الكتاب: رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف المعروف بـ ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) المحقق: د. صلاح الدين المنجد الناشر: دار الكتاب الجديد - بيروت الطبعة: الثانية، 1392 هـ، 1972 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة أبو يعلى ابن الفراء الكتاب: رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف المعروف بـ ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) المحقق: د. صلاح الدين المنجد الناشر: دار الكتاب الجديد - بيروت الطبعة: الثانية، 1392 هـ، 1972 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الْحَمد لله الَّذِي اتخذ الْحَمد لنَفسِهِ لينيل بِهِ ثَوابًا عباده فَفتح بِهِ كِتَابه وَختم بِهِ دُعَاء اهل جنته فَقَالَ فِي كِتَابه {أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} وَصلى الله على اكرم رَسُول جَاءَ بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة هاديا لَهُم الى طَاعَته وذائدا لَهُم عَن مَعَاصيه مُحَمَّد النَّبِي وَآله الطاهرين وَسلم تَسْلِيمًا سَأَلتنِي ايدك الله ان ابين لَك فضل الرُّسُل وَمن يصلح للرسالة والسفارة وَمن امْر من الْمُلُوك والاوائل والحكماء الافاضل بإرسال رَسُول وَمن نهى عَن ذَلِك وَكَيف تكون صفة الرُّسُل وَمَا يَنْبَغِي لمن ارسل لملك اذا كَانَ منازلا لملك ان يعْمل فِي الِاحْتِيَاط لنَفسِهِ وَلمن ارسله وَمن حمد على قديم الْوَقْت من الرل وَمن ذمّ وَمَا قَالَت الْحُكَمَاء والبلغاء وَالشعرَاء فِي ذَلِك وَمَا ورد من ذكر الرَّسُول فِي كتاب الله الْعَظِيم الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد وَمن خَان ملكه لمتعجل بر اَوْ فَائِدَة وَمَا جازاه بِهِ مرسله على ذميم فعله وَمن رسل برسالة غَلِيظَة فأداها وَالْوَجْه الَّذِي بِهِ احتال الى ان نجا من شَرّ مَا حمله وَمن نصح من الرُّسُل لملكه وزانه برسالته وَرفع من ملكه ببيانه وَعبارَته فأدبتك الى سؤالك اعْتِمَادًا مني لمسرتك وعلما انك غَنِي عَن يسير مَا اعْلَم بِكَثِير مَا تعلم آخِذا بالادب فِي مسارعتي الى الامر والى الله ارغب فِي الْهِدَايَة والتوفيق برحمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الْبَاب الأول أذكر فِيهِ مَا جَاءَ فِي كتاب الله عز وَجل من ذكر الرُّسُل وَوُجُوب حق تعظيمهم والانقياد إِلَيْهِم قَالَ الله تَعَالَى {كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا ويزكيكم ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ} وَقَالَ تبَارك اسْمه {رسلًا مبشرين ومنذرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَقَالَ عز من قَائِل يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم على فَتْرَة من الرُّسُل أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشيرٍ وَلَا نذيرٍ فقد جَاءَكُم بشيرٌ ونذيرٌ وَالله على كل شيءٍ قدير وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَلَا تسْأَل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} وَقَالَ تَعَالَى فِي أَنه لَا يجوز أَن يُرْسل إِلَى أمة إِلَّا مِنْهُم من يفهم لغتهم وَمن هُوَ دربٌ بهَا فَهُوَ أحج عَلَيْهِم {وَمَا أرسلنَا من رسولٍ إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول فأخذناه أخذا وبيلاً} وَقَالَ تَعَالَى {فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا وداعياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجاً منيراً} أَسمَاء رسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارسل جرير بن عبد الله إِلَى ذِي الكلاع وَأرْسل إِلَى جبلة بن الْأَيْهَم شُجَاع بن وهب الْأَسدي قَالَ الْوَاقِدِيّ بل إِلَى شمر بن الْحَارِث بن أبي شمر وَأرْسل إِلَى الْمُقَوْقس صَاحب مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 حَاطِب بن أبي بلتعة حَلِيف بني أَسد فَأكْرمه وَوَصله وَبعث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمارية أم إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهَا خصيٌ وَأُخْتهَا أم عبد الرَّحْمَن بن حسان بن ثَابت وببغلته دُلْدُل وَحِمَاره يَعْفُور وَأرْسل عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى جَيْفَر وَعبد ابْني الجلندي بن المستكبر الأزديين بعمان فَأَسْلمَا وغلبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 على عمان وارسل دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ إِلَى قَيْصر ملك الرّوم فَأخذ كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوَضعه على خاصرته وَوصل دحْيَة وَقَالَ لَو كَانَ فِي بلادي لأتبعته ونصرته وَأرْسل عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي إِلَى النَّجَاشِيّ وَأرْسل سليط بن عَمْرو أَخا عَامر بن لؤَي إِلَى أهل الْيَمَامَة قَالَ الْوَاقِدِيّ وَأرْسل إِلَى هَوْذَة بن عَليّ الْحَنَفِيّ وَأرْسل الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ حَلِيف بني أَسد إِلَى الْمُنْذر بن سَاوَى الْعَبْدي وَأهل الْبَحْرين وَكتب إِلَى الْمُنْذر كتابا فأسلموا وبعثوا بخراجهم وَكَانَ أول مَا ورد الْمَدِينَة خراج الْبَحْرين وَهُوَ سَبْعُونَ الف دِرْهَم وَبعث الْمُهَاجِرين بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي إِلَى الْحَارِث بن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 كلال الْحِمْيَرِي ملك وَأرْسل عبد الله بن حذافة السَّهْمِي إِلَى كسْرَى بن هُرْمُز فَلَمَّا قَرَأَ كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَدَأَ باسمه قبلي وَقد كِتَابه سيوراً فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ مزق فَارس كل ممزق فَمَا أفلحوا بعد دَعْوَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الْبَاب الثَّانِي أذكر فِيهِ لم أرسل الله تَعَالَى الْبشر إِلَى الْبشر دون أَن يَجْعَل رسله مَلَائِكَة أَو غَيرهم من خلقه وَوجه الْفَائِدَة فِي ذَلِك قد كَانَ فِي قدرَة الله جلّ وَعلا أَن يلقِي فِي قُلُوب الْأُمَم الْإِيمَان ويوفقهم لما يرضاه من الشَّرَائِع والأديان من غير أَن يبْعَث فيهم الرُّسُل ويعرفهم الْآيَات وَالنّذر وَلكنه تبَارك اسْمه الْعَظِيم لرأفته بهم وإحسانه إِلَيْهِم بعث فيهم من أنفسهم من يخاطبهم بألسنتهم ويهديهم لمراشدهم عاطفاً عَلَيْهِم بالمجانسة ورؤوفاً بهم لِلْقَرَابَةِ قَالَ الله تَعَالَى جده {لقد جَاءَكُم رسولٌ من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حريصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم} الْبَاب الثَّالِث أذكر فِيهِ مَا أوجبه الله تَعَالَى على مخالفي الرُّسُل من الْعَذَاب قَالَ سُبْحَانَهُ {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَقَالَ جلّ اسْمه {وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا} وَأوجب سُبْحَانَهُ الْعَذَاب عِنْد عصيان الرَّسُول فَقَالَ تبَارك اسْمه {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول فأخذناه أخذا وبيلاً} وَقد فضل الله سُبْحَانَهُ الْمُرْسلين من أنبيائه على غير الْمُرْسلين لتبليغ الرسَالَة وَتحمل ثقل الْأَمَانَة وَالصَّبْر على أَذَى الْكَافرين وَتَكْذيب الجاحدين وَمن أخص الْمنَازل عِنْد الْمُلُوك وألطفها وَأقرب الْأَسْبَاب مِنْهَا وأوصلها منزلَة المترسل بَينهَا وَبَين أضدادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الْبَاب الرَّابِع أذكر فِيهِ أَن الْكتاب مَقْصُور على مَعْنَاهُ الَّذِي يتضمنه لَا يتعداه إِلَى غَيره وَأَن الرَّسُول يتَصَرَّف فِي مَذَاهِب الْحجَّة وأبرهن أَن الْكتاب يَد وَالرَّسُول لِسَان وَأَن الْوَاجِب على الْمُلُوك أَن يقرنوا كتبهمْ بالرسل لما فِي ذَلِك من كَمَال الْفَائِدَة وَوُجُوب الْحجَّة ولقطع الرَّسُول الْأَمر إِذا كَانَ مَأْمُورا من غير مُرَاجعَة وَلَا يحْتَاج إِلَى اسْتِئْذَان مرسله قَالَ الْحَكِيم الْكتاب يدٌ وَالرَّسُول لِسَان وَقَالَ غَيره الْكتاب مقصورٌ على مَعْنَاهُ الَّذِي يتضمنه لَا يتعداه إِلَى غَيره وَلِلرَّسُولِ أَن يتَصَرَّف فِي أنحاء الْحجَّة ويتأتى لنظم الألفة ويحرص على دَرك البغية ويجتهد فِي نجح الطّلبَة اجْتِهَاد من يرى أَن فِي تَمام الْأَمر على يَده وانتظامه بسعيه وسفارته دَلِيلا على موقعه وتيمناً بطائره وَرُبمَا حكم الرَّسُول فِي الْأُمُور وَخير فِي التَّدْبِير على حسب مَا توجبه الْمُشَاهدَة ويستصاب فِي البدء وَالْعَاقبَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قَالَ بعض الادباء من الْحُكَمَاء (لَيْسَ الْكتب ببالغٍ لَك مبلغا ... حَتَّى يكون مَعَ الْكتاب رَسُول) (مَا فِي كتابك غير مَا حَملته ... لَكِن رَسُولك كَيفَ شَاءَ يَقُول) (فَإِذا دمعتهما وَلم تفردهما ... بلغ التجاح وَأدْركَ المأمول) وَقَالَ غَيره مِمَّن يجْرِي فِي الْحِكْمَة مجْرَاه (اقرن كتابك بالرسول فَإِنَّهُ ... أقضى لما حاولت فِيهِ وأعذر) (وَإِذا اقتصرت على الْكتاب فَإِن من ... كاتبت فِي رد الْجَواب مُخَيّر) ان آثر التَّقَدُّم فَهُوَ مقدم ... أَو آثر التَّأْخِير فَهُوَ مُؤخر) وَقَالَ حكمي الْعَرَب فِي التَّفْوِيض إِلَى الرَّسُول (إِذا كنت فِي حَاجَة مُرْسلا ... فَأرْسل حكيماً وَلَا توصه) على أَن هَذَا الْمَذْهَب مرذول عِنْد الحزمة الألباء والمجربين الْعُقَلَاء الَّذين خبروا الْأُمُور بفطر عُقُولهمْ وأضافوا إِلَيْهِ مَا استفادوا من تجارب ايامهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الْبَاب الْخَامِس فِي نهي الرَّسُول عَن تعدِي مَا ارسل بِهِ وان يخطيء بِرَأْي الْمُرْسل وَلَا يُصِيب بِرَأْيهِ وَنَهْيه عَن الْوَهم بالرسالة أَو التحريف لَهَا وَإِلَّا أحْوج إِلَى رَسُول ثَان أمروا بأَدَاء الرسَالَة على وَجههَا ونهوا عَن الشَّك والتحريف خيفة احتياجٍ مَا إِلَى رَسُول ثَان فَأخذ هَذَا الْمَعْنى بعض الشُّعَرَاء المجيدين والحكماء المطبوعين فَقَالَ (إِنِّي انتدبتك للرسالة بعد مَا ... دبرت أَمْرِي مبدئاً ومعاودا) (اعْلَم بأنك إِن أضعت وصيتي ... فَأَصَبْت لم أك للإصابة حامدا) (وَإِذا أَجدت بهَا فعاقك عائق ... عَمَّا أردْت بسطت عذرك جاهدا) (إِن الرَّسُول إِذا استبد بِرَأْيهِ ... وَعصى ولي الْأَمر كَانَ معاندا) وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي سرول وهم فأحوج مرسله إِلَى رَسُول ثَان (شَرّ الرسولين من يحْتَاج مرسله ... مِنْهُ إِلَى الْعود والأمران سيان) (لذاك مَا قَالَ أهل الْعلم فِي مثلٍ طَرِيق كل أخي جهل طَرِيقَانِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الْبَاب السَّادِس اذكر فِيهِ كَيفَ كَيفَ يَنْبَغِي للرسول أَن يغْفل إِذا سفر بَين ملكَيْنِ وَكَانَ أَحدهمَا يرعد ويبرق ويعد ويستعد ليصغر إِلَيْهِ نَفسه وَمَا أجَاب بِهِ بعض الرُّسُل وَقد عوتب على أَنه لم يعر شَيْئا مِمَّا رَآهُ طرفه مِمَّا عظم بِهِ فِي عين من أرسل إِلَيْهِ وَملكه قَالَ الْحَكِيم اختر لرسالتك فِي هدنتك وصلحك ومهماتك ومناظرتك والنيابة عَنْك رجلا حصيفاً بليغاً حولا قلباً قَلِيل الْغَفْلَة منتهز الفرصة ذَا رَأْي جزل وَقَول فصل ولسان لسليط وقلبٍ حَدِيد فطناً للطائف التَّدْبِير ومستقلاً لما ترجو أَو تحاول بالحزامة وإصابة الرَّأْي ومتعقباً لَهُ بالحذر والتمييز سامياً إِلَى مَا يستدعيه إِلَيْك ويستدفعه عَنْك إِن حاول جر أمرٍ احسن اتعلاقه وَإِن رام دَفعه أحسن رده حَاضر الفصاحة مبتدر الْعبارَة ظَاهر الظلاقة وثاباً على الْحجَج مبرماً لما نقض خصمك ناقضا لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أبرم يجيل الْبَاطِل فِي شخص الْحق وَالْحق فِي شخص الْبَاطِل مَتى رام احتجاجاً عَنْك أَلد على أهل اللدد فِي مواقفه ومشاهده محتالاً فِي محاورته ومكائده جَامعا مَعَ هَذَا الْعلم الْفَرَائِض وَالسّنَن وَالْأَحْكَام وَالسير ليحتذي مِثَال من سلف فِيمَا يُورِدهُ ويصدره عَالما بأحوال الْخراج والحسابات وَسَائِر الْأَعْمَال ليناظر كلا بِحَسب مَا يرَاهُ من صَوَابه وخطائه وَليكن من أهل الشّرف والبيوتات ذَا همةٍ عالية فَإِنَّهُ لَا بُد مقتفٍ آثَار أوليته محبٌ لمناقبها مساوٍ لأَهله فِيهَا فَمَتَى اجْتمعت لَك فِيهِ هَذِه الْخِصَال فاجعله من بطانتك وأطلعه طلع أَمرك خطيره وحقيره واستشره فِي بداتك لطيفها وجليلها وَمَتى أخلت بِهِ هَذِه الْخلال كَانَت جِنَايَته عَلَيْك أعظم وَكَانَ كالسالك طَرِيقا لَا يدْرِي أَيْن يؤم مِنْهُ وَقَالَ أَبُو زيد فِي السياسة المختصرة وَأَن يكون الَّذِي تختاره للتوجه فِي الرسائل جهر الصَّوْت حسن الرواء والمنظر مَقْبُول الشَّمَائِل حسن الْبَيَان جيد الْعبارَة حَافِظًا لما يتبلغ لؤديه على وَجهه وَلَا يمنعهُ الصدْق عَن سُلْطَانه رغبةٌ يقدمهَا فِيمَن يتَوَجَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 إِلَيْهِ وَلَا مهانة يستشعرها فِي نَفسه وَتَقْدِيم النَّصِيحَة لرئيسه فَإِنَّهُ مَتى لم يكن المستكفى لهَذَا الْعلم وَاسْتعْمل بَابا من التحريف والتمويه فِيمَا يخْتَلف فِيهِ بَين السُّلْطَان وَبَين من يراسله ويشافهه على لِسَانه بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَإِن عدا هَذِه الصّفة وَقع فِي أَعمال السُّلْطَان بذلك أظهر خلل وَأعظم ضَرَر وَلذَلِك يجب على السائس أَن يجْتَهد فِي تخيره لهَذَا الْعَمَل من يصلح لَهُ ويستقل بِهِ ويجريه على وَجهه وَلَا يحْتَمل متوليه على تَقْصِير يَقع مِنْهُ فَيعرض أَمر السُّلْطَان لوُقُوع الْخلَل والانتشار فِيهِ وَقَالَ غير الْبَلْخِي يكون الرَّسُول مَذْكُورا وسيماً قسيماً لَا تَقْتَحِمُهُ الْعين وَلَا يزدرى بالخبرة عفيفاً جيد اللِّسَان حسن الْبَيَان حاد الْبَصَر ذكي الْقلب يفهم الْإِيمَاء ويناظر الْمُلُوك على السوَاء فَإِنَّهُ إِنَّمَا ينْطق بِلِسَان مرسله فَإِذا ذَكرُوهُ عرف واذا نظر اليه لم يحتقر وَيجب أَن يجمل بِكُل مَا أمكن الْوَافِد والعامة ترمق الزي أَكثر مِمَّا ترمق الْكِفَايَة والسداد وَيجب أَن تزاح علله فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ حَتَّى لَا تشره نَفسه إِلَى مَا يبْذل لَهُ وَيدْفَع إِلَيْهِ فَإِن الطمع يقطع الْحجَّة وَالرَّسُول أَمِين لَا أَمِين عَلَيْهِ فَيجب أَن يرتهن بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ والإفضال عَلَيْهِ وَاعْلَم أَن للرسالة حدوداً لَا يَتَّسِع تعديها وحقوقاً يلْزم الْقيام بهَا اولها إِيثَار الصدْق وتعمد النصح وَأَن يصدع بالرسالة وَله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ان يدمج الْمَعْنى الغليظ مِنْهَا ي الْأَلْفَاظ اللينة وَأَن يتأدب بأدب الله تَعَالَى فِيمَا أدب رسله الْكِرَام حَيْثُ يَقُول {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} وَقَالَ شَاعِر الْعَرَب (لينوا لنا فِي القَوْل إِنَّا معشر ... نأبى مقادتنا على الإغلاظ) (وَالله قد أَمر النَّبِي وصنوه ... فِي وحيه بإلانة الْأَلْفَاظ) وَالرَّسُول مَعَ هَذِه الْأُمُور مُحْتَاج من الْإِقْدَام والجرأة إِلَى مثل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْوَقار والركانة لِأَنَّهُ لَيْسَ على كل الطَّبَقَات يشْتَد وَلَا لكلها يلين وَرُبمَا لم يَسعهُ إِلَّا أَن يصدع بالرسالة على مَا فِيهَا فَمن لم يكن جريئاً حرفها وأخل بهَا وأفسد مَعَانِيهَا وَحكى أَصْحَاب السّير فِيمَا نقلوه من أَخْبَار عبد الْملك ابْن مَرْوَان أَنه أرسل بعض أَصْحَابه إِلَى الْحجَّاج بن يُوسُف برسالةٍ غَلِيظَة وحذره من تعديها أَو إلانة ألفاظها فأداها وَعَاد إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أدّيت مَا حَملتك قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ أما لَو لم تفعل لضَرَبْت عُنُقك قَالَ الرَّسُول هَذَا عِقَاب الْمعْصِيَة فَمَا ثَوَاب الطَّاعَة فَأمر لَهُ بجائزة وحملان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الْبَاب السَّابِع أذكر فِيهِ إِذا لم يكن الرَّسُول وقوراً ثَابت الْعقل وَورد من الْأَعْدَاء على من يرعد ويبرق عَلَيْهِ وَيجمع لَهُ عدده وعدده فَأكْثر الرَّسُول التلفت أهان مرسله قَالَ الْمُؤلف وَمَتى لم يكن الرَّسُول وقوراً ثَابت الْعقل شجاعا وَورد من الْأَعْدَاء على من يرعد ويبرق عَلَيْهِ وَيجمع لَهُ عدده وعدده فَأكْثر الرَّسُول التلفت إِلَى ذَلِك ضعف مرسله ووهنه وأوهم الْمُرْسل إِلَيْهِ أَن صَاحبه دون قوته ومنعته وَأورد أَصْحَاب السّير أَن رَسُولا لبَعض مُلُوك الْفرس ورد على هِشَام بن عبد الْملك وَقد كن أعد لَهُ وحشد فَلم يزدْ الرَّسُول على الإطراق وَترك التلفت وَالنَّظَر أَمَامه وَلم يعر شَيْئا مِمَّا اعد لَهُ فَقيل لَهُ ف ذَلِك فَقَالَ إِن عَيْني وقلبي مملوءان مِمَّا خلفته ورائي يشغلهما عَظِيم مَا عندنَا عَن صَغِير مَا عنْدكُمْ فَوَقع قَوْله إِلَى هِشَام فَقَالَ قَاتل الله العلج إِن صَاحبه كَانَ اعْلَم بِهِ اذا توخاه لرسالته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَجَاء فِي الْخَبَر عَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا أبردتم إِلَيّ بريداً فَلْيَكُن حسن الْوَجْه حسن الِاسْم وَقَالَت الْحُكَمَاء ثَلَاثَة تدل على ثَلَاثَة الْهَدِيَّة على الْمهْدي وَالْكتاب على الْكَاتِب وَالرَّسُول على الْمُرْسل وَقَالُوا رَسُول الرجل مَكَان رَأْيه وَكتابه مَكَان عقله وَقَالَ الشَّاعِر (تخير رَسُولك إِن الرَّسُول ... يدل على عقل من أرْسلهُ) (ترَاهُ إِذا كَانَ ذَا حِكْمَة ... يبلغ أحسن مَا حمله) (فيبرم منتقضات الْأُمُور ... وَيفتح أَبْوَابهَا المقفله) (وَيرجع إِن كَانَ ذَا غرَّة ... عَلَيْهِ الامور الَّتِي هن لَهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَقيل لعبد الله بن الْعَبَّاس رضوَان الله عَلَيْهِ مَا منع عليا رَضِي الله عَنهُ أَن يرسلك يَوْم الْحكمَيْنِ فَقَالَ مَنعه وَالله حاجز الْقدر ومحنة الِابْتِلَاء وَوَاللَّه لَو وجهني لجلست فِي مدارج انفاسه ناقضا لما ابرم ومبرما لمن نقض أَسف إِذا طَار وأطير إِذا أَسف وَلَكِن مضى قدر وَبَقِي اسف والاخرة خيرٌ لأمير الْمُؤمنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الْبَاب الثَّامِن فِي أَن الرَّسُول إِذا لم يكن متأنياً صبوراً سالما من العلق وَكَانَ متلفتاً إِلَى مَا خَلفه من أَهله وَمَاله كَانَ سَعْيه