن الطبري يقول ابن الأثير: إنه أوثق من نقل التاريخ. وتتتابع الموسوعات الباكرة زمنيًّا فيظهر "العقد الفريد" لأحمد بن عبد ربه الذي عاش حياته كلها بين 246 - 328هـ في الأندلس لم يغادرها، وبعد ذلك بقليل تظهر في بغداد موسوعة من أهم موسوعات العربية هي "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني 284 - 356هـ، تلك الموسوعة التي لا تلبث أن تذيع في كل أنحاء العالم الإسلامي مشرقًا حتى أصبهان حيث الصاحب بن عباد، وشمالًا حتى حلب حيث سيف الدولة الحمداني، ومغربًا حتى قرطبة الأندلس حيث عبد الرحمن الناصر وابنه المستنصر. إن كتاب الأغاني دون أدنى شك أكبر وأثمن الموسوعات الأدبية والتاريخية والاجتماعية والموسيقية الغنائية، والجغرافية، والفكاهية. وإذا جاز لدارس أن يشكك في الصيغة الموسوعية لأي من الكتب الكبيرة التي ذكرنا -وما أحسب أن دارسًا متفهمًا يفعل- فإنه من الصعب على أي باحث كبر شأنه أو صغر أن يجادل في الصفة الموسوعية المتكاملة لكتاب الأغاني. لقد كان الصاحب بن عباد لولعه بمصاحبة الكتب وحرصه على دوام القراءة يستصحب حين يسافر ثلاثين جملًا محملة بالكتب، فلما وصل إلى يده كتاب الأغاني استغنى به عنها جميعاً -حسبما مر بنا عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 الحديث عن الكتاب تفصيلًا- هذا ولم تكن موسوعة "الأغاني" هي الأثر الفكري الوحيد لأبي الفرج بل إنه ترك خمسة وعشرين كتابًا أخرى على جانب كبير من القيمة الأدبية والتاريخية والاجتماعية. وفي الفترة الزمنية نفسها التي عاش أغلبها أبو الفرج الأصبهاني، وفي مدينة بغداد نفسها تظهر موسوعة أخرى من أرقى الموسوعات العربية أدبًا وفكرًا وقتًا وتاريخًا واجتماعًا هي موسوعة "نشوار المحاضرة" للمحسن بن علي التنوخي 337-384هـ، وتعرف الموسوعة نفسها أيضًا باسم "جامع التواريخ"1. هذا وقد ترك التنوخي كتابين آخرين من أمتع ما كتب في الأدب العربي هما "الفرج بعد الشدة" و"المستجاد من فعلات الأجواد". هذا وإننا لا نستطيع أن نغفل موسوعة من أرقى الموسوعات فكرًا وعلمًا وأدبًا وفنًّا ظهرت في القرن الرابع نفسه، إنها موسوعة "الإمتاع والمؤانسة" التي مر ذكرها لأبي حيان التوحيدي، الأديب الفيلسوف العالم المفكر، لقد ضمن أبو حيان موسوعته المتواضعة أبوابًا مختلفة في اللغة والشعر والفلسفة والمنطق والأخلاق والمنادمة والموسيقى. إن "الإمتاع والمؤانسة" واحد من آثار أبي حيان الستة والعشرين التي أحرقها جميعًا سخطًا منه على المجتمع لسوء معاملته إياه، غير أن بعض هذه الكتب كان بأيدي الناس بعض نسخ منها قبل الحريق فوصل إلينا منها "الإمتاع والمؤانسة" و"المقابسات" و"الصداقة والصديق" و"الإشارات الإلهية" و"أخلاق الوزيرين" "والبصائر والذخائر" و"الهوامل والشوامل". وإذا كان القرن الرابع الهجري قد سعد بالموسوعتين الكبيرتين "الأغاني" و"نشوار المحاضرة" مضافًا إليهما "الإمتاع والمؤانسة" فإن القرن الخامس بدوره قد أصاب قدرًا غير قليل من الإسهام الموسوعي وذلك بظهور "تاريخ بغداد" لأحمد بن علي بن ثابت المشهور بالخطيب البغدادي 392-463هـ و"تاريخ بغداد" الذي تحدثنا عنه تفصيلًا. وليس "تاريخ بغداد" هو الأثر العلمي الوحيد للخطيب البغدادي، وإنما كان الرجل منتجًا، فقد ذكر له ياقوت ستة وخمسين مؤلفًا بينها موسوعتان أخريان غير "تاريخ بغداد" هما "الفقيه والمتفقه" في اثني عشر مجلدًا، و"الجامع لأخلاق الراوي والسامع" في عشرة مجلدات. هي إذن سلسلة مباركة موصولة الحلقات الزمانية، والفكرية