الكتاب: الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ) المحقق: د. مروان قباني الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت الطبعة: الأولى، 1406هـ -1986م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه العسكري، أبو هلال الكتاب: الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ) المحقق: د. مروان قباني الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت الطبعة: الأولى، 1406هـ -1986م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (كَتَبَ الشَّيْخُ أَبُو هِلالٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّه) بْنِ سَهْلٍ الأَدِيبِ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ: أيدك الله وأيد أهل الْفضل بك، وقاك الْمَكْرُوهَ، وَوَقَاهُمْ إِيَّاهُ فِيكَ وَأَصْلَحَ بِكَ وَلَكَ وَخَوَّلَكَ وَخَوَّلَ مِنْكَ، وَأَلْهَمَكَ الاجْتِهَادَ فِيمَا يَزِيدُكَ عِنْدَ الْعُقَلاءِ قِيمَةً، وَيَمْنَحُكَ مَزِيَّةً يَقْصُرُ عَنْهَا من يساميك، وَيَقَع دونهَا من ينافسك ويناوئك. وَالاجْتِهَادُ فِيمَا يُكْسِبُ الْعِزَّ وَيَزِيدُ فِي النَّبَاهَةِ وَالْقَدْرِ، رَاحَةُ الْعَاقِلِ، وَالتَّوَانِي عَنْهُ عَادَةُ الْجَاهِلِ. وَقلت فِي نَحْو ذَلِك: // من الْبَسِيط //. (وَسَاهِرَ اللَّيْلِ فِي الْحَاجَاتِ نَائِمُهُ ... وَوَاهِبَ الْمَالِ عِنْد الْمجد كاسبه) وَقلت فِي نَحْو ذَلِك: // من الْكَامِل //. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 (وَلْيَغْدُ فِي تَعَبٍ يَرُحْ فِي رَاحَةٍ ... إِنَّ الْأُمُور مريحها كالمتعب) وَقلت: // من الطَّوِيل //. (أَلا يَذُمُّ الدَّهْرَ مَنْ كَانَ عَاجِزًا ... وَلا يَعْذِلُ الأقْدَارَ مَنْ كَانَ وَانِيَا) (فَمَنْ لَمْ تُبَلِّغْهُ الْمَعَالِيَ نَفْسُهُ ... فَغَيْرُ جَدِيرٍ أَنْ يَنَالَ الْمَعَالِيَا) وَمَثَلُ الْعُلُوِّ فِي الْمَكَارِمِ مَثَلُ الصُّعُودِ فِي الثَّنَايَا وَالْقللِ، وَلا يَكُونُ إِلا بِشِقِّ النَّفْسِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْعَمُ فِي قَصْدِ الذَّرَى والتوقل فِي الغرفات العلى فقد ظلّ بَاطِلا وتوهم محالا. وَرُتْبَةُ الأَدِيبِ مِنْ أَعْلَى الرُّتَبِ، وَدَرَجَةُ الْعِلْمِ أَشْرَفُ الدَّرَجِ، فَمَنْ أَرَادَ مُدَاوَلَتَهَا بِالدَّعَةِ وَطَلَبَ الْبُلُوغَ إِلَيْهَا بِالرَّاحَةِ كَانَ مَخْدُوعًا، وَقَالَ الْجَاحِظُ: الْعِلمُ عَزِيزُ الْجَانِبِ، لَا يُعْطِيكَ بَعْضَهُ حَتَّى تُعْطِيهِ كُلَّكَ، وَأَنْتَ إِذَا أَعْطَيْتَهُ كُلَّكَ كُنْتَ مِنْ إِعْطَائِهِ إِيَّاكَ الْبَعْضَ عَلَى خَطَرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وَقَدْ صَدَقَ، فَكَمْ مِنْ رَاغِبٍ مُجْتَهِدٍ فِي طَلَبِهِ لَا يَحْظَى مِنْهُ بِطَائِلٍ عَلَى طُولِ تَعَبِهِ وَمُوَاصَلَةِ دَأْبِهِ وَنَصَبِهِ، وَذَلِكَ إِذَا نَقُصَ ذكاؤه وكل ذهنه ونبتت قَرِيحَتُهُ. وَالْفَهْمُ إِنَّمَا يَكُونَ مَعَ اعْتِدَالِ آلَتِهِ، فَإِذَا عَدِمَ الاعْتِدَالَ لَمْ يَكُنْ قَبُولٌ، كَالطِّينَةِ إِذَا كَانَتْ يَابِسَةً أَوْ مَنْحَلَةً لَمْ تَقْبَلِ الْخِتْمَ، وَإِنَّمَا تَقْبَلُهُ فِي حَالِ اعْتِدَالِهَا، وَإِذَا أَكْدَى الطَّالِبُ مَعَ الاجْتِهَادِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَ الهوينا والفتور. فَإِذا كُنْتَ أَيُّهَا الأَخُ تَرْغَبُ فِي سُمُوِّ الْقَدْرِ وَنَبَاهَةِ الذِّكْرِ وَارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَتَلْتَمِسُ عِزًّا لَا تَثْلِمُهُ اللَّيَالِي وَالأَيَّامُ وَلا تَتَحَيَّفُهُ الدُّهُورُ وَالأَعْوَامُ، وَهَيْبَةً بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَغِنًى بِلا مَال، ومنعة بِغَيْرِ سِلاحٍ، وَعَلاءً مِنْ غَيْرِ عَشِيرَةٍ، وَأَعْوَانًا بِغَيْر أَجْرٍ، وَجُنْدًا بِلا دِيوَانٍ وَفَرْضٍ، فَعَلَيْكَ بِالْعِلْمِ، فَاطْلُبْهُ فِي مَظَانِّهِ، تَأْتِكَ الْمَنَافِعُ عَفْوًا، وَتَلْقَ مَا يعْتَمد مِنْهَا صَفْوًا، وَاجْتَهِدْ فِي تَحْصِيلِهِ لَيَالِيَ قَلائِلَ، ثُمَّ تَذَوَّقْ حَلاوَةَ الْكَرَامَةِ مُدَّةَ عُمْرِكَ، وَتَمَتَّعْ بِلَذَّةِ الشَّرَفِ فِيهِ بَقِيَّةَ أَيَّامِكَ، وَاسْتَبْقِ لِنَفْسِكَ الذِّكْرَ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِكَ. ولأمر مَا اجْتَهَدَ فِيهِ طَائِفَةُ الْعُقَلاءِ، وَتَنَافَسَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، وَتَحَاسَدَ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الْفُضَلاءُ، وَلا يَصْلُحُ الْحَسَدُ وَالْمَلَقُ فِي شَيْءٍ غَيْرِهِ، كَمَا أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَصْلُحُ الْحَسَدُ وَالْمَلَقُ إِلا فِي طلب الْعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ثمَّ قَالَ أَبُو تَمام // من الْبَسِيط //: (فاعذر حسودك فِيمَا قد خصصت بِهِ ... إِن العلى حسن فِي مثلهَا الْحَسَد) وَقَالَ أَيْضا // من الطَّوِيل //: (وَمَا أَنا بالغيران من دون جارتي ... إِذا أَنا لم أصبح غيروا على علمي) (لصيق فُؤَادِي مد ثَلَاثُونَ حجَّة ... وصيقل ذهني والمروح عَن فهمي) قَالَ الشَّيْخ أَبُو هِلَال: وَمثله مَا قلته: // من الرجز //. (لَا أحسد الْمَرْء على درهمه ... وَإِنَّمَا أحسده على الْأَدَب) (وَلست بالغيران دون جارتي ... إِن لم أكن غيران من دون الْحسب) وَإِذا تدبرت قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: قيمَة كل امْرِئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مَا يُحسنهُ، كنت حَقِيقا بِالِاجْتِهَادِ فِي طلب الْعلم أَوَان قدرتك عَلَيْهِ، غير مَعْذُور فِي التواني عَنهُ، وَالتَّقْصِير فِيهِ، لِأَن الْعَاقِل لَا يعْتَمد تخسيس قِيمَته، وَلَا يغْفل عَمَّا يرفع من قدره. وَأخذ أَبُو الْحسن الْعلوِي كَلَام عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: // من الطَّوِيل // (فيا لائمي دَعْنِي أغالي بقيمتي ... فقيمة كل النَّاس مَا يحسنون) وَقلت فِي هَذَا الْمَعْنى // من السَّرِيع //: (مَا مر بِي يَوْم وَلَا لَيْلَة ... دون ثَنَاء حسن أغنمه) (وَلَيْسَ لي فِي لَيْلَتي رقدة ... من دون علم نَافِع أحكمه) (أَزِيد فِي علمي وَفِي قيمتي ... وَقِيمَة الْإِنْسَان مَا يُعلمهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وَمثل مَا حكيناه عَن الجاحظ، قَول بعض الْحُكَمَاء: يجب للمتعلم أَن يعرف فضل مَا بَين طلب الْعلم للمناسبة والشهوة، وَبَين طلبه للرغبة، وَأَن يعلم أَن الْعلم لَا يجود بمكنونه، وَلَا يسمح بسره ومخزونه، إِلَّا لمن رغب فِيهِ لكرم عنصره، وَفضل جوهره، ورفعة عَن التكسب، وصانه عَن الشباك وانتفع بِهِ، وَأَنه لَا يُعْطِيهِ خَالص فَائِدَته حَتَّى يُعْطِيهِ خَالص محبته. فقد قَالُوا: مَا شَاب من شيب لَهُ. وَقد قيل: لَا ينَال الْعلم براحة الْجِسْم قَالَ الشَّيْخ // من السَّرِيع //: (أَبيت بِاللَّيْلِ غَرِيب الْكرَى ... يَأْخُذ مني الدَّرْس والكتب) (وقيم الْحِكْمَة فِي أنملي ... يصوغ مَا يسبكه اللب) (أنف ضميري حِين أرعفته ... أفرغ مَا استوعبه الْقلب) (لِسَان كفي حِين أنطقته ... أرضاك فِيهِ الْمنطق العذب) (منحل فِي خلقه دابل ... مُعظم فِي فعله ندب) (وَلم يكن بِالْغَضَبِ فِي خلقه ... لكنه فِي صنعه غضب) (ينكسه الْمَرْء فبعلو بِهِ ... وَرب نكس غبه نصب) (ومذ غرفنا لَذَّة لعلم لَا ... يعجبنا الْخُلُو وَلَا العذب) وَقَالَ بعض الْأَوَائِل: لَا يتم الْعلم إِلَّا بِسِتَّة أَشْيَاء: ذهن ثاقب، وزمان طَوِيل، وكفاية، وَعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كثير ومعلم حاذق، وشهوة، وَكلما نقص من هَذِه السِّتَّة شَيْء، نقص بمقداره من الْعلم. قَالَ الشَّيْخ أَبُو أَحْمد: لم يذكر الطبيعة، وَهِي غير الذِّهْن الثاقب، أَلا ترى أَن الشَّاعِر قد يكون ذهنا، وَلَا يكون مطبوعا، وَيكون أَعقل من صَاحبه، وَله مثل عنايته، وَيكون صَاحبه أشعر مِنْهُ، لِأَن الطبيعة تعين الْعقل وتفسح لَهُ. وَقد حُكيَ عَن النظام أَنه قَالَ: لَو نظرت فِي الْعرُوض لأحكمته فِي يَوْمَيْنِ. قَالَ الْأَخْفَش: فَنظر فِيهِ فَلم يعرف المتحرك