الكتاب: أدب الطلب ومنتهى الأدب المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ) المحقق: عبد الله يحيى السريحي الناشر: دار ابن حزم - لبنان / بيروت الطبعة: الأولى، 1419هـ - 1998م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- أدب الطلب ومنتهى الأدب الشوكاني الكتاب: أدب الطلب ومنتهى الأدب المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ) المحقق: عبد الله يحيى السريحي الناشر: دار ابن حزم - لبنان / بيروت الطبعة: الأولى، 1419هـ - 1998م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] وَاجِبَات طَالب الْعلم وَإِنِّي أتصور الْآن أَن الْكَلَام بمعونة الله ومشيئته لَا بُد أَن يتَعَدَّى إِلَى فَوَائِد ومطالب ينْتَفع بهَا المنتهي كَمَا ينْتَفع بهَا الْمُبْتَدِئ وَيحْتَاج إِلَيْهَا الْكَامِل كَمَا يحْتَاج إِلَيْهَا المقصر ويعدها المتحققون بالعرفان من أعظم الْهَدَايَا إخلاص النِّيَّة لله فَأول مَا على طَالب الْعلم أَن يحسن النِّيَّة وَيصْلح طويته وَيتَصَوَّر أَن هَذَا الْعَمَل الَّذِي قصد لَهُ وَالْأَمر الَّذِي أَرَادَهُ هُوَ الشَّرِيعَة الَّتِي شرعها الله سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ وَبعث بهَا رسله وَأنزل بهَا كتبه ويجرد نَفسه عَن أَن يشوب ذَلِك بمقصد من مَقَاصِد الدُّنْيَا أَو يخلطه بِمَا يكدره من الإرادات الَّتِي لَيست مِنْهُ كمن يُرِيد بِهِ الظفر بِشَيْء من المَال أَو يصل بِهِ إِلَى نوع من الشّرف أَو الْبلُوغ إِلَى رئاسة من رئاسات الدُّنْيَا أَو جاه يحصله بِهِ فَإِن الْعلم طيب لَا يقبل غَيره وَلَا يحْتَمل الشّركَة والروائح الخبيثة إِذا لم تغلب على الروائح الطّيبَة فَأَقل الْأَحْوَال أَن تساويها وبمجرد هَذِه الْمُسَاوَاة لَا تبقى للطيب رَائِحَة وَالْمَاء الصافي العذب الَّذِي يستلذه شَاربه كَمَا يكدره الشَّيْء الْيَسِير من المَاء المالح فضلا عَن غير المَاء من القاذورات بل تنقص لذته مُجَرّد وجود القذاة فِيهِ وَوُقُوع الذُّبَاب عَلَيْهِ هَذَا على فرض أَن مُجَرّد تشريك الْعلم مَعَ غَيره لَهُ حكم هَذِه المحسوسات وهيهات ذَاك فَإِن من أَرَادَ أَن يجمع فِي طلبه الْعلم بَين قصد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فقد أَرَادَ الشطط وَغلط أقبح الْغَلَط فَإِن طلب الْعلم من أشرف أَنْوَاع الْعِبَادَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وأجلها وأعلاها وَقد قَالَ الله سُبْحَانَهُ (وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين) فقيد الْأَمر بِالْعبَادَة بالإخلاص الَّذِي هُوَ روحها وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيث إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَلكُل امْرِئ مَا نوى وَهُوَ ثَابت فِي دواوين الْإِسْلَام كلهَا وَقد تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ وَإِن كَانَ أحاديا أجمع جَمِيع أهل الْإِسْلَام على ثُبُوته وَصِحَّته وَقد تقرر فِي علم الْبَيَان الْأُصُول بِأَن إِنَّمَا من صِيغ الْحصْر وَثَبت القَوْل بذلك عَن الصَّحَابَة روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه احْتج على اخْتِصَاص الرِّبَا النَّسِيئَة بِحَدِيث الرِّبَا فِي النَّسِيئَة وَلم يُخَالِفهُ الصَّحَابَة فِي فهمه وَإِنَّمَا خالفوه فِي الحكم مستدلين بأدلة أُخْرَى مصرحة بِثُبُوت رَبًّا الْفضل وكما أَن هَذَا التَّرْكِيب يُفِيد مَا ذَكرْنَاهُ من الْحصْر كَذَلِك لفظ الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ أَو بِالنِّيَّاتِ كَمَا ورد فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث الثَّابِتَة فِي الصَّحِيح فَإِن الْألف وَاللَّام تفِيد الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ يسْتَلْزم الْحصْر وَهَكَذَا ورد فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث لَا عمل إِلَّا بنية وَهِي أَيْضا من صِيغ الْحصْر بل هِيَ أقواها وَالْمرَاد بِالْأَعْمَالِ هُنَا أَفعَال الْجَوَارِح حَتَّى اللِّسَان فَتدخل الْأَقْوَال وَمن نَازع فِي ذَلِك فقد أَخطَأ ثمَّ لَا بُد لقَوْله بِالنِّيَّاتِ من تَقْدِير متخلق عَام لعدم وُرُود دَلِيل يدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 التَّعَلُّق الْخَاص فَيقدر الْوُجُود أَو الْكَوْن أَو الِاسْتِقْرَار أَو الثُّبُوت أَو مَا يُفِيد مفَاد ذَلِك فَيكون التَّقْدِير إِنَّمَا وجود الْأَعْمَال وَكَونهَا واستقرارها أَو ثُبُوتهَا بِالنِّيَّاتِ فَلَا وجود أَو لَا كَون أَو لَا اسْتِقْرَار أَو لَا ثُبُوت لما لم يكن كَذَلِك وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ لَا يُقَال أَن تَقْدِير الثُّبُوت والوجود والكون وَنَحْوهَا يسْتَلْزم عدم وجود الذَّات أَو عدم النِّيَّة وَقد وجدت فِي