الكتاب: تهذيب الرياسة وترتيب السياسة المؤلف: أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن القَلْعي الشافعي (المتوفى: 630هـ) المحقق: إبراهيم يوسف مصطفى عجو الناشر: مكتبة المنار - الأردن الزرقاء الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تهذيب الرياسة وترتيب السياسة القَلْعي الكتاب: تهذيب الرياسة وترتيب السياسة المؤلف: أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن القَلْعي الشافعي (المتوفى: 630هـ) المحقق: إبراهيم يوسف مصطفى عجو الناشر: مكتبة المنار - الأردن الزرقاء الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِاللَّهِ أَثِق وَعَلِيهِ أتوكل وَالْحَمْد لله حمدا كثيرا دَائِما متواترا متواصلا مترادفا متكاثفا متظاهرا متظافرا حمد من اعْترف ببره وآلائه شاكرا وَسلم لقدره وقضائه صَابِرًا وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ إِلَهًا وَاحِدًا أَولا آخرا صمدا قيوما بَاطِنا ظَاهرا حَيا مرِيدا عَالما قَادِرًا سميعا بَصيرًا ناهيا وآمرا وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ابتعثه ليعمر من الدّين دائرا وينعش من الْحق عابرا وَيقطع من الْكفْر دابرا ويغيض من الضَّلَالَة بحرا زاخرا فَلم يزل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحسام الْإِسْلَام شاهرا وبإعلان الْحق مجاهرا ولجهاد أهل العناد مصابرا وَعَن عبَادَة الْأَصْنَام والأوثان زاجرا حَتَّى عَاد ربع الدّين عَامِرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وأضاء فلك الْيَقِين دائرا وَرجع الْكفْر والضلال إِلَى الثَّبَات والحسار داحرا صلى الله عَلَيْهِ وَآله مَا انهل النوء السماكي ماطرا وحدى العيس حاديها واردا وصادرا وَبعد فَهَذَا الْكتاب جمعته فِي تَهْذِيب الرياسة وترتيب السياسة وَجَعَلته قسمَيْنِ الْقسم الأول مِنْهُ يشْتَمل على أَنْوَاع أَبْوَاب يحتوي على غرر من كَلَام الْحُكَمَاء ودرر الفصحاء مَا ينسبك فِي قالب الْأَمْثَال الشاردة وينتظم فِي سلك الحكم الْوَارِدَة يتَضَمَّن محَاسِن الْأَوْصَاف المحمودة من ذَوي الْأَمر وذم أضدادها وَمَا يجب اسْتِعْمَاله أَو تَركه من الْأُمُور الَّتِي يحمد متبعها عَاقِبَة إصدارها وإيرادها وَالْقسم الثَّانِي بحكايات من الْخُلَفَاء ووزرائهم وعمالهم وأمرائهم مِمَّا يدل على نبلهم وغزارة فَضلهمْ وَحسن سيرتهم وَكَمَال مروءتهم وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ طرائقهم وحوتة خلائفهم من الْعدْل والإنصاف والبذل والإسعاف وَالْعَفو عِنْد الاقتدار وَمَعْرِفَة حُقُوق ذَوي الأقدار وَقبُول النصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 من الناصحين وَسَمَاع الموعظة من الصَّالِحين مَعَ مَا اتصفوا بِهِ من علم وأدب ووقار وحلم وفصاحة وبراعة وسماحة وشجاعة فَمن اتخذ ذَلِك إِمَامًا ارْتَفع وانتفع وَمن عمل بِمَا شاكله رشد وَحمد وَقد ابتدأت ذَلِك بِذكر وجوب الْإِمَامَة وَعدم الِاسْتِغْنَاء عَن الْوُلَاة وَمَا يجب لَهُم على الكافة من الطَّاعَة والموالاة وَالله تَعَالَى الْمُوفق لانتظامه والتيامه والمعين على إِتْمَامه واختتامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بَاب فِي ذكر وجوب الْإِمَامَة والاحتياج إِلَى السُّلْطَان وَعدم الِاسْتِغْنَاء عَنهُ فِي جَمِيع الْأَزْمَان أَجمعت الْأمة قاطبة إِلَّا من لَا يعْتد بِخِلَافِهِ على وجوب نصب الإِمَام على الْإِطْلَاق وَإِن اخْتلفُوا فِي أَوْصَافه وشرائطه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فَأَقُول نظام أَمر الدّين وَالدُّنْيَا مَقْصُود وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا بِإِمَام مَوْجُود لَو نقل بِوُجُوب الْإِمَامَة لَأَدَّى ذَلِك إِلَى دوَام الِاخْتِلَاف والهرج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَو لم يكن للنَّاس ق 2 إِمَام مُطَاع لانثلم شرف الْإِسْلَام وَضاع لَو لم يكن للْأمة إِمَام قاهر لتعطلت المحاريب والمناظر وانقطعت السبل للوارد والصادر لَو خلا عصر من إِمَام لتعطلت فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الْأَحْكَام وضاعت الْأَيْتَام وَلم يحجّ الْبَيْت الْحَرَام لَوْلَا الْأَئِمَّة والقضاة والسلاطين والولاة لما نكحت الْأَيَامَى وَلَا كفلت الْيَتَامَى لَوْلَا السُّلْطَان لكَانَتْ النَّاس فوضى ولأكل بَعضهم بَعْضًا وَفِي الحَدِيث السُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ كل مظلوم وَقَالَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مَا يَزع الله بالسلطان أَكثر مِمَّا يَزع بِالْقُرْآنِ وَمعنى يَزع أَي يمْنَع ويكف ويردع وَقَالَ بعض القدماء الدّين وَالسُّلْطَان توأمان وَقيل الدّين أس وَالسُّلْطَان حارس فَمَا لَا أس لَهُ فمهدوم وَمَا لَا حارس لَهُ فضائع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ إِمَام عَادل خير من مطر وابل وَأسد حطوم خير من سُلْطَان غشوم وسلطان غشوم خير من فتْنَة تدوم وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار مثل الْإِسْلَام وَالسُّلْطَان مثل عَمُود وفسطاط فالفسطاط الْإِسْلَام والعمود السُّلْطَان والأوتاد النَّاس وَلَا يصلح بَعضهم إِلَّا بِبَعْض وَقَالَ الأفوه الأودي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 (لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا) (كالبيت لَا يبتنى إِلَّا لَهُ عمد ... وَلَا عَمُود إِذا لم ترسى أوتاد) (فَإِن تجمع أوتاد وأعمدة ... وَسَاكن بلغُوا الْأَمر الَّذِي كَادُوا) وَقَالَ ابْن المعتز فَسَاد الرّعية بِلَا ملك كفساد الْجِسْم بِلَا روح وَقَالَ بعض البلغاء السُّلْطَان زِمَام الْملَّة ونظام الْجُمْلَة وجلاء الْغُمَّة ورباط الْبَيْضَة وعماد الْحَوْزَة وَقَالَ آخر السُّلْطَان يدافع عَن سَواد الْأمة ببياض الدعْوَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 بَاب فِي ذكر الْوَالِي الْعَادِل وَمَاله من الْأجر والوالي الجائر وَمَا عَلَيْهِ من الْوزر قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة يظلهم الله عز وَجل تَحت ظلّ عَرْشه يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله إِمَام عَادل وشاب نَشأ فِي عبَادَة ربه وَرجل قلبه مُعَلّق فِي الْمَسَاجِد إِذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ وَرجل ذكر الله خَالِيا فَفَاضَتْ عَيناهُ ورجلان تحابا فِي الله عز وَجل اجْتمعَا على ذَلِك ثمَّ تفَرقا وَرجل دَعَتْهُ امْرَأَة ذَات حسن وجمال إِلَى نَفسهَا فَقَالَ إِنِّي أَخَاف الله عز وَجل وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه فَبَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْإِمَامِ الْعَادِل وحقيق أَن يبْدَأ بِهِ لِأَنَّهُ من الْعَالم بِمَنْزِلَة السوَاد من الْعين بل بِمَنْزِلَة السويداء من الْقلب بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْقلب من الْجَسَد فبصلاحه يصلح الْجَسَد وبفساده يفْسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله وَهِي الْقلب وَقد تقدم قَول ابْن المعتز فَسَاد الرّعية بِلَا ملك كفساد الْجَسَد بِلَا روح وَإِنَّمَا كَانَ السُّلْطَان بِهَذِهِ المثابة لِأَنَّهُ فِي نَفسه إِمَام متبوع وَفِي سيرته دين مَشْرُوع فَإِن ظلم لم يعدل ق 3 أحد فِي حكم وَإِن عدل لم يستجري أحد على ظلم وَرُوِيَ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لما حمل إِلَيْهِ مَغَانِم الْعرَاق عِنْد افتتاحها وَمَا أصَاب من كنوز كسْرَى وَرَأى مَا فِيهَا من الْجَوَاهِر النفيسة جعل يتعجب مِنْهَا وَيَقُول إِن الَّذِي أدّى هَذَا لأمين فَقَالَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَنا أخْبرك بذلك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنْت أَمِين الله وهم أمناؤك فَمَا دمت مُؤديا للأمانة أدوها وَمَتى رتعت رتعوا وَفِي بعض الْآثَار النَّاس على دين الْملك وَهَذَا معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كِتَابه إِلَى هِرقل عَظِيم الرّوم أسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ وَإِن أَبيت فَإِن عَلَيْك إِثْم الأريسيين والأريسيون الأكاريون قيل مَعْنَاهُ أَن الرّعية أَتبَاع للملوك فِي الْخَيْر وَالشَّر وَالْإِسْلَام وَالْكفْر فَمَتَى أَبيت قبُول الْإِسْلَام وَتَخَلَّفت عَنهُ وأقمت على الْكفْر كَانَ ذَلِك سَبَب تخلف رعيتك عَن الْإِسْلَام وتركهم الدُّخُول فِيهِ فَيكون عَلَيْك مثل إثمهم وَهَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سنّ سنة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمن سنّ سنة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 من دَعَا إِلَى هدى كَانَ لَهُ من مثل أجر من تبعه لَا ينقص ذَلِك من أُجُورهم وَمن دَعَا إِلَى ضَلَالَة كَانَ عَلَيْهِ من الْإِثْم مثل آثام من تبعه لَا ينقص ذَلِك من آثامهم شَيْء وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أحب النَّاس إِلَى الله تَعَالَى وأقربهم مِنْهُ إِمَام عَادل وَإِن أبْغض النَّاس إِلَى اله تَعَالَى وأبعدهم مِنْهُ وأشدهم عذَابا إِمَام جَائِر وَفِي حَدِيث آخر إِن أفضل عباد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة إِمَام عَادل رَفِيق وَإِن أشر عباد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة إِمَام جَائِر وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإِمَام جنَّة يُقَاتل من وَرَاءه ويتقى بِهِ فَإِن أَمر بتقوى الله وَعدل كَانَ لَهُ بذلك أجر وَإِن أَمر بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ وزر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة يبغضهم الله الإِمَام الجائر وَالشَّيْخ الزَّانِي وَالْفَقِير المختال وروت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي بَيْتِي هَذَا اللَّهُمَّ من ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فشق عَلَيْهِم فأشقق عَلَيْهِ وَمن ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فرفق بهم فارفق بِهِ وَهَذَا عَام فِي كل وَال ولَايَته عَمت أَو خصت قلت أَو كثرت عظمت أَو صغرت وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الْعَرْش الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من أَمِير عشره إِلَّا جِيءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مغلولة يَدَاهُ إِلَى عُنُقه حَتَّى يكون عمله هُوَ الَّذِي يُطلقهُ أَو يوبقه أَي يهلكه وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عدل سَاعَة فِي حُكُومَة خير من عبَادَة سنة وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَامِل على الصَّدَقَة بِالْحَقِّ كالغازي فِي سَبِيل الله حَتَّى يرجع إِلَى بَيته وَعَن أبي ذَر رَحمَه الله تَعَالَى يَا رَسُول الله أَلا تَسْتَعْمِلنِي قَالَ فَضرب يَده على مَنْكِبي ثمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَر إِنَّك ضَعِيف وَإِنَّهَا أَمَانَة وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة حسرة وندامة وندامة إِلَّا من أَخذهَا بِحَقِّهَا وَأدّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 قَالَ لَهُ يَا أَبَا ذَر إِنِّي أَرَاك ق 4 ضَعِيفا وَإِنِّي أحب لَك مَا أحب لنَفْسي لَا تأمرن على اثْنَيْنِ وَلَا تولين على مَال يَتِيم وَعَن الْمِقْدَام بن معدي كرب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضرب على مَنْكِبه ثمَّ قَالَ أفلحت يَا مِقْدَام إِن لم تكن أَمِيرا وَلَا كَاتبا وَلَا عريفا وَرُوِيَ أَن رجلا قَالَ لسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أبي شيخ كَبِير وَهُوَ عريف المَاء وَهُوَ يَسْأَلك أَن تجْعَل العرافة لي بعده قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن العرافة حق وَلَا بُد للنَّاس من العرفاء وَلَكِن العرفاء فِي النَّار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة صَاحب مكس وَسَنذكر إِن شَاءَ الله فِيمَا بعد مَا ورد من أَلْفَاظ الْحُكَمَاء والبلغاء فِي مدح الْعدْل وذم الْجور فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بَاب فِي ذكر مَا يجب على الرّعية للولاة من الطَّاعَة وَمَا يكره لَهُم من الْمعْصِيَة وَالْخُرُوج عَلَيْهِم ومفارقة الْجَمَاعَة قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وقرنها بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله وَقد فسر ذَلِك أَكثر أهل الْعلم بِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 المُرَاد بأولي الْأَمر أُمَرَاء الْمُسلمين وروى ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَزيد بن أسلم رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ اخْتِيَار أَكثر الْعلمَاء وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله وَمن عَصَانِي فقد عصى الله وَمن أطَاع الْأَمِير فقد أَطَاعَنِي وَمن عصى الْأَمِير فقد عَصَانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي مجدع الْأَطْرَاف ويقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على السّمع وَالطَّاعَة فِي منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 علينا وَأَن لَا ننازع الْأَمر أَهله إِلَّا أَن تروا كفرا بواحا عنْدكُمْ من الله فِيهِ برهَان وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّهَا سَتَكُون بعدِي أَثَرَة وَأُمُور تنكرونها قَالَ يَا رَسُول الله فَمَا تَأمر من أدْرك ذَلِك قَالَ تؤدون الْحق الَّذِي عَلَيْكُم وتسألون الله الَّذِي لكم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْأَنْصَار إِنَّكُم سَتَلْقَوْنَ بعدِي أَثَرَة فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي على الْحَوْض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَعَن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تكون بعدِي أَئِمَّة لَا يَهْتَدُونَ بهداي وَلَا يستنون بِسنتي وسيقوم فيهم رجال قُلُوبهم قُلُوب الشَّيَاطِين فِي جثمان إنس قَالَ قلت كَيفَ أصنع يَا رَسُول الله إِن أدْركْت قَالَ تسمع وتطيع وَإِن ضرب ظهرك وَأخذ مَالك فاسمع وأطع وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خرج من الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة ثمَّ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَمن قَاتل تَحت راية عمية يغْضب للعصبية وَيُقَاتل للعصبية فَلبس مني وَمن خرج من أمتِي يضْرب برهَا وفاجرها وَلَا يتحاشى لمؤنها وَلَا يَفِي لذِي عهدها فَلَيْسَ مني وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 من رأى من أميره مَا يكره فليصبر فَإِنَّهُ من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ فميتة جَاهِلِيَّة وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِذا كَانَ الإِمَام عادلا فَلهُ الْأجر وَعَلَيْكُم الشُّكْر وَإِن كَانَ جائرا فَعَلَيْكُم الصَّبْر وَعَلِيهِ الْوزر ق 5 وَفِي الحَدِيث من نزع يَده من الطَّاعَة لم يكن لَهُ حجَّة يَوْم الْقِيَامَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَفِي آخر من رافق الْجَمَاعَة واستذل الأمارة لَقِي الله عز وَجل وَلَا وَجه لَهُ عِنْده وَفِي حَدِيث آخر من أهان سُلْطَان الله أهانه الله وَمن أكْرم سُلْطَان الله أكْرمه الله قلت لَيْسَ المُرَاد بِمَا ورد فِي هَذِه الْأَخْبَار أَن نطيعه فِي الْمعْصِيَة إِذا أَمر بهَا ونقتدي فِيهِ بهَا بل المُرَاد بِهِ أَن السُّلْطَان إِذا فسق وجار لم يخرج بذلك عَن أَن تكون طَاعَته وَاجِبَة فِي سَائِر الْأَحْكَام الَّتِي لَا مَعْصِيّة فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 بل تجب مُخَالفَته فِي الْمعْصِيَة وطاعته فِي الْأُمُور اللَّازِمَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَرْء الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِيمَا أحب وَكره إِلَّا أَن يمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق وَفِي حَدِيث آخر من أَمركُم من الْوُلَاة بِغَيْر طَاعَة الله فَلَا تطيعوه وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث جَيْشًا وَأمر عَلَيْهِ رجلا وَأمرهمْ أَن يسمعوا لَهُ ويطيعوا فأغضبوه فِي شَيْء فَقَالَ اجْمَعُوا حطبا فَجمعُوا ثمَّ قَالَ أوقدوا نَارا فأوقدوا ثمَّ قَالَ ألم يَأْمُركُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تسمعوا لي وتطيعوا قَالُوا بلَى قَالَ فادخلوها فَنظر بَعضهم إِلَى بعض وَقَالُوا إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من النَّار وَكَانُوا كَذَلِك حَتَّى سكن غَضَبه وطِئت النَّار فَلَمَّا رجعُوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكرُوا ذَلِك لَهُ فَقَالَ لَو دخلوها مَا خَرجُوا مِنْهَا إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الْمَعْرُوف عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قَالَ وتستعمل عَلَيْكُم أُمَرَاء فتعرقون وتنكرون فَمن كره فقد برىء وَمن أنكر فقد سلم لَكِن من رَضِي وتابع قَالُوا يَا رَسُول الله أَلا نقاتلهم قَالَ لَا مَا صلوا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام خِيَار أئمتكم الَّذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عَلَيْهِم وَيصلونَ عَلَيْكُم وشرار أمرائكم الَّذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلكعنونكم قيل يَا رَسُول الله أَفلا ننابذهم بِالسَّيْفِ قَالَ لَا مَا أَقَامُوا فِيكُم الصَّلَاة فَإِذا رَأَيْتُمْ من ولاتكم شَيْئا تكرهونه فاكرهوا عمله وَلَا تنزعوا يدا من الطَّاعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام سَيكون بعدِي أُمَرَاء فَمن دخل عَلَيْهِم فَصَدَّقَهُمْ فِي كذبهمْ وَأَعَانَهُمْ على ظلمهم فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ وَلَيْسَ بوارد على الْحَوْض وَمن لم يدْخل عَلَيْهِم وَلم يُعِنْهُمْ على ظلمهم وَلم يُصدقهُمْ على كذبهمْ فَهُوَ مني وَأَنا مِنْهُ وَهُوَ وَارِد على الْحَوْض فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تدلك على أَنه يجب على الْمَرْء كَرَاهَة مَا أَحْدَثُوا من بِدعَة وَترك موافقهم على مُخَالفَة السّنة والإمتناع عَن طاعتهم فِي الْمعْصِيَة مَعَ الإنكفاء عَن الْخُرُوج عَلَيْهِم وملازمة جَمَاعَتهمْ فِي الطَّاعَة وامتثال أوامرهم فِي الْمُبَاح والإنقياد لأحكامهم فِي الْمَعْرُوف فيستديم بذلك سَلامَة دينه وَصَلَاح دُنْيَاهُ وحقن دَمه وَحفظ مَاله وحياته وَعرضه وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من عصى السُّلْطَان فقد أطَاع الشَّيْطَان وَقَالَ بعض الْكتاب من نابذ السُّلْطَان كَانَ فِي الأشقين مَكْتُوبًا والندم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَالْغَم مَكْتُوبًا وَقَالَ آخر من فَارق الإعتصام بحبله حالفه الخسران وعانقه الخذلان وترصدت لَهُ الْمنون ق 6 وطحنته الْحَرْب الزبون وَمن كتاب الْمُبْهِج أخلق بِدَم المستخف بالجبابرة أَن يكون دَمه جهارا وَقَالَ بَعضهم من تعرض لمساوىء سُلْطَانه تعرض لقطع لِسَانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 بَاب فِي ذكر مجامع يجب أَن يَتَّصِف بِهِ الْملك من الطرائق الجميلة والمذاهب النبيلة والشيم الزكية وَالسير المرضية قَالَ بعض الْحُكَمَاء السُّلْطَان ظلّ الله فِي أرضه وَالْحَاكِم فِي دينه وفرضه قد حصنه الله بإحسانه وأشركه فِي سُلْطَانه وندبه لرعاية خلقه ونصبه لنصرة حَقه إِن أطاعه فِي أوامره ونواهيه تكفل بنصرته وحراسته وَإِن عَصَاهُ فيهمَا وَكله إِلَى نَفسه وَمن مكنه الله فِي أرضه وبلاده وأتمنه فِي خلقه وعباده وَبسط يَده وسلطانه وَرفع مَحَله ومكانه فحقيق عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي الْأَمَانَة ويخلص الدّيانَة ويجمل السِّيرَة وَيحسن السريرة وَيجْعَل الْعدْل دأبه الْمَعْهُود وَالْأَجْر غَرَضه الْمَقْصُود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء إِذا بنى الْملك على قَوَاعِد الْعدْل ودعم بدعائم الْفضل وحصن بدوام الشُّكْر وحرس بأعمال الْبر نصر الله موَالِيه وخذل معاديه وعضده وَسلمهُ من الْغَيْر وَقَالَ اعْدِلْ فِيمَا وليت واشكر على مَا أُوتيت يمدك الْخَلَائق وتؤديك الْخَلَائق لَيْسَ من قوتك وَإِن تمت فضل على قَضَاء حق الله عَلَيْك وَلَا لقدرتك وَإِن دَامَت فضل على الْقيام بشكر مَا أسداه إِلَيْك وَلَا لعمرك وَإِن طَال وَإِن طَال فضل عَن النّظر فِيمَا يصلح جندك ورعيتك وَلَا لمَالِك وَإِن كثر قدر عَمَّا يصون عرضك ومروءتك فَاجْعَلْ أيامك أَرْبَعَة يَوْمًا تَجْعَلهُ لحسن الْعِبَادَة وَيَوْم تستقبله بشكر النِّعْمَة مِنْهُ وَيَوْما تقصره على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 النّظر فِي الْقَصَص والمظالم ويما تمضيه فِي ابتناء الْمَعَالِي والمكارم وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من جعل ملكه خَادِمًا لدينِهِ انْقَادَ لَهُ كل سُلْطَان وَمن جعل دينه خَادِمًا لملكه طمع فِيهِ كل إِنْسَان وَقَالَ أردشير أسعد الْمُلُوك من سعدت رَعيته بعدله ونالها الرَّفَاهِيَة فِي أَيَّامه وَجَرت لَهُ صوالح السنين فِي دهره وأشقاهم من كَانَ بِخِلَاف ذَلِك وَقَالَ النَّاس ثَلَاث طَبَقَات تجب سياستهم فِي ثَلَاث سياسات مِنْهُم طبقَة من الْخَواص والأعيان تسوسهم بمحض اللطف وَالْإِحْسَان وطبقة من الْعَوام الأوساط تسوسهم من العنف واللطف مَا بَين الاقتصاد والإفراط وطبقة من الْعَوام والأطراف تسوسهم بمحض الغلظة والإعتساف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَقَالَ أَيْضا على الْملك أَن يَأْخُذ نَفسه بِثَلَاث تَعْجِيل مُكَافَأَة المحسن على إحسانه وتأجيل عُقُوبَة الْعَاصِ على عصيانه والأناة عِنْد طوارق الدَّهْر وحدثانه فَإِن فِي تَعْجِيل مُكَافَأَة المحسن شحذ الضمائر على الطَّاعَة وَفِي تَأْجِيل عُقُوبَة العَاصِي إِمْكَان الْعَفو الْإِقَالَة ومراجعة التَّوْبَة والندامة وَفِي الأناة عِنْد الطوارق انفساح مَذَاهِب الرَّأْي والسياسة وإيضاح غوامض السداد والإصابة وَقَالَ أَيْضا لَا يصلح لسد الثغور ق 7 وقود الجيوش وتدبير الْخُيُول وحراسة الْأَرْضين والأقاليم إِلَّا من تكاملت فِيهِ خمس خِصَال حزم يتَيَقَّن بِهِ عِنْد موارد الْأُمُور حقائق مصادرها وَعلم يحجزه عَن التهور فِي المشكلات إِلَى عِنْد تجلي فرصها وشجاعة لَا تنقصها الملمات بتواتر حوائجها وَعظم هولها وَصدق فِي الْوَعيد والوعد يوثق مِنْهُ بِالْوَفَاءِ عَلَيْهَا وجود يهون عِنْده تَدْبِير الْأَمْوَال عِنْد ازدحام السُّؤَال عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَقَالَ أَيْضا لَا يَنْبَغِي للْملك أَن يكون فِيهِ خمس خِصَال لَا يكون كذابا لِأَنَّهُ إِن وعد أَو أوعد لم يرج وَلم يخف وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون بَخِيلًا فَإِنَّهُ إِن كَانَ كَذَلِك لم يناصحه أحد وَلَا تصلح الْولَايَة إِلَّا بالمناصحة وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون جَبَانًا فَإِنَّهُ إِن كن جَبَانًا اجترأ عَلَيْهِ عدوه وضاعت الْأُمُور وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون حديدا فَإِنَّهُ إِن كَانَ كَذَلِك مَعَ الْقُدْرَة هلك النَّاس مَعَه وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون حسودا فَإِنَّهُ إِن كَانَ كَذَلِك لم يشرف أحدا وَلَا يصلح النَّاس إِلَّا بأشرافهم وَقَالَ أَيْضا خير الْمُلُوك من أشبه النسْر حوله الْجِيَف وشرهم من أشبه الْجِيَف حولهَا النسور وَقَالَ بعض البلغاء أَرْبَعَة لَا يَزُول مَعهَا ملك حسن الدّين واستكفاء الْأمين وَتَقْدِيم الحزم وإمضاء الْعَزْم وَأَرْبَعَة لَا يثبت مَعهَا ملك غش الْوَزير وَسُوء التَّدْبِير وخبث النِّيَّة وظلم الرّعية وَأَرْبَعَة لَا بَقَاء لَهَا مَال يجمع من الْحَرَام وَحَال تعقد من الآثام ورأي يغوى من الْعقل وَملك يَخْلُو من الْعدْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وَقَالَ الحريري أسعد النَّاس من سعدت بِهِ رَعيته وأشاقهم ف الدَّاريْنِ من ساءت سَرِيرَته وَمن كَلَام الثعالبي فِي الْمُبْهِج الْملك من يوالي لأوليائه صلَاته وتباري هبوب الرّيح هباته وتفرس الفوارس لحظاته وتضغم الضراغم سطواته الْملك من جمع سداد الْأُمُور إِلَى سداد الثغور وَكَانَ أيده متينا وكيده مُبينًا الْملك من رَجَعَ إِلَى رَأْي سديد من كَمَاله وركن شَدِيد من أَمْوَاله وَرِجَاله الْملك من سَيْفه يفنى وسيبه يُغني الْملك من جوده مطير وبأسه مستيطر الْملك من عدله كَاف كافل وفضله هام هاطل الْملك من تثنى عَلَيْهِ الخناصر وتثنى عَلَيْهِ السبابات وتعض عَلَيْهِ من الغيض الأباهيم الْملك من لَا يسلم الْإِسْلَام وَلَا يُفَارق الْفرْقَان وَلَا يهمل الْملَّة ويعدل عَن الْعدْل إِذا جمع الْملك بَين شرف الإنتساب والإكتساب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ونظم حاشيتي الْفضل وَالْعدْل فتقريضه وَإِن أفرط فِيهِ تَفْرِيط ومدحه وَإِن نبل قصاراه تَقْصِير إِذا عني الْملك بتسكين الدهماء وحقن الدِّمَاء تعد قرع بَاب السَّمَاء فِي استحفاظ بَاب النعماء إِذا كَانَت يَد الْملك مِفْتَاح الأرزاق وسفه حتف أهل الشقاق فقد فاق مُلُوك الْآفَاق الْملك من كَانَ كالغيث يحيي إِذا همى والسيل أردى إِذا أطمى والبدر يهدي إِذا سما والدهر يصمى إِذا رمى الْملك من تبيض أياديه وَتسود أَيَّام مُعَاوِيَة وتخضر مواقع سيبه وتحمر مواقع سَيْفه الْملك من تشهد بفضله مشاهده ويعمر وفده فَوَائده كف الْملك سَمَاء صوبها أَمْوَال وَدِمَاء ق 8 أدب الْملك الريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فِي مَكَارِم يبتنيها ومآثرها يقتنيها وَعلم يحصله وكرم يوصله ورعية يرعاها ويحمي حماها همة الْملك الْهمام فِي أَرْبَاب السيوف لَا فِي ربات السقوف وَفِي الْبيض القواضب لَا الْبيض الكواعب وَفِي سمر الرماح لَا فِي السمر الملاح وَفِي إِيجَاد الصنايع لَا فِي ابتناء المصانع وَقَالَ بعض الْكتاب فِي مدح أَمِير هُوَ مُسْتَقر فِي ذرْوَة عزه مُسْتَقل بأعباء ملكه يتَصَرَّف بالرئاسة بَين رفق من غير ضعف وخشونة من غير عنف وَقَالَ آخر قد عود ممالكه الحياطة حَتَّى يحل حرامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَلَا يذعر سوامها وَلَا تراع جوانبها وَلَا تذب عقاربها وَقَالَ آخر قد صرفهم بَين خشونة أبعاده ولين معتاده وأراهم بريق حسامه مشفوعا بترويق أنعامه وَقَالَ آخر فِي وصف ملك قد أَحْيَا سنَن الْعدْل وأمات سنَن الْجور فتحمى الدّين منيع وجناب الْملك وسيع وَقَالَ آخر قد وجدت بصنع الْعدْل فَثَبت أَصله وسما فَرعه وفتت فِي عضد الظُّلم فاجتث قراره وحصد زرعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 بَاب فِيمَا يجب على السُّلْطَان من حسن السياسة وَمَا يلْزمه من الصيانة للرعية والحراسة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته فالأمير الَّذِي على النَّاس رَاع مسؤول عَن رَعيته وَالرجل رَاع فِي أهل بَيته ومسؤول عَنْهُم وَالْمَرْأَة راعية على بَيت زَوجهَا وَولده وَهِي مسؤولة عَنْهُم وَالْعَبْد رَاع على مَال سَيّده وَهُوَ مسؤول عَنهُ فكلكم رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 (وكلكم رَاع وَنحن رعية ... وكل سيلقى ربه فيحاسبه) وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من عبد يسترعيه الله رعية يَمُوت يَوْم الْقِيَامَة يَمُوت وَهُوَ غاش لرعيته إِلَّا حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَدخل أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ على مُعَاوِيَة فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم أَيهَا الْأَجِير فَقيل لَهُ قل أَيهَا الْأَمِير فَقَالَ مُعَاوِيَة دعوا أَبَا مُسلم فَإِنِّي أعلم بِمَا يُرِيد وَعَلَيْك السَّلَام يَا أَبَا مُسلم فَقَالَ أَبُو مُسلم إعلم أَنه لَيْسَ رَاع استرعى رعية إِلَّا وَرب أجره سَائِلَة عَن رَعيته فَإِن كَانَ داوي مرضاها وهنأ جربانها وجبر كسرانها ورد أَولهَا على آخرهَا ووضعها فِي أنف من الكلاء وصفو من المَاء وفاه أجره وَإِلَّا لم يوفه فَانْظُر من أَنْت من ذَلِك فَقَالَ مُعَاوِيَة يَرْحَمك الله يَا أَبَا مُسلم الْأَمر على ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَمعنى هَنأ جربانها طلاها بالهناء وَهُوَ القطران وَيُقَال رَوْضَة أنف إِذا لم ترع قبل ذَلِك وَقَالَ بعض البلغاء من آثر اللَّهْو ضَاعَت رَعيته وَمن دوَام السكر فَسدتْ رويته وَمن قصر عَن سياسة نَفسه كَانَ عَن سياسة غَيره أقصر وَقَالَ إِن من حسن الإختيار وَحسن الإستظهار أَن تعدل فِي الْقَضَاء وتجري الحكم على الْخَاص وَالْعَام بالسوى فَمن جارت قَضيته ضَاعَت رَعيته وَمن ضعفت سياسته بطلت رياسته وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَشْقَى الْوُلَاة من شقيت بِهِ رَعيته وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء أحسن عقد نيتك وَأَعْدل فِي جندك ورعيتك تخلص الطَّاعَة لَك وتحسن الأحدوثة عَنْك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وَقَالَ الزم الْوَرع ق 9 فَإِنَّهُ يُؤَيّد الْملك وَاحْذَرْ الطمع فَإِنَّهُ يدني الهلك وَقَالَ أردشير إِنَّمَا أملك الأجساد لَا النيات وَأحكم بِالْعَدْلِ لَا بالرضى وأعاقب على الذَّنب لَا على الْهوى وافحص عَن الإعمال لَا عَن السرائر وَقَالَ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان لَا أَضَع سَيفي حَيْثُ يَكْفِينِي سَوْطِي وَلَا سَوْطِي حَيْثُ يَكْفِينِي لساني وَلَو أَن بيني وَبَين النَّاس شَعْرَة مَا انفطعت قَالُوا وَكَيف ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ كنت إِذا أرخوها مددتها وَإِذا مدوها جررتها وَقَالَ عتبَة بن أبي سُفْيَان فِي خطْبَة لَهُ بِمصْر وَقد أرجف بِمَوْت مُعَاوِيَة يَا أهل مصر قد طَالَتْ معاتبتنا إيَّاكُمْ بظبات السيوف وأطراف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 السّنة حَتَّى صرنا شجى فِي حلوقكم وقذى فِي عيونكم فحين اشتدت عرى الْحق عَلَيْكُم عقدا وَاسْتَرْخَتْ عقد الْبَاطِل سحلا أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين الْخلَافَة وخضتم الْحق إِلَى الْبَاطِل فاربحوا أَنفسكُم إِذْ خسرتم دينكُمْ وضنوا بدنياكم إِذا سمحتم بآخرتكم وَاعْلَمُوا أَن سلطاننا على أبدانكم دون قُلُوبكُمْ فأصلحوا لنا مَا ظهر نكلكم إِلَى الله فِيمَا بطن فاظهروا خيرا وَإِن أسررتم شرا فَإِنَّكُم حاصدون مَا أَنْتُم زارعون وَمثل ذَلِك مَا قَالَ زِيَاد فِي خطْبَة لَهُ وَقد كَانَت بيني وَبَين قوم أَشْيَاء قد جَعلتهَا دبر أُذُنِي وَتَحْت قدمي فَمن كَانَ مِنْكُم محسنا فليزدد وَمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 كَانَ مِنْكُم مسيئا فلينزع فَإِنِّي لَو علمت أَن أحدكُم قد قَتله السل من بغضي لم أكشف لَهُ قناعا وَلم أهتك لَهُ سترا حَتَّى يُبْدِي لي صفحته فَإِذا فعل ذَلِك لم أناظره فَأَعِينُونِي على أَنفسكُم واستأنفوا أَمركُم وَهَذَا كُله من قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أحكم بِالظَّاهِرِ وَالله يتَوَلَّى السرائر وَمن حسن السياسة وَتَمام السِّيَادَة والرياسة اخْتِيَار الْخَاصَّة والوزراء وانتخاب الْكتاب والجلساء واستشارة ذِي الرَّأْي من الْفُضَلَاء وَنحن نفرد لكل من ذَلِك بَابا نبين فِيهِ صفاتهم وأحوالهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 بَاب فِي إختيار الوزراء والعمال وَذكر مَا يجب أَن يتصفوا بِهِ من الْخِصَال قَالَ بعض الْحُكَمَاء أعلم أَن الْمُلُوك تحْتَاج إِلَى وَزِير وَأَشْجَع النَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 يحْتَاج إِلَى سلَاح وأجود الْخَيل يحْتَاج إِلَى سَوط وأجود الشفار يحْتَاج إِلَى مسن وَقَالَ ابْن الْمُعْتَمد (هَيْهَات لم تصدقك فكرتك الَّتِي ... قد أوهمتك غنى عَن الوزراء) (لم تغن عَن أحد سَمَاء لم تَجِد ... أَرضًا وَلَا أَرض بِغَيْر سَمَاء) وَقَالَ الثعالبي لَا بُد لكل فَاضل من صاقل وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ سلم وزرائي فِي الأَرْض أَبُو بكر وَعمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ولي شَيْئا من أُمُور النَّاس فَأَرَادَ الله بِهِ خيرا جعل مَعَه وزيرا صَالحا إِن نسي ذكره أَعَانَهُ وَقيل إِذا أردْت نايل الْأَمِير فالطف بِهِ من جِهَة الْوَزير وَقيل مثل الْملك الصَّالح إِذا كَانَ وزيره فَاسِدا مثل المَاء الصافي العذب المير الَّذِي فِيهِ التماسيح فَلَا يَسْتَطِيع الْإِنْسَان وُرُوده وَإِن كَانَ سباحا وَإِلَى المَاء ضامئا وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا يغرك كبر الْجِسْم مِمَّن صغر فِي الْمعرفَة وَالْعلم وَلَا طول الْقَامَة مِمَّن قصر الْكِفَايَة والإستقامة فَإِن الدرة على صغرها أَعُود من الصَّخْرَة على كبرها ق 10 وَأعلم أَن الْأَيْدِي بأصابعها والملوك بصنائعها وَأَن وَزِير الْملك عينه وأمينه أُذُنه وكاتبه نطقه وحاجبه خلقه وَرَسُول عقله ونديمه مثله بهم تستقيم الْأَعْمَال وتجتمع الْعمَّال ويقوى السُّلْطَان وتعمر الْبلدَانِ فَإِن استقاموا استقامت الْأُمُور وَإِن اضْطَرَبُوا اضْطربَ الْجُمْهُور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَقَالَ أعلم أَن معايب عمالك والمنصرفين فِي أعمالك من أقبح معايبك ومآثرهم ومناقبهم من أحسن مآثرك ومناقبك لِأَن بهم يسْتَدلّ على مِقْدَار معرفتك بمقادير الرِّجَال وَيُوقف على كَتفيهِ تصرفك بتصاريف الْأَحْوَال فَأحْسن الإختيار وَأكْثر الإستظهار عَلَيْهِم وَأعلم أَنهم أنفاس الْمُلُوك وحرابه فدم على مُرَاعَاة أَحْوَالهم وَلَا تمهل مكافآة أفعالهم فَأول المحسن مَا يسْتَحقّهُ من حسن الْوَلَاء والمسيء مَا يستوجبه من سوء الْجَزَاء ليتصرفوا لَك فِي الْأَمَانَة ويتعففوا عَن الْخِيَانَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَقَالَ يحيى بن خَالِد لِبَنِيهِ إِنَّكُم لَا بُد لكم من عُمَّال وَكتاب فاستعينوا بأشراف النَّاس وَإِيَّاكُم والسفلة فَإِن النِّعْمَة على الْأَشْرَاف أزين وَالْمَعْرُوف عِنْدهم أثمن وَالشُّكْر مِنْهُم أحسن وَهَذَا الْمَعْنى يُلَاحظ قَول أرسطا طاليس لما كتب إِلَيْهِ الْإِسْكَنْدَر يستشيره فِي قتل مُلُوك فَارس أَو استبقائهم فَكَانَ فِي جملَة مَا رد من الْجَواب أَن قَالَ لست أرى قَتلهمْ صَوَابا لِأَنَّهُ مَتى قتل الْملك مُلُوكهمْ وسراتهم لم يكن بُد من أَن يسْتَعْمل عَلَيْهِم بَعضهم فتدعو الضَّرُورَة إِلَى رفع السفلة وسياسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الْمُلُوك أسهل من سياسة السُّفَهَاء لِأَن الْمُلُوك أحسن طَاعَة وأسلس انقيادا وَأعرف بالصنيع وأرجى للمكافآة وسياسة السفلة صعبة واستياقهم إِلَى الْإِرَادَة متعبة وَقد رَأَيْت رَأيا يَكْفِي بِهِ الْملك مُؤنَة قَتلهمْ إِن استصوبه وَتجمع لَهُ بِهِ طاعتهم ويتعبدهم ويتخلص بِهِ نياتهم ويخلص من الْإِثْم بسببهم وَهُوَ أَن يعمد الْملك إِلَى أَوْلَاد الْمُلُوك والرؤساء كلهم فَيقسم المملكة بَينهم ويفرد كل وَاحِد مِنْهُم بِبَلَدِهِ ويأمره أَن يُؤَدِّي الأتاوة عَنْهَا ويجعلها وظائف فِي أَيْديهم فَإِنَّهُ إِذا رأى الْمَالِك مِنْهُم أَنه قد سَاوَى نَظِيره فِي التَّمَلُّك لم تطعه نَفسه الإنقياد إِلَى من هُوَ مثله وَإِذا تبين أحدهم مِقْدَار الطَّائِفَة الَّتِي فِي يَده نقصت همته عَن مَعْصِيّة الْملك وَالْخلاف لأَمره فتجتمع للْملك طاعتهم وَيَكْفِي مَا يخوفه مِنْهُم وَرَأى الْملك العالي الْمُوفق فَفعل الْإِسْكَنْدَر ذَلِك بِمَا أَشَارَ بِهِ أرسطا طاليس فَلم تزل الْمُلُوك تُؤدِّي الأتاوة إِلَى مُلُوك الرّوم خَمْسمِائَة سنة ونيفا إِلَى أَن ملك أردشير بن بابك فَكَانَ يَقُول إِن مُلُوك الأَرْض ضربوا بِسيف أرسطا طاليس خَمْسمِائَة سنة يَعْنِي تَدْبيره وتفريق كلمتهم وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا تستكف إِلَّا الكفاة النصحاء وَلَا تستبطن إِلَّا الثِّقَات الْأُمَنَاء وَإِذا استكفيتهم شغلا أَو وليتهم أمرا فَأحْسن الثِّقَة بهم وأكد الْحجَّة عَلَيْهِم فَإِذا رَأَيْت مِنْهُم غدرا وتبينت مِنْهُم عَجزا فاستبدل بهم وَاسْتَوْفِ مَالك عَلَيْهِم وَلَا تقلد مِنْهُم أحدا وَلَا تعتمد عَلَيْهِم أبدا فَمن عَارض مَعَ الإستقلال وَالْأَمَانَة قمع كفاته وعماله وَمن قلد مَعَ الْعَجز والخيانة ضيع أَعماله وَمَاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَمن كتاب الْمُبْهِج إِذا تصفح الْملك وُجُوه عماله وفحص عَن الْأَصْلَح لأعماله فَلَا يقعن ق 11 اخْتِيَاره إِلَّا على من سبق لَهُ اخْتِيَاره وَلَا يتوجهن اعْتِمَاده إِلَّا إِلَى من تقدم اجْتِهَاده وَلَا يكونن من ثقاته إِلَّا من يَتَّقِي الله حق تُقَاته وَقَالَ أَيْضا خير