من السَّاكِن فِي شَهْرَيْن. والطبيعة تسهل الطّرق وتقرب الْبعيد. وَذكر الشَّهْوَة لِأَن النَّفس إِذا اشتهت الشَّيْء، كَانَت أسمح فِي طلبه، وَأنْشط لاتماسه، وَهِي عِنْد الشَّهْوَة أقبل للمعاني، وَإِذا كَانَت كَذَلِك لم تدخر من قواها، وَلم تحبس من مكنونها شَيْئا، وآثرت كد النّظر على رَاحَة التّرْك، وَلذَلِك قيل: يجب على طَالب الْعلم أَن يبْدَأ فِيهِ بالمهم، وَأَن يخْتَار من صنوفه مَا هُوَ أنشط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 لَهُ، وطبعه بِهِ أغْنى، فَإِن الْقبُول على قدر النشاط، وَالْبُلُوغ على قدر الْعِنَايَة. وَذكر الْكِفَايَة لِأَن التكسب وَتعذر المعاش مقطعَة، وَالرَّغْبَة إِلَى الرِّجَال مذلة، وَالْحَاجة تميت النَّفس وتفسد الْحس. وَذكر الْمعلم الحاذق لِأَنَّهُ رُبمَا أَخذ المتعلم سوء عبارَة الْمعلم، وَذَلِكَ إِذا لم يكن حاذقا بطرق التَّعْلِيم، عَالما بِتَقْدِيم المبادئ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يحل المتعلم مِنْهُ بطائل، لِأَن الْمُقدم إِذا أخر والمؤخر إِذا قدم، بَطل نظام التَّعْلِيم، وضلت مُقَدمَات الْأُمُور، فَأدى المتعلم ذَلِك، وَإِن اجْتهد إِلَى الْبعد والتأخر، وعَلى قدر الأساس يكون الْبناء. وَذكر (ثقوب الذِّهْن) لِأَنَّهُ عِلّة الْقبُول وَسبب الْفَهم، والبلادة تنَافِي ذَلِك الْفَهم وَالْقَبُول، والبليد لَا يَنْفَعهُ طول التَّعْلِيم، كالصخر لَا ينْبت فِيهِ بدوام الْمَطَر. وَذكر (كَثْرَة الْعَمَل) لِكَثْرَة الْعلم، وَكَثْرَة الْعَوَائِق والموانع، وَقصر الْعُمر، فَمن لَا يدأب فِي الطّلب، وَيكثر من الالتماس فِي وَقت الْفَرَاغ، وَقُوَّة الشَّبَاب، قطعته القواطع بعد قَلِيل، فَيبقى صفرا وعاريا عطلا. قَالَ الشَّيْخ أَبُو هِلَال: فَإِذا كَانَ الْعلم مؤنسا فِي الْوحدَة، ووطنا فِي الغربة، وشرفا للوضيع، وَقُوَّة للضعيف، ويسارا للمقتر، ونباهة للمغمور حَتَّى يلْحقهُ بالمشهور الْمَذْكُور، كَانَ من حَقه أَن يُؤثر على أنفس الأعلاق، وَيقدم على أكْرم العقد، وَمن حق من يعرفهُ حق مَعْرفَته أَن يجْتَهد فِي التماسه ليفوز بفضيلته. فَإِن من كَانَت هَذِه خصاله، كَانَ التَّقْصِير فِي طلبه قصورا، والتفريط فِي تَحْصِيله لَا يكون إِلَّا بِعَدَمِ التَّوْفِيق، وَمن أقصر عَنهُ أَو قصر دونه، فليأذن بخسران الصَّفْقَة، وليقر بقصور الهمة، وليعترف بِنُقْصَان الْمعرفَة، وليعلم أَنه غبن الْحَظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الأوفر، وخدع عَن النَّصِيب الأجزل، وَبَاعَ الأرفع بالأدون، وَرَضي بالأخس عوضا عَن الْأَنْفس، وَذَلِكَ هُوَ الضلال الْبعيد. وَأخْبرنَا الشَّيْخ أَبُو أَحْمد: عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْعَطَّار، عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أنس المطوعي عَن صَالح المري، عَن مَالك بن دِينَار قَالَ: قَرَأت فِي بعض كتب الله: أَن الْحِكْمَة تزيد الشريف شرفا، وترفع الْمَمْلُوك حَتَّى تجلسه مجَالِس الْمُلُوك. وَمثل ذَلِك قَول الْحسن رَحمَه الله: يرحم الله لُقْمَان، لقد كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 عبدا حَبَشِيًّا، فَجعل الله كَلَامه قُرْآنًا وَحدثنَا الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِي، حَدثنَا ابْن أبي خَيْثَمَة، سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول: بَلغنِي أَن الْأَعْمَش قَالَ: أَنا مِمَّن رَفعه الله تَعَالَى بِالْقُرْآنِ، لَكَانَ على رقبتي دن صحناء أبيعه. وَقَالَ مرّة اخرى: رَأَيْت الْأَعْمَش لبس فروا مقلوبا وبتا، ثمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي تعلمت الْعلم لَكُنْت بقالا يقذرني النَّاس أَن يشتروا مني. وَمثل ذَلِك: أَن الرياشي رأى سقاء على رقبته قربَة، فَقَالَ: لَوْلَا الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 لكذت مثل هَذَا. وَكَانَ أَبوهُ عبدا سقاء. وَكَانَ عَطاء بن أبي رَبَاح أسود ممزوجا، وَكَانَ إِذا جئناه نهاب أَن نَسْأَلهُ حَتَّى يمس عارضيه، أَو يَتَنَحْنَح، فَكَانَ ذَلِك إِذْنه فِي السُّؤَال فَكَانَ ندنو مِنْهُ حِينَئِذٍ ونسأله. وَكَانَ مُجَاهِد من سودان مَكَّة مولى لِابْنِ عَبَّاس. قَالَ مُجَاهِد: كَانَ ابْن عمر يَأْخُذ لي بالركاب، وَيُسَوِّي على ثِيَابِي إِذا ركبت. وَحدثنَا قَالَ: حَدثنَا بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْفضل، حَدثنَا الْمبرد، عَن الياشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: قَالَ أَبُو الْأسود: لَيْسَ شَيْء أعز من الْعلم، وَذَلِكَ أَن الْمُلُوك حكام على النَّاس، وَالْعُلَمَاء حكام على الْمُلُوك. قَالَ الشَّيْخ أَبُو هِلَال: ولعمري أَن شَيْئا ينزل الْمَمْلُوك منزلَة الْمُلُوك، وَيحل التَّابِع مَحل الْمَتْبُوع، وَيحكم بِهِ السوقة على الْملك الْعَظِيم، لحقيق أَن ينافس فِيهِ، ويحسد صَاحبه عَلَيْهِ، ويجتهد فِي طلبه أَشد الِاجْتِهَاد، وأمرا يخْدم فِيهِ عبد الله بن عمر مُجَاهدًا، وَمُجاهد هُوَ ابْن جبر، أحد مماليك مَكَّة، وَعبد الله عبد الله فِي فَضله وزهده وورعه وشهرة اسْمه، أَبوهُ فِي شرفه ومكانه من الصحية، ثمَّ من رُتْبَة الْخلَافَة، وَملكه الأَرْض شرفا وغربا، وَطَاعَة أهل الْإِسْلَام وَالْكفْر لَهُ طَوْعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَكرها، لحرى أَن يرغب فِيهِ الْعَاقِل ويحافظ عَلَيْهِ اللبيب. وَشَيْبَة بِفعل ابْن عمر، مَا رُوِيَ أَن عدي بن أَرْطَأَة، وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة، قَالَ لوكيع بن أبي سود: سو عَليّ ثِيَابِي فَقَالَ وَكِيع: أَيهَا الْأَمِير ذَكرتني ضيق خَفِي. فَضَحِك عدي وَقَالَ: إِن الْأَخ يَلِي من أَخِيه مَا هُوَ أكبر من هَذَا. فَقَالَ وَكِيع: إِذا عزلت فكلفنا مَا شِئْت وَكَانَ وَكِيع مَعَ ذَلِك يَأْخُذ بركاب الْحسن إِذا أَرَادَ الرّكُوب. قَالَ الشَّيْخ أَبُو هِلَال: ولفضل الْعلم ذلت فِي التماسه الأعزاء، وتواضع الكبراء، وخضع لأَهله ذَوُو الأحلام الراجحة، والنفوس الأبية، والعقول السليمة، وَاحْتَملُوا فِيهِ الْأَذَى، وصبروا على الْمَكْرُوه. وَمن طلب النفيس خاطر بالنفيس، وصبر على الخسيس. وَمِثَال ذَلِكَ: مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ، حَدثنَا أَبُو بكر السراح النَّحْوِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قَالَ: قَالَ لنا إِبْرَاهِيم بن البحتري: قَالَ لنا عمر بن شبة: كُنَّا نَكُون عِنْد الْأَصْمَعِي فَيَجِيء أَصْحَابنَا: الرياشي، والزيادي، والمازني، والجرمي، والسدري، والسجستاني، والخلق، فيجلس فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 دهليز وَفِي الدهليز تُرَاب، قدر عَظِيم الذِّرَاع، فتسفي الرّيح علينا التُّرَاب، فَيدْخل فِي رؤوسنا. فَقَالَ لنا يَوْمًا وَقد رأى مَا نَحن فِيهِ: كَانَ يُقَال: إِذا كثرت الْمُؤْتَفِكَات زكتْ الأَرْض، أَن الرِّيَاح تجلب تُرَابا من أَرض غَرِيبَة إِلَى أَرض أُخْرَى. قَالَ الْأَصْمَعِي: فشعوركم الْآن تزكو بِهَذَا التُّرَاب. فَقَالَ الرياشي: انْظُرُوا إِلَى ابْن الفاعلة مَا يصنع بِنَا، وَكَيف يستخف بِنَا ويسخر منا. قَالَ أَبُو هِلَال: سميت الرِّيَاح: الْمُؤْتَفِكَات، لِأَنَّهَا لَا تتماسك، وأصل هَذِه الْكَلِمَة: عدم التماسك. وَسمي الْكَذِب إفكا، إِذْ كَانَ يدل على نَفسه بِالْفَسَادِ والبطلان، كَأَنَّهُ لَا يتماسك. وَأخْبرنَا الشَّيْخ أَبُو أَحْمد، أخبرنَا أَبُو بكر بن دُرَيْد، أخبرنَا عبد الرَّحْمَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قَالَ: سَمِعت عمي يحدث قَالَ: سهرت لَيْلَة من اللَّيَالِي بالبادية، وَأَنا نَازل على رجل من أهل القصيم، وَكَانَ وَاسع الرحل، كريم الْمحل، فَأَصْبَحت وَقد عزمت على الرُّجُوع إِلَى الْعرَاق، فَأتيت أَبَا مثواي، فَقلت: إِنِّي هلعت من طول الغربة، وَاشْتقت أَهلِي، وَلم أفد فِي قدمتي هَذِه إِلَيْكُم كَبِير علم، وَإِنَّمَا كنت أغتفر وَحْشَة الغربة وجفاء الْبَادِيَة للفائدة. فأظهر توجعا. ثمَّ أبرز غذَاء، فتغذيت مَعَه، ثمَّ أَمر بِنَاقَة لَهُ مهرية، كَأَنَّهَا سبيكة لجين