فِيمَا على مرسله لَا لَهُ أَو عَاد على يَدَيْهِ بِأَمْر لم يفصله ورأي لم يبرمه وَيحْتَاج الرَّسُول من الْحلم وكظم الغيظ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الصَّبْر على طول الْمكْث وتراخي الْمقَام فَإِن الرَّسُول رُبمَا وَجه إِلَى سخيف وَدفع إِلَى طائش فبدرت إِلَيْهِ مِنْهُ الْكَلِمَة البذية فيلحقه من سُورَة الْغَضَب ويتملك عَلَيْهِ من سُلْطَان الغيظ مَا يتخون عزمه ورأيه ويقطعه عَن اسْتِيفَاء حججه ويفاء كل مَا فِي رسَالَته وَهُوَ مَعَ الْحلم والكظم أخلق بالنجاح وبلوغ المُرَاد وَإِذا لم يكن متأنياً صبوراً مكيناً من عقله فمني بِالْملكِ الحازم المخمر لرأيه المراجع لنَفسِهِ الَّذِي لَا يمْضِي إِلَّا الرَّأْي المتعقب المنقح لم يخل الرَّسُول من أَن يهجم بِهِ الغلق والعجلة على إِحْدَى خلتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 لَا ثَالِث لَهما انا أَن ينقاد إِلَى مؤآتاة من أرسل إِلَيْهِ على مأتى لَهُ فِيهِ الْحَظ وعَلى مسرله الْغبن حرصاً على سرعَة الكرة وتعجل الأوبة وَإِمَّا أَن يعود بِأَمْر لم ينْفَصل ورأي لم ينبرم فَيرجع كَمَا بَدَأَ وَمن أمثالهم رب عجلة تهب ريثاً على أَن الأول قد قَالَ وللريث فِي بعض الْأَحَايِين أسْرع وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء (وَأول مَا يكون الْغَيْث طلاً ... وَيكثر ودقه فَيصير غيثاً) وَقَالَ الآخر (وَمَا رَاح محرومٌ وَلَا راث منجح ... ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الْبَاب التَّاسِع فِي من دفع من رسل الْمُلُوك إِلَى أَن حمله ملكه إِلَى ملك آخر رِسَالَة غَلِيظَة وَأمره أَن يُؤَدِّيهَا على وَجههَا وحظر عَلَيْهِ أَن يغيرها عَن هيئتها أَو تَحْرِيف شيءٍ من مَعْنَاهَا ولفظها وَالْوَجْه الَّذِي بِهِ احتال حَتَّى أدّى الرسَالَة وَسلم من معرة الْملك الْمُرْسل إِلَيْهِ وَعَاد بِحَمْد مِنْهُ وَقد نصح لمن أرْسلهُ وَأدّى مقَالَته ورد فِي سيرة الْفرس أَن أحد مُلُوكهمْ أنفذ إِلَى بعض الْمُلُوك المجاورين لَهُ رِسَالَة مَعَ بعض من اختبر ثقته وَعرف صدق لهجته وأمانته وَكَانَت غَلِيظَة وحظر عَلَيْهِ أَن يغيرها عَن هيئتها اَوْ يحرف شَيْئا من مَعْنَاهَا ولفظها وحذره من تجَاوز مَا رسم لَهُ من ذَلِك فَأدى إِلَى الْملك الْمُرْسل إِلَيْهِ مِنْهَا مَا أحفظه وأغاظه فَقَالَ الْملك للرسول إِن صَاحبك لم يجبهني بِهَذِهِ الْمقَالة وَأَنت المجتريء بهَا عَليّ والماليء مِنْهَا سَمْعِي وقلبي وَمَا شِفَاء غيظي وَمَا تسكين حفيظتي إِلَّا الْمُبَالغَة فِي عقابك فَقَالَ لَهُ الرَّسُول هون عَلَيْك أَيهَا الْملك فَإِن لكل مقالٍ جَوَابا وَإِن قبح أديته على حَاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 قَالَ لَهُ الْملك هَيْهَات إِنَّك تتَوَجَّه إِلَى من تجله عَن سَماع مَا يسوؤه وتلقيه بِمَا يحفظه فَقَالَ الرَّسُول إِن من الْعجب أَن أَلْقَاك بمقالته وآمن بادرتك ونيتي عَلَيْك ثمَّ أَلْقَاهُ بكلامك فَلَا أَثِق بحلمه ونيتي مَعَه فَأذْهب بِهَذَا القَوْل حفيظته وسل سخيمته وَقَالَ مثلك من يُرْسل بَين الْمُلُوك فالرسول مبلغ غير ملوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الْبَاب الْعَاشِر فِي أَن وَهن الرَّسُول عَائِد علؤ من أرْسلهُ وَكَذَلِكَ اختلاله وَضَعفه وَأَن الرَّسُول إِذا كَانَ تَاما ذَا بَيَان ورواء فَمَا فِيهِ من فضل عَائِد على من أرْسلهُ ومنسوب إِلَيْهِ وَمَتى كَانَ الرَّسُول دون مرسله فِي رَأْي وعقل ورواء ونبل ظن بمرسله أَكثر من اختلاله وَمَتى كَانَ أتم مِنْهُ وزايد فِي هَذِه الْأَحْوَال ظن بمرسله فَوق ذَلِك من التَّمام فعوار الرَّسُول يعر الْمُرْسل وَإِن كَانَ فَاضلا واختلال الْمُرْسل لَا يعر الرَّسُول إِذا كَانَ كَامِلا وَيحْتَاج الرَّسُول من التصون والنزاهة إِلَى مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من ترك الإفراط فِي الانقباض والحشمة حَتَّى لَا يكون غَرَضه فِيمَا يعرض عَلَيْهِ من عَظِيم الْبر بيع دينه وَلَا خِيَانَة مرسله وَلَا بيع أَمَانَته وَلَا يَأْبَى من يسيره ولطيفه مَا يُوجب قبُوله الْأنس ويوقع الِامْتِنَاع مِنْهُ النفار والوحشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الْبَاب الْحَادِي عشر فِي الرَّسُول المحروم وَمَا ورد فِيهِ من آيَات كتاب الله عز وَجل وَكَلَام البلغاء وَالشعرَاء والحكماء وَقد ذمّ الله سُبْحَانَهُ الرَّسُول المحروم الَّذِي لَا تنجح على يَدَيْهِ الْأُمُور وَإِن كَانَ الْعسر واليسر جاريين مقاديره جلّ وَعلا فقد قَالَ عز وَجل وَضرب الله مثلا ردجلين أَحدهمَا أبكم لَا يقدر على شَيْء وَهُوَ كلٌ على مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير وَيسْتَحب من الرَّسُول أَن يشْعر نَفسه النجاح وَيُمكن فِي قلبه الظفر فيتلقى الْأُمُور بنشاط الْقُدْرَة ويبائرها بعلو الهمة لَا كالمضعوف الَّذِي يبعد على نَفسه الْأُمُور ويشعرها الْيَأْس ليضع عَنْهَا مؤونة السَّعْي ويكفيها الاعمال والاحتيال والدأب فِي بُلُوغ الآمال كَمَا قَالَ بعض الشُّعَرَاء (قل مَا يجح الرسو ... ل إِذا استشعر الخور) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 (وَأرى الْيَأْس نَفسه ... قبل أَن يبلو الْخَبَر) (انما المنجح الممك ... ن فِي نسفه الظفر) (الَّذِي يركب الْعس ... ير على أَنه يسر) وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء (وَكنت إِذا بعثت بِهِ رَسُولا ... بداني قبل أَن يمْضِي بياس) (وأنساني وَمَا وجهت فِيهِ ... على أَنِّي ذكورٌ غير نَاس) (وَيرجع لَا رعاني الله فِيهِ ... إِلَيّ بخيبة بعد احتباس) (يرد بِرَأْسِهِ أبدا جوابي ... أرانيه الْإِلَه بغيرِ راس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الْبَاب الثَّانِي عشر أذكر فِيهِ لم اسْتحبَّ فِي الرَّسُول إِسْرَاف الْقد وعبالة الْجِسْم وَمَا احْتج بِهِ من كَانَ قمياً من الرُّسُل وَمن كَانَ عبلاً وَيسْتَحب فِي الرَّسُول تَمام الْقد وعبالة الْجِسْم حَتَّى لَا يكون قميئاً وَلَا ضيئلا وَإِن كَانَ الْمَرْء بأصغريه ومخبوءاً تَحت لِسَانه وَلَكِن الصُّور تسبق اللِّسَان والجثمان يستر الْجنان وَلذَلِك مَا قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يُؤذن لكم فَيقدم أحسنكم اسْما فَإِذا دَخَلْتُم قدمنَا أحسنكم وَجها فَإِذا نطقتم ميزتكم أَلْسِنَتكُم وَكَانَت أعين الْمُلُوك تسبق إِلَى ذَوي الرواء من الرُّسُل وَإِنَّمَا توجب ذَلِك فِي رسلها لِئَلَّا ينقص اخْتِيَارهَا حظاً من حظوظ الْكَمَال ولانها تنفذ واحجدا إِلَى أمة وفذاً إِلَى جمَاعَة وشخصاً إِلَى شخوص كَثِيرَة فاجتهدوا فِي أَن يكون ذَلِك الْوَاحِد وسيما جسيما يملا الْعُيُون المتشوقة إِلَيْهِ فَلَا تَقْتَحِمُهُ ويشرف على تِلْكَ الْخلق المتصدية لَهُ فَلَا تستصغره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَجَاء فِي التَّارِيخ ان الشّعبِيّ لم ادخل على عبد الْملك بن مَرْوَان برسالة الْحجَّاج اقتحمه ناظره واستصغره قبل أَن يمْتَحن مَا وَرَاء ذَلِك من عقله وَبَيَانه وفضله وحكمته فَقَالَ إِنَّك لدميمٌ يَا شعبي فَاحْتَاجَ الشّعبِيّ إِلَى تمحل الْعذر وإلطاف الْجَواب فَقَالَ زوحمت فِي الرَّحِم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلما أوفد بعض الْمُلُوك رَسُوله إِلَى مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَكَانَ وسيماً جسيماً يمْلَأ الْعين فَأحب مُعَاوِيَة عَيبه فَقَالَ مَا هَذِه الفدامة فِيكُم فَقَالَ الرَّسُول عنوان نعم الله عندنَا فَكَانَ هَذَا الْجَواب غَايَة فِي الْإِحْسَان والسداد لِأَنَّهُ اعْتد العبالة موهبة وَكَانَ جَوَاب الشّعبِيّ تمحلاً لِأَنَّهُ علم أَن الدمامة عيبٌ ونقيصة وَقد قَالَ شَاعِر الْعَرَب (تبين لي أَن القماءة ذلةٌ ... وَأَن أشداء الرِّجَال طوالها) فَكَأَن الْمُلُوك أَرَادَت أَن تستجمع هَذِه الْفَضَائِل على مراتبها فِي رسلها فَيكون الرَّسُول حسن الِاسْم والخلق وَالْبَيَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَتقول الروَاة مَا نَعْرِف رَسُولا ألطف وَلَا كتابا اوجز من هدهد سُلَيْمَان وكتاه وَهُوَ قَوْله عز وَجل {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أَلا تعلوا عَليّ وأتوني مُسلمين} وعيب بعض الرُّسُل بِالْقصرِ والدمامة وَكَانَ أديباً فطناً فَأَنْشد بديهاً (عقل الرَّسُول وبسطةٌ فِي رَأْيه ... خيرٌ لَهُ من نبله وبهائه) (فَإِذا أخل بِذِي الترسل رَأْيه ... لم يغنه عَنهُ جميل رُوَائِهِ) (مَا ضرّ هدهد آل دَاوُد مَعَ ال ... م إنْجَاح ظَاهر قبحه وقمائه) (فَمضى وَعَاد إِلَى النَّبِي مبشراً ... بالنصح فِي إيداعه وأدائه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الْبَاب الثَّالِث عشر اذكر فِيهِ مَا كنت تعْمل عَلَيْهِ الْفرس إِذا آثرت أَن تتَّخذ من رعاياها من تندبه للرسالة والسفارة والمحنة الَّتِي تمتحنه بهَا فَإِذا صَحَّ على الِابْتِلَاء والخبرة حينئذٍ تتخذه رَسُولا قَالَ الْحَكِيم رَسُولك ترجمان عقلك من كتاب أَخْلَاق الْمُلُوك وَليكن الرَّسُول صَحِيح الْفطْرَة والمزاج ذَا بَيَان وَعبارَة بَصيرًا بمخارج الْكَلَام ووجوهه مُؤديا