فيما يتعلق بالموسوعات العربية التي بدأت كتابتها منذ بداية القرن الثالث الهجري حتى أواخر التاسع وبداية العاشر حين بدأ التفكك الذي أذن بانتقال سيادة العرب المسلمين على أنفسهم إلى سيادة الأتراك   1 تجري الآن محاولة لتحقيقها ونشرها يقوم عليها الأستاذ: عبود الشالجي من العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 العثمانيين. ومن ثم، فإن الموسوعات المملوكية ينبغي أن يعلل ظهورها -في نطاق الأمانة العلمية والعدل التاريخي- بأن بيئة نشأتها كانت بيئة خصبة مستنيرة غير جامدة ولا متخلفة، وأن فترة تأليفها كانت فترة ازدهار عقلي وتألق حضاري في مختلف فروع الآداب وجوانب المعرفة الإنسانية وفنون العمارة الإسلامية التي لا تزال شامخة في كل المدن الكبرى في مصر وسورية، ويكفي في ذلك حكم علماء هندسة العمارة على مسجد السلطان حسن الذي بناه السلطان المملوكي حسن بن الناصر بن قلاوون أنه عمارة الإسلام، وأنه إذا كان للعمارة الفرعونية أن تفخر بالأهرام كان للعمارة الإسلامية أن تفخر بمسجد السلطان حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 المراجع الإحاطة في أخبار غرناطة: للوزير لسان الدين بن الخطيب المتوفى 677هـ تحقيق محمد عبد الله عنان. ط دار المعارف بمصر. أحسن ما سمعت: لأبي منصور عبد الملك الثعالبي. أخبار أبي تمام: لأبي بكر الصولي. أخبار البحتري: تحقيق الدكتور عبد الكريم الأشتر. الأخبار الطوال: لأبي حنيفة الدينوري. اختصار القدح المعلّى في التاريخ المحلّى: لابن سعيد "علي بن موسى" اختصره أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل. المطبعة الأميرية 1959 القاهرة. أدب الكاتب: لابن قتيبة الدينوري. أدب الكتاب: لأبي بكر محمد بن يحيى الصولي المتوفي 335هـ. الأدب في موكب الحضارة الإسلامية: للدكتور مصطفى الشكعة. أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين علي بن الأثير. الأشباه والنظائر "حماسة الخالديين": لأبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد الخالديين. أشعار أولاد الخلفاء: لأبي بكر الصولي. الإصابة في تمييز أسماء الصحابة: لابن حجر العسقلاني. الأصمعيات: لعبد الملك بن قريب الأصمعي. الأصنام: لابن الكلبي. الأعلام: لخير الدين الزركلي. الأغاني: لأبي الفرج الأصفهاني. الأمالي: لأبي علي القالي. الأمالي: "غرر الفوائد ودرر القلائد": للشريف المرتضى الموسوي. الأمالي: لأبي السعادات هبة الله بن الشجري. الأمالي: لأبي عبد الله، محمد بن عباس اليزيدي. الإمتاع والمؤانسة: لأبي حيان التوحيدي. الأنساب: للسمعاني. الأوراق: لأبي بكر الصولي. الإيجاز والإعجاز: لأبي منصور الثعالبي. البخلاء: للجاحظ. البديع: لعبد الله بن المعتز. البصائر والذخائر: لأبي حيان التوحيدي. بلاغات النساء: لأحمد بن طاهر بن طيفور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 البلغة في شذور اللغة: تجميع أوجست هفنر والأب لويس شيخو. البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: لابن عذاري المراكشي. ط بيروت، وتحقيق دوزي، بروفنسال، ميراندا، وإبراهيم الكتاني ومحمد بن تاويت. البيان والتبيين: للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون. تاريخ الأدب العربي ج1، 2، 3: لبروكلمن. تاريخ افتتاح الأندلس: لأبي بكر محمد القرطبي المعروف بابن القوطية. مدريد 1926. تاريخ بغداد: لأحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي المتوفي 463هـ. تاريخ بغداد "المجلد