فارتحلها، ثمَّ ركب وأردفني وأقبلها مطلع الشَّمْس، فَمَا سرنا كَبِير مسير حَتَّى لَقينَا شيخ على حمَار، فَسلم عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا بن عَم أتنشد أم تَقول فَقَالَ: كلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قَالَ: فَأَنَاخَ، وَقَالَ: خُذ بيد عمك فأنزله عَن حِمَاره، فَفعلت. فَقَالَ: أنشدنا، رَحِمك الله، وَتصدق على هَذَا الْغَرِيب بِأَبْيَات يعيهن عَنْك، ويذكرك بِهن. فَقَالَ إيها ... الله أكبر، وَأنْشد: // من الطَّوِيل //. (لقد طَال يَا سَواد مِنْك المواعد ... وَدون الجدي المأمول مِنْك الفراقد) (تمنيننا غدوا وغيمكم غَدا ... ضباب، فَلَا صحو وَلَا هُوَ جائد) (إِذا أَنْت أَعْطَيْت الْغنى ثمَّ لم تَجِد ... بِفضل الْغنى ألفيت مَالك حَامِد) (وَقل غناء عَنْك مَال جمعته ... إِذا صَار مِيرَاثا وواراك لأحد) (إِذا أَنْت لم تعرك بجنبك بعض مَا ... يريب من الْأَدْنَى رماك الأباعد) (إِذا أَنْت لم تتْرك طَعَاما تحبه ... وَلَا مَجْلِسا تَدعِي إِلَيْهِ الولائد) (تجللت عارا لَا يزَال يشينه ... سباب الرِّجَال نثرهم والقصائد) . وأنشدني أَيْضا: // من الطَّوِيل //. (تعز فَإِن الصَّبْر بِالْحرِّ أجمل ... وَلَيْسَ على ريب الزَّمَان معول) (فَإِن تكن الْأَيَّام فِينَا تبدلت ... ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل) (فَمَا لينت منا قناة صليبة ... وَلَا ذللتنا للَّتِي لَيْسَ يجمل) (وَلَكِن رحلناها نفوسا كَرِيمَة ... تحمل مَا لَا تَسْتَطِيع فَتحمل) (وقينا بعزم الصَّبْر منا نفوسنا ... فَصمت لنا الْأَعْرَاض وَالنَّاس هزل) قَالَ الْأَصْمَعِي: فَقُمْت، وَالله، وَقد أنسيت أَهلِي، وَهَان عَليّ طول الغربة، وشظف الْعَيْش، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 سُرُورًا بِمَا سَمِعت. ثمَّ قَالَ: يَا بني من لم يكن إستفادة الْأَدَب أحب إِلَيْهِ من الْأَهْل وَالْمَال لم ينجب. قَالَ الشَّيْخ: شظف الْعَيْش: شدته وخشونته. قُلْنَا: وَمن عرف الْعلم وفضله، لم يقْض نهمته مِنْهُ، وَلم يشْبع من جمعه طول عمره، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا أَخْبَرَنَا بِهِ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ مَنِيعٍ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ اللَّيْث، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ النَّبِي: مَنْهُومَانِ لَا يَقْضِي وَاحِدٌ مِنْهُمَا نَهْمَتَهُ: مَنْهُومٌ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَنْهُومٌ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَجْوَعُ النَّاسِ قَالَ: طَالِبُ الْعِلْمِ، قِيلَ: فَمَنْ أَشْبَعُهُمْ قَالَ: الَّذِي لَا يَبْتَغِيهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ عَالِمًا مَا تَعَلَّمَ، فَإِذَا تَرَكَ كَانَ أَجْهَلَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يَكُونُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو هِلالٍ: وَنَحْوُ هَذَا مَا قلته: // من الطَّوِيل // (أَحْقَر نَفسِي وَهِي نفس جليلة ... تكتفها من جانبيها الْفَضَائِل) (أحاول أَنْ تَزِيدَ فَتَرْتَقِي ... إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمُو إِلَيْهِ الْمُحَاوِلُ) (وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَبْغِ الزِّيَادَةَ فِي العلى ... فَأَنْتَ عَلَى النُّقْصَانِ مِنْهُنَّ حَاصِلٌ) وَقِيلَ لابْنِ الْمُبَارَكِ: إِلَى كَمْ تَكْتُبُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي أَنْتَفِعُ بِهَا لَمْ أَسْمَعْهَا بَعْدُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَنْ تَرَأَّسَ سَرِيعًا أَضَرَّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَمَنْ لَمْ يَتَرَأَّسْ طَلَبَ وَطُلِبَ حَتَّى بلغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: رَحَلَ مَسْرُوقٌ فِي آيَةٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَسَأَلَ عَنِ الَّذِي يُفَسِّرُهَا. فَأُخْبِرَ أَنَّهُ بِالشَّامِ، فَتَجَهَّزَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى سَأَلَ عَنْهَا. وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَطْلَبَ لِلْعِلْمِ فِي الآفَاقِ مِنْ مَسْرُوقٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنِّي كُنْتُ لأَسِيرُ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطْلُبُوا الْعلم كل اثْنَيْنِ وَخمسين، فَإِنَّهُ مُيَسَّرٌ لِمَنْ طَلَبَهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ حَاجَةً فَلْيُبَكِّرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَاتِ فِي الْبُكُورِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَقَالَ أربدة التَّمِيمِي: مَا سَمِعت بِأَرْض فِيهَا علم إِلَّا أَتَيْتُهَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى: لَقَدْ طَلَبْتُ الْعِلْمَ بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى ظَنَّ الْغَرِيبُ إِذَا دَخَلَهَا أَنِّي بِهَا غَرِيبٌ، لِشِدَّةِ طَلَبِي وَحِرْصِي عَلَى الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَدِمْتُ الْكُوفَةَ فَوَجَدْتُ بِهَا أَرْبَعَةَ آلافِ شَابٍّ يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَمَا زَالَ قَتَادَة متعلما حَتَّى مَاتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ، عَنْ نَفْطَوَيْهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ قَالَ: قَالَ رَقَبَةُ لَلأَعْمَشِ: إِنَّ إِتْيَانَكَ لَذُلٌّ، وَإِنَّ الْجُلُوسَ عِنْدَكَ لَحَسْرَةٌ، وَمَا أُشَبِّهُكَ إِلا بِدَوَاءِ الْمَشْي، يحْتَمل مَا فِيهِ من الْكَرَاهَة، لِمَا يُرْجَى فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ. وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخ يحب تَقْدِيم شَاب يَجْلِسُ إِلَيْهِ، فَيَتَأَخَّرُ وَيَغِيبُ، فَقَالَ لَهُ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ كُرْدُوسٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: مَنْ غَابَ خَابَ، وَأَكَلَ نَصِيبَهُ الأَصْحَابُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو هِلالٍ: وَنَحْوُ هَذَا مَا قلته: // من مجزوء الْكَامِل // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 (مَنْ كَانَ عَنْكَ مَغِيبًا ... أَسْلاكَ عَنْهُ مَغِيبُهُ) (وَإِذَا تَطَاوَلَ هَجْرُهُ ... نُسِيَ اللِّقَاءُ وَطِيبُهُ) (أَوَ مَا سَمِعْتَ مَقَالَهُمْ ... مَنْ غَابَ، غَابَ نَصِيبُهُ) وَقيل لبزرجمر: بِمَ جَمَعْتَ هَذَا الْعِلْمَ الْكَثِيرَ قَالَ: بِبُكُورٍ لبكور الْغُرَابِ، وَحِرْصٍ كَحِرْصِ الْخِنْزِيرِ، وَصَبْرٍ كَصَبْرِ الْحِمَارِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ شُعْبَةَ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: مَا بَالُ حَدِيثِكَ نَقِيًّا قَالَ: لِتَرْكِي الْعَصَائِدَ بِالْغَدَوَاتِ. وَسُئِلَ شَرِيكٌ عَنْ حَدِيثٍ، فَقَالَ: هَذَا مَا فاتنا فِيهِ العصائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَقَالَ ابْن عَبَّاس: ذَلَلْتُ طَالِبًا فَعَزَزْتُ مَطْلُوبًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ: قَدْ شَجَّنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي الْعِلْمِ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ الأَعْمَشُ: الْحِبْرُ فِي ثِيَابِ صَاحِبِ الْحَدِيثِ أَحْسَنُ مِنَ الْخَلُوقِ فِي ثِيَاب الْعَرُوسِ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَا اسْتَوْدَعْتُ قَلْبِي شَيْئًا قَطُّ فَنَسِيتُهُ. قُلْنَا: وَحَسْبُكَ بِهَذَا عِنَايَةً وَتَوَفُّرًا. وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ لَا يَأْكُلُ التُّفَاحَ، وَعِنْدَ الأَطِبَّاءِ أَنَّ التُّفَاحَ يَمْلأُ الْمَعِدَةَ لزُوجَاتٍ تُشْغِلُ وَتُنْسِي، وَكَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ وَيَقُولُ: إِنَّهُ يذكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ الأَنْبَارِيِّ كَانَ يُؤْتَى