لألفاظ الْملك ومعانيها صَدُوق اللهجة لَا يمِيل إِلَى طمع حَافِظًا لما حمل وعَلى الْملك أَن يمْتَحن رَسُوله محنة طَوِيلَة قبل أَن يَجعله رَسُولا مَا كَانَت تعْمل عَلَيْهِ مُلُوك الْفرس فِي المحنة إِذا آثرت أَن تتَّخذ من رعاياها من تَجْعَلهُ رَسُولا إِلَى بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مُلُوك الأَرْض كَانَت تمتحنه محنةً طَوِيلَة فَأول مَا تبتدئ بِهِ من محنته أَن توجهه رَسُولا الى بعض خَاصَّة الْملك وَمن فِي قَرَار دَاره فِي رسائلها ثمَّ تقدم عينا لَهَا عَلَيْهِ بِحِفْظ رسَالَته ويكتبها على نَص كَلَامه ومعانيه فَإِذا ردجع الرَّسُول بالرسالة وَجَاء الْعين بِمَا كتب من أَلْفَاظه قَابل بهَا الْملك أَلْفَاظ الرَّسُول فَإِن اتّفقت اَوْ اتّفقت مَعَانِيهَا عرف بهَا الْملك صِحَة عقله وَصدق لهجته ثمَّ جعله الْملك رَسُولا إِلَى عدوٍ لَهُ وَجعل عَلَيْهِ عينا يحفظ أَلْفَاظه ويكتبها ثمَّ يرفعها إِلَى الْملك فَإِن اتّفق كَلَام الرَّسُول وَكَلَام عين الْملك علم أَن رَسُوله قد صدقه عَن عدوه وَلم يتزيد للعداوة الَّتِي بَينهمَا فَإِذا صَحَّ على الِابْتِلَاء والخبرة جعله الْملك رَسُولا إِلَى مُلُوك الْأُمَم الْمُخَالفَة لَهُ ووثق بِهِ ثمَّ كَانَ من الْملك الموجه بِهِ أَن يُقيم خَبره مقَام الْحجَّة من آيين الْفرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 كَانَ من سنتهمْ أَن الْملك إِذا أرسل رَسُولا جَلِيلًا ذَا مرتبَة شاهرة ومنزلة عامرة إِلَى رجل صَغِير الْمنزلَة غامض الْمرتبَة برسالة أَن يكون الْمُرْسل متذللاً لمن أرسل إِلَيْهِ وجالساً بَين يَدَيْهِ وموفياً لَهُ حق الرياسة عَلَيْهِ حَتَّى يتم ذَلِك الْأَمر ثمَّ بعد ذَلِك يعود كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى مَنْزِلَته من السياسة الْعَامَّة وَاعْلَم يَا اسكندر أَن الْفرس اصحاب فأل فاستعلمه مَعَهم فَإِنَّهُ بَاب من تَجْرِيد البخت فَإِذا أرْسلت إِلَيْهِم رَسُولا فَلَا ترسله سليم الْعين الْيُمْنَى فَإِنَّهُم يَتَطَيَّرُونَ بِهِ وَذَلِكَ لأَنهم يَقُولُونَ إِنَّهَا للشمس وَإِذا دخل رَسُولك عَلَيْهِم فليأخذ مَا أمكنه وَلَا يدْفع إِلَيْهِم شَيْئا ومره أَلا يحك رَأسه وَلَا يُشِير بِيَدِهِ إِلَيْهِم فَإِذا قعد فَلَا يقْعد بأمرهم فِي الْمرة الاولى فَإِنَّهُم يغتمون ويتقونك بِسَبَبِهِ وليرد عَلَيْهِم رَسُولك فِي كل مَا يَقُولُونَ لَا الا ان يكون ارما بَينا فَإِن سَأَلُوهُ عَن خَاصَّة الْملك قَالَ كَمَا يجب ان يكون صديقه وَهُوَ على خلاف مَا يُرِيد أعداؤه وَإِذا انْصَرف فَلَا يكثر التلفت إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 بِلَادهمْ فَإِنَّهُم يكْرهُونَ ذَلِك وَلَا يتَنَاوَل من دَاخل مدينتهم وَلَا من خَارِجهَا وَلَا من أنهارها شَيْئا فَإِنَّهُم يكْرهُونَ ذَلِك ويتطيرون بِهِ قَالَ حَكِيم الْعَرَب بالرسول يعْتَبر الْمُرْسل وَمن وَصِيَّة الْمُهلب بن ابي صفرَة اليزيد وَلَده وَليكن الرَّسُول بيني وَبَيْنك من يعقل عني وعنك وَإِذا كتبت كتابا فَأكْثر النّظر فِيهِ فَإِن كتاب الرجل مَوضِع عقله وَرَسُوله مَوضِع رَأْيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الْبَاب الرَّابِع عشر فِي النَّهْي عَن إرْسَال الرُّسُل وَمن جرى عَلَيْهِ خلل من الْمُلُوك فِي تَدْبيره لاجل كذبل الرَّسُول وَمَا جوزي بِهِ من خَان فِي رسَالَته والتحذير من الاستنامة إِلَى الرُّسُل وَمَا كَانَت الْفرس تعمله من الِاحْتِيَاط على الرُّسُل ليَصِح لَهُم الْخَبَر المورد عَلَيْهِم إِذْ الْأَخْبَار مظان الصدْق وَالْكذب قَالَ الْحَكِيم إِذا كذب السفير بَطل التَّدْبِير من السياسة الْخَاصَّة أقلل الرُّسُل يَا اسكندر إِلَى الْمُلُوك فَإِن الْآفَات مِنْهُم كَثِيرَة واذا ارسلت رَسُولا فاختبر ذكاءه وفهمه وَاحْذَرْ ان يكون سَرِيعا اَوْ كثيرا الْكَلَام أَو معجباً أَو مِمَّن يحب شرب النَّبِيذ وأرسله إِن قدرت جَاهِلا بخبرك لم يقم فِي جوارك إِلَّا يَسِيرا وَغير خابر بِمَا يجْرِي عَلَيْهِ تدبيرك وَلَا قَائِم ملكك وراقبه ومره أَلا يقطع كَلَام من يحدثه فَإِنَّهَا خصْلَة لَا تكون فِي أديب وأرهبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 من مُجَاوزَة مَا تَأمره بِهِ ومره أَلا يشرب نبيذا فَإِن الْفرس بحتالون للرسل بالقحاب ويستخرجون بِهن مخايل صُدُورهمْ من حِكْمَة الْفرس كَانَ أردشير بن بابك يَقُول كم من دم سفكه الرَّسُول بِغَيْر حلَّة وَكم من جيوش قد هَلَكت وعساكر قد انتهكت وَمَال قد انتهب وعهدٍ قد نقض بخيانة الرَّسُول وأكاذيبه وحقٌ على الْملك إِذا وَجه رَسُولا إِلَى ملك آخر أَن يردفه بآخر وَإِن وَجه رسولين أتبعهما بِاثْنَيْنِ وَإِن أمكنه أَلا يجمع بَين رسولين فِي طَرِيق لِئَلَّا يتلاقيا فِيهَا وَلَا يتعارفا فيتواطأ على قَول فلايفعل ثمَّ عَلَيْهِ إِذا أَتَاهُ رَسُوله بِكِتَاب أَو رِسَالَة من ملك فِي خير أَو شَرّ أَلا يحدث فِي ذَلِك شَيْئا خيرا أَو شرا حَتَّى يكْتب إِلَيْهِ مَعَ رَسُول آخر يَحْكِي فِي كِتَابه الأول حرفا بِحرف وَمعنى معنى فَإِن الرَّسُول رُبمَا حرم بعض مَا أمل فافتعل الْكتب وحرش الْمُرْسل على الْمُرْسل إِلَيْهِ فأغراه بِهِ وَكذب عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 من سيرة الْإِسْكَنْدَر ذكر أَنه وَجه رَسُولا الى بعض الْمُلُوك فدجاءه برسالة على الصَّوَاب شكّ فِي حرف مِنْهَا إِذْ هُوَ نَاقض لجميعها فَقَالَ الْإِسْكَنْدَر للرسول وَيلك ان الموك لَا تَخْلُو من ممقوم إِذا مَالَتْ ومسددٍ إِذا كتبت وَقد جئتني برسالة صَحِيحَة الْأَلْفَاظ جَيِّدَة الْمعَانِي وَاضِحَة الْعبارَة فِيهَا حرف ينقضها أفعلى يقينٍ أَنْت من هَذَا الْحَرْف أم شَاك فِيهِ فَقَالَ الرَّسُول بل أَنا على يَقِين مِنْهُ قَالَ فَأمر الْإِسْكَنْدَر أَن تكْتب أَلْفَاظه حرفا حرفا وتعاد إِلَى الْملك مَعَ رسولٍ ثانٍ فتقرأ عَلَيْهِ وتترجم لَهُ قَالَ فَلَمَّا قريء عَلَيْهِ الْكتاب وَمر بِهِ الْحَرْف الَّذِي أنكرهُ الاسكندر الْملك ثمَّ أَمر المترجم لَهُ فَقَالَ ضع يَدي على هَذَا الْحَرْف فوضعها فَأمر أَن يقطع ذَلِك الْحَرْف بسكين فقظع من الْكتاب وَكتب إِلَى الْإِسْكَنْدَر رَأس المملكة صِحَة فكرة الْملك وَرَأس الْملك صِحَة لهجة الرَّسُول إِذْ كَانَ الرَّسُول عَن لِسَان الْملك ينْطق وَإِلَى أُذُنه يُؤَدِّي وَقد قطعت مَا لم يكن من كَلَامي إِذْ لم أجد إِلَى قطع لِسَان الْكَاذِب سَبِيلا فَلَمَّا جَاءَ بِهَذَا الْكتاب الى الاسكندر دع الرَّسُول الاول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فَقَالَ لَهُ مَا حملك على كلمةٍ أردْت بهَا فَسَاد ملكي فَأقر الرَّسُول أَن ذَلِك كَانَ مِنْهُ لتقصير رَآهُ من الموجه إِلَيْهِ فَقَالَ الْإِسْكَنْدَر فَأَرَاك سعيت لنَفسك لَا لنا فَلَمَّا فاتك بعض مَا أملت جعلت نَارا فِي الْأَنْفس الخطيرة الرفيعة فَأمر بِنَزْع لِسَانه من قَفاهُ قَالَت الْهِنْد إِذا أرْسلت رَسُولا إِلَى الْملك فَلْيَكُن فصيحاً بلغتك ولغته فَإِن لم تَجدهُ على مَا تؤثره فِي لغته فَلْيَكُن فصيحا فِي لغتك ذَا بَيَان وعاشة ولسان قد سلم من عنجهية الصبى وأحكمته التجارب وحلب الدَّهْر اشطر وَكَانَ اُحْدُ رجلَيْنِ اما رجل بعتقد الْفَوْز فِي الْآخِرَة بنصيحتك وقيمك إِمَامًا يأتم بك ويجعلك طَرِيقه إِلَى الله تَعَالَى أَو ذَا عقلٍ وصدقٍ وذيلٍ من عيالٍ وَأهل يلْتَفت إِلَيْهِم وتطالبه نَفسه بِالرُّجُوعِ والعودة وَلَا يجترم عَلَيْك جرما يعلم أَنهم / اخوذون بِهِ ومطالبون بِسَبَبِهِ ومعاقبون عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الْبَاب الْخَامِس عشر فِيمَا كَانَت قُرَيْش تعْمل بِهِ إِذا أَرَادَت أَن ترسل رَسُولا إِلَى الْمُلُوك وَمَا كَانَت توعز بِهِ إِلَى الرَّسُول وَهِي فِي جَاهِلِيَّتهَا روى الْوَاقِدِيّ أَن قُريْشًا فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَت إِذا أرْسلت رَسُولا إِلَى بعض الْمُلُوك قَالَت لَهُ احفظ شَيْئا انتهز الفريصة فَإِنَّهَا خلسة وَبت عِنْد رَأس الْأَمر لَا ذَنبه وَإِيَّاك وشفيعاً مهيناً فَإِنَّهُ أَضْعَف وَسِيلَة وَإِيَّاك وَالْعجز فَإِنَّهُ أوطأ مركب وَعَلَيْك بِالصبرِ فَإِنَّهُ سَبَب الظفر وَلَا تخض الْغمر حَتَّى تعرف الْقدر فَإِذا توجه للمسير قَالَت اللَّهُمَّ قو ضعفته واحرس غفلته وَشد منته اللَّهُمَّ اطو عَنهُ غول الأَرْض وهولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وحببه اى أَصْحَابه واحمله على ركابه وَسلم لَهُ عصبها وقصبها وادرأ عَنهُ وعنها الْأَعْرَاض والأمراض حَتَّى تُؤَدِّيه سالما إِلَى سَالِمين من وَصِيَّة الْإِسْكَنْدَر يَا إسكندر إياك أَن تستعين بمعينٍ مهين فَيَضَع من قدرك ويسوء ذكرك من كتاب كليلة ودمنة يعْتَبر عقل الْمُرْسل بِرَأْي رَسُوله ونفاذه فَمن كَانَ شَأْنه اللين والمواتاة أنجح فِي رسَالَته وَالرَّسُول يلين الْقلب إِذا رفق بخشن الصَّدْر إِذا خرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الْبَاب السَّادِس عشر فِي احتراس الرَّسُول لنَفسِهِ إِذا سفر أَو ترسل بَين ملكَيْنِ وهما على حَرْب أَو منازلة من حِكْمَة الْعَرَب