الْعمَّال من كفى وكف وَعفى وعف وشرهم من حذق وسرق وَقَالَ شَرّ الْعمَّال من تعد السّعَايَة من مساعيه وَقَالَ شَرّ الْعمَّال من إِذا ولى أثار وجار وَإِذا عزل حَار وخار وَوَقع جَعْفَر بن يحي بن خَالِد إِلَى بعض عماله قد كثر شاكوك وَقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 شاكروك فإمَّا اعتدلت وَإِلَّا أنزلت وَقَالَ يحي بن خَالِد ثَلَاثَة تدل على عقول أَصْحَابهَا الرَّسُول وَالْكتاب والهدية وَقَالَ الشَّاعِر (تخير إِذا مَا كنت مُرْسلا ... فمبلغ آراء الرِّجَال رسولها (وَرجع وفكر فِي الْكتاب فَإِنَّمَا ... بأطراف أَقْلَام الرِّجَال عقولها وَقَالَ صَالح بن عبد القدوس (إِذا كنت فِي حَاجَة مُرْسلا ... فارسل حكيما وَلَا توصه) (وَإِن بَاب أَمر عَلَيْك التوى ... فَشَاور حَلِيمًا وَلَا تعصه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 بَاب فِي ذكر الْولَايَة وَالْعَمَل وَمَا يتَّصل بهما من الْمَدْح والذم وَذكر مَا يتَعَلَّق بهما من الْعِزّ والذل فِي حالتي الْولَايَة والعزل من فصل الْخَوَارِزْمِيّ لَا صَغِير مَعَ الْولَايَة والعمالة كَمَا لَا كَبِير مَعَ العطلة والبطالة وَإِنَّمَا الْولَايَة أُنْثَى تصغر وتكبر بواليها ومطية تحسن وتقبح بممتطيها والصدر لمن يَلِيهِ والدست لمن يجلس فِيهِ وَله أَيْضا ولَايَة الْمَرْء ثَوْبه فَإِن قصر عَنهُ عرى عَنهُ وَإِن طَال عَلَيْهِ عثر فِيهِ وَقَالَ الْفضل بن مَرْوَان مثل الْكَاتِب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 كالدولاب إِذا تعطل تكسر وَقَالَ غَيره غُبَار الْعَمَل خير من زعفران العطل وَقَالَ المهلبي التَّصَرُّف أَسْنَى وَأَعْلَى والبطالة أعفى وأصفى وَقَالَ الشَّاعِر (مَا أطيب الْأَمر وَلَو أَنه ... على رذايا نعم فِي مراح) وَقيل من عمل عملا فتاه فِيهِ أخبر أَن قدره دونه وَمن تواضع فِيهِ ذل على أَن قدره فَوْقه وَقَالَ سكر السُّلْطَان أَشد من سكر الشَّرَاب وَقَالَ بَعضهم من ولاه السُّلْطَان صبعه الشَّيْطَان وَهَذَا الْمَعْنى أَرَادَ بَعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 (قد كنت أكْرم صَاحب وأبره ... حَتَّى دهتك أَصَابِع الشَّيْطَان) (جذ الْإِلَه بنانها وأبانها ... كم غيرت خلقا من الْإِنْسَان) وَقَالَ بَعضهم أَرض من أَخِيك إِذا ولي ولَايَة بِعشر وده قبلهَا وَقَالَ الشَّاعِر (وكل ولَايَة لَا بُد يَوْمًا ... مُغيرَة الصّديق على الصّديق) وَقَالَ زِيَاد بن الْأَعْجَم (فَتى زَاده السُّلْطَان فِي الْحَمد رَغْبَة ... إِذا غير السُّلْطَان كل خَلِيل) وللفرزدق يمدح واليا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 (قل لنصر وَالنَّاس فِي زمن السلطا ... ن أعمى مَا دَامَ يَدْعُو أَمِيرا) (فَإِن زَالَت الْولَايَة عَنهُ ... واستوى بِالرِّجَالِ عَاد بَصيرًا) وَقَالَ آخر (إِذا عزل الْمَرْء واصلته ... وَعند الْولَايَة استكبر) (لِأَن الْمولى لَهُ نخوة ... وَنَفْسِي على الذل لَا تصبر) وَقَالَ آخر (يَا من تولى فأبدى ... لنا الجفا وتبدل) (أَلَيْسَ مِنْك سمعنَا ... من لم يمت فسيعزل) وَقيل الْولَايَة حلوة الرَّضَاع مرّة الْفِطَام وَقَالَ آخر ذل الْعَزْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 يضْحك من تيه الْولَايَة قَالَ (قَالَ سكر الْولَايَة طيب ... وخمارها صفع شَدِيد) (كم تائه بِولَايَة ويعزله ركض الْبَرِيد) وَقَالَ (الْعَزْل للْكتاب حيض ... لحاه الله من حيض بغيض) (فَإِن يَك هَكَذَا فَأَبُو عَليّ ... من اللائي يئسن من الْمَحِيض) وَلابْن بسام فِي بعض الْوُلَاة (سنصير إِن تجلت ق 12 كَمَا صَبرنَا ... لغيرك من أَمِير أَو وَزِير) (رجوناهم فَلَمَّا أخلفونا ... وفتنا فيهم نوب الدهور) (فبتنا بالسلامة وَهِي حَظّ ... وَبَاتُوا فِي الْقُيُود أَو الْقُبُور) (فَلَمَّا لم نرى مِنْهُم سُرُورًا ... رَأينَا فيهم كل السرُور) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وللبستني (عذلوني عَن وزارة بست ... رأوها من أرفع الدَّرَجَات) (قلت لَا أشتهي وزارة بست ... إِنَّنِي لم أمل بعد حَياتِي) وَله أَيْضا (وزارة الحضرة الكبيره ... خَطِيئَة لَا بل هِيَ الْكَبِيرَة) (فَلَا تردها وَلَا تردها ... فَإِنَّهَا مهنة مبيرة) ولسليمان بن مهَاجر (إِن الْوَزير وَزِير آل مُحَمَّد ... أودى بِمن يشناك كَانَ وزيرا وللحريري (لجوب الْبِلَاد مَعَ المتربة ... أحب إِلَيّ من الْمرتبَة) (لِأَن الْوُلَاة لَهُم نبوة ... ومعتبة يَا لَهَا معتبه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 (فَمَا فيهم من يرب الصَّنِيع ... وَلَا من يشيد مَا رتبه) (فَلَا يخدعنك لموع السراب ... وَلَا تأت أمرا إِذا مَا اشْتبهَ) (فكم حالم سره حلمه ... وأدركه الروع لما انتبه) وَقَالَ أردشير إِذا سَاوَى الْوَزير الْملك فِي المَال والهيبة وَالطَّاعَة من النَّاس فليصرعه وَإِلَّا فَليعلم أَنه المصروع وَقيل لم يزل الرشيد مرويا فِي أُمُور البرامكة حَتَّى وقف عَلَيْهِ فصمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بَاب قس مصاحبة الْمُلُوك ومخاطبتهم وَكَيْفِيَّة التَّحَرُّز مِنْهُم فِي حَال مجالستهم لَهُم ومباسطتهم يجب أَولا على الْمُلُوك أَن يختاروا لمجالستهم من جمع الرَّأْي وَالْعقل وجودة الْأَدَب وَالْفضل واتصف بمكارم الْأَخْلَاق وَطيب الأعراق قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الجليس الصَّالح كالداري إِن لم يحذيك من عطره علقك من رِيحه وَمثل جليس السوء ككير الْحداد إِن لم يحرقك بناره علقك من دخانه قلت الدَّارِيّ الْعَطَّار ويحذيك أَي يعطيك ويهب لَك وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء مجالسة أهل الدّيانَة تجلي الْقُلُوب وتصدي الذُّنُوب ومجالسة ذَوي المروءات تدل على مَكَارِم الأخلاقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَقيل من ضيع عَاقِلا دلّ على ضعف وَمن اصْطنع جَاهِلا أعرب عَن فرط جَهله قَالَ الشَّاعِر (عَن الْمَرْء لَا تسل وسل عَن قرينه ... فَكل قرين بالمقارن يَقْتَدِي) وَقَالَ آخر (قَارن إِذا مَا قارنت حرا فَإِنَّمَا ... يزين ويزرى بالفتى قرناؤه) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام الْمَرْء على دين خَلِيله فَلْينْظر أحدكُم من يخالل وَمن كتاب الْمُبْهِج لَا يتَّخذ الْملك الأعوان إِلَّا أَعْيَان والخلاء إِلَّا أجلاء والندماء إِلَّا كرماء وَيجب على من يُجَالس ملكا مُلَازمَة الْأَدَب فِي جَمِيع أَحْوَاله وَأَن لَا يغتر بإدناء الْملك لَهُ وإقباله وَقَالَ بزرجمهر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 جَالس الْمُلُوك يُغير أدب فقد خاطر بِنَفسِهِ وَقَالَ الْفضل بن الرّبيع مساءلة الْمُلُوك عَن أَحْوَالهم تَحِيَّة النوكى أَو الحمقاء وَقَالَ غَيره المراء لَا ينصتون وَقَالَ آخر لاتسلم على الْملك فَإِنَّهُ إِن أجابك شقّ عَلَيْهِ وَإِن لم يجبك شقّ عَلَيْك وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء البلغاء إِذا جَلَست على مَوَائِد الْمُلُوك فَصم عَن الْكَلَام وَلَا تشره إِلَى الطَّعَام وَإِذا حَدثَك الْملك فاستمع إِلَيْهِ وَأَقْبل بِوَجْهِك عَلَيْهِ وَلَا تعرض عَن قَوْله وَلَا تعارضه بِمثلِهِ وَقَالَ ق 13 إِذا جعلك الْملك من خاصته وَأهْلك لمعاشرته فَلَا تؤمن على دَعوته وَلَا تشمته على عطسته وَلَا تسأله عَن حَاله وَلَا تعزه على ميته وَلَا تلقه بِالسَّلَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وَلَا تعالجه بالْكلَام وَلَا تزاحمه بِالتَّدْبِيرِ وَلَا تعاتبه فِي التَّقْصِير وَلَا تعرض عَنهُ إِذا أخبر وَلَا تكْثر عَلَيْهِ إِذا استخبر وَلَا تصل حَدِيثا بِحَدِيث وَلَا تعَارض أحدا فِي الحَدِيث ولتكن ألفاظك شهية لَا تمل ومعانيك صَحِيحَة لَا تختل وَقَالَ الرشيد لإسماعيل بن صبيح إياك والدالة فَإِنَّهَا تفْسد الْحُرْمَة وَمِنْهَا أَتَى البرامكة قَالَ المتنبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 (وَكم ذَنْب مولده دلال ... وَكم بعد مولده اقتراب) وَقَالَ أَبُو الْفَتْح البستي أَجْهَل النَّاس من كَانَ على السُّلْطَان مدلا وللإخوان مذلا وَمن كتاب كليلة ودمنة موصل الدَّالَّة على السُّلْطَان كالعابث بالسد والمستأنس بالنمر وَقَالَ ابْن المقفع من خدم الْمُلُوك فَعَلَيهِ بالملازمة من غير المعاتبة وَمن كتاب الْمُبْهِج لَا تسْتَقْبل سخط الْملك عَلَيْك بمعارضته ومناقضته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَلَا تستجلب رِضَاهُ بمحاجبته وملاحاته لَكِن بِالْتِزَام الْجنَاح وركوب الصعب والذلول فِي التمَاس عَفوه وتجشم الحرون والسهول بالإستعاذة من سطوته ثمَّ إياك والتهكم فِي التحكم على الْمُلُوك وَقيل اعتذر رجل إِلَى عبيد الله وَزِير الْمهْدي بِعُذْر غير سديد فَقَالَ مَا رَأَيْتُك عذرا أشتبه باستئناف ذَنْب من هَذَا وَقَالَ آخر فِي مثله عذرك هَذَا يحْتَاج إِلَى معذرة وَقَالَ أَبُو بكر الطَّبَرِيّ لتلميذ لَهُ اعتذر إِلَيْهِ بِعُذْر فَاسد عذرك هَذَا عذرة لَا معذورة وَقَالَ الصاحب بن عباد رضى السُّلْطَان لَا يغلو بِشَيْء من الْأَثْمَان وَلَو يبْذل الرّوح والجنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَقَالَ الْمَأْمُون الْمُلُوك تحْتَمل كل شَيْء إِلَّا ثَلَاثًا الطعْن فِي الْملك وإفشاء السِّرّ والتعرض للحرم وَقَالَ الْعَبَّاس لأبنه عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا وَقد كَانَ يخْتَص بعمر يَا بني إِنِّي أرى هَذَا الرجل يدنيك وَإِنِّي مُوصِيك بخلال لَا تفشين لَهُ سرا وتخونن لَهُ عهدا وَلَا تغتابن عِنْده أحدا وَلَا تطوي عَنهُ نصيحة وَقَالَ ابْن المعتز إِذا زادك الْملك تأنيسا فزده إجلالا وَقَالَ الشَّاعِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 (ذَا أدناك سُلْطَان فزده ... من التَّعْظِيم واحذره وراقب) (فمما السُّلْطَان إِلَّا الْبَحْر عظما ... وَقرب الْبَحْر مَحْذُور العواقب) وَقَالَ ابْن عباد (إِذا أَصبَحت الْمُلُوك فالبس ... من التحلي أجل ملبس) (وادخل إِذا مَا دخلت أعمى ... وَأخرج إِذا مَا خرجت أخرس) وَقيل السُّلْطَان كالنار إِن باعدتها بَطل نَفعهَا وَإِن قاربتها عظم ضررها وَقَالَ آخر ليكن السُّلْطَان عنْدك كالنار لَا تَدْنُو مِنْهَا إِلَّا عِنْد الْحَاجة فَإِن ابْتليت فعلى حذر وَقَالَ ابْن المعتز أَشْقَى النَّاس بالسلطان صَاحبه كَمَا أَن أقرب الْأَشْيَاء إِلَى النَّار أسرعها احتراقا وَقيل صَاحب السُّلْطَان كراكب السد يهابه النَّاس وَهُوَ لمركوبه أهيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَقيل مثل أَصْحَاب السُّلْطَان كقوم رقوا جبلا ثمَّ وَقَعُوا مِنْهُ فَكَانَ أبعدهم فِي المرقى أقربهم إِلَى التّلف وَقيل مثل السُّلْطَان مثل الْحَبل الصعب الَّذِي فِيهِ كل ثَمَرَة طيبَة وكل سبع حطوم فالإرتقاء إِلَيْهِ شَدِيد وَالْمقَام فِيهِ أَشد وَقَالَ ابْن المعتز من صحب السُّلْطَان فيصبر على قسوته كَمَا يصبر الغواص على ملوحة بحره وَقَالَ أَيْضا لَا تَلْتَبِس بالسلطان فِي حَال اضْطِرَاب الْأُمُور عَلَيْهِ فَإِن الْبَحْر لَا يكَاد يسلم رَاكِبه فِي حَال سكونه فَكيف عِنْد اخْتِلَاف رياحه واضطراب أمواجه ق 14 وَقَالَ أَيْضا إِن كَانَ الْبَحْر كثير المَاء فَإِنَّهُ بعيد المهوى وَقَالَ أَبُو الْفَتْح البستي شعرًا (صَاحب السُّلْطَان لَا بُد لَهُ ... من هموم تعتريه وغمم) (كَالَّذي يركب بحرا سيرى ... قحم الْأَهْوَال من غير قحم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَقَالَ ابْن المعتز من شَارك السُّلْطَان فِي عز الدُّنْيَا شَاركهُ فِي ذل الْآخِرَه وَقَالَ أَيْضا لَا يدْرك الْغنى بالسلطان إِلَّا نفس خائفة وَدين منثلم وَفِي بعض الْأَخْبَار من أقترب من أَبْوَاب السُّلْطَان افْتتن وَيجب على من صحب الْمُلُوك وَجَالسهمْ وَصَارَ من أهل المباسطة لَهُم والموانسة أَن لَا يطوي عَنْهُم نصيحة تعود عَلَيْهِم فِي صَلَاح الدّين ودوام المملكة وَحسن الأحدوثة عَنْهُم قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأس الدّين النَّصِيحَة وَلَا يحملهُ مَا يرَاهُ من محبَّة الْملك لما يرتكبه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 لذيذ شهواته وسروره بِمَا يَتَأَتَّى لَهُ من دَرك إِرَادَته وارتياحه إِلَى تَنْفِيذ أوامره ونواهيه واغتباطه من السياسة بِمَا يذره ويأتيه مِمَّا يكسبه إِثْمًا أَو يلْحقهُ وصما أَو تعود عاقبته إِلَى فَسَاد فِي مَمْلَكَته أَو اختلال فِي دولته على مُوَافَقَته فِي اسْتِحْسَان مَا استحسنه ومتابعته على استصواب مَا خيل إِلَيْهِ رَأْيه من ذَلِك وزينه فَإِن ذَلِك من أعظم دَلَائِل الخاينة وَهُوَ مباين لسبيل النصح وَالْأَمَانَة بل يَنْبَغِي أَن يتلطف لَهُ فِي حَال استئناسه بِهِ وميله إِلَيْهِ وإدنائه مِنْهُ وإقباله عَلَيْهِ بإرشاده إِلَى أوضح الطّرق وأنهج السبل وَيبين لَهُ مَا ينتجه فعله من الْفساد والخلل فَإِنَّهُ مَتى قصد بذلك من إخلاص قلبه وَنِيَّته وَصدق ضَمِيره ورغبته إِظْهَار النصح الْوَاجِب عَلَيْهِ لأميره وسلطانه وَمن أنعم عَلَيْهِ بعوائده وإحسانه وتأدية النصح وَالْأَمَانَة والتنكب عَن مناهج الْغِشّ والخاينة أوقع الله تَعَالَى فِي قلب سُلْطَانه قبُول نصيحته والإصغاء إِلَى مشورته وَلَو اتّفق لسلطانه مثلا كَرَاهِيَة لقَوْله واتهاما فِي نصحه وَغَضب من موعظته لَهُ واستعظام للإنكار عَلَيْهِ فِي الْحَال فيوشك عَن قرب أَن ينصح لَهُ عِنْد اختلال تَدْبيره وَفَسَاد أُمُوره استصوابا لما سبق من رَأْيه ونصيحته ويندم على مَا فرط من إِنْكَاره عَلَيْهِ ومخالفته فيكسبه ذَلِك عِنْده منزلَة لَا يساميه فِيهَا سواهُ وَلَا يُسَاوِيه أحد من قصر عَن وُصُول مداه وَمَتى تَابعه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 رَأْيه المعتل وَنَظره المختل مَعَ علمه بفساده خوفًا من سخطه وإبعاده فيوشك أَن يسخطه الله عَلَيْهِ وَترجع عَاقِبَة مكره إِلَيْهِ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من التمس رضى الله بسخط النَّاس رَضِي الله عَنهُ وأرضى النَّاس وَمن التمس رضى النَّاس بسخط الله سخط الله عَلَيْهِ وأسخط النَّاس وَدخل الْفضل بن سهل على الْمَأْمُون وَبَين يَدَيْهِ الشطرنج يلْعَب بهَا فَرمى بهَا وَقَالَ أَنا أحدث النَّاس أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ مُنْفَرد بِالصَّلَاةِ وَالْعلم وَالنَّظَر فِي أُمُور الْمُسلمين وَهُوَ على هَذِه الْحَال فَشكر لَهُ على ذَلِك وَمن النصح أَن يُنَبه دَائِما على طرق المكارم والمفاخر والمساعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الحميدة والمآثر ليسلكها ويهجن عِنْده المساوىء والقبائح ويبالغ فِي ذمها ليتجنبها وَيذكر عِنْده طرق الْخِيَار ومحاسن السّير والْآثَار وَمَا جرى للملوك من قبله من المساعي الشَّرِيفَة والْآثَار الحميدة وَحسن السِّيرَة ليقتدي بهم فِي المناقب والفضائل ويتنكب عَن سبل المثالب والرذائل ليستعمل مَا يُورِدهُ من أَمْثَال الْحُكَمَاء وأقوال البلغاء وَليكن على الْجُمْلَة كَمَا سبق فِي وَصِيَّة الْعَبَّاس رضى الله عَنهُ ق 15 لإبنه وكما قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز من صَحِبنَا فليصحبنا بِأَرْبَع خِصَال يدلنا على عيوبنا وَيرْفَع إِلَيْنَا حَاجَة من لَا يصل إِلَيْنَا وَلَا يفش لنا سرا وَلَا يغتابن عندنَا أحد وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يكون حسن الْمحْضر فِي حق الْغَائِب مُجْتَهدا فِي بذل الشَّفَاعَة للمذنب والمطالب قَالَ الله تَعَالَى {من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا وَمن يشفع شَفَاعَة سَيِّئَة يكن لَهُ كفل مِنْهَا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشفعوا تؤجروا وَيَقْضِي الله على لِسَان نبيه مَا شَاءَ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَ وصلَة لِأَخِيهِ إِلَى ذِي سُلْطَان فِي مَنْهَج بر أَو تيسير عسير أَعَانَهُ الله على إجَازَة الصِّرَاط يَوْم تدحض فِيهِ الْأَقْدَام وَقَالَ زِيَاد اشفعوا لمن وراءكم فَلَيْسَ كل أحد يصل إِلَى السُّلْطَان وَلَا كل من يصل إِلَيْهِ يقدر على كَلَامه وَقَالَ بعض الْكتاب بقدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الشَّفِيع تورى نَار النجاح وَمن كف المغيض ينْتَظر فوز القداح وَقَالَ البحتري (وَعَطَاء غَيْرك أَن بذلت ... عناية فِيهِ عطاؤك) وَقَالَ آخر (خليلي مَاذَا ارتجى من غَد أمرىء ... طوى الكشح عني الْيَوْم وَهُوَ مكين) (وَإِن أمرا قد ضن يَوْمًا بمنطق ... يسد بِهِ فقر امرء لضنين) وَقَالَ آخر (وأهون مَا يعْطى الصّديق صديقه ... من الهين الْمَوْجُود أَن يتكلما) وليتجنب السّعَايَة بِكُل حَال فَإِنَّهَا دناءه وسخف قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدخلن الْجنَّة قَتَّات قلت القَتَّات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 النمام قَالَ الْأَحْنَف بن قيس فِي ذكر السعاة مَا ظَنك بِقوم الصدْق مَحْمُود إِلَّا مِنْهُم وَقَالَ رجل أَخْبرنِي ثِقَة عَنْك بِسوء فَقَالَ الثِّقَة لَا ينم وَقَالَ بَعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 السَّاعِي كَاذِب لمن يسْعَى لَهُ أَو خائن لمن يسْعَى عَلَيْهِ وَقيل السَّاعِي يقتل ثَلَاثَة نَفسه وسلطانه والمسعي بِهِ وَكتب سوار بن عبد الله القَاضِي إِلَى الْمَنْصُور أَن رجلا من حمير يشْتم السّلف فَكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور إِنَّا بعثناك قَاضِيا وَلم نبعثك ساعيا وَرفع إِلَى بعض الْخُلَفَاء أَن رجلا مَاتَ وَترك مَالا كثيرا وَلَا وَارِث لَهُ إِلَّا ولد صَغِير فَوَقع على ظهر الرقع الْمَرْفُوع إِلَيْهِ الْمَيِّت رَحْمَة الله واليتيم جبره الله وَالْمَال أنماه الله والساعي لَعنه الله وَقَالَ الحريري زين الرُّعَاة مقت السعاة وَقَالَ آخر جَزَاء السعاة مقت الرُّعَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 بَاب فِي اخْتِيَار الأجناد والحماة وَوصف الْأَبْطَال مِنْهُم والكماة وَقَالَ الصابي الْملك أَحَق باصطفاء رِجَاله مِنْهُ باصطفاء أَمْوَاله لِأَنَّهُ مَعَ اتساع المر وجلالة الْقدر لَا يَكْتَفِي بالوحدة وَلَا يَسْتَغْنِي عَن الْكَثْرَة وَمثله فِي ذَلِك مثل الْمُسَافِر فِي الطَّرِيق الْبَعِيدَة الَّذِي يجب عَلَيْهِ أَن تكون عنايته بفرسه المجنوب مثل عنايته بفرسه المركوب وَقَالَ الشَّاعِر (وَشَرطه الفلاحة غرس الثِّمَار ... وَشرط الرياسة عرس الرِّجَال) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَمن كتاب الْمُبْهِج أُمُور الْملك بأصحاب الذرائع والأقلام وأرباب الدروع والأعلام فَأُولَئِك للكتب والآراء وَهَؤُلَاء للكتائب والرايات للأعداء وَقَالَ إِذا شحن الْملك قُلُوب جنده بالشحناء فَلَا ينتظرن مِنْهُم حسن الْبلَاء وَقَالَ خَادِم الْملك لَا يتَقَدَّم فِي رِضَاهُ خطْوَة إِلَّا اسْتَفَادَ بهَا حظوة وَقَالَ إِذا اصْطنع الْملك أمرا فليثبت قدمه وليبث قوادمه وَقَالَ غَيره أفض على جندك ق 17 واصرف إِلَيْهِم حسن غناك فَإِنَّهُم أهل الأنفة وَالْحمية وحفظة السَّادة والرعية وسيوف الْملك وَالسُّلْطَان وحصون الممالك والبلدان بهم تدفع العوادي وتقهر المعادي وَيَزُول الْخلَل ويضبط الْعَمَل فقو ضعيفهم يقو أَمرك وأغن فقيرهم يشْتَد أزرك وامنحهم قبل الْعرض واحترمهم قبل الْفَرْض وَلَا تثبت مِنْهُم إِلَّا على الوفي الكمي الَّذِي لَا يعدل عَن الْوَفَاء وَلَا يجبن عِنْد الهيجاء فَإِن المُرَاد بهم قُوَّة الْعدة لَا كَثْرَة الْعدة وَمن قتل مِنْهُم فِي طَاعَتك وَاسْتشْهدَ تَحت رَايَتك فاكفل بنيه وذب عَن أهليه فَإِن ذَلِك مِمَّا يزيدهم رَغْبَة فِي خدمتك ويسهل عَلَيْهِم بذل المهج والرواح فِي نصْرَة دولتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَقَالَ من أبلى بدمه فِي خدمتك وأوفى فِي طَاعَتك فارع ذمامه فِي حَيَاته واكفل أيتامه بعد وَفَاته فَإِن الْوَفَاء لَك بِقدر الْجَزَاء مِنْك وَقَالَ لَا تغفل مُكَافَأَة من يعْتَقد لَك الْوَفَاء ويناضل عَنْك العداء فَمن حرمته مُكَافَأَة مثله زهد فِي معودة فعله وَقيل من حفظ مَاله ضيع رِجَاله أَي ملك أحسن إِلَى كفاته وأوعوانه وَاسْتظْهر ملكه وسلطانه وَأي ملك أَسَاءَ إِلَى جَيْشه وجنده أحسن إِلَى عدوه وضده قَالَ الصابي الْملك بِمن غلط من أَتْبَاعه واتعظ أَشد انتفاعا مِنْهُ بِمن لم يغلط فَلم يتعظ لِأَن الأول كالقارح الَّذِي أدبته الْغرَّة وأصلحته الندامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وَالثَّانِي كالجذع المنهوك الَّذِي هُوَ رَاكب للغرة وراكن إِلَى السَّلامَة وَالْعرب تزْعم أَن الْعظم إِذا جبر بعد كسر عَاد صَاحبه أَشد بطشا وَأقوى أيدا وَقَالَت الْعَجم يَنْبَغِي أَن يكون فِي قَائِد الْجَيْش وثبة السد وأسلاب الحداة وختل الذِّئْب وروغان الثَّعْلَب وصبر الْحمار وَحَملَة الْخِنْزِير وبكور الْغُرَاب وحراسة الكركي وَمن كتاب الْمُبْهِج أحسن الجيوش مَا كَانَ ذَا أَفْوَاج كالأمواج وخيول كالسيول ومراكب كالكواكب الْفَارِس من يسْبق فرسه الرّيح وَرمحه الرّوح الْفَارِس من يكمن كمون السد ثمَّ يبرز بروز الْأسد البطل من يُؤثر مقارعة القنا القواني على منادمة الْقَيْنَات والقيناني البطل من ينظم جسوم الْأَعْدَاء برماحه وينثرها بصفاحه البطل من إِذا ضرب صم وَإِذا رمي أصمى وَإِذا قصد أقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 السِّلَاح جنَّة الْأَبدَان ووقاية النَّفس قد يجبن الشجاع بِلَا سلَاح ويشجع الجبان بِالسِّلَاحِ ووقاية الْأَنْفس قد يجبن الشجاع بِلَا سلَاح ويشجع الجبان بِالسِّلَاحِ استعصام الْفَارِس بالدرع السابل وَالرمْح الذابل وَقَالَ غَيره السِّلَاح ثمَّ الكفاح وَقَالَ قبل نزُول الْحَرْب تملأ الكناين وَقَالَ الْأَمِير شمس الْمَعَالِي قُوَّة الْجنَاح بالقوادم والخوافي وَعمل الرماح بالأسنة والعوالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بَاب فِي مدح الاستشارة وذم الاستبداد بِالرَّأْيِ قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وشاورهم فِي الْأَمر} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قَالَ الْحسن كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَنِيا عَن مشاورتهم وَلَكِن أَرَادَ أَن يستن بذلك الْحُكَّام وَقَالَ غَيره بل أَرَادَ بذلك لما فِيهِ من الْفضل ولتأسي أمته بذلك بعده وَقيل إِنَّمَا أمره بذلك تطييبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 لقُلُوبِهِمْ وَقيل إِنَّمَا أَمر أَن يشاورهم فِيمَا لم يكن عِنْده وَحي لِأَنَّهُ قد يكون عِنْد بَعضهم فِيهِ علم وَالنَّاس قد يعْرفُونَ من أُمُور الدُّنْيَا مَا لم تعرف الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ الله فِي مدح الْمُؤمنِينَ {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا خَابَ من استخار وَلَا نَدم من اسْتَشَارَ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا شقي عبد بمشورة وَلَا سعد من اسْتغنى بِرَأْي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَقَالَ الشّعبِيّ مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة من لم يستشر ينْدَم قَالَ أَبُو هُرَيْرَة مَا رَأَيْت من النَّاس أحد أَكثر مشورة لأَصْحَابه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الاستشارة لأَصْحَابه فِي قصَص كَثِيرَة مِنْهَا أَنه لما أَرَادَ مصالحة عُيَيْنَة بن حصن الْفَزارِيّ والْحَارث بن عَوْف المري حِين حصره الْأَحْزَاب فِي الخَنْدَق على أَن يعطيهم ثلث ثمار الْمَدِينَة ويرجعا بِمن مَعَهُمَا من غطفان عَنهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أشاور السُّعُود يَعْنِي سعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ق 18 بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة وَسعد بن زُرَارَة فاستشارهم فأشاروا عَلَيْهِ أَن لَا يعطيهما فَلم يعطيهما شَيْئا وَمِنْه أَنه اسْتَشَارَ فِي أُسَارَى بدر فَأَشَارَ أَبُو بكر بِالْفِدَاءِ وَأَشَارَ عمر بِالْقَتْلِ فَعمل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَأْي أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَلما نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببدر نزل بأدنا مَاء فَقَالَ الْحباب بن مُنْذر يَا رَسُول الله ارأيت هَذَا الْمنزل أمنزل أنزلكه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لَيْسَ لنا أَن نتقدمه وَلَا نتأخر عَنهُ أم هُوَ الرَّأْي وَالْحَرب والمكيدة فَقَالَ بل هُوَ الرَّأْي وَالْحَرب والمكيدة قَالَ إِن هَذَا لَيْسَ لنا بمنزل فانهض بِالنَّاسِ حَتَّى نأتي أدنى منزل من الْقَوْم فننزله ثمَّ نغور مَا وَرَاءه من الْقلب ونبني لَك حوضا فنملأه مَاء ثمَّ نُقَاتِل النَّاس فنشرب وَلَا يشربون فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد أَشرت بِالرَّأْيِ فَنَهَضَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمن مَعَه حَتَّى أَتَى أدنى مَاء من الْقَوْم فَنزل عَلَيْهِ وَفعل مَا أَشَارَ بِهِ الْحباب بن الْمُنْذر وشاور عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام عليا بن أبي طَالب عَلَيْهِ إِسْلَام وَأُسَامَة بن زيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فِي قصَّة الْإِفْك وَفِي أَمر عَائِشَة فَقَالَ أُسَامَة أهلك يَا رَسُول الله وَلَا نعلم إِلَّا خيرا وَرُوِيَ أَيْضا فِي حَدِيث الْإِفْك أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على الْمِنْبَر مَا تشيرون عَليّ فَيقوم يسبون أَهلِي مَا علمت عَلَيْهِم إِلَّا خيرا وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِذا نزل بِهِ أَمر يُرِيد فِيهِ مُشَاورَة ذَوي الرَّأْي وَالْفِقْه دَعَا رجَالًا من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار دَعَا عمر وَعُثْمَان وعليا وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف ومعاذ بن جبل وَأبي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت فَمضى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على ذَلِك ثمَّ ولي عمر رَضِي الله عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَكَانَ يَدْعُو هَؤُلَاءِ النَّفر وروى أَن الْقُرَّاء كَانُوا أَصْحَاب مشورة عمر رَضِي الله عَنهُ كهولا كَانُوا وشبانا وَرُوِيَ أَنه اسْتَشَارَ فِي حد الْخمر فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ترَاهُ إِذا سكر هذى وَإِذا هذى افترى وعَلى المفتري ثَمَانُون جلدَة فَعمل بِرَأْيهِ وَاسْتَشَارَ فِي قصَّة الْمَرْأَة الَّتِي بعث إِلَيْهَا فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا من الْفَزع فَقَالَ عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف إِنَّمَا أَنْت وَال مؤدب وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أرى عَلَيْك دِيَته لِأَنَّك أفزعتها وَأخذ بِرَأْيهِ وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْبَاب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين تكْثر جدا وَتخرج بِنَا عَن حد الِاخْتِصَار فلنقصر مِنْهَا على هَذَا الْمِقْدَار ولنذكر شَيْئا من كَلَام الْحُكَمَاء والبلغاء فَمن كتاب الْمُبْهِج يَنْبَغِي للْملك إِذا كَانَ ذِي رَأْي أصيل أَن يستشير فيستنير ويستمد وَلَا يستبد فَإِن ثَمَرَة المشورة أحلى من الْعَسَل المشور قَالَ بعض البلغاء من اسْتَشَارَ استبصر وَمن استخار استظهر وَقيل من استبد بِرَأْيهِ خفت وطأته على أعدائه وَقَالَ بَعضهم لَا يَسْتَغْنِي حَلِيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 عَن مشورة وَلَا ذُو تجربة عَن تبصر وَقَالَ بعض الْعَرَب الْعَاقِل من الرِّجَال لَا يَسْتَغْنِي عَن مشورة ذَوي الْأَلْبَاب وَلَا يستفزه الْغَضَب عِنْد الْأَصْحَاب وَقَالَ آخر إِذا أنْكرت عقلك فامزجه بآخر لعاقل وَرُبمَا احْتَاجَ السَّيْف الصَّقِيل إِلَى مسن الصاقل وَقَالَ الْحسن وَالله مَا تشَاور قوم قطّ إِلَّا هدَاهُم الله لأَفْضَل مَا يحضرهم وَقَالَ مَالك بن أنس رَحمَه الله مَا تشَاور قوم إِلَّا هدَاهُم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 إِلَى رشدهم قَالَ بعض البلغاء من جهل الْمَرْء وسفه رَأْيه أَن يتَصَوَّر فِي نَفسه ويتقرر فِي حسه أَن استمداد الآراء واستشارة النصحاء مِمَّا يزري بِهِ وَيَضَع من قدره فيستبد بِالتَّدْبِيرِ ويعرض عَن المشير فَيبقى فِي ظلمَة الْحيرَة وَيحصل على الْهم وَالْحَسْرَة قَالَ من حق الْعَاقِل أَن يضيف إِلَى رَأْيه رَأْي الْعلمَاء وَإِلَى عقله عقول الْحُكَمَاء ويديم الإسترشاد وَيتْرك الإستبداد فَمن استشاد ق 19 الْعَالم فِيمَا ينويه واسترشد الْعَاقِل فِيمَا يَأْتِيهِ وضحت لَهُ الْأُمُور وَصلح لَهُ الْجُمْهُور واستنار فِيهِ الْقلب وَسَهل عَلَيْهِ الصعب وَقَالَ لَا تأنف من الإسترشاد وَلَا تستنكف من الإستمداد فَلِأَن تستشير وتندم خير من أَن تستبد وتسلم وَقَالَ آخر المشاور بَين إِحْدَى الحسنيين صَوَاب يفوز بِهِ أَو خطأ يُشَارك فِي مكروهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَقَالَ ابْن المعتز من أَكثر المشورة لم يعْدم عِنْد الصَّوَاب مادحا وَعند الْخَطَأ عاذرا وَقَالَ المشورة رَاحَة لَك وَعون على الْخطب وَقَالَ المشورة رَاحَة لَك وتعب على غَيْرك وَقَالَ المستشير على طرف النجاح وَقَالَ غَيره المشورة عين الْهِدَايَة وَقَالَ خاطر من اسْتغنى بِرَأْيهِ وَقَالَ نصف عقلك مَعَ أَخِيك فشاوره وَقَالَ آخر إِذا شاورت الْعَاقِل كَانَ لَك نصف عقله قَالَ الشَّاعِر (الرَّأْي كالليل مسود جوانبه ... وَاللَّيْل لَا ينجلي إِلَّا بإصابع) (فاضمم مصابيح آراء الرِّجَال ... إِلَى مِصْبَاح رَأْيك تَزْدَدْ ضوء مِصْبَاح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَمِمَّا قيل فِي ذَلِك قَول بشار (إِذا بلغ الرَّأْي المشورة فَاسْتَعِنْ ... تعزم نصيح أَو نصيحة حَازِم) (وَلَا تجْعَل الشورى عَلَيْك غَضَاضَة ... فريش الخوافي نَافِع للقوادم) وَقَالَ رجل من عبس وَقد سُئِلَ مَا أَكثر صوابكم فَقَالَ نَحن ألف رجل فِينَا رجل وَاحِد حَازِم فَنحْن نشاوره فكأنا ألف حَازِم وَقيل اسْتَشَارَ قوم من الْعَرَب شَيخا لَهُم قد قَارب التسعين فِيمَا يدْرك بِهِ الثأر وينفى بِهِ الْعَار فَقَالَ إِن وَهن قواي قد فسخ همتي ونكث عزيمتي وَلَكِن شاوروا الشجعان من أولي الْعَزْم والجبناء من أولي الحزم فَإِن الجبان لَا يألوا بِرَأْيهِ مَا يقي مهجكم والشجاع لن تَعْدَمُوا بمشورته مَا يشيد ذكركُمْ ثمَّ خلصوا بَين الرأيين بنتيجة تنأى بكم عَن معرة تَقْصِير الجبان وتهور الشجاع فَإِذا نجم الرَّأْي بِهَذَا الْعلم كَانَ أنفذ على عَدوكُمْ من السهْم الزالج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قَالَ شاور فِي أَمرك من تثق مِنْهُ بعقل صَحِيح وود صَرِيح فالعاقل مَا ينصح مَا لم يصف وده والودود لَا يصف مَا لم يَصح عقله قَالَ بعض الشُّعَرَاء (خَصَائِص من تشاوره ثَلَاث ... فَخذ مِنْهَا لنَفسك بالوثيقة) (وداد خَالص ووفور عقل ... وَمَعْرِفَة بحالك فِي الْحَقِيقَة) (فَمن تخلص لَهُ هَذِه الْمعَانِي ... فتابع رَأْيه والزم طَرِيقه) وَقَالَ بعض البلغاء الْمَرْء إِذا اسْتَشَارَ الرشيد وَعمل بمشورته واستنصح الرشيد وَبنى على نصيحته لم يفته حزم وَلم يغلبه عزم وَقَالَ من استوزر غير كَاف خاطر بِملكه وَمن اسْتَشَارَ غير أَمِين أعَان على هلكه وَقَالَ عبد الله بن الْحسن احذر مشورة الْجَاهِل وَإِن كَانَ ناصحا كَمَا تحذر غيلَة الْعَاقِل إِذا كَانَ عدوا فيوشك أَن تورطك مشورة الْجَاهِل ويسبق إِلَيْك مكر الْعَاقِل وَقيل صَوَاب الْجَاهِل كزلة اللبيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَعَن ابْن شهَاب قَالَ بَلغنِي أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ استشر فِي أرم الَّذين يَخْشونَ الله وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام رَأْي الشَّيْخ خير من مشْهد الْغُلَام وَقَالَ لُقْمَان الْحَكِيم شاور من جرب الْأُمُور فَإِنَّهُ يعطيك من رَأْيه مَا كَانَ عَلَيْهِ بالغلاء وَأَنت تَأْخُذهُ بالمجان وَقيل لتكن مشورتك بِاللَّيْلِ فَإِنَّهُ أجمع للرأي والفكر وأعون على الذّكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بَاب فِي مدح الْعدْل وإيثاره وذم الْجور وآثاره الْعدْل ميزَان الله فِي أرضه وَضعه لِلْخلقِ ونصبه للحق فَمن ق 20 خَالفه فِي مِيزَانه وعارضه فِي سُلْطَانه فقد عرض دينه للخبال ودولته للزوال وعزه للذل وكثرته للقل وَقيل كل دولة بني أساسها على الْعدْل أمنت الإنعدام وسلمت الإنهدام وَفِي الزبُور الْعدْل ميزَان الْبَارِي فَلذَلِك هُوَ مبرأ من كل زلل وميل وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عدل سَاعَة فِي حُكُومَة خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء عدل السُّلْطَان خير من خصب الزَّمَان أردشير المملكة لَا تصلح إِلَّا بأعداد الأجناد وَلَا تعد الأجناد إِلَّا بإدرار الرَّزَّاق وَلَا تدر الأرزاق بِكَثْرَة الْأَمْوَال إِلَّا بعمارة الْبِلَاد وَلَا تعمر الْبِلَاد إِلَّا بالأمن وَالْعدْل فِي الْعباد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وَقَالَ جَعْفَر بن يحي بن خَالِد الْخراج عماد الْملك فَمَا اسْتغْفر بِمثل الْعدْل وَمَا استزر بِمثل الْجور وَمِمَّا يدل على صِحَة هَذَا الْكَلَام مَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ حِين جنى سَواد الْعرَاق مئة ألف ألف وَتِسْعَة وَثَلَاثِينَ ألف ألف ثمَّ جناه الْحجَّاج فِي زَمَانه ثَمَانِيَة عشر ألف ألف وَقَالَ إِن عِشْت إِلَى قَابل جنيتها كَمَا جناها عمر الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَانْظُر إِلَى هَذَا التَّفَاوُت الْعَظِيم بَين جني العمرين وجني الْحجَّاج وَلَيْسَ لزيادته سَبَب وَلَا لنقصانه سوى الْعدْل والجور وَقَالَ أنو شرْوَان إِن الْملك إِذا كثرت أَمْوَاله مِمَّا يَأْخُذ من رَعيته كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 كمن يعمر سطح بَيته بِمَا يقتلع من قَوَاعِد بُنْيَانه وَكتب عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَى الْحجَّاج فِي أَمر أهل السوَاد ابق لَهُم لحوما يعقدوا بهَا شحوما وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا يكون الْعمرَان حَيْثُ يجور السُّلْطَان وَقيل الْعدْل أقوى جَيش والأمن أهنىء عَيْش وَقَالَ بَعضهم الدول إِذا افتتحت بِالْعَدْلِ امتدت آمادها وَثَبت أعمادها وَمن كتاب الْمُبْهِج إِذا ملك الْعَادِل زَالَ الروع وأفرخ وَإِذا ملك الظَّالِم عشش الشَّرّ وفرخ وَقَالَ إِذا نطق الْعدْل فِي دَار الْإِمَارَة فلهَا الْبُشْرَى بالعز والعمارة وَقَالَ عدل السُّلْطَان لدينِهِ أحوط ولدنياه أضبط ولأوليائه أثبت ولأعدائه أكبت وَقيل إِذا عقد السُّلْطَان بِالْعَدْلِ عقيدته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وطوى على الْإِحْسَان طويته فليبشر بِالنَّجْمِ الأسعد وَالْجد الأصعد وَقَالَ مَا أَحْرَى الْملك الْعَادِل بالإرتفاع إِلَى نفاع الْملك والصعود إِلَى سعود الْفلك قَالَ من عدل نفذ حكمه وقرطس فِي المطالب سَهْمه وَمن ظلم تعجل زَوَال النعم وحلول النقم وَقيل من عدل حصن ملكه وَمن ظلم فقد استعجل هلكه وَقيل من عدل زَاد قدره وَمن ظلم نقص عمره وَقيل من عدل فِي سُلْطَانه اسْتغنى عَن أعوانه وَقيل أفضل الْمُلُوك من أحسن فِي فعله وَنِيَّته وَعدل فِي جنده ورعيته وَقيل من ساءت سيرته لم يَأْمَن أبدا وَمن حسنت سيرته لم يخف أحدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرّ الرُّعَاة الحطمة قلت الحطمة من الرُّعَاة هُوَ العنيف برغبة المَال فَكَأَنَّهُ ق 21 يحطمها أَي يكسرها وَيَأْتِي عَلَيْهَا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَفِي التَّوْرَاة من يظلم يخرب بَيته وَفِي الزبُور إِذا ظلمت من دُونك فَلَا تأمن من فَوْقك وَفِي الحَدِيث دَار الظَّالِم خراب وَلَو ببعد حِين وَقَالَ مُعَاوِيَة أنقص النَّاس عقلا من ظلم من هُوَ دونه وَفِي بعض الْأَحَادِيث اتَّقوا ظلم من لَا نَاصِر لَهُ إِلَّا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَقيل الهأم الظُّلم ظلم الضَّعِيف وَقيل الظُّلم مسْلبَةٌ للنعم مجلبة للنقم وَقيل أقرب الْأَشْيَاء صرعة الظلوم وأنفذ السِّهَام دَعْوَة الْمَظْلُوم قَالَ اتَّقوا دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهَا ترفع على الْغَمَام وَيَقُول الله عز وَجل وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لأنصرنك وَلَو بعد حِين وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثَلَاث دعوات مستجابات لَا شكّ فِيهِنَّ دَعْوَة الْمَظْلُوم ودعوة الْمُسَافِر ودعوة الْوَالِد على وَلَده وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لمولى لَهُ وَقد اسْتَعْملهُ على