بِالرُّطَبِ، فَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلا يَمَسُّهُ، وَيَقُولُ لَهُ: مَا أطيبك وأحلاك، وَالْعلم أَطْيَبُ مِنْكَ وَأَحْلَى وَلا يَنَالُ مِنْهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ رَأَى ابْنَهُ أَبَا هَاشِمٍ يَأْكُلُ بَاذِنْجَانَةً فِي بُسْتَانٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ، وَلَكَ كَذَا وَكَذَا دِينَارا، فألقاها وَأخذ الدَّنَانِير. وَقَالَ ابْنُ الْمَرَاغِيِّ: يَنْبَغِي أَنْ يُخَادِعُ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي الدَّرْسِ. وَقَالَ ابْنُ جَرْوٍ الْمَوْصِلِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ الإِنْسَانُ دَرْسَهُ لِلأَخْبَارِ وَالأَشْعَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 لِوَقْتِ مَلَلِهِ. وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ إِذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ سَمِعْتُ لَهُ هَمْهَمَةً مِنَ الدَّرْسِ وَالْقِرَاءَةِ، وَيَقُولُ: كَانَ يُقَالُ الْعِلْمُ مَا دَخَلَ مَعَكَ الْحَمَّامَ. يَحُثُّ عَلَى الْحِفْظِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفَلاسِفَةِ: الْعِلْمُ مَا إِذَا غَرِقَتْ سَفِينَتُكَ يَسْبَحُ مَعَك. يَقُول الْعلم هُوَ مَحْفُوظ. قُلْنَا: وَالْحِفْظُ لَا يَكُونُ إِلا مَعَ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ وَكَثْرَةِ الدَّرْسِ وَطُولِ الْمُذَاكَرَةِ، وَالْمُذَاكَرَةُ حَيَاةُ الْعِلْمِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَرْسٌ لَمْ يَكُنْ حفظ، وَإِذا لم يكن مُذَاكَرَةٌ قَلَّتْ مَنْفَعَةُ الدَّرْسِ، وَمَنْ عَوَّلَ عَلَى الْكِتَابِ وَأَخَلَّ بِالدَّرْسِ وَالْمُذَاكَرَةِ ضَاعَتْ ثَمَرَةُ سَعْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: // من الطَّوِيل // (زوامل للأشعار لَا علم عِنْدهم ... بجيدها إِلَّا كعلم الأباعر) (لعمرك مَا يدْرِي الْبَعِير إِذا غَدا ... بأجماله أَو رَاح مَا فِي الغرائر) (وَلَيْسَ عِلْمًا مَا وَعَى الْقِمَطْرُ ... مَا الْعِلْمُ إِلا مَا وَعَاهُ الصَّدْرُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَأَنْشَدَنَا الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ الْعَلافِ لأبي عَليّ الْبَصِير // من الطَّوِيل // (إِذَا مَا غَدَتْ طلابَةُ الْعِلْمِ لَمْ تَنَلْ ... من الْعلم إِلَّا مَا تخلد فِي الْكُتُبِ) (غَدَوْتُ بِتَشْمِيرٍ وَجَدٍّ عَلَيْهِمْ ... فَمَحْبَرَتِي أُذَنِي وَمُصْحَفُهَا قَلْبِي) قَالَ الشَّيْخُ وَقُلْتُ فِي قريب مِنْهُ // من الطَّوِيل // (تُقِلُّ غَنَاءً عَنْ جَهُولٍ مُغَمَّرٍ ... دَفَاتِرُ تُلْقَى فِي الظُّرُوفِ وَتُرْفَعُ) (تَرُوُحُ وَتَغْدُو عِنْدَهُ فِي مَضْيَعَةٍ ... وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ نَفِيسٍ يُضَيَّعُ) وَأنْشد النظام قَول مُحَمَّد بن البشير // من المتقارب // (أَمَا لَوْ أَعِي كُلَّ مَا أَسْمَعُ ... وَأَحْفَظُ مِنْ ذَاكَ مَا أَجْمَعُ) (وَلَمْ أَسْتَفِدْ غَيْرَ مَا قَدْ سَمِعْتُ ... لَقِيلَ هُوَ الْعَالِمُ الْمِصْقَعُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 (وَلَكِنَّ نَفْسِي إِلَى كُلِّ شَيْءٍ ... مِنَ الْعِلْمِ تَسْمَعُهُ تَنْزَعُ) (فَلا أَنَا أَحْفَظُ مَا قَدْ جَمَعْتُ ... وَلا أَنَا مِنْ جَمْعِهِ أَشْبَعُ) (وَأَحْضُرُ بِالصَّمْتِ فِي مَجْلِسِي ... وَعِلْمِي فِي الْكُتُبِ مَسْتَوْدَعُ) (وَمَنْ يَكُ فِي عِلْمِهِ هَكَذَا ... يَكُنْ دَهْرُهُ الْقَهْقَرَى يَرْجِعُ) (إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا ... فَجَمْعُكَ لِلْكُتُبِ لَا يَنْفَعُ) فَقَالَ النّظَّامُ: كَلَّفَ ابْنُ بَشِيرٍ الْكُتُبَ مَا لَا تُكَلَّفُ، إِنَّ الْكُتُبَ لَا تُحْيِي الْمَوْتَى، وَلا تُحَوِّلُ الأَحْمَقَ عَاقِلا والبليد ذَكِيًّا، وَلَكِنَّ الطَّبِيعَةَ إِذَا كَانَ فِيهَا أَدْنَى قَبُولٍ فَالْكُتُبُ تَشْحَذُ وَتَفْتُقُ وَتَرْهُفُ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ شَيْءٍ فَيَنْبَغِي لأَهْلِهِ أَنْ يُدَاوُوهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا تَصَوُّرٌ لَهُ لِشَيْءٍ اعْتَرَاهُ. وَسَمِعَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ رَجُلا يُنْشِدُ: // من الْبَسِيط // (استودع الْعلم قرطاسا فضيعه ... وَبئسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ) فَقَالَ: قَاتَلَهِ اللَّه مَا أَشد صيانته بِالْعِلْمِ، وَصِيَانَتَهِ لِلْحِفْظِ، إِنَّ عِلْمَكَ مِنْ رُوحِكَ، وَمَالك من بدنك، فصنها عَلَى قَدْرِ هَذَيْنِ مِنْكَ. وَكَانَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمد، رَحمَه الله، يَقُولُ: الاحْتِفَاظُ بِمَا فِي صَدْرِكَ أَوْلَى مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 دَرْسِ مَا فِي كِتَابِكَ. وَقَالَ: اجْعَلْ مَا فِي كِتَابِكَ رَأْسَ الْمَالِ، وَمَا فِي صَدْرِكَ لِلنَّفَقَةِ. وَقِيلَ لأَبِي نَوَّاسٍ: قَدْ بَعَثُوا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَالأَصْمَعِيِّ لِيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: أَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ، فَإِنْ أَمْكَنُوهُ مِنْ سَفَرٍ قَرَأَ عَلَيْهِمْ أَسَاطِيرَ الأَوَّلِينَ، وَأَمَّا الأَصْمَعِيُّ فَبُلْبُلٌ يُطْرِبُهُمْ بِنَغَمَاتِهِ. وَحَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَنِ الصُّولِيِّ عَنِ الْجُمَحِيِّ قَالَ: قَالَ التَّوَّزِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يَقُولُ: اخْتَلَفْتُ إِلَى يُونُسَ أَرْبَعِينَ سَنَةً كُلُّ يَوْم، أملأ ألواحي من حفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وأنصرف. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ وَقَلْبُهُ شِعْبٌ مِنَ الشِّعَابِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ وَاديا، وَلَا يُوضَعُ فِيهِ شَيْءٌ إِلا الْتَهَمَهُ. قُلْنَا: يُرِيدُ أَنَّ أَوَّلَ الْحِفْظِ شَدِيدٌ، يَشُقُّ عَلَى الإِنْسَانِ، ثُمَّ إِذَا اعْتَادَ سَهُلَ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ عَنِ الصُّولِيِّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أُسَامَةَ قَالَ: كَانَ الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: كُلُّ وِعَاءٍ أَفْرَغْتَ فِيهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَضِيقُ، إِلا الْقَلْبَ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا أُفْرِغَ فِيهِ اتَّسَعَ. وقَالَ أَبُو السَّمْحِ الطَّائِيُّ: كُنْتُ أَسْمَعُ عُمُومَتِي فِي الْمَجْلِسِ يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ، فَإِذَا اسْتَعَدْتُهُمْ زَجَرُونِي وَسَبُّونِي، وَقَالُوا: تَسْمَعُ شَيْئًا وَلا تَحْفَظُهُ قَالَ الشَّيْخُ: وَكَانَ الْحِفْظُ يَتَعَذَّرُ عَلَيَّ حِينَ ابْتَدَأْتُ أَرُومُهُ، ثُمَّ عَوَّدْتُهُ نَفْسِي، إِلَى أَنْ حَفِظْتُ قَصِيدَةَ رُؤْبَةَ (وَقَاتِمُ الأَعْمَاقِ خَاوِيَ الْمُخْتَرَقِ ... ) فِي لَيْلَةٍ وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ مِائَتَيْ بَيْتٍ. وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا وَضَعْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ قَطُّ، وَلا حَدَّثَنِي أَحَدٌ بِحَدِيثٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فَاحْتَجت إِلَى أَن يُعِيدهُ عَليّ. قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلدَّارِسِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ فِي دَرْسِهِ حَتَّى يُسْمِعَ نَفْسَهُ، فَإِنَّ مَا سَمِعَتْهُ الأُذُنُ رَسَخَ فِي الْقَلْبِ، وَلِهَذَا كَانَ الإِنْسَانُ أَوْعَى لِمَا يَسْمَعُهُ مِنْهُ لِمَا يَقْرَأُهُ. وَإِذَا كَانَ المدروس مِمَّا يفسح طَرِيق الْفَصَاحَةِ، وَرَفَعَ بِهِ الدَّارِسُ صَوْتَهُ، زَادَتْ فَصَاحَتُهُ. وَحُكِيَ لِي عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ فِي بَعْضِ قُرَى النَّبَطِ فَتًى فَصِيحَ اللَّهْجَةِ، حَسَنَ الْبَيَانِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ سَبَبِ فَصَاحَتِهِ مَعَ لُكْنَةِ أَهْلِ جِلْدَتِهِ، فَقَالَ: كُنْتُ أَعَمِدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَى خَمْسِينَ وَرَقَةً مِنْ كتب الجاحظ، فأرفع بهَا صوتي فِي قِرَاءَتِهَا، فَمَا مَرَّ لِي إِلا زَمَانٌ قَصِيرٌ حَتَّى صِرْتُ إِلَى مَا تَرَى. وَحُكِيَ لِي عَنْ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لأَصْحَابه: إِذا درستم فارفعوا أَصْوَاتكُم، فَإِنَّهُ أثت لِلْحِفْظِ وَأَذْهَبُ لِلنَّوْمِ. وَكَانَ يَقُولُ: الْقِرَاءَةُ الْخَفِيَّةُ لِلْفَهْمِ، وَالرَّفِيعَةُ لِلْحِفْظِ وَالْفَهْمِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْرَأُ الْكِتَابَ ثُمَّ يُذَاكِرُ بِهِ حَرْفًا حَرْفًا، كَانَ قَارِئًا يقرأه عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فيفسره لَهُ. وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ يَكْشِفُ عَنْ ظَهْرِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ، يَطْرُدُ بِهِ النَّوْمَ. وَحَكَى الرَّبِيعُ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - أَنَّهَا قَالَتْ: أَسْرَجْتُ لأَبِي فِي لَيْلَةٍ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُول: الظلمَة أَضْوَأ للقلب. وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّكَاءَ وَجَوْدَةَ الْقَرِيحَةِ وَثُقُوبَ الذِّهْنِ جَوَاهَرُ نَفِيسَةٌ، فَإِذَا طَلَبَ صَاحِبُهَا الْعِلْمَ، فَبَلَغَ فِيهِ مَبْلَغًا، فَقَدْ حَفِظَ جَمَالَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَحْرَزَ مَنْفَعَتَهَا لَهَا. وَمَنْ تَرَكَ الطَّلَبَ حَتَّى كَلَّ ذِهْنُهُ، وَعَمِيَتْ فِطْنَتُهُ، وَتَبَلَّدَتْ قَرِيحَتُهُ مَعَ إِدْبَارِ عمره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 كَانَ كَمَنْ عَمَدَ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْيَاقُوتِ وَالدُّرِّ فَرَضَّهُ، وَأَبْطَلَ الْجَمَالَ وَالنَّفْعَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ مَا جَمَعْتَهُ مِنَ الْعِلْمِ قَلِيلا وَكَانَ حِفَظًا، كَثُرَتِ الْمَنْفَعَةُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كثيرا غير مَحْفُوظ، قلت منفعَته. وَحَدَّثَنِي الضَّرَّابُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ النَّفَّاطُ يَقُولُ: كَانَ عِلْمُ الأَصْمَعِيِّ فِي قِمَطْرٍ إِلا أَنَّهُ كَانَ حِفْظًا. وَكَانَتْ كُتُبُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ مِلْءَ بَيْتٍ، فَاحْتَرَقَ، فَكَانَ جَمِيعُ مَا يُؤْخَذ مِنْهُ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ مِنْ حِفْظِهِ. وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَخْبَارُ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْخُطْبَةَ وَالْقَصِيدَة الطويلتين فيحفظونهما. وَمَا روى أَنهم كَانُوا اسْتَعَادُوا الْخَطِيبَ وَالشَّاعِرَ شَيْئًا مِنْ كَلامِهِمَا. وَكَانَ مِنَ الْمُوَلَّدِينَ مَنْ وُصِفَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ. أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ عَنْ رِجَالِهِ قَالَ: أَمَرَ الرَّشِيدُ أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ، بِأَنْ يَجْمَعَ لَهُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ فَيُحَدِّثُوهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَوَلَدَهُ، فَجَمَعَ لَهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَحَضَرُوا، إِلا عبد الله بن إِدْرِيس، وَعِيسَى ابْن يُونُسَ، فَإِنَّهُمَا أَبَيَا أَنْ يَحْضُرَا. فَرَكِبَ إِلَيْهِمَا الأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ، فَحَدَّثَهُمَا عَبْدُ اللَّه بْنُ إِدْرِيسَ بِمِائَةِ حَدِيثٍ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَقْرَأَهَا عَلَيْكَ مِنْ حِفْظِي فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ. فَوَضَعَ الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ، وَقَرَأَهَا بَأَسَانِيدِهَا مِنْ حِفْظِهِ. وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ مَالا، فمل يَقْبَلْهُ، وَسَأَلَهُ الْمَأْمُونُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِطَبِيبٍ يُدَاوُيهِ مِنْ جِرَاحَةٍ بِهِ، فَأَبَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَقَالَ: يشفيني الَّذِي أمرضي. وَحَدَّثَهُمَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، فَأَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْبَةَ مَاءٍ. فَزَادَهِ الْمَأْمُونُ عَشَرَةَ آلافٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَقَالَ: لَوْ مَلأْتَ هَذَا الْمَسْجِدَ لي ذَهَبا لم أقبله. وَقَالَ الْمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ لِلْمَأْمُونِ: أَيَحْسُنُ بِمِثْلِي أَنْ يَتَعَلَّمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَنْ تَمُوتَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَمَوتَ قَانِعًا بِالْجَهْلِ. وَرُوِيَ أَن أَبَا الْعَبَّاس ابْن سُرَيْجٍ لَمْ يَبِتْ عَلَى فِرَاشِهِ حَتَّى مَاتَ ابْن دَاوُد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَحُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفَارِقُهُ كِتَابٌ يَدْرُسُهُ، فَإِذَا دَعَاهُ رَجُلٌ إِلَى دَعْوَةٍ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَسِّعَ لَهُ مِقْدَارَ مَسُورَةٍ، يضع فِيهَا كتابا وَيقْرَأ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ النَّحْوِيُّ يَدْرُسُ جَمِيعَ أَوْقَاتِهِ، حَتَّى فِي الطَّرِيقِ، وَكَانَ رُبَّمَا سَقَطَ فِي جَرْفٍ أَوْ خَبَطَتْهِ دَابَّةٌ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهِ كَانَ يَشُدُّ فِي وَسَطِهِ خَيْطًا إِذا قَامَ من اللَّيْل يدرس خوفًا أَنْ يَسْقُطَ إِذَا نَعَسَ. وَكَانَ ابْنُ الْفُرَاتِ لَا يَتْرُكُ كُلَّ يَوْمٍ إِذَا أَصْبَحَ أَنْ يَحْفَظَ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَتَى تَبْلُغُ مِنَ الْعِلْمِ مَبْلَغًا يُرْضِي، وَأَنْتَ تُؤْثِرُ النَّوْمَ عَلَى الدَّرْسِ، وَالأكْلَ عَلَى الْقِرَاءَةِ. وَسَأَلَ رَجُلٌ أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّا يُورِثُ الْحِفْظَ، فَقَالَ: البرز، البرز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَنَحْو ذَلِك أَن رجلا قَالَ لسقراط: كَيفَ حفظت هَذَا الْعلم فَقَالَ: أَوْقَدْتُ مِنَ الزَّيْتِ أَكْثَرَ مِمَّا شَرِبْتَ مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: كُنْتُ أَحْضُرُ مَجْلِسَ أَبِي حَازِمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْغَدَاةِ، من غير أَن يكون درس، لِئَلَّا أنفض عادتي من الْحُضُورِ. وَاشَتَرى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَهُ جَارِيَةً، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، أَقْبَلَ عَلَى الدَّرْسِ، وَالْجَارِيَةُ تَنْتَظِرُ اجْتِمَاعَهُ مَعَهَا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ سَارَتْ إِلَى النخاس وَقَالَتْ: حَبَسُونِي مَعَ مَجْنُونٍ. فَبَلَغَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَوْلُهَا، فَقَالَ: الْمَجْنُونُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَ الْعِلْمِ ثُمَّ ضَيَّعَهُ، أَوْ تَوَانَى فِيهِ حَتَّى فَاتَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَقَالَ بَعْضُ الْكُتَّابِ: كُنَّا إِذَا دَخَلْنَا عَلَى أَبِي الْفَضْلِ بْنِ الْعَمِيدِ، رَأَيْنَا إِلَى جَانِبِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَمَلِ زُهَاءَ مِائَةِ مُجَلَّدَةٍ، فَنُنْكِرُ ذَلِكَ، فَفَطِنَ يَوْمًا لإِنْكَارِنَا فَقَالَ: إِنِّي أَحْفَظُ جَمِيعَ مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، فَإِذَا اشْتَغَلْتُ بِالْعَمَلِ عَنْ دَرْسِهَا، أَحْضَرْتُهَا عِنْدِي، فَكُلَّمَا نَظَرْتُ إِلَيْهَا ذَكَرْتُ مَحْفُوظِي مِنْهَا، فَقَامَ ذَلِكَ لِي مَقَامَ الدَّرْسِ. ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَّا: خُذْ أَيَّهَا شِئْتَ. فَأَخَذَ الرَّجُلُ مِنْهَا كِتَابًا، وَقَالَ: هُوَ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ كذَا. فَابْتَدَأَ أَبُو الْفَضْلِ فَقَرَأَ مِنْ أَوَّلِهِ صَدْرًا، ثُمَّ مِنْ وَسَطِهِ، ثُمَّ مِنْ آخِرِهِ، فَتَحَقَّقَ عِنْدَنَا أَنَّهُ صَدَقَ مَا قَالَ، وَعَجِبْنَا مِنْ حِفْظِهِ وَعِنَايَتِهِ وَحِرْصِهِ. وَكَانَ يَأْخُذُ ابْنَهُ أَبَا الْفَتْحِ كُلَّ يَوْمٍ بِدَرْسِ أَلْفَيْ بَيْتٍ قَبْلَ الْغَدَاءِ. وَكَانَ يَحْفَظُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ بَيْتٍ. وَكَانَ الأَصْمَعِيُّ يَحْفَظُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ أُرْجُوزَةٍ، فِيهَا مَا كَانَ عدد أبياته الْمِائَةَ وَالْمِائَتَيْنِ. وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِسُرْعَةِ الْحِفْظِ. وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا أَحْمَدَ يَقُولُ: دَخَلَ أَبُو عَلِيٍّ عَلَى عِسْلِ بْنِ ذكْوَان مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 جمَاعَة، فأنشدهم عسل: // من مجزوء الْبَسِيط // (هَلْ خَبَّرَ الْقَبْرُ سَائِلِيهِ ... أَمْ قَرَّ عَيْنًا بِزَائِرِيهِ) (أَمْ هَلْ تَرَاهُ أَحَاطَ عِلْمًا ... بِالْجَسَدِ الْمُسْتَكِنِّ فِيهِ) (لَوْ يَعْلَمُ الْقَبْرُ مَنْ يُوَارِي ... تَاهَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَلِيهِ) وَهِيَ قَصِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ أَنْ يُمْلِيهَا عَلَيْهِمْ، فَوَعَدَهُمْ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَلِيٍّ: لَا تكلفوا الشَّيْخ مَا يكرههُ، فَقَامَ فَأَمْلاهَا عَلَيْهِمْ، وَإِذَا هُوَ قَدْ حَفِظَهَا مِنْ لَفْظِهِ. وَكَانَ عِسْلٌ ضَنِينًا بِعِلْمِهِ، وَكَانَ إِذَا رَأَى مُتَعَلِّمًا ذَكِيًّا يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ قَالَ: يُعِينُ اللَّهُ وَالْبَلْغَمَ. يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ يَبْلُوهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بِمَا يُنَسِّيهِ الْعِلْمَ، وَالْبَلْغَمُ مِمَّا يُنَسِّي. وَذُكِرَ لِي عَنْ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: ضَاقَتْ بِي الْحَالُ أَيَّامَ طَلَبِي الْعِلْمَ، فعجزت عَن شِرَاء البرز، فَكُنْتُ أَخْرُجُ بِاللَّيْلِ إِلَى الدَّرْبِ الَّذِي أَنْزِلُهُ، وأرتفق بسراج الحارس، وَكَانَ رُبمَا ينَام الحارس، فَكنت أنوب عَنهُ هَذَا - وَأَبِيكَ - الْحِرْصُ وَالاجْتِهَادُ، لَا جَرْمَ أَنَّهُ صَارَ أَحَدَ أَعْيَانِ الدُّنْيَا الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفضل والبراعة والجاه العريض الْبَاقِي عَلَى أَعْقَابِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، وَمَنْ طَلَبَ وَجَدَ، إِلا مَا قَلَّ وَشَذَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لأَبِي هَاشِمٍ: مَا أَحْسَنَ جَمْعَكَ لِمَعَانِي كُتُبِ أبي عَليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَاخْتِصَارَكَ لِكَلامِهِ. فَقَالَ: قَدْ دُسْتُ كُتُبَهُ دَوْسًا، وَأَكَلْتُهَا وَشَرِبْتُهَا دَرْسًا، فَعَرَفْتُهَا ظَهْرًا وَبَطْنًا. قُلْنَا: إِلا مَا كَانَ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ علومه، فَإِنَّهُ لم يكن لأبي هَاشم فِيهِ تَقَدُّمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الاجْتِهَادِ لِظَنِّهِ آيَةَ التَّحَدِّي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي ظَنِّي مَدَنِيَّةً) ، وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِ أَبِي هَاشِمٍ، وَآيَاتُ التَّحَدِّي فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَالأَمْرُ فِي سُورَةِ الَبَقَرَةِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ مُتَعَلِّمٌ فَضَلا عَنْ عَالِمٍ. وَأَمْلَى أَبُو عَلِيٍّ جَمِيعَ كُتُبِهِ مِنْ حِفْظِهِ، وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفِ وَرَقَةٍ، وَمَا رَأَى أَحَدٌ مَعَهُ دَفْتَرًا قَطُّ إِلا فِي أَيَّامِ تَعَلُّمِهِ، وَلَيْسَ فِي بَيْتِهِ إِلا مُصْحَفٌ وَتَقْوِيمٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ إِلَّا بعد الْجهد الشَّديد والتعب الْكَبِير. وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ أَبِي عَلِيٍّ أَمْلَى تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ إِلا مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُضَرٍ أَمْلَى تَفْسِيرَهُ فِي أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَغِيرُ الْحَجْمِ لَا يُقَاسُ بِتَفْسِيرِ أَبِي عَلِيٍّ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ يُمْلِيهِ وَفِي يَدِهِ الْمُصْحَفُ فَقَطْ، وَلا يَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِكِتَاب. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو هِلالٍ: وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ أَنَّ مَنْ تَبَرَّمَ بِالْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ وَالأَدَبِ وَهُوَ مُقَصِّرٌ فِيهِ فَلَيْسَ بِإِنْسَانٍ كَامِلٍ، وَالْكَامِلُ مِنَ النَّاسِ مَنْ عَرَفَ فَضْلَ الْعِلْمِ، ثُمَّ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ طَلَبَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلا قَالَ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ: مَا لِي إِذَا رَأَيْتُكُمْ تُذَاكِرُونَ الأَخْبَارَ وَتُدَارِسُونَ الآثَارَ وَتُنَاشِدُونَ الأَشْعَارَ وَقَعَ عَلَيَّ النَّوْمُ فَقَالَ: لَا نك حِمَارٌ فِي مِسْلاخِ إِنْسَانٍ. وَخَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ حَاجًّا وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّه بْنُ جَعْفَرٍ، فَكَانَا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ يَلْعَبَانِ بِالشِّطْرَنْجِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رجل من ثقبف، فَأَذِنَ لَهُ وَسَتَرَ الشِّطْرَنْجَ بِمِنْدِيلٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الرَّجُلُ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قَالَ: لَا، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، شغلني عَنْهُ أَمَورٌ وَهَنَاتٌ. قَالَ: أَفَتَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْفِقْهِ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَرَوَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ مَا تُذَاكِرُ بِهِ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَعَلِمْتَ مِنْ أَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَخْبَارِهَا مَا تُزَيِّنُ بِهِ مجالسك قَالَ: لَا. قَالَ: فكشف المنديل عَن الشطرنج وَقَالَ: شاهك، فَلَيْسَ مَعنا أحد. وَفِي كتاب للهند إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا اغْتَرَبَ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْعلم مَا يَكْفِيهِ كَمَا الْأسد مَعَه من قوته مَا يعِيش بِهِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَ. وَفِي الْحَدِيثِ: الْعُلَمَاءُ فِي الأَرْضِ مِثْلُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ. وَمِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُحِبُّ أَنَّ لَهُ بِحَظِّهِ مِنْهُ خطرا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَحمَه الله -: وَجَدْتُ عَامَّةَ عِلْمِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ، إِن كنت لأقيل بِبَابِ أَحَدِهِمْ، وَلَوْ شِئْتُ لأَذِنَ لِي، وَلَكِنْ ابْتغِي بذلك طيب نَفسه. وَقَالَ الْحسن - رَحمَه الله -: مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الْعِلْمِ حَيَاءً، أَلْبَسَهُ الْجَهْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 