الْخَارِج لأَنا نقُول المُرَاد الذَّات الشَّرْعِيَّة وَهِي غير مَوْجُودَة وَلَا اعْتِبَار بوجودات غير شَرْعِيَّة وَنفي الذَّات هُوَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ فَلَا يعدل عَنهُ إِلَى غَيره إِلَّا لصارف وَلَا صَارف هُنَا على أَنه لَو فرض وجود صَارف إِلَى المغنى المجازى لم يكن الْمُقدر هَاهُنَا إِلَّا الصِّحَّة أَو مَا يُفِيد مفادها وَهِي مستلزمة لنفي الذَّات فتقرر بِمَجْمُوع مَا ذكرنَا أَن حُصُول الْأَعْمَال وثبوتها لَا يكون إِلَّا بِالنِّيَّةِ فَلَا حُصُول أَو لَا ثُبُوت لما لَيْسَ كَذَلِك فَكل طَاعَة من الطَّاعَات وَعبادَة من الْعِبَادَات إِذا لم تصدر عَن إخلاص نِيَّة وَحسن طوية لَا اعْتِدَاد بهَا وَلَا الْتِفَات إِلَيْهَا بل هِيَ إِن لم تكن مَعْصِيّة فَأَقل الْأَحْوَال أَن تكون من أَعمال الْعَبَث واللعب الَّتِي هِيَ بِمَا يصدر عَن المجانين أشبه مِنْهَا بِمَا يصدر عَن الْعُقَلَاء قصد تَحْصِيل علم الدّين وَمن أهم مَا يجب على طَالب الْعلم تصَوره عَنهُ الشُّرُوع واستحضاره عِنْد الْمُبَاشرَة بل وَفِي كل وَقت من أقوات طلبه مبتدئا أَو منتهيا متعلما وعالما أَن يقر فِي نَفسه أَن هَذَا الْعلم الَّذِي هُوَ بصدده هُوَ تَحْصِيل الْعلم الَّذِي شَرعه الله لِعِبَادِهِ والمعرفة لما تعبدهم فِي مُحكم كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله وَالْوُقُوف على أسرار كَلَام الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن هَذَا الْمطلب الَّذِي هُوَ بِسَبَب تَحْصِيله لَيْسَ هُوَ من المطالب الَّتِي يقصدها من هُوَ طَالب للجاه وَالْمَال والرئاسة بل هُوَ مطلب يتأجر بِهِ الرب سُبْحَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تجنب التحيز وَالْمَعْصِيَة وَتَكون غَايَته الْعلم بِمَا بعث الله بِهِ رَسُوله وَأنزل فِيهِ كتبه وَذَلِكَ سَبَب الظفر بِمَا عِنْد الله من خير وَمثل هَذَا لَا مدْخل فِيهِ لعصبية وَلَا مجَال عِنْده لحمية بل هُوَ شَيْء بَين الله سُبْحَانَهُ وَبَين جَمِيع عباده تعبدهم بِهِ تعبدا مُطلقًا أَو مَشْرُوطًا بِشُرُوط وَأَنه لَا يخرج عَن ذَلِك فَرد مِنْهُم بل أَقْدَامهم مُتَسَاوِيَة فِي ذَلِك عالمهم وجاهلهم وشريفهم ووضيعهم وقديمهم وحديثهم لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُم أَن يَدعِي أَنه غير متعبد بِمَا تعبد الله بِهِ عباده أَو أَنه خَارج عَن التَّكْلِيف أَو أَنه غير مَحْكُوم عَلَيْهِ بِأَحْكَام الشَّرْع ومطلوب مِنْهُ مَا طلبه الله من سَائِر النَّاس فضلا عَن أَن يرتقي إِلَى دَرَجَة التشريع وَإِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وتكليف عباد الله سُبْحَانَهُ بِمَا يصدر عَنهُ من الرَّأْي فَإِن هَذَا أَمر لم يكن إِلَّا لله سُبْحَانَهُ لَا لغيره من الْبشر كَائِنا من كَانَ إِلَّا فِيمَا فوضه إِلَى رسله وَلَيْسَ لغير الرُّسُل فِي هَذَا مدْخل بل الرُّسُل مِنْهُم متعبدون بِمَا تعبدهم الله بِهِ مكلفون بِمَا كلفوا بِهِ مطالبون بِمَا طلبه مِنْهُم وتخصيصهم بِأُمُور لَا تكون لغَيرهم لَا يَعْنِي خُرُوجهمْ عَن كَونهم كَذَلِك بل هم من جملَة الْبشر وَمن سَائِر الْعباد فِي التَّكْلِيف بِمَا جاؤوا بِهِ عَن الله وَقد أخبروا بِهَذَا وَأخْبر بِهِ الله عَنْهُم كَمَا فِي غير مَوضِع من الْكتاب الْعَزِيز وَمن السّنة النَّبَوِيَّة وكما وقفنا عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور مكررا فِي كل وَاحِد مِنْهَا وَإِذا كَانَ هَذَا حَال الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي التَّعَبُّد بالأوامر الشَّرْعِيَّة والتوقف فِي التَّبْلِيغ على مَا أَمرهم تَعَالَى بتبليغه فَلَا يشرعون للنَّاس إِلَّا مَا أذن لَهُم بِهِ وَأمرهمْ بإبلاغه وَلَيْسَ لَهُم من الْأَمر شَيْء إِلَّا مُجَرّد الْبَلَاغ عَن الله والتوسط بَينه وَبَين عباده فِيمَا شَرعه لَهُم وتعبدهم بِهِ كَمَا هُوَ معنى الرَّسُول والرسالة لُغَة وَشرعا عِنْد من يعرف علم اللُّغَة ومصطلح أهل الشَّرْع وَلَا يُنَافِي هَذَا وُقُوع الْخلاف بَين أَئِمَّة الْأُصُول فِي إِثْبَات اجْتِهَاد الْأَنْبِيَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ونفيه فَإِن الْخلاف الْمُحَرر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَفْظِي عِنْد من أنصف وحقن فَكيف بِحَال غَيرهم من عباد الله مِمَّن لَيْسَ هُوَ من أهل الرسَالَة وَلَا جعله الله من أهل الْعِصْمَة كالصحابة فالتابعين فتابعيهم من أَئِمَّة الْمذَاهب فسائر حَملَة الْعلم فَإِن من زعم أَن لوَاحِد من هَؤُلَاءِ أَن يحدث فِي شرع الله مَا لم يكن فِيهِ أَو يتعبد عباد الله بِمَا هُوَ خَارج عَن مَا هُوَ مِنْهُ فقد أعظم على الله الْفِرْيَة وَتقول على الله تَعَالَى بِمَا لم يقل وأوقع نَفسه فِي هوة لَا