الْحمى اتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهَا مجابة وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من ساءت سيرته سرت منيته وَمن قبح ملكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 حسن هلكه وَمن كال تعديه كثر أعاديه وَمن طَالَتْ عداوته زَالَ سُلْطَانه من طَال اعتداؤه قرب فناؤه من تغذى بِسوء السِّيرَة تعشى بِزَوَال الْقُدْرَة وَفِي بعض الْآثَار الْملك يبْقى على الْكفْر وَلَا يبْقى على الظُّلم وَقَالَ بعض البلغاء من ظلم أَوْلَاده وَمن أفسد أمره أفسد معاده وَمن كتاب الْمُبْهِج أخلق بِالْملكِ الظلوم أَن يصير عظة للرائين وعبرة للراوين بشر الْملك الغشوم بالمجن من وُجُوه الْمنح والنوائب من مَوَاضِع الْمَوَاهِب والفتوق من جِهَة الْفتُوح إِذا كَانَ الْملك جائرا فسلام على سَلامَة الرّعية أخلق بالظالم أَن ينهار فِي جرف هار وَمن نتائج الظُّلم قصر الْمدَّة وَانْقِطَاع المدد وانفصال الْعدَد ظلّ المَال المستثمر من ظلم الرِّجَال كسحاب تمزقه أَيدي الْجنُوب وَالشمَال وتفرقه ذَات الْيَمين وَذَات الشمَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قيل الظَّالِم قَلِيل المعونة قَبِيح الذّكر والأحدوثة الظُّلم لَا يُقَال صريعه وَلَا يساغ ضريعه مَا أبين سوء الشؤم فِي وَجه الغشوم قَالَ ابْن المعتز الظَّالِم يُعِيد الوثبة قريب الصرعة قيل من لم يعدل عدل الله فِيهِ وَمن حكم لنَفسِهِ حكم الله عَلَيْهِ وَقَالَ اذكر عِنْد الظُّلم عدل الله فِيك وَعند الْقُدْرَة قدرَة الله عَلَيْك وَقَالَ الظُّلم من اللؤم والإنصاف من السخاء وَقَالَ آخر الظُّلم أسْرع إِلَى تَبْدِيل نعْمَة وتعجيل نقمة وَقيل الظُّلم طَرِيق إِلَى سخط الله تَعَالَى وَوَقع يحي بن خَالِد الْبَرْمَكِي بئس الزَّاد إِلَى الْمعَاد ظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 (أما وَالله إِن الظُّلم لؤم ... وَمَا زَالَ الْمُسِيء هُوَ الظلوم) (إِلَى ديان يَوْم الدّين نمضي ... وَعند الله تَجْتَمِع الْخُصُوم) وَقَالَ آخر (وَمَا من يَد إِلَّا يَد الله فَوْقهَا ... وَمَا ظَالِم إِلَّا سيبلى بظالم) وَقَالَ آخر (إِذا جَازَ الْأَمِير وكاتباه ... وقاضي الأَرْض أسرف فِي الْقَضَاء) (فويل للأمير وكاتبيه ... وقاضي الأَرْض من قَاضِي السَّمَاء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فصل فِي ذكر الْبَغي قَالَ الله تَعَالَى {ثمَّ بغي عَلَيْهِ لينصرنه الله} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ شَيْء أسْرع عُقُوبَة من بغي وَفِي بعض الْآثَار لَو بغى جبل على جبل لجعله الله دكا قَالَ أَبُو بكر الصّديق الله عَنهُ ثَلَاث من كن فِيهِ كن عَلَيْهِ الْبَغي والنكث وَالْمَكْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَقيل من سل سيف الْبَغي قتل بِهِ وَقيل الْبَغي مرتعه وخيم وَقيل احذر مصَارِع الْبَغي قَالَ بَعضهم من ق 22 سل سيف الْبَغي أغمد فِي رَأسه وَمن أسس أساس السوء أسسه على نَفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بَاب فِي ذكر الْعَفو ومدح مستعمله فِي أَكثر أَحْوَاله والانتقام وَمحل اسْتِعْمَاله اعْلَم أَن الْحلم مَحْمُود فِي مَحَله وَالْعَفو مستحسن إِذا اسْتعْمل مَعَ أَهله قَالَ الله تَعَالَى {وَأَن تعفوا أقرب للتقوى} وَقَالَ جلّ وَعلا {والكاظمين الغيظ وَالْعَافِينَ عَن النَّاس وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا مَا غضبوا هم يغفرون} وَكَانَ مُعَاوِيَة يَقُول أَنى لأنف أَن يكون فِي الأَرْض جهل لَا يَسعهُ حلمي وذنب لَا يَسعهُ عفوي وحاجة لَا يَسعهَا جودي وَأَغْلظ لَهُ رجل أُسَمِّهِ مَا يكره فِي وَجهه فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي لم أتجرع جرعة قطّ هِيَ ألذ عِنْدِي من جرعة غيظ وحنق رَددتهَا بِعَفْو لسقيت الأَرْض من دمك ارْجع إِلَى أهلك سالما وَقَالَ اردشير من عاقب على الذَّنب فقد عدل وَمن صفح عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فقد تفضل فَاجْعَلْ لَك من الْعَفو مَا تستدعي بِهِ من الله النَّصْر وتستنزل بِهِ جميل الصنع وَهَذَا نَظِير قَول عبد الحميد الْكَاتِب الانتقام عدل والتجاوز فضل وَأَنا أُعِيذك بِاللَّه أَن ترْضى لنَفسك بأبخس الحظين واوكس النَّصِيبَيْنِ دون أَن تبلغ أَعلَى الدرجتين وَاسْتَشَارَ الْمَأْمُون الْحسن بن سهل فِي قتل إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن قتلته فلك نَظِير فِي قَتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وَإِن عَفَوْت عَنهُ فَلَا نَظِير لَك فعفى عَنهُ وَمِمَّا اسْتحْسنَ من اعتذار إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي قَوْله إِن بلغ جُرْمِي استحلال دمي فحلم أَمِير الْمُؤمنِينَ وفضله يبلغاني عَفوه لي بعد ذَلِك شُفْعَة الْإِقْرَار بالذنب بعد الْأَب وَقَوله شعرًا (أذنبت ذَنبا عَظِيما ... وَأَنت أعظم مِنْهُ) (فَخذ بحقك أَولا ... فاصفح بِحِلْمِك عَنهُ) (إِن لم أكن فِي فعالي ... من الْكِرَام فكنه) وَقَوله (أذنبت ذَنبا عَظِيما ... وَأَنت للعفو أهل) (فَإِن عَفَوْت فَمن ... وَإِن جزيت فَعدل) فَقَالَ الْمَأْمُون لَو لم يكن فِي حق نسبك مَا يقوم بالصفح عَنْك لبلغك مَا أملت حسن تنصلك ولطف توصلك وَأَن ذَنبا أَوله هفوة وَآخره تَوْبَة لحقيق أَن لَا يكون على مثله عُقُوبَة وَقَالَ الْمَأْمُون لإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي لقد أَشَارَ عَليّ كل أحد بقتلك حَتَّى أخي أبي إِسْحَاق وَابْني الْعَبَّاس فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّهُم نصحوا لَك بذلك فِي لَوَازِم الْخلَافَة وَمَا جرت بِهِ أَحْكَام السياسة وَلَكِن يَأْبَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يستجلب النَّصْر إِلَّا كَمَا عوده الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فَقَالَ الْمَأْمُون قد مَاتَ حقدي لحياة عذرك وعفوت عَنْك وَأعظم من عفوي عَنْك أَنِّي لم أجرعك امتنان الشافعين ثمَّ سجد الْمَأْمُون طَويلا ثمَّ رفع رَأسه فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم أَتَدْرِي لم سجدت فَقلت شكرا لله ظفرك بعدو دولتك فَقَالَ مَا أردْت هَذَا وَلَكِن شكرا لله على مَا ألهمنيه من الْعَفو عَنْك فَقَالَ إِبْرَاهِيم (إِن الَّذِي خلق المكارم حازها ... فِي صلب آدم للْإِمَام السَّابِع) (ملئت قُلُوب النَّاس مِنْهُ مهابة ... ويضل يكلؤهم بقلب خاشع) (فعفوت عَمَّن لم يكن عَن مثله ... عَفْو وَلم يشفع إِلَيْك بشافع) (ورحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وحنين وَالِده بقلب جازع) (رد الْحَيَاة عَليّ بعد ذهابها ... كرم المليك الْقَادِر المتواضع) فَقَالَ الْمَأْمُون لَا تَثْرِيب عَلَيْك قد عَفَوْت عَنْك ورددت مَالك وضياعك فَقَالَ فِي ذَلِك (رددت مَالِي وَلم تبخل عَليّ بِهِ ... وَقبل ردك مَالِي قد حقنت دمي) (فَأَبت عَنْك وَقد خولتني نعما ... هما الْحيتَان من موت وَمن عدم) (فَلَو بذلت دمي أبغي رضاك بِهِ ... وَالْمَال حَتَّى أسل النَّعْل من قدمي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 (مَا كَانَ ذَاك سوى عَارِية رجعت ... إِلَيْك لَو لم تعرها كنت لم تلم) (فَإِن جحدتك مَا أويت من نعم ... إِنِّي لفي اللوم أحظى مِنْك فِي الْكَرم ق 23) وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي قد أدعى الْإِمَامَة لنَفسِهِ فِي زمن الْمَأْمُون وبويع لَهُ بِبَغْدَاد وَمكث على ذَلِك مُدَّة وَأَصْحَاب الْمَأْمُون يحاربونه إِلَى أَن ظفروا بِهِ فعفى عَنهُ كَمَا تقدم وَكَانَ إِبْرَاهِيم يَقُول وَالله مَا صفح الْمَأْمُون عني صلَة لرحمي وَلَكِن طَار اسْم فِي الْعَفو حَتَّى أَن يسديه إِلَيّ وَكَانَ الْمَأْمُون يَقُول لقد لذ لي الْعَفو حَتَّى حسبتني لَا أثاب عَلَيْهِ وَكتب معمر مولى سُلَيْمَان من الْحَبْس إِلَى الرشيد لست فِي عقابي إِذا كنت سقيما بأعظم ثَوابًا مِنْك فِي تخيلتي إِن كنت بَرِيئًا وَقَالَ اردشير وجدنَا للذة الْعَفو مَا لم نجد للذة الْعقُوبَة وَأمر الْحجَّاج بقتل أَقوام فَلَمَّا قدم أحدهم للْقَتْل بعد جمَاعَة مِنْهُم قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وَالله لِأَن أسأنا فِي الذَّنب فَمَا أَحْسَنت فِي الْعَفو فَقَالَ الْحجَّاج أما كَانَ فِي هَؤُلَاءِ الْجِيَف من يحسن مثل هَذَا وَعفى عَنهُ وَعَمن بَقِي مِنْهُم وَقَالَ عبد الصَّمد للسفاح إِذا قتلت أكفاءك فبمن تباهي بملكك وَقَالَ مُعَاوِيَة أولى النَّاس بِالْعَفو أقدرهم على الْعقُوبَة وَقَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان أَحَق النَّاس بِالْإِحْسَانِ من أحسن الله إِلَيْهِ وأولاهم بِالْعَفو من بسط الله بِالْقُدْرَةِ يَدَيْهِ وَقَالَ ابْن المعتز كفى بالظفر شَفِيعًا للمذنب إِلَى الْحَلِيم وَقَالَ حَسبك من عَدوك ذله فِي قدرتك وَقَالَ أَيْضا مَا عفى الذَّنب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قرع بِهِ وَقَالَ لَا تَشِنْ وَجه الْعَفو بالتأنيب وَقَالَ آخر أولى السَّائِلين بالإسعاف من طلب الْعَفو وَقَالَ اعْفُ عَمَّن أَبْطَأَ بالذنب وأسرع بالندم وَقَالَ الْأَمِير شمس الْمَعَالِي الْعَفو عَن المجرم من وَاجِب الْكَرم وَقبُول المعذرة من محَاسِن الشيم قيل اعتذر أَحْمد بن هِشَام الْكَاتِب إِلَى أَحْمد بن أبي خَالِد بِعُذْر فَقَالَ لَهُ أَحْمد بن خَالِد وَالله لَا قبلت عذرك حَتَّى أُسِيء إِلَيْك قَالَ ابْن هِشَام وَالله لِأَن فعلت لاستعديت عَلَيْك إِلَّا نَفسك وَلَا أَطْعمنِي فِيك إِلَّا ظلمك فاستحيا مِنْهُ وَقبل عذره وَقَالَ بعض البلغاء لَيْسَ من عَادَة الْكِرَام إسراع الانتقام وَلَا من شَرط الْكِرَام إِزَالَة النعم وَلَا تَأْخُذ بالسهو وَلَا تزهد فِي الْعَفو وَارْحَمْ من دُونك يَرْحَمك من فَوْقك وَهَذَا الْمَعْنى قريب من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الراحمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 يرحمهم الرَّحْمَن ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء عَفْو الْمُلُوك أبقى للْملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فصل وَاعْلَم أَنه لَيْسَ لسرعة الانتقام وتعجيل الْعقُوبَة والإعراض عَن الصفح وَقلة الرَّغْبَة فِي الْعَفو سَبَب سوى قُوَّة الْغَضَب فلنذكر مِنْهُ جملا موجزة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الشَّديد بالصرعة إِنَّمَا الشَّديد من يمسك نَفسه عِنْد الْغَضَب وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من كظم غيظا وَهُوَ يقدر أَن يمضيه مَلأ الله قلبا أمنا وإيمانا وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا غضب أحدكُم وَكَانَ قَائِما فليقعد أَو قَاعِدا فليضطجع وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وَإِذا غضِبت فاسكت وَقَالَ لَهُ رجل أوصني قَالَ لَا تغْضب وَقيل الْغَضَب غول الْعقل وَقيل الْغَضَب مِفْتَاح الشَّرّ وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْغَضَب يفْسد الْإِيمَان كَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل وَقيل إِذا دخل الْغَضَب على الرجل الْعَاقِل الْوَرع اذْهَبْ مِنْهُ الْعقل والورع فَكيف بِمن لَا عقل وَلَا ورع وَقَالَ سهل بن هَارُون ثَلَاثَة من المجانين وَإِن كَانُوا من الْعُقَلَاء الغيران والغضبان والسكران وَقَالَ ابْن المعتز الْغَضَب يصدي الْعقل حَتَّى لَا يرى صَاحبه صُورَة حسن فيفعله وَلَا صُورَة قبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فيجتنبه وَقَالَ أول الْغَضَب جُنُون وَآخره نَدم وَقَالَ لَا يحملنك على اقتراف إِثْم فتشفى غيضك وتسقم دينك وَقَالَ قُوَّة الْحلم على الْغَضَب أفضل من قُوَّة الانتقام وَقَالَ ابق لرضاك من غضبك وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء رَأس الْأَدَب قطع الْغَضَب وَقَالَ أسْرع النَّاس جَوَابا من لم يغْضب وَقَالَ آخر من يملك غَضَبه ويكظم غيظه فقد كمل عقله وَقَالَ بَعضهم التباعد من غضب الله أَن لَا يغْضب العَبْد فَإِن ق 24 بَدْء الْغَضَب من الْكبر وَالْحمية والأنفة قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء أقرب من العَبْد غضب الله تَعَالَى إِذا غضب وَنظر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد إِلَى الرشيد وَقد اشْتَدَّ غَضَبه على رجل فخاف أَن يستفزه الْغَضَب فَقَالَ يَا أَمِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا تغْضب لله فَلَا تغْضب بِمَا لَا تغْضب بِهِ لنَفسك فيغضب عَلَيْك وَفِي بعض كتب الله الْمنزلَة يَا ابْن آدم اذْكُرْنِي حِين تغْضب أذكرك حِين أغضب وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء احْتِمَال الصَّبْر عِنْد الْغَضَب اسْلَمْ من إطفائه بِإِظْهَار السَّفه وَقيل يَنْبَغِي للسُّلْطَان العجول أَن يحذر الطيش وَالْغَضَب وَالْحَد فَإِن السُّلْطَان الغضوب المفرط فِي الْعقُوبَة يهْلك نَفسه وسلطانه ورعيته وَدفع أردشير إِلَى رجل كَانَ يقوم على رَأسه ثَلَاثَة كتب وَقَالَ إِذا رَأَيْتنِي وَقد اشْتَدَّ غَضَبي على أحد فادفع إِلَيّ الْكتاب الأول ثمَّ الثَّانِي ثمَّ الثَّالِث فَاشْتَدَّ يَوْمًا غَضَبه على رجل فَدفع إِلَيْهِ الأول فَإِذا فِيهِ أمسك فَإنَّك لست بإله وَإِنَّمَا أَنْت جَسَد يُوشك أَن يفنى وَيَأْكُل بعضك بَعْضًا وَدفع إِلَيْهِ الثَّانِي فَإِذا فِيهِ أرْحم الْعباد ترحم فِي الْمعَاد وَدفع إِلَيْهِ الثَّالِث فَإِذا فِيهِ أحمل اخلق على الْحق فَلَا يسعك إِلَّا ذَلِك قَالَ مُعَاوِيَة مَا غَضَبي على من لَا أملك وَمَا غَضَبي على من أملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فصل فِي الانتقام مِمَّن يجريه الْعَفو على الاقتحام الجرائم والآثام قَالَ بعض البلغاء لَا يكن عفوك وإغضاؤك سَببا للجراءة عَلَيْك وَعلة الْإِسَاءَة إِلَيْك فَإِن النَّاس رجلَانِ عَاقل يَكْتَفِي بالعذل والتأنيب وجاهل يحوج إِلَى الضَّرْب والتأديب وَقَالَ الْعَفو احْتِمَال الذَّنب الَّذِي لَا يكون عَن عمد وَلَا يقْضِي بِوُجُوب حد فَأَما الذَّنب الَّذِي يركب عمدا وَيُوجب حدا فَلذَلِك مَا لَا تحمله السياسة وَلَا تطابقه الشَّرِيعَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقيلوا ذَوي الهيئات عثراتهم إِلَّا فِي الْحُدُود قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الْمَنْصُور إِذا كَانَ الْحلم مفْسدَة كَانَ الحكم معْجزَة وَقيل من عَفا عَمَّن يسْتَوْجب الْعقُوبَة كَانَ كمن عاقب من يسْتَوْجب المثوبة وَقيل الْعَفو يفْسد من اللَّئِيم بِقدر مَا يصلح من الْكَرِيم قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي (إِذا أَنْت أكرمت الْكَرِيم ملكته ... وَإِن أَنْت أكرمت اللَّئِيم تمردا) (وَوضع الندى مَوضِع السَّيْف بالعلى ... مُضر كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندا) وَقَالَ أَيْضا (إِذا قيل رفقا قيل للحلم مَوضِع ... وَعلم الْفَتى فِي غير مَوْضِعه جهل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَهَذَا من قَول للأحنف بن قيس قيل لَهُ أَيْن الْحلم فَقَالَ عِنْد الْحَيِي وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام السَّيْف أنمى عددا وَأكْثر ولدا وَقَوله الْقَتْل أنفى للْقَتْل وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وَلما أنْشد النَّابِغَة الْجَعْدِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 (وَلَا خير فِي حلم إِذا لم تكن لَهُ ... بَوَادِر تَحْمِي صَفوه أَن يكدرا) (وَلَا خير فِي جهل إِذا لم يكن لَهُ ... حَلِيم إِذا مَا أورد الْأَمر أصْدرَا) وَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يفض فَاك وللنعمان بن الْمُنْذر (تَعْفُو الْمُلُوك عَن الْكَبِير ... من الذُّنُوب لفضلها) (وَلَقَد تعاقب فِي الْقَلِيل ... وَلَيْسَ ذَلِك لجهلها) (إِلَّا ليعرف فَضلهَا ... وَيخَاف شدَّة نكلها) وَقَالَ آخر (فَلَا يغرنك طول الْحلم مني ... فَمَا أبدأ تصادقني حَلِيمًا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَقَالَ آخر (بطرتم فطرتم والعصا زجر من عَصا ... وتقويم عبد الْهون بالهون رادع) وَقَالَ بشار (وَالْحر يلحى والعصا للْعَبد ... ) وَقَالَ ابْن دُرَيْد (واللوم للْحرّ مُقيم رادع ... وَالْعَبْد لَا يردعه إِلَّا الْعَصَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فِي ذكر الأناة وذم العجلة فِي الْأُمُور الَّتِي لَا يستعقب ق 25 فتها ضَرَر وَلَا يخْشَى من تَأْخِيرهَا غرر قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأشج عبد الْقَيْس إِن فِيك خَصْلَتَيْنِ يحبهما الله الْحلم والأناة وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام التؤدة والاقتصاد والتثبت جُزْء من سِتَّة وَعشْرين جُزْءا من النُّبُوَّة وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من تأتى أصَاب أَو كَاد وَمن عجل أَخطَأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أَو كَاد وَقَالَ الأناة حصن السَّلامَة والعجلة مِفْتَاح الندامة وَقَالَ من ركب الْعجل أدْرك الزلل قَالَ الْقطَامِي (قد يدْرك المتأني بعض حَاجته ... وَقد يكون مَعَ المستعجل الزلل) وَقيل التأني فِي الْأُمُور أول الحزم والتسرع فِي الْأُمُور عين الْجَهْل وَقيل إِذا لم تدْرك الْحَاجة بالرفق والدوام فَبِأَي شَيْء تدْرك وَقيل من اسْتعْمل الرِّفْق غنم وَمن اسْتعْمل الْخرق نَدم وَمن اقتحم الْأُمُور لَقِي الْمَحْذُور العجول مُخطئ وَإِن ملك والمتأني مُصِيب وَأَن هلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَقَالَ ابْن المعتز العجلة تضمن العثرة بِكُل مكل مَكْرُوه وَقَالَ الْخرق بالرفق يلحم وَقَالَ غَيره بالتأني تدْرك الْغَرَض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فصل اعْلَم أَن الأناة إِنَّمَا قصدت للاستظهار والاستبصار وَالنَّظَر فِي العواقب وانفساح مَذَاهِب الرَّأْي فِي المطالب وبصر أحسن الْأَمريْنِ وأنهج المسلكين وَعند العجلة والمغافصة يفوت ذَلِك فالخواطر كالبروق الخواطف لَيْسَ لَهَا ثبات فَرُبمَا لَاحَ لَهُ رَأْي وخطر لَهُ فكر فَعمل بِهِ قبل التثبت والتأمل ثمَّ يتَبَيَّن لَهُ بعد ذَلِك أَن الصَّوَاب كَانَ فِي غَيره فيندم حِين لَا يُغني النَّدَم وَلَا ينفع السدم فَأَما مَا وضح فِيهِ وَجه الصَّوَاب السداد وَأمن فِي عواقبه دواعي الْفساد فَيَنْبَغِي أَن ينتهز فِيهِ الفرصة عِنْد إمكانها ويبادرها قبل تعذرها وفواتها قَالَ السفاح الأناة محمودة إِلَّا عِنْد إِمْكَان الفرصة وَقَالَ غَيره الفرص تمر مُرُور السَّحَاب وَقَالَ آخر تجرع من عَدوك الغصة إِلَى أَن تَجِد الفرصة فَإِذا وَجدتهَا فانتهزها قبل أَن يفوتك الدَّرك أَو يُعينهُ الْفلك قَالَ الشَّاعِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 (وَإِن فرْصَة أمكنت مرّة ... فَلَا تبد فعلك إِلَّا بهَا) (فَإِن لم تلج بَابهَا مسرعا ... أَتَاك عَدوك من بَابهَا) وَللْآخر (إِذا هبت رياحك فاغتنمها ... فعقبى كل عَاصِفَة سُكُون) (وَلَا تغفل تداركها سَرِيعا ... فَمَا تَدْرِي السّكُون مَتى يكون) وَلابْن الرُّومِي (عيب الأناة وَإِن كَانَت مباركة ... أَن لَا خُلُود وَأَن لَيْسَ الْفَتى حجرا) قيل من غافص الفرص أَمن الْغصَص وَقيل إِذا كَانَ الْمَوْت غير مَأْمُون طرفَة عين فَمن الْخرق تَأْخِير مَا أمكن وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من انْتظر الفرصة مؤاجلة الِاسْتِقْصَاء سلبته الْأَيَّام فرصته لِأَن صناعَة الْأَيَّام السَّلب وَشرط الزَّمَان الإفاتة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 بَاب فِي إِيثَار السّلم وَالْمُوَادَعَة على الْحَرْب والمنازعة وَكَيْفِيَّة الدُّخُول على الْحَرْب عِنْد الْحمل عَلَيْهَا والاضطرار إِلَيْهَا اعْلَم أَن السّلم بَاب السَّلامَة وَسبب الاسْتقَامَة قَالَ الثعالبي السّلم سلم السَّلامَة قَالَ غَيره أغمد سَيْفك مَا نَاب عَنهُ لسَانك واستمل عَدوك مَا مَال بِهِ إحسانك وَقيل من أتم النصح الْإِشَارَة بِالصُّلْحِ وَقَالَ بَعضهم من استصلح عدوه زَاد فِي عدده وَمن استفسد صديقه نقص من عدده وَفِي الزبُور من كثر عدوه فليتوقع الصرعة وَقَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 لَا تشتر عَدَاوَة وَاحِد بصداقة ألف قَالَ الشَّاعِر (وَلَيْسَ كثير ألف خل وَصَاحب ... وَإِن عدوا وَاحِدًا لكثير) وَقَالَ بَعضهم لَا تفتح بَابا يعييك سَده وَلَا ترسل سَهْما يعجزك رده وَلَا تفْسد أمرا يعييك إِصْلَاحه وَلَا تغلق بَابا يعجزك افتتاحه وَقيل لَا لَا يغرنك المرتقى السهل إِذا كَانَ المنحدر وعرا وَقيل توق كل التوقي وَلَا حارس من الْأَجَل وتوكل ق 26 كل التَّوَكُّل وَلَا عذر فِي التَّغْرِير وَمن كتاب كليلة ودمنة أَرْبَعَة لَا يركبهَا إِلَّا أَعْوَج وَلَا يسلم مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل مناجزة الْعَدو وركوب الْبَحْر وَشرب السم للتجربة وائتمان النِّسَاء على الْأَسْرَار وَفِيه أَيْضا الْقَلِيل مِنْهَا كَبِير النَّار والعداوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَالْمَرَض وَقيل كل شَيْء ينْفق عَلَيْهِ من المَال إِلَّا الْحَرْب فَإِن النَّفَقَة عَلَيْهَا من النُّفُوس قَالَ الشَّاعِر (كم بَين قوم إِنَّمَا نفقاتهم ... مَال وَقوم يُنْفقُونَ نفوسا) وَكَانَ السّلف رَضِي الله عَنْهُم يستحسنون قَول عَمْرو بن معدي (الْحَرْب أول مَا تكون فتية ... تسْعَى لزينتها بِكُل جهول) (حَتَّى إِذا اشتدت وشب ضرامها ... ولت عجوزا غير ذَات جليل) (شَمْطَاء جزت رَأسهَا وتنكرت ... مَكْرُوهَة للشم والتقبيل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَقَالَ زُهَيْر (وَمن يعْص أَطْرَاف الرماح فَإِنَّهُ ... يُطِيع العوالي ركبت لكل لهذم) يَقُول من عَصا الصُّلْح وَالْمُوَادَعَة قبل الْقِتَال طلب ذَلِك وَرَضي بِهِ وأطاعه بعد أَن ضرسته الْحَرْب ونالت مِنْهُ الْفِتْنَة قَالَ الشَّاعِر وسالمت لما طَالَتْ الْحَرْب بَيْننَا ... إِذا لم تظفرك الحروب فسالم) قَالَ زُهَيْر يصف الْحَرْب (وَمَا الْحَرْب إِلَّا مَا علمْتُم وذقتم ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ المرجم) (مَتى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضرى إِذا ضريتموها فتضرم) (فتعرككم عَرك الرَّحَى بثفالها ... وتلقح كشافا ثمَّ تحمل فتتئم) (وتنتج لكم غلْمَان أشأم كلهم ... كأحمر عَاد ثمَّ ترْضع فتفطم) (فتغلل لكم مَا لَا تغل لأَهْلهَا ... قرى بالعراق من قفيز وَدِرْهَم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فصل وَيَنْبَغِي لمن ابْتُلِيَ بعدو أَن يكون مَعَه كَمَا قَالَ بعض وزراء الْعَجم قَالَ يَنْبَغِي للْملك أَن يَبْنِي أمره مَعَ عدوه على أَرْبَعَة أوجه على اللين والبذل والكيد والمكاشفة وَمثل ذَلِك مثل الْخراج أول علاجه التَّمْكِين فَإِن لم ينفع فالإنضاج والتحليل وَإِن لم ينفع فالضماد فَإِن لم ينفع فالكي وَهُوَ آخر العلاج وَمن الدَّلِيل على التدابير فِي أَمر الْعَدو باللين حَيْثُ يتَوَقَّع نجعه ويرتجى نَفعه أصوب وَإِلَى استبدال الْمَوَدَّة عَن الْعَدَاوَة أقرب قَالَ الله جلّ ذكره {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة كَأَنَّهُ ولي حميم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وَقَالَ مُحَمَّد بن يندار إِذا لم تستطع أَن تقطع يَد عَدوك فقبلها وَمِمَّا يدل على أَن الْبَذْل يكْسب الْمحبَّة وينفي الْعَدَاوَة مَا رُوِيَ عَن صَفْوَان بن أُميَّة أَنه قَالَ مَا كَانَ أحد أكره إِلَيّ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فَمَا زَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يعطيني حَتَّى لِأَنَّهُ أحب النَّاس إِلَيّ وَرُوِيَ أَنه كَانَ لعبد الله بن الزبير أَرض متاخمة لأرض مُعَاوِيَة قد جعل فِيهَا عبيدا من الزنوج يعمرونها فَدَخَلُوا فِي أَرض ابْن الزبير فَكتب إِلَى مُعَاوِيَة أما بعد يَا مُعَاوِيَة فَإِنَّهُ عبدانك عَن الدُّخُول فِي أرضي وَإِلَّا كَانَ لي وَلَك شَأْن فَلَمَّا وقف مُعَاوِيَة على الْكتاب دَفعه على ابْنه يزِيد فَلَمَّا قَرَأَهُ قَالَ لَهُ يَا بني مَا ترى قَالَ أرى أَن تنفذ إِلَيْهِ جَيْشًا أَوله عِنْده وَآخره عنْدك يأتوك بِرَأْسِهِ قَالَ أَو خير من ذَلِك يَا بني عَليّ بداوة وَقِرْطَاس فَكتب إِلَيْهِ وقفت على كتاب ابْن حوارِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وساءني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 مَا سَاءَهُ وَالدُّنْيَا عِنْدِي بأسرها هينة فِي جنب رِضَاهُ وَقد كتبت على نَفسِي صكا بِالْأَرْضِ والعبدان لَهُ وأشهدت عليا فِيهِ فليستضيفها مَعَ عبدانها إِلَى أرضه وعبدانه وَالسَّلَام فَلَمَّا وقف عبد الله بن الزبير على كتاب مُعَاوِيَة كتب إِلَيْهِ وقفت على كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ الله بَقَاءَهُ وَلَا عَدمه الرَّأْي الَّذِي أحله من ق 27 قُرَيْش هَذَا الْمحل وَالسَّلَام فَلَمَّا وقف مُعَاوِيَة على كتاب عبد الله بن الزبير رَمَاه إِلَى ابْنه يزِيد فَلَمَّا قَرَأَهُ أَسْفر وَجهه وَقَالَ يَا بني إِذا بليت بِمثل هَذَا الدَّاء فداوه بِمثل هَذَا الدَّوَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فصل ف أما كَانَ الْعَدو مِمَّا لَا يُرْجَى انصلاحه بالبذل واللين فَيجب أَن يُسَارع بالكيد الْمُبين إِلَى جسم مادته واستئصال شأفته فقد قيل إِن الكيد أبلغ من الأيد وَقَالَ المكيدة أبلغ من النجدة وَقَالَ ابْن المعتز أوهن الْأَعْدَاء كيدا أظهرهم لعداوته وَقَالَ الشَّاعِر (إِذا كنت لَا أرمي الضباء ... فإنني أدس لَهَا تَحت التُّرَاب دسايسا) وَبِالْجُمْلَةِ فَيَنْبَغِي أَن لَا يدْخل فِي الْحَرْب ويكاشف بهَا مَا دَامَ يطْمع فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 بُلُوغ مآربه ونجاح مطالبه أَن لَا يدْخل فِي الْحَرْب ويكاشف بهَا مَا دَامَ يطْمع فِي بُلُوغ مآربه ونجاح مطالبه بِمَا هُوَ دونهَا قَالَ أَبُو الطّيب وَإِنَّمَا الْحَرْب غَايَة المكايد فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَن يعالجه قبل أَن تتمكن بوائقه وتتسع طرائقه فَكل أَمر لَا يداوى من قبل أَن يعضل وَلَا يدبر قبل أَن يستفحل عيي بِهِ مداويه وصعب تَدَارُكه وتلافيه قَالَ بَعضهم تفقد عَدوك قبل أَن يَمْتَد بَاعه وَيطول ذراعه وتكبر شَكِيمَته ويعضل دواؤه وَمن أَمْثَال الْعَرَب دَوَاء للشق أَن يحاص فِيهِ فيستعين عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِالدُّخُولِ فِي الهيجاء ومكاشفة الْأَعْدَاء قَالَ الشَّاعِر (إِذا لم يكن إِلَّا الأسنة مركبا ... فَلَا رَأْي للْمُضْطَر إِلَّا ركُوبهَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وَللْآخر (وَلَا أَتَمَنَّى الشَّرّ وَالشَّر تاركي ... وَلَكِن مَتى أحمل على الشَّرّ أركب) وَهَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدو وَإِذا لقيتموه فَاصْبِرُوا قَالَ الشَّاعِر لم أكن فِي جنباتها يعلم الله ... وَأَنِّي بحرها صالي) وَقَالَ آخر (الْحَرْب يلْحق فِيهَا الكارهون كَمَا ... تَدْنُو الصِّحَاح من الجربى فتعديها) وَقَالَ أَبُو الطّيب (لَا تلق أَشْجَع مِنْك تعرفه ... إِلَّا إِذا مَا ضَاقَتْ الْحِيَل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فصل وَيجب أَن يسْتَعْمل الحزم فِي تَدْبيره ويلاحظ العواقب فِي جَمِيع أُمُوره فَمن نظر فِي العواقب سلم من المعاطب وَمن أخر تَدْبيره تقدم تدميره وَقيل من نظر بِالرَّأْيِ غنم وَمن نظر فِي العواقب سلم وَمن أخلد إِلَى التواني حصل على الْأَمَانِي وَمن ترك حزمه أعَان خَصمه قَالَ ابْن دُرَيْد (من ضيع الحزم جنى لنَفسِهِ ... ندامة ألذع من سفع الذكي) وَقَالَ آخر الحزم إِن ضيعته أبشر بِقرب التّلف قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحزم سوء الظَّن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَقيل لمعاوية مَا بلغ من حزمك قَالَ لم أَثِق بِأحد قَالَ بعض الْحُكَمَاء الاحتراس من كل أحد حزم وَقلة الاسترسال إِلَى النَّاس أسلم وَكتب طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي هَذِه الأبيات (ركوبك الهول مَا لم تلق فرْصَة جهل ... ورأيك فِي الإقحام تغرير) (أَهْون بدنيا ينَال المخطئون بهَا ... حَظّ المصيبين والمغرور مغرور) (فَإِن ظَفرت بعجز أَو نجوت بِهِ ... قَالُوا جهول أعانته الْمَقَادِير) (وَإِن حرمت بحزم أَو هَلَكت بِهِ ... فَأَنت عِنْد ذَوي الْأَلْبَاب مَعْذُور) وَلآخر فِي الْمَعْنى (على كل حَال فَاجْعَلْ الحزم عدَّة ... لما أَنْت باغيه وعونا على الدَّهْر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 (فَإِن نلْت أمرا نلته بعزيمة ... وَإِن قصرت عَنْك الحظوظ فَعَن عذر) وَهَذَا الْمَعْنى مَأْخُوذ من قَول بعض الْحُكَمَاء اسْتعْمل الحزم فِي الْأُمُور وَلَيْسَ عَلَيْك مَا قضى الله مِنْهَا فَإِن فزت بحظ أحرزت إِلَيْهِ حمدا وَإِن غرمته عوضت عَلَيْهِ عذرا وَقَالَ بَعضهم أذكر حسرات التَّفْرِيط يلذ لَك الحزم وَمن الحزم أَلا يحتقر عدوه وَإِن كَانَ حَقِيرًا وَلَا يستصغره وَإِن كَانَ صَغِيرا فَإِن ذَلِك عنوان الخذلان وَفِيه ترك للحزم وتوهين للعزم قَالَ ابْن نباتة (فَلَا تحقرن عدوا رماك ... وَإِن كَانَ فِي ساعديه قصر) (فَإِن السيوف تحز الرّقاب ... وتعجز عَن مَا تنَال الأبر) قيل ق 28 للمهلب من أحزم النَّاس قَالَ من يُوهم عَلَيْهِ الْجُبْن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 شدَّة احتياطه وَكَانَ فِي قتال الْأزَارِقَة يبث الأحراس فِي الْأَمْن كَانَ يبثهم فِي الْأَمْن ويذكي الْعُيُون فِي الْأَمْصَار كَمَا يذكيها فِي الصَّحَارِي وَيَأْمُر أَصْحَابه بالتحرز ويخوفهم البيات وَإِن بعد عَنْهُم الْعَدو وَيَقُول انْظُرُوا أَن تكادوا كَمَا تكيدون وَلَا تَقولُوا هَذَا منا وَلَا علينا فَإِن الْقَوْم خائفون وجلون وَإِن الضَّرُورَة تفتح بَاب الْحِيلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فصل وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يكون فِي حَال محاربته وقتاله كَمَا قَالَ عبد الله بن صَالح فِي وَصِيَّة لَهُ لقائد فِي مقدم جَيش مضى إِلَى بِلَاد الرّوم فَقَالَ إِنَّك تَاجر الله لِعِبَادِهِ فَكُن كالمضارب الْكيس إِن رَأَيْت ربحا لَا يشك فِيهِ اتجرت وَإِلَّا احتفظت بِرَأْس المَال لَا تطلب الْغَنِيمَة حَتَّى تحرز السَّلامَة وَكن فِي احتيالك على عَدوك أخوف من احتيال عَدوك عَلَيْك وَكَانَت الْفرس إِذا بعثت أَمِيرا على جَيش قَالَت احفظ مَا يلقى إِلَيْك وانتهز الفرصة فَإِنَّهَا خلسة وَأثبت عِنْد رَأس الْأَمر لَا عِنْد ذَنبه وَإِيَّاك وشفيعا مهيبا وَإِيَّاك وَالْعجز فَإِنَّهُ أوطأ مركب وَعَلَيْك بِالصبرِ فَإِنَّهُ سَبَب الظفر وَلَا تَحض الْغمر حَتَّى تعرف الْقدر وَقَالَ قطري بن الْفُجَاءَة وَقد ذكر الْمُهلب بن أبي صفرَة لأَصْحَابه هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 من قد عرفتموه إِن أَخَذْتُم بِطرف ثوب أَخذ بطرفه الآخر يمده إِذا أرسلتموه ويرسله إِذا مددتموه وَلَا يبدؤكم حَتَّى تبدؤوه إِلَّا أَن يجد فرْصَة فينتهزها فَهُوَ اللَّيْث المبرز والثعلب الرواغ وَقَالَ مرّة إِن جَاءَكُم الْمُهلب لَا يناجزكم حَتَّى تناجزوه وَيَأْخُذ مِنْكُم وَلَا يعطيكم فَهُوَ الْبلَاء اللَّازِم وَالْمَكْرُوه الدَّائِم وَكَانَت الْخَوَارِج تسميه السَّاحر لأَنهم كَانُوا يدبرون الْأَمر فيجدونه قد احترس مِنْهُم ويدبرون التَّدْبِير لأَنْفُسِهِمْ فيجدونه قد سبق إِلَى بعض تدبيرهم وَسَأَلَ الْحجَّاج بريدا ورد عَلَيْهِ من قبل الْمُهلب أَيَّام حربه للأزارقة عَن الْمُهلب والجند اللَّذين مَعَه فَقَالَ يسوسهم سياسة الْمُلُوك وَيُقَاتل بهم قتال الصعلوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وَقَالَ عبد الله خَالِد بن الْوَلِيد لمعاوية إِنَّك لتقدم إقداما أَرَاك تتعرض للْقَتْل وتتأخر تأخرا أَرَاك تهم بالهرب فَقَالَ وَالله مَا أتقدم لأقتل وَلَا أتأخر لأخرب ولكنني أتقدم إِذا كَانَ التَّقَدُّم غنما وأتأخر إِذا كَانَ التَّأَخُّر حزما كَمَا قَالَ الشَّاعِر (شُجَاع إِذا مَا أمكنتني فرْصَة ... وَإِن لم تكن لي فرْصَة فجبان) وَقَالَ بَعضهم احتل للشمس وَالْقَمَر وَالرِّيح أَن يَكُونَا مَعَك لَا عَلَيْك وَقيل الْإِقْدَام أنفى للعار وَأدْركَ للثأر والشجاع موقى والجبان ملقى وَقَالَ المتنبي (يقتل الْعَاجِز الجبان وَقد يعجز ... عَن قطع بخنق الْمَوْلُود) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 (ويوقى الْفَتى المخش وَيَد خوض ... فِي مَاء لبة الصنديد) وَمن أَمْثَال الْعَرَب إِن الجبان حتفه من فَوْقه عصى الجبان أطول محرض خير من ألف مقَاتل إذكاء الْعُيُون أنفى للظنون لَا تغفل الحسك إِن كنت نازلا وَالْخَنْدَق إِن كنت مُقيما إِذا ابْتليت بِالْبَيِّنَاتِ فَعَلَيْك بالثبات الِانْصِرَاف قبل الْهَزِيمَة هزيمَة الْحَرْب سِجَال وعثراتها لَا تقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام الْحَرْب خدعة وَمن أَمْثَال الْعَرَب إِذا تغلب فاخلب المحاجزة قبل المناجزة التَّغْرِير مِفْتَاح الْبُؤْس لَا تمنع عَدوك السَّبِيل فِي هزيمته الهارب لَا يعرج على صَاحب اللَّيْل جنَّة الهارب الْفِرَار فِي وقته ظفر وَقَالَ تعضهم الْفِرَار عِنْد الْخَوْف من سنَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الْمُرْسلين قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ق 29 ففرت مِنْكُم لما خفتكم وَمن أَمْثَال الْعَرَب الْفِرَار بقراب أَكيس وَمن أَمْثَال الْعَامَّة فر أَخْزَاهُ الله خير من قتل رَحمَه الله وَمن أبلغ مَا قيل فِي الِاعْتِذَار من الْفِرَار قَول الْحَارِث بن هِشَام حَيْثُ يَقُول (الله يعلم مَا تركت قِتَالهمْ ... حَتَّى علوا فرسي بأشقر مزِيد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 (وَعلمت أَنِّي إِن أقَاتل وَاحِدًا ... أقتل وَلَا يبكي عدوي بمشهدي) (فصدرت عَنْهُم والحبة فيهم ... طَمَعا لَهُم بعقاب يَوْم مرصد) وَقَالَ هُبَيْرَة بن أبي وهب المَخْزُومِي (لعمرك مَا وليت ظَهْري مُحَمَّدًا ... وَأَصْحَابه جبنا وَلَا خيفة الْقَتْل) (وَلَكِنِّي قلبت أَمْرِي فَلم أجد ... لسيفي غناء إِن ضربت وَلَا نبلي) (وقفت فَلَمَّا خفت ضَيْعَة موقفي ... رجعت بِعُود كالهزبر إِلَى الْقَتْل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 بَاب فِي ذمّ الْحجاب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ولي من أُمُور النَّاس شَيْئا فاحتجبت عَنْهُم احتجب الله عَنهُ دون حَاجته وفاقته وَفَقره وَلما أخبر مُعَاوِيَة بِهَذَا الحَدِيث جعل على حوائج النَّاس رجلا وَقَالَ الْفضل بن سهل لثمامة بن الأشرس مَا أَدْرِي مَا اصْنَع فِي كَثْرَة طلاب الْحَوَائِج وغاشية الْبَاب فَقَالَ زل عَن موضعك وَعلي أَن لَا يلقاك أحد قَالَ صدقت وَقعد لَهُم وَفِي معنى قَول ثُمَامَة قَول الشَّاعِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 (فَلَا تعتذر بِالشغلِ عني فَإِنَّمَا تناط ... بك الْحَاجَات مَا اتَّصل الشّغل) وَقَول الآخر (افرغ لحاجاتنا مَا دمت مَشْغُولًا ... فَلَو فرغت لقد أَصبَحت مملولا قُلْنَا وَلَيْسَ المُرَاد بترك الْحجاب أَن يبرز السُّلْطَان إِلَى الْعَوام على الدَّوَام فِي الطرقات ويباشر بِنَفسِهِ أَحْوَال الرّعية فِي جَمِيع الْأَوْقَات إِنَّمَا بذلك أَلا يحجب عَن مَجْلِسه خَواص النَّاس وَذَوي المروءات وأرباب الشّرف والبيوتات وَأَن يَأْذَن للْعُلَمَاء وَأهل الدّين إِذا اسْتَأْذنُوا عَلَيْهِ لإبلاغ نصح يرجع صَلَاحه إِلَيْهِ وَإِلَى كَافَّة الْمُسلمين وَأَن يصغي بِنَفسِهِ إِلَى مخاطبتهم وَيَأْذَن لكلامهم ومحاوراتهم وَلَا يكل ذَلِك إِلَى وزرائه وحجابه وَسَائِر من يعْتَمد عَلَيْهِ من نوابة فَإِن أهل الْعلم وَالْفضل وَذَوي الرياسة والنبل قد يأنفون من رفع حَاجتهم إِلَى من لعِلَّة دونهم على الْحَقِيقَة فِي الْقدر والمنزلة وَإِن كَانَ الْملك قد أَهله من الرياسة لما هُوَ أَهله وَرُبمَا استشعر بذلك عَلَيْهِم شرفا وفخرا وشمخ بِأَنْفِهِ عَلَيْهِم صلفا وكبرا وَذَوي المناصب الْعلية قد لَا تسمح أنفسهم الأبية بِقبُول ذَلِك وَإِن عمتهم البلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ودهمتهم الرزية وَرُبمَا قلدهم بِمَا يرفع من مأربهم وينجح على يَدَيْهِ من مطالبهم مِنْهُ يصعب على مثلهم من مثله تحملهَا ويعسر عَلَيْهِم تقلدها وَأَيْضًا فقد لَا ينقلون لَفظهمْ على صيغته وَلَا يصيبون الْمَعْنى المُرَاد على حَقِيقَته فيصيرون لسوء نقلهم ونقصان عقلهم الْمَدْح قدحا والتلطف تعسفا التودد تهددا والإبانة نِيَابَة وَالْأَمَانَة خِيَانَة ثمَّ يَنْبَغِي الْملك إِذا اتخذ حاجبا أَن يكون أَمينا عَاقِلا أديبا عَارِفًا بمقادير النَّاس ومنازلهم وعالما بحقهم وحرمتهم ليأذن