سِرْبَالَهُ، وَمَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ. وَقَالَ الْخَلِيل - رَحمَه الله -: منزلَة الْجَهْل بَين الْحيَاء والأنفة. قَالَ أَبُو هِلالٍ: وَجَعَلَ الْحُكَمَاءُ مَنْزِلَةَ الْعُلَمَاءِ مِثْلَ مَنْزِلَةِ الْمُلُوكِ. فَقَالُوا: مِنْ أَدَبِ الدَّاخِلِ على العلام أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ عَامَّةً، وَيَخُصَّهُ بِالتَّحِيَّةِ، وَيَجْلِسَ قُدَّامِهِ، وَلا يُشِيرَ بِيَدِهِ، وَلا يَغْمِزَ بِعَيْنِهِ، وَلا يَقُولَ بِخِلافِ قَوْلِهِ، وَلا يَغْتَابَ عِنْدَهُ أحدا، وَلا يسَار فِي مَجْلِسِهِ، وَلا يُلِحَّ عَلَيْهِ إِذَا كَسِلَ، وَلا يَعْرِضَ عَنْ كَلامِهِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلَةِ، لَا يَزَالُ يَسْقُطُ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ ينَفْعُكَ. وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ اسحق الْحَلَبِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ سَيَّارٍ الْمَنْبِجِيَّ يَقُول: سَمِعت مَالك بن أنس - رَحمَه الله -: يَقُول: وَجه إِلَيّ هَارُون الرشيد يسألني أَنْ أُحَدِّثَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْعِلْمَ يُؤْتَى وَلا يَأْتِي قَالَ: فَصَارَ إِلَى مَنْزِلِي فَاسْتَنَدَ مَعِي إِلَى الْجِدَارِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِجْلالَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، قَالَ: فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ، قَالَ: فَقَالَ لي بَعْدَ مُدَّةٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تَوَاضَعْنَا لِعِلْمِكَ فَانْتَفَعْنَا بِهِ، وَتَوَاضَعَ لَنَا عِلْمُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِ. وَكَانَ سُفْيَانُ يَأْتِيهم إِلَى بُيُوتِهِمْ فَيُحَدِّثُهُمْ وَيَأْخُذُ دَرَاهِمَهُمْ. حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَمْدَانُ ابْن الأَصْفَهَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ شَرِيكٍ، فَأَتَاهُ بَعْضُ وَلَدِ الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَنَدَ إِلَى الْحَائِطِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيث، فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ، وَأَقْبل علينا ثمَّ عَاد فعلا بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَتَسْتَخِفُّ بِأَوْلادِ الْخُلَفَاءِ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ أَجَلُّ عِنْدَ أَهْلِهِ مِنْ أَن يضيعوه، قَالَ: فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ سَأَلَهُ، فَقَالَ شَرِيكٌ: هَكَذَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ. وَحَدَّثَنَا الشَّيُّخ أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الجلودي، حَدثنَا الْمُغيرَة بن مُحَمَّد، حَدثنَا عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ حَامِدٍ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ، قَالَ: خرج الْمَنْصُور يَوْمًا من بَاب الْمَذْهَب فَقَامَ الْقُوَّادُ وَالْحَرَسُ وَالشُّرَطُ وَفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ قَاعِدٌ لَمْ يَقُمْ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَمْ تَقُمْ كَمَا قَامَ النَّاسُ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ لِمَ فَعَلْتَ، وَيَسْأَلَكَ لِمَ قُلْتَ، وَقَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَعَذَرَهُ الْمَنْصُورُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنَّ الرشيد جمع الْفُقَهَاء فَاجْتمعُوا فِي ذَلِك، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَامُوا لَهُ إِلا مُحَمَّدَ بن الْحسن، فَلَمَّا دخل استدعاه، فَشَمتَ بِهِ بَعْضُ أَعْدَائِهِ، فَلَمَّا رَآهُ الرَّشِيدُ قَالَ: لم لم تقم لي كَمَا قَامَ أَصْحَابُكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فَقَالَ: إِنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْزَلْتَنِي مَنْزِلَةَ الْعَالِمِ، وَمَا كُنْتُ لأُنْزِلَ نَفْسِي مَنْزِلَةَ الْخَادِمِ. فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنْتَ، وَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأََلَةٍ فِي السِّيرَةِ، فَأَجَابَ عَنْهَا، فَأَمَرَ لَهُ بِحَمْلِ عَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: فَرِّقْهَا فِي أَصْحَابِكَ. قَالَ: فَخرج مَسْرُورا وَالْمَال بَين يَدَيْهِ فانحر مَنْ كَانَ شَمِتَ بِهِ وَحَسَدَهُ. قَالَ أَبُو هِلالٍ: وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَنَالَ مِثْلَ هَذِهِ الْمنزلَة بالفتور والهوينا فقد غر نَفسه. وَذَكَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ أَبَا تَمَّامٍ الطَّائِيَّ قَصَدَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بَعْضَ رُؤَسَاءِ الشَّامِ، فأنشده قصيدة من درج، فانسر بهَا الرَّئِيسُ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى التَّرْجَمَةِ فَإِذَا حَبِيبُ بن ابْن أَوْسٍ الطَّائِيُّ، فَقَالَ لَهُ: أَقَلُّ مَا يَنْبَغِي لِلشَّاعِرِ أَنْ يَعْرِفَ شُعَرَاءَ قَبِيلَتِهِ، فَكَمْ مِنْ طَيِّءٍ شَاعِرٍ فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا شَاعِرًا مَشْهُورًا ومغمورا وأنشدهم قَصَائِدَ وَمَقَاطِعَ، ثُمَّ أَنْشَدَ بَعْضَهَا مَقْلُوبًا، فَعَجِبَ الرَّئِيسُ مِنْ حِفْظِهِ وَذَكَائِهِ وَقَدَمِهِ، وَقَالَ: كَيْفَ تمكنت من حفظ مَا أرى فَقَالَ: أفادنيه الطّلب وحفظنيه السهر، فَعظم فِي عينه وَأَجَازَهُ. قَالَ أَبُو هِلالٍ: وَنِعْمَ الْمُعَلِّمُ الدَّرْسُ، وَنِعْمَ الْمعِين السهر، وَنعم الدَّلِيل السراج، وَنعم الْقَائِد اللَّيْل، وَنعم الْمُذكر الْكِتَابُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: (فَلْيَجْتَهِدْ رَجُلٌ فِي الْعِلْمِ يَطْلُبهُ ... كي لَا يكون شَبيه الشَّاء وَالْبَقر) وَالْجهل شَبيه بِالْعَمَى، وَهُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ، وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: لِمَ لَا تُعَاتِبُونَ الْجُهَّال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قَالَ: لأَنا لَا نؤمل من العميان أَنْ يُبْصِرُوا. قُلْنَا: وَلا يَظْهَرُ فَضْلُ الْعِلْمِ لمن لَا عقل لَهُ، كَمَا لَا تبين الشَّمْسُ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بن يزِيد: نمى إِلَيَّ أَنَّ الْخَلِيلَ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلا يَشْعُرُ إِلا وَهُوَ فِي الصَّحَرَاءِ وَلَمْ يردهَا، من شغفه بالفكر. وَيدخل الدَّاخِل إِلَى أبي تَمام الشَّاعِر وَهُوَ يَعْمَلُ الشِّعْرَ فَلا يَشْعُرُ بِهِ. وَقَالَتِ امْرَأَةُ الْخَلِيلِ لِلْخَلِيلِ: لَا أَرَاكَ تَجْلِسُ عِنْدِي كثيران قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِكِ، أَنْتِ تَجِلِّينَ عَنْ دقيقي، وَأَنا أدق من جَلِيلِكِ. وَكَانَ الْخَلِيلُ يَقُولُ: أَثْقَلُ سَاعَاتٍ عَلَيَّ سَاعَة آكل فِيهَا. وَرَأى معلم مُحَمَّد بن دَاوُد ابْن الْجَرَّاحِ عَلَى دَفْتَرٍ لَهُ دَمًا فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي كنت عَلَى السِّرَاجِ أَدْرُسُ فِي اللَّيَالِي الْحَارَّةِ فَأَرْعُفُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا تَطْلُبُ الْعِلْمَ لِنَفْسِكَ، فَإِذَا أتفلت نَفْسَكَ فَمَا يَنْفَعُكَ عِلْمُكَ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بن عبد الْعَزِيز: إِنَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي فَإِذَا حَمَلْتُ عَلَيْهَا خَسِرْتُهَا، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: قَالَ بَعْضُ الأَوَائِلِ: إِنْ لَمْ تَصْبِرْ عَلَى تَعَبِ الْعِلْمِ صَبَرْتَ عَلَى شِفَاء الْجَهْل، فَقَالَ: الْعلم، صَدَقَ هَذَا الْقَائِلُ، وَلَكِنْ تَجَاوُزُ الاعْتِدَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَضْيِيعِهِ. قَالَ أَبُو