ينجو مِنْهَا إِلَّا طرحها فِي مطرح سوء ووضعها فِي مَوْضُوع شَرّ ونادى على نَفسه بِالْجَهْلِ والجرأة على الله تَعَالَى والمخالفة لما جَاءَت بِهِ الشَّرَائِع وَمَا أجمع عَلَيْهِ أَهلهَا فَإِن هَذِه رُتْبَة لم تكن إِلَّا لله ومنزلة لَا ينزلها غَيره وَلَا يدعيها سواهُ فَمن ادَّعَاهَا لغيره تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا فقد أَدخل نَفسه فِي بَاب من أَبْوَاب الشّرك وَكَانَ ذَلِك هُوَ الْفَائِدَة الَّتِي استفادها من طلبه وَالرِّبْح الَّذِي ربحه من تَعبه ونصبه وَصَارَ اشْتِغَاله بِالْعلمِ جِنَايَة عَلَيْهِ ومحنة لَهُ ومصيبة أصَاب بهَا نَفسه وبلية قادها إِلَيْهَا ومعصية كَانَ عَنْهَا بِالْجَهْلِ وَعدم الطّلب فِي رَاحَة وَهَكَذَا من لم يحسن لنَفسِهِ الِاخْتِيَار وَلَا سلك فِيهَا مسالك الْأَبْرَار وَلَا اقْتدى بِمن أَمر الله الِاقْتِدَاء بِهِ من أهل الْعلم الَّذين جعلهم محلا لذَلِك ومرجعا تحري الْإِنْصَاف فَإِذا تقرر لَك هَذَا وَعلمت بِمَا فِيهِ من الضَّرَر الْعَظِيم الَّذِي يمحق بركَة الْعلم ويشوه وَجهه ويصيره بعد أَن كَانَ من الْعِبَادَات الَّتِي لَا تشبهها طَاعَة وَلَا تماثلها قربَة مَعْصِيّة مَحْضَة وخطيئة خَالِصَة تبين لَك نفع مَا أرشد إِلَيْهِ من تحري الْإِيمَان الَّذِي من أعظم أَرْكَانه وأهم مَا يحصله لَك أَن تكون منصفا لَا متعصب فِي شَيْء من هَذِه الشَّرِيعَة فَإِنَّهَا وَدِيعَة الله عنْدك وأمانته لديك فَلَا تخنها وتمحق بركتها بالتعصب لعالم من عُلَمَاء الْإِسْلَام بِأَن تجْعَل مَا يصدر عَنهُ من الرَّأْي ويروى لَهُ من الِاجْتِهَاد حجَّة عَلَيْك وعَلى سَائِر الْعباد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فَإنَّك إِن فعلت ذَلِك كنت قد جعلته شَارِعا لَا متشرعا مُكَلّفا لَا مُكَلّفا وتعبدا لَا متعبدا وَفِي هَذَا من الْخطر علك والوبال لَك مَا قدمْنَاهُ فَإِنَّهُ وَإِن فضلك بِنَوْع من أَنْوَاع الْعلم وفَاق عَلَيْك بمدرك من مدارك الْفَهم فَهُوَ لم يخرج بذلك عَن كَونه مَحْكُومًا عَلَيْهِ متعبدا بِمَا أَنْت متعبد فضلا عَن أَن يرْتَفع عَن هَذِه الدرجَة إِلَى دَرَجَة يكون رَأْيه فِيهَا حجَّة على الْعباد واجتهاده لَدَيْهَا لَازِما لَهُم بل الْوَاجِب عَلَيْك أَن تعترف لَهُ بِالسَّبقِ وتقر لَهُ بعلو الدرجَة اللائقة بِهِ فِي الْعلم مُعْتَقدًا أَن ذَلِك الِاجْتِهَاد الَّذِي اجتهده وَالِاخْتِيَار الَّذِي اخْتَارَهُ لنَفسِهِ بعد إحاطته بِمَا لَا بُد مِنْهُ هُوَ الَّذِي لَا يجب عَلَيْهِ غَيره وَلَا يلْزمه سواهُ لما ثَبت فِي = الصَّحِيح = عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طرق أَنه إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَفِي خَارج = الصِّحَاح = فِي طرق أَنه إِذا أصَاب فَلهُ عشر أجور وَقد صَححهُ الْحَاكِم فِي = الْمُسْتَدْرك = وَفضل الله وَاسع وعطاؤه جم توطين النَّفس على الْبَحْث وَالِاجْتِهَاد وَلَيْسَ لَك أَن تعتقد أَن صَوَابه صَوَاب لَك أَو خطأه خطأ عَلَيْهِ بل عَلَيْك أَن توطن نَفسك على الْجد وَالِاجْتِهَاد والبحث بِمَا يدْخل من تَحت طوقك وتحيط بِهِ قدرتك حَتَّى تبلغ إِلَى مَا بلغ إِلَيْهِ من أَخذ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من ذَلِك الْمَعْدن الَّذِي لَا مَعْدن سواهُ والموطن الَّذِي هُوَ أول الْفِكر وَآخر الْعَمَل فَإِن ظَفرت بِهِ فقد تدرجت من هَذِه الْبِدَايَة إِلَى تِلْكَ النِّهَايَة وَإِن قصرت عَنهُ لم تكن ملوما بعد أَن قررت عِنْد نَفسك وَأثبت فِي تصورك أَنه لَا حجَّة إِلَّا لله وَلَا حكم إِلَّا مِنْهُ وَلَا شرع إِلَّا مَا شَرعه وَإِن اجتهادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الْمُجْتَهدين لَيست بِحجَّة على أحد وَلَا هِيَ من الشَّرِيعَة فِي شَيْء بل هِيَ مُخْتَصَّة بِمن صدرت عَنهُ لَا تتعداه إِلَى غَيره وَلَا يجوز لَهُ أَن يحمل عَلَيْهِ أحدا من عباد الله وَلَا يحل لغيره أَن يقبلهَا عَنهُ ويجعلها حجَّة عَلَيْهِ يدين الله بهَا فَإِن هَذَا شَيْء لم يَأْذَن الله بِهِ وَأمر لم يسوغه لأحد من عباده وَلَا يغرك مَا اسْتدلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز التَّقْلِيد فَإِنَّهُ لَا دلَالَة فِي شَيْء مِمَّا جَاءُوا بِهِ على مَحل النزاع وَقد أوضحنا ذَلِك فِي مؤلف مُسْتَقل وَهُوَ القَوْل الْمُفِيد فِي حكم التَّقْلِيد فَارْجِع إِلَيْهِ إِن بَقِي فِي صدرك حرج فَإنَّك تقف فِيهِ على مَا يريحك وينثلج بِهِ صدرك ويفرح عِنْده روعك فَإِن قلت وَكَيف يقتدر على تصور مَا أرشدت إِلَى تصَوره ويتمكن من توطين نَفسه على مَا دللت عَلَيْهِ من أَرَادَ الشُّرُوع فِي الْعلم بادئ بَدْء وَهُوَ إِذْ ذَاك لَا يدْرِي مَا الشَّرْع وَلَا يتعقل الْحجَّة وَلَا يعرف الْإِنْصَاف وَلَا