لَهُم على قدر أَحْوَالهم ويقدمهم فِي الدُّخُول على حسب درجاتهم قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان لِأَخِيهِ عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان حِين وَجهه إِلَى مصر اعرف حاجبك وكاتبك وجليسك فَإِن الْغَائِب عَنْك يُخبرهُ عَنْك كاتبك والمتوسم لَك يعرفك بحاجبك وَالْخَارِج يعرفك بجليسك قَالَ رجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 لزياد أَن حاجبك يبْدَأ بِالْإِذْنِ لمعارفه قَالَ قد أحسن فالمعرفة تَنْفَع عِنْد الْكَلْب الْعَقُور والجمل الغصوص كن من معارفه أَنْت أَيْضا ثمَّ يُقيم لحوائج النَّاس وتعريفها إِلَيْهِ من خواصه أروعهم وآدبهم وأحرصهم على طلب الْخَيْر وَطلب الْأجر وتجنب الْعَار والوزر واكتساب الثَّنَاء وَالشُّكْر ثمَّ يَجْعَل لعوام النَّاس وكافة ذَوي الْحَوَائِج والمتظلمين يَوْمًا فِي الْأُسْبُوع أَو فِي الشَّهْر على قدر الْحَاجة إِلَيْهَا يَأْذَن لَهُم فِي الدُّخُول عَلَيْهِ ليستدرك كل مِنْهُم مَا عجز عَن تَدَارُكه بالوسائط والذرائع ويصل من حَقه إِلَى ق 30 مَا لم يوصله إِلَيْهِ الْقُضَاة وأرباب الصَّنَائِع وَعجز عَن إنصافه وُلَاة الْمَظَالِم وَكَاد يخرج عَمَّا هُوَ فِيهِ عَن مَعْلُوم الْعَالم فَهَذِهِ أَحْمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 السّير وأرضاها عِنْد ذَوي الرَّأْي والنظرة وَمِمَّا قيل فِي ذمّ الْحجاب قَول أبي الْعَتَاهِيَة فِي أَحْمد بن يُوسُف وَقد حجب عَنهُ (لِأَن عدت بعد الْيَوْم أَنِّي لظَالِم ... سأصرف وَجْهي حَيْثُ تبغى المكارم) (مَتى يظفر الغادي إِلَيْك بحاجة ... ونصفك مَحْجُوب ونصفك نَائِم) وَقَالَ أَيْضا فِي عَمْرو بن الْعَلَاء (أَتَيْتُك يَا هَذَا فأغلقت بابك ... أَكنت تراني حَيْثُ أبغي بابكا) (وَلَيْسَ لشَيْء غير تَسْلِيم مرّة ... أَتَيْتُك فاشدد مَا بقيت حجابكا) (لَك الله أَلا جِئْت بابك غير مَا ... فعلت وَلَا كلفت نَفسِي طلابكما) وَلأَحْمَد بن عبد الله مؤلف كتاب العقد فِي آخِره (مَا بَال بابك مَحْجُوب بنواب ... تحميه من طَارق يَأْتِي ومنتاب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 (لَا تحجب وَجهك الممقوت من أحد ... فالمقت يَحْجُبهُ من غير حجاب) (واعزل عَن الْبَاب من قد ظلّ يَحْرُسهُ ... فَإِن وَجهك طلسم عَن الْبَاب) وَقَالَ آخر (حجابك من مهابته عسير ... وخيرك من بر يَده يسير) (خرجت كَمَا دخلت إِلَيْك إِلَّا ... ترابك طَار فِي جفني كثير) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الْقسم الثَّانِي من الْكتاب فِي الحكايات عَن الْخُلَفَاء والوزراء والعمال والأمراء الدَّالَّة على مناقبهم وارتفاع مَرَاتِبهمْ ولنبدأ بِذكر مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ لقرب عَهده ثمَّ من بعده على تَرْتِيب وجودهم وتعاقب أزمنتهم إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي بِنَا الْكَلَام وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق رُوِيَ أَن مُعَاوِيَة كَانَ يجلس وَيَأْذَن كل يَوْم خمس مَرَّات كَانَ إِذا صلى الْفجْر جلس فَيقْرَأ الْقَصَص وَيَقْضِي حَاجَة من حضر ثمَّ يَأْخُذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الْمُصحف فَيقْرَأ أَجزَاء من الْقُرْآن الْكَرِيم ثمَّ يدْخل بَيته فيأمر وَينْهى وَيُصلي أَربع رَكْعَات ثمَّ يقْعد فِي مَجْلِسه وَيدخل إِلَيْهِ خَاصَّة الْخَاصَّة وَيَدْعُو بالغداء الْأَصْغَر من فضلات الْعشَاء ثمَّ يَأْمر بكرسيه حَيْثُ الْمَقْصُورَة من الْمَسْجِد فيأتيه ابْن السَّبِيل والأعرابي وَمن تستدعى من الْإِمَاء والعجائز وَالصبيان فَيَقْضِي حوائجهم وَلَا يضجر ثمَّ يدْخل منزله فيأتيه أَشْرَاف النَّاس وَالْعُلَمَاء فَيَقْضِي لَهُم الْحَوَائِج ثمَّ يَدْعُو بغدائه الْأَكْبَر فيطيل الْأكل ويصغي لكل أَصْحَاب الْحَوَائِج ثمَّ يدْخل منزله إِلَى الظّهْر فَلَا يرَاهُ أحد ثمَّ يخرج يُصَلِّي الظّهْر وَيدخل إِلَيْهِ الْخَواص فَإِن كَانَ أَيَّام الشتَاء دَعَا بالحلوات الْيَابِسَة وَإِن كَانَ صيفا دَعَا بالفواكه فَيَأْخُذ من الْأكل إِلَى الْعَصْر ثمَّ يجلس على سَرِيره وَيَأْذَن للنَّاس إِلَى الْغُرُوب ثمَّ يَأْذَن لخاصته إِلَى ثلث اللَّيْل يسامرونه وينام الثُّلُث الْأَوْسَط وَيُصلي الثُّلُث الْأَخير فَلم يزل على ذَلِك حَتَّى قَبضه الله تَعَالَى قيل سمر مُعَاوِيَة ذَات لَيْلَة فَذكر كَلَام الزَّرْقَاء بنت عدي امْرَأَة من أهل الْكُوفَة مِمَّن نصر عليا عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 السَّلَام يَوْم صفّين فَقَالَ لأَصْحَابه أَيّكُم يحفظ كَلَام الزَّرْقَاء فَقَالُوا كلنا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نَحْفَظهُ فَقَالَ فَمَا تشيرون عَليّ فِيهَا فَقَالُوا نشِير بقتلها فَقَالَ بئس الرَّأْي رَأَيْتُمْ أيحسن بمثلي أَن يتحدث النَّاس عَليّ أَنِّي قتلت امْرَأَة بَعْدَمَا ملكت فظفرت ثمَّ دَعَا بكاتبه فَكتب إِلَى واليه بِالْكُوفَةِ أَن أوفد إِلَى الزَّرْقَاء بنت عدي مَعَ نفر من عشيرتها وعدة من فرسَان قَومهَا ومهد لَهَا وطاء لينًا فَلَمَّا ورد عَلَيْهِ الْكتاب ركب إِلَيْهَا فأقرأها الْكتاب فَقَالَت أما أَنا فَغير زائغة عَن الطَّاعَة فَإِن كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ جعل الِاخْتِيَار إِلَيّ لم أرم من بلدي وَإِن كَانَ حتم الْأَمر فالسمع وَالطَّاعَة لَهُ فحملها على أحسن مَطِيَّة فِي هودج وَجعل غشاءه خَزًّا مبطنا وَأحسن صحبتهَا فَلَمَّا قدمت على مُعَاوِيَة قَالَ لَهَا مرْحَبًا وَأهلا خير مقدم قدمه وَافد كَيفَ حالك يَا خَالَة وَكَيف رَأَيْت ق 31 مسيرك فَقَالَت خير مسير كَأَنِّي ربيبة بَيت أَو طِفْل فِي مهد فَهَل تعلمين لما بعثت إِلَيْك فَقَالَت لَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله فَقَالَ أَلَسْت راكبة الْجمل الْأَحْمَر يَوْم صفّين وَأَنت بَين الصفين توقدين نَار الْحَرْب وتحضين على الْقِتَال قَالَت بلَى قَالَ فَمَا حملك على ذَلِك فَقَالَت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه قد مَاتَ الرَّأْس وبتر الذَّنب وَالِده ذُو غير وَمن تفكر أبْصر وَالْأَمر يحدث بعده الْأَمر قَالَ صدقت فَهَل تحفظين كلامك قَالَت لَا وَالله قَالَ لله أَبوك لقد سَمِعتك تَقُولِينَ أَيهَا النَّاس إِنَّكُم فِي فتْنَة عمياء صماء غشيتكم جلابيب الظُّلم وجارت بكم عَن قصد المحجة فيا لَهَا من فتْنَة لَا يسمع لقائلها وَلَا تنقاد لسائقها أَيهَا النَّاس إِن الْمِصْبَاح لَا يضيء فِي الشَّمْس وَإِن الْكَوَاكِب لَا تنير مَعَ الْقَمَر وَإِن الْبَغْل لَا يسْبق الْفرس وَلَا يقطع الْحَدِيد إِلَّا الْحَدِيد أَلا من استرشد أرشدناه وَمن سَأَلنَا أخبرناه أَن الْحق كَانَ يطْلب ضالته فَوَجَدَهَا فصبرا يَا معاشر الْمُسلمين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار على الْغصَص فَكَأَنَّهُ قد التأم شعب الشتات وَظَهَرت كلمة الْعدْل وَغلب الْحق باطله فَلَا يعجلن أحدكُم يَقُول كَيفَ ذَلِك ليقضي أمرا كَانَ مَفْعُولا إِن خضاب النِّسَاء الْحِنَّاء وخضاب الرِّجَال الدِّمَاء وَالصَّبْر خير فِي الْأُمُور عواقب أَيهَا إِلَى الْحَرْب قدما غير ناكصين فَهَذَا يَوْم لَهُ مَا بعده قَالَ يَا زرقاء لقد شاركت عليا عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فِي كل دم سفكه قَالَت أحسن الله بشارتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وأدام سلامك مثلك بشر بِخَير وسر جليسه قَالَ لَهَا وَقد سرك ذَلِك قَالَت نعم وَالله سرني قَوْلك وأنى لي بتصديقه قَالَ وَالله لوفاؤكم لَهُ بعد مَوته أعجب إِلَيّ من حبكم لَهُ فِي حَيَاته اذكري حَاجَتك فَقَالَت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي آلَيْت على نَفسِي أَن لَا أسأَل أحدا أعنت عَلَيْهِ شَيْئا أبدا وَمثلك من أعْطى بِغَيْر مَسْأَلَة وجاد من غير طلبة قَالَ صدقت ثمَّ أقطعها ضَيْعَة استغلت مِنْهَا أول سنة عشرَة آلَاف دِرْهَم وَذكر أَن سَوْدَة بنت عمَارَة بن أَسد اسْتَأْذَنت عَلَيْهِ فَلَمَّا أذن لَهَا قَالَ هيه يَا بنت أَسد أَلَسْت القائلة يَوْم صفّين (شمر كَفعل أَبِيك يَا بن عمَارَة ... يَوْم الطعان وملتقى الأقران) (وانصر عليا وَالْحُسَيْن ورهطه ... واقصد لهِنْد وأبنها بهوان) (إِن الإِمَام أهوَ النَّبِي مُحَمَّد ... علم الْهدى ومنارة الْإِيمَان) (فقد الجيوش وسر أَمَام لوائه ... قدما بأبيض صارم وَسنَان) فَقَالَت بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمَا مثلي من رغب عَن الْحق وَلَا اعتذر بِالْكَذِبِ قَالَ فَمَا حملك على ذَلِك قَالَت حب عَليّ وَاتِّبَاع الْحق فَقَالَ وَالله مَا أرى عَلَيْكُم من أثر عَليّ شَيْئا فَقَالَت نشدتك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من إِعَادَة مَا مضى وتذكار مَا خلا فَقَالَ هَيْهَات مَا مثل مقَام أَخِيك ينسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وَمَا لقِيت من أحد مَا لقِيت من أَخِيك وقومك قَالَت صدقت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لم يكن أخي وَالله دهش الْمقَال وَلَا خَفِي الْمَكَان وَكَانَ وَالله كَمَا قَالَت الخنساء (وَإِن صخرا لتأتم الهداة بِهِ كَأَن ... هـ علم فِي رَأسه نَار) وَأَنا أسأَل أَمِير الْمُؤمنِينَ إعفائي مِمَّا استعفيته مِنْهُ فَقَالَ قد فعلت فَمَا حَاجَتك فَقَالَت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك أَصبَحت للنَّاس سيدا ولأمرهم واليا وَالله سَائِلك عَن أمورنا وَمَا افْترض الله عَلَيْك من حَقنا وَمَا يزَال بقدم علينا من يهجم بعزك ويبطش بسلطانك فيحصدها حصد السنبل ويدوسنا دوس الْبَقر ويسومنا الْخَسْف هَذَا ابْن أراطة قدم علينا فَقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 رجَالًا وَأخذ أَمْوَالًا وَلَوْلَا الطَّاعَة لَكَانَ فِينَا عز ومنعة فإمَّا عزلته فشكرناك وَإِلَّا عرفناك فَقَالَ مُعَاوِيَة أبقومك تهدديني لقد هَمَمْت أحملك على قتب أَشْرَس فاردك إِلَيْهِ فَينفذ فِيك حكمه فاطرقت وبكت وأنشأت تَقول (صلى الْإِلَه على قبر تظمنه ... قبر فَأصْبح فِيهِ الْعدْل مَدْفُونا) (قد حَالف الْحق لَا يَنْبَغِي بِهِ بَدَلا ... فَصَارَ بِالْحَقِّ وَالْإِيمَان مَقْرُونا) قَالَ وَمن ق 23 ذَلِك قَالَت أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ وَمَا علمك بذلك فَقَالَت أَتَيْته فِي رجل ولاه علينا لم يكن بَيْننَا وَبَينه إِلَّا مَا بَين الغث وَالسِّين فَوَجَدته قَائِما يُصَلِّي فَلَمَّا نظر إِلَيّ انْفَتَلَ من صلَاته فَقَالَ برأفة وَرَحْمَة أَلَك حَاجَة فَأَخْبَرته فَبكى وَقَالَ اللَّهُمَّ أشهد عَليّ وَعَلَيْهِم إِنِّي لم أَمرهم بظُلْم أحد من خلقك وَلَا بترك شَيْء من حَقك ثمَّ أخرج من جيبه قِطْعَة جلد وَكتب فِيهَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان وَلَا تخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين بقيت الله خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ إِذا قَرَأت كتابي هَذَا فاحتفظ بِمَا فِي يدك حَتَّى يقدم عَلَيْك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 يقبضهُ مِنْك وَالسَّلَام فَأَخَذته مِنْهُ وَالله مَا حزمه بحزامه وَلَا خَتمه بطين فَعَزله بِهِ فَقَالَ مُعَاوِيَة اكتبوا لَهَا برد مَالهَا وَالْعدْل عَلَيْهَا فَقَالَت إِلَيّ خَاصَّة أم لقومي عَامَّة فَقَالَ مَا أَنْت وقومك فَقَالَت هِيَ وَالله الْفَحْشَاء إِذن اللؤم إِن كَانَ عدلا شَامِلًا وَإِلَّا فَأَنا كَسَائِر قومِي قَالَ هَيْهَات يَا أهل الْعرَاق لمظكم عَليّ بن أبي طَالب الجرأة على السُّلْطَان اكتبوا لَهَا بحاجتها ولسائر قَومهَا وَرُوِيَ أَنه أُتِي مُعَاوِيَة بِرَجُل من أَصْحَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قد أبلى مَعَه بلَاء حسنا فَقَالَ مُعَاوِيَة الْحَمد لله الَّذِي أمكن مِنْك فَقَالَ لَا تقل ذَلِك وَلَكِن قل إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فَإِنَّهَا مُصِيبَة قَالَ وَأي نعْمَة هِيَ أكبر من أَن الله قد أَظْفرنِي بِرَجُل قتل بساعة وَاحِدَة جمَاعَة من أَصْحَابِي اضربا عُنُقه فَقَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَن مُعَاوِيَة لم يقتلني فِيك وَلَا أَنَّك رضيت قَتْلِي وَلَكِن يقتلني على سَبِيل الْغَلَبَة على حطام هَذِه الدُّنْيَا فَإِن فعل فافعل بِهِ مَا هُوَ أَهله وَإِن لم يفعل فافعل بِهِ مَا أَنْت أَهله قَالَ مُعَاوِيَة قَاتلك الله لقد سببت فأبلغت بالسب ودعوت فأبلغت فِي الدُّعَاء خليا عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَرُوِيَ عَن مُعَاوِيَة أَنه قَالَ اجعلوا للشعر أَكثر همكم وَأحد دأبكم فَإِن مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم فَلَقَد رَأَيْتنِي يَوْم الهرير وَقد عزمت على الْهَرَب فَمَا يردني إِلَّا قَول عَمْرو بن الأطنابة حَيْثُ يَقُول (أَبَت همتي وأبى حيائي ... وأخذي الْحَمد بِالثّمن الربيح) (وَقَوْلِي كلما جشأت وجاشت ... مَكَانك تحمدي أَو تستريحي) (وإقدامي على الْمَكْرُوه نَفسِي ... وضربي هَامة البطل المشيح) (لِأَنِّي عَالم أَن سَوف تنئا ... مَسَافَة بَين جثماني وروحي) وَقَالَ مُعَاوِيَة (كَأَن الجبان يرى أَنه ... يدافع عَنهُ الْفِرَار الْأَجَل) (فقد تدْرك الحادثان الجبان ... وَيسلم مِنْهَا الشجاع البطل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وَقَالَ مُعَاوِيَة لعبد الرَّحْمَن بن الحكم يَا ابْن أخي إِنَّك لقد لهجت تَقول الشّعْر فإياك والتشبيب فتعر شريفا وَإِيَّاك والهجاء فتهجي كَرِيمًا أَو تثربه لئيما وَإِيَّاك والمدح فَإِنَّهُ كسب الخسيس وَلَكِن أَفْخَر بمآثر قَوْمك وَقل فِي الْأَمْثَال مَا تزين نَفسك وتؤدب بِهِ غَيْرك فَإِن لم تَجِد بَدَأَ من المديح فَكُن كالمبرار حِين مدح فَإِنَّهُ شفع بِنَفسِهِ حِين بَدَأَ بِغَيْرِهِ فَقَالَ (أنزلت نَفسِي فِي بني ثغل ... إِن الْكَرِيم للكريم مجل) وَقيل حج مُعَاوِيَة فَلَمَّا دخل الْمَدِينَة قَالَ الْحُسَيْن بن عَليّ لِأَخِيهِ الْحسن بن عَليّ صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ لَا تلقه وَلَا تسلم عَلَيْهِ فَلَمَّا خرج قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الْحسن إِن علينا دينا وَلَا بُد من إِتْيَانه فَركب فِي أَثَره فَلحقه فَسلم عَلَيْهِ وَأخْبرهُ بِدِينِهِ فَمروا غَلبه ببختي عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ ألف دِينَار قد أعيى وتخلف عَن الْإِبِل وَقوم سيوقونه فَقَالَ مُعَاوِيَة مَا هَذَا فَذكر لَهُ فَقَالَ اصرفوا مَا عَلَيْهِ لأبي مُحَمَّد قَالَ زِيَاد مَا غلبني مُعَاوِيَة فِي شَيْء من أُمُور السياسة قطّ إِلَّا فِي شَيْء وَاحِد وَذَلِكَ أَنِّي اسْتعْملت رجلا على دست ميسَان فَكسر عَلَيْهِ الْخراج فلحق بِمُعَاوِيَة فَكتبت إِلَيْهِ أسأله تَسْلِيمه إِلَيّ فَكتب فِي جَوَابه أما بعد فَلَيْسَ يَنْبَغِي لمثلي وَمثلك أَن نسوس النَّاس جَمِيعًا بسياسة وَاحِدَة لَكِن ق 33 تكون أَنْت للغلطة والفظاظة وأكون أَنا للرأفة وَالرَّحْمَة فَإِذا هرب هارب وجد لَهُ بَابا يلج فِيهِ وَالسَّلَام وَقيل لمعاوية أَنْت أدهى أم زِيَاد فَقَالَ إِن زيادا لَيْسَ يدع الْأُمُور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 تتفرق عَلَيْهِ بل يجمعها قبل ذَلِك وَإِنَّهَا لتتفرق عَليّ ثمَّ أجمعها قَالَ قوم لزياد بِمَ ضبط الْعرَاق قَالَ بِالسَّيْفِ قَالَ أَنا ضبط الْعرَاق وَالشَّام والحجاز بالحلم وَلما هم مُعَاوِيَة بالبيعة لِابْنِهِ يزِيد كتب إِلَى زِيَاد يستشيره فِيهِ فَدَعَا زِيَاد عبد بن كَعْب النميري فأوفده على مُعَاوِيَة فَقَالَ إِن لَك مستشير ثِقَة وَلَك سر مستودعا وَإِن النَّاس قد ابتدعت علم خصلتان إِضَاعَة السِّرّ وإفساد النَّصِيحَة وَلَيْسَ يستودع إِلَّا عِنْد رجلَيْنِ رجل يَرْجُو ثَوَاب الْآخِرَة وَرجل لَهُ حسب وعقل يصون حَسبه وعقله وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يستشيرني وعلاقة الْإِسْلَام وضمانه شَدِيد لِأَن يزِيد صَاحب لعب وتهاون مَعَ مَا أولع فِيهِ من الصَّيْد فألق أَمِير الْمُؤمنِينَ مُؤديا عني فَأخْبرهُ وَقل لَهُ رويدك فِي الْأَمر يَسْتَقِيم فَإِن دركا فِي تأجير خير من تَعْجِيل أَخَاف عاقبته وَلَا تَدْرِي إِلَى مَا يصير الْأَمر فَلَمَّا بلغه الرسَالَة أَخذ مُعَاوِيَة بِرَأْي زِيَاد وَأخر بيعَته وَكتب إِلَى سعيد بن الْعَاصِ يستشيره فَرجع جَوَابه إِلَيْهِ أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 قد بقيت مشيخة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم فرويدا بِهَذَا الْأَمر لَعَلَّهُم ينقرضون فَقَالَ مُعَاوِيَة صدق سعيد فَأخر الْبيعَة وَلم يزل يُدَارِي النَّاس بعد ذَلِك سبع سِنِين إِلَى أَن تمّ لَهُ الْأَمر وَقيل إِنَّه اسْتَشَارَ الْأَحْنَف بن قيس فَقَالَ أَدخل على يزِيد فَأدْخلهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا خرج قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة كَيفَ رَأَيْت يزِيد فَقَالَ رَأَيْت شبَابًا وجلدا ونشاطا ثمَّ قَالَ نخافكم إِن صدقنا ونخاف الله إِن كذبنَا وَأَنت أعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بليله ونهاره ومدخله ومخرجه وسره وجهاره وإيراده وإصداره فَإِن كنت تعلم أَن فِيهِ لله رضى ولهذه الْأمة صلاحا فَلَا تشَاور النَّاس وَإِن كنت تعلم مِنْهُ غير ذَلِك فَلَا تزوده الدُّنْيَا وَأَنت عَائِد إِلَى الْآخِرَة وَإِنَّمَا علينا السّمع وَالطَّاعَة فَقَالَ مُعَاوِيَة جَزَاك الله عَن الطَّاعَة خيرا وَلما أَخذ مُعَاوِيَة فِي الْبيعَة ليزِيد قَالَ لَهُ يَا بني لقد ذللت لَك الشدَّة ومنحتك اللين وتحملت دُونك الغلظة وَقد وليتك أمرا عَظِيما من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أَمر هَذِه الْأمة وَلَيْسَ حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب إِلَّا وَله عِنْدِي تره قد كنت أشغله عَنْهَا بِحسن الْوِفَادَة وجزيل الرفد حَتَّى تركت قُلُوبهم كالطينة المؤتثة فَلَا تخالفن فعلي فيهم فَعَلَيْك بإدرار عطيتك ومباشرة أمورك وَلَا تشغل نَفسك بمفاكهة الْإِمَاء ومداعبتهن فَإِن ذَلِك من فعل ضعفة الرِّجَال وَانْظُر هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة من قُرَيْش أما الْحُسَيْن بن عَليّ فَإِنِّي قد أوصيك فِيهِ بِحِفْظ قرَابَته ورعاية حق رَحمَه فَإِن الْقُلُوب إِلَيْهِ جانحة فَاجْعَلْ لَهُ عِنْد ظفرك نَصِيبا من رَحِمك واطوي كشحا عَن ابْن عمر وَابْن أبي بكر فَإِنَّهُمَا كَمثل الهقل لَا يحمل ثقلا وَلَا يجمع نهوضا وَأما ابْن الزبير فكالثعلب رواغ بالحيلة وكالليث صال بالجراءة وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنه قَالَ أما عبد الله بن عمر فقد شغلته الْعِبَادَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَأما عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فَلَيْسَ لَهُ همة إِلَّا فِي النِّسَاء وَاللَّهْو فَلَمَّا بُويِعَ يزِيد حج بِالنَّاسِ وَقسم بِمَكَّة وَالْمَدينَة أَمْوَالًا كَثِيرَة وَقَالَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 عبد الله بن الزبير إِذا خرجت فَاخْرُج مَعَك الْحُسَيْن بن عَليّ واطلب من مَرْوَان دَاره فَإنَّك لَا تَأتي بفائدة مثلهَا فَقَالَ مَا اتهمَ رَأْيك أما الْحُسَيْن فَإِنِّي أوفد إِلَيْهِ فَإِن خرج مَعَهم وَأقَام بِالشَّام عرفنَا حَقه ورعينا قرَابَته وَإِن رَجَعَ إِلَى أَهله لم نَدع صلته فقد أَقَامَ دهره بِالْمَدِينَةِ لم يأتنا نته مَا نكره وَكتب مُعَاوِيَة إِلَى سعيد بن الْعَاصِ وَهُوَ أَمِير بِالْمَدِينَةِ بِالْقَبْضِ على مَال مَرْوَان بن الحكم فَلم يفعل فَرَاجعه فِيهِ ثمَّ كتب كتابا ثَانِيًا فدافعه واحتفظ ق 34 بالكتابين فَلَمَّا عزل سعيد وَولي مَرْوَان بن الحكم الْمَدِينَة وَكتب لَهُ بِالْقَبْضِ على أَمْوَال سعيد فَأرْسل مَرْوَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بِالْكتاب مَعَ ابْنه عبد الْملك إِلَى سعيد وَقَالَ لَهُ لَو لم يكن الْكتاب لتجافيت عَن ذَلِك فَدَعَا سعيد بالكتابين فَأَعْطَاهُمَا عبد الْملك فجَاء بهما إِلَى مَرْوَان فَلَمَّا قرأهما قَالَ هُوَ أفضل منا فَكف عَن قبض أَمْوَال سعيد وَقَالَ سعيد لوَلَده من أَتَاكُم فِي مجالسكم فقد وَجب حَقه عَلَيْكُم وَمن أَتَاكُم فِي مَنَازِلكُمْ فقد وَجَبت حرمته عَلَيْكُم وَمن أَتَاكُم فِي حَاجَة فَلَا تدخروه شَيْئا فمنته عَلَيْكُم أعظم إِذْ رآكم موضعا لِحَاجَتِهِ وَلما حضرت سعيد بن الْعَاصِ الْوَفَاة قَالَ لِبَنِيهِ أَيّكُم يكفل بديني فَقَالَ ابْنه عَمْرو الْأَشْدَق وَكم دينك قَالَ ثَمَانُون ألفا قَالَ وفيم استدنتها قَالَ سددت بهَا خلة من كريم واشتريت بهَا عرضي من لئيم فَإِذن أَنا بهَا زعيم قَالَ هَذِه خصْلَة وَاحِدَة يَا بني وخصلتان قَالَ مَا هما قَالَ بَنَاتِي لَا تزوجوهن إِلَّا من الْأَكفاء وَلَو تعلق حَبل من الشّعْر قَالَ عَليّ يَا أبتي قَالَ وإخواني إِن فقدوا وَجْهي لم يفقدوا معروفي قَالَ عَليّ يَا أبتي قَالَ وَالله يَا بني مَا زلت أعرف الْكَرم فِي وَجهك وحماليق عَيْنَيْك وَأَنت فِي المهد وَالله يَا بني مَا شتمت أحدا مُنْذُ كنت رجلا وَلَا زاحمت بركبتي رجلا وَلَا كلفت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 يرتجيني أَن يسألني وَقَالَ زِيَاد اسْتَوْصُوا بِثَلَاثَة مِنْكُم خيرا الشريف والعالم وَالشَّيْخ وَالله لَا يأتيني شرِيف بوضيع أستخف بِهِ إِلَّا ضَربته وَلَا يأتيني شيخ بشاب استخف بِهِ إِلَّا أوجعته وَلَا يأتيني عَالم بجاهل استخف بِهِ إِلَّا نكلت بِهِ وَلِهَذَا قَالَ ارحموا ثَلَاثَة غَنِي قوم افْتقر وعزيز قوم ذل وعالما بَين جهال واختصم إِلَى زِيَاد رجلَانِ فَقَالَ أَحدهمَا أصلح الله الْأَمِير إِن هَذَا يدل بخاصته يزْعم أَنَّهَا لَهُ مِنْك قَالَ صدق وسأخبرك بِمَا يَنْفَعهُ عِنْدِي من مودته إِن كَانَ الْحق لَهُ عَلَيْك أخذتك بِهِ أخذا عنيفا وَإِن كَانَ الْحق لَك عَلَيْهِ أَقْْضِي عَلَيْهِ ثمَّ أَقْْضِي عَنهُ وَكَانَ زِيَاد إِذا ولى رجلا قَالَ لَهُ خُذ عَهْدك وسر إِلَى عَمَلك وَاعْلَم أَنَّك مَصْرُوف راس سنتك وَأَنت تصير إِلَى إِحْدَى ثَلَاث خِصَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فاختر لنَفسك إِن وجدناك أَمينا ضَعِيفا استبدلنا بك لضعفك وسلمتك من معرتنا أمانتك إِن وجدناك خائنا قَوِيا استهنا بقوتك وأحسنا على خِيَانَتك أدبك وأوجعنا ظهرك وَإِن وجدناك قَوِيا أَمينا زِدْنَا فِي عَمَلك رفعنَا لَك ذكرك وأوطئنا كعبك وكثرنا مَالك وَكَانَ لزياد سياسة عَظِيمَة حَتَّى إِنَّه كَانَ لَا يغلق أَبْوَاب الحوانيت فِي اللَّيْل وَمَا ذكر من حسن تَدْبيره أَنه أُتِي بِامْرَأَة كَانَت قد خرجت مَعَ الْخَوَارِج فِي الْحَرْب فَقَتلهَا ثمَّ عراها فَلم يخرج النِّسَاء عَلَيْهِ بعد ذَلِك وَكن إِذا دعين إِلَى الْخُرُوج قُلْنَ لَوْلَا التعرية لسارعنا إِلَى الْخُرُوج وَكَانَ يقتل الْمظَاهر بِالْخرُوجِ ويستصلح المسر مِنْهُم حَتَّى يستكفي شرهم وخروجهم عَلَيْهِ وَكَانَ يبْعَث إِلَى الْجَمَاعَة مِنْهُم فَيَقُول مَا أَحسب الَّذِي يمنعكم من إتياني إِلَّا الرجلة فَيَقُولُونَ أجل فيحملهم فَيَقُول أغشوني الْآن واسمروا عِنْدِي وَكَانَ عمر بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله يَقُول قَاتل الله زيادا جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 لَهُم كَمَا تجمع الذّرة وحاطهم كَمَا تحوط الْأُم الْبرة وَأصْلح الْعرَاق بِأَهْل الْعرَاق وَترك أهل الشَّام فِي شامهم وَلما ولي يزِيد بن مُعَاوِيَة سلم بن زِيَاد قَالَ إِن أبي استكفى أَبَاك كَبِيرا وَقد استكفيتك صَغِيرا فَلَا تتكلن عَليّ عذر مني فقد اتكلت على كِفَايَة مِنْك وَإِيَّاك مني قبل أَن أَقُول إيَّايَ مِنْك فَإِن الظَّن إِذا أخلف مِنْك أخلف لَك وَأَنت فِي أدنى حظك فاطلب أقصاه وَقد أتعبك أَبوك فَلَا تريحن نَفسك واطلب فِي يَوْمك أَحَادِيث غدك وَكن لنَفسك تكن لَك وَدخل عبد الله بن جَعْفَر على يزِيد بن مُعَاوِيَة فَأكْرمه وَقَالَ بكم كَانَ يصلك مُعَاوِيَة فَقَالَ كَانَ يصلني بِأَلف ألف دِرْهَم وترحم عَلَيْهِ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 يزِيد وَقد زدناك ألف ألف أُخْرَى لترحمك عَلَيْهِ أَخذ مُصعب بن الزبير رجلا من أَصْحَاب الْمُخْتَار فَأمر بِضَرْب عُنُقه فَقَالَ أصلح الله الْأَمِير مَا أقبح من أَن أقوم يَوْم الْقِيَامَة إِلَى صُورَتك هَذِه الْحَسَنَة ووجهك هَذَا الْحسن الَّذِي يستضاء بِهِ فأتعلق ق 35 بأطرافك فَأَقُول أَي رب سل مصعبا فيمَ قتلني فَقَالَ أَطْلقُوهُ قَالَ أَيهَا الْأَمِير أجعَل مَا وهبت لي من عمري فِي خفض قَالَ قد أمرت لَك بِمِائَة ألف دِرْهَم فَإِنِّي أشهد الله تَعَالَى وَأشْهد الْأَمِير أَن لِابْنِ قيس الرقيات نصفهَا قَالَ وَلما قَالَ لقَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 (إِنَّمَا مُصعب شهَاب من الله ... تجلت عَن وَجهه الظلماء) (ملكه ملك رَحْمَة لَيْسَ فِيهِ ... جبروت مِنْهُ وَلَا كبرياء) (يَتَّقِي الله فِي الْأُمُور وَقد ... أَفْلح من كَانَ همه الاتقاء) فَضَحِك مُصعب وَقَالَ أرى فِيك موضعا للصنيعة فَأحْسن جائزته وَلما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أَخِيه مُصعب خطب النَّاس فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي يعز من يَشَاء ويذل من يَشَاء إِنَّه لم يذل من كَانَ الْحق مَعَه وَإِن كَانَ فَردا وَلم يعز من كَانَ من أَوْلِيَاء الله الشَّيْطَان وَإِن كَانَ مَعَه الثَّقَلَان أَتَانَا خبر من الْعرَاق أحزننا وأفرحنا قتل مُصعب يرحمه الله فَأَما الَّذِي أحزننا فَإِن لفراق الْحَمِيم لوعة يجدهَا حميمه عِنْد الْمُصِيبَة ثمَّ يرعوي ذَوي الرَّأْي إِلَى جميل الصَّبْر وكريم العزاء وَأما الَّذِي أفرحنا فَعلمنَا أَن قَتله شَهَادَة وَأَن ذَلِك لنا وَله فِيهِ الْخيرَة أَلا وَإِن أهل الْعرَاق أهل الشقاق والنفاق باعوه بِأَقَلّ ثمن كَانُوا يأخذونه مِنْهُ إِنَّا وَالله مَا نموت إِلَّا قصعا بِالرِّمَاحِ وَتَحْت ظلال السيوف وَلَيْسَ كَمَا يَمُوت بَنو مَرْوَان حبجا وَالله إِن قتل مِنْهُم رجلا فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام أَلا وَإِن الدُّنْيَا عَارِية من الْملك الْأَعْلَى فَإِن تقبل عَليّ لَا آخذها أَخذ البطر الأشر وَإِن تدبر عني لَا أبْكِي عَلَيْهَا بكاء الْحزن المهتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 قلت الحبج إِن ينتفخ بطن الدَّابَّة من كَثْرَة الْأكل فتموت والقصع أَن يطعن وَيضْرب فَيَمُوت مَكَانَهُ فِي الْحَال والمهتر الَّذِي يسْقط فِي كَلَامه من الْكبر وَقَالَ الْمُهلب بن أبي صفرَة لِبَنِيهِ يَا بني إِن ثيابكم على غَيْركُمْ أحسن مِنْهَا عَلَيْكُم وَإِن دوابكم تَحت غَيْركُمْ أحسن مِنْهَا تحتكم وَقَالَ أَيْضا لِبَنِيهِ لَا تتكلوا على مَا سبق من فعلي وافعلوا مَا ينْسب إِلَيْكُم وَأنْشد (إِنَّمَا الْمجد مَا بِنَا وَالِد الصدْق ... وَأَحْيَا فعاله الْمَوْلُود) وَقَالَ لِابْنِهِ يزِيد أَخفض جناحك وَاشْتَدَّ فِي سلطانك فَإِنِّي رَأَيْت النَّاس للسُّلْطَان أهيب مِنْهُم لِلْقُرْآنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وَمر فِي الْكُوفَة بحي من هَمدَان فِي نَاد لَهُم فَقَالَ رجل مِنْهُم وَالله مَا يُسَاوِي إِلَّا خَمْسمِائَة دِرْهَم وَكَانَ الْمُهلب أعورا فَنظر إِلَى الرجل حَتَّى أثْبته فَلَمَّا خرج بالعشى حمل فِي كَفه خَمْسمِائَة دِرْهَم ثمَّ ضرب دَابَّته حَتَّى وقف فِي نَادِي هَمدَان فيصر بالشاب فَقَالَ افْتَحْ حجرك وَقَالَ دُونك يَا بن أخي قيمَة عمك فو الله لَو قومته بِأَكْثَرَ من هَذَا لجاءتك فَقَالَ الْفَتى واسوأتاه قَالَ الْمُهلب لَا ضير فَقَالَ شيخ من هَمدَان مَا أَخطَأ سودك وَقدم زِيَاد بن الْعَجم على الْمُهلب بن أبي صفرَة الْأَزْدِيّ بخرسان فَنزل على ابْنه حبيب فَجَلَسَا على شراب وَفِي الدَّار شَجَرَة عَلَيْهَا حمامة فَجعلت تغرد فَقَالَ زِيَاد (تغني أَنْت فِي ذممي وعهدي ... وَذمَّة وَالِدي أَن لَا تضاري) (إِذا غنيت أَو طربت يَوْمًا ... ذكرت أحبتي وَذكرت دَاري) (فإمَّا يَقْتُلُوك طلبت ثَأْرِي ... بِقَتْلِهِم لِأَنَّك فِي جواري) فَأخذ حبيب سَهْما فَرَمَاهَا فأثبتها بِهِ فَمَاتَتْ فَقَالَ زِيَاد قتلت جاري بيني وَبَيْنك الْمُهلب فَأخْبرهُ فَقَالَ يَا حبيب ادْفَعْ إِلَى أبي أُمَامَة ألف دِينَار فَقَالَ حبيب أعز الله الْأَمِير إِنَّمَا كنت أَلعَب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فَقَالَ مَعَ هَذَا اللّعب جَار أبي أُمَامَة جاري فَدفع حبيب إِلَيْهِ ألف دِينَار فَأَنْشَأَ زِيَاد يَقُول (فَللَّه عينا من رأى من قَضِيَّة ... قَضَاهَا فأمضاها الْأَمِير الْمُهلب) (قضى ألف دِينَار لِجَار أجرته ... من الطير حضان على الْبيض ينعب) (رَمَاه حبيب بن الْمُهلب رمية ... فأنفذه بِالسَّهْمِ وَالشَّمْس تغرب) (فألزمه عقل الْقَتِيل بأسره ... فَقَالَ حبيب إِنَّمَا كنت أَلعَب) (فَقَالَ زِيَاد لَا يروع جَاره ... وجاره جاري بل من الْجَار اقْربْ) فَلَمَّا سَمعهَا الْمُهلب أجَازه بجائزة حَسَنَة وَصَرفه مكرما فَبلغ ذَلِك الْحجَّاج فَقَالَ مَا أَخْطَأت الْعَرَب إِذْ جعلت الْمُهلب شَيخا وقف أَعْرَابِي على عبد الْملك بن مَرْوَان فَسلم ثمَّ قَالَ يَرْحَمك الله أَنه مرت بِنَا سنُون ثَلَاث أما إِحْدَاهَا فَأخذت الْمَوَاشِي وَأما الثَّانِيَة فنفضت اللَّحْم وَأما الثَّالِثَة فخلصت إِلَى الْعظم وعندك مَال فَإِن يكن لله فأعطه عباد الله وَأَن يكن لَك فَتصدق علينا إِن الله يَجْزِي المتصدقين فَأعْطَاهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم وَقَالَ لَو كَانَ النَّاس يحسنون يسْأَلُون مَا حرمنا أحدا ذكرت نُسْخَة ب ج د قصَّة إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة مَعَ الْحجَّاج الْوَارِدَة فِي صفحة 144 146 فِي هَذَا الْموضع وَلما كنت أحقق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الأَصْل فقد اكتفيت بذكرها هُنَاكَ وكما وَردت فِي الأَصْل مُرَاعَاة لحُرْمَة الأَصْل وَلما ولى عبد الْملك الْحجَّاج كتب إِلَيْهِ إِنِّي قد اسْتَعْمَلْتُك على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 العراقين صدمة فَأخْرج إِلَيْهَا كميش الأزار شَدِيد العذار منطوي الخصيلة قَلِيل الثميلة غرار النّوم طَوِيل الْيَوْم فَلَمَّا دخل الْحجَّاج الْكُوفَة أَتَاهُم آتٍ فَقَالَ إِن الْحجَّاج قد قدم أَمِيرا على الْعرَاق فاشرأب النَّاس نَحوه وتطاولوا ثمَّ افرجوا لَهُ فُرْجَة عَن صحن الْمَسْجِد فَإِذا هُوَ يتبهنس فِي مشيته متلثما بعباءة خَز حَمْرَاء منتكبا قوسا عَرَبِيَّة يؤم الْمِنْبَر فرقاه وَجلسَ وَأهل الْكُوفَة إِذْ ذَاك لَهُم مَنْعَة وَفِي الْمَسْجِد عُمَيْر بن ضابي فَقَالَ لمُحَمد بن عَطاء هَل لَك أَن أحصبه فَقَالَ لَا حَتَّى نسْمع كَلَامه فَقَالَ لعن الله بني أُميَّة حَيْثُ يستعملون علينا هَذَا لَو كَانَ هَذَا كُله كلَاما لم يكن شَيْئا فَقَالَ الْحجَّاج يَا أهل الْعرَاق أَنا لَا أعرف قدر اجتماعكم أفقد اجْتَمَعْتُمْ فَقَالَ رجل قد اجْتَمَعنَا أعز الله الْأَمِير فَسكت هنيهة لَا يتَكَلَّم فَقَالُوا يمنعهُ العي والحصر ثمَّ قَامَ فحدر اللثام وَقَالَ (أَنا ابْن جلا وطلاع الثنايا ... مَتى أَضَع الْعِمَامَة تعرفوني) (صَلِيب الْعود من سلفي نزار ... كنصل السَّيْف وضاح الجبين) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 (أَخُو خمسين مُجْتَمع أشدي ... ونجذني مداورة الشؤون) يَا أهل الْعرَاق إِنِّي أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وَإِنِّي لصَاحِبهَا وَكَأَنِّي أنظر إِلَى الدِّمَاء بَين العمائم واللحى (لَيْسَ أَوَان عشك فادرجي ... لَيْسَ أَوَان يكثر الخلاط) (قد لفها اللَّيْل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي) (مهَاجر لَيْسَ بأعرابي ... ) ... ... ... ... ... ... (قد لفها اللَّيْل بسواق حطم) (لَيْسَ براعي إبل وَلَا غنم ... وَلَا بجزار على ظهر وَضم) إِنِّي وَالله يَا أهل الْعرَاق مَا يغمز جَانِبي من اللين وَلَا يقعقع لي بالشنان وَلَقَد فَرَرْت عَن تجربة وأجريت مَعَ الْغَايَة وَأَن أَمِير الْمُؤمنِينَ نكث كِنَانَته بَين يَدَيْهِ فعجم عيدانها فوجدني أمرهَا عودا وأصلبها مكسرا فوجهني إِلَيْكُم فوَاللَّه لأعصبنكم عصب السلمة ولألحونكم لحو الْعود وأضربنكم ضرب غرائب الْإِبِل ولآخذن الْوَلِيّ بالولي حَتَّى تستقيم لي قناتكم حَتَّى يلقى أحدكُم أَخَاهُ فَيَقُول انج سعد فقد قتل سعيد أَلا وإياي وَهَذِه السقفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 والزرافات فَإِنِّي لَا أجد أحدا من الجالسين فِي زرافة إِلَّا ضربت عُنُقه فاستوسقوا واعتدلوا وَلَا تميلوا وَأَطيعُوا وَاعْلَمُوا أَنه لَيْسَ مني الْإِكْثَار والإهذار وَلَا معي ذَلِك الْفِرَار والتعرار وَإِنَّمَا هُوَ انتضائي هَذَا السَّيْف ثمَّ لَا أغمده الشتَاء وَلَا الصَّيف حَتَّى يظْهر أَمر الله ويذل لأمير الْمُؤمنِينَ صعبكم ويستقيم لَهُ أودكم وصعركم وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي بأعطياتكم وأشخاصكم إِلَى مجاهدة عَدوكُمْ وَقد أَمرتكُم بذلك وأجلتكم ثَلَاثًا وَأعْطيت الله عهدا لِأَن تخلف أحد مِنْكُم بعد قَبضه عطائه يَوْمًا وَاحِدًا لَأَضرِبَن عُنُقه ولأنهبن مَاله يَا غُلَام إقرأ كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ فقرأه ثمَّ دخل دَار الْإِمَارَة وَهَذِه الْحِكَايَة قد اشْتَمَلت على أَلْفَاظ كَثِيرَة من الْغَرِيب وَأَنا أُشير إِلَى بَيَانهَا على سَبِيل الِاخْتِصَار قَوْله صدمة أَي ضَرْبَة وَاحِدَة ودفعة وَاحِدَة وكميش الْإِزَار مشمر الْإِزَار وَيُقَال فِي الْمثل لمن جد فِي الشَّيْء وشمر فِيهِ هُوَ كميش الْإِزَار شَدِيد العذار والخصيلة لحم الفخدين وَلحم السَّاقَيْن وَأَرَادَ بذلك الْإِسْرَاع وَالْجد فِي الْأَمر والثميلة الْبَقِيَّة من الطَّعَام وَالشرَاب فِي بطن الْإِنْسَان أَرَادَ أَن لَا يستكثر من الطَّعَام ويشتغل بصنوفه وَلَكِن اقْتصر على مَا لَا بُد مِنْهُ فعل الجاد المشمر وغرار النّوم قَلِيله وَيُقَال لمن عمل فِي يَوْمه ق 37 وجد فِيهِ وَلم يشْتَغل بلهو وَلَا لعب هُوَ طَوِيل الْيَوْم فَإِن اشْتغل بِالشرابِ وَاللَّهْو قيل هُوَ قصير الْيَوْم واشرأب النَّاس تطاولوا وأشرفوا تبهنس تمايل فِي مشيته وتخايل وَيُقَال لمن كَانَ ظَاهرا مَشْهُورا غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 خَافَ وَلَا خامل هُوَ ابْن جلا والثنايا مَا ارْتَفع من الأَرْض وَغلظ وَيُقَال لمن لم يزل يفعل أفعالا شريفة هُوَ طلاع الثنيا وَيُقَال للقوي فِي أمره هُوَ صَلِيب الْعود والأشد جمع شدَّة وَهُوَ الْقُوَّة يُقَال لمن جرب الْأُمُور وأحكمها هُوَ منجد والناجذ أقْصَى الأضراس والشؤون جمع شَأْن يُقَال أينعت الثَّمَرَة إِذا أدْركْت وَبَلغت وقطف الثَّمَرَة أَخذهَا فَشبه الرؤوس بذلك لَيْسَ أَوَان عشك فادرجي يضْرب مثلا للمطمئن وَقد أظلهُ أَمر عَظِيم يحْتَاج إِلَى مُبَاشَرَته وَالْقِيَام بأَمْره والخلاط الْفساد وَهُوَ شَبيه بِالْمثلِ الأول وَيُقَال العصلبي الشَّديد من الرِّجَال فجعلهم بِمَنْزِلَة نَاقَة أَو إبل لرجل قوي شَدِيد يسري عَلَيْهَا ويتبعها وَلَا يركن إِلَى دعة وَلَا سُكُون فَجعل ذَلِك كَذَلِك ولف جمع وأروع جميل والداوي جمع داوية وَهِي الفلاة يُرِيد أَنه صَاحب أسفار ورحل والحطم العنيف من السُّوق وَهُوَ شَبيه بِالْمثلِ الأول والوضم كل مَا وقيت بِهِ اللَّحْم من خوان أوحصير أَو غَيره يُقَال يقعقع بالشنان أَي يُحَرك الشنان وَهُوَ مَا خلق من الأسقية وَأَصله أَن يُحَرك الشن حَتَّى يسمع لَهُ صَوت ليفر بِهِ الوحوش ويجلب بِهِ على الطير وَشبههَا يَقُول لست مِمَّن يروع بالأباطيل ويقرع بالتخيلات وَقَوله فَرَرْت عَن تجربة أَصله أَن يفر الدَّابَّة أَي يكْشف جحفلتها لينْظر إِلَى أسنانها فَيعرف بهَا سنّهَا والكنانة الَّتِي يكون فِيهَا السِّهَام ونكثها أَي كبها وصب مَا فِيهَا والعجم الِاخْتِيَار يُرِيد أَنه اختبرها ليعلم صلابتها من خورها وقويها من ضعيفها وَعصب السلمة يُقَال إِن الرجل إِذا حطبها شدها بنسعة لِئَلَّا يُصِيبهُ شَوْكهَا يضْرب مثلا لمن عصبته بشر وَأمر شَدِيد يُقَال لحوت الْعود ولحيته إِذا قشرته يُقَال فِي الْمثل ضربه ضرب غرائب الْإِبِل وَالْأَصْل فِيهِ أَن الْإِبِل إِذا وَردت فَدخل فِيهَا غَرِيبَة لَيست من الْإِبِل عَن المَاء وَضربت حَتَّى تخرج عَنْهَا وَيُقَال فِي الْمثل لمن يعْنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 برحمه أَو حميمة أَنْج سعد فقد قتل سعيد وَأَصله أَن سَعْدا وسعيدا ابْني ضبه خرجا يطلبان أباهما فَرجع سعد