السادس": لأحمد بن طاهر بن طيفور تحقيق المستشرق: كلر. تاريخ علماء الأندلس: لابن الفرضي "أبي الوليد عبد الله بن محمد الأزدي" المتوفى سنة 403هـ الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة. تتمة اليتيمة: لأبي منصور الثعالبي. تجريد الأغاني من ذكر المثالث والمثاني: لابن واصل الحموي المتوفى 697هـ. تراثنا بين ماضٍ وحاضر: للدكتور عائشة عبد الرحمن. تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون. التنبيه على أبي علي في أماليه: لأبي عبيد الله عبد الله البكري. تهذيب الأغاني: للشيخ محمد الخضري. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب: لأبي منصور الثعالبي. جمهرة رسائل العرب: لأحمد زكي صفوت. الحلة السيراء: لأبي بكر بن الأبار القضاعي البلنسي. ط القاهرة 1963. حماسة أبي تمام: لأبي تمام حبيب بن أوس. حماسة البحتري: لأبي عبادة الوليد بن عبيد البحتري. الحماسة البصرية: لعلي بن أبي الفرج بن الحسن البصري. حماسة ابن الشجري: لأبي السعادات ابن الشجري. الحيوان: للجاحظ. خاص الخاص: للثعالبي. خزائن الكتب العربية في الخافقين: لفيليب طرزي. خريدة القصر وجريدة العصر: للعماد الأصفهاني. تحقيق الدكتور شكري فيصل "مطبوعات المجمع العلمي بدمشق". خزانة الأدب: لابن حجة الحموي. خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: لمحمد أمين المحبي المتوفي 1111 دائرة المعارف الإسلامية "مواد مختلفة". در الحلب في تاريخ أعيان حلب: لرضي الدين بن الحنبلي. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: لشهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر العسقلاني المتوفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 852هـ. دمية القصر وعصرة أهل العصر: لعلي بن الحسن الباخرزي المتوفى 467هـ. الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة: لابن بسام "علي بن بسام الشنتريني" المتوفى سنة 542هـ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. ذيل الأمالي والنوادر: لأبي علي القالي. رسائل إخوان الصفا. رسائل بديع الزمان الهمذاني. رسائل أبي بكر الخوارزمي. رسائل الجاحظ: تحقيق بول كراوس ومحمد طه الحاجري. رسالة حي بن يقظان: لابن سينا والسهروردي وابن طفيل. رسائل الصابي والشريف الرضي. رسائل الصاحب بن عباد. رسائل أبي العلاء المعري: تحقيق مرجوليوث. رسالة الغفران: لأبي العلاء المعري -تحقيق عائشة عبد الرحمن. ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا: لأبي العباس أحمد بن محمد الخفاجي المتوفى 1069 هـ. زهر الآداب: للحصري. سرح العيون في شرح ابن زيدون: لابن نباتة المصري. سلافة العصر في محاسن الشعر بكل مصر: لعلي بن أحمد بن معصوم المتوفى 1119هـ. السلوك في معرفة دول الملوك: للمقريزي. السيرة النبوية: لعبد الملك بن هشام. سمط اللآلي: لعبد العزيز الميمني. شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد الحنبلي. شرح أشعار الهذليين: للسكري. الشعر والشعراء: لابن قتيبة الدينوري. صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني في الرواية: للدكتور محمد خلف الله أحمد. صبح الأعشى في كتابة الإنشا: للقلقشندي. الصّلة: لابن بشكوال "أبي القاسم خلف بن عبد الملك" المتوفى 578هـ: الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة. ضحى الإسلام: للاستاذ أحمد أمين. الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع: للسخاوي المتوفي 902هـ. الطبقات الكبرى: لابن سعد. طبقات الشعراء: لابن سلام الجمحي. طبقات الشعراء: لعبد الله بن المعتز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 ظهر الإسلام: للأستاذ أحمد أمين. العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين. العقد الفريد: لأحمد بن عبد ربه المتوفى 328هـ. علوم الحديث: لابن الصلاح الشهرزوري المتوفى 643هـ. العمدة: لابن رشيق القيرواني. عيون الأخبار: لابن قتيبة الدينوري. الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة: لابن سعيد "علي بن موسى" المتوفى سنة 685هـ ط دار المعارف -القاهرة. فتوح البلدان: للبلاذري. فتوح الشام: للواقدي. فتوح مصر والمغرب والأندلس: لابن عبد الحكم تحقيق عبد المنعم عامر. ط القاهرة. فجر الإسلام: للأستاذ أحمد أمين. الفخري في الآداب السلطانية: لابن الطقطقي. الفرج بعد الشدة: للتنوخي. الفصول والغايات: لأبي العلاء المعري. الفصيح: لأبي العباس ثعلب. فقه اللغة العربية: للثعالبي. فوات الوفيات: لابن شاكر الكتبي المتوفى 764هـ. الفهرست: لابن النديم. القاموس المحيط: للفيروز أبادي. قلائد العقيان في محاسن الأعيان: للفتح بن خاقان ط أوروبا، وط القاهرة سنة 1284هـ. الكامل: لأبي العباس المبرد. الكامل في التاريخ: لابن الأثير. الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة: للسان الدين بن الخطيب دار الثقافة بيروت. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: لمصطفى بن عبد الله المشهور بحاجي خليفة المتوفي 1067هـ تحقيق فلوجيل. الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة: لنجم الدين الغزي. لسان العرب: لابن منظور. لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني. المؤتلف والمختلف: لأبي القاسم بن بشرالآمدي المتوفى 370هـ. المجالس: لأبي العباس ثعلب. محاضرات الأدباء ومحاورات البلغاء: للراغب الأصفهاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 مختار الأغاني في الأخبار والتهاني: لابن منظور المصري. المختار من شعر بشار: للخالديين. مروج الذهب ومعادن الجوهر: للمسعودي. مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: لأحمد بن يحيى بن فضل الله العمري "أجزاء منه". المطرب في أشعار أهل المغرب: لابن دحية "أبي حفص عمر بن الحسين بن علي" المتوفى سنة 633هـ. تحقيق مصطفى عوض الكريم، مطبعة مصر بالخطوم. مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس: للفتح بن خاقان. ط الجوائب -اسطنبول، 1302هـ. المعارف: لابن قتيبة الدينوري. معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص: لعبد الرحيم العباسي. المعجب في تلخيص أخبار المغرب: لعبد الواحد المراكشي، قدم له محمد سعيد العريان، المكتبة التجارية القاهرة. معجم الأدباء: لياقوت الرومي. معجم البلدان: لياقوت الرومي. معجم الشعراء: للمرزباني. معجم المطبوعات العربية: ليوسف إليان سركيس. معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة. معرفة علوم الحديث: لأبي عبد الله محمد الحافظ النيسابوري. المغرب في حلى المغرب: لأبناء سعيد والحجاري تحقيق الدكتور شوقي ضيف دار المعارف بمصر. مفتاح السعادة ومصباح السيادة: لأحمد بن مصطفى المشهور بطاش كوبري زاده المتوفي 968هـ. المفضليات: للمفضل الضبي. مقاتل الطالبيين: لأبي الفرج الأصفهاني. مقامات بديع الزمان الهمذاني. مقامات الحريري "بشرح الشريشي". المقتبس في أخبار الأندلس: لأبي مروان بن حيان القرطبي المتوفي