قَالَ أَكْثَم بن صَيْفِي فِي وَصيته لوَلَده لما بَعثه الى رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد لبغه مبهثه لَا تحدثن أمرا دوني فَإِن الرَّسُول إِذا أحدث الْأَمر من عِنْده خرج من يَدي الَّذِي أرْسلهُ واحتفظ بِمَا يَقُول لَك إِذا ردك فَإنَّك إِن توهمت أَو نسيت أفسدت رِسَالَتك وجشمتني رَسُولا غَيْرك من حكم يونان قيل لافلاطون الْحَكِيم أَي الرُّسُل انجح قَالَ الَّذِي جمال وعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الْبَاب السَّابِع عشر فِي النَّهْي عَن مفاتحة رسل بخضرة الْمَلأ من النَّاس وَالْمَنْع من جدالهم وَأَن لَا يمكنوا إِلَّا من أَدَاء الرسَالَة وَتحمل الْجَواب من السياسة لَا تفاتح يَا اسكندر رسل الْمُلُوك إِلَيْك وَلَا تبسطهم الى مساءلكتك بِكَثْرَة استخبارك وَحسب الروسل إِيصَال مَا مَعَه من كتابٍ أَو رِسَالَة وَاعْلَم يَا اسكندر انك ان الزمت الْحجَّة لم يكن فِي ذَلِك فَخر وَإِن ألزمك خصمك ذَلِك عابك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الْبَاب الثَّامِن عشر أذكر فِيهِ من زَان مرسله بعبارته وَرفع من ملكه ببيانه وسفارته قَالَ اذا انفذك لَك فِي رِسَالَة إِلَى ملك آخر أَو عَدو لَهُ فاستمع مَا يَكْتُبهُ وصر إِلَى الْملك فاعرضه عَلَيْهِ فَإِذا رضيه سَأَلته أَن يُوقع عَلَيْهِ بِخَطِّهِ هَذِه رسالتي وَإِذا صرت إِلَى الْملك الآخر فاعرض عَلَيْهِ الرسَالَة من غير أَن تظهره على أَن عنْدك ذَلِك الرَّسْم فَإِذا أجابك حفظت مَا أجابك ثمَّ أثبت رِسَالَة الْملك الأول وَجَوَاب الْملك الثَّانِي فِي رسم ثمَّ اعرضه على الْملك الثَّانِي فَإِذا رضيه سَأَلته أَن يُوقع فِيهِ بِخَطِّهِ هَكَذَا أدّى إِلَيّ الرسَالَة وَهَذَا جوابي عَنْهَا فَإِنَّهُ رُبمَا اصْطلحَ الْملكَانِ وتناكرا ألفاظاً تقع الإحالة فِيهَا عَلَيْك فَيكون ذَلِك سَببا لعَظيم الإثارة من كتاب تصفية الأذهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حكى الْفضل بن مَرْوَان وَزِير المعتصم قَالَ كَانَت الرُّسُل من جِهَة الْمُلُوك اذا جائت بالهدايا جعل اخْتلَافهمْ إِلَيّ فَتكون المؤامرات فِيمَا يجْرِي مَعَهم من ديواني فَكنت أسأَل الرُّسُل عَن سيرة مُلُوكهمْ وأخبار عظمائهم فَسَأَلت رَسُول ملك الرّوم عَن سيرة ملكه فَقَالَ بذل عره وجرد سَيْفه فاجتمعت عَلَيْهِ الْقُلُوب مقةً ورغبة لَا يعسف دنده وَلَا يحرج رَعيته سهل النوال حزن النكال الرَّجَاء وَالْخَوْف معقودان فِي يَده قلت فَكيف حكمه قَالَ يرد الظُّلم ويردع الظَّالِم وَيُعْطِي كل ذِي حق حَقه فالرعية اثْنَان راضٍ ومغتبط قلت فَكيف هيبتهم لَهُ قَالَ يتَصَوَّر فِي الْقُلُوب فتغضي لَهُ الْعُيُون قَالَ فَنظر رَسُول ملك الْحَبَشَة إِلَى إصغائي إِلَيْهِ وإقبال عَيْني عَلَيْهِ فَقَالَ لِترْجُمَانِهِ مَا الَّذِي يَقُول الرُّومِي قَالَ يصف ملكهم وَحسن سيرته فَكلم الرتجمان بِشَيْء فَقَالَ الترجمان يَقُول ان ملكهم ذُو أناةٍ عِنْد الْقُدْرَة وحلمٍ عِنْد الْغَضَب وَذُو سطوة عِنْد المغالبة وَذُو عُقُوبَة عِنْد الاجترام قد يسر رَعيته جَمِيع نعْمَته وَقد يضرهم بعنيف عُقُوبَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فهم يراءونه ترائي الْهلَال جمالاً ويخافونه مَخَافَة الْمَوْت نكالاً قد وسعهم عدله وردعتهم سطوته وكيده لَا تمهنه مزحة وَلَا تؤيسه غَفلَة إِذا أعْطى أوسع وَإِذا عاقب أوجع فَالنَّاس اثْنَان راجٍ وخائف فَلَا الراجي خائب وَلَا الْخَائِف بعيد الأمل قلت فَكيف هيبتهم لَهُ فَقَالَ لَا ترفع الْعُيُون إِلَيْهِ أجفانها والأبصار إنسانها كَأَن رَعيته قطا رفرفت عَلَيْهَا صقور صوائد جَاءَ فِي سيرة المعتصم بِاللَّه أَنه وَجه رَسُولا إِلَى ملك الرّوم فَلَمَّا اجْتمع الرَّسُول بِالْملكِ وَرَأى هَيْبَة الرَّسُول وَكَثْرَة تجمله وَمَا صَحبه من الرحل والآلات الَّتِي لَا يكون مثلهَا إِلَّا لعظماء الْمُلُوك قَالَ لَهُ كم ترزق من مَال سلطانك أرتزق أَنا وَوَلَدي فِي كل شهر عشْرين ألف دِرْهَم أَو نَحْوهَا قَالَ فتحت فتحا قطّ كَانَ السُّلْطَان بِهِ معنياً قَالَ الرَّسُول لَا قَالَ الْملك نازلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 رجلا مَشْهُورا بالفروسية من اعداء سلكانك فَقتلته مجاولة قَالَ الرَّسُول لَا قَالَ فاستنقذت خَليفَة أَو ولي عهد وَقد لجج فِي مضيق أَو معركة لم يظنّ الْخَلَاص مِنْهَا فَوجدَ بإقدامك وَقد أحجم نظراؤك فرجه قَالَ الرَّسُول لَا قَالَ الْملك فَبِأَي شيءٍ تسْتَحقّ هَذَا الرزق الْكثير قَالَ الرَّسُول للْملك إِن للخلفاء خدما يتصرفون فِي انحاء الخدم لكلم طَائِفَة مذهبٌ يجتبون لَهُ ويحتملون عَلَيْهِ لَا يكلفون سواهُ وَلَا يُرَاد مِنْهُم غَيره فَمنهمْ من يعد للفتوح فَهُوَ يلبس السِّلَاح ويقود الجيوش وَمِنْهُم من يعد للْقَضَاء فَهُوَ يلبس المبردات والدنيات وَمِنْهُم مثلي من يصلح أَن توفده الْخُلَفَاء للملوك ويتحمل رسائلهم إِلَى مثلك من أهل الْجَلالَة وَالْقدر والسناء وَالذكر فلولا ثقتهم بِي وعلمهم بمناصحتي وصدقي فِيمَا أورد واؤدي صادرا وواردا لما رأوين أَهلا للتوجه فِيمَا تَوَجَّهت فِيهِ إِلَيْك وَقَلِيل لمثلي هَذَا الرزق مَعَ هَذَا التَّحَمُّل وَمَعَ هَذَا الْمحل من الْخلَافَة وَهِي من الْجَلالَة على مَا هِيَ فَسكت سكُوت معترف وَلم يقل فِي ذَلِك شَيْئا من كتاب تصفية الاذهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 حدث الداكني قَالَ كنت جَالِسا عِنْد الْحسن بن سهل وَعِنْده رَسُول ملك الخزر وَهُوَ يحدث عَن أختٍ للْملك يُقَال لَهَا خاتون قَالَ أصابتنا سنة احتدم شواظها علينا بحرارة المصائب وصنوف الْآفَات والنوائب فَفَزعَ النَّاس إِلَى الْملك فَلم يدر مَا يُجِيبهُمْ فَقَالَت لَهُ خاتون أَيهَا الْملك إِن خوف الله خلق لَا يخلق جديده وَسبب لَا يمتهن عزيزه وَهُوَ دَلِيل الْملك على استصلاح مَمْلَكَته وزاجره عَن استفاسادها وَقد رغب إِلَيْك رعيتك بِفضل الْعَجز عَن الالتجاء إِلَى من لَا تزيده الْإِسَاءَة إِلَى خلقه عزا وَلَا ينقصهُ الْعود بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِم ملكا وَمَا أحد أولى بِحِفْظ الْوَصِيَّة من الْمُوصي وَلَا بركوب الدّلَالَة من الدَّال وَلَا بِحسن الرِّعَايَة من الرَّاعِي وَلم تزل فِي نعْمَة لَا تغيرها نقمة وَفِي رضى لم تكدره سخطَة إِلَى أَن جرى الْقدر بِمَا عمي عَنهُ الْبَصَر وَذهل عَنهُ الحذر فسلب الْمَوْهُوب والسالب هُوَ الْوَاهِب فعد إِلَيْهِ بشكر النِّعْمَة وعذ بِهِ من فظيع النقمَة وَلَا تنسه ينْسك وَلَا تجْعَل الْحيَاء من التذلل للمعز المذل شركا بَيْنك وَبَين رعيتك فتستحق مَذْمُوم الْعَاقِبَة وَلَكِن مرهم ونفسك بِصَرْف الْقُلُوب إِلَى الْإِقْرَار بكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الْقُدْرَة وتذليل الألسن فِي الدُّعَاء بمحض الشُّكْر لَهُ فَإِن الْملك رُبمَا عاقت عَبده ليرجعه عَن سيء فعله إِلَى صَالح عمله وليبعثه على دائب شكره يحرز بِهِ فضل أجر فَأمر الْملك أَن تقوم فتنذرهم بِهَذَا الْكَلَام فَفعلت فَرجع الْقَوْم عَن بَابه وَقد علم الله مِنْهُم قبُول الْوَعْظ فَدرت عَلَيْهِم أخلاف الْخيرَات وَنزلت عَلَيْهِم بركَة السَّمَوَات وعادج ضيقهم فرجا وشدتهم انفساحاً أخبر الْوَاقِدِيّ قَالَ مَاتَ رَسُول ملك الرّوم بِدِمَشْق فِي زمن مُعَاوِيَة فوجحد فِي جيبه لوحٌ ذهبٌ مَكْتُوب فِيهِ حفراً إِذا ذهب الْوَفَاء نزل الْبلَاء وَإِذا مَاتَ الِاعْتِصَام عَاشَ الانتقام وَإِذا ظَهرت الخيانات قلت البركات وجد فِي سيرة المعتصم أَن باسيل ملك الرّوم أرسل إِلَيْهِ رَسُولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَكتب إِلَيْهِ من باسيل بن فلَان حَتَّى انتسب إِلَى ثَلَاثَة آبَاء أَو أَرْبَعَة مُلُوك إِلَى أَخِيه المعتصم إِن الْمُلُوك لم تزل يَغْزُو بَعْضهَا بَعْضًا ويعلو بَعْضهَا على بعض وَرُبمَا أتيت من وزراء السوء وَقد كَانَ منا بزبطرة مَا كَانَ وتبينت وَجه الْخَطَأ فِيهِ وَقد كلت لي بالصاع اصوعا فِيمَا فعلت بعمورية وَأَنا أَسَالَك بالطينة الْمُبَارَكَة الَّتِي أَنْت مِنْهَا ان تنعم كل وَاحِد مِنْهُم بِإِطْلَاق بطارقتي فَإِنَّهُم مائَة وَخَمْسُونَ بطريقاً وَأَنا أفتدي كل وَاحِد مِنْهُم بِمِائَة من الْمُسلمين وَقد تهادت الْمُلُوك قبلنَا وَقد وجهت مَعَ رَسُولي من الثِّيَاب الديباج المذهبة أَرْبَعِينَ ثوبا طول كل ثوب مِنْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعا فِي عرض عشْرين وَذكر سَائِر مَا أهداه وَصفته وارسل بذلك بطريقا وخادما وَجَمَاعَة مَعَهُمَا فَلَمَّا وصلوا أَخذ مُحَمَّد بن عبد الْملك الْكتب وتوصل إِلَى علم مَا تَضَمَّنت وردهَا بخواتيمها وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ مَشْغُول عَنْهَا فَكَانَت الْهَدِيَّة مَوْقُوفَة سِتَّة أشهر ثمَّ أذن للرسول فَدخل على الْملك فَلَمَّا رَآهُ المعتصم قَالَ ارانا أضررنا بك لطول مقامك قَالَ كلا إِن طول الْمقَام أوجب لي الذمام وَلم نزل نسْمع من حكمائنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أَن إبطاء الرَّسُول يُؤذن بالنجاح وَمَا ضرني مقَام قرب مِنْك وأشهدني