وَلم يرجع سعيد والزرافات الْجَمَاعَات وَأما السقفاء فَلم يذكر أحد لَهَا تَفْسِيرا وَقَالَ تعضهم إِنَّهَا تَصْحِيف وَإِنَّمَا هُوَ الشعفاء وَهُوَ اللَّذين يشفعون عِنْد السُّلْطَان فِي المذنب فنهاهم عَن ذَلِك وَقَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان لكثير بن هراثة الْكلابِي هَذَا الْحجَّاج قادما من الْعرَاق وَقد شمخ بِأَنْفِهِ وَنفخ الشَّيْطَان فِي منخره فَإِذا دخل عَليّ فتعرض لَهُ بِمَا يكره قَالَ أفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا دخل الْحجَّاج وَأخذ مَجْلِسه وأفاضوا فِي الحَدِيث قَالَ لَهُ عبد الْملك مَا تَقول فِي ثَقِيف يَا حجاج فقد زعم أنَاس أَنهم من إياد وَقَالَ آخَرُونَ من قيس وَأَنت أعرف بقومك فَقَالَ أصلح الله أَمِير الْمُؤمنِينَ الْحق أَبْلَج وَطَرِيق الرشد أبهج وَلنْ يجد من ركب الْحق وَقصد الصدْق نَحن من قيس ثبته أصولنا نابتة أصولنا نابتة غصوننا باسقة فروعنا فعلى ذَلِك قَومنَا فَقَالَ كثير لقد كَانَ لَك مُنْذُ دهر طَوِيل وَهُوَ على أَهله عَار وبيل وخطب جليل وَدخُول رجل فِي قوم لَيْسَ مِنْهُم وَتَركه قومه رَغْبَة عَنْهُم قَالَ الْحجَّاج أما وَالله لَوْلَا مَكَان أَمِير الْمُؤمنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 لاستوعرت موطنك ولاستعظمت مركبك ولأوردتك موردا يعبأ بالإصدار عَنهُ ذَوُو الْقُوَّة فَقَالَ كثير أَنْت أَضْعَف كوعا وأملى روعا وَلنْ تنَال بذلك شَيْئا يَا حجاج على مَا ضيعت من الْأَمَانَة وأظهرت من الْخِيَانَة مَعَ سوء سيرة وقبح سياسة فَإنَّك خربَتْ وَمَا عمرت وأفسدت وَمَا أصلحت وَجَرت وَمَا عدلت وَتركت الْحق إِذْ حكمت ق 38 فَقَالَ الْحجَّاج أما أَنَّك يَا كثير لتمد يدا قَصِيرَة وأنامل حقيرة لَا يستعاذ بك فِي الْمَظَالِم وَلَا يستعان بك فِي المغارم وَلَا تؤهل لدفع الْمَظَالِم فَلَمَّا خشِي عبد الْملك أَن يعظم بَينهمَا الْخطب عزم عَلَيْهِمَا أَن يسكتا فَخرج كل وَاحِد مِنْهُمَا ممليا غيظا وحقدا وَلم يلبث الْحجَّاج أَن خرج إِلَى الْعرَاق وَقدم وَفد من الْعرَاق على عبد الْملك فَلَمَّا أَرَادوا الِانْصِرَاف قَالَ لكثير بن هراثة انْطلق مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلَى الْحجَّاج حَتَّى تقوم خَطِيبًا وتذكر السّمع وَالطَّاعَة لولاة الْأَمر وَكَيف ينزل بِأَهْل الْخلاف والشقاق من النقمَة فِي العاجل ولآجل فَقَالَ لَهُ كثير إِنَّك قد علمت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا بيني وَبَينه وَأَنت لي ملْجأ إِن قهرت وَعزا إِن أذللت فَإِن أصابتني جَائِحَة أَو حلت بِي مُصِيبَة من الْحجَّاج فَأَنت المطالب بِثَأْرِي وَأَنت بعد الله ثقتي وَقد بعث أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى بلد أَتَخَوَّف أَهله وأميرا أحذر فعله وَقد شمخ بِأَنْفِهِ نَحْو السَّمَاء واجترأ على سفك الدِّمَاء وَلَيْسَ بحضرتي حفدة يعينوني عَلَيْهِ وَلَا أنصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ينصرونني فَقَالَ لَهُ عبد الْملك أنفذ لأمري فلعمري الْحجَّاج أحكم رَأيا أَن يأخذك بأحنة ويعفك بسيئة ولعمري لِأَن فعل لأحولن زعامته زعامته ولأنبذن مَنْزِلَته وليفارقن كرامته وبالحرى أَن يكون قد أحكمته تجاربه وقصدت بِهِ مذاهبه وعزب عَنهُ جَهله وثاب إِلَيْهِ حلمه فَخرج إِلَيْهِ كثير فِي أَصْحَابه حَتَّى قدم عَلَيْهِ فَلَمَّا دخل إِلَيْهِ قَالَ لَهُ مرْحَبًا بِكَثِير بن هراثة من قوم سادة كرام قادة بهَا ليل زَاده قَالَ لَهُ هراثة قد كَانَت بيني وَبَين الْأَمِير أَشْيَاء امْتَلَأت مِنْهَا رعْبًا وضقت بهَا ذرعا والأمير صَحِيح الْأَدِيم فِي الْحسب الصميم والشرف الْقَدِيم لَا يشتكي مِنْهُ الضعْف وَلَا يخَاف مِنْهُ العنف فَقَالَ الْحجَّاج مَا احتجنا إِلَى ثنائك وَلَا رغبنا فِي دعائك وَلَا تلام على فعلك وَلَا يُعَاقب مثلك وَأَجَازَهُ وفضله على أَصْحَابه فَلَمَّا قدم على عبد الْملك قَالَ كَيفَ رَأَيْت رَأْيِي فِي الْحجَّاج يَا كثير ألم تَجدهُ مصيبا لَا يَأْخُذ فِي أمره بالعجلة حَتَّى يرى من عدوه الْغرَّة قَالَ بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أحسن لَفظه وأدوم لحظه وأسكن فوره وَأبْعد غوره وَالله لَو لم يسهل من أمره مَا توعر لطحنني طحن الْمَرْوَة الململمة متساقط حب الجمجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وَكَانَ الشّعبِيّ مِمَّن خرج مَعَ ابْن الْأَشْعَث فَلَمَّا قدم على الْحجَّاج بعد قتل ابْن الْأَشْعَث قَالَ وَأَنت أَيْضا مِمَّن خرج علينا يَا شعبي قَالَ أَحْزَن الْمنزل وأجدب الجناب واكتحلنا السهر واستحلسنا الْخَوْف ووقعنا فِي حربه لم نَكُنْ فِيهَا بررة أتقياء وَلَا فجرة أقوياء قَالَ صدق وَالله مَا بروا بخروجهم علينا وَلَا قووا إِذْ برزوا إِلَيْنَا أطلقا عَنهُ وَدخل عَلَيْهِ ابْن أبي ليلى وَقَالَ أصلح الله الْأَمِير مَشْهُور النَّصِيحَة صَحِيح الْأَدِيم شَاكر السان خرج أبي مَعَ ابْن أبي الْأَشْعَث فهدم منزلي وَحلق على اسْمِي وَحرمت عطائي فَقَالَ أَو مَا سَمِعت الشَّاعِر حَيْثُ يَقُول (جانيك من يجني عَلَيْك وَقد ... تعدِي الصِّحَاح مبارك الجرب) (ولرب مَأْخُوذ بذنب قَرِيبه ... وَنَجَا المقارف صَاحب الذَّنب) قَالَ لَا وَلَكِنِّي سَمِعت الله يَقُول غير هَذَا فِي أخوة يُوسُف {قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا فَخذ أَحَدنَا مَكَانَهُ إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ قَالَ معَاذ الله أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده إِنَّا إِذا لظالمون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 فَقَالَ يَا غُلَام عَليّ بِيَزِيد بن أبي مُسلم فَأَتَاهُ فَقَالَ ابْن لَهُ دَاره واردد اسْمه وأعطه عطائه وَقَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان لأسماء بن خَارِجَة بَلغنِي عَنْك خِصَال فخدثني بهَا قَالَ هِيَ من غَيْرِي أحسن مِنْهَا مني فَقَالَ عزمت عَلَيْك أَلا حَدَّثتنِي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا مددت رجْلي بَين يَدي جليس لي قطّ وَلَا صنعت طَعَاما فدعوت عَلَيْهِ قوما إِلَّا كَانُوا أَمن عَليّ مِنْهُم وَلَا نصب لي رجل وَجهه يسألني حَاجَة فاستكثرت شَيْئا أَعْطيته إِيَّاه وَلما ولي الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان الْخلَافَة ق 39 عدل فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الرّعية وَأحسن السِّيرَة وَأعْطى المحرومين وَقَالَ لَا تسألوا النَّاس شَيْئا وَأعْطى كل مقْعد خَادِمًا وكل ضَرِير قائدا وَكَانَ يمر بالبقال فيقف عَلَيْهِ فَيَأْخُذ حزمة البقل فَيَقُول بكم هَذِه فَيَقُول بفلس فَيَقُول زد عَلَيْهَا وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ دخلت على عبد الْملك مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم بِالْمَدِينَةِ عَام حج فَتفرق النَّاس من الْمَسْجِد وَبَقِي سعيد بن الْمسيب قَاعِدا فِي مَجْلِسه فَلم يَتَحَرَّك عَنهُ فَجعلت أَطُوف بالوليد فِي نواحي بَعيدا عَن مجْلِس سعيد واشغله بِالْحَدِيثِ مَخَافَة أَن يرى مَكَانَهُ فحانت مِنْهُ التفاته فَرَآهُ فَقَالَ لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 يَا مُحَمَّد من هَذَا الشَّيْخ قلت سعيد بن الْمسيب وَقد كف بَصَره وَلَا علم لَهُ بمَكَان أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَو علم لَكَانَ قد أدّى الْوَاجِب عَلَيْهِ من الْحق فَقَالَ بل نَحن أَحَق بالمصير إِلَيْهِ والزيارة لَهُ فَجَاءَهُ الْوَلِيد فَسلم عَلَيْهِ وَجلسَ عِنْده وَسَأَلَهُ عَن حَاله فو الله مَا قَامَ لَهُ سعيد وَلَا تزحزح عَن مَكَانَهُ فَلَمَّا انْصَرف الْوَلِيد قَالَ لي يَا مُحَمَّد هَذَا من بَقِيَّة النَّاس وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن عَمه مُحَمَّد بن عَليّ بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 شَافِع قَالَ دخل سُلَيْمَان بن يسَار على الْوَلِيد بن عبد الْملك فَقَالَ لَهُ يَا سُلَيْمَان من الَّذِي تولى كبره فَقَالَ عبد الله بن أبي بن سلول فَقَالَ كذبت لَا أم لَك هُوَ عَليّ بن أبي طَالب قَالَ أَبَت أعلم وَمَا تَقول قَالَ فَمَا حَدِيث حَدثنَا بِهِ أهل الشَّام أَيْن الله عز وَجل إِذا أسترعى عبدا رعيه كتب لَهُ الْحَسَنَات وَلم يكْتب عَلَيْهِ السَّيِّئَات قَالَ لَا أَدْرِي ثمَّ دخل مُحَمَّد بن شهَاب الزُّهْرِيّ قَالَ لَهُ الْوَلِيد يَا مُحَمَّد من الَّذِي تولى كبره فَقَالَ عبد الله بن أبي بن سلول فَقَالَ كذبت لَا أم لَك هُوَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه فَقَالَ وَالله لَو كَانَ الْكَذِب مَكْتُوبًا بَين الدفتين بِأَن الله تَعَالَى أَبَاحَهُ لي أَو نَاد مُنَاد من السَّمَاء أَن الله قد أَبَاحَ الْكَذِب مَا رَآنِي اتحلى بِهِ حَدثنِي عدد من الرِّجَال مِنْهُم سعيد بن الْمسيب وعلقمة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وَقاص وَعُرْوَة بن الزبير وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن الَّذِي تولى كبره عبد الله بن أبي سلول قَالَ صدقت إِنَّمَا أردْت أَن أعلم هَل أحد يُنكر بَاطِلا ثمَّ قَالَ يَا مُحَمَّد مَا حَدِيث حَدثنَا بِهِ أهل الشَّام قَالَ وَمَا الحَدِيث قَالَ حدثونا أَن الله إِذا استرعى عبدا رعية كتب لَهُ الْحَسَنَات وَلم يكْتب عَلَيْهِ السَّيِّئَات قَالَ كذبت وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ وَكَيف ذَلِك قَالَ آتيتك بِحَدِيث من كتاب الله الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وَلَا من خَلفه قَالَ الله عز وَجل يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسو يَوْم الْحساب فَهَذَا وَعِيد الله لنَبِيّ وَهُوَ خَليفَة فَكيف وعيده لخليفة غير نَبِي قَالَ صدقت ثمَّ نزل عَن سَرِيره وَوضع خَدّه فِي التُّرَاب وَقَالَ يغروننا عَن ديننَا ثمَّ أغرى جلساءه بِابْن شهَاب فَقَالَ عَن مثل هَذَا يُؤْخَذ الدّين وَلما ولي سُلَيْمَان بن عبد الْملك أطلق المحبسين وَأحسن إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 النَّاس وسموه مِفْتَاح الْخَيْر وَفِي أَيَّامه فتحت الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَلَو لم يكن لَهُ حَسَنَة إِلَّا اسْتِخْلَاف عمر بن عبد الْعَزِيز بعده لَكَانَ كَافِيا وَرُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا وقف بَين يَدي سُلَيْمَان فَقَالَ إِنِّي مكلمك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بِكَلَام فاحتمله وَإِن كرهته فَإِن وَرَاءه مَا تحب إِن قبلته قَالَ هَات قَالَ إِنِّي سَأُطلقُ لساني بِمَا خرست عَنهُ الألسن من عظتك تأدية بِحَق الله تَعَالَى وَحقّ إمامتك إِنَّه قد اكتنفك رجال أساءوا الِاخْتِيَار لأَنْفُسِهِمْ فابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط الله خافوك فِي الله وَلم يخَافُوا الله فِيك فهم حَرْب للآخرة سلم للدنيا فَلَا تَأْمَنهُمْ على مَا ائتمنك الله عَلَيْهِ فَإِنَّهُم لم يألوا الْأَمَانَة تضييعا وَالْأمة خسفا وَأَنت مسؤول عَمَّا اجترحوا وَلَيْسوا مسؤولين عَمَّا اجترحت فَلَا تصلح دنياهم بِفساد آخرتك فَإِن أعظم النَّاس غبنا من بَاعَ آخرته بدنيا غَيره فَقَالَ أما أَنْت يَا أَعْرَابِي فقد سلك لسَانك وَهُوَ أقطع من سَيْفك قَالَ أجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَك لَا عَلَيْك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَرُوِيَ أَن سعيدا بن خَالِد دخل على سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَكَانَ سعيد جوادا فَإِذا لم يجد شَيْئا كتب لمن يسْأَله الصكاك على نَفسه حَتَّى يخرج عطاؤه فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ سُلَيْمَان تمثل بِهَذَا الْبَيْت ق 40 (إِنِّي سَمِعت مَعَ الصَّباح مناديا ... يَا من يعين على الْفَتى المعوان) ثمَّ قَالَ حَاجَتك قَالَ ديني قَالَ فكم هُوَ قَالَ فكم هُوَ قَالَ ثَلَاثُونَ ألف دِينَار قَالَ دينك وَمثله وروى رَجَاء بن حَيْوَة أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك لما كتب الْعَهْد لمر بن بُد الْعَزِيز وَمن بعده يزِيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 عبد الْملك وختمه وَدفعه إِلَيْهِ اخْرُج إِلَى النَّاس فمرهم بالمبايعة على مَا فِيهِ مَخْتُومًا فَلَمَّا دعاهم رَجَاء إِلَى ذَلِك وَأخْبرهمْ بقول سُلَيْمَان امْتَنعُوا وَقَالُوا لَا نُبَايِع حَتَّى نعلم من فَرجع إِلَى سُلَيْمَان فَأخْبرهُ فَقَالَ سُلَيْمَان انْطلق بأصحاب الحرس ونادي الصَّلَاة جَامِعَة فَإِذا اجْتمع النَّاس فمرهم بالبيعة على مَا فِي الْكتاب فَمن أَبى فَاضْرب عُنُقه فَفعلت ذَلِك فَبَايعُوا على مَا فِيهِ قَالَ رَجَاء فَلَمَّا خَرجُوا خرجت إِلَى منزلي فَبَيْنَمَا أَنا فِي الطَّرِيق إِذْ سَمِعت جلبة موكب فالتفتي فَإِذا هِشَام بن عبد الْملك فَقَالَ يَا رَجَاء قد علمت موقعك وَأرى أَمِير الْمُؤمنِينَ قد صنع شَيْئا مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَأَنا أَتَخَوَّف أَن يكون قد أزالها عني فَإِن يكن أزالها فَأَخْبرنِي مَا دَامَ فِي الْأَمر نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 حَتَّى أنظر فِي هَذَا الْأَمر قبل أَن يَمُوت سُلَيْمَان فَقلت سُبْحَانَ الله يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أمرا أطلعك عَلَيْهِ لَا يكون ذَلِك أبدا فداراني فأبيت فَانْصَرَفت فَبَيْنَمَا أَنا أَسِير سَمِعت جلبة خَلْفي فَالْتَفت فَإِذا عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ يَا رَجَاء إِنَّه قد وَقع فِي نَفسِي أَمر كَبِير فِي هَذَا الرجل أَتَخَوَّف أَن يكون قد جعلهَا إِلَيّ وَلست أقوم بِهَذَا الشَّأْن فَأَعْلمنِي مَا دَامَ فِي الْأَمر نفس لعَلي أتخلص مَا دَامَ حَيا فَقلت سُبْحَانَ الله الْعَظِيم يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أمرا أطلعك عَلَيْهِ فداراني فأبيت قَالَ رَجَاء فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان أجلسته وهيأته وَخرجت إِلَى النَّاس فَقَالُوا كَيفَ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقلت قد أصبح ساكتا وَقد أحب أَن تسلموا عَلَيْهِ وتبايعوا على مَا فِي الْكتاب بَين يَدَيْهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَأَنا قَائِم عِنْده فَلَمَّا دنو قلت أَمِير الْمُؤمنِينَ يَأْمُركُمْ بِالْوُقُوفِ ثمَّ تقدّمت إِلَيْهِم بِالْكتاب فَقلت أَمِير الْمُؤمنِينَ يَأْمُركُمْ أَن تبايعوا على مَا فِي هَذَا الْكتاب بمرأى مِنْهُ ومسمع فَبَايعُوا أَجْمَعِينَ فَلَمَّا فرغوا من مُبَايَعَتهمْ قَالَ لَهُم أجركُم الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالُوا فَمن ففتحوا الْكتاب فَإِذا فِيهِ الْعَهْد لعمر بن عبد الْعَزِيز فَلَمَّا قرأوا عمر بن عبد الْعَزِيز تَغَيَّرت وُجُوههم فَلَمَّا قرأوا من بعده يزِيد بن عبد الْملك تراجعوا فَقَالُوا أَيْن عمر بن عبد الْعَزِيز فطلبوه فَلم يجدوه فِي الْقَوْم فنظروا فَإِذا هُوَ فِي مُؤخر الْمَسْجِد فَأتوهُ فَسَلمُوا عَلَيْهِ بالخلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فعقر فَلم يسْتَطع النهوض حَتَّى أخذُوا بضبعيه فَسَارُوا إِلَى الْمِنْبَر فَلم يقدر أَن يرقى حَتَّى أصعدوه فَجَلَسَ طَويلا لَا يتَكَلَّم فَلَمَّا رَآهُمْ رَجَاء جُلُوسًا قَالَ أَلا تقومون فتبايعون لأمير الْمُؤمنِينَ فَنَهَضَ الْقَوْم إِلَيْهِ فَبَايعُوهُ رجلا رجلا قَالَ فَمَا مد يَده إِلَيْهِم فَلَمَّا صعد هِشَام مد يَده إِلَيْهِ وَقَالَ هِشَام إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فَقَالَ عمر نعم إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون حِين صَار يَلِي هَذَا الْأَمر أَنا وَأَنت ثمَّ قَامَ فَخَطب فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ أَيهَا النَّاس إِنِّي لست بقاض وَلَكِنِّي منفذ وَلست بِمُبْتَدعٍ وَلَكِنِّي مُتبع وَإِن حَوْلكُمْ كثيرا من الْأَمْصَار والمدن فَإِن هم أطاعوا كَمَا أطعتم فَأَنا وَلِيكُم وَإِن هم امْتَنعُوا فلست عَلَيْكُم بوالي ثمَّ نزل يمشي فَأَتَاهُ صَاحب المراكب قَالَ مَا هَذَا قَالَ مراكب الْخَلِيفَة قَالَ لَا حَاجَة لي بِهَذَا فأتوني بدابتي فَأتوا بدابته فركبها ثمَّ خرج وَخَرجُوا مَعَه فَقَالُوا نسيرها هُنَا قَالَ غلى أَيْن فَقَالُوا إِلَى الْبَيْت الَّذِي يهيأ للخليفة فَقَالَ لَا حَاجَة لي فِيهِ انْطَلقُوا بِي إِلَى منزلي فَأتى منزله فَنزل عَن دَابَّته ثمَّ دَعَا بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس وَجعل يكْتب بِيَدِهِ إِلَى الْعمَّال والأمصار ويملي على نَفسه وَقيل أَنه كَانَ رُبمَا اشْتريت لَهُ الْحلَّة بألفي دِرْهَم قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الْخلَافَة فَيَقُول أما وجدْتُم أَلين من هَذَا فَلَمَّا ولي الْخلَافَة كَانَ يَشْتَرِي لَهُ الْحلَّة بأَرْبعَة دَرَاهِم فَيَقُول أما وجدْتُم أغْلظ مِنْهَا فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أَن لي نفسا تواقة لَا تصل إِلَى منزلَة إِلَّا تاقت إِلَى مَا هُوَ أَعلَى مِنْهَا فَلَمَّا نَالَتْ الْخلَافَة تاقت إِلَى مَا هُوَ أَعلَى مِنْهَا فَلَمَّا نَالَتْ الْخلَافَة تاقت إِلَى مَا هُوَ أَعلَى مِنْهَا فَلم تَجِد فِي الدُّنْيَا مَا هُوَ أرفع من الْخلَافَة فتاقت إِلَى الْآخِرَة وَإِلَى مَا أعد الله فِيهَا وَقيل ق 41 أَن ثِيَابه قومت عَلَيْهِ يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ يخْطب بِاثْنَيْ عشر دِرْهَم وَكَانَت قَمِيصًا وَسَرَاويل وعمامة ورداء مَلأ الأَرْض عدلا وَرفع السب عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه على المنابر وَأمر الخطباء أَن يَقُولُوا فِي آخر الْخطْبَة فِي الْموضع الَّذِي كَانُوا يذكرُونَ اللَّعْن فِيهِ {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} وَلما حَضرته الْوَفَاة دَعَا بنيه وَكَانُوا أحد عشر رجلا وَلم يخلف غير بضع عشر دِينَارا فَأمر أَن يُكفن ويشترى لَهُ مَوضِع يدْفن فِيهِ بِخَمْسَة دَنَانِير ويقصد المَال على وارثيه فَأصَاب كل ابْن مِنْهُم نصف دِينَار وَربع دِينَار وَقَالَ يَا بني لَيْسَ لي مَال فأوصي فِيهِ وَلَكِنِّي قد تركتكم وَمَا لأحد عنْدكُمْ تبعة وَلَا يَقع على أحد مِنْكُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 عين أحد إِلَّا وَيرى لكم عَلَيْهِ حَقًا فَقَالَ لَهُ مسلمة بن عبد الْملك أَو خير من ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ هَذِه ثَلَاث مائَة دِينَار فرقها فيهم وَإِن شِئْت فَتصدق بهَا وأوص فِيهَا بِمَا شِئْت قَالَ أَو خير من ذَلِك يَا مسلمة تردها إِلَى من أَخَذتهَا مِنْهُ فَإِنَّهَا لَيست لَك بِحَق ثمَّ قَالَ إِن وَلَدي أحد رجلَيْنِ فإمَّا صَالح فَالله يتَوَلَّى الصَّالِحين وَإِمَّا فَاسق فَلَا أحب أَن أترك لَهُ مَا يَسْتَعِين بِهِ على مَعْصِيّة الله فَقَالَ مسلمة يَرْحَمك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَيا وَمَيتًا فقد ألنت لنا قلوبا قاسية وذكرتها وَكَانَت ناسية وأبقيت لنا فِي الصَّالِحَات ذكرا فَيُقَال أَنه مَا رُؤِيَ أحد من أَوْلَاد عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَّا وَهُوَ غَنِي وَلَقَد شوهد أحدهم وَقد جهز من خَالص مَاله مائَة فَارس على مائَة فرس فِي سَبِيل الله تَعَالَى وَلما حضرت هِشَام بن عبد الْملك الْوَفَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 خلف أحد عشر ابْنا كَمَا خلف عمر بن عبد الْعَزِيز وَأوصى فَأصَاب كل ابْن ألف ألف دِينَار فَقَالَ أَنه مَا رُؤِيَ أحد مِنْهُم إِلَّا وَهُوَ فَقير وَلَقَد شوهد أحدهم وَهُوَ يُوقد فِي الأتون وَوجدت فِي كتاب تفَاوت التواريخ أَن هِشَام بن عبد الْملك كَانَ يَأْكُل من بَيت المَال كل سنة مِائَتي دِرْهَم وَأَنه كَانَ ديوانه من بَيت المَال كديوان بعض الْجند وَحكي عَن بَعضهم أَنه قَالَ أَرْسلنِي هِشَام إِلَى خرسان وَكَانَ عَلَيْهِ إِذْ ذَاك قبَاء أَخْضَر فَلَمَّا رجعت من خُرَاسَان رَأَيْته عَلَيْهِ قَالَ تنظر إِلَى هَذَا القباء وَالله كَانَ عَليّ قبل الْخلَافَة وَمَالِي غَيره وفقد بعض أَوْلَاده فِي الْجُمُعَة فَسَأَلَهُ عَن تَأَخره فَقَالَ نفقت دَابَّتي يَعْنِي مَاتَت فَقَالَ أعجزت عَن الْمَشْي ثمَّ تسْقط عَنْك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الْجُمُعَة فَمَنعه الرّكُوب سنة وَرُوِيَ أَن عُرْوَة بن أذينة أَتَى مَعَ جمَاعَة من الشُّعَرَاء إِلَى هِشَام بن عبد الْملك فانتسبهم فانتسبوا فَلَمَّا انتسب لَهُ عُرْوَة قَالَ أَلَسْت الْقَائِل (لقد علمت وَمَا الْإِسْرَاف من خلقي ... أَن الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوف يأتيني) (أسعى إِلَيْهِ فيعينني تطلبه ... وَلَو أَقمت أَتَانِي لَا يعيني) فَقَالَ نعم أَنا قَائِلهَا قَالَ أَفلا قعدت حَتَّى يَأْتِيك رزقك وغفل عَنهُ هِشَام فَخرج من وقته وَركب رَاحِلَته وَمضى منصرفا فتفقده هِشَام فَعرف خَبره فَاتبعهُ بجائزته وَقَالَ للرسول قل لَهُ أردْت أَن تكذبنا وصدقت نَفسك فَمضى الرَّسُول فَلحقه وَقد نزل على مَاء يتغذى عَلَيْهِ فأبلغه رسَالَته وَدفع إِلَيْهِ الْجَائِزَة فَقَالَ قل لَهُ قد صدقني رَبِّي وَكَذبَك ووفد على هِشَام وَفد أهل الْحجاز فتكلموا رجلا رجلا حَتَّى قَامَ مُحَمَّد بن أبي الجهم بن حُذَيْفَة الْعَدوي وَكَانَ أعظم الْقَوْم قدرا وأكبرهم سنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فَقَالَ أصلح الله الْأَمِير إِن خطباء قُرَيْش قد قَالَت فِيك فأقلت وَأَكْثَرت وأطنبت وَوَاللَّه مَا بلغ قَائِلهمْ قدرك وَلَا أحصى مطنبهم فضلك فَإِن أَذِنت فِي القَوْل قلت قَالَ قل وأوجز قَالَ تولاك الله بِالْحُسْنَى وزينك بالتقوى وَجمع لَك خير الْآخِرَة وَالْأولَى إِن لي حوائج فأذكرها قَالَ هَاتِهَا قَالَ كبر سني ودق عظمي وَمَال الدَّهْر مني فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يجْبر كسري وينفى فقري فعل قَالَ وَمَا الَّذِي يَنْفِي ق 42 فقرك وَيجْبر كسرك قَالَ ألف دِينَار وَألف دِينَار وَألف دِينَار فَأَطْرَقَ هِشَام قَلِيلا ثمَّ قَالَ هَيْهَات هَيْهَات يَا ابْن أبي الجهم بَيت المَال لَا يحْتَمل مَا سَأَلت ثمَّ قَالَ هيه وَمَا هيه أما وَالله إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ لواجد وَلَكِن الله آثرك لمجلسك فَإِن تُعْطِينَا فحقنا أدّيت وَإِن تَمْنَعنَا فنسأل الَّذِي بِيَدِهِ مَا حويت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله جعل الْعَطاء محبَّة وَالْمَنْع مبغضة وَالله لَئِن تُعْطِينِي فأحبك أحب إِلَيّ من أَن تحرمني فأبغضك قَالَ فألف دِينَار لماذا قَالَ أَقْْضِي بهَا دينا عَليّ حم قَضَاؤُهُ وَآذَانِي حمله وأضر بِي أَهله قَالَ فَلَا بَأْس بتنفيس كربَة وتأيدة أَمَانَة وَألف دِينَار لماذا قَالَ أزوج بهَا من بلغ من أَوْلَادِي قَالَ نعم المسلك سلكت غضضت بصرا وأعففت فرجا ورجوت نَسْلًا قَالَ فألف دِينَار لماذا قَالَ أَشْتَرِي بهَا أَرضًا يعِيش بهَا وَلَدي وأستعين بفضلها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 نَوَائِب دهري وَتَكون ذخْرا لمن بعدِي قَالَ فَإنَّا قد أمرنَا لَك بِمَا سَأَلت فَقَالَ الْحَمد لله على ذل فَأتبعهُ هِشَام بَصَره وَقَالَ إِذا كَانَ الْقرشِي فَلْيَكُن مثل هَذَا مَا رَأَيْت رجلا أوجز فِي مقَال مِنْهُ ثمَّ قَالَ أما وَالله إِنَّا لنعرف الْحق إِذا نزل ونكره الْإِسْرَاف وَالْبخل فَلَا نعطي تبذيرا وَلَا نمْنَع تقتيرا وَمَا نَحن إِلَّا خزان الله فِي بِلَاده وأمناؤه على عباده فَإِن أذن أعطينا وَإِن منع أَبينَا فَلَو كَانَ كل قَائِل يصدق وكل سَائل يسْتَحق مَا حرمنا سَائِلًا وَلَا جبهنا قَائِلا فنسأل من بِيَدِهِ مَا استحفضناه أَن يجريه على أَيْدِينَا فَإِنَّهُ يفتح الرزق لمن يَشَاء وَيقدر وَإنَّهُ بعباده خَبِيرا بَصيرًا فَقَالُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لقد تَكَلَّمت فأبلغت وَمَا بلغ فِي كَلَامه مَا قصصت فَقَالَ إِنَّه مبتدئ وَلَيْسَ الْمُقْتَدِي كالمبتدي وخطب خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي وَقد ارجف بِمَوْت هِشَام بن عبد الْملك فَقَالَ مَا هَذِه الْجَمَاعَة الَّتِي قد ألفها الطيش واستخفها الْجَهْل وَأَقْبَلت دبر الْوُجُوه قد أشخص لَهُم الرَّجِيم نصبا فأوقصت إِلَيْهِ وأناخ قعُود الضَّلَالَة فاحتملت عَلَيْهِ أَو كلما خطرت للشياطين بَين أظْهركُم خطْوَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 أَو كَاد كم يُنكر أَو بعث فِيكُم مُنْكرا أقبلتم قمصا وسعيتم حرصا فتعسا ونكسا قُلْتُمْ مَاتَ هِشَام أفبدع الْمَوْت أَو مستنكر أَو مبرأ مِنْهُ أحد قد مَاتَ الَّذِي خلقه الله وَنفخ فِيهِ من روحه واسجد لَهُ مَلَائكَته أخرجُوا يَا فرَاش النَّار وَبَقِيَّة الأشرار وخطب مرّة فارتج عَلَيْهِ فَقَالَ أَيهَا النَّاس إِن القَوْل أَحْيَانًا ويغرب أَحْيَانًا فيتيسر عِنْد مَجِيئه سَببه ويعز عِنْد ذَهَابه طلبه وَرُبمَا طلب فَأبى وكوبر فعصى فالتأني لمجيئه أيسر من التعاطي لِأَبِيهِ وَقد يختلج من الجريء جنانه ويرتج على البليغ لِسَانه فَلَا يُغَيِّرهُ الْمنطق إِذا امْتنع كَمَا لَا يبطره القَوْل إِذا اتَّسع وَدخلت امْرَأَة من بني كلاب على خَالِد الْقَسرِي وَهُوَ فِي مَجْلِسه فَسلمت عَلَيْهِ وأنشدته شعرًا فَقَالَ لَهَا خَالِد مَا حَاجَتك قَالَت عِنْدِي للأمير نصيحة قَالَ وَمَا هِيَ قَالَت أكب على دهر بجرانه وعضنا بنابه فَمَا ترك لنا سيدا وَلَا لبدا وَلَا ماهيا وَلَا صافيا فَمَا بِنَا خفض وَلَا نبض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فَكنت أَنْت المنتجع وَإِلَيْك المفزع فنصيحتي أصلح الله الْأَمِير أَن تَأمر لي بخادم وَمَا يصلحني وإياه فوَاللَّه لقد عودت الرخَاء وَمَا قاسيت الشَّقَاء قَالَ خَالِد هَذِه نصيحة لَك دُوننَا قَالَت أَيهَا الْأَمِير لَيست لي دُونك لَك أجرهَا وَذُخْرهَا وحمدها وشكرها ولي مَنْفَعَتهَا مَعَ أَن الأجواد لَو لم يَجدوا من يقبل الْعَطاء مَا ذكرُوا بالسخاء قَالَ صدقت فَهَل لَك من زوج قَالَت وَالله مَالِي زوج وَلَا وجدت كُفؤًا وَلَا أَتزوّج دنيا وَإِن كَانَ مترفا غَنِيا وَلَئِن كنت فقدت نسبا مَا فقدت حسبا وَمَا كنت أَشْتَرِي عارا يبْقى بِمَال يفنى أعوذ بِجلَال الله من ذَلِك وَمَالِي أبقى الله الْأَمِير بِزَوْج من أرب فَأمر لَهَا بخادم وَمَا يصلحها وَأمر صَاحب نفقاته أَن يجْرِي لَهما مَا وسعهما وَرُوِيَ ق 43 عَن الْوَلِيد بن يزِيد مَعَ مَا كَانَ فِيهِ من الخلاعة واللعب والتهاون بِالدّينِ أَنه لما ولي أجْرى على الزمنى والعميان وكساهم وَأعْطى كل مِنْهُم خَادِمًا وَزَاد النَّاس على مَا كَانَ يعطيهم هِشَام وَلم يسْأَل سَائِلًا قطّ إِلَّا قَالَ نعم وَأَعْطَاهُ وَكَانَ أديبا شَاعِرًا فَمن أحسن قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 مَا حَدثنِي إِسْحَاق الْموصِلِي قَالَ دخلت يَوْمًا على الرشيد وَهُوَ مستلق وَهُوَ يَقُول أحسن وَالله أظرف قُرَيْش وأفتاها وأسخاها وأشعرها وأغزلها فَقلت من هُوَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَفِي أَي شَيْء فَقَالَ أما بعد مَا سَمِعت مني فِي وَصفه فَلَا أُسَمِّيهِ وَلَكِن أذكر الشّعْر فَإِن كنت تعرفه فاكتم عني مَا سَمِعت مني وَهُوَ الَّذِي يَقُول (لَا أسأَل الله تغييرا لما صنعت ... نَامَتْ وَإِن أَسهرت عَيْني عَيناهَا) (فالليل أطول شَيْء حِين أفقدها ... وَاللَّيْل أقصر شَيْء حِين أَلْقَاهَا) أتعرفه قلت لَا بِصَوْت ضَعِيف قَالَ بحياتي فَقلت بِلَا وحياتك هُوَ الْوَلِيد بن يزِيد فَضَحِك وَقَالَ مَا قلت فِي وَصفه إِلَّا دون مَا يسْتَحق وَلَكِن الْملك عقيم وَكتب إِلَى هِشَام بن عبد الْملك برسالة وَفِي آخرهَا شعر (رَأَيْتُك تبني دَائِما فِي قطيعتي ... وَلَو كنت ذَا حزم لهدمت مَا تبني) (تثير عَليّ البَاقِينَ مني ضغينة ... فويل لَهُم إِن مت من شَرّ مَا تجني) (كَأَنِّي بهم والليت أَكثر قَوْلهم ... أَلا ليتنا كُنَّا إِذا لَيْت لَا تَعْنِي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وَقَالَ أَيْضا وَقد رَجَعَ إِلَيْهِ جَوَاب هِشَام بِمَا يكرههُ (أَلَيْسَ عجيبا أَن أرى كل وَارِد ... حياضك يَوْمًا صادرا بالنوافل) (وأرجع مجذوذ الرَّجَاء مصردا ... بتحليه عَن ورد تِلْكَ المناهل) وَقَالَ أَيْضا فِيهِ (أَنا النذير لمسدي نعْمَة أبدا ... إِلَى المقاريف مَا لم يخبر الدخلا) (إِن أَنْت أكرمتهم ألقيتهم بطرا ... وَإِن أهنتهم ألفيتهم ذللا) (أتشمخون وَمنا رَأس نعمتكم ... ستعلمون إِذا كَانَت لنا دولا) (انْظُر فَإِن أَنْت لم تقدر على مثل لَهُم ... سوى الْكَلْب فَاضْرِبْهُ لَهُم مثلا) (بَيْنَمَا يسمنه للصَّيْد صَاحبه ... حَتَّى إِذا مَا قوي من بَعْدَمَا هزلا) (عدا عَلَيْهِ فَلم تضرره عدوته ... وَلَو يُطيق لَهُ أكلا لقد أكلا) وَذَلِكَ أَن يزِيد بن عبد الْملك كَانَ قد أَخذ الْبيعَة لِأَخِيهِ هِشَام ثمَّ من بعده لِابْنِهِ الْوَلِيد وَلما قتل يزِيد بن الْوَلِيد بن عبد الْملك الْوَلِيد بن يزِيد وَولي الْخلَافَة خطب فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ أَيهَا النَّاس وَالله مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 خرجت بطرا وَلَا أشرا وَلَا ريائا وَلَا حرصا على الدُّنْيَا وَلَا رَغْبَة فِي الْملك وَمَا بِي إطراء لنَفْسي إِنِّي لظلوم لَهَا إِلَّا مَا يرحمني الله عز وَجل وَلَكِنِّي خرجت غَضبا لله عز وَجل ولدينه دَاعيا إِلَى الله وَإِلَى سنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما هدمت معالم الدّين وأطفئ نور التَّقْوَى وَظهر الْجَبَّار العنيد مستخف بِكُل حُرْمَة وراكبا لكل بِدعَة الْكَافِر بِيَوْم الْحساب وَإنَّهُ لِابْنِ عمي فِي النّسَب وكفئي فِي الْحسب فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك استخرت الله تَعَالَى فِي أمره وَسَأَلته أَن لَا يكلني على نَفسِي ودعوت إِلَى ذَلِك من أجابني من أهل ولايتي حَتَّى أراح الله مِنْهُ الْعباد وطهر مِنْهُ الْبِلَاد بحوله وقوته لَا بحولي وقوتي أَيهَا النَّاس إِن لكم عَليّ أَن لَا أَضَع لبنة على لبنة وَلَا حجرا على حجر وَلَا أكنز مَالا وَلَا أعْطِيه زوجا وَلَا ولدا وَلَا أنقله من بلد إِلَى بلد أُخْرَى حَتَّى أَسد فقر تِلْكَ الْبَلَد وَلَا أجبركم فِي ثغوركم حَتَّى أفتتن أهليكم وَلَا أغلق بَابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم وَلَا أحمل على أهل جزيتكم مَا أجليهم بِهِ عَن بِلَادهمْ وأقطع بِهِ نسلهم وَلَكِن أدر ق 44 الْعَطاء فِي كل سنة والرزق فِي كل شهر حَتَّى تستوي بكم الْحَال فَيكون أفضلكم كأدناكم فَإِن أَنا وفيت لكم فَعَلَيْكُم السّمع وَالطَّاعَة وَحسن المؤازرة والمكاتفة وَإِن لم أوف لكم فلكم أَن تخلعوني إِلَّا أَن تستتيبوني فَإِن تبت قبلتم تَوْبَتِي وَإِن عَرَفْتُمْ أحدا بالصلاح يعطيكم من نَفسه مثل الَّذِي أَعطيتكُم فأردتم أَن تبايعوه فَأَنا أَو لمن يبايعه وَيدخل فِي طَاعَته أَيهَا النَّاس إِنَّه لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الْخَالِق أَقُول هَذَا واستغفر الله لي وَلكم وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين أَنه غَفُور رَحِيم وَكتب إِلَى مَرْوَان بن مُحَمَّد وَقد بلغه تلكؤه فِي بيعَته أما بعد فَإِنِّي أَرَاك تقدم رجلا وتؤخر أُخْرَى فاعتمد على أَيهمَا شِئْت وَالسَّلَام وَلما تفرق الْأَمر على مَرْوَان بن مُحَمَّد وأيقن بِزَوَال ملكه وَغَلَبَة بني هَاشم عَلَيْهِ قَالَ لعبد الحميد بن يحي كَاتبه إِنِّي قد احتجت أَن تكون مَعَ عدوي عَليّ وَتظهر لَهُم الْغدر بِي فَإِن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إِلَيْك تدعوهم إِلَى حسن الظَّن بك فَإِن اسْتَطَعْت أَن تنفعني فِي حَياتِي وَإِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 لم تعجز عَن حفظ حرمتي بعد وفاتي فَقَالَ عبد الحميد إِن الَّذِي أَمرتنِي بِهِ أَنْفَع الْأَمريْنِ لَك وأقبحهما بِي وَمَا عِنْدِي إِلَّا الْوَفَاء حَتَّى يفتح الله لَك أَو أقتل مَعَك ثمَّ قَالَ (أسر وَفَاء ثمَّ أظهر غدره ... فَمن لي بِعُذْر يُوسع النَّاس ظَاهره) وَقَالَ مَرْوَان إِذا انْقَضتْ الْمدَّة لم تَنْفَع الْعدة وَكتب إِلَى عبد الله بن عَليّ يوصيه فِي حرمه فَكتب إِلَيْهِ عبد الله يَا مابق الْحق لنا فِي دمك وعلينا فِي حَرمك وَلما اسْتخْلف أَبُو الْعَبَّاس السفاح وَهُوَ أول مُلُوك بني الْعَبَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 رُوِيَ أَن أول خطْبَة خطبهَا السفاح فِي بَلْدَة تسمى العباسية فَلَمَّا صَار إِلَى مَوضِع الشَّهَادَة قَامَ رجل من الطالبيين فِي عُنُقه مصحف فَقَالَ أذكرك الَّذِي ذكرته إِلَّا أنصفتني من خصمي وحكمت بيني وَبَينه بِمَا فِي هَذَا الْمُصحف فَقَالَ وَمن خصمك قَالَ أَبُو بكر الَّذِي منع فَاطِمَة فدكا قَالَ وَأقَام على ظلمكم قَالَ نعم قَالَ وَهل كَانَ بعده أحد قَالَ نعم قَالَ من قَالَ عمر قَالَ وَأقَام على ظلمكم قَالَ نعم قَالَ وَهل كَانَ بعده أحد قَالَ من قَالَ عُثْمَان قَالَ وَأقَام على ظلمكم قَالَ نعم قَالَ وَهل كَانَ بعده أحد قَالَ نعم قَالَ من قَالَ عُثْمَان قَالَ وَأقَام على ظلمكم قَالَ نعم قَالَ وَهل كَانَ بعده أحد قَالَ نعم قَالَ من قَالَ عَليّ قَالَ وَأقَام على ظلمكم فأسكت الرجل وَجعل يتلفت إِلَى وَرَاءه يطْلب تخلصا وَأَقْبل السفاح على خطبَته وَصعد الْمِنْبَر بِوَجْه كَأَنَّهُ مصحف فَلم يسْتَطع الْكَلَام من الْحيَاء فَنَهَضَ عَمه دَاوُد بن عَليّ حَتَّى صعد الْمِنْبَر فَقَالَ الْمَنْصُور فَقلت فِي نَفسِي هَذَا شَيخنَا وَكَبِيرنَا يَدْعُو إِلَى نَفسه فَلَا يخْتَلف عَلَيْهِ اثْنَان فانتضبت سَيفي وغطيته بثوبي وَقلت إِن فعل ناجزته فَلَمَّا رقي اسْتقْبل النَّاس بِوَجْهِهِ أبي الْعَبَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 فَقَالَ أَيهَا النَّاس إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يكره أَن يتَقَدَّم قَوْله فعله وَأثر الفعال عَلَيْكُم أجدى من تشقيق الْكَلَام وحسبكم بِكِتَاب الله عز وَجل متلو فِيكُم وَابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَليفَة عَلَيْكُم فوَاللَّه قسما بارا لَا أُرِيد بِهِ إِلَّا الله مَا قَامَ هَذَا الْمقَام أحد بعد عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهِ وعَلى آله أَحَق من أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا فليطمأن ظانكم وليهمس هامسكم قَالَ الْمَنْصُور فشممت سَيفي وخطب دَاوُد بن عَليّ فَقَالَ (شنشنة أعرفهَا من أخزم ... من يَلِيق آساد الرِّجَال يكلم) مهلا مهلا يَا روايا الأرجاف وبقايا النِّفَاق وأنسال الْأَحْزَاب عَن الْخَوْض فِيمَا كفيتم والتخطي إِلَى مَا حذرتم قبل أَن تتْلف نفوس وتحز رُؤُوس ألم تَجدوا مَا وَعدكُم ربكُم حَقًا من إيراث الْمُسْتَضْعَفِينَ مَشَارِق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الأَرْض وَمَغَارِبهَا لَا وَالله بل ضَب مُضْمر وحسك وكمد رغما للمعاطس وبعدا للْقَوْم الظَّالِمين ق 45 وَصعد الْمِنْبَر مرّة فارتج عَلَيْهِ الْكَلَام فَقَالَ أما بعد فقد يجد الْمُعسر ويعسر الْمُوسر ويثقل الْحَدِيد وَيقطع الكليل وَأَن الْكَلَام بعد الأفحام كالإشراق بعد الإظلام وَقد يعزب الْبَيَان ويعقم الصَّوَاب وَإِنَّمَا اللِّسَان بضعَة من الْإِنْسَان يفتر بفتوره إِذا أَكْتَل وينبسط بانبساط إِذا ارتجل وَإِنَّا لَا ننطق أشرا وَلَا نسكت حصرا بل ننطق مرشدين ونسكت معتبرين فَإنَّا أُمَرَاء القَوْل فمنا وشجت أعراقه وإلينا تعطفت أغصانه وعلينا تهدلت ثَمَرَته فنجنى مِنْهُ مَا احلو لي وعذب ونترك مِنْهُ مَا املولح وخبث وَمن بعد مقامنا مقَام وَمن بعد أيامنا أَيَّام يعرف فِيهَا فضل الْكَلَام إنْشَاء الله وَهُوَ امد مستعان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وخطب سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَقَالَ إيَّاكُمْ أَن يتَكَلَّم الرجل فِيمَا لَا يعنيه ويرعى مَا لَا يسترعيه فَينزل بِهِ منا فاقره لَيست لَهُ بَاقِيَة وَإِيَّاكُم إيَّاكُمْ واروا مصَارِع الحائنين فَإِنِّي وَإِيَّاكُم كَمَا قَالَ الأول (بدأتكم بِالْخَيرِ حَتَّى بطرتم ... فَلَمَّا كَفرْتُمْ شكر مَا كنت أصنع) (سنعطيكم صابا وَمَرا علقما ... فَإِن عدتم فالسيف عِنْدِي مقنع) وَمَا بعد إِلَّا السَّيْف فأبقوا على أَنفسكُم أَو ذَروا وخطب الْمَنْصُور فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ فَلَمَّا انْتهى إِلَى قَول أشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وثب رجل من أقْصَى الْمَسْجِد فَقَالَ أذكرك الله مَا