يَهْتَدِي إِلَى مَا هديته إِلَيْهِ إِلَّا بعد أَن يتمرن ويمارس وَيكون لَهُ من الْعلم مَا يفهم بِهِ مَا تُرِيدُ مِنْهُ قلت مَا أرشدك إِلَيْهِ يعرف بِمُجَرَّد الْعقل وسلامة الْفطْرَة وَعدم وُرُود مَا يرد عَلَيْهَا مِمَّا يغيرها وعَلى فرض وُرُود شَيْء من الْمُغيرَات عَلَيْهَا كاعتقاد حقية التَّقْلِيد وَنَحْوه فارتفاع ذَلِك يحصل بِأَدْنَى تَنْبِيه فَإِن هَذَا أَمر يقبله الطَّبْع بِأول وهلة لمطابقته للْوَاقِع وحقيته وكل مَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَقْبُول والطبائع تنفعل لَهُ انفعالا بأيسر عمل وَأَقل إرشاد وَهَذَا أَمر يُعلمهُ كل أحد ويشترك فِي مَعْرفَته أَفْرَاد النَّاس على اخْتِلَاف طبقاتهم وَلِهَذَا نبه عَلَيْهِ الشَّارِع فَقَالَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَلَكِن أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه وَهُوَ ثَابت فِي = الصَّحِيح = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 تجربة الشَّوْكَانِيّ مَعَ الِاجْتِهَاد وَإِنِّي أخْبرك أَيهَا الطَّالِب عَن نَفسِي تحدثا بِنِعْمَة الله سُبْحَانَهُ ثمَّ تَقْرِيبًا لما ذكرت لَك من أَن هَذَا الْأَمر كامن فِي طبائع النَّاس ثَابت فِي غرائزهم وَأَنه من الْفطْرَة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا إِنِّي لما أردْت الشُّرُوع فِي طلب الْعلم وَلم أكن إِذا ذَاك قد عرفت شَيْئا مِنْهُ حَتَّى مَا يتَعَلَّق بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاة إِلَّا مُجَرّد مَا يتلقاه الصَّغِير من تَعْلِيم الْكَبِير لكيفية الصَّلَاة وَالطَّهَارَة وَنَحْوهمَا فَكَانَ أول بحث طالعته بحث كَون الفرجين من أَعْضَاء الْوضُوء فِي الأزهار وَشَرحه لِأَن الشَّيْخ الَّذِي أردْت الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَالْأَخْذ عَنهُ كَانَ قد بلغ فِي تدريس تلامذته إِلَى هَذَا الْبَحْث فَلَمَّا طالعت هَذَا الْبَحْث قبل الْحُضُور عِنْد الشَّيْخ رَأَيْت اخْتِلَاف الْأَقْوَال فِيهِ سَأَلت وَالِدي رَحمَه الله عَن تِلْكَ الْأَقْوَال أَيهَا يكون الْعَمَل عَلَيْهِ فَقَالَ يكون الْعَمَل على مَا فِي الأزهار فَقلت صَاحب الأزهار أَكثر علما من هَؤُلَاءِ قَالَ لَا قلت فَكيف كَانَ اتِّبَاع قَوْله دون أَقْوَالهم لَازِما فَقَالَ أصنع كَمَا يصنع النَّاس فَإِن فتح الله عَلَيْك فستعرف مَا يُؤْخَذ بِهِ وَمَا يتْرك فَسَأَلت الله عِنْد ذَلِك أَن يفتح عَليّ من معارفه مَا يتَمَيَّز لي بِهِ الرَّاجِح من الْمَرْجُوح وَكَانَ هَذَا فِي أول بحث نظرته وَأول مَوْضُوع درسته وَقَعَدت فِيهِ بَين يَدي الْعلم فَاعْتبر بِهَذَا وَلَا تستبعد مَا أرشدتك إِلَيْهِ فَتحرم بركَة الْعلم وتمحق فَائِدَته ثمَّ مَا زلت بعد كَمَا وصفت لَك أنظر فِي مسَائِل الْخلاف وأدرسها على الشُّيُوخ وَلَا أعتقد مَا يَعْتَقِدهُ أهل التَّقْلِيد من حقية بَعضهم بِمُجَرَّد الإلف وَالْعَادَة والاعتقاد الْفَاسِد والاقتداء بِمن لَا يَقْتَدِي بِهِ بل أسأَل من عندهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 علم بالأدلة على الرَّاجِح وأبحث فِي كتب الْأَدِلَّة عَن مَاله تعلق بذلك أستروح إِلَيْهِ وأتعلل بِهِ مَعَ الْجد فِي الطّلب واستغراق الْأَوْقَات فِي الْعلم خُصُوصا عُلُوم الِاجْتِهَاد وَمَا يلْتَحق بهَا فَإِنِّي نشطت إِلَيْهَا نشاطا زَائِدا لما كنت أتصوره من الِانْتِفَاع بهَا حَتَّى فتح الله بِمَا فتح ومنح مَا منح فَلهُ الْحَمد كثيرا حمدا لَا يحاط بِهِ وَلَا يُمكن الْوُقُوف على كنهه فَإِن وطنت نَفسك أَيهَا الطَّالِب على الْإِنْصَاف وَعدم التعصب لمَذْهَب من الْمذَاهب وَلَا لعالم من الْعلمَاء بل جعلت النَّاس جَمِيعًا بِمَنْزِلَة وَاحِدَة فِي كَونهم منتمين إِلَى الشَّرِيعَة مَحْكُومًا عَلَيْهِم بِمَا لَا يَجدوا لأَنْفُسِهِمْ عَنْهَا مخرجا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ تحولا فضلا عَن أَن يرتقوا إِلَى وَاحِد مِنْهُم أَو يلْزمه تَقْلِيده وقبوله قَوْله فقد فزت بأعظم فَوَائِد الْعلم وربحت بأنفس فرائده ولأمر مَا جعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمنصف أعلم النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فَإِنَّهُ أخرج الْحَاكِم فِي = الْمُسْتَدْرك = وَصَححهُ مَرْفُوعا أعرف النَّاس أبصرهم بِالْحَقِّ إِذا اخْتلف النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فِي الْعَمَل وَإِن كَانَ يزحف على أستة هَكَذَا فِي حفظي فَليُرَاجع = الْمُسْتَدْرك = فَانْظُر كَيفَ جعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمنصف أعلم النَّاس وَجعل ذَلِك هُوَ الْخصْلَة الْمُوجبَة للأعلمية وَلم يعْتَبر غَيرهَا وَإِنَّمَا كَانَ أبْصر النَّاس بِالْحَقِّ إِذا اخْتلف النَّاس لِأَنَّهُ لم يكن لَدَيْهِ هوى وَلَا حمية وَلَا عصبية لمَذْهَب من الْمذَاهب أَو عَالم من الْعلمَاء فصفت غريزته عَن أَن تتكدر بِشَيْء من ذَلِك فَلم يكن لَهُ مأرب وَلَا مقصد إِلَّا مُجَرّد معرفَة مَا جَاءَ عَن الشَّارِع فظفر بذلك بسهولة من غير مشقة وَلَا تَعب لِأَنَّهُ مَوْجُود إِمَّا فِي كتاب الله وَهُوَ بَين أظهرنَا فِي الْمَصَاحِف الشَّرِيفَة مُفَسّر بتفاسير الْعلمَاء الموثوق بهم وَإِمَّا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي أَيْضا مَوْجُودَة قد ألف أهل الْعلم فِي أَدِلَّة الْمسَائِل من السّنة كتبا متنوعة مِنْهَا مَا هُوَ على أَبْوَاب الْفِقْه وَمِنْهَا مَا هُوَ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 حُرُوف المعجم فَكَانَ تنَاوله يَسِيرا ثمَّ قد تكلم الْأَئِمَّة على صِحَّتهَا وحسنها فجاؤوا بِمَا لَا يحْتَاج النَّاظر مَعَه إِلَى غَيره وَوَضَعُوا فِي ذَلِك مؤلفات مُشْتَمِلَة على ذَلِك اشتمالا على أحسن وَجه وأبدع أسلوب ثمَّ أوضحُوا مَا فِي السّنة من الْغَرِيب بل جمعُوا بَين المتعارضات ورجحوا مَا هُوَ رَاجِح وَلم يَدْعُو شَيْئا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة فَإِذا وقف على ذَلِك من قد تأهل للِاجْتِهَاد وظفر بِعُلُومِهِ أَخذه أَخذ غير أَخذ من لم يكن كَذَلِك وَعمل عَلَيْهِ مطمئنه بِهِ نَفسه سَاكِنة إِلَيْهِ نافرة عَن غَيره هاربة مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والعصبية النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين حب الشّرف وَالْمَال الْجِدَال والمراء وَحب الظُّهُور حب الْقَرَابَة والتعصب للأجداد صعوبة الرُّجُوع إِلَى الْحق لقَوْله بِخِلَافِهِ كَون المنافس الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ صَغِير السن أَو الشَّأْن آفَات الشُّيُوخ والتلاميذ علاج التعصب العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق عود إِلَى أَسبَاب التعصب الِاسْتِنَاد إِلَى قَوَاعِد ظنية عدم الموضوعية فِي عرض حجج الْخُصُوم المنافسة بَين الأقران التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والتعصب وَاعْلَم أَن سَبَب الْخُرُوج عَن دَائِرَة الْإِنْصَاف والوقوع فِي موبقات التعصب كَثِيرَة جدا فَمِنْهَا النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين وَهُوَ أَكْثَرهَا وقوعا وأشدها بلَاء أَن ينشأ طَالب الْعلم فِي بلد من الْبلدَانِ الَّتِي قد تمذهب أَهلهَا بِمذهب معِين وَاقْتَدوا بعالم مَخْصُوص وَهَذَا الدَّاء قد طبق فِي بِلَاد الْإِسْلَام وَعم أَهلهَا وَلم يخرج عَنهُ إِلَّا أَفْرَاد قد يُوجد الْوَاحِد مِنْهُم فِي الْمَدِينَة الْكَبِيرَة وَقد لَا يُوجد لِأَن هَؤُلَاءِ الَّذين ألفوا هَذِه الْمذَاهب قد صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا هِيَ الشَّرِيعَة وَأَن مَا خرج عَنْهَا خَارج عَن الدّين مباين لسبيل الْمُؤمنِينَ (كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ) فَأهل هَذَا الْمَذْهَب يَعْتَقِدُونَ أَن الْحق بِأَيْدِيهِم وَأَن غَيرهم على الْخَطَأ والضلال والبدعة وَأهل الْمَذْهَب الآخر يقابلونهم بِمثل ذَلِك وَالسَّبَب أَنهم نشأوا فوجدوا آبَاءَهُم وَسَائِر قراباتهم على ذَلِك وَرَثَة الْخلف عَن السّلف وَالْآخر عَن الأول وانضم إِلَى ذَلِك قصورهم عَن إِدْرَاك الْحَقَائِق بِسَبَب التَّغْيِير الَّذِي ورد عَلَيْهِم مِمَّن وجدوه قبلهم وَإِذا وجد فيهم من يعرف الْحق فَهُوَ لَا يَسْتَطِيع أَن ينْطق بذلك مَعَ أخص خواصه وَأقرب قرَابَته فضلا عَن غَيره لما يخافه على نَفسه أَو على مَاله أَو على جاهه بِحَسب اخْتِلَاف الْمَقَاصِد وتباين العزائم الدِّينِيَّة فَيحصل من قصورهم مَعَ تغير فطرهم بِمن أرشدهم إِلَى الْبَقَاء على مَا هم عَلَيْهِ وَأَنه الْحق وخلافه الْبَاطِل وسكوت من لَهُ فطنة ولدينه عرفان وَعِنْده إنصاف عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 تعليمهم معالم الْإِنْصَاف وهدايتهم إِلَى طرق الْحق مَا يُوجب جمودهم على مَا هم عَلَيْهِ واعتقادهم أَن الْحق مَقْصُور عَلَيْهِ منحصر فِيهِ وَأَن غَيره لَيْسَ من الدّين وَلَا هُوَ من الْحق فَإِذا سمع عَالما من الْعلمَاء يُفْتى بِخِلَافِهِ أَو يعْمل على مَا لَا يُوَافقهُ اعْتقد أَنه من أهل الضلال وَمن الدعاة إِلَى الْبِدْعَة وَهَذَا إِذا عجز عَن إِنْزَال الضَّرَر بِهِ بِيَدِهِ أَو لِسَانه فَإِن تمكن من ذَلِك فعله مُعْتَقدًا أَنه من أعظم مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الله ويدخره فِي صَحَائِف حَسَنَاته ويتأجر الله وَهَذَا مَعْلُوم لكل أحد وَقد شاهدنا مِنْهُ مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ حصر وَلَا تحيط بِهِ عبارَة بل قد بلغ هَذَا المتعصب فِي معاداة