سنة 469هـ. قطع منه حققها الدكتور محمود مكي والراهب الإسباني ملت شور أنطونيه والدكتور عبد الرحمن الحجي. المقتضب من كتاب تحفة القادم: لابن الأبار القضاعي البلنسي اقتضبه أبو إسحاق إبراهيم البلفيقي المطبعة الأميرية 1957 القاهرة. المقدمة: لابن خلدون. المكتبات في الإسلام: نشأتها وتطورًا ومصائرها: للدكتور محمد ماهر حماده. من غاب عنه المطرب: للثعالبي. مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي: لفرانز روزنتال تعريب أنيس فريحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 المن بالإمامة: لعبد الملك بن صاحب الصلاة المتوفى 594هـ. السفر الثاني تحقيق عبد الهادي التازي ط دار الأندلس، بيروت. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لعبد الرحمن بن الجوزي "أجزاء منه". الموازنة بين أبي تمام والبحتري: للآمدي. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: للمقريزي. الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء: للمرزباني. ميزان الاعتدال في نقد الرجال: للحافظ الذهبي النجوم الزاهرة، في ملوك مصر والقاهرة: لابن تغري بردي. نزهة الألبا في طبقات الأدبا: لابن الأنباري. نشوار المحاضرة: للمحسن التنوخي. تحقيق عبود الشالجي. نفاضة الجراب في علالة الاغتراب: للوزير لسان الدين بن الخطيب. تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة. نفح الطيب: للمقري التلمساني. نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة: للمحبي. نقط العروس في تواريخ الخلفاء: لأبي محمد ابن حزم تحقيق الدكتور شوقي ضيف مجلة كلية الآداب المجلد الثالث عشر/ جـ2/ ديسمبر 1951م جامعة فؤاد الأول "سابقًا والقاهرة حاليًا". نكت الهميان في نكت العميان: لصلاح الدين الصفدي. نهاية الأرب في فنون العرب: للنويري. نهاية الأندلس وتاريخ العرب المنتصرين: لمحمد عبد الله عنان، لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة. الوافي بالوفيات: لصلاح الدين الصفدي. الورقة: لمحمد بن داود الجراح المتوفى 296هـ. الوزراء "تحفة الوزراء في تاريخ الوزراء": للهلال الصابي. الوزراء والكتاب: لأبي عبد الله الجهشياري. وفيات الأعيان: لأحمد بن خلكان المتوفى 682هـ. يتيمة الدهر للثعالبي: تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 محتويات الكتاب الإهداء: 5 مقدمة الكتاب: 7 تمهيد: 9 الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي 11 1- فجر الحركة العلمية 13 2- فجر الحركة التاريخية 21 3- حركة التدوين 29 تدوين القرآن الكريم وتفسيره 31 تدوين الحديث 33 تديون العلوم والمعارف 41 الباب الثاني: الكتابة والإنشاء 45 1- الكتابة بدأت عربية دون تأثير فارسي 47 تمهيد: 49 يحيى بن يعمر العدواني 50 عبد الله الطالبي 52 2- إسهام المسلمين في تطوير الكتابة 55 عبد الحميد بن يحيى 57 عبد الله بن المقفع وتصانيفه 60 3- مسيرة الكتابة العربية 65 4- مصادر النثر العربي 71 الباب الثالث: رواد التأليف الأدبي غير المتخصص 77 1- التأليف يبدأ شاباً بغير طفولة 79 2- المفضل الضبي 85 3- النضر بن شميل 89 4- ابن الكلبي 95 5- أبو عبيدة 103 6- الأصمعي 107 7- الهيثم بن عدي 117 8- المدائني 125 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي 131 1- أبو عثمان الجاحظ 133 2- ابن قتيبة الدينوري 14 3- أبو حنيفة الدينوري 16 4- أبو العباس المبرد 167 5- أبو العباس ثعلب 179 6- أحمد بن أبي طاهر "ابن طيفور" 189 7- أبو