هِلالٍ: وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَلا إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بِرِفْقٍ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلا ظَهْرًا أَبْقَى) . وَالْعَرَبُ تَقُولُ: شَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ، وَهِيَ شِدَّةُ السَّيْرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: (تَقْطَعُ بِالنُّزُولِ الأَرْض عَنَّا ... وَطول الأَرْض تقطعه النُّزُولُ) يُرِيدُ إِنَّكَ إِذَا نَزَلْتَ وَسِرْتَ بَلَغْتَ الْقَصْد، وَإِنْ وَاصَلْتَ السَّيْرَ قَطَعَ بِكَ. قُلْنَا: فَخَرَجَ مُحَمَّد (ابْن دَاوُد) أَبْرَعَ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ الشُّيُوخِ خَبَرَ إِسْلامِ أَبِي ذَرٍّ فَانْتهى إِلَى أَرْبَعُ وَرَقَاتٍ مِنْ أَصْلِ الشَّيْخِ فَقَالَ: اقْرَأْهَا عَلَيَّ فَقَرَأَهَا، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: اسْمَعْهَا مِنِّي الآنَ، فَإِذَا هُوَ قَدْ حَفِظَهَا مِنْ لَفْظِهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ عَمِلَ قَصِيدَةً اسْتَحْسَنَهَا النَّاسُ وَكَتَبُوهَا، وَكَتَمَهَا الْحَسَنُ مُحَمَّدًا مَخَافَةَ أَنْ يعيب مِنْهَا شَيْئا، وَكَانَ مُحَمَّدٌ نَاقِدًا لِلشِّعْرِ حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، فَالْتَقَيَا فِي الْجَامِعِ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: إِنْ لَمْ تَكْتُبْنِي قَصِيدَتَكَ هَذِهِ الْغَرَاءَ فَأَنْشِدْنِيهَا مَرَّةً وَاحِدَة، فأنشده إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: وفقت وَالله ( ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ) من ألْقى وَرَقَةٍ بِخَطٍّ دَقِيقٍ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَحْفَظُ من اللُّغَة مَا لم يحفظه أحد فِي زَمَانه وَلَا يعده إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، وَهَذَا جَمِيعُ كُتُبِهِ فِي اللُّغَة: الجمهرة والاشتقاق وَغَيْرُهُمَا، مِنْ حِفْظِهِ وَمَا رَأَى أَحَدٌ مَعَهُ كِتَابًا قَطُّ، وَلَهُ مِنَ الشِّعْرِ مَا لَيْسَ لعالم قبله، وَكَانَ مَعَ ذَلِك يستحضر علمه ويحضر نَفسه. وَذكر لي بَعْضَ غِلْمَانِهِ - ابْنِ بِسْطَامَ أَوْ غَيْرِهِ - تَطَاوَلَ عَلَى رَجُلٍ فَزَجَرَهُ، وَقَالَ: مَا الَّذِي يَعْجِبُكَ من نَفْسِكَ أَوْ يَعْجِبُكَ مِنِّي إِنَّ جَمِيعَ مَا يحفظه وَأكْثر مِنْهُ يَحْفَظُهُ رَاعٍ مِنْ رُعَاةِ الْعَرَبِ. وَوَرَدَ عَسْكَرَ مُكْرَمٍ فَقَادَ إِلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ فَرَسًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الرَّحِيلَ إِلَى مَدِينَةِ السَّلامِ، حَمَلَ إِلَيْهِ مِائَةَ دِينَار وأنشده: (وهون جدي إِن الْفِرَاق بَيْنََنَا ... فِرَاقُ حَيَاةٍ لَا فِرَاقُ مَمَاتٍ) فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، اجْتَهِدْ وَاطْلُبْ وَاسْهَرْ وَلا تَدَعْ أَحَدًا يَسْبِقُكَ فِي علمك وَلَو تشق نَفْسِكَ، فَإِنَّ الرَّفِيعَ مَنْ كَانَ ذَا سُلْطَانٍ أَوْ ذَا عِلْمٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحدهمَا تَركه النَّاس، وَرَأى أَعْقَابهم. وَنحن نقُول: إِن صَاحب السُّلْطَان إِذا نظر حق النّظر، لم يمنح سُلْطَانه عوضا عَن الْعلم، فَإِن عز صَاحِبَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَدُومُ لَهُ مَا دَامَ فِي سُلْطَانِهِ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ ذلَّ، وَعِزُّ الْعَالم يَدُوم لَهُ فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته، وَلِهَذَا كَانَ فُضَلاءُ السَّلاطِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 يجتهدون فِي طلب الْعلم مَعَ كَثْرَة أشغالهم ولانغماسهم فِي الدُّنْيَا. وَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ غَيْرَ مَرَّةٍ قَالَ: لَمَّا فَارَقْتُ أَبَا الْفَضْلِ الْحُسَيْنَ بْنَ الْعَمِيدِ وَكَانَ بِالرَّيِّ مُبَادِرًا نَحْوَ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ لأَمْرٍ حَدَثَ فِي أَهْلِي وَاجْتَزْتُ بِأَصْبَهَانَ اغتنمني الصاحب ابْن عباد، أَبُو الْقَاسِم، وسألني الْمقَام عَلَيْهِ، فَذكر لَهُ الْأَمر الَّذِي من أَجله فَارَقت حَضْرَة أبي الْفَصْل والضرورة الَّتِي دعت إِلَى المسارعة نَحْو الْوَطَنِ، فَأَبَى أَنْ يَعْذُرَنِي فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ مُؤَيِّدَ الدَّوْلَةِ بَخَبَرِي وَعَرَّفَهُ صِدْقَ حَاجَتِهِ إِلَى الاسْتِكْثَارِ مِنِّي، فَأَمَرَ فَنُودِيَ بِأَصْبَهَانَ: بَرِئَتِ الذِّمَّة من رفقه تخرج إِلَى خُوزَستَانَ مُدَّةَ سَنَةٍ، فَاجْتَمَعَ تُجَّارُ الْعَسْكَرِ وَغَيْرُهُمْ إِلَيَّ، وَسَأَلُونِي إِجَابَتَهُ إِلَى الْمُقَامِ مَعَهُ الْقَدْرَ الَّذِي أُرِيدُهُ، لِيُفْسِحَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أُمُورِهِمْ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ، فَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى قَرَأَ كِتَابَ الْجَمْهَرَةِ وَكتاب الِاشْتِقَاق وأمالي ابْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرَهَا، وَعَمِلْتُ لَهُ كِتَابَ أَقْسَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، وَأَنَا شَاكِرٌ لَهُ ذَاكِرٌ بره. قَالَ أَبُو هِلَال: وَلَو أَن الْجَاهِل بَين نقيصة الْجَهْل من نَفسه لفزع إِلَى. . فِي التَّعَلُّمِ وَلَكِنَّهُ كَآكِلِ الثُّومِ، لَا يَشُمُّ من نَفسه مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَشُمُّهُ غَيْرُهُ وَيَتَأَذَّى بِهِ سِوَاهُ، وَالْفَضِيحَةُ بِالْجَهْلِ عَظِيمَةٌ، وَالْغَبْنُ بِهِ كَثِيرٌ لَوْ عَرَفَهُ الْجَاهُلُ وَلا يَرْضَى بِالْجَهْلِ إِلا مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفسه فَلَا يُبَالِي أَن يهجى ويستخلف بِهِ وَيُسْخَرَ مِنْهُ وَأَدْنَى حَقِّهِ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمن أكرمة إِلَّا عِنْد ضَرُورَة فقد وضع الْإِكْرَام فِي غَيره مَوْضِعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَأَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: ثَنَا أَبُو عَليّ عسل، ثَنَا أَبُو حَاتِم، ثَنَا الأَصْمَعِيُّ قَالَ: أَذِنَ هِشَامٌ إِذْنًا عَامًّا، فَدَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَضَى حَاجَتَهُمْ، فَلَمَّا ظهر أَن مَجْلِسه قد خَلا مِنْهُمْ، أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ، فَقَالَ: مَنِ الَّذِي يَقُول: // من المتقارب //. (أَخَذْنَ الْقُرُونَ فَعَكَفْنَهَا ... كَعَكْفِ الْعَسِيفِ غَرَابِيبَ مِيلا) قَالَ: فَسَكَتَ الْقَوْمُ، وَقَدْ تَخَلَّفَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي حَاجَةٍ لَهُ كَالمُخْتَفِي، فَقَالَ: للَّذي يَلِيهِ: قل امْرُؤ الْقَيْس، فقلا: مَا يَعْنِي فَقَالَ الرجل يلقنه: قل الْفَرْع، فَقَالَ: الْفَرْع. فَضَحِك هِشَام وَجعل يضْرب رجله، فَقَالَ لِلْعِرَاقِيِّ: أَهَكَذَا هُوَ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلِمَنِ الشِّعَرُ قَالَ: لِكُثَيرٍ، قَالَ: يَصِفُ مَاذَا قَالَ: يَصِفُ شُعُورَ النِّسَاءَ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا قَالَ: تَدَنِّي هَؤُلاءِ وَتَقَصِّينَا، وَهَذَا يَقُوله كثير يصف أَخذ النِّسَاء ضفايرهن ووضعهن كَمَا يعْمل عسيف بِالْعِنَبِ إِذَا علقَ عَنَاقِيدَهُ، وَشَبَّهَ الْعَنَاقِيدَ بِالْغَرَابِيبِ السَّودِ، قَالَ: فَقَضَى حَاجَتَهُ وَأَجَازَهُ. فَانْظُرْ كَيْفَ يسخر الْعرَاق مِنَ الشَّامِيِّ لَمَّا تَبَيَّنَ مِنْ جَهْلِهِ، وَكَيْفَ رَأْيَ الْخَلِيفَةِ فِي إِدْنَاءِ الْجُهَّالِ وَإِقْصَاءِ الْعُلَمَاءِ، ولعمري إِن ذَلِك لسبة. أعلانا الله عز وَجل وَإِيَّاك مِنَ الْجَهْلِ وَالرِّضَى بِهِ، وَتَقْرِيبِ أَهْلِهِ وَاسْتِحْسَانِ حَالهم مِنْهُ، وَنَفَعَنَا بِمَا عَلِمْنَا وَجَعَلَهُ حُجَّةً لَنَا لَا علينا. وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91