من يُخَالِفهُ إِلَى حد يُجَاوز بِهِ عدواته للْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلَو علم المخدوع الْمَغْرُور بِأَن سَعْيه ضلال وَعَمله وبال وَأَنه من (الأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا) لأقصر عَن غوايته وأرعوى عَن بعض جَهله لكنه جهل قدر نَفسه وخسران سَعْيه وتحامي غَيره من أهل الْمعرفَة والفهم إرشاده إِلَى الْحق وتنبيهه على فَسَاد مَا هُوَ فِيهِ مَخَافَة على نَفسه مِنْهُ وَمِمَّنْ يشابهه فِي ذَلِك فتعاظم الْأَمر وَعم الْبلَاء وتفاقم الْأَمر وَعم الضَّرَر وَلَو نظر ذَلِك المتعصب بِعَين الْإِنْصَاف وَرجع إِلَى عقله وَمَا تَقْتَضِيه فطرته الْأَصْلِيَّة لكف عَن فعله وأقصر عَن غيه وجهله وَلكنه قد حيل بَينه وَبَين ذَاك وَفرغ الشَّيْطَان مِنْهُ إِلَّا من عصم الله وَقَلِيل مَا هم وَهَكَذَا صَاحب الْمعرفَة وحامل الْحجَّة وثاقب الْفَهم لَو وَطن نَفسه على الْإِرْشَاد وَتكلم بِكَلِمَة الْحق وَنصر الله سُبْحَانَهُ وَنصر دينه وَقَامَ فِي تَبْيِين مَا أمره الله بتبيينه لحمد مسراه وشكر عاقبته وَأرَاهُ الله سُبْحَانَهُ من بَدَائِع صنعه وعجائب وقايته وَصدق مَا وعد بِهِ من قَوْله (ولينصرن الله من ينصره) (إِن تنصرُوا الله ينصركم وَيثبت أقدامكم) مَا يزِيدهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ثباتا ويشد من عضده ويقوى قلبه فِي نصْرَة الْحق ومعاضدة أَهله وَمن تَأمل الْأَمر كَمَا يَنْبَغِي عرف أَن كل قَائِم بِحجَّة الله إِذا بَينهَا للنَّاس كَمَا أمره الله وصدع بِالْحَقِّ وَضرب بالبدعة فِي وَجه صَاحبهَا وألقم المعتصب حجرا وأوضح لَهُ مَا شَرعه الله لِعِبَادِهِ وَأَنه فِي تمسكه بمحض الرَّأْي مَعَ وجود الْبُرْهَان الثَّالِث عَن صَاحب الشَّرْع كخابط عشواء وراكب العمياء فَإِن قبل مِنْهُ ظفر بِمَا وعده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأجر فِي حَدِيث لِأَن يهدى الله بك رجلا الحَدِيث وَإِن لم يقبل مِنْهُ كَانَ قد فعل مَا وَجب الله عَلَيْهِ وخلص نَفسه من كتم الْعلم الَّذِي أمره الله بإفشائه وَخرج من ورطة أَن يكون من الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْبَينَات وَالْهدى وَدفع الله عَنهُ مَا سولته لَهُ نَفسه الأمارة من الظنون الكاذبة والأوهام الْبَاطِلَة وانْتهى حَاله إِلَى أَن يكون كَعبه الْأَعْلَى وَقَوله الأرفع وَلم يزده ذَلِك إِلَّا رفْعَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وحظا عِنْد عباد الله وظفرا بِمَا وعد الله بِهِ عبَادَة الْمُتَّقِينَ وهم وَإِن أَرَادوا أَن يضعوه بِكَثْرَة الْأَقَاوِيل وتزوير المطاعن وتلفيق الْعُيُوب وتواعدوه بإيقاع الْمَكْرُوه بِهِ وإنزال الضَّرَر عَلَيْهِ فَذَلِك كُله يَنْتَهِي إِلَى خلاف مَا قدروه وَعكس مَا ظنوه وَكَانَت الْعَاقِبَة لِلْمُتقين كَمَا وعد بِهِ عبَادَة الْمُؤمنِينَ (وَلَا يَحِيق الْمَكْر السيء إِلَّا بأَهْله) وَلَقَد تتبعت أَحْوَال كثير من القائمين بِالْحَقِّ المبلغين بِهِ كَمَا أَمر الله المرشدين إِلَى الْحق فوجدتهم ينالون من حسن الأحدوثة وَبعد الصيت وَقُوَّة الشُّهْرَة وانتشار الْعلم ونفاق المؤلفات وطيرانها وقبولها فِي النَّاس مَا لَا يبلغهُ غَيرهم وَلَا يَنَالهُ من سواهُم وسأذكر لَك هُنَا جمَاعَة مِمَّن اشتهرت مذاهبهم وانتشرت أَقْوَالهم وطارت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 مصنفاتهم بعدهمْ وَمَا أَصَابَهُم من المحنة مَا نالهم كإمام دَار الْهِجْرَة مَالك بن أنس فَإِنَّهُ بلَى بخصوم وعاداه مُلُوك فنشر الله مذْهبه فِي الأقطار واشتهر من أَقْوَاله ماملأ الأنجاد والأغوار كَذَلِك الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فَإِنَّهُ وَقع لَهُ من المحن الَّتِي هِيَ منح مِمَّا لَا يخفى على من لَهُ اطلَاع وَضرب بَين يَدي المعتصم العباسي ضربا مبرحا وهموا بقتْله مرّة بعد مرّة وسجنوه فِي الْأَمْكِنَة الْمظْلمَة وكبلوه بالحديد ونوعوا لَهُ أَنْوَاع الْعَذَاب فنشر الله من علومه مَا لَا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَلَا يفْتَقر إِلَى إِيضَاح وَكَانَت الْعَاقِبَة لَهُ فَصَارَ بعد ذَلِك إِمَام الدُّنْيَا غير مدافع ومرجع أهل الْعلم غير مُنَازع وَدون النَّاس كَلِمَاته وانتفعوا بهَا وَكَانَ يتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ فتطير فِي الْآفَاق فَإِذا تكلم بِالْكَلِمَةِ فِي رجل بِجرح تبعه النَّاس وَبَطل علم الْمَجْرُوح وَإِن تكلم فِي رجل بتعديل كَانَ هُوَ الْعدْل الَّذِي لَا يحْتَاج بعد تعديله إِلَى غَيره ثمَّ الإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ أَصَابَهُ من مُحَمَّد بن يحيى الذهلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَأَتْبَاعه من المحنة مَا مَاتَ بِهِ كمدا ثمَّ جعل الله تَعَالَى كِتَابه الْجَامِع الصَّحِيح كَمَا ترى أصح كتاب فِي الدُّنْيَا وَأشهر مؤلف فِي الحَدِيث وَأجل دفتر من دفاتر الْإِسْلَام ثمَّ انْظُر أَحْوَال من جَاءَ بعد هَؤُلَاءِ بدهر طَوِيل كَابْن حزم المغربي فَإِنَّهُ أُصِيب بمحن عَظِيمَة بِسَبَب مَا أظهره من إرشاد النَّاس إِلَى الدَّلِيل والصدع بِالْحَقِّ وتضعيف علم الرَّأْي حَتَّى أفْضى ذَلِك إِلَى امتحان الْمُلُوك لَهُ وإيقاعهم بِهِ وتشريده من مواطنه وتحريق مصنفاته وَمَعَ ذَلِك نشر الله من علومه مَا صَار عِنْد كل فرقة وَفِي كل بِلَاد الْمُسلمين وَبَين ظهراني كل طَائِفَة ثمَّ كَذَلِك شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية أَحْمد بن عبد الْحَلِيم فَإِنَّهُ لما أبان للنَّاس فَسَاد الرَّأْي وأرشدهم إِلَى التَّمَسُّك بِالدَّلِيلِ وصدع بِمَا أمره الله بِهِ وَلم يخف فِي الله لومة لائم قَامَ عَلَيْهِ طوائف من المنتمين إِلَى الْعلم المنتحلين لَهُ من أهل المناصب وَغَيرهم فمازالوا يحاولون ويصاولون ويسعون بِهِ إِلَى الْمُلُوك ويعقدون لَهُ مجَالِس المناظرة ويفتون تَارَة بسفك دَمه وَتارَة باعتقاله فنشر الله من فَوَائده مَا لم ينشر بعضه لأحد من معاصريه وترجمه أعداؤه فضلا عَن أصدقائه بتراجم لم يَتَيَسَّر لَهُم مثلهَا وَلَا مَا يقارنها لأحد من الَّذين يتعصبون لَهُم ويدأبون فِي نشر فضائلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ويطرؤون فِي إطرائهم وَجعل الله لَهُ من ارْتِفَاع الصيت وَبعد الشُّهْرَة مَا لم يكن لأحد من أهل عصره حَتَّى اخْتلف من جَاءَ بعد عصره فِي شَأْنه وَاشْتَغلُوا بأَمْره فعاداه قوم وَخَالفهُم آخَرُونَ وَالْكل معترفون بِقَدرِهِ معظمون لَهُ خاضعون لعلومه واشتهر هَذَا بَينهم غَايَة الاشتهار حَتَّى ذكره المترجمون لَهُم فِي تراجمهم فَيَقُولُونَ وَكَانَ من المائلين إِلَى ابْن تَيْمِية أَو المائلين عَنهُ وَهَذِه الْإِشَارَة إِنَّمَا هِيَ لقصد الْإِيضَاح لَك لتعلم بِمَا يصنعه الله لِعِبَادِهِ وعلماء دينه وَحَملَة حجَّته وَفِي كل عصر من هَذَا الْجِنْس من تقوم بِهِ الْحجَّة على الْعباد وَانْظُر فِي أهل قطرنا فَإِنَّهُ لَا يخفى عَلَيْك حَالهم إِن كنت مِمَّن لَهُ اطلَاع عَليّ أَخْبَار النَّاس وَبحث عَن أَحْوَالهم كالسيد الإِمَام مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْوَزير فَإِنَّهُ قَامَ دَاعيا إِلَى الدَّلِيل فِي دِيَارنَا هَذِه فِي وَقت غربَة وزمان ميل من النَّاس إِلَى التَّقْلِيد وإعراض عَن الْعَمَل بالبرهان فناله من أهل عصره من المحن مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ مصنفاته حَتَّى ترسل عَلَيْهِ من ترسل من مشائخه برسالة حاصلها الْإِنْكَار عَلَيْهِ لما هُوَ فِيهِ من الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَطرح التَّقْلِيد وَقَامَ عَلَيْهِ كثير من النَّاس وثلبوه بالنظم والثر وَلم يضيره ذَلِك شَيْئا بل نشر الله من علومه وَأظْهر من معارفه مَا طَار كل مطار ثمَّ جَاءَ بعده مَعَ طول فصل وَبعد عهد السَّيِّد الْعَلامَة الْحسن بن أَحْمد الْجلَال والعلامة صَالح بن مهْدي المقبلي فنالا من المحن والعداوة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أهل عصرهما مَا حمل الأول على استقراره فِي هِجْرَة الجراف منعزلا عَن النَّاس وَحمل الثَّانِي على الارتحال إِلَى الْحرم الشريف والاستقرار فِيهِ حَتَّى توفاه الله فِيهِ وَمَعَ هَذَا فنشر الله من علومهم وَأظْهر مؤلفاتهم مَا لم يكن لأحد من أهل عصرهما مَا يُقَارِبه فضلا عَن أَن يُسَاوِيه ثمَّ كَانَ فِي الْعَصْر الَّذِي قبل عصرنا هَذَا السَّيِّد الْعَلامَة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْأَمِير وَله فِي الْقيام بِحجَّة الله والإرشاد إِلَيْهَا وتنفير النَّاس عَن الْعَمَل بِالرَّأْيِ وترغيبهم إِلَى علم الرِّوَايَة مَا هُوَ مَشْهُور مَعْرُوف فعاداه أهل عصره وَسعوا بِهِ إِلَى الْمُلُوك وَلم يتْركُوا فِي السَّعْي عَلَيْهِ بِمَا يضرّهُ جهدا وطالت بَينه وَبينهمْ المصاولة والمقاولة وَلم يظفروا مِنْهُ بطائل وَلَا نقصوه من جاه وَلَا مَال وَرَفعه الله عَلَيْهِم وَجعل كَلمته الْعليا وَنشر لَهُ من المصنفات المطولة والمختصرة مَا هُوَ مَعْلُوم عِنْد أهل هَذِه الديار وَلم ينتشر لمعاصريه المؤذين لَهُ المبالغين فِي ضَرَره بحث من المباحث العلمية فضلا عَن رِسَالَة فضلا عَن مؤلف بسيط فَهَذِهِ عَادَة الله فِي عباده فأعلمها وتيقنها وَكَانَ شَيخنَا السَّيِّد الْعَلامَة عبد الْقَادِر بن أَحْمد رَحمَه الله من أَكثر النَّاس نشرا للحق وإرشادا لَهُ وتلقينا لَهُ وهدما لما يُخَالِفهُ فَجعل الله علما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 يقْتَدى بِهِ ومرجعا يأوى إِلَيْهِ أهل عصره