نعم الله عنْدك فأعجب المعتصم بِمَا ترْجم لَهُ من كَلَام الرَّسُول وَقبل هديته فَأقبل عَلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات فَقَالَ لَهُ كم خراج بلدكم قَالَ أقل من مائَة ألف دِينَار فَقَالَ مُحَمَّد هَذَا غلَّة بعض ضيَاع أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الرَّسُول نَحن أحزم وَأحكم فِي بَاب الْخراج مِنْكُم أَنْتُم تستخرجون من النَّاس مَالا فتكسبون عداوتهم وتوغرون صُدُورهمْ وَيسْرق المَال عمالكم ويعطون عَلَيْهِ الأرزاق ثمَّ يحمل من بلد الى آخر فَيذْهب ويتخرم فِي الطَّرِيق وتحتاجون أَن يسلم إِلَى خَزَنَة وحراس ثمَّ تخرجه إِلَى رجالكم وَنحن جعلنَا خراجنا رجَالًا فكفينا هَذِه الْمُؤْنَة وصيرنا هَذَا الْمِقْدَار الَّذِي ذكرته لَك رسما للخراج لشلا يبطل اسْمه فأمنا عَدَاوَة النَّاس وحفظنا المَال وكفينا مَا أَنْتُم فِيهِ قَالَ الْمُؤلف فَسكت مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات وَلم يحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 جَوَابا إِلَى الرَّسُول وَقد كَانَ الْجَواب مُمكنا وَالْحجّة متوجهة عَلَيْهِ وَالْخَطَأ فِي القَوْل لَازِما لَهُ وَذَلِكَ أَن رجال الْحَرْب بِمَثَابَة الْجَوَارِح الَّتِي لَا يجوز أَن تمرن بِعَمَل من الْأَعْمَال وَلَا مهنة من المهن غير اختطاف الْأَرْوَاح وصيد الرِّجَال وإعمال الْحِيلَة فِي التَّسْلِيم من اللِّقَاء وَالْكر والفر وَفِي الْإِقَامَة والتحيز فَلَمَّا صَارَت الرّوم أهل تناية وَأَصْحَاب فدان وزراعة ومهن وصناعة نَشأ الْأَبْنَاء على مَا عَلَيْهِ الْآبَاء فركنوا إِلَى الدعة وهابوا الحروب ونكصوا عَن لِقَاء الْأَعْدَاء وصيد الرِّجَال وصاروا جمع الْعَصَا وخشوا الْفلس فحينئذٍ صَار الرجل الْوَاحِد من الْمُسلمين لَا يهاب لِقَاء الْجمع الْكثير من الرّوم وَله تسلط عَلَيْهِم واقتدار على تَفْرِيق جَمَاعَتهمْ هَذَا مُضَاف إِلَى مَا وعد الله بِهِ فِي كِتَابه من النَّصْر وَأَن الْمِائَة مِنْهُم غالبة للمائتين بعد أَن زَالَ حكم الْوَاحِد بِعشْرَة رَحْمَة وتخفيفاً ثمَّ صَار الْملك مِنْهُم لَا تتَعَلَّق بِهِ رَغْبَة اذ هُوَ قَلِيل الملا نزر الجباية فَلَمَّا أحست الرّوم بِعَدَمِ الرَّغْبَة امْتنعت من الخطار بأنفسها وَقل من يعلم للآخرة مِنْهُم وَإِنَّمَا تخاطر التماساً للمثوبة وَالْجَزَاء وَتحقّق العلج مِنْهُم أَنه إِذا أسر وَحصل فِي بِلَاد الْإِسْلَام يُؤمر أَو يَقُود ويعفى من كد التَّعَب ودأب النصب وَيصير بعد الذل عَزِيزًا وَبعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 المهنة والإذالة وادعاً مكرماً وَصَارَ مَا بأيدي الرّوم من الضّيَاع والإقطاع كَأَنَّمَا هُوَ كالملك لَهُم يَرِثهُ خلف عَن سلف وَالْحق الَّذِي لَا يجب لغيره شَيْء فِيهِ وَإِن غير اَوْ بدل على مَا شنتهم الْآن جَارِيَة من الْبَدَل فَإِنَّمَا ينْقل من مشتى إِلَى مصيف أَو ربيع إِلَى خريف وَصَارَ الْملك إِذا دَعَتْهُ ضَرُورَة إِلَى انتزاع بعض مَا فِي أَيْديهم كَانُوا الْعَدو الْحَاضِر المشارك فِي الدَّار غير الْمَأْمُون الضَّرَر والغوائل المطالب بالذحول والطوائل الْوَاضِح الْفساد العديم الرشاد فَكيف صَار أحكم من فعل الْمُسلمين فِي الْخراج وَقد كنت أعرف عَن الرّوم أَن أخس الرتب والمنازل عِنْدهم رُتْبَة الْكَاتِب وَأَن الشاكري أجل رُتْبَة مِنْهُ حَتَّى علمت الْآن قلَّة احتياجهم إِلَى من يحفظ الِارْتفَاع وَيحمل أعباء الْملك وتساوى كافتهم فِي البلادة وَقلة الْمَعْلُوم ولعمري إِن نوازع الرّوم وأغراضهم ودواعيهم وأوطارهم أقل من نفقات الْمُسلمين ودواعيهم وَلَو ألزم ملك الرّوم من فِي بِلَاده من الْمُؤَن والمغارم مَا يلْزم فِي بِلَاد الْمُسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لما قَامَت لَهُ قَائِمَة وَلَا حتاجوا إِلَى أحد أَمريْن إِمَّا احْتِيَاج أَمْوَال رعاياهم أَو التسلط على من يجاورهم وحيازة مَا فِي أَيْديهم إِلَيْهِم والرومي إِذا تجمل قطع الثَّوْب الديباج الَّذِي من عمل وزجته وَابْنَته وَأُخْته يُقيم على لابسه عشْرين سنة إِذا صانه من البذلة وَلَا عهد للرومي بالشرب والعصب والمعلم وَالْمذهب وَالْمُصَنّف والمنير وَلَا بِاسْتِعْمَال الرُّومِي والاصبهاني وَلَا بِرَفْع التوني الَّذِي يودع أنابيب الذَّهَب وَالْفِضَّة هَذَا مَا لَا عهد لملوكهم بِهِ فيكف لوضائعهم وَالْملك مِنْهُم وَغَيره يتساويان فِي اللبَاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 إِنَّمَا هُوَ الطلي والديباج والمسده وأوانيهم الذَّهَب وَلَو ابْتَاعَ أحد مُلُوكهمْ قحفاً خزفياً بِمِائَة دِينَار يلْحقهُ الصدع فَلَا يُسَاوِي درهما أَو من مخروط البلور ورفيع المحفور مَا إِذا بَات ندياً من المَاء أَو النَّبِيذ فِي غلافه تصدع وعادت الْقطعَة الَّتِي تَسَاوِي ألف دِينَار بالنزر الْيَسِير من الثّمن وَكَذَلِكَ الزّجاج الْمُحكم وَالْقلب سليم وغرائب الصيني من الصحون البلق والمشمشي والسواد والزمردي والخافقيات الفائقات والرشيدي الشفاف ولملح الطرائف هَذَا مَا لَا يتملكونه على الْأَمر الْأَكْثَر إِنَّمَا يهدى إِلَيْهِم ويسمعون بِذكرِهِ فَأَما الفروش عِنْدهم فَمن صنعتهم أَيْضا إِنَّمَا هِيَ الديباج والطنافس والقطف والبزيون فَأَما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 طميم القرقوبي وَمذهب الدبيقي ورفيع الخسرواني فتفرد بلكه مُلُوك الْإِسْلَام وأغذية الرّوم الشواء والصليق وأكثرها فِي صيدهم مِمَّا فِي مروجهم من الطير وَالدَّوَاب وَلَوْلَا الإطالة لاستقصيت القَوْل فِي المصارفة وَالْهِدَايَة إِلَى طرق اللؤم والنذالة الَّتِي جعلهَا الله وَقفا عَلَيْهِم دون الْأُمَم فَهِيَ فيهم جمة كَثِيرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الْبَاب التَّاسِع عشر فِي من دفع من الْمُلُوك إِلَى مضيق من جَوَاب رَسُول فألهمه الله تَعَالَى الصَّوَاب ووفقه فِي الْجَواب جَاءَ فِي سيرة المصور بِاللَّه أَنه ورد عَلَيْهِ من طاغية الرّوم رسل كثير بلغ من دهاء بَعضهم وفطنتهم أَن أَخذ الْمَنْصُور من رَأْيه وَاسْتعْمل مشورته واجتهد بَعضهم فِي إلصاق عيب بالمنصور فِي محاورته فألهم الله الْمَنْصُور من سدادج الْجَواب وَبَيَان الْحجَّة مَا لَيْسَ فِي وسع أحد أَن ينْطق بِهِ إِلَّا عَن إلهام وتوفيق أما الأول فَإِن الْمَنْصُور أَمر بعض ثقاته أَن يطوف مَعَه فيريه مدينته ويوقفه على مبانيه وممالكه فَلَمَّا نظر إِلَى ذَلِك كُله وَأَعَادَهُ إِلَى الْمَنْصُور قَالَ للرومي كَيفَ رَأَيْت مَا شاهدت قَالَ كل مَا رَأَيْت جليل نبيل إِلَّا ثَلَاثَة أَشْيَاء قَالَ مَا هِيَ قَالَ النَّفس خضراء وَلَا خصرة لَك وَالْمَاء حَيَاة وَلَا حَيَاة لَك وعدوك مَعَك يَعْنِي السوقة وَكَانَت السُّوق مُخَالطَة لقصره قَالَ الْمَنْصُور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 اما الخضرة فَإِنِّي خلقت للحد لَا للهزل وَأما المَاء فحسبي مِنْهُ مَا بل الشّفة وروى الصَّدْر وَأما مجاورة الْعَوام فَمَا أُبَالِي أَن يطلع على سري خاصتي وعامتي لِأَنِّي لَا أَنِّي فِيهِ واخصنه فَلَمَّا انْصَرف الرَّسُول تعقب الرَّأْي وتبينه فَعلم أَن الصَّوَاب فِيمَا قَالَه الرَّسُول فعمر العباسية وَكَانَ يطلّ عَلَيْهَا وأجرى من كرخايا وَغَيره مَا أجراه وَنقل السُّوق إِلَى الكرخ وَأما الرَّسُول الآخر فَإِنَّهُ طيف بِهِ أَيْضا فَرَأى على الجسر خلقا من ذَوي الزمانة والعاهة يتصدقون ويسألون فَقَالَ الرَّسُول للربيع وَكَانَ مَعَه مَا فِي ملك صَاحبك عيب غير أَمر هَؤُلَاءِ الزمنى وَقد كَانَ يجب أَن يُرَاعى أَمرهم حَتَّى لَا يجْتَمع عَلَيْهِم مَعَ الزمانة الْفقر والمسئلة فَقَالَ الرّبيع لم يذهب ذَلِك عَنهُ وَلَكِن بيُوت الْأَمْوَال لَا تتسع لذَلِك وَبلغ الْمَنْصُور مَا جرى بَينهمَا فاغتاظ على الرّبيع فَلَمَّا حَضَره الرَّسُول قَالَ بَلغنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 مقالك للربيع آنِفا وَلَيْسَ الْأَمر على مَا أجابك بِهِ وَقد كَانَ فِي مَالِي مَا يسعهم ويوفي عَليّ سد مفارقهم وَلَكِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أفكر فِي أَمرهم فَأحب أَلا يستأثر على سَائِر رَعيته مِمَّن صحّح الله جِسْمه وَبسط يَده بِملك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وثوابها فَترك لَهُم سَبِيلا إِلَى الصَّدَقَة واصطناع الْعرف ونصيباً فِي ابْتِغَاء الثَّوَاب بالإفضال فعقد العلج ثَلَاثِينَ وَقَالَ وَقد أومى إِلَى الأَرْض قالون قالون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الْبَاب الْعشْرُونَ من عجل من الْمُلُوك إِلَى سفه فِي الْمُكَاتبَة فَكَانَ حلم من كَاتبه اوجع لَهُ مِمَّا جناه على مكَاتبه جَاءَ فِي السِّيرَة أَن هِشَام بن عبد الْملك كتب إِلَى ملك الرّوم كتابا كَانَ عنوانه من هِشَام بن عبد الْملك أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى الطاغية ملك الرّوم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الْكتاب وقرا العنوان قَالَ مَا ظَنَنْت أَن الْمُلُوك الْعُقَلَاء يسبون وَمَا يُؤمنهُ أَن أكتب إِلَيْهِ من ملك الرّوم الى الْملك