تذكر فَقَالَ سمعا لمن فهم عَن الله عز وَجل وَذكر بِهِ وَأَعُوذ بِاللَّه أَن أكون جبارا عصيا وَأَن تأخذني الْعِزَّة بالإثم لقد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين وَأَنت وَالله أَيهَا الْقَائِل مَا أردْت بهَا الله وَلَكِنَّك حاولت أَن يُقَال قَامَ فَقَالَ عُوقِبَ فَصَبر واهو بقائلها لقد هَمَمْت فاهتبلتها وَيلك إِذْ عَفَوْت وَإِيَّاكُم معاشر النَّاس وَأُخْتهَا فَإِن الموعظة علينا نزلت وَمن عندنَا أنبئت فَردُّوا الْأَمر إِلَى أَهله يصدروه كَمَا أوردوه ثمَّ رَجَعَ إِلَى خطبَته فأتمها وَصعد الْمِنْبَر مرّة فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ سكت طَويلا فَقَالَ رجل مَا لأمير الْمُؤمنِينَ لَا يتَكَلَّم فَإِنَّهُ وَالله مِمَّن يهون عَلَيْهِ صَعب الْكَلَام فأكمل خطبَته ثمَّ قَالَ (مَالِي أكفكف عَن سعد ويشتمني ... وَلَو شتمت بني سعد لقد سكنوا) (جهلا علينا وجبنا عَن عَدوكُمْ ... لبئست الخلتان الْجَهْل والجبن) ثمَّ حسر رَأسه وَقَالَ (وألقيت عَن رَأْسِي القناع وَلم أكن ... لأكتشفه إِلَّا لأحدى العظائم) ثمَّ قَالَ وَالله لقد عجزوا عَن أَمر قمنا بِهِ فَمَا شكروا وَلَقَد مهدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 مَا استوعروا وأعطينا الْحق وغمطوا وَالله لَا أكْرم أحدا بمهانة نَفسِي والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ لِأَن سادة النَّاس فِي الدُّنْيَا الأسخياء وَفِي الْآخِرَة الأتقياء وَقَامَ عَمْرو بن عبيد بَين يَدي الْمَنْصُور فَقَالَ إِن الله عز وَجل أَعْطَاك الدُّنْيَا بأسرها فاشتري نَفسك بِبَعْضِهَا وَاذْكُر لَيْلَة تمخض عَن يَوْم لَا لَيْلَة فِيهِ فَوَجَمَ أَبُو جَعْفَر فِي قَوْله فَقَالَ الرّبيع لَهُ يَا عَمْرو غممت أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ عَمْرو أَن هَذَا قد صحبك عشْرين سنة لم ير عَلَيْهِ أَن ينصحك يَوْمًا وحدا وَمَا عمل وَرَاء بابك بِشَيْء من كتاب الله عز وَجل وَلَا سنة نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله قَالَ أَبُو جَعْفَر فَمَا أصنع قد قلت لَك خَاتمِي بِيَدِك فتعال أَنْت وَأَصْحَابك فاكفوني هَذَا الْأَمر فَقَالَ عَمْرو أدعنا بعد ذَلِك تسمح نفوسنا بعونك ببابك ألف مظْلمَة أردد مِنْهَا شَيْئا نعلم أَنَّك صَادِق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وَقيل بَيْنَمَا الْمَنْصُور يطوف بِالْبَيْتِ لَيْلًا إِذْ سمع قَائِلا يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك ظُهُور الْبَغي وَالْفساد فِي الأَرْض وَمَا يحول بَين الْحق وَأَهله من الطمع فَخرج الْمَنْصُور فَجَلَسَ نَاحيَة من الْمَسْجِد وَأرْسل إِلَى الرجل يَدعُوهُ فصلى رَكْعَتَيْنِ واستلم الرُّكْن وَأَقْبل مَعَ الرَّسُول فَسلم عَلَيْهِ بالخلافة فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور مَا الَّذِي سَمِعتك تذكر من ظُهُور الْبَغي وَالْفساد ق 46 فِي الأَرْض وَمَا يحول بَين الْحق وَأَهله من الطمع فوَاللَّه لقد حشوت مسامعي بِمَا أرمضني فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أمنتني أَنْبَأتك بالأمور على جليتها وَمن أُصُولهَا وَإِلَّا احتجزت على نَفسِي فَقَالَ أَنْت آمن على نَفسك فَقَالَ إِن الَّذِي دخله الطمع حَتَّى حَال بَينه وَبَين إصْلَاح مَا ظهر من الْبَغي وَالْفساد أَنْت فَقَالَ وَيحك وَكَيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء فِي قبضتي والحلو والحامض عِنْدِي قَالَ وَهل دخل أحد من الطمع مثل مَا دَخلك إِن الله تَعَالَى استرعاك الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ فَجعلت بَيْنك وَبينهمْ حِجَابا من الجص وَالْأَجْر وأبوابا من الْحَدِيد وحجبة مَعَهم السِّلَاح والكراع وَأمرت أَن لَا يدْخل عَلَيْك إِلَّا فلَان وَفُلَان نفر سميتهم وَلم تَأْمُرهُمْ بإيصال الملهوف والمظلوم وَلَا الجائع وَلَا العاري وَلَا الضَّعِيف وَلَا الْفَقِير وَمَا أحد إِلَّا وَله فِي هَذَا المَال حق فَلَمَّا رآك هَؤُلَاءِ النَّفر الَّذين استخلصتهم لنَفسك وآثرتهم على رعيتك وَأمر أَن لَا يحجبوا عَنْك جباء الْأَمْوَال وأمرتهم بجمعها وَلَا يقسموها قَالَ هَذَا قد خَان الله عز وَجل فمالنا لَا تخونه وَقد سجن لنا نَفسه فأتمروا بَينهم أَن لَا يصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 إِلَيْك من أَخْبَار النَّاس إِلَّا مَا أَرَادوا وَلَا يخرج لَك عَامل فيخالف أَمرهم إِلَّا أقصوه ونفوه حَتَّى تسْقط مَنْزِلَته ويصغر عنْدك قدره فَلَمَّا انْتَشَر ذَلِك عَنْك وعنهم أعظمهم النَّاس وهابوهم فَكَانَ أول من صانعهم عمالك بالهدايا وَالْأَمْوَال ليتقووا بِهِ على ظلم رعيتك ثمَّ فعل ذَلِك ذَوُو الْقُدْرَة والثروة من رعيتك لينالوا بِهِ ظلم من دونهم فامتلأت بِلَاد الله بالطمع بغيا وَفَسَادًا وَصَارَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم شركاءك فِي سلطانك وَأَنت غافل وَإِن جَاءَ متظلم حيل بَينه وَبَين الدُّخُول عَلَيْك فَإِذا رفع قصَّته إِلَيْك عِنْد ظهورك وَجدك وَقد نهيت عَن ذَلِك وأوقفت للنَّاس رجلا ينظر فِي مظالمهم فَإِن جَاءَ ذَلِك الرجل فَبلغ بطانتك سَأَلُوا صَاحب الْمَظَالِم أَن لَا يرفع مظلمته إِلَيْك فَإِن للمتظلم مِنْهُ حُرْمَة عِنْدهم فأجابهم خوفًا مِنْهُم فَلَا يزَال الْمَظْلُوم يخْتَلف إِلَيْهِ ويلوذ بِهِ ويشكو ويستغيث وَهُوَ يدافعه ويماطله وَلَا يقبل عَلَيْهِ فَإِذا أجهد وأحوج وَظَهَرت صرخَ بَين يَديك ضربا عنيفا شَدِيدا مبرحا ليَكُون نكالا لغيره وَأَنت تنظر فَلَا تنكر فَمَا بَقَاء الْإِسْلَام على هَذَا وَلَقَد كنت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أسافر إِلَى الصين فقدمتها مرّة وَقد أُصِيب ملكهَا بسمعه فَبكى يَوْمًا بكاء شَدِيدا فحثه جُلَسَاؤُهُ على الصَّبْر فَقَالَ أما أَنِّي لست أبْكِي للبلية النَّازِلَة وَلَكِنِّي أبْكِي للمظلوم بِالْبَابِ يصْرخ فَلَا أسمع صَوته ثمَّ قَالَ أما إِذا ذهب سَمْعِي فَإِن بَصرِي لم يذهب فأذنوا فِي النَّاس أَن لَا يلبس ثوبا أَحْمَر إِلَّا مظلوم ثمَّ كَانَ يركب الْفِيل طرفِي النَّهَار ينظر هَل يرى مَظْلُوما فَهَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مُشْرك بِاللَّه عز وَجل غلبت رأفته على الْمُشْركين وَأَنت تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ثمَّ من أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غلب شح نَفسك عَلَيْك فَإِن كنت إِنَّمَا تجمع المَال لولدك فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أَرَاك الله عز وَجل الطِّفْل يسْقط من بطن أمه وَمَاله على الأَرْض مَال وَمَا من مَال إِلَّا ودونه يَد شحيحة تحويه فَمَا يزَال الله عز وَجل ثَنَاؤُهُ يلطف بذلك الطِّفْل حَتَّى تعظم رَغْبَة النَّاس إِلَيْهِ وَلست بِالَّذِي يُعْطي بل الله يُعْطي من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب وَإِن قلت أَنا أجمع المَال لتشديد السُّلْطَان فقد أَرَاك الله عز وَجل عبرا فِي بني أُميَّة مَا أغْنى عَنْهُم مَا جمعُوا من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَأَعدُّوا من الرِّجَال وَالسِّلَاح الكراع حِين أَرَادَ الله بهم مَا أَرَادَ وَإِن قلت أَنا أجمع المَال لطلب غَايَة هِيَ أجسم من الْغَايَة الَّتِي أَنا فِيهَا فوَاللَّه مَا فَوق مَا أَنْت فِيهِ إِلَّا منزلَة لَا تنَال إِلَّا بِالطَّاعَةِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَل تعاقب من عصاك بِغَيْر بِأَكْثَرَ من الْقَتْل والصلب قَالَ الْمَنْصُور لَا قَالَ فَكيف يصنع أَمِير الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة عِنْد لِقَاء الْملك الَّذِي خولك ملك الدُّنْيَا وَلَا يُعَاقب من عَصَاهُ من عبيده وَعمل بِخِلَاف مَا أَمر بِهِ فِي كِتَابه بِالْقَتْلِ وَلَكِن يُعَاقِبهُ فِي الخلود ق 47 فِي الْعَذَاب الْأَلِيم وَقد رأى مَا عقد عَلَيْهِ قَلْبك وتحملته جوارحك وَنظر إِلَيْهِ بَصرك واجترحته يداك ومشت إِلَيْهِ قدماك عمل يُغني مَا شححت عَلَيْهِ من ملك الدُّنْيَا إِذا انتزعه من يَديك ودعاك إِلَى الْحساب على مَا خولك فَبكى الْمَنْصُور وَقَالَ يَا لَيْتَني لم أخلق وَيحك فَكيف أحتال لنَفْسي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن للنَّاس أَعْلَام يفزعون إِلَيْهِم فِي دينهم ويرضون نُفُوسهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك وشاورهم فِي أَمرك يسددوك قَالَ قد بعثت إِلَيْهِم فَهَرَبُوا مني قَالَ خَافُوا أَن تحملهم على طريقتك وَلَكِن افْتَحْ بابك وَسَهل حجابك وانصر الْمَظْلُوم واقمع الظَّالِم وَخذ الْفَيْء وَالصَّدقَات مِمَّا حل وطاب واقسمه بِالْحَقِّ وَالْعدْل على أَهله وَأَنا الضَّامِن عَلَيْهِم أَن يأتوك ويساعدوك على صَلَاح الْأمة وَجَاء المؤذنون فَسَلمُوا عَلَيْهِ فصلى وَعَاد إِلَى مَجْلِسه فَطلب الرجل فَلم يُوجد وَقَالَ الْمَنْصُور لبَعض عماله وَقد بلغه أَنه خانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 يَا عَدو الله وعدو أَمِير الْمُؤمنِينَ أكلت مَال الله فَقَالَ نَحن عباد الله وَأَنت خَليفَة الله وَالْمَال مَال الله فَمَال من تَأْكُل إِذا فأعجبه جَوَابه فَقَالَ خلوا عَنهُ وَلَا تولوه شَيْئا وَوجد على بعض الْكتاب فَأمر بتجريده وضربه فَقَالَ (وَنحن الكاتبون وَقد أسأنا ... فهبنا للكرام الْكَاتِبين) وروى أَن بعض أهل الْعَبَث كَانَ قد خرج بفلسطين فَكتب إِلَى الْعَامِل بهَا دَمه بدمك مُرْتَهن إِن لم توجه بِهِ إِلَيّ فظفر بِهِ فأشخصه إِلَيْهِ فَأدْخلهُ الرّبيع عَلَيْهِ فَقَالَ أَنْت المتوثب علينا عُمَّال أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يُوزن من لحمك أَكثر مِمَّا يبْقى على عظمك فَقَالَ بِصَوْت ضَعِيف (أتروض عرسك بَعْدَمَا هرمت ... وَمن العناء رياضه الْهَرم فَلم يتَبَيَّن الْمَنْصُور مَا قَالَ لضعف صَوته فَقَالَ يَا ربيع مَا يَقُول قَالَ يَقُول (العَبْد عبدكم وَالْمَال مالكم ... فَهَل عذابك عني الْيَوْم مَصْرُوف) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فعفى عَنهُ وخلى سَبيله وَكَانَ يَقُول عُقُوبَة الْحَلِيم التَّعْرِيض وعقوبة السَّفِيه التَّصْرِيح وَرُوِيَ عَن الرّبيع أَنه قَالَ جمع الْمَنْصُور مَالِكًا وَأَبا حنيفَة وَابْن أبي ذُؤَيْب رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ كَيفَ ترَوْنَ فِي هَذَا الْأَمر الَّذِي أَعْطَانِي الله تَعَالَى فَقَالَ ابْن أبي ذُؤَيْب ملك الدُّنْيَا يؤتيه الله من يَشَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وَملك الْآخِرَة يؤتيه من وَفقه لَهُ وَإِن الْخلَافَة تكون بِإِجْمَاع أهل التَّقْوَى عَلَيْهَا وَأَنت وأعوانك خارجون من التَّقْوَى عالين على الْخلق فَإِن سَأَلت الله السَّلامَة كَانَ فِي ذَلِك نجاتك وَإِلَّا أَنْت الْمَطْلُوب فَقَالَ لأبي حنيفَة مَا تَقول قَالَ المسترشد لدينِهِ يكون بعيد الْغَضَب وَأَنت إِذا نصحت نَفسك علمت أَنَّك لم ترد الله باجتماعنا فَنَقُول بِمَا تهواه خوفًا من سَيْفك وحبسك وَقد وليت الْخلَافَة وَمَا اجْتمع عَلَيْك نفسان من أهل التَّقْوَى فَقَالَ لمَالِك مَا تَقول فَقَالَ لَو لم يَرك الله أَهلا لذَلِك مَا قدر لَك أَمر الْأمة أعانك الله على مَا ولاك ثمَّ أَمر بانصرافهم قَالَ الرّبيع ثمَّ أَعْطَانِي ثَلَاث بدر وَقَالَ اتبع الْقَوْم فَإِن أَخذ ابْن أبي ذُؤَيْب وَأَبُو حنيفَة مِنْهَا شَيْئا فأتني برؤوسهما وَإِن أَخذهَا مَالك كلهَا فادفعها إِلَيْهِ فَأتيت ابْن أبي ذُؤَيْب وَعرضت عَلَيْهِ فَقَالَ مَا أرْضى لَهُ هَذَا المَال فَكيف أرضاه لنَفْسي وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَو ضربت رقبتي مَا مسست مِنْهَا درهما وَاحِدًا فَأتيت بهَا مَالِكًا فَأَخذهَا كلهَا قَالَ الرّبيع فأعلمته مَا جرى فَقَالَ بِهَذِهِ الصيانة حقنوا دِمَاءَهُمْ وَرُوِيَ عَن الرّبيع قَالَ مَا رَأَيْت رجلا أربط جأشا من رجل رفع عَلَيْهِ إِلَى الْمَنْصُور أَن عِنْده ودائع وأموالا لبني أُميَّة فَأمرنِي بإحضاره فأحضرته فَدخلت بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور قد رفع إِلَيْنَا خبر الودائع وَالْأَمْوَال الَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 لبني ق 48 أُميَّة عنْدك فَأخْرج إِلَيْنَا مِنْهَا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أوارث أَنْت لبني أُميَّة فَقَالَ لَا فَقَالَ فوصي لَهُم فِي أَمْوَالهم وربايحهم قَالَ لَا قَالَ فَمَا مسألتك عَمَّا فِي يَدي من ذَلِك قَالَ فَأَطْرَقَ الْمَنْصُور سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه فَقَالَ إِن بني أُميَّة ظلمُوا الْمُسلمين فِيهَا وَأَنا وَكيل للْمُسلمين فِي حَقهم وَأُرِيد أَن آخذ مَا ظلمُوا الْمُسلمين فأجعله فِي بَيت مَالهم فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تحْتَاج إِلَى إِقَامَة الْبَيِّنَة العادلة على أَن مَا فِي يَدي لبني أُميَّة مِمَّا خانوه وظلموا دون غَيره فقد كَانَ لبني أُميَّة أَمْوَال غير أَمْوَال الْمُسلمين قَالَ فاطرق الْمَنْصُور سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ صدق يَا ربيع مَا يجب على الشَّيْخ شَيْء ثمَّ قَالَ هَل لَك من حَاجَة فَقَالَ نعم حَاجَتي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تنفذ كتابي على الْبَرِيد إِلَى أَهلِي ليسكنوا إِلَى سلامتي فَإِنَّهُم قد راعهم أشخاصي وَقد بقيت لي حَاجَة أُخْرَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ قل قَالَ تجمع بيني وَبَين من سعى بِي إِلَيْك فوَاللَّه مَا لبني أُميَّة فِي يَدي مَال وَلَا وَدِيعَة وَلَكِنِّي لما مثلت بَين يَديك وَسَأَلتنِي عَمَّا سَأَلتنِي عَنهُ قابلت بَين هَذَا القَوْل وَمَا قبله فَرَأَيْت ذَلِك أقرب إِلَى الْخَلَاص والنجاة فَقَالَ يَا ربيع اجْمَعْ بَينه وَبَين من سعى بِهِ فَجمعت بَينهمَا فَقَالَ هَذَا غُلَام لي سرق عَليّ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار من مَالِي وأبق فَشد الْمَنْصُور على الْغُلَام فَأقر بِأَنَّهُ غُلَامه وَأَنه أَخذ المَال الَّذِي ذكره وأبق مِنْهُ وسعى بِهِ خوفًا وكذبا حَتَّى لَا يَقع فِي يَده فَقَالَ الْمَنْصُور للشَّيْخ نَسْأَلك أَن تصفح عَنهُ فَقَالَ قد صفحت عَنهُ وأعتقته ووهبت الثَّلَاثَة آلَاف دِينَار الَّتِي يَأْخُذهَا وَثَلَاثَة آلَاف دِينَار فَقَالَ الْمَنْصُور مَا على مَا فعله الشَّيْخ من مزِيد فَقَالَ يكون هَذَا بِحَق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 شفاعتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَانْصَرف فَكَانَ الْمَنْصُور يتعجب مِنْهُ كل مَا ذكره وَيَقُول مَا رَأَيْت مثل هَذَا الشَّيْخ يَا ربيع وَقيل كَانَ الْمَنْصُور فِي صدر نَهَاره يَأْمر وَينْهى وَيُدبر الْملك وَالنَّظَر فِي النَّفَقَات ومعاش الرّعية فَإِذا صلى الْعَصْر جلس لأهل بَيته فَإِذا صلى الْعشَاء نظر فِيمَا ورد عَلَيْهِ من كتب الثغور والآفاق فَإِذا أمضى ثلث اللَّيْل قَامَ إِلَى فرَاشه فَنَامَ فَإِذا بَقِي الثُّلُث الْأَخير من اللَّيْل قَامَ فأسبغ وضوءه وصف قَدَمَيْهِ فِي محرابه حَتَّى يطلع الْفجْر ثمَّ يخرج فَيصَلي حَدِيث زَيْنَب ابْنة سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس قَالَت كنت عِنْد الخيزران وعادتها إِذا كَانَت عِنْدهَا أَن تقعد فِي عتبَة الرواق الْمُقَابل للإيوان وأجلس بإزائها وَفِي الصَّدْر مجْلِس الْمهْدي يقْعد فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وَهُوَ يقصدنا فِي كل يَوْم يجلس سَاعَة ثمَّ ينْهض فَبَيْنَمَا نَحن كَذَلِك إِذْ دخلت جَارِيَة من جواريها اللواتي يحجبنها فَقَالَت أعز الله السيدة امْرَأَة لَهَا جمال وخلقة حَسَنَة وَلَيْسَ من وَرَاء مَا هِيَ عَلَيْهِ من سوء الْحَال غَايَة تستأذن عَلَيْك وَقد سَأَلتهَا عَن اسْمهَا فامتنعت أَن تُخبرنِي فالتفتت إِلَى فَقَالَت مَا تَرين فَقلت أدخليها فَإِنَّهُ لَا بُد من فَائِدَة أَو ثَوَاب فَدخلت امْرَأَة كأجمل النِّسَاء وأكملهن لَا تتوارى فوقفت إِلَى جَانب عضادتي الْبَاب ثمَّ سلمت متضائلة ثمَّ قَالَت أَنا مزنة بنت مَرْوَان بن عبد الْملك فَقَالَت زَيْنَب وَكنت متكئة فاستويت جالسة فَقلت مزنة فَلَا حياك الله وَلَا قربك وَالْحَمْد لله الَّذِي أَزَال نِعْمَتك وهتك سترك وأذلك أتذكرين يَا عدوة الله حِين أَتَاك عَجَائِز أهل بَيْتِي يسألنك أَن تكلمي صَاحبك فِي الْإِذْن فِي دفن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد فَوَثَبت عَلَيْهِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وأستمعتهن وَأمرت بِإِخْرَاجِهِنَّ على الْحَالة الَّتِي أخرجن عَلَيْهَا فَلَا أنسى حسن ثغرها وعلو صَوتهَا بالقهقة وَقَالَت أَي بنت عَم أَي شَيْء أعْجبك من حسن صنع الله فِي العقوق حَتَّى أردْت ق 49 أَن تنافسيني فِيهِ وَالله إِنِّي فعلت بنسائك الَّذِي فعلت فأسلمني الله عز وَجل إِلَيْك ذليلة جائعة عُرْيَانَة فَكَانَ هَذَا مِقْدَار شكرك لله على مَا أولاك فِي ثمَّ قَالَت السَّلَام عَلَيْكُم وَوَلَّتْ فصاحت بهَا الخيزران لَيْسَ هَذَا لَك عَليّ اسْتَأْذن وإلي قصدت فَمَا ذَنبي فَرَجَعت وَقَالَت لعمري فقد صدقتي يَا أخية وَكَانَ مِمَّا ردني إِلَيْك مَا أَنا عَلَيْهِ من الضَّرَر والجهد قَالَت زَيْنَب فَنَهَضت إِلَيْهَا الخيزران لتعانقها فَقَالَت ليسي لذَلِك مَوضِع مَعَ الْحَال الَّتِي أَنا عَلَيْهَا فَقَالَت الخزيران لَهَا فالحمام إِذا وَأمرت جمَاعَة من جواريها بِالدُّخُولِ مَعهَا إِلَى الْحمام فَدخلت وَطلبت ماشطة ترمي مَا على وَجههَا من الشّعْر فَلم تزل حَتَّى خرجت من الْحمام فوافتها الْخلْع وَالطّيب فَأخذت من الثِّيَاب مَا أَرَادَت ثمَّ تطيب وَخرجت إِلَيْنَا فعانقها الخيزران وأجلستها فِي الْموضع الَّذِي يجلس فِيهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي إِذا دخل فَقَالَت لَهَا الخيزران هَل لَك فِي الطَّعَام فَإنَّا لم نطعم بعد فَقَالَت وَالله مَا فيكُن أحد أحْوج إِلَيْهِ مني فجعلوه فَأتي بالمائدة فَجعلت تَأْكُل غير محتشمة وتلقمنا وتضع بَين أَيْدِينَا إِلَى أَن اكتفت ثمَّ غسلنا أَيْدِينَا فَقَالَت لَهَا الخيزران من وَرَاءَك مِمَّن تعنين بِهِ فَقَالَت مَا خَارج الدَّار أحد من خلق الله بَين وَبَينه سَبَب فَقَالَت الخيزران إِن كَانَ هَذَا هَكَذَا فقومي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 حَتَّى تختاري لنَفسك مَقْصُورَة من مقاصيرنا ونحول إِلَيْهِ جَمِيع مَا تحتاجين إِلَيْهِ ثمَّ لَا نفترق حَتَّى الْمَوْت بَيْننَا فَقَالَت فطفنا بهَا فِي المقاصير فَاخْتَارَتْ وأوسعها وأنزهها وَلم نَبْرَح حَتَّى حول إِلَيْهَا جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من الْفرش والكساء والجواري وَالرَّقِيق ثمَّ تركناها وَخَرجْنَا عَنْهَا فَقَالَت الخيزران إِن هَذِه الْمَرْأَة كَانَت فِيمَا قد كَانَت فِيهِ وَقد مَسهَا ضرّ وَلَيْسَ يغسل مَا فِي قَلبهَا إِلَّا المَال فاحملوا إِلَيْهَا خمس مائَة ألف دِرْهَم فَحملت إِلَيْهَا ووافانا الْمهْدي فسألنا عَن الْخَبَر فَحَدَّثته حَدِيثهَا وَمَا لَقيته بِهِ فو الله مَا انْتظر أَن أعرفهُ جوابها حَتَّى وثب مغضبا فِي وَجْهي وَقَالَ يَا زَيْنَب هَل هَذَا مِقْدَار شكر الله على نعمه وَقد مكنك من مثل هَذِه الْمَرْأَة على هَذِه الْحَال الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا فو الله لَوْلَا محلك من قلبِي لحلفت أَن لَا أُكَلِّمك أبدا قَالَت فَقلت قد اعتذرت إِلَيْهَا ورضيت ثمَّ قَصَصنَا عَلَيْهِ قصَّتهَا كلهَا وَمَا فعلت الخيزران لَهَا فَقَالَ لخادم مَعَه احْمِلْ إِلَيْهَا مئة بدرة وادخل إِلَيْهَا وأبلغها السَّلَام عني وَقل لَهَا وَالله إِنِّي مَا سررت مُنْذُ دهري سروري بمكانك وَأَنا أَخُوك وَمِمَّنْ يُوجب حَقك لَا تَدعِي حَاجَة إِلَّا سألتيها وَلَوْلَا أَنِّي أكره أَن أحشمك لصرت إِلَيْك مُسلما عَلَيْك وقاضيا حَقك فَمضى الْخَادِم إِلَيْهَا بِالْمَالِ والرسالة فَأَقْبَلت إِلَيْنَا مَعَه فَسلمت إِلَى الْمهْدي وشكرت لَهُ فعله وأثنيت على الخيزران عِنْده وَقَالَت مَا على أَمِير الْمُؤمنِينَ حشمة أَنا فِي عداد حرمه وَقَعَدت سَاعَة ثمَّ قَامَت إِلَى منزلهَا فخلفتها عِنْد الخيزران كَأَنَّهَا لم تزل فِي ذَلِك الْقصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وَقيل إِن الْمهْدي لما حج أنْفق فِي حجه ثَلَاثِينَ ألف ألف دِرْهَم وَخَمْسمِائة ألف دِينَار وَفرق من الثِّيَاب مائَة ألف وَخمسين ألف ثوب وَهُوَ الَّذِي وسع الْمَسْجِد الْحَرَام وبناه على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْم وَقيل نذر الْمهْدي دم رجل من أهل الْكُوفَة كَانَ يسْعَى فِي فَسَاد دولته فَجعل لمن دلّ عَلَيْهِ أَو جابه مئة ألف دِرْهَم فَأَقَامَ الرجل مواريا ثمَّ إِنَّه ظهر يَوْمًا بِبَغْدَاد فَبَيْنَمَا هُوَ يمشي فِي بعض نَوَاحِيهَا بصر بِهِ رجل من أهل الْكُوفَة فرفعه فَأخذ بمجاميع ثِيَابه وَقَالَ هَذَا بغية أَمِير الْمُؤمنِينَ فَبَيْنَمَا الرجل على تِلْكَ الْحَال إِذْ سمع وَقع الحوافر من وَرَائه فَالْتَفت فَإِذا معن بن زَائِدَة فَقَالَ يَا أَبَا الْوَلِيد أجرني أجارك الله فَوقف فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 للرجل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق بِهِ مَا شَأْنك قَالَ بغية أَمِير الْمُؤمنِينَ نذر دَمه وبذل لمن ق 50 دلّ عَلَيْهِ مئة ألف دِرْهَم فَقَالَ يَا غُلَام انْزِلْ عَن دابتك واحمل الرجل عَلَيْهَا فصاح الْمُتَعَلّق بِالرجلِ يَا للنَّاس أيحال بيني وَبَين طلبة أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ معن اذْهَبْ فاخبره أَنه عِنْدِي فَانْطَلق الرجل إِلَى بَاب الْمهْدي فَأخْبر الْحَاجِب فَدخل إِلَى الْمهْدي فَأخْبرهُ فَأمر بإحضار معن فَأَتَتْهُ الرُّسُل فَدَعَا أهل بَيته ومواليه وَقَالَ لَا يخلصن إِلَى هَذَا الرجل وَفِيكُمْ عين تطرف ثمَّ سَار إِلَى الْمهْدي فَدخل فَسلم عَلَيْهِ فَرد عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ يَا معن أتجير علينا قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ وَنعم أَيْضا فَاشْتَدَّ غَضَبه فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قتلت فِي طاعتكم فِي الْيمن فِي يَوْم وَاحِد خَمْسَة عشر ألفا إِلَى أَيَّام كَثِيرَة قد تقدم بلائي وَحسن غنائي فَمَا رَأَيْتُمُونِي أَهلا إِن يُوهب لي رجل وَاحِد فَأَطْرَقَ الْمهْدي طَويلا ثمَّ رفع رَأسه وَقد سرى عَنهُ وَقَالَ قد أجرنا جَارك فَقَالَ معن إِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يصله فَيكون قد أَحْيَاهُ وأغناه قَالَ قد أمرنَا لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم قَالَ معن إِن صلات الْخُلَفَاء لَا تكون إِلَّا على قدر جنايات الرّعية وَإِن ذَنْب الرجل عَظِيم فأجزل لَهُ الْعَطِيَّة فَقَالَ قد أمرنَا لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم قَالَ تعجلها يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن خير الْبر عاجله فَأمر بتعجيلها لَهُ وَانْصَرف معن بِالْمَالِ إِلَى الرجل وَقَالَ لَهُ خُذ صلتك وَالْحق بأهلك وَإِيَّاك وَمُخَالفَة خلفاء الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ذكر الْمَنْصُور لِمَعْنٍ بن زَائِدَة بعد كَلَام لَهُ قد بلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَنْك شَيْء لَوْلَا مَكَانك عِنْده ورأيه فِيك لصعب عَلَيْك الْأَمر قَالَ وَمَا ذَاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فو الله مَا تعرضت بِهِ مِنْك قَالَ إعطاؤك مَرْوَان بن أبي حَفْص ألف دِينَار فِي قَوْله فِيك (معن بن زَائِدَة الَّتِي زيدت بِهِ ... شرفا على شرف بَنو شَيبَان) (إِن عد أَيَّام الرِّجَال فَإِنَّهَا ... يوماه يَوْم ندا وَيَوْم طعان) فَقَالَ مَا أَعْطيته لهَذَا وَلَكِن لقَوْله (مَا زلت يَوْم الهاشمية معلما ... بِالسَّيْفِ دون خَليفَة الرحمان) (فحميت حوزته وَكنت وقاءه ... من وَقع كل من مهند وَسنَان) فاستحيا الْمَنْصُور فَقَالَ مَا أَعْطيته إِلَّا لهَذَا قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فو الله لَوْلَا مَخَافَة الشنعة عنْدك لمكنته من مَفَاتِيح بيُوت أَمْوَالِي وأنحلته إِيَّاهَا قَالَ الْمَنْصُور لله دَرك من أَعْرَابِي مَا أَهْون عَلَيْك مَا يعز على الرِّجَال وَأهل الحزم قيل أَقَامَ أَعْرَابِي على بَاب معن بن زَائِدَة فَلَمَّا طَال مقَامه كتب إِلَيْهِ رقْعَة فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 (فَمَا فِي يدك الْخَيْر يَا معن كُله ... وَفِي الأَرْض أَسبَاب وفيهَا مَذَاهِب) (سَيَأْتِي بَنَات الْعم مَا أَنْت صانع ... إِذا افتتحت عِنْد الأرباب الحقائب) ووكل من يوصلها إِلَيْهِ وَسَار فَلَمَّا وصلت الرقعة إِلَيْهِ وقراها أَمر برده وَقَالَ وَالله لتفتيش عَن خير كثير وَأمر فملئت حقيبته دَرَاهِم وَحضر بِبَابِهِ شَاعِر فَأَقَامَ مُدَّة لَا يتهيأ لَهُ الدُّخُول عَلَيْهِ فَقَالَ يَوْمًا لبَعض خدمَة إِذا دخل الْأَمِير الْبُسْتَان فعرفني فَلَمَّا دخله أعلمهُ فَكتب بَيْتا على خَشَبَة وَأَلْقَاهَا فِي المَاء الَّذِي يدْخل الْبُسْتَان فَلَمَّا نظر معن فِي الْخَشَبَة أَخذهَا فَقَرَأَ فَإِذا فِيهَا مَكْتُوب (أيا جود معن نَاجٍ مَعنا بحاجتي ... فَمَالِي إِلَى معن سواك رَسُول) فَقَالَ من صَاحب هَذِه فَدَعَا بِالرجلِ فَقَالَ لَهُ كَيفَ قلت أنْشد الْبَيْت فَأمر لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم فَأَخذهَا وَوضع الْخَشَبَة تَحت بساطه فَمَا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي أخرجهَا من تَحت بساطه وَقرأَهَا فَدَعَا بِالرجلِ فَأمر لَهُ بِمِائَة ألف أُخْرَى وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْم الثَّالِث فَلَمَّا أَخذهَا الرجل تفكر فِي عظم مَا أَخذ وَخَافَ أَن يسترجعها مِنْهُ فَخرج فَمَا كَانَ فِي الْيَوْم الرَّابِع قَرَأَ مَا فِيهَا ودعا بِالرجلِ ق 51 فَلم يُوجد قَالَ معن حق على أَن أَعْطيته حَتَّى لَا يبْقى فِي بَيت مَالِي دِرْهَم وَلَا دِينَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وَقيل خرج على هَارُون الرشيد بعض الْخَوَارِج فأنهض إِلَيْهِ جَيْشًا فظفر بِهِ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ مَا تُرِيدُ أَن أصنع بك قَالَ الَّذِي تُرِيدُ أَن يصنع الله بك إِذا وقفت بَين يَدَيْهِ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثمَّ رفع رَأسه وَأمر بِإِطْلَاقِهِ فَلَمَّا خرج قَالَ بعض من حضر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يقتل أهلك ويفني أموالك وتطلقه لكلمة وَاحِدَة بأمل هَذَا فَإِنَّهُ يجرىء عَلَيْك أهل الشَّرّ فَأمر برده فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ علم أَنه قد سعى بِهِ عِنْده فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تطعه فَلَو أطَاع الله فِيك مَا استخلفك لَحْظَة وَاحِدَة فَأمر بِإِطْلَاقِهِ وَقَالَ لَا تعاودوني فِي بَابه وَعَن جريم بن أبي يحيى الْمُزنِيّ قَالَ دَعَاني يَوْمًا للْأَكْل مَعَه فَلَمَّا توَسط الْأكل رفع رَأسه إِلَى رجل يكلمهُ بِالْفَارِسِيَّةِ قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن كنت تُرِيدُ أَن تسر إِلَيْهِ فَإِنِّي أفهم الفارسية فَأمرنِي أتنحى إِلَى أَن تقدم إِلَيْهِ بِمَا تُرِيدُ فاعجب الرشيد كرم أخلاقه وَصدقه وخاطب الرجل سرا بِمَا أَرَادَ وَأمر لجريم بصلَة سنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وَقيل استزار إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَخَاهُ هَارُون الرشيد بالرقة وَلما حضر الطَّعَام وَكَانَ الرشيد لَا يَأْكُل حارا قبل بَارِد فَوضعت البوارد بَين يَدَيْهِ على الْمَائِدَة فَرَأى فِيمَا قرب مِنْهُ جَاما فِي قُرَيْش السّمك فاستصغر الْقطع فَقَالَ لإِبْرَاهِيم لم يصغر طباخك السّمك فَقَالَ إِنَّه لم يصغر الْقطع وَإِنَّمَا هَذِه أَلْسِنَة السّمك فَقَالَ شَبيه أَن يكون فِي هَذَا الْجَام مائَة لِسَان فَقَالَ لَهُ مراقب خَادِم إِبْرَاهِيم يتَوَلَّى قهرمته فِيهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَكثر من مائَة لِسَان فاستحلفه على مبلغ ثمن السّمك الَّذِي مِنْهَا هَذِه الْأَلْسِنَة فَأخْبر أَنه ألف دِرْهَم فَرفع هَارُون يَده عَن الطَّعَام وَحلف أَن لَا يطعم دون أَن يحضر مراقب ألف دِينَار فأحضرها فَأمره أَن يتَصَدَّق بهَا وَقَالَ أَرْجُو أَن يكون هَذَا كَفَّارَة لسرفك فِي إنفاقك على جَام سمك ألف دِرْهَم ثمَّ أَخذ الْجَام بِيَدِهِ وَدفعه إِلَى بعض خدمه وَقَالَ أخرج من دَار أخي ثمَّ أنظر أول سَائل ترَاهُ فادفعه إِلَيْهِ قَالَ إِبْرَاهِيم وَكَانَ شِرَاء الْجَام على مئتين وَسبعين دِينَارا فغمزت بعض خدمي أَن مَعَ الْجَام فيبتاعه مِمَّن يدْفع إِلَيْهِ وَكَأن الرشيد فهم ذَلِك مني فَهَتَفَ بالخادم وَقَالَ إِذا دفعت اللجام إِلَى السَّائِل فَقل لَهُ يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ أحذر أَن تبيع الْجَام بِأَقَلّ من مئتي دِينَار فَإِنَّهُ يُسَاوِي أَكثر مِنْهَا فَفعل الْخَادِم مَا أمره قَالَ فوَاللَّه مَا أمكن خَادِم إِبْرَاهِيم أَن يَشْتَرِيهِ وَيَردهُ إِلَى الدَّار إِلَّا بِمِائَتي دِينَار كَمَا أوصى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلما حمل الشَّافِعِي رَحمَه الله من الْيمن إِلَى الرشيد حِين وشي بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 إِلَيْهِ فَجرى لَهُ مَعَه كَلَام كثير إِلَى أَن قَالَ الرشيد هَل من موعظة تعظ بهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ نعم على ترك الحشمة وَرفع الهيبة وَقبُول النصح وإلقاء رِدَاء الْكبر عَن منكبك قَالَ الرشيد لَك ذَلِك فجثى الشَّافِعِي على رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ يَا ذَا الرجل إِنَّه من أَطَالَ عنان الْأَمر فِي الْعِزّ طوى عدار الحذر بالمهلة وَمن لم يعول على طَرِيق النجَاة كَانَ بِجَانِب قلَّة الاكتراث بالمرجعة إِلَى الله مُقيما وَمن أحسن الظَّن كَانَ من أَمنه الْمَحْذُور فِي مثل نسج العنكبوت لَا تأمن على نَفسهَا وتحجزها عَن سعيها فَلَو جرعها مخالفتها وبادر خوف الْمُرَاجَعَة بالتزود إِلَى دَار المقامة إِن لَو فعلت ذَلِك يَا رجل مَا اهتدت إِلَيْك يَد الندامة ولأبدرتك غَدا ق 52 فِي الْقِيَامَة لكنك أتيت من حَيْثُ لَا يُؤَدِّي إِلَى فهمك من أذن لمج الْكَلَام بسمعك فَمن ثمَّ أعقبك التواني والاغترار بِنَفْسِك وَلَو كَانَ لَك أَمِير من عقلك ينْقد لَك مَا سقط من عيونك لشغلك ذَلِك عَن النّظر فِي عُيُوب غَيْرك وَلَكِن ضرب الْهوى عَلَيْك رواق الْحيرَة فتركك إِذا خرجت يَد موعظتك لم تكد ترَاهَا وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور فَبكى الرشيد حَتَّى بل منديلا كَانَ فِي يَده ثمَّ قَالَ لَهُ خَاصَّة من يقوم على رَأسه اسْكُتْ فقد أبكيت أَمِير الْمُؤمنِينَ فَالْتَفت إِلَيْهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَقَالَ يَا عبيد الدُّنْيَا الَّذين باعوا أنفسهم لمحبوب الدُّنْيَا أما رَأَيْتُمْ مَا استدرج بِهِ من كَانَ قبلكُمْ من الْأُمَم بالأماني ألم تروا كَيفَ فَضَح الله مستورهم وأمطرت بواكير الهموم عَلَيْهِم بعد سرورهم فَأَصْبحُوا بعد خفض عيشهم ولين رفاهيتهم فِي نسيم رَوْضَة البطالين حصائد النقم ومدارج المثولات فَقَالَ لَهُ الرشيد لقد سللت علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 لسَانك وَهُوَ أمضى من سَيْفك فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِي إِن قبلته فَهُوَ لَك وَإِلَّا عَلَيْك قَالَ فَهَل من حَاجَة خَاصَّة بعد الْعَامَّة قَالَ بعد مَكْنُون النَّصِيحَة وَتَجْرِيد الموعظة تَأْمُرنِي أَن أسود وَجه موعظتي بِالْمَسْأَلَة قَالَ ثمَّ مَاذَا قَالَ النّظر فِي أُمُور الرّعية وَالْقِسْمَة بَينهم بِالسَّوِيَّةِ قَالَ وَمن يطبق ذَلِك قَالَ من تسمى بِاسْمِك وَنسب إِلَى موضعك قَالَ ثمَّ مَاذَا قَالَ الْحبّ أحبب الله وجيران قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله أما وَالله لَو أردْت عمَارَة قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم للزمك فِي ذَلِك مُؤنَة قَالَ فَأمر الرشيد بِمَال للمهاجرين وَالْأَنْصَار والعلوية وَأمر الشَّافِعِي رَحمَه الله بِخَمْسِينَ ألف دِينَار وَحمله على فرس وَكَانَ الرشيد يُصَلِّي فِي كل يَوْم مئة رَكْعَة إِلَى أَن توفّي وَيتَصَدَّق فِي كل يَوْم بِمِائَة ألف دِرْهَم فَإِذا حج حج مَعَه مائَة من الْفُقَهَاء كل فَقِيه مِنْهُم بزاده وراحلته وجد ذَلِك فِي كتاب تفَاوت التواريخ وَالله أعلم قَالَ الْأَصْمَعِي قصدت فِي بعض الْأَيَّام رجلا كنت أغشاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 لكرمه فَوجدت على بَابه بوابا فَمَنَعَنِي من الدُّخُول عَلَيْهِ فَقَالَ البواب مَا أوقفني على بَابه لأمنع مثلك الدُّخُول عَلَيْهِ لرقة حَاله وقصور يَده فَكتبت رقْعَة أَقُول فِيهَا (إِذا كَانَ الْكَرِيم لَهُ حجاب ... فَمَا فضل الْكَرِيم على اللَّئِيم) ثمَّ قلت أوصل رقعتي هَذِه إِلَيْهِ فَعَادَت الرقعة وَقد كتب على ظهرهَا (إِذا كَانَ الْكَرِيم قَلِيل مَال ... تستر بالحجاب عَن الْغَرِيم) وَمَعَ الرقعة صرة فِيهَا خَمْسمِائَة دِينَار وَعذر فَقلت وَالله لَا تحفن أَمِير الْمُؤمنِينَ بِهَذَا الحَدِيث فَجئْت إِلَى الرشيد فَلَمَّا رَآنِي قَالَ من أَيْن يَا عبد الْملك قلت من عِنْد رجل أكْرم الْأَحْيَاء حاشا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ وَمن هُوَ قلت رجل قراني علمه مَاله ثمَّ دفعت إِلَيْهِ الرقعة والصرة قَالَ هَذَا ختم بَيت مَالِي فَلَا بُد لي من الرجل الَّذِي دَفعهَا إِلَيْك قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالله إِنِّي لأَسْتَحي أَن أروعه برسلك فَقَالَ لبَعض خاصته امْضِ مَعَ الْأَصْمَعِي فَإِذا أَرَاك الرجل فَقل لَهُ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ من غير إزعاج قَالَ فَلَمَّا حضر الرجل بَين يَدي الرشيد قَالَ لَهُ أما أَنْت بالْأَمْس وقفت بموكبنا وشكوت رقة حالك وَأَن الزَّمَان أَنَاخَ عَلَيْك بكلله فدفعنا إِلَيْك هَذِه الصرة لتصلح بهَا حالك فقصدك الْأَصْمَعِي بِبَيْت وَاحِد فدفعتها إِلَيْهِ قَالَ وَالله مَا كذبت فِيمَا شَكَوْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من رقة الْحَال وصعوبة الزَّمَان وَلَكِنِّي استحيت من الله تَعَالَى أَن أُعِيد قاصدي إِلَّا كَمَا أعادني أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لله دَرك فَمَا ولدت الْعَرَب أكْرم مِنْك ثمَّ أَمر لَهُ بِأَلف دِينَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فَقلت ألحقني بِهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَتَبَسَّمَ وَأمر أَن تكمل لي ألف دِينَار وَعَاد الرجل من جملَة ندمائه ق 53 وَقيل لما حج الرشيد وَرجع قَافِلًا دَعَا صَالحا حِين تنكر للبرامكة فَقَالَ اخْرُج إِلَى مَنْصُور بن زِيَاد فَقل لَهُ قد صحت عَلَيْك عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم فاحملها إِلَيّ من يَوْمك فَإِن هُوَ دَفعهَا إِلَيْك كَامِلَة قبل مغيب الشَّمْس إِلَى يَوْمك هَذَا وَإِلَّا فاحمل إِلَيّ رَأسه وَإِيَّاك ومراجعتي فِي شَيْء من أمره قَالَ صَالح فَخرجت إِلَى مَنْصُور فعرفته الْخَبَر فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون ذهبت وَالله نَفسِي ثمَّ حلف أَنه لَا يعرف مَوضِع ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم فَكيف عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم فَقَالَ لَهُ صَالح خُذ فِي عَمَلك قلت لَهُ امْضِ إِلَى منزلي حَتَّى أوصِي وأتقدم فِي أَمْرِي فَمَا هُوَ إِلَّا أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 دخل حَتَّى ارْتَفع الصُّرَاخ من مَنَازِله وَحجر نِسَائِهِ فأوصى وَخرج وَمَا فِيهِ لحم وَلَا دم فَقَالَ امْضِ بِنَا إِلَى أبي عَليّ يَعْنِي يحي بن خَالِد فَلَعَلَّ الله أَن يأتينا بفرج من جِهَته فمضيت مَعَه فَدخل على يحي بن خَالِد فَقَالَ لَهُ يحي مَا وَرَاءَك فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة فقلق يحي لأَمره وأطرق مفكرا ودعا جَارِيَة وَقَالَ لَهَا كم عنْدك من المَال قَالَت خَمْسَة آلَاف دِرْهَم قَالَ هاتيها فأحضرتها ثمَّ وَجه إِلَى وَلَدهَا الْفضل أَنَّك كنت أعلمتني فدَاك أَبوك أَن عنْدك ألفي ألف دِرْهَم وودت أَنَّك تشتري بهَا ضَيْعَة يبْقى ذكرهَا وشكرها وتحمد ثَمَرَتهَا فَوجه إِلَيْهَا بِالْمَالِ وَقَالَ للرسول امْضِ بهَا