بكر الصولي 20 8- المرزباني 217 9- أبو منصور الثعالبي 225 الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني 233 1- أحمد بن عبد ربه و"العقد الفريد" 235 2- أبو الفرج الأصفهاني و"الأغاني" 257 مؤلفات أبي الفرج 262 قيمة كتاب الأغاني ومنهجه 263 مختصرات الأغاني 269 الباب السادس: كتب الأمالي 273 1- كتب الأمالي 275 2- مجالس ثعلب 281 3- أمالي اليزيدي 289 4- أمالي القالي 295 5- كتاب الإمتاع والمؤانسة 303 6- أمالي الشريف المرتضى 311 7- أمالي ابن الشجري 319 الباب السابع: طبقات الشعراء 331 1- طبقات ابن سلام الجمحي 333 2- الشعر والشعراء لابن قتيبة 343 3- طبقات الشعراء لابن المعتز 35 4- معجم الشعراء للمرزباني 36 5 5- التدرج الزمني والموضوعي لكتب الطبقات 373 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 الباب الثامن: الاختيارات الشعرية والحماسات 383 1- المراحل الأولى في الاختيارات 385 2- كتب الحماسة 399 حماسة أبي تمام 403 حماسة البحتري 409 حماسة الخالديين 416 الحماسة الشجرية 426 الحماسة البصرية 435 الباب التاسع: كتب التراجم 439 1- الفهرست لابن النديم 441 2- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 451 3- معجم الأدباء لياقوت الرومي 461 4- وفيات الأعيان، فوات الوفيات، الوافي بالوفيات 473 وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 475 فوات الوفيات 480 الوافي بالوفيات 483 5- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 491 الباب العاشر: التأليف والمؤلفون في التراث الأدبي الأندلسي 499 1- نشأة التأليف عن الأندلس 501 2- بداية التأليف عن الأدب الأندلسي 509 قلائد العقيان ومطمح الأنفس 512 قلائد العقيان 513 مطمح الأنفس ومسرح التأنس 515 الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 517 ملامح كتاب "الذخيرة" ومنهجه 519 3- المغرب في حلي المغرب 525 منهج "المغرب" وخصائصه 533 4- مؤلفات علي بن موسى بن سعيد 537 رايات المبرزين، القدح المعلى، الغصون اليانعة 539 5- كتب التراجم في الأندلس 543 كتب التراجم لأدباء الأندلس وأعلامها 545 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 سلسلة كتب تاريخ علماء الأندلس والصلة وتكملة الصلة 545 المطرب في أشعار أهل المغرب 547 6- لسان الدين بن الخطيب والكتيبة الكامنة 549 منهج الكتيبة الكامنة 558 7- كتب تاريخية في خدمة الأدب الأندلسي 565 مصادر أخرى تاريخية 567 نقط العروس في أخبار بني أمية بالأندلس 568 المقتبس في أخبار الأندلس 568 تاريخ المن بالإمامة 569 المعجب في تلخيص أخبار المغرب 570 الحلة السيراء 570 البيان المغرب في أخبار المغرب 571 الذيل والتكملة لكتابي الموصل والصلة 571 8- المشارقة والدراسات الأدبية الأندلسية 573 المشارقة والأدب الأندلسي 575 المقري ونفح الطيب 579 منهج نفح الطيب وموضوعاته 583 الباب الحادي عشر: الموسوعات العربية 587 1- ظهور الموسوعة العربية والعصر المملوكي 589 2- الموسوعات المملوكية وكتابها 595 ابن منظور ولسان العرب 597 النويري ونهاية الأرب 598 صلاح الدين الصفدي وابن شاكر الكتبي 599 ابن فضل الله العمري ومسالك الأبصار 600 القلقشندي وصبح الأعشى 602 المقريزي ومؤلفاته 603 ابن حجر ومؤلفاته 604 ابن تغري بردي ومؤلفاته 605 السخاوي وكتبه 606 3- موسوعات ما قبل العصر المملوكي، بواكير الموسوعات 607 المراجع 615 محتويات الكتاب 621 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624