المذموم الاحول المشئوم وَأعَاد الْكتاب وَلم يفضه وَلَا قَرَأَهُ ثمَّ سَار عَقِيبه فشعث بِلَاد الْإِسْلَام كتب نقفور ملك الرّوم إِلَى هَارُون الرشيد بعد أَن استولى على مملكة الرّوم من نقفور ملك الرّوم إِلَى هَارُون ملك الْعَرَب أما بعد فَإِن الملكة الَّتِي كَانَت قبلي أقامتك مقَام الرخ وأقامت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 نَفسهَا مقَام البيدق فَحملت إِلَيْك من أموالها مَا كنت حَقِيقا أَن تحمل إِلَيْهَا أَمْثَاله لَكِن ذَاك من ضعف النِّسَاء وحمقهن فَإِذا قَرَأت كتابي فاردد مَا حصل قبلك من أموالها وافتد نَفسك بِمَا تقع المصادرة عَلَيْهِ وَإِلَّا فالسيف بيني وَبَيْنك فَلَمَّا قَرَأَ الرشيد الْكتاب استفزه الْغَضَب حَتَّى لم يقدر أحد ان ينظر اليه دو أَن يخاطبه واستعجم الْأَمر على الْوَزير من أَن يُشِير عَلَيْهِ أَو يتْركهُ يستبد بِرَأْيهِ فَدَعَا بِدَوَاةٍ وَكتب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من هَارُون الرشيد إِلَى نقفور ملك الرّوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قَرَأت كتابك يَا ابْن الْفَاجِرَة وَالْجَوَاب مَا ترَاهُ دون أَن تسمع بِهِ وَالسَّلَام وشخص لوقته حَتَّى أَنَاخَ على هرقلة فَفتح وغنم وَاصْطفى وَأفَاد وأحرق وَاصْطلمَ فَطلب نقفور الْمُوَادَعَة على خراج يُؤَدِّيه فِي كل سنة فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك فَلَمَّا رَجَعَ عَن غزوته وَصَارَ بالرقة نقض نقفور الْعَهْد وخان الْمِيثَاق عَمَّا أَخذ عَلَيْهِ فَمَا تهَيَّأ لأحد إخْبَاره بذلك إشفاقاً عَلَيْهِ وعَلى أنفسهم من الكرة فِي مثل تِلْكَ الْأَيَّام فاحتال وزيره يحيى بن خَالِد بشاعر من أهل جنده يكنى أَبَا مُحَمَّد وَيُسمى عبد الله بن يُوسُف فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 (نقض الَّذِي أَعْطيته نقفور ... وَعَلِيهِ دَائِرَة الْبَوَار تَدور) (أبشر أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ ... غنم أَتَاك بِهِ الْإِلَه كَبِير) (فتحٌ يزِيد على الْفتُوح مؤيدٌ ... بالنصر فِيهِ لواؤك المنشور) (فَلَقَد تباشرت الرّعية أَن اتى ... باغدر مِنْهُ وافدج وَبشير) (ورجت يَمِينك ان عجل غَزْوَة ... تشفي النُّفُوس مَكَانهَا مَذْكُور) (نقفور إِنَّك حِين تَغْدُو أَن نأى ... عَنْك الإِمَام لجَاهِل مغرور) (أظننت حِين غدرت أَنَّك مفلتٌ ... هبلتك أمك مَا ظَنَنْت غرور) وَقَالَ ابو الْعَتَاهِيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 (تجبلت الدُّنْيَا لهارون بِالرِّضَا ... وَأصْبح نقفور لهارون ذِمِّيا) وَقَالَ غَيره (لجت بنقفور أَسبَاب الردى عَبَثا ... لما رَأَتْهُ بغيل اللَّيْث قد عَبَثا) وَكتب باسيل بن إليون ملك الرّوم إِلَى المعتصم أَمِير الْمُؤمنِينَ يسفه عَلَيْهِ ويتوعده ويتهدده فَأمر بإجابته فَكل عمل لَهُ سنخة طولهَا وَاسْتوْفى مَعَانِيهَا وَاحْتج عَلَيْهِ من كِتَابه بِمَا فسخ بِهِ دَعْوَاهُ وأبطل عَلَيْهِ مَا حَكَاهُ فَلَمَّا قُرِئت عَلَيْهِ النّسخ استطولها وَقَالَ ليكتب إِلَيْهِ بِمَا أَنا ممليه وَهُوَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أما بعد فقد قَرَأت كتابك وفهمت خطابك وَالْجَوَاب مَا ترى لَا مَا تسمع بِهِ وَسَيعْلَمُ الْكَافِر لمن عُقبى الدَّار وَسَار تلو كِتَابه فخرب بِلَاده وسبى رَعيته وَاسْتولى على أَكثر مَمْلَكَته وَلَو لم ينخع لَهُ بِالطَّاعَةِ لأتى على نَفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الْبَاب الْحَادِي وَالْعشْرُونَ أذكر فِيهِ نَوَادِر جَاءَت فِي الرسَالَة ونبذاً من حيل الْمُلُوك على الْمُلُوك حسداً لَهُم على إِصَابَة رسلهم للصَّوَاب بِهِ ختمت الْكتاب من خدناماه الْكَبِير كَانَت مُلُوك الْفرس إِذا وَفد عَلَيْهَا رَسُول اشْترطت عَلَيْهِ ارْبَعْ خِصَال وسماحته بِمَا بعدهن مِمَّا عساه أَن توقعه فِيهِ الاقدرا وَهِي أَلا يكذب الْملك فَإِن الكذوب لَا رَأْي لَهُ وَألا يجِيبه عَمَّا لَا يسْأَله عَنهُ فَإِنَّهُ دليلٌ على الموق وَسُوء الْأَدَب وَلَا يمدحه فِي وَجهه بِمَا بخالف أَفعاله فَإِن فِيهِ اسْتِخْفَافًا بِهِ ونصرة على لُزُوم مَا لَا يجمل من الْأَفْعَال وَلَا يحرشه على الرّعية فَإِنَّهَا إِلَى حسن الرَّأْي فِيهَا احوج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَكَانَ زِيَاد بن أَبِيه شَرط على رسله النافذة برسائل إِلَى الْبلدَانِ أَن يَقُول لَا يحملك اُحْدُ رِسَالَة الا ابلغتنيها وَلَا يكلمك أحد فِي حَاجَة إِلَّا رفعتها إِلَيّ فَسئلَ عَن ذَلِك من فعله فَقَالَ التَّبَرُّع بالأخبار تقع عَنهُ الْفَوَائِد الْعَظِيمَة وَأنْشد بَين طرفَة (ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزَود) قَالَ رَسُول ملك الرّوم لعمر رَضِي الله عَنهُ وَقد طلبه فَوَجَدَهُ نَائِما فِي الْمَسْجِد عدبت فأمنت فَنمت وجرنا فخفنا فحرسنا وَجه عبد الْملك بن مَرْوَان الشّعبِيّ برسالة إِلَى ملك الرّوم بِكِتَاب فَأعْطَاهُ الْجَواب وَدفع إِلَيْهِ رقْعَة مختومة وَقَالَ لَهُ إِذا أدّيت الْجَواب وأوصلت الْكتاب فأعط صَاحبك هَذَا الكتيب فَلَمَّا انْصَرف الشّعبِيّ وَأدّى وأوصل وَأَرَادَ الِانْصِرَاف ذكر الرقعة وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَملَنِي رقْعَة وَقَالَ كَيْت وَكَيْت فَقَالَ عبد الْملك لَعَلَّهَا كيدةٌ من كيداتهم هَاتِهَا فَدَفعهَا إِلَيْهِ فَلَمَّا فضها قَرَأَهَا الذا فِيهَا الْعجب لقوم فيهم مثل هَذَا كَيفَ يملكُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 غَيره فَلَمَّا وقف الشّعبِيّ على مَا تَضَمَّنت الرقعة خلع عقله واستطار لبه وَأظْهر بلهاً ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا كَبرت فِي عَيْنَيْهِ لِأَنَّهُ لم يَرك وَلَو رآك لاستحقرني فَقَالَ لَهُ أَحْسَنت يَا شعبي وَلَكِن أَتَدْرِي مَا أَرَادَ بِمَا كتب قلت لَا قَالَ حسدني عَلَيْك فَأَرَادَ أَن يغريني ويحملني على قَتلك وَجَاء فِي أَخْبَار بَغْدَاد أَن جرير بن إِسْمَاعِيل البَجلِيّ بَعثه الْمَنْصُور برسالة إِلَى سُلَيْمَان بن عَليّ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ قَالَ فَأَجَازَهُ بِثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم فَقَالَ لَهُ جرير أعز الله الْأَمِير تجيزني بِهَذَا مَعَ طول الشقة وَتحمل الْمَشَقَّة قَالَ لَهُ سُلَيْمَان هِيَ جَائِزَة عمك خَالِد إيَّايَ حِين أَتَيْته برسالة من هِشَام قَالَ جرير إِن أقرّ الْأَمِير ان بني هَاشم بجيلة قبلت الثَّلَاثَة فَضَحِك وَأمر لي بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم قَالَ الشَّاعِر فِي مدح رَسُوله (أَقُول لأيمنٍ وَمضى رَسُولا ... مَعَ الْيمن السَّعَادَة والنجاح) (وأيمن حَيْثُ أم أَتَى بنجحٍ ... وقابله من الْأَمر الْفَلاح) (وَمَا كذب الرَّجَاء لَهُ غدوٌ ... حميدٌ فِي الْأُمُور وَلَا رواح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَقَالَ البحتري يصف رَسُوله (وَكَأن الذكاء يبْعَث مِنْهُ ... فِي سَواد الْأُمُور شعلة نَار) وَقد قررت فِي أول هَذَا أَن الْكتاب رَسُول وَالْقلب مرسله وَأَنَّهُمْ أَجمعُوا على أَن يكون الرَّسُول حسن الْوَجْه وَالِاسْم والكنية وَالْعشيرَة وَجَاء فِي أَخْبَار مصر أَن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان لما تقلدها وَدخل فصل الشتَاء هرب خيفة من الوباء إِلَى حلوان وتديرها قاطناً يها واستخلف على مصر مُعَاوِيَة بن حديج فَاحْتَاجَ إِلَى بعض الْأَمر فأنفذ إِلَيْهِ رَسُولا لم يكن على الشَّرَائِط المقررة فَقَالَ لَهُ عبد الْعَزِيز مَا اسْمك قَالَ أَبُو طَالب فتطير بِهِ وَقَالَ يَا عاض بظر أمه أَسأَلك عَن اسْمك فتكنى فَقَالَ اسْمِي مدرك قَالَ مِمَّن قَالَ من بني لَاحق فتطير بِهِ وباسمه وكنيته وعشيرته وتغيظ على مُعَاوِيَة بن حديج فَحم لوقته وساعته فَكَانَ هَذِه الْعلَّة هَلَاكه قَالَ حَكِيم يوناني إِذا ارسلك السطان فِي رِسَالَة فَلَا تزد فِي رسَالَته وَلَا تزل عَن نصيحته وَلَا تؤثره على الْحق وَلَا تعدل عَن الصدْق وَلَا يحملك تَقْصِير الْمُرْسل إِلَيْهِ على أَن تحكي عَنهُ مَا لم يقل وتنسب إِلَيْهِ مَا لم يفعل فَإنَّك لَا تَخْلُو فِي ذَلِك من فِرْيَة تقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 لسَانك وخيانة تضر سلطانك فأحفظ رَأسك من عَثْرَة لسَانك وَاجعَل لدينك من دنياك نَصِيبا وَكن من نَفسك على نَفسك رقيباً وصير لكل جارحة من جوارحك زماماً من الْعقل وَالنَّهْي ولجاماً من الْوَرع والتقى واذا علمت على إرْسَال رَسُول تستنصحه فاختبر فهمه وفطنته واستبر دينه وأمانته وألزمه الْوَفَاء والعفة وجنبه الْإِكْثَار والخفة وحذره أَن يُزِيلهُ عَن جميل الصدْق اَوْ سَبِيل الْحق عَاجل بر وإكرام وتبجيل وإعظام فَإِن كذب الرَّسُول يفوت المُرَاد ويولد الْفساد وَيبْطل الحزم وينقض الْعَزْم وَاعْلَم أَنه مَوْسُوم بعقله وموزون بِفِعْلِهِ وَأَن معايب الرُّسُل ومعايرهم أفحش من معايبك ومعايرك ومناقبهم ومآثرهم أحسن من مناقبك ومآثرك لِأَن بهم يسْتَدلّ على مِقْدَار معرفتك بمقادير الرِّجَال وَيُوقف على كَيْفيَّة