إِلَى جَعْفَر فَقل لَهُ ابْعَثْ لي فدَاك أَبوك بِأَلف ألف دِرْهَم لحق لزمني فوجهها إِلَيْهِ فَقَالَ هَذِه ثَمَانِيَة آلَاف ألف دِرْهَم ثمَّ أطرق طَويلا لِأَنَّهُ لم يكن بَقِي مَعَه من المَال شَيْء ثمَّ رفع رَأسه إِلَى خَادِم لَهُ فَقَالَ امْضِ إِلَى دَنَانِير فَقل لَهَا وَجْهي إِلَيّ بِالْعقدِ الَّذِي كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ وهبه لَك فَإِذا هُوَ عقد كعظم الذِّرَاع فَقَالَ لصالح اشْتريت هَذَا بِمِائَة ألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وَعشْرين ألف دِينَار فوهبه أَمِير الْمُؤمنِينَ لدنانير وَقد حسبناه بألفي ألف دِرْهَم وَهَذَا تَمام المَال فَانْصَرف وخل صاحبنا لَا سَبِيل لَك عَلَيْهِ قَالَ صَالح فَأخذت ذَلِك ورددت مَنْصُور معي فَلَمَّا صرنا بِالْبَابِ أنْشد متمثلا (فَمَا بَقِي عَليّ تركتماني ... وَلَكِن خفتما صرد النبال) قَالَ صَالح فَقلت مَا على وَجه الأَرْض رجل أنبل من رجل خرجنَا من عِنْده وَلَا سَمِعت بِمثلِهِ فِيمَا مضى وَلَا فِيمَن بَقِي وَلَا على وَجه الأَرْض رجل أَخبث سريرة وَلَا أرد طبعا من هَذَا النبطي إِذا لم يشْكر من أَحْيَاهُ قَالَ ثمَّ صرت إِلَى الرشيد فقصصت عَلَيْهِ قصَّة المَال وطويت عَنهُ مَا قَالَ مَنْصُور لِأَنِّي خفت أَن سَمعه أَمر بِضَرْب عُنُقه قَالَ الرشيد أما إِنِّي قد علمت من نجا لم ينجو إِلَّا بِأَهْل هَذَا الْبَيْت وَقَالَ اقبض المَال واردد العقد على دَنَانِير لِأَنِّي لم أكن لأهب هبة فترجع إِلَيّ قَالَ صَالح فَلم أطب نفسا بترك تَعْرِيف يحي مَا قَالَه مَنْصُور فَقلت لَهُ بعد أَن أطنب فِي شكره وَوصف مَا كَانَ مِنْهُ لقد أَنْعَمت على غير شَاكر قَابل أكْرم فعل بِالْأُمِّ قَول وَكَيف ذَلِك فَأَخْبَرته بِمَا قَالَ فَجعل وَالله يطْلب لَهُ المعاذير وَقَالَ يَا أَبَا عَليّ إِن الْمخوف الْقلب رُبمَا سبق إِلَى لِسَانه مَا لَيْسَ فِي ضَمِيره وَقد كَانَ الرجل فِي حَال عَظِيمَة فَقلت وَالله مَا أَدْرِي أَي أمريك أعجب أَمن أَوله أم من آخِره لكني أعلم أَن الدَّهْر لَا يخلف مثلك أبدا قَالَ يحي بن خَالِد من أَحْسَنت إِلَيْهِ فَأَنا مُرْتَهن بِهِ وَمن لم أحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 إِلَيْهِ فَأَنا مُخَيّر فِيهِ وَقَالَ ذكر النِّعْمَة من الْمُنعم تكدير ونسيان الْمُنعم تكدير ونسيان الْمُنعم عَلَيْهِ كفر وَقَالَ يدل على كرم الرجل سوء أدب غلمانه وَقيل لَهُ لم لَا تَقول الشّعْر فَقَالَ شَيْطَانه أَخبث من أَن أسلطه على عَقْلِي وَقَالَ إِذا أدبر الْأَمر كَانَ العطب فِي الْحِيلَة وَقيل ركب مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم دين ق 54 فَركب إِلَى الْفضل بن يحي وَمَعَهُ حق فِيهِ جَوَاهِر فَقَالَ لَهُ قصرت بِنَا غلاتنا وأغفل أمرنَا خليفتنا وتزايدت مؤنتنا فلزمنا دين احتجنا إِلَى أَدَائِهِ وَهُوَ ألف ألف دِرْهَم وكرهت بذل وَجْهي للتجار وأذلة عرضي مِنْهُم وَمَعِي رهن وثيق بذلك فَإِن رَأَيْت أَن تَأمر بعض غلمانك بِقَبْضِهِ وَحمل المَال إِلَيْنَا فعلت فَدَعَا الْفضل بِالْحَقِّ فَرَأى مَا فِيهِ وختمه بِخَتْم مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم ثمَّ قَالَ لَهُ نجح الْحَاجة أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 تقيم الْيَوْم عِنْدِي فِي منزلي فَقَالَ لَهُ إِن الْمقَام على مشقة فَقَالَ لَهُ مَا يشق عَلَيْك من ذَلِك إِن رَأَيْت أَن تلبس بعض ثيابًا دَعَوْت بِهِ وَإِلَّا أمرت بإحضار ثِيَاب من دَارك فَأَقَامَ ونهض الْفضل فَدَعَا بوكيله وَأمره بِحمْل المَال وَتَسْلِيم الْحق الَّذِي فِيهِ الْجَوْهَر إِلَى وَكيل مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وَأخذ خطه بذلك فَفعل الْوَكِيل ذَلِك وَأقَام مُحَمَّد عِنْده إِلَى اللَّيْل وَلَيْسَ عِنْده خبر بِشَيْء من الْأَمر ثمَّ انْصَرف إِلَى منزله فأحضر الْوَكِيل المَال وَالْحق فغدا على الْفضل ليشكر لَهُ فَوَجَدَهُ قد سبقه بالركوب إِلَى دَار الرشيد فَوقف منْظرًا لَهُ فَقبل لَهُ قد خرج من الْبَاب الآخر فَأتبعهُ فَوَجَدَهُ سبقه إِلَى دَار ابْنه فَوقف ينتظره فَقيل لَهُ قد خرج من الْبَاب الآخر قَاصِدا إِلَى منزله فَانْصَرف عَنهُ فَلَمَّا عدا إِلَى منزله وَجه الْفضل إِلَيْهِ بِأَلف ألف أُخْرَى فغدا عَلَيْهِ فشكره وَأطَال فَأعلمهُ الْفضل أَنه بَات بليلة طَالَتْ غما بِمَا شكاه إِلَى أَن لَقِي الرشيد فَأعلمهُ بِحَالهِ وَأمره بالتقدير لَهُ فَلم يزل يماكسه إِلَى أَن تقرر الْأَمر مَعَه على ألف ألف دِرْهَم فَقَالَ إِنَّه لم يصلك بِمِثْلِهَا قطّ وَلَا زادك على عشْرين ألف دِينَار فشكرته وَسَأَلته أَن يصك بهَا صكا بخطة ويجعلني الرَّسُول فَفعل فشكره مُحَمَّد وَقَالَ صدق أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنه لم يصلني بِأَكْثَرَ من عشْرين ألف دِينَار وَهَذَا إِنَّمَا تهَيَّأ بك وعَلى يَديك وَمَا أقدر على الْقيام بحقك وَلَا على شكر أجازي بِهِ مَعْرُوفك غير أَن عَليّ وَعلي أيمانا مُؤَكدَة إِن وقف بِبَاب أحد سواك وَلَا سَأَلت غَيْرك حَاجَة أَبَا وَلَو سففت التُّرَاب فَكَانَ لَا يركب إِلَى غير الْفضل إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا حدث فَكَانَ لَا يركب إِلَى غير دَار الرشيد وَيعود إِلَى منزله فعوتب بعد تقضي أَمرهم فِي ترك الرّكُوب إِلَى الْفضل بن الرّبيع فَقَالَ وَالله لَو عمرت ألف عَام ومصصت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الثماد مَا وقفت بِبَاب أحد بعد الْفضل بن يحي وَلَا سَأَلته حَاجَة أبدا حَتَّى ألْقى الله تَعَالَى فَلم يزل ذَلِك حَاله حَتَّى مَاتَ وَقيل دخل مُسلم بن الْوَلِيد على الْفضل بن يحيى وَقد كَانَ ورد عَلَيْهِ خبر سره فَجَلَسَ للشعراء فمدحوه وأثابهم وَنظر فِي حوائج النَّاس فقضاها وتفرق النَّاس عَنهُ وخلا فِي منزله وَلم يحضر مُسلم ذَلِك وَإِنَّمَا بلغه حِين انْقَضى الْمجْلس فَدخل عَلَيْهِ فاستأذنه فِي الإنشاد فَأذن لَهُ فأنشده قَوْله (أتتك المطايا تهتدي بمطية ... عَلَيْهَا فَتى كالنصل يؤنسه النصل) (وَردت رواق الْفضل آمل فَضله ... فحظ الثَّنَاء الجزل نائله الجزل) (فَتى ترتعي الآمال مزنة جوده ... إِذا كَانَ مرعاها الْأَمَانِي والمطل) (تساقط يمناه الندى وشماله ... الردى وعيون القَوْل مَنْطِقه الْفَصْل) (ألح على الْأَيَّام يفري خطوبها ... على مَنْهَج ألفى أَبَاهُ بِهِ قبل) (أناف على العلياء يحيى وخَالِد ... فَلَيْسَ لَهُ مثل وَلَا لَهما مثل) (فروع أَصَابَت مغرسا مُتَمَكنًا وأصلا فطابت حَيْثُ وَجههَا الأَصْل) (بكف أبي الْعَبَّاس يستمطر الْغنى ... وتستنزل النعمى ويسترعف النصل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فطرب الْفضل طَربا شَدِيدا وَأمر بِأَن البيات فعدت فَكَانَ مبلغها ثَمَانِينَ بَيْتا فَأمر لَهُ بِثَمَانِينَ ألف دِرْهَم وَقَالَ لَوْلَا أَنه أَكثر مَا وصل بِهِ شَاعِر لزدتك وَلكنه شَيْء لَا يُمكن تجاوزه يَعْنِي أَن الرشيد رسمه لمروان بن أبي حَفْصَة وروى أَن مَرْوَان بن أبي حَفْصَة ق 55 دخل على الرشيد فأنشده مدحا فِيهِ فَقَالَ من أَنْت قَالَ شاعرك مَرْوَان بن أبي حَفْصَة فَقَالَ أَلَسْت الْقَائِل (أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ بعد معن ... مقَامهَا لَا نُرِيد بِهِ زولا) (وَقُلْنَا أَيْن نَذْهَب بعد معن ... وَقد ذهب النوال فَلَا نوالا) (وَكَانَ النَّاس كلهم لِمَعْنٍ ... إِلَى أَن زار تربته عيالا) فقد ذهب النوال كَمَا زعمتم فَلم جِئْت تطلب نوالنا لَا شَيْء لَك عندنَا جروا بِرجلِهِ فجروا بِرجلِهِ حَتَّى أخرج فَمَكثَ سنة ثمَّ دخل عَلَيْهِ فِي جملَة من الشُّعَرَاء فأنشده قَوْله (طرقتك زائرة فحيي خليها ... بَيْضَاء تخلط بِالْحَيَاءِ دلالها) (هَل تطمسون من السَّمَاء نجومها ... بأكفكم أَو تسترون هلالها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 (أَو تجحدون مقَالَة من ربكُم ... جِبْرِيل بلغَهَا النَّبِي فَقَالَهَا) (شهِدت من الْأَنْفَال آخر آيَة ... بتراثهم فأرادتهم إِبْطَالهَا) فزحف الرشيد حَتَّى صَار على الْبسَاط وَقَالَ كم هِيَ قَالُوا هِيَ مائَة بَيت فَأمر بِمِائَة ألف دِرْهَم وَقيل دخل يزِيد بن مزِيد على الرشيد فَقَالَ لَهُ من الَّذِي يَقُول فِيك (لَا يعبق الطّيب خديه ومفرقه ... وَلَا يسمح عَيْنَيْهِ من الْكحل) (قد عود الطير عادات وثقن بهَا ... فهن يتبعنه فِي كل مر تحل) فَقلت لَهُ لَا أعرف قَائِله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ أيقال فِيك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 مثل هَذَا الشّعْر وَلَا تعرف قَائِله فَخرج من عِنْده خجلا فَلَمَّا صَار إِلَى منزله دَعَا حَاجِبه وَقَالَ من بِالْبَابِ من الشُّعَرَاء قَالَ مُسلم بن الْوَلِيد قَالَ فَكيف حَجَبته عني فَلم تعلمني بِهِ قَالَ أخْبرته أَنَّك مضيق وَأَنه لَيْسَ فِي يدك مَا ل تعطيه وَسَأَلته الْإِمْسَاك وَالْمقَام أَيَّامًا إِلَى أَن يَتَّسِع عَلَيْك الْحَال فَقَالَ أدخلهُ إِلَيّ فأنشده قصيدته الَّتِي تَقول (موف على مهج فِي يَوْم ذِي رهج ... كَأَنَّهُ أجل يسْعَى إِلَى أمل) (ترَاهُ فِي الْأَمْن فِي درع مضاعفة ... لَا يَأْمَن الدَّهْر أَن يدعى على عجل) (لَا يعبق الطّيب خديه ومفرقه ... وَلَا يمسح عَيْنَيْهِ من الْكحل) (قد عود الطير عادات وثقن بهَا ... فهن يتبعنه وابنك فِي كل مرتحل) (لله من هَاشم فِي أرضه جبل ... وَأَنت وابنك ركنا ذَلِك الْجَبَل) فَقَالَ لَهُ قد أمرت لَك بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم فاقبضها وأعذر فَخرج الْحَاجِب فَقَالَ قد أَمرنِي أَن أراهن ضَيْعَة من ضيَاعه بِمِائَة ألف دِرْهَم خَمْسُونَ ألفا مِنْهَا لَك وَخَمْسُونَ ألفا لنفقته فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا فَكتب صَاحب الْخَبَر بذلك إِلَى الرشيد فَأمر لَهُ بِمِائَتي ألف دِرْهَم وَقَالَ اقبض الْخمسين ألف دِرْهَم الَّتِي أَخذهَا الشَّاعِر وزده مثلهَا وَخذ مائَة ألف لنفقتك فافتك ضيعه وَأعْطى مُسلما خمسين ألفا أُخْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وروى عَن مُسلم بن الْوَلِيد أَنه قَالَ جَاءَنِي رَسُول يزِيد بن مزِيد فَجِئْته فَوَجَدته خَارِجا من الْحمام وَهُوَ على كرْسِي وعَلى رَأسه وصيفة بِيَدِهَا غلاف مرْآة والمرآة بِيَدِهِ وَهُوَ يسرح لحيته فَقَالَ لي أَنْشدني فَأَنْشَدته حَتَّى بلغت قولي (لَا يعيق الطّيب خدية ومفرقه ... وَلَا يسمح عَيْنَيْهِ من الْكحل) فَوضع الْمرْآة من يَده وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ انصرفي فقد حرم علينا مُسلم الطّيب والكحل فَلَمَّا فرغت من القصيدة قَالَ لي يَا مُسلم أَتَدْرِي مَا الَّذِي حداني على أَنِّي وجهت إِلَيْك قلت لَا وَالله مَا أَدْرِي فَقَالَ كنت عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لي يَا يزِيد من الَّذِي يَقُول فِيك (سل الْخَلِيفَة سَيْفا من بنى مطر ... يمْضِي فَيقطع الأجساد والهاما) (كالدهر لَا ينثني عَمَّا يهم بِهِ ... قد أوسع النَّاس إنعاما وإرغاما) فَقلت وَالله مَا أَدْرِي فَقَالَ الرشيد يَا سُبْحَانَ الله إِنَّك مُقيم على أعرابيتك أيقال فِيك مثل هَذَا الشّعْر وَلَا تَدْرِي من قَائِله فَسَأَلت ق 56 عَن قَائِله فَأخْبرت أَنَّك هُوَ فَقُمْ حَتَّى أدْخلك على أَمِير الْمُؤمنِينَ ثمَّ قَامَ فَدخل على الرشيد فَمَا علمت حَتَّى خرج الْآذِن عَليّ فَدخلت على الرشيد فَأَنْشَدته مَا لي فِيهِ من الشّعْر فَأمر لي بِمِائَتي ألف دِرْهَم فَلَمَّا انصرفت أَمر لي يزِيد بِمِائَة ألف وَتِسْعين ألف دِرْهَم أُخْرَى وَقَالَ لَا يجوز أَن أُعْطِيك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 مثل مَا أَعْطَاك أَمِير الْمُؤمنِينَ وأقطعني إقطاعات تبلغ غَلَّتهَا مِائَتي ألف دِرْهَم وَرُوِيَ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ كنت عِنْد الْمَأْمُون بِدِمَشْق وَقد كَانَ المَال عِنْده قَلِيلا حَتَّى ضَاقَ وشكا ذَلِك إِلَى أَخِيه أبي إِسْحَاق فَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أمرت بِمَال يحمل إِلَيْك وَهُوَ موافيك بعد جُمُعَة فَلَمَّا ورد المَال من النواحي الَّتِي كَانَ يتولاها وَكَانَ ثَلَاثُونَ ألف ألف قَالَ الْمَأْمُون ليحيى بن أَكْثَم اخْرُج بِنَا نَنْظُر إِلَى هَذَا المَال قَالَ يحيى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فخرجنا حَتَّى أصحرنا ووقفنا ننتظره وَقد هيء بِأَحْسَن هَيْئَة وحليت أَبَا عره وألبست الأحلاس المواشاة والجلال المصبوغة وقلدت العهن فَنظر الْمَأْمُون إِلَى شَيْء استحسنه وَعظم ليحيى فيعينه واستشرف النَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ ويتعجبون مِنْهُ ويستظرفونه فَقَالَ الْمَأْمُون ليحي يَا أَبَا مُحَمَّد ينْصَرف أَصْحَابنَا هَؤُلَاءِ الَّذين نراهم إِلَى مَنَازِلهمْ خائبين وننصرف نَحن بِهَذَا المَال دونهم إِنَّا إِذا للئام ثمَّ دَعَا إِلَى مُحَمَّد بن يزْدَاد وَقَالَ وَقع لفُلَان بِكَذَا وَلفُلَان بِكَذَا فو الله مَا زَالَ كَذَلِك حَتَّى فرق أَرْبَعَة وَعشْرين ألف ألف ثمَّ أَمر أَن يصرف الْبَاقِي فِي عَطاء الْجند وَقيل كَانَ بِالْبَصْرَةِ شَاعِر من بني تَمِيم فَأَرَادَ جَعْفَر بن سُلَيْمَان أَن يتَقَدَّم إِلَى الْمَأْمُون مادحا لَهُ ومعرضا بشر الْوَالِي فَأعْطَاهُ بختيا وَنَفَقَة قَالَ فركبت بخْتِي ومضيت أورم الْعَسْكَر قَاصِدا إِلَيْهِ فَإِذا بكهل على بغل هملاج قد تَلقانِي مُوَاجهَة وَأَنا أردد نشيد أرجوزتي فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا هَذَا بِصَوْت جمهوري ولسان فَصبح فَرددت السَّلَام فَقَالَ لي قف إِن شِئْت فوقفت فتضوعت مِنْهُ رَائِحَة الْمسك والعنبر فَقَالَ لي مِمَّن أَنْت فَقلت رجل من مُضر قَالَ ثمَّ من قلت من بني تَمِيم ثمَّ من بني سعد ثمَّ قَالَ فَمَا أقدمك هَذِه الْبَلَد قلت قصدت هَذَا الْملك الَّذِي مَا سَمِعت بِمثلِهِ قبله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أطول باعا وَلَا أندى رَاحَة مِنْهُ قَالَ فَمَا الَّذِي قصدته بِهِ قلت شعر طيب يلذ على الأفواة وتقتفيه الروَاة ويحلو فِي آذان السامعين قَالَ فأنشدنيه قَالَ فَغضِبت وَقلت لَهُ يَا رَكِيك الْعقل أخْبرك أَنِّي قصدت الْخَلِيفَة بمدح حبرته فِيهِ تَقول أنشدنيه قَالَ وَمَا الَّذِي تَأمل مِنْهُ قلت ألف دِينَار إِن كَانَ على مَا ذكر عَنهُ قَالَ لي فَأَنا أُعْطِيك ألف دِينَار إِن رَأَيْت الشّعْر جيدا وَالْكَلَام غضا وأضع عَنْك العناء والترداد وَمَتى تصل إِلَى الْخَلِيفَة وَبَيْنك وَبَينه عشرَة آلَاف رامح وَسيف فَقلت لَهُ بِاللَّه عَلَيْك أَنْت تفعل قَالَ نعم قلت ومعك السَّاعَة مَا تُعْطِينِي قَالَ لَك الله على أَن أُعْطِيك السَّاعَة ألف دِينَار فَأَنْشَدته أرجوزة فِيهَا (مَأْمُون يَا ذَا المنن الشَّرِيفَة ... وَصَاحب الْمرتبَة المنيفة) (وقائد الكتيبة الكثيفة ... هَل لَك فِي أرجوزة ظريفة) (أطرف من فقه أبي حنيفَة ... لَا وَالَّذِي أَنْت لَهُ خَليفَة) (مَا ظلمت فِي أَرْضنَا ضَعِيفَة ... أميرنا مُؤْنَته خَفِيفَة) (وَالذِّئْب والنعجة فِي سقفه ... واللص والتاجر فِي قطيفه) قَالَ فو الله مَا أتممت إنشادها حَتَّى أقبل عشرَة آلَاف فَارس قد سدوا الْأُفق وهم يَقُولُونَ السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته قَالَ فأخذني وَالله الأفكل يَعْنِي الرعدة ونطر إِلَيّ بِتِلْكَ الْحَال فَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْك ثمَّ الْتفت إِلَى خَادِم نظيف الْوَجْه والملبس كَانَ قَرِيبا مِنْهُ فَقَالَ أعْطه مَا مَعَك فَأخْرج الْخَادِم كيسا وجدت فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار فَقَالَ لي هاك أَيهَا الرجل ثمَّ قَالَ سَلام عَلَيْك وَمضى فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ فَسَأَلت عَنهُ بعد ذَلِك فَقيل لي الْمَأْمُون أَمِير الْمُؤمنِينَ لم يرد أَن يعرفك بِنَفسِهِ لكرم طباعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وخلائقه وَقيل أَن الْمَأْمُون كَانَ فِي مجْلِس ق 57 لَهُ بِدِمَشْق فغناه علوِيَّة (بَرِئت من الْإِسْلَام إِن كَانَ ذَا الَّذِي ... أَتَاك بِهِ الواشون حَقًا كَمَا قَالُوا) (وَلَكنهُمْ لما رأوك سريعة لهجري ... تواصوا بالنميمة واحتالوا) فَقَالَ يَا علوِيَّة لمن هَذَا الشّعْر قَالَ لقَاضِي دمشق فَقَالَ لِأَخِيهِ يَا أَبَا إِسْحَاق أحضرهُ فَلم يكن بأسرع من أَن حضر شيخ قصير مخضوب فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون من تكون قَالَ أَنا فلَان بن فلَان قَالَ أَنْت الَّذِي تَقول الشّعْر قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ونساؤه طَوَالِق وكل شَيْء يملك فِي سَبِيل الله إِن كَانَ قَالَ شعرًا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة إِلَّا فِي زهد ومعاتبة صديق فَقَالَ لِأَخِيهِ أعزله مَا كنت لأولي رِقَاب الْمُسلمين من يبْدَأ فِي هزله من الْإِسْلَام ثمَّ قَالَ لعلوية لَا تقل بَرِئت من الْإِسْلَام وَلَكِن قل حرمت مناي مِنْك وَقَالَ عمَارَة بن عقيل أنشدت الْمَأْمُون قصيدة فَكنت أبتدئ بصدر الْبَيْت وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 يبادرني إِلَى عَجزه فَقلت وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا سَمعهَا مني أحد قبلك فَقَالَ هَكَذَا يَنْبَغِي أَن يكون ثمَّ أقبل عَليّ وَقَالَ أما بلغك أَن عمر بن أبي ربيعَة أنْشد عبد الله بن عَبَّاس قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا (نشط غَدا دَار جيراننا ... ... ... ... ... ... ... ... ) فَقَالَ ابْن عَبَّاس ( ... ... ... ... ... ... ... . . ... وللدار بعد غَد أبعد) حَتَّى أكمل القصيد كلما أنْشد صدر الْبَيْت أكمله ابْن عَبَّاس ثمَّ قَالَ أَنا ابْن ذَلِك وَقَالَ ابْن الْمبرد قَالَ لي عمَارَة قَالَ عبد الله بن أبي السمط يَا عمَارَة مَا علمت أَن الْمَأْمُون لَا يبصر الشّعْر قلت لَهُ وَمن أَفرس مِنْهُ فِيهِ أَنا أنشدته الْبَيْت فيسبقنا إِلَى عَجزه من أَن يكون سَمعه قَالَ إِنِّي أنشدته بَيْتا أَجدت فِيهِ فَلم يحركه قلت وَمَا هُوَ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 (أضحى إِمَام الْهوى الْمَأْمُون مشتغلا ... بِالدّينِ وَالنَّاس بالدنيا قد اشتغلوا) فَقلت مَا صنعت شَيْئا مَا زِدْت على أَن جعلته عجوزا فِي مِحْرَابهَا مسبحتها فِي يَدهَا فَمن يقوم بِأَمْر الدُّنْيَا إِذا كَانَ مَشْغُولًا عَنْهَا هلا هلا قلت كَمَا قَالَ جرير فِي عمر بن الْعَزِيز (فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مضيع نصِيبه ... وَلَا عرض الدُّنْيَا عَن الدّين شاغله) وَجَاءَت امْرَأَة إِلَى الْمَأْمُون فَقَالَت (يَا خير منتصف يهدي بِهِ الرشد ... وَيَا إِمَامًا بِهِ قد أشرق الْبَلَد) (تَشْكُو إِلَيْك عميد الْخلق أرملة ... غَدا عَلَيْهَا فَلم يتْرك لَهَا لبد) (وابتز مِنْهَا ضيَاعًا منعتها ... ظلما وَفرق مِنْهَا الْأَهْل والبلد) فأجابها وَقَالَ (فِي دون مَا قلت زَالَ الصَّبْر وَالْجَلد ... عني وأقرح مني الْقلب والكبد) (هَذَا أَوَان صَلَاة الْعَصْر فانصرفي ... وأحضري الْخصم فِي الْيَوْم الَّذِي أعد) (والمجلس السبت أَن يقْضى الْجُلُوس لنا ... أنصفك مِنْهُ وَإِلَّا الْمجْلس الْأَحَد) فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد جلس فَجَاءَتْهُ فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَرد وَقَالَ أَيْن خصمك قَالَت وَاقِف على رَأسك وأومأت إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الْعَبَّاس ابْنه فَقَالَ لِأَحْمَد بن أبي خَالِد خُذ بِيَدِهِ وَأَجْلسهُ مَعهَا فَفعل فَجعل كَلَامهَا يَعْلُو كَلَامه فَقَالَ لَهَا أَحْمد بن خَالِد يَا أمة الله إِنَّك بَين يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ وتكلمين الْأَمِير فاخفضي من صَوْتك فَقَالَ الْمَأْمُون دعها يَا أَحْمد فَإِن الْحق أنطقها وَالْبَاطِل أخرسه ثمَّ قضى على ابْنه وَمن شعر الْمَأْمُون (بَعَثْتُك مرتادا ففزت بنظرة ... وأغفلتني حَتَّى أَسَأْت بك الظنا) (فناجيت من أَهْوى وَكنت مباعدا فيل لَيْت شعري عَن دنوك مَا أغنا) (أرى أثرا مِنْهَا بِعَيْنَيْك لم يكن ... لقد سرقت عَيْنَاك من عينيها حسنا) وَله أَيْضا (أَن تشق عَيْني بهَا فقد سعدت ... عين رَسُولي وفزت بالْخبر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 (وَكلما جَاءَنِي الرَّسُول بهَا ... رددت عمدا فِي طرفه نَظَرِي) (يظْهر فِي وَجهه محاسنها ... قد أثرت فِيهِ أحسن الْأَثر) (خُذ مقلتي يَا غُلَام عَارِية ... فَانْظُر بهَا واحتفظ على بَصرِي) ق 58 واعتل الْفضل بن سهل فَتَأَخر فِي بَيته فوردت عَلَيْهِ رقْعَة من الْمَأْمُون بِخَطِّهِ يسْأَله عَن حَاله وَفِي آخرهَا (كَيفَ أَصبَحت بالسلامة يَا فضل وبالخير رَبنَا مساكا) (لَا أَرَانِي الْإِلَه فقدك يَا فضل ... وعافاك عَاجلا وشفاكا) (فقد أردْت الْمَجِيء إِذْ غلب الشوق ... وقلبي لَو يَسْتَطِيع أتاكا) (فتذكرت عِنْد ذَاك بِأَنِّي ... لست أَسْتَطِيع أَن أَرَاك كذاكا) (فَأَيْنَ يَا وَقت فِيك حذَارِي ... كَيفَ أَنْت الْغَدَاة من شكواكا) بَاب فِي خطيه ومناقبه قيل خطب يَوْم جُمُعَة فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي استخلص الْحَمد لنَفسِهِ واستوجبه على خلقه أَحْمَده وَأَسْتَعِينهُ وَأُؤْمِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّل عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ واشهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ أوصيكم عباد الله بتقوى الله وَالْعَمَل لما عِنْده والإنجاز لوعده وَالْخَوْف من وعيده فَإِنَّهُ لم يسلم إِلَّا من اتَّقَاهُ وخافه ورجاه وَعمل لَهُ وأرضاه فَاتَّقُوا الله عباد الله وَبَادرُوا آجالكم بأعمالكم وابتاعوا مَا يبْقى لكم بِمَا يَزُول عَنْكُم وترحلوا سرَاعًا فقد جد بكم الرحيل واستعدوا للْمَوْت فقد أضلكم مَا تحذرون وَكُونُوا قوما صِيحَ بهم فانتبهوا وَعَلمُوا أَن الدُّنْيَا لَيست لَهُم بدار فاستبدلوا فَإِن الله عز وَجل لم يخلقكم عَبَثا وَلم يترككم سدى وَمَا بَين أحدكُم وَالْجنَّة أَو النَّار إِلَّا الْمَوْت أَن ينزل بِهِ وَأَن غَايَة تنقصها اللحظة وتهدمها السَّاعَة لجديرة بقصر الْمدَّة وان غَائِبا يحدوه الجديدان لحري بِسُرْعَة الأوبة وَإِن قادما يحل بالفوز أَو الشقوة لمستحق لأَفْضَل الْعدة فاتقى عبد ربه ونصح نَفسه وَقدم تَوْبَته وَغلب شَهْوَته فَإِن أَجله مَسْتُور عَنهُ وأمله خاذله والشيطان مُوكل بِهِ يزين لَهُ الْمعْصِيَة ليرْكبَهَا ويمنيه التَّوْبَة ليسوفها حَتَّى تهجم عَلَيْهِ منيته أغفل مَا يكون عَنْهَا فيالها حسرة على ذِي غَفلَة أَو يكون عمره عَلَيْهِ حجَّة أتؤديه أَيَّامه إِلَى شقوة نسْأَل الله أَن يجعلنا وَإِيَّاكُم مِمَّن لَا تبطره نعْمَة وَلَا تقصر بِهِ عَن طَاعَته غَفلَة وَلَا تحل بِهِ بعد الْمَوْت حسرة إِنَّه سميع الدُّعَاء وَبِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ فعال لما يُرِيد وخطب يَوْم الْأَضْحَى فَقَالَ بعد التَّكْبِيرَات الأول والتحميد وَالصَّلَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْوَصِيَّة بتقوى الله عز وَجل إِن يومكم هَذَا يَوْم أبان الله عز وَجل فَضله وَأوجب تشريفه وَعظم حرمته ووفق لَهُ من خلقه صفوته وابتلى فِيهِ خَلِيله وفدى فِيهِ من الذّبْح نبيه وَجعله خَاتم الْأَيَّام المعلومات من الْعشْر ومقدم الْأَيَّام المعدودات من النَّفر يَوْم حرَام من أَيَّام عِظَام فِي شهر حرَام يَوْم الْحَج الْأَكْبَر وَيَوْم دَعَا الله عز وَجل إِلَى مشهده وَنزل الْقُرْآن بتعظيمه قَالَ عز وَجل {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر يَأْتِين من كل فج عميق} فتقربوا إِلَى الله فِي هَذَا الْيَوْم بذبائحكم وعظموا شَعَائِر الله واجعلوها من أطيب أَمْوَالكُم وبصحة التَّقْوَى من قُلُوبكُمْ فَإِنَّهُ يَقُول عز وَجل {لن ينَال الله لحومها وَلَا دماؤها وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم} الْآيَة ثمَّ قَالَ بعد التَّحْمِيد وَالتَّكْبِير وَذكر الْجنَّة وَالنَّار الله الله فوَاللَّه إِنَّه الْجد لَا اللّعب وَإنَّهُ الْحق لَا الْكَذِب وَمَا هُوَ إِلَّا الْمَوْت والبعث وَالْمِيزَان والحساب وَالْقصاص والصراط ثمَّ الثَّوَاب وَالْعِقَاب من نجا يَوْمئِذٍ فقد فَازَ وَمن هوى يَوْمئِذٍ فقد خَابَ الْخَيْر كُله فِي الْجنَّة وَالشَّر كُله فِي النَّار وخطب يَوْم الْفطر فَقَالَ بعد التَّكْبِير أَلا وَأَن يومكم هَذَا يَوْم عيد وَسنة وابتهال ورغبة يَوْم ختم الله فِيهِ صِيَام شهر رَمَضَان وافتتح بِهِ حج بَيته الْحَرَام فَجعله خَاتمًا للشهر وَأول شهور الْحَج وَجعله معقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الْمَفْرُوض من صِيَامكُمْ ومتنفل ق 59 قيامكم أحل فِيهِ الطَّعَام لكم وَحرم فِيهِ الصّيام عَلَيْكُم فَاطْلُبُوا إِلَى الله عز وَجل حَوَائِجكُمْ واستغفروه لتفريطكم فَإِنَّهُ يُقَال لَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار وَلَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار فَاتَّقُوا الله عباد الله وَبَادرُوا الْأَمر الَّذِي فِيهِ عدل بَيْنكُم وَلم يحتضر الشَّك فِيهِ أحد مِنْكُم وَهُوَ الْمَوْت الْمَكْتُوب عَلَيْكُم وَإنَّهُ لَا يُقَال بعده عَثْرَة وَلَا تقبل عِنْده تَوْبَة وَاعْلَمُوا أَنه لَا شَيْء قبله إِلَّا دونه وَلَا شَيْء بعده إِلَّا فَوْقه على غصصه وعلزه وكربه وَلَا يعين على الْقَبْر وظلمته ووحشته وضيقه وهول مطلعه ومساءلة مَلَائكَته إِلَّا الْعَمَل الصَّالح الَّذِي أَمر الله عز وَجل بِهِ فَمن زلت عِنْد الْمَوْت قدمه فقد ظَهرت ندامته وفاتت استقالته ودعا من الرّجْعَة بِمَا لَا يُجَاب إِلَيْهِ وبذل من الْفِدْيَة مَا لَا يقبل مِنْهُ فَالله الله عباد الله وَكُونُوا قوما سَأَلُوا الرّجْعَة فأعطوها إِذْ منعهَا الَّذين طلبوها فَإِنَّهُ لَيْسَ يتَمَنَّى المتمنون قبلكُمْ إِلَّا هَذَا الْمهل الْمَبْسُوط لكم واحذروا مَا حذركُمْ الله عز وَجل وَاتَّقوا الْيَوْم الَّذِي يجمعكم الله فِيهِ لوضع موازينكم وَنشر صحفكم الحافظة لأعمالكم فَلْينْظر عبد مَا يضع فِي مِيزَانه مِمَّا يثقل بِهِ وَمَا يمل فِي صَحِيفَته الحافظة لَهُ وَعَلِيهِ فقد حكى الله عز وَجل لكم مَا قَالَ المفرطون عِنْدهَا إِذْ طَال إعراضكم عَنْهَا وَهُوَ قَوْله عز وَعلا {وَوضع الْكتاب فترى الْمُجْرمين مشفقين مِمَّا فِيهِ} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا} الْآيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وَلست أنهاكم من الدُّنْيَا بأعظم مِمَّا نهتكم بِهِ الدُّنْيَا عَن نَفسهَا فَإِنَّهُ كل مَالهَا ينْهَى عَنْهَا وكل مَا فِيهَا يَدْعُو إِلَى غَيرهَا وَأعظم مِمَّا رَأَتْهُ عيونكم من عجائبها ذمّ كتاب الله عز وَجل لَهَا وَنهي الله جلّ ثَنَاؤُهُ عَنْهَا فَإِنَّهُ يَقُول تبَارك وَتَعَالَى {فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} وَقَالَ {إِنَّمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو} الْآيَة فانتفعوا بمعرفتكم وبإخبار الله عز وَجل عَنْهَا وَاعْلَمُوا أَن قوما من عباد الله أدركتهم عصمَة الله فحذروا مصرعها وجانبوا خدائعها وآثروا طَاعَة الله تبَارك وَتَعَالَى فِيهَا فأدركوا الْجنَّة بِمَا تركُوا مِنْهَا وَرُوِيَ عَن وَاقد بن جمد الْوَاقِدِيّ عَن أَبِيه أَنه رفع إِلَى الْمَأْمُون يذكر فِيهِ دينه وَقلة صبره عَلَيْهِ فَوَقع الْمَأْمُون على ظهر الرقعة إِنَّك رجل اجْتمع فِيك خصلتان سخاء وحياء أما السخاء فَهُوَ الَّذِي أطلق مَا فِي يدك وَأما الْحيَاء فَهُوَ الَّذِي يمنعك تبليغنا مَا أَنْت فِيهِ وَقد أمرت لَك بِمِائَة ألف دِرْهَم فَإِن كنت قد أصبت فازدد فِي بسط يدك وَإِن لم تصب فجنايتك على نَفسك وَأَنت حَدثنِي وَكنت على قَضَاء الرشيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للزبير بن الْعَوام يَا زبير اعْلَم أَن مَفَاتِيح أرزاق الْعباد بِإِزَاءِ الْعَرْش يبْعَث الله إِلَى كل عبد بِقدر نَفَقَته فَمن كثر كثر الله عَلَيْهِ وَمن قلل قلل الله عَلَيْهِ وَأَنت أعلم قَالَ الْوَاقِدِيّ فوَاللَّه لمذاكرة الْمَأْمُون إيَّايَ الحَدِيث أحب إِلَيّ من الْجَائِزَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 قَالَ يحي بن أَكْثَم القَاضِي تغدينا فِي يَوْم عيد عَن الْمَأْمُون فظننته أَنه وضع على الْمَائِدَة أَكثر من ثَلَاثمِائَة لون فَكلما وضع لون نظر إِلَيْهِ فَيَقُول هَذَا نَافِع لكذا وضار من كَذَا فَمن كَانَ صَاحب صفراء فَليَأْكُل من هَذَا وَمن غلب عَلَيْهِ السَّوْدَاء فَلَا يَأْكُل من هَذَا وَمن أحب الزِّيَادَة فِي لَحْمه فَليَأْكُل من هَذَا فوَاللَّه مازال يَقُول كَذَا فِي كل لون حَتَّى رفعت الْمَائِدَة فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن خضنا فِي الطِّبّ كنت جالينوس فِي مَعْرفَته وَإِن تكلمنا فِي النُّجُوم كنت هرمسا فِي حسابه أَو فِي الْفِقْه كنت عليا بن أبي طَالب صلوَات الله عَلَيْهِ فِي علمه فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد أَيْن فضل الْإِنْسَان على غَيره من الْحَيَوَان إِنَّمَا هُوَ بعقله وَلَوْلَا تفاضل الْعُقُول لتساوى النَّاس قَالَ يحي بن أَكْثَم كَانَ الْمَأْمُون يجلس للنَّاس فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ق 60 للمناظرة فَإِذا حضر الْفُقَهَاء وَمن يناظر من أهل المقالات ادخُلُوا حجرَة مفروشة وَقيل انزعوا أخفافكم وأحضرت الموائد وَقيل أصيبوا من الطَّعَام وجددوا الْوضُوء وَمن ثقلت عَلَيْهِ قلنسوته فليضعها فَإِذا فرغوا أَتَوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 بالمجامر وتطيبوا ثمَّ خَرجُوا إِلَيْهِ فاستدناهم حَتَّى يقربُوا مِنْهُ فيناظرهم أحسن مناظرة وأنصفها وأبعدها عَن مناظرة المتجبرين فَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى أَن تَزُول الشَّمْس ثمَّ يقوم إِلَى الصَّلَاة فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْم جَالس إِذْ دخل عَلَيْهِ عَليّ بن صَالح حَاجِبه فَقَالَ إِن فِي الْبَاب رجلا عَلَيْهِ ثِيَاب غِلَاظ مشمرة يطْلب الدُّخُول للمناظرة قَالَ ائْذَنْ لَهُ فَدخل وَنَعله فِي يَده فَوقف على طرف الْبسَاط وَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَقَالَ الْمَأْمُون وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته قَالَ أتأذن فِي الدنو مِنْك قَالَ نعم فَدَنَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَجَلَسَ فَقَالَ أتأذن فِي كلامك قَالَ تكلم قَالَ أَخْبرنِي عَن هَذَا الْمجْلس الَّذِي أَنْت فِيهِ جَالس أجلسته بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَاخْتِيَار لَك ورضى بك أم بالمغالبة لَهُم وَالْقُوَّة عَلَيْهِم بسلطانك قَالَ الْمَأْمُون لم أجلسه بِوَاحِد مِنْهُمَا وَلَكِن كَانَ يتَوَلَّى عَلَيْهِم سُلْطَان قبلي احتمله إِمَّا على رضى مِنْهُم وَإِمَّا على كره فعقد لي ولَايَة الْأَمر بعده بِاتِّفَاق من حضر من الْمُسلمين فأعطوا ذَلِك إِمَّا طائعين وَإِمَّا كارهين فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَيّ علمت أَنِّي مُحْتَاج إِلَى إِجْمَاع كَافَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الْمُسلمين فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا على الرضى بِي ثمَّ نظرت فَرَأَيْت أَنِّي مَتى تخليت عَن هَذَا الْأَمر اضْطربَ الْمُسلمُونَ وَغلب على النَّاس الْهَرج والفتنة وَوَقع التَّنَازُع فتعطلت أَحْكَام الله وَلم يخذ لمظلوم من ظَالِم وانقطعت السبل وَلم يحجّ بِبَيْت الله وَلم يُجَاهد فِي سَبيله إِذْ لم يكن سُلْطَانا يجمعهُمْ ويسوسهم فَقُمْت بِهَذَا الْأَمر حياطة للْمُسلمين إِلَى أَن يجْتَمع الْمُسلمُونَ على رجل تتفق كلمتهم على الرضى بِهِ وَأسلم الْأَمر إِلَيْهِ وأكون أَنا كَرجل من الْمُسلمين وَأَنت أَيهَا الرجل رَسُولي إِلَى جَمِيع الْمُسلمين بِهَذَا فَقَامَ وَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته قَالَ فَأمر الْمَأْمُون عَليّ بن صَالح أَن يُوَجه من يتبعهُ حَتَّى يعلم أَيْن يقْصد فَفعل ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ مضى إِلَى مَسْجِد فِيهِ جمَاعَة على هَيئته وزيه فَقَالُوا لقِيت الرجل قَالَ نعم وقص عَلَيْهِم الْقِصَّة فَقَالُوا مَا نرى فِي هَذَا بَأْسا وافترقوا فَأقبل الْمَأْمُون على يحي بن أَكْثَم وَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد قد كفينا مُؤنَة هَؤُلَاءِ بأيسر خطب قَالَ ابْن أَكْثَم مَا رَأَيْت وَلَا سَمِعت بأكرم من الْمَأْمُون وَأخذ فِي الحَدِيث عَنهُ قَالَ بت عِنْده لَيْلَة فانتبه فِي اللَّيْل فظنني نَائِما فَجعلت أراعيه وَقد عَطش فَلم يدع بالغلام لِئَلَّا ينبهني فَقَامَ متسللا حافيا يُقَارب الخطو حَتَّى أَتَى البرادة فَتَنَاول كوزا مِنْهَا فَشرب ثمَّ رَجَعَ يخفي وَطئه كَأَنَّهُ لص حَتَّى اضْطجع فِي مضجعه وَأَخذه سعال فرأيته يَجْعَل كمه فِي فِيهِ لِئَلَّا أسمع سعاله فانتبه وطلع الْفجْر وَأَرَادَ الْقيام وَقد تناومت غلى أَن كَادَت الصَّلَاة تفوت فتحركت فَقَالَ الله أكبر يَا غُلَام هَات نعل أبي مُحَمَّد فَقلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن بعيني جَمِيع مَا كَانَ اللَّيْلَة من صنعك وَلذَلِك جعلكُمْ الله لنا موَالٍ وَجَعَلنَا لكم عبيدا قَالَ وَلَقَد سايرته يَوْمًا إِلَى الْبُسْتَان فحاذيته من جِهَة الشَّمْس لأستره مِنْهَا فَلَمَّا عَاد فِي طَرِيقه دَار فِي الْموضع الَّذِي كنت فِيهِ وَقَالَ من حق المسايرة أَن آخذ بِنَصِيب الشَّمْس كَمَا أخذت أَنْت مِنْهَا فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو قدرت أَن أقيك هول المطلع لفَعَلت فَقَالَ لَا بُد فسترني من الشَّمْس حَتَّى عدنا قَالَ وَكَانَ ابْن أبي خَالِد يعرض الْكتب بَين يَدَيْهِ فَجَاءَتْهُ عطسة شَدِيدَة ق 61 فَأدْخل وَجهه فِي كمه وكتمها فَكَادَتْ تَأتي على نَفسه وفطن الْمَأْمُون لَهُ فَقَالَ يَا أَحْمد بئس مَا صنعت بِنَفْسِك إِنَّا لَا نحمد أحدا على هَذِه الخطة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا سَمِعت لأحد من الْمُلُوك بِمِثْلِهَا فَقَالَ الْمَأْمُون بلَى أَرَادَ الأبرش أَن يعمم سُلَيْمَان بن عبد الْملك فَقَالَ إِنَّا لَا نتَّخذ الإخوان خولا قَالَ يحي بن أَكْثَم وتوضأت يَوْمًا عِنْده فَلَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أتيت بِالْوضُوءِ إِذا بالإبريق لَهُ أنبوب طَوِيل نَحْو أَربع أَذْرع فَجعلت أتعجب مِنْهُ وأدير فِيهِ الْفِكر وَأحد النّظر فَقَالَ لي الْمَأْمُون عِنْد ذَلِك يَا أَبَا مُحَمَّد كَأَنَّك تعجب من طوله قلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ إِن هَذَا الْغُلَام قد اعْتَادَ أَن يوضئني وَله صُحْبَة قديمَة وَهُوَ يَأْكُل البصل كثيرا فنهيته عَنهُ غير مرّة فَلم ينْتَه فَأمرت بِعَمَل هَذَا لِئَلَّا أقطعه من شَهْوَته وأتباعد عَن رَائِحَته وَرُوِيَ أَن دعبلا هجاه فَقَالَ (ويسومني الْمَأْمُون خطة عَارِف ... أَو مَا رأى بالْأَمْس رَأس مُحَمَّد) (يُوفى على رُؤُوس الْخَلَائق مِثْلَمَا ... يُوفى الْجبَال على رُؤُوس القردد) (إِنِّي من الْقَوْم الَّذين هم هم ... قتلوا أَخَاك وشرفوك بمقعد) (شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد) فَبَلغهُ ذَلِك فَقَالَ قبحه الله مَا أبهته مَتى كنت خاملا وَمن حجر بالخلافة درجت وبدرها غذيت وظفر بِهِ بعد ذَلِك فَعَفَا عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وَلما حبس يحي بن أبي خَالِد كتبت إِلَيْهِ أم ولد لَهُ أَن جَمِيع أُمَّهَات أولادك قد نالوا فضل أيامك سواي فَوَقع لَهَا قد أَعدَدْت لَك الْفضل بن سهل فَلَمَّا ورد الْفضل بن سهل فَلَمَّا ورد الْفضل بن سهل وَبلغ مَا بلغ دفعت الْجَارِيَة توقيع يحي بن خَالِد إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ بَكَى وَأمر لَهَا بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَقَالَ إِذا فني مِنْك فطالعينا قَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد مَا رَأَيْت مثل الْفضل بن سهل أَصْبِر على الْجُلُوس وَلَا أقوى على كتاب وَلَا أنزه نفسا وَلَا أَشد ارتفاعا عَن الدُّنْيَا وَلَا أطلب لجميل الذّكر وَحسن الأحدوثة مِنْهُ مَا جمع مَالا قطّ وَلَا ادخره وَكَانَ يلبس من ثِيَاب الْمَأْمُون ويركب من دوابه وَمَا وجد لَهُ يَوْم قتل شَيْء وَكَانَ الْفضل بن سهل فِي الْحمام وهجم عَلَيْهِ جمَاعَة من غلْمَان الْمَأْمُون فَقَتَلُوهُ فِيهِ فارتفعت الضجة وَركب الْمَأْمُون إِلَى الْحمام حَتَّى وقف على بَاب الْحمام فَأخْرج الْفضل فَنزل الْمَأْمُون فَوَقع عَلَيْهِ وَقبل وَجهه وَهُوَ يبكي وَمَشى الْمَأْمُون من الْحمام إِلَى الدَّار ثمَّ وقف عَلَيْهِ حَتَّى غسل وكفنه بِيَدِهِ وحنطه وَركب حَتَّى صلى عَلَيْهِ وغلبته الْعبْرَة حَتَّى ارْتَفع صَوته فَلَمَّا انْصَرف طلب قاتليه فَقَتلهُمْ ثمَّ الْتفت إِلَى عَليّ بن مُوسَى الرضى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لقد أَصبَحت وَالله بعد فقد ذِي الرياستين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 بِمَنْزِلَة رجل فِي فلاة إِن دهمه اللَّيْل خَافَ من السبَاع وَإِن وافاه نَهَار خَافَ الْعَدو وَهُوَ مَا بَين معدم من الزَّاد وَجعل يبكي وَأخذ بيد عَليّ بن مُوسَى الرضى وَدخل على أم الْفضل يعزيها فَقَالَ أتجزعين يَا أمة وَقد خلف لَك ذُو الرياستين ابْنا فَقَالَت كَيفَ لَا أجزع على من جعلك ابْني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 رَجعْنَا إِلَى الْكتاب قَالَ دخل أَبُو إِسْحَاق المعتصم على الْمَأْمُون فَقَالَ لَهُ إِن عبد الله بن طَاهِر يمِيل إِلَى ولد عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه فَدفع الْمَأْمُون ذَلِك وَأنْكرهُ ثمَّ عَاد إِلَيْهِ يمثل ذَلِك فَدس الْمَأْمُون إِلَيْهِ رجلا وَقَالَ لَهُ امْضِ إِلَى عماله عبد الله بن طَاهِر إِلَى مصر على هَيْئَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الناسك فَادع أَهلهَا إِلَى الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن طَبَاطَبَا الْعلوِي وَاذْكُر مناقبه وَعلمه ثمَّ إئت عبد الله بن طَاهِر فَادعه ورغبه وابحث لي عَن دَفِين نِيَّته بحثا شافيا وجئني بِمَا تسمع مِنْهُ فَأتى الرجل مصر فَدَعَا جمَاعَة من الرؤساء وَقعد لعبد الله بن طَاهِر فَلَمَّا انْصَرف من مركبه قَامَ إِلَيْهِ فَأخْرج رقْعَة من كمه فَدَفعهَا إِلَيْهِ وَأدْخلهُ عَلَيْهِ فَقَالَ هَات مَا عنْدك قَالَ بِأَمَان مِنْك قَالَ نعم فأظهر لَهُ مَا أَرَادَ وَدعَاهُ إِلَى الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام واخبره بفضائله وَعلمه وزهادته فَقَالَ عبد اله بن طَاهِر أتنصفني قَالَ نعم قَالَ هَل يجب شكر الله على الْعباد قَالَ نعم قَالَ فَهَل يجب شكر بَعضهم لبَعض على الْإِحْسَان قَالَ نعم قَالَ فتجيء إِلَيّ وَأَنا فِي هَذِه الْحَال الَّتِي ترَاهَا ينفذ خَاتمِي من أقْصَى الشرق إِلَى أقْصَى الغرب مَا ألتفت يَمِيني وَلَا شمَالي وَلَا قدامي وَلَا خَلْفي إِلَّا رَأَيْت منَّة مِنْهُ ونعمة عَليّ ختم بهَا رقبتي فتدعوني إِلَى الْكفْر بِهَذِهِ النِّعْمَة وَتقول لي اغدر بِمن ولاك هَذَا كُله وأسعى فِي إِزَالَة ملكه فَسكت الرجل فَقَالَ لَهُ عبد الله بن طَاهِر قد بَلغنِي خبرك وَبِاللَّهِ مَا أَخَاف عَلَيْك إِلَّا نَفسك فارحل عَن هَذَا الْبَلَد فَإِن الْخَلِيفَة إِن بلغه أَمرك كنت الْجَانِي على نَفسك فَرَحل من وقته حَتَّى وافى الْمَأْمُون فَأخْبرهُ بِمَا سمع من عبد الله بن طَاهِر فَاسْتَبْشَرَ بِهِ وَقَالَ ذَلِك غرس يَدي ونشو أدبي فَلم يظْهر لأحد من ذَلِك شَيْء إِلَّا بعد موت الْمَأْمُون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وَقيل اجتاز عبد الله بن طَاهِر بالرقة بمنزل العتابي فَقَالَ أَلَيْسَ هَذَا بمنزل كُلْثُوم قيل بلَى فَثنى رجله وَدخل عَلَيْهِ فألفاه جَالِسا فِي بَيت كتبه فحادثه وذاكره وَانْصَرف وتحدث النَّاس فِي ذَلِك فَقَالُوا إِن الْأَمِير لم يَقْصِدهُ وَإِنَّمَا اجتاز بِهِ فأخطر بِتِلْكَ الزِّيَارَة فَكتب إِلَيْهِ (يَا من أفادتني زيارته ... بعد الخمول نباهة الذّكر) (قَالُوا الزِّيَارَة خطرة عرضت ... وبحار برك لَيْسَ بالخطر) (فادفع مقالتهم بثانية ... تستنفذ المجهود من شكري) (لَا تجعلن الْوتر وَاحِدَة ... إِن الثَّلَاث تَتِمَّة الْوتر) فَبَعثه الأبيات إِلَى أَن زار ثَلَاثًا وَحدث صَالح بن عَليّ وَكَانَ من وُجُوه الْكتاب قَالَ طَالَتْ بِي العطلة وَبلغ بِي ذَلِك أعظم الْحَاجة فبكرت ق 63 يَوْمًا إِلَى أَحْمد بن أبي خَالِد الْوَزير لأعلمه بجليل أحوالي وأسأله لم شعثي فَخرج من بَابه وَبَين يَدَيْهِ قَاصِدا بَاب الْمَأْمُون فَلَمَّا نظر إِلَيّ أنكر بكوري وَعَبس فِي وَجْهي وَقَالَ فِي الدُّنْيَا أحد بكر هَذَا البكور ليشغلنا قَالَ فَقلت لَيْسَ الْعجب مِنْك أصلحك الله فِيمَا لقيتني بِهِ إِنَّمَا الْعجب مني إِذا سهرت لَيْلَتي وأسهرت جَمِيع أَهلِي يرقبون الصُّبْح حَتَّى أصير إِلَيْك فِي صَلَاح أحوالي بعد وُقُوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الِاخْتِيَار عَلَيْك فِيمَا آمله عنْدك وَلَكِن عَليّ وَعلي أَن وقفت لَك بِبَاب أَو سَأَلتك حَاجَة إِلَى أَن تصير إِلَيّ معتذرا مِمَّا لقيتني بِهِ وانصرفت مغموما مفكرا فِيهِ نَادِما على مَا فرط مني من الْيَمين آيسا من الْفرج لاستبعاد مَجِيء الْوَزير إِلَيّ واعتذاره مني رَاجعا على نَفسِي باللوم فَإِنِّي لكذلك إِذْ دخل عَليّ بعض الغلمان فَقَالَ إِن الْوَزير أَحْمد بن أبي خَالِد آخِذا فِي شارعنا وَدخل آخر فَقَالَ إِنَّه دخل دربنا وَدخل ثَالِث فَقَالَ إِنَّه أقرب من دَارنَا ثمَّ دخل رَابِع فَقَالَ إِنَّه دخل دَارنَا فَخرجت مُسْتَقْبلا لَهُ فَلَمَّا اسْتَقر بِهِ الْمجْلس قَالَ لي كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَمرنِي بالبكور إِلَيْهِ فِي بعض مهماته فَدخلت إِلَيْهِ وَقد غلبني الْهم وَالْغَم بِمَا فرط مني إِلَيْك حَتَّى أنكر حَالي فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة فَقَالَ قد أَسَأْت إِلَى الرجل وَلَا عَلَيْك أَن تعتذر إِلَيْهِ فَامْضِ إِلَيْهِ فارغ الْيَد قَالَ فتريد مَاذَا قلت تقضي دينه قَالَ وَكم ذَلِك قلت مائَة ألف دِرْهَم فَأمرنِي بالتوقيع لَك بهَا قلت فَإِذا قضى دينه فَيرجع إِلَيّ مَاذَا قَالَ فَوَقع لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم أُخْرَى يصلح بهَا حَاله قلت فولاية يشرف بهَا قَالَ لَهُ مصر أَو غَيرهَا أَو مَا يشبهها قلت فمعونة يَسْتَعِين بهَا على سَفَره فَأمر بِأَن يُوقع لَك بِمِائَة ألف دِرْهَم وَهَذِه التوقيعات لَك بِكُل ذَلِك فنثرها وَانْصَرف وَقَالَ مُحَمَّد بن عباد المهلبي دخل أبي على الْمَأْمُون فوصله بِمِائَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ألف دِرْهَم فَلَمَّا قَامَ من عِنْده تصدق بهَا فَأخْبر الْمَأْمُون بذلك فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ عاتبه فِي ذَلِك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ منع الْجُود سوء ظن بالمعبود فوصله بِمِائَتي ألف دِرْهَم وأنهى إِلَى المعتصم أَن الْحسن بن سهل قد أضَاف إِلَى ضيَاعه الَّتِي أقطعها ضيَاعًا كثيرا خَرَاجِيَّة فتكرم المعتصم أَن يَأْمر بمناظرته دون سَائِر أَصْحَاب الإقطاعات فَأمر بكشف الإقطاعات كلهَا فَدخل الْحسن بن سهل لما بلغ إِلَيْهِ ذَلِك عَن المعتصم فَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا كَانَت لي ضيَاع وَلَا لأبي من قبلي وَلَكِن هِيَ نعمتكم الَّتِي أنعمتم بهَا عَليّ وَقد رددت جَمِيعهَا إِلَى أَيدي عُمَّال أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا كَانَ لي فِيهَا ملكا فأمير الْمُؤمنِينَ مِنْهُ فِي حل وَلَا أكون سَببا لهلاك النَّاس وضررهم فاستحيا المعتصم وغض طرفه وَقَالَ لَا أكشف إقطاعاتك وَلَا إقطاعات غَيْرك وَلم يزل على بر وإكرام وَقَالَ أَحْمد بن أبي دَاوُود القَاضِي مَا رَأَيْت أجمع لفضيلة وَلَا أوصل لرحم وَلَا أرق قلبا على ذِي حَاجَة وأصدق وأوفى بقول واكظم لغيظ وأعفى عَن مسيء وَأَشد تفقدا للصاحب وَالْخَادِم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وَأَشْجَع قلبا وَأحسن سياسة من المعتصم فَأَما صلته للرحم فَكَانَ إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي أعدى خلق الله لَهُ وأشدهم اسْتِخْفَافًا فِي أَيَّام الْمَأْمُون وَكَانَ الْمَأْمُون زوج المعتصم لبابه بنت إِبْرَاهِيم فمنحه وَقَالَ لَا أرضاه لَهَا فَلَمَّا صَارَت إِلَيْهِ الْخلَافَة بره وآثره وَكَانَ أحضى النَّاس عِنْده وَقَالَ المعتصم يَا أَبَا عبد الله لقد كنت ألْقى من جمَاعَة فِي أَيَّام الْمَأْمُون كل مَا أكره ويذكرونني لَهُ بِأَسْوَأ الذّكر وَيَقُولُونَ فِي أقبح القَوْل فَظَنَنْت أَنِّي مَتى قدرت عَلَيْهِم لم أبق على أحد مِنْهُم وَكَانَ أَشَّدهم قصدا ق 64 لمكروهي وعيي إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَكَانَ يذكرنِي بالقبح إِذا غبت وينتقصني إِذا حضرت ويحكي كَلَامي فِي مجْلِس الْمَأْمُون ويهجوني بأقبح الهجاء حَتَّى هَمَمْت مرّة بعد أُخْرَى أَن أفتك بِهِ فِي مجْلِس الْمَأْمُون فأقطعه إربا إربا فَلَمَّا قدرت وَصَارَ إِلَى السُّلْطَان ذهبت الحفيظة من قلبِي عَلَيْهِ وعَلى أَمْثَاله مِمَّن تقدّمت إساءته فَرَأَيْت الْعَفو عَنْهُم أحسن من الْمُكَافَأَة وأنفع فِي الْآخِرَة وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي لما ولي المعتصم وَالله لقد ظَنَنْت أَنه يَأْمر بِضَرْب عنقِي إِذا وَقعت عينه عَليّ وَلَو أمكنني الْهَرَب مِنْهُ لهربت فَمَا دخلت عَلَيْهِ يَوْمًا إِلَّا جدد بشرا وإكراما وَلَا خرجت إِلَّا بصلَة وخلع وحملان وَقَالَ ابْن أبي دَاوُود وَكَانَ مُحَمَّد بن قَاسم الْعلوِي خرج عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 بخراسان فَحَمله عبد الله بن طَاهِر فِي الْحَدِيد إِلَى حَضْرَة المعتصم فَاطلع عَلَيْهِ يَوْمًا من مشرفه فَرَآهُ وَعَلِيهِ جبنة صوف وَفِي رجلَيْهِ الْحَدِيد وَقد تغير لَونه فرق لَهُ ودمعت عَيناهُ ثمَّ قَالَ لي أَبَا عبد الله هَذَا ابْن عمي وَأدنى النَّاس رحما وَمَا يحْتَمل قلبِي أَن أرآه على هَذِه الْحَال ثمَّ دَعَا بعض الَّذِي كَانَ قَائِما على رَأسه فَقَالَ اذْهَبْ فَقل لَهُ مَا الَّذِي دعَاك إِلَى الْخُرُوج عَليّ وَلم ينلك مني سوء قطّ فَمضى الرَّسُول فأبلغه فَقَالَ رَأَيْت جورا شَدِيدا لم يسعني فِيمَا بيني وَبَين الله إِلَّا إِنْكَاره فَقَالَ المعتصم ارْجع إِلَيْهِ فَقل لَهُ هَل هَذَا جور أحدثته أَنا أم كَانَ شَيْئا فعله سلفي قبلي قَالَ بل كَانَ فعله سلفك قبلك وسلكت سبيلهم فَقَالَ ارْجع وَقل لَهُ أَيّمَا أفضل أَنْت أم من تقدم من سلفك فَقَالَ مُحَمَّد بل من تقدم من سلفي فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا كَيفَ وسع سلفك مَعَ فَضلهمْ وسابقتهم أَن لَا يخرجُوا على سلفي وَلم يسعك أَنْت إِلَّا الْخُرُوج عَليّ فأبلغه ذَلِك فَسكت وَلم يجبهُ فَرجع الرَّسُول فَعرفهُ ذَلِك قَالَ لي يَا أَبَا عبد الله مَا أصنع بِهَذَا أَخَاف وَالله إِن أطلقته معاودة مثل الَّذِي كَانَ مِنْهُ فيسفك دِمَاء الْمُسلمين بَيْننَا وَبَينه قَالَ قلت الْحَبْس الَّذِي يُؤمن مكروهه قَالَ فَأمر بفك قيوده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فِي الْوَقْت وَأنزل عَنهُ ثقل الْحَدِيد وَنَقله إِلَى دَار ووسع عَلَيْهِ فِي مطمعه ومشربه وملبسه قَالَ وَكنت يَوْمًا عِنْده وَقد امتلاء غيظا فدعى بعمر بن فرج وَهُوَ يتَنَاوَلهُ بالشتم فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ يَا ابْن اللخناء مَتى أَمرتك بِجعْل أَصْحَاب أَخْبَار عَليّ الطالبيين وتتبع أَمرهم قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ بَلغنِي أَن رجلا مِنْهُم كَاتبه أهل خُرَاسَان وأرمينيا فَأَرَدْت أَن أعرف وأتيقن حَقِيقَة ذَلِك وأنهيه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ وَمَا الَّذِي عَلَيْك مِنْهُم فو الله لأغفرن ذنوبهم ولأصلن أرحامهم ولأعفون عَن مسيئتهم ولأعطفن على كَبِيرهمْ وصغيرهم فَإِن أرادوني بِسوء فَالله بيني وَبينهمْ قَالَ وَدخلت إِلَيْهِ فَقلت إِن أهلك وَذَوي رَحِمك من آل أبي طَالب فِي ضرّ شَدِيد بِالْمَدِينَةِ وَقد نالتهم مجاعَة شَدِيدَة وَسنة مُجْدِبَة وتأخرت أَرْزَاقهم فَدَعَا ابْن الزيات وَقَالَ يَا مُحَمَّد احْمِلْ إِلَيْهِم السَّاعَة وَلَا تتَوَقَّف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 مِائَتي ألف دِرْهَم وَوَاللَّه لإن أخرت إِلَى غَد لأنهكتك عُقُوبَة فَحمل إِلَيْهِم ذَلِك من وقته قَالَ وَكنت عِنْده يَوْمًا فَدخل عَلَيْهِ بعض من يحضر مَجْلِسه فَقَالَ إِنِّي كنت بالْأَمْس عِنْد عبد الله بن أَيُّوب قَالَ فَمَا كَانَت حالتكم فَقَالَ أطعمنَا ثَلَاثَة ألوان لَيْسَ فِيهَا لحم فَقَالَ وَيلك ذَلِك حسن الْمُرُوءَة وَكثير الطَّعَام قَالَ أنفذ إِلَى القصاب رقْعَة يُعْطه وظيفته من اللَّحْم والألم يَأْكُل هُوَ وَلَا أَوْلَاده لَحْمًا فَأَطْرَقَ مفكرا وَقَالَ بلغت بِهِ الْحَال إِلَى هَذَا قلت نعم فَدَعَا بإيتاخ فَقَالَ احْمِلْ إِلَى عبد الله بن أَيُّوب مِائَتي ألف دِرْهَم وَقل للرسول لَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا فَإِذا رَجَعَ من عِنْده فأعط رَسُولك ألفي دِرْهَم قَالَ ورأيته وَقد حاصر عمورية وَأَنه لواقف وَالْحِجَارَة تَأتي من كل مَوضِع حَتَّى يَنَالهُ بَعْضهَا وَهُوَ لَا يَزُول فَقلت الله الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نشدتك الله لما تنحيت فَقَالَ وَالله مَا من مَوضِع يأتيني فِيهِ الْمَوْت أحب إِلَيّ من هَذَا الْموضع ق 65 فَقلت إِن أَرْوَاح الْمُسلمين بروحك معلقَة فَإِن حدث حَادث فَإِنَّهُم مضيعة جازر فَمَا الْتفت إِلَى قولي وَثَبت مَكَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وَقَالَ وَخَرجْنَا فِي تِلْكَ الْغُزَاة فَكنت على جمل فِي محمل وَكَانَ يَجِيء على فرسه حَتَّى يصير تَحت محملي ويحدثني فَأَقُول أنزل واركب دَابَّة وأكون بَين يَديك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَيَقُول لَا وَالله لَا فعلت الْمحمل أبر بك وأرفق وصرنا إِلَى مخاضة فَقَالَ للجمال قف ثمَّ أَنه تقدم حَتَّى عرف مِقْدَار المَاء وَجعل يَقُول للجمال خُذ كَذَا خُذ كَذَا بلطف ورفق حَتَّى عبرت وَقَالَ يَوْمًا وَنحن بعمورية مَا تَقول فِي الْبُسْر يَا أَبَا عبد الله فَقلت نَحن بِبِلَاد الرّوم والبسر بالعراق فَقَالَ قد جَاءَنَا عذقان فَقَالَ يَا أيتاخ هَات أحد العذقين فجابه فَمد المعتصم يَده وحسر عَن ذراعه وَقَالَ بحياتي عَلَيْك كل من يَدي فَقلت جعلني الله فدَاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بل تضعه فَآكل مِنْهُ كَمَا أُرِيد قَالَ لَا وَالله إِلَّا من يَدي قَالَ أَحْمد فو الله إِن زَالَ حاسرا مَادًّا يَده وَأَنا أجتني حَتَّى رمى بِهِ وَمَا بِهِ بسرة وَاحِدَة قَالَ ووقف يوناص على السُّور بعمورية رجل فصيح بِالْعَرَبِيَّةِ فَجعل يشْتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاشْتَدَّ ذَلِك على المعتصم وعَلى الْمُسلمين وحاولوا قَتله وراموه بِكُل مرام من النشاب والعرادات وَغَيرهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وَلم يلْحقهُ شَيْء حَتَّى رمى رجل من الناشبة فَأصَاب نَحوه فَوَقع اللعين من السُّور إِلَى خَارج وَكبر الْمُسلمُونَ وسر المعتصم بذلك سُرُورًا عَظِيما وَقَالَ اخبروني عَمَّن رمى هَذَا السهْم الْمُبَارك فأوتى بِالرجلِ فَأدْخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ سَأَلتك بِاللَّه لتبعني ثَوَاب هَذَا السهْم بِمِائَة ألف دِرْهَم فَقَالَ الرجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَيْسَ الثَّوَاب مِمَّا يُبَاع قَالَ فَمَا زَالَ يرغبه حَتَّى بلغ مَعَه خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم فَقَالَ مَا أبيعه بالدنيا بأسرها وَمَا فِيهَا وَلَكِنِّي أشهد الله أَنِّي قد جعلت نصف ثَوَابه لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ قد رضيت بِهَذَا أحسن الله جزائك وَأمر للرجل بِمِائَة ألف دِرْهَم فقبضها من سَاعَته وَقيل لما وَقع الْحَرِيق فِي الْجَانِب الغربي بِبَغْدَاد وَجه المعتصم ابْنه هَارُون فَقَامَ بأمرها حَتَّى أطفيت وَأمر بكتب أَسمَاء من احْتَرَقَ لَهُ شَيْئا ومبلغ مَا ذهب لَهُم ثمَّ أعْطى كلا مِنْهُم على قدر حَالَة فَبلغ إعطاؤهم عشْرين ألف دِينَار وَخَمْسمِائة ألف ألف دِرْهَم وَقَالَ ابْن أبي دَاوُود القَاضِي مَا رَأَيْت رجلا عرض على الْمَوْت فَلم يكترث بِهِ وَلَا عدل بِهِ عَمَّا أَرَادَ إِلَّا تَمِيم بن جميل الْخَارِجِي وَكَانَ قد خرج على المعتصم فرأيته وَقد جِيءَ بِهِ أَسِيرًا فَأدْخل عَلَيْهِ فِي يَوْم مركب وَقد جلس المعتصم للنَّاس مَجْلِسا عَاما بِالسَّيْفِ والنطع فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ نظر إِلَيْهِ المعتصم فأعجبه حسنه وقده ومشيته إِلَى الْمَوْت غير مكترث بِهِ فَأطَال الْفِكر فِيهِ ثمَّ استنطقه لينْظر أَيْن عقله وَلسَانه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 جماله فَقَالَ يَا تَمِيم إِن كَانَ عذر فأت بِهِ فَقَالَ أما إِذا أذن أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الْكَلَام فَأَنِّي أَقُول الْحَمد لله الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه وَبَدَأَ خلق الْإِنْسَان من طين يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ جبر الله بك صدع الْإِسْلَام وَلم بك شعث الْأمة وأخمد بك شهَاب الْبَاطِل وأنار بك سَبِيل الْحق إِن الذُّنُوب تحرس الْأَلْسِنَة وتصدع الأفئدة وأيم الله لقد الجريرة وانقطعت الْحجَّة وساء الظَّن وَلم يبْق إِلَّا عفوك أَو انتقامك وَأَنت إِلَى الْعَفو أقرب وَهُوَ بك أشبه وأليق ثمَّ أنْشد (أرى الْمَوْت بَين السَّيْف والنطع كامنا ... يلاحظني من حَيْثُ مَا أتلفت) (وَأكْثر ظَنِّي أَنَّك الْيَوْم قاتلي ... وَأي امْرِئ عَمَّا قضى الله يفلت) (فَمن ذَا الَّذِي يَأْتِي بِعُذْر وَحجَّة ... وَسيف المنايا بَين عَيْنَيْهِ مصلت ق 66) (يعز على الْأَوْس بن ثَعْلَبَة موقفي ... يسل عَليّ السَّيْف فِيهِ وأسكت) (وَمَا حزني من أَمُوت وإنني ... لأعْلم أَن الْمَوْت شَيْء مُؤَقّت) (وَلَكِن خَلْفي صبية قد تَركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت) (كَأَنِّي أَرَاهُم حِين أنعى إِلَيْهِم ... وَقد لطموا تِلْكَ الخدود وصوتوا) (فَإِن عِشْت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الردى عَنْهُم وَإِن مت موتوا) (وَكم قَاتل لَا يبعد الله دَاره ... وَآخر فرحان يسر ويشمت) قَالَ فَبكى المعتصم ثمَّ قَالَ إِن من الْبَيَان لسحرا كَمَا قَالَ رَسُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ يَا تَمِيم كَاد وَالله يسْبق السَّيْف العذل وَقد وَهبتك لله تَعَالَى وللصبية وعفوت عَن زلتك وَعقد لَهُ ولَايَة على عمله وخلع عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ خمسين ألف دِينَار قيل وَكَانَ الأفشين مغضبا على أبي دلف الْعجلِيّ وحاسدا لَهُ على فَضله فَحمل نَفسه يَوْمًا على قَتله وَكَانَ صديقا للْقَاضِي أَحْمد بن أبي دَاوُود فَبعث إِلَيْهِ أَن أدركني فَمن أَمْرِي كَيْت وَكَيْت فَركب مسرعا واستحضر من حَضَره من الشُّهُود فَلَمَّا ورد بَاب الأفشين قَالَ لَهُ الغلمان نستأذن لَك فَقَالَ الْأَمر أعجل من ذَلِك وَنزل وَدخل على الأفشين وَهُوَ جَالس فِي مَجْلِسه وَقد أقيم أَبُو دلف بَين يَدَيْهِ فِي الصحن فَلَمَّا رأى الأفشين القَاضِي قد دخل بِلَا إِذن بهت فَقَالَ إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي إِلَيْك أَيهَا الْأَمِير أَن لَا تَتَحَدَّث فِي أَمر الْقَاسِم حَدثا إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 بِإِذْنِهِ ثمَّ الْتفت إِلَى الشُّهُود فَقَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قد بلغت رِسَالَة أَمِير الْمُؤمنِينَ ثمَّ خرج فَأتى بَاب المعتصم مسرعا فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد كذبت عَلَيْك وَاحِدَة ثمَّ أَرْجُو بهَا الْجنَّة وَلَك الْفَخر قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ كَانَ من الْأَمر كَيْت وَكَيْت فَضَحِك المعتصم وَقَالَ أَحْسَنت أحسن الله إِلَيْك ثمَّ لم يلبث أَن جَاءَ الأفشين مستأذنا فَأذن لَهُ فَلَمَّا اسْتَقر مَجْلِسه قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ جَاءَنِي رِسَالَة مِنْك مَعَ قَاضِي الْقُضَاة فِي معنى أبي دلف فَمَا تَأْمُرنِي فِي شَأْنه قَالَ نعم أَنا أرْسلت إِلَيْك فِيهِ فاحذر أَن تتعرض لَهُ إِلَّا بِالْخَيرِ فَأَفلَت من يَده بذلك وَرُوِيَ أَن بعض الْعمَّال رفع على خَالِد بن يزِيد بن مزِيد أَنه اقتطع أَمْوَالًا واحتجز بَعْضهَا فَغَضب المعتصم وَحلف ليأخذن أَمْوَال خَالِد وليعاقبنه فلجأ خَالِد إِلَى القَاضِي أَحْمد بن أبي دَاوُود فاحتال أَحْمد حَتَّى جمع بَينه وَبَين خَصمه الَّذِي رفع عَلَيْهِ فَلم تقم على خَالِد حجَّة فَعرف ابْن أبي دَاوُود المعتصم بذلك وشفع إِلَيْهِ فِي خَالِد فَلم يشفع فأحضر خَالِد وأحضرت آلَات الْعقُوبَة وَقد كَانَ قبل ذَلِك قبض على أَمْوَاله وضياعه وَصَرفه عَن الْعَمَل فَحَضَرَ ابْن أبي دَاوُود الْمجْلس فَجَلَسَ دون مَجْلِسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ فَقَالَ لَهُ المعتصم ارْتَفع إِلَى مَكَانك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا اسْتحق إِلَّا دون هَذَا الْمجْلس قَالَ وَكَيف قَالَ النَّاس يَزْعمُونَ أَنه لَيْسَ محلي مَحل من يشفع فِي رجل قذف لَيْسَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَلم يَصح عَلَيْهِ فَلم يشفع قَالَ فارتفع إِلَى موضعك قَالَ مشفعا أَو غير مُشَفع قَالَ بل مشفعا قد وهبت لَك خَالِدا ورضيت عَنهُ فَقَالَ إِن النَّاس لَا يعلمُونَ بِهَذَا قَالَ قد وهبت عَلَيْهِ جَمِيع مَا قبض عَلَيْهِ من ضيَاعه وأمواله قَالَ فَمن لَهُ بفك قيوده وَالْخلْع عَلَيْهِ فَفعل ذَلِك قَالَ قد اسْتحق هُوَ وَأَصْحَابه رزق سنة فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَجْعَلهَا صلَة لَهُ لتحمل مَعَه فَفعل ذَلِك ثمَّ خرج خَالِد وَعَلِيهِ الْخلْع وَالْمَال بَين يَدَيْهِ وَالنَّاس ينتظرون الْإِيقَاع بِهِ فَمَا رَأَوْهُ على تِلْكَ الْحَال سروا بذلك وَصَاح بِهِ رجل نحمد الله على خلاصك يَا سيد الْعَرَب فَقَالَ مَه سيد الْعَرَب وَالله بعد أَمِير الْمُؤمنِينَ أَحْمد بن أبي دَاوُود الَّذِي طوقني ق 67 هَذِه المكرمة قَالَ أَبُو عبد الله النديم لقد رَأَيْت الْمُلُوك فِي مقاصيرها ومجامعها وَمَا رَأَيْت أغزر أدبا من الواثق خرج إِلَيْنَا ذَات يَوْم وَهُوَ يَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 لعمري لقد عرض عرضه من عرضه لقَوْل الْخُزَاعِيّ (خليلي مَاذَا أرتجى من غَد امرىء ... طوى الكشح عني الْيَوْم وَهُوَ مكين) (وَإِن امْرَءًا قد ضمن يَوْمًا بمنطق ... يسد بِهِ فقر امرىء للضنين) فانبرى أَحْمد بن أبي دَاوُود كَأَنَّمَا أنشط من عقال يسْأَله فِي رجل من أهل الْيَمَامَة فأسهب فِي الشَّفَاعَة وَأَطْنَبَ وَذهب فِي القَوْل كل مَذْهَب فَقَالَ لَهُ الواثق يَا أَبَا عبد الله لقد اكثرت فِي غير كثير وَأَطْنَبَ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه صديقي وَأنْشد (وأهون مَا يُعْطي الصّديق صديقه ... من الهين الْمَوْجُود أَن يتكلما) قَالَ الواثق مَا قدر هَذَا اليمامي أَن يكون صديقك وَإِنَّمَا أَحْسبهُ أَن يكون من بعض خولك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه قد اشْتهر بالاستشفاع بِي عنْدك وَجَعَلَنِي بمرأى ومسمع من الرَّد والإسعاف فَإِن لم أقِم لَهُ هَذَا الْمقَام كنت كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ (وَإِن امرىء قد ضن يَوْمًا بمنطق ... يسد بِهِ فقر امرىء لضنين) فَقَالَ الواثق لمُحَمد بن عبد الْملك الزيات بِاللَّه يَا مُحَمَّد أَلا عجلت لأبي عبد الله حَاجته ليسلم من هجنة المطل كَمَا سلم من هجنة الرَّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وَقَالَ أَحْمد بن إِسْرَائِيل فرق الواثق فِي الصَّدَقَة ووجوه الْبر على الْمَسَاكِين والفقراء واليتامى الَّذين أُقِيمَت لَهُم الكفايات للتعليم خَمْسَة ألف ألف دِينَار وَفرق على التُّجَّار الَّذين ذهبت أَمْوَالهم فِي الْحَرِيق فِي زَمَانه سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ خَمْسمِائَة ألف ألف دِينَار وَكَانَ عمر بن فرج يَقُول أَمر الواثق بِحمْل الأرزاق لآل أبي طَالب إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ يصل إِلَيْهِم فِي سنة مِائَتَا ألف دِينَار فَكَانَ مبلغ مَا حمل إِلَيْهِم ألف ألف دِينَار وَنظر عمر بن فرج فِيمَا تصدق بِهِ الواثق فِي علته الَّتِي توفّي فِيهَا فَكَانَ ثَلَاثَة ألف ألف دِينَار فأنهى ذَلِك إِلَيْهِ فاستقله وَكَانَ الواثق قد أَمر أَن تبنى حضائر فِيهَا بيُوت يجمع فِيهَا الْمَسَاكِين فَيجْرِي لَهُم الطَّعَام وَالْكِسْوَة ويمنعوا من السُّؤَال فِي الطّرق والسواق والأبواب بِبَغْدَاد وَبسر من رأى وَأمر بكتاتيب للصبيان الْأَيْتَام وَالْمَسَاكِين فيتعلمون الْقُرْآن وَقَالَ ابْن أبي دَاوُود لقد فرق الواثق من الْأَمْوَال مَا خفت أَن يخلي بيُوت الْأَمْوَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فَلَا يُوجد فِيهَا شَيْء إِن جرى أَمر أَو حدث حَادث وَلَقَد كنت أعجب من تَفْرِقَة المعتصم الْأَمْوَال فَمَا رَأَيْت الواثق وَمَا فعل أنساني فعل المعتصم قَالَ وَكنت لَا أذكرهُ بِشَيْء من الْخَيْر وأبواب الْبر وَمَا فِيهِ ثَوَاب وقربه إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا سره ذَلِك وشكرني عَلَيْهِ وجزاني خيرا وحضني على أَن أذكرهُ بِهِ وَكَانَ يجلس للمظالم فَيكون غَايَته إنصاف النَّاس وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَدفع الظُّلم عَنْهُم ورد حُقُوقهم إِلَيْهِم فَإِذا فعل من ذَلِك شَيْئا حمد الله على مَا وَفقه وأجرى على يَدَيْهِ من الْإِنْصَاف وَكَانَ ابْن الزيات رُبمَا تكلم عِنْد تظلم المتظلمين بِمَا يُرِيد أَن يدافعهم بِهِ الواثق النَّصِيحَة الإشفاق فينتهزه ويؤنبه ويحذره الظُّلم ونال النَّاس بالعراق غلاء شَدِيد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ حَتَّى بلغ الْكر الدَّقِيق مائَة دِينَار فجهد النَّاس فَأمر الواثق بتفرقة الْأَمْوَال بِبَغْدَاد والكوفة وَالْبَصْرَة وَمَكَّة وَالْمَدينَة فَكَانَ ذَلِك سِتّمائَة ألف دِينَار وَبلغ إِلَيْهِ أَن الْعمَّال يَأْخُذُونَ من السفن الَّتِي ترد من الْهِنْد والصين الْعشْر فَقَالَ هَؤُلَاءِ تجار مُسلمُونَ يَغْدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم ويركبون الْبَحْر فَيطول مكثهم فِيهِ فَأمر بِإِسْقَاط الْعشْر عَنْهُم قيل وَكَانَ يُصَلِّي فِي دَاره الصَّلَوَات كلهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 جمَاعَة يوؤذن الْمُؤَذّن فَيقوم فيركع ثمَّ يتَقَدَّم فَيصَلي وَيُصلي خَلفه من حضر من أَصْحَابه وقواده وغلمانه ق 68 وَكَانَ يركب إِلَى الْجَامِع فيخطب وَيُصلي وَكَانَ كثيرا مَا يخْطب بِخطْبَة الْمَأْمُون الْمَشْهُورَة الَّتِي تقدم ذكرهَا فِي هَذَا الْكتاب وَلما اعتل علته الَّتِي مَاتَ بهَا اجْتمع القواد إِلَى ابْن أبي دَاوُود فَقَالُوا كَلمه يعْقد العقد لِابْنِ مُحَمَّد فَذكر لَهُ ذَلِك فَأَعْرض عَنهُ بِوَجْهِهِ فَكَلمهُ ثَانِيَة فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله أما كفاني أَنِّي تقلدت الْأَمر فِي حَياتِي حَتَّى أتقلد تَبعته بعد وفاتي إِن عمل من أَعهد إِلَيْهِ صَالحا كَانَ لَهُ ثَوَابه وَإِن عمل سَيِّئًا كَانَ عَليّ وزره إِذْ صيرت أُمُور الْمُسلمين إِلَيْهِ وَمن أَيْن أجد رجلا أرْضى دينه وأمانته وفضله وَجمع القواد فَقَالَ لَهُم عَلَيْكُم بتقوى الله وأحسنوا الِاخْتِيَار لأنفسكم بعدِي وَالله خليفتي عَلَيْكُم وعَلى جَمِيع الْمُسلمين وَلما أزمع المتَوَكل على الرحيل إِلَى دمشق أَمر ابْنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 مُحَمَّد الْمُنْتَصر المهلبي يزِيد فَقَالَ بَيْتَيْنِ على لِسَانه ودفعهما إِلَى من يحسنهما وغنى بهما المتَوَكل وهما (إِلَى الله أَشْكُو عِبْرَة نتخير ... وَلَو قد حدى الْحَادِي بِطَلَب يحذر) (فوا حسرتنا إِن كنت فِي سر من رأى ... مُقيما وَفِي الشَّام الْخَلِيفَة جَعْفَر) فأعجب بهما المتَوَكل وارتاح وَبكى ثمَّ قَالَ من يَقُول هَذَا فَقيل قَالَه مُحَمَّد الْمُنْتَصر فَقَالَ هُوَ على لِسَانه لَكِن من قَائِله قَالُوا يزِيد المهلبي فَقَالَ ادعوهُ فوَاللَّه لأضحكنه كَمَا أبكاني فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ أَمر لَهُ بِخَمْسِينَ ألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وَرُوِيَ أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر كَانَ مولودا بِحَدّ السرطان فَلَمَّا كَانَ ذَات لَيْلَة جمع أهل بَيته فَقَالَ لَهُم إِنِّي مَوْلُود بِحَدّ السرطان وَإِن طالع السّنة السرطان وَإِن الْقَمَر ينكسف اللَّيْلَة بالسرطان وَهِي لَيْلَة الْأَحَد فَإِن نجوت فِي هَذِه اللَّيْلَة فسأبقى سنتَيْن وَإِن كَانَت الْأُخْرَى فَإِنِّي ميت لَا محَالة قَالُوا بل يُطِيل الله عمرك قَالَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل دَعَا غُلَاما لَهُ قد علمه النُّجُوم فأصعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 إِلَى قبَّة لَهُ فَأعْطَاهُ بَنَادِق وأسطرلابا وَقَالَ لَهُ خُذ الطالع فَكلما مضى من انكساف الْقَمَر دقيقة فاقذف إِلَيّ ببندقة حَتَّى أعلم بذلك وَجلسَ مُحَمَّد مَعَ أَصْحَابه وَجعل الْغُلَام كل مَا مضى من انكساف الْقَمَر دقيقة قذف إِلَيْهِ ببندقة فَلَمَّا انْكَشَفَ من الْقَمَر ثلثه قَالَ لأَصْحَابه مَا تَقولُونَ فِي رجل مَعكُمْ قَاعد يقْضِي ويمضي وَقد ذهب مُنْذُ جالسكم ثلث عمره قَالُوا بل يُطِيل الله عمرك فَلَمَّا مضى من اللَّيْل ثُلُثَاهُ عمد إِلَى جواريه فَأعتق مِنْهُنَّ من أَرَادَ عتقهَا ووقف من ضيَاعه مَا أوقف وَقَالَ لَهُم مَا تَقولُونَ فِي رجل مَعكُمْ يقْضِي ويمضي وَقد ذهب جلّ عمره فَقَالَ الْقَوْم بل يُطِيل الله عمرك وَيُقَال أَيهَا الْأَمِير فَلَمَّا مضى من الثُّلُث الثَّالِث دقيقتان قَالَ لَهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 إِذا استغرق الْقَمَر فامضوا إِلَى أخي عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر ثمَّ قَامَ فاغتسل وَلَيْسَ أَكْفَانه وتحنط وَدخل إِلَى بَيت لَهُ ورد عَلَيْهِ الْأَبْوَاب واضطجع فَلَمَّا استغرق الْقَمَر فِي الْكُسُوف فاضت نَفسه فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ ميت فَانْطَلقُوا إِلَى عبيد الله أَخِيه ليعلموه فَإِذا عبيد الله على طيار لَهُ على بَاب الْقصر قد سبقهمْ فَقَالَ لَهُم مَاتَ أخي قَالُوا نعم قَالَ مَا زلت آخذ الطالع حَتَّى استغرق الْقَمَر فِي الْكُسُوف فَعلمت أَنه قد قبض ثمَّ دخل فأكب عَلَيْهِ طَويلا ثمَّ خرج وَهُوَ يَقُول (هد ركن الحلافة الموطود ... زَالَ عتها السرادق الْمَمْدُود) (حط فسطاطها الْمُحِيط عَلَيْهَا ... جذ أطنابها فَمَال العمود) (أحد كَانَ خَدّه مثل حد السَّيْف ... والناد شب مِنْهَا الْوقُود) (أحد كَانَ خَدّه من نحوس جمعت ... حَدهَا إِلَيْهِ الأجود) (كسف الْبَدْر والأمير جَمِيعًا ... فانجلى الْبَدْر والأمير عميد) (عاود الْبَدْر نوره لتجليه ... وَنور الْأَمِير مَالا يعود) (أظلمت بعده الْخلَافَة ... فالدنيا عَلَيْهَا كآبة وجمود) (الْأُمُور قد كَانَ دبر مِنْهَا مبرم ... قد قضى مِنْهَا عتيد) (قد بكاه الْعرَاق والشرق ... والغرب فَمِنْهَا تهائم ونجود) فَلَمَّا حمل على سَرِيره أنشأ يَقُول (تداوله الْكَفّ على سَرِير ... أَلا لله مَا حمل السرير) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 (أكف لَو مد إِلَيْهِ حَيا ... إِذا رجعت وأطولها قصير) (تباشرت الْقُبُور بِهِ وأضحى ... تبكيه الأرامل وَالْفَقِير) حُكيَ أَن مُحَمَّد بن زيد الْعلوِي الدَّاعِي بطبرستان كَانَ إِذا افْتتح الْخراج نظر فِي بَيت المَال من خراج السّنة الَّتِي قبلهَا وفرقه فِي قبائل قُرَيْش على دعوتهم وَفِي الْأَنْصَار وَفِي الْفُقَهَاء وَأهل الْقُرْآن وَسَائِر طَبَقَات النَّاس إِلَى أَن يفرق جَمِيع مَا بَقِي فَجَلَسَ فِي سنة من السنين فَفرق مثل ذَلِك على عَادَته فَلَمَّا بَدَأَ ببني عبد منَاف وَقد فرغ من بني هَاشم دَعَا بِسَائِر بني عبد منَاف فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ لَهُ من أَي بني عبد منَاف أَنْت فَقَالَ من بني أُميَّة قَالَ من أَيهمْ فَسكت فَقَالَ لَعَلَّك من ولد مُعَاوِيَة قَالَ نعم فَقَالَ من أَيهمْ فَسكت فَقَالَ لَعَلَّك من ولد يزِيد قَالَ نعم قَالَ بئس الِاخْتِيَار اخْتَرْت لنَفسك من قصدك بَلَدا وَلَا يته إِلَى آل أبي طَالب وعندك ثأرهم فِي سيدهم وَقد كَانَت لَك مندوحة عَنْهُم بِالشَّام وَالْعراق عِنْد من يتَوَلَّى جدك وَيُحب برك فَإِن كنت جِئْت عَن جهل مِنْك بِهَذَا فَمَا يكون بعد جهلك شَيْء مستهزئا بهم فقد خاطرت فَنظر إِلَيْهِ العلويون نظرا شَدِيدا وهموا بِهِ فصاح بهم مُحَمَّد فَقَالَ كفوا عافاكم الله كأنكم تظنون فِي قتل هَذَا دركا وثأرا بالحسين بن عَليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 عَلَيْهِمَا السَّلَام وَأي جرم لهَذَا إِن الله تَعَالَى حرم أَن تطالب نفس بِغَيْر مَا اكْتسبت وَالله لَا يعرض لَهُ أحد إِلَّا أقدته بِهِ واسمعوا حَدِيثا أحد ثكموه بِهِ يكون لكم قدوة فِيمَا تستأنفون حَدثنِي أبي عَن أَبِيه قَالَ عرض عَليّ الْمَنْصُور سنة حج جوهرا فاخرا فَعرفهُ وَقَالَ كَانَ هَذَا لهشام بن عبد الْملك وَهَذَا بِعَيْنِه قد بَلغنِي خَبره عِنْد ابْنه مُحَمَّد وَمَا بَقِي مِنْهُم أحد غَيره ثمَّ قَالَ للربيع إِذا كَانَ غَدا وَصليت بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَحصل النَّاس فِيهِ فأغلق الْأَبْوَاب كلهَا ووكل بهَا ثقاتك من الشِّيعَة وأقفلها وافتتح للنَّاس بَابا وَاحِدًا وقف عَلَيْهِ وَلَا يخرج أحد إِلَّا من قد عَرفته فَلَمَّا كَانَ من الْغَد فعل الرّبيع ذَلِك وَتبين مُحَمَّد بن هِشَام الْقِصَّة فَعلم أَنه الْمَطْلُوب وَأَنه مَأْخُوذ فتحير وَأَقْبل مُحَمَّد بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِم السَّلَام على أثر ذَلِك فَرَآهُ متحيرا وَهُوَ لَا يعرفهُ فَأنْكر أمره فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا أَرَاك متحيرا متلددا فَمن أَنْت وَلَك أَمَان الله تَعَالَى الْعَام التَّام وَأَنت فِي ذِمَّتِي حَتَّى أخلصك بعون الله عز وَجل قَالَ أَنا مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْملك فَمن أَنْت قَالَ أَنا مُحَمَّد بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ قَالَ فَعِنْدَ الله احتسبت نَفسِي قَالَ لَا بَأْس عَلَيْك يَا ابْن عَم فانك لست قَاتل زيد وَلَا فِي قَتلك إِدْرَاك ثَأْره وَأَنا الْآن بخلاصك أولى مني بِإِسْلَامِك وَلَكِن تعذرني فِيمَا أتناولك بِهِ من مَكْرُوه وقبح مُخَاطبَة يكون فِيهِ خلاصك بِمَشِيئَة الله وعونه فَقَالَ يَا سَيِّدي أَنْت وَذَاكَ فَطرح رِدَاءَهُ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 رَأسه وَوَجهه ولببه بِهِ وَأَقْبل يسحبه فَلَمَّا وَقعت عين الرّبيع عَلَيْهِ لطمه لطمات وَجَاء بِهِ إِلَى ق 70 الرّبيع وَقَالَ يَا أَبَا الْفضل أَن هَذَا الْخَبيث جمال من أهل الْكُوفَة أكراني جماله ذَاهِبًا وعائدا وَقد هرب مني فِي هَذَا الْوَقْت وأكرى بِبَعْض القواد الخرسانية ولي عَلَيْهِ بذلك شُهُود فضم إِلَيّ حرسيين يصيران بِهِ معي إِلَى القَاضِي وينعمان الخرساني من اعتراضه إِن اعترضنا فضم إِلَيْهِ حرسيين وَقَالَ امضيا بِهِ مَعَه فَلَمَّا بعد عَن الْمَسْجِد قَالَ لَهُ يَا خَبِيث تُؤدِّي إِلَى حَقي قَالَ نعم يَا ابْن بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم فَقَالَ للحرسيين انصرفا فِي حفظ الله فَلَمَّا بعدا أطلقهُ فَقبل مُحَمَّد بن هِشَام يَده وَرَأسه وَقَالَ بِأبي أَنْت وَأمي الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته ثمَّ أخرج جوهرا لَهُ قيمَة وَقدر عَظِيم وَدفعه إِلَيْهِ وَقَالَ شرفني يَا سَيِّدي بقبوله مني فَقَالَ اذْهَبْ بمتاعك يَا ابْن عَم فَإنَّا أهل بَيت لَا نقبل على الْمَعْرُوف مُكَافَأَة وَقد تركت لَك دم زيد وَهُوَ أعظم قدرا من ذَلِك فَانْصَرف راشدا ووار نَفسك عَن هَذَا الرجل إِلَى أَن يخرج فَإِنَّهُ مجد فِي طَلَبك فَمضى وتوارى ثمَّ أَن مُحَمَّد الدَّاعِي أَمر للأموي بِمثل مَا أَمر بِهِ لسَائِر بني عبد منَاف وَضم إِلَيْهِ جمَاعَة من موَالِيه وَأمرهمْ أَن يخرجوه إِلَى الرّيّ ويأتوه بكتابه بسلامته فَقَامَ الْأمَوِي وَقبل رَأسه وَمضى وَمَعَهُ الْقَوْم حَتَّى وصل مأمنه وجاؤه بكتابه بسلامته ق 71 تقطيع بِالْأَصْلِ وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَرَضي الله عَن أَصْحَابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393