تصرفك بمصاريف الْأَعْمَال فَأحْسن الِاخْتِيَار لَهُم والاستظهار عَلَيْهِم وَاعْلَم أَنهم أساس الْملك وحراسه فَلَا تغفل مُرَاعَاة أَحْوَالهم وَلَا تمهل مُكَافَأَة أفعالهم وَأول المحسن مَا يسْتَحقّهُ بِحسن الْوَفَاء والمسيء مَا يستوجبه من سوء الْجَزَاء ليتصرفوا على الْأَمَانَة ويتعففوا عَن الْخِيَانَة إِن شَاءَ الله وَجَاء فِي سيرة الْمَأْمُون أَنه أرسل رَسُولا إِلَى ملك الرّوم فَلَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وصل إِلَيْهِ وأوصل مَا صَحبه من الْكتب وَأقَام أَيَّامًا استأذنه فِي الدُّخُول إِلَى الأسرى فَأذن لَهُ فَدخل إِلَيْهِم وسألهم عَن أخبارهم فأعلموه مَا هم عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج عَنْهُم قَامَ إِلَيْهِ رجلٌ من أهل بَغْدَاد وأنشده أبياتاً وَسَأَلَهُ أَن ينشدها الْمَأْمُون والأبيات 0 - خرجنَا من الدُّنْيَا فلسنا من أَهلهَا ... ولسنا من الْأَحْيَاء فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى) (أَلا أحد يرثي لأهل محلّة ... بِأَرْض بِلَاد الرّوم فِي ضنكها أسرى) (كَأَنَّهُمْ لم يعرفوا غير أسرهم ... وَلم يعرفوا إِلَّا الشدائد والبلوى) (طوى عَنْهُم الْأَخْبَار قصرٌ ممنع ... لَهُ حارس تهدا الْعُيُون وَمَا يهدا) (اذا دخل الشجان يَوْمًا لحَاجَة ... فرحنا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا من الدِّينَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 (ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا ... إِذا نَحن أَصْبَحْنَا الحَدِيث عَن الرُّؤْيَا) (فَإِن حسنت لم تأت عجلى وأبطأت ... وَإِن سمجت جَاءَت على عجلٍ تترى) فَلَمَّا وصل الرَّسُول إِلَى الْمَأْمُون فأنشده الأبيات أبكاه وأحزنه فافتتحه واستنقذهم وَفتح بعد ذَلِك من بِلَاد الرّوم مدناً جليلة وحصوناً منيعة واستباح قلاعاً شاهقة وقفل من بِلَاد الرّوم إِلَى مصره قَالَ الشَّاعِر فِي تخير الرَّسُول وانتخابه وَترك التسمح فِيهِ (إِن الرَّسُول مَكَان رَأْيك فالتمس ... للرأي آمن من وجدت وأنصحا) (تأبى الْأُمُور على الغبي فَإِن سعى ... فِيهَا الذكي فبالحرا أَن تصلحا) (فَإِذا تخيرت الرَّسُول فَلَا تكن ... متجوزا فِي اره متسمحا) (وتوخ فِي حسن اسْمه وروائه ... قَول النَّبِي تيمنا وتنجحا) (واجعله إِمَّا مَاضِيا أَو نَافِذا ... أَو ياسراً أَو منجحاً أَو مفلحا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَقَالَ الآخر يمدح رَسُوله وَيذكر حرصه واجتهاده ويمنه وبركته (مبشراً فِي حَيْثُ وجهته ... من المناجيح الميامين) (كَأَن مَا يَقْضِيه من حَاجَة ... ابعثه فِيهَا لَهُ دوني) فَقَالَ شَارِع الْعَرَب فِي إفهام الرَّسُول وصاته وتكرير القَوْل عَلَيْهِ إِلَى أَن يلقنه ويفهمه (إِذا أرْسلت فِي أَمر رَسُولا ... فأفهمه وأرسله أديبا) (وَلَا تتْرك وَصيته بِشَيْء ... وَإِن هُوَ كَانَ ذَا عقل لبيبا) (فَإِن ضيعت ذَاك فَلَا تلمه ... على أَن لم يكن حفظ الغيوبا) كتب بعض الظرفاء إِلَى بعض إخوانه كتابا وصف فِيهِ رَسُولا فِي فصل مِنْهُ وَقد رسمت بيني وَبَيْنك فِي النَّقْل إِلَيْك عني وإلي عَنْك لطيفاً ظريفا لَو كن عُفيَ عين لما قذيت أَو على يمامة لما تأودت تفهمه اللحظة ويلقن الاشارة ويتغني عَن الْعبارَة لَا يردهُ حجاب وَلَا يغلق عَنهُ بَاب أرق من الْهوى وأخفى من الطيف فِي الْكرَى إِن رَأَيْته مغضباً رضيت أَو محفظاً عَفَوْت أَو مهموماً سلوت وَكتب اسفل كِتَابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 (أكْرم رَسُولي فَإِنَّهُ أذنٌ ... تسمع عني ومقلةٌ تنظر) (أدنو من النازح الْبعيد بِهِ ... وَلم أغب عَن جَمِيع مَا يحضر) (مَا نَدم اثْنَان ظلّ بَينهمَا ... بالرفق واللطف عاقلٌ يسفر) وَقَالَ الآخر فِي الْإِسْرَاع بِرَسُولِهِ (جعلت فداءك لَا تحبسن ... رَسُولي إِلَيْك وَلَا تخلفن موعدي 9 (وَلَا ترجعن رَسُولي إِلَيْك ... رُجُوع رَسُول أبي الْأسود) وَقَالَ الآخر (إِن تشق عَيْني بهَا فقد سعدت ... عين رَسُولي وفزت بالْخبر) (وَكلما جَاءَنِي الرَّسُول لَهَا ... رددت عمدا فِي طرفه نَظَرِي) (تظهر فِي وَجهه محاسنها ... قد أثرت فِيهِ أحسن الْأَثر) (خُذ مقلتي يَا رَسُول عَارِية ... فَانْظُر بهَا واحتكم على بَصرِي) وَقَالَ الآخر فِي الْمَعْنى وَزَاد زِيَادَة ملح بهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 (بَعَثْتُك مشتاقا ففزت بظرة ... وأغفلتني حَتَّى أَسَأْت بك الظنا) (وناجيت من اهوى وَكنت مقربا ... فياليت شعري عَن لقائك مَا أغْنى) (وأمرحت طرفا فِي محَاسِن وَجههَا ... ومتعت باستسماع نغمتها أذنا) (فياليتني كنت الرَّسُول وكنتني ... فَكنت الَّذِي يقصى وَكنت الَّذِي يدنى) وَقَالَ آخر (هجر الرَّسُول بهجر مرسله ... فقيت لَا عينا وَلَا اثر) (صحت نصيحته لمرسله ... فَأرَاهُ بهجر كلما هجرا) وَاسْتَأْذَنَ الْمَدِينِيّ فِي تَوْجِيه رَسُول فلمح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 (ائذني للرسول يَأْتِيك مني ... بِكِتَاب وَلَا تردي جوابي) (فلعمري مَا حسرتي مِنْك إِن قا ... سيت فِيك الْعَذَاب دون الْعَذَاب) (إِنَّمَا حسرتي تذكر مَا بِي ... من بلاءٍ وَلَيْسَ تدرين مَا بِي) (واعلميه وَلَا تثيبي عَلَيْهِ ... أَنا راضٍ بِالْعلمِ دون الثَّوَاب) وَقَالَ شَاعِر الْعَرَب (إِذا أرسلوني عِنْد تَقْدِير حَاجَة ... أمارس فِيهَا كنت نعم الممارس) (ونفعي نفع الموسرين وَإِنَّمَا ... سوامي سوام المقترين المفالس) وَقَالَ الآخر وَقد خَافَ أَن يُعَاد إِلَيْهِ رَسُوله بِغَيْر مَا أربه (يَا سوء مُنْقَلب الرسو ... ل مخبري بِخِلَاف ظَنِّي) (إِنِّي أُعِيذك أَن تكو ... ن شغلتني وشغلت عني) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَقَالَ اخر (وَابعث رَسُولا فِي ملاطفةٍ ... قد أحكمت أَحْكَامه الْحِيَل) (مِمَّن عَلَيْهِ غباوةٌ وَترى ... أَفعاله كالنار تشتعل) وَجَاء فِي أَخْبَار الشّعبِيّ أَنه قَالَ قَالَ لي ملك الرّوم لما شيعني وَقد قفلت من عِنْده كنت أحب أَن أَسأَلك عَن ثَلَاث وكا حسن حَدِيثك يَمْنعنِي من ذَلِك قلت فليسألني الْملك الْآن عَمَّا احب قَالَ خضابك هَذَا حِين غيرته الا رَددته الى شجيته وسنخه الأول أَو تركته كَمَا غَيره الله تبَارك وَتَعَالَى قلت الْجَواب عَن هَذَا السُّؤَال أَن هَذِه سنة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْملك سنَن الْأَنْبِيَاء لَا مترك لَهَا وَلَا احتجاج عَنْهَا قَالَ الْملك فَهَل للْعَرَب من الْأَمْثَال مثل أَمْثَال الْعَجم قلت نعم قَالَ فعرفني مِنْهَا مثلا وَاحِدًا قلت ابْن آدم إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت قَالَ هَذَا الَّذِي لَا يُشبههُ مثل قَالَ فَأَخْبرنِي أَيّمَا أفضل أَنْت أم أَبوك قلت أبي أفضل مني قَالَ فَمن أفضل انت ام ابْنك قلت انا الضل من ابْني قَالَ هَكَذَا تَجِد صفتكم أَن الآخر فالآخر شَرّ حَتَّى يكون الآخر بِمَنْزِلَة الْكلاب قَالَ قلت فَإِن ابْن عَم نَبينَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 عبد الله بن الْعَبَّاس يروي عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ سَيَجِيءُ فِي آخر الزَّمَان أَقوام تكون وُجُوههم وُجُوه الْآدَمِيّين وَقُلُوبهمْ قُلُوب الشَّيَاطِين أَمْثَال الذئاب الضواري لَيْسَ فِي قُلُوبهم شَيْء من الرَّحْمَة سفاكون للدماء لَا يرعوون عَن قَبِيح إِن تابعتهم واربوك وَإِن تواريت عَنْهُم اغتابوك وَإِن حدثوك كَذبُوك وَإِن ائتمنتهم خانوك صبيهم عَارِم وشابهم شاطر وشيخهم لَا يَأْمر بِمَعْرُوف وَلَا يُنْهِي عَن مُنكر الاعتزاز بهم ذلٌ وَطلب مَا فِي أَيْديهم فقر الْحَلِيم فيهم غاوٍ والآمر بِالْمَعْرُوفِ مُتَّهم وَالْمُؤمن مستضعف وَالْفَاسِق فيهم مشرف السّنة فيهم بِدعَة والبدعة سنة فعندئذ يُسَلط الله عَلَيْهِم شرارهم وَيَدْعُو خيارهم فَلَا يُسْتَجَاب لَهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قَالَ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد قد أكثرت من الايجاز والاقتصار وَذَلِكَ انني اكثرت رَسُول الْأَبْوَاب وقللت مَا ضمنتها لِأَن الثَّابِت إِذا فاد الْمَعْلُوم أغْنى عَن التكرير والإعادة وَلم أرو فِي كل بَاب إِلَّا الْفَقْرَة المفردة وَالْخَبَر الْمُنْقَطع وَلم أقو الْحجَج وَأَعْتَرِض على الْأَقْوَال إيثاراً مني لترك التَّطْوِيل وعلماً مني بِأَن الْيَسِير يُغني عنْدك عَن الْكثير لِأَنَّك بِحَمْد الله مِمَّن نَشأ فِي دواوين الْأَدَب وربي فِي حجور الْعلمَاء واغتذى بالعلوم وارتاض بالفكر والفطن وغني بِالْإِشَارَةِ عَن الْعبارَة والتلويح عَن التَّصْرِيح وَالله يجمل الزَّمَان ببقائك ويدافع لنا عَن مهجتك وحوبائك ويبقيك علما للْعلم وينبوغا للفهم مَا أظلم ليل وأضاء نَهَار وَمَا غردت على أيكها الأطيار بغالب القضيته ونافذ مَشِيئَته ان شَاءَ الله تَعَالَى الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وَرَضي الله عَن الصَّحَابَة اجمعين بتاريخ سلخ شهر الْمحرم اول سنة 790 من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة على صَاحبهَا افضل الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96