وأخضع لَهُ كل مُخَالف لَهُ واعترف لَهُ كل وَاحِد بِأَنَّهُ إِمَام عصره وعالمه ومجتهده وَلم يضرّهُ مَا كَانَ يَنَالهُ بِهِ المخالفون لَهُ من الْغَيْبَة الَّتِي هِيَ غَايَة مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ وَنِهَايَة مَا يبلعون إِلَيْهِ وَإِنِّي أخْبرك أَيهَا الطَّالِب عَن نَفسِي وَعَن الْحَوَادِث الْجَارِيَة بيني وَبَين أهل عصري لِيَزْدَادَ يقينك وَتَكون على بَصِيرَة فِيمَا أرشدتك إِلَيْهِ اعْلَم أَنِّي كنت عِنْد شروعي فِي الطّلب على الصّفة الَّتِي ذكرتها لَك سَابِقًا ثمَّ كنت بعد التَّمَكُّن من الْبَحْث عَن الدَّلِيل وَالنَّظَر فِي مجاميعه أذكر فِي مجَالِس شيوخي ومواقف تدريسهم وَعند الِاجْتِمَاع بِأَهْل الْعلم مَا قد عَرفته من ذَلِك لَا سِيمَا عِنْد الْكَلَام فِي شئ من الرَّأْي مُخَالف الدَّلِيل أَو عِنْد وُرُود قَول عَالم من أهل الْعلم قد تمسك بِدَلِيل ضَعِيف وَترك الدَّلِيل الْقوي أَو أَخذ بِدَلِيل عَام وبعمل خَاص أَو بِمُطلق وَطرح الْمُقَيد أَو بمجمل وَلم يعرف الْمُبين أَو بمنسوخ وَلم ينتبه للناسخ أَو بِأول وَلم يعرف بآخر أَو بمحض رَأْي وَلم يبلغهُ أَن فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة دَلِيلا يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ فَكنت إِذا سَمِعت بِشَيْء من هَذَا لَا سِيمَا فِي مَوَاقِف المتعصبين ومجامع الجامدين تَكَلَّمت بِمَا بلغت إِلَيْهِ مقدرتي وَأَقل الْأَحْوَال أَن أَقُول اسْتدلَّ هَذَا بِكَذَا وَفُلَان الْمُخَالف لَهُ بِكَذَا وَدَلِيل فلَان أرجح لكذا فمازال أسراء التَّقْلِيد يستنكرون ذَلِك ويستعظمونه لعدم الْفَهم بِهِ وَقبُول طبائعهم لَهُ حَتَّى ولد ذَلِك فِي قُلُوبهم من الْعَدَاوَة والبغضاء مَا الله بِهِ عليم ثمَّ كنت إِذا فرغت من أَخذ فن من الْفُنُون أَو مُصَنف من المصنفات على شيوخي أقبل جمَاعَة من الطّلبَة إِلَيّ وعولوا عَليّ فِي تدريسهم فِي ذَلِك فَكَانَ يَأْخُذ أترابي شَيْئا من الْحَسَد الَّذِي لَا يَخْلُو عَنهُ إِلَّا الْقَلِيل ثمَّ تكاثر الطّلبَة عَليّ فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد وَغَيرهَا وَأخذُوا عني أخذا خَالِيا عَن التعصب سالما من الاعتساف فَكنت أقرر لَهُم دَلِيل كل مَسْأَلَة وأوضح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لَهُم الرَّاجِح فِيهَا وأصرح لَهُم بِوُجُوب الْمصير إِلَى ذَلِك وَكَانُوا قد تمرنوا وَعرفُوا عُلُوم الِاجْتِهَاد وَذهب عَنْهُم مَا تكدرت بِهِ فطرهم من الْمُغيرَات فَزَاد ذَلِك الْمُخَالفين عَدَاوَة وشناعة وحسدا وبغضا وأطلقوا ألسنتهم بذلك وَكَانَ مَعَ ذَلِك ترد إِلَيّ أبحاث من جمَاعَة من أهل الْعلم الساكنين بِصَنْعَاء وَغَيرهم من أهل الْبِلَاد الْبَعِيدَة والمدائن النائية فأحرر الجوابات عَلَيْهِم فِي رسائل مُسْتَقلَّة ويرغب تلامذتي لتَحْصِيل ذَلِك وتنتشر فِي النَّاس فَإِذا وقف عَلَيْهِ المتعصبون ورأوه يُخَالف مَا يَعْتَقِدُونَ استشاطوا غَضبا وعرضوا ذَلِك على من يرجون مِنْهُ الْمُوَافقَة والمساعدة فَمن ثالب بِلِسَانِهِ ومعترض بقلمه وَأَنا مصمم على مَا أَنا فِيهِ لَا أنثني عَنهُ وَلَا أميل عَن الطَّرِيقَة الَّتِي أَنا فِيهَا وَكَثِيرًا مَا يرفعون ذَلِك إِلَى من لَا علم عِنْده من رُؤَسَاء الدولة الَّذين لَهُم فِي النَّاس شهرة وصولة فَكَانَ فِي كل حِين يبلغنِي من ذَلِك الْعجب ويناصحني من يظْهر لي الْمَوَدَّة وَمن لَا تخفى عَلَيْهِ حَقِيقَة مَا أقوله وحقيته مَعَ اعترافهم بِأَن مَا أسلكه هُوَ مَا أَخذه الله على الَّذين حملُوا الْحجَّة لكِنهمْ يتعللون بِأَن الْوَاجِب يسْقط بِدُونِ ذَلِك ويذكرون أَحْوَال أهل الزَّمَان وَمَا هم عَلَيْهِ وَمَا يخشونه من العواقب فَلَا أرفع لذَلِك رَأْسا وَلَا أعول عَلَيْهِ وَكنت أتصور فِي نَفسِي أَن هَؤُلَاءِ الَّذين يتعصبون عَليّ وتشغلون أنفسهم بذكري والحط عَليّ هم أحد رجلَيْنِ إِمَّا جَاهِل لَا يدْرِي أَنه جَاهِل وَلَا يَهْتَدِي بالهداية وَلَا يعرف الصَّوَاب وَهَذَا لَا يعبأ الله بِهِ أَو رجل متميز لَهُ حَظّ من علم وَحِصَّة من فهم لكنه قد أعمى بصيرته الْحَسَد وَذهب بإنصافه حب الجاه وَهَذَا لَا ينجع فِيهِ الدَّوَاء وَلَا تَنْفَع عِنْده المحاسنة وَلَا يُؤثر فِيهِ شئ فمازلت على ذَلِك وَأَنا أجد الْمَنْفَعَة بِمَا يصنعونه أَكثر من الْمضرَّة والمصلحة العائدة على مَا أَنا فِيهِ بِمَا هم فِيهِ أَكثر من الْمفْسدَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَلَقَد اشْتَدَّ بلاهم وتفاقمت محنتهم فِي بعض الْوَاقِعَات فَقَامُوا قومه شيطانية وصالوا صولة جَاهِلِيَّة وَذَلِكَ أَنه ورد إِلَيّ سُؤال فِي شَأْن مَا يَقع من كثير من الْمُقَصِّرِينَ من الذَّم لجَماعَة من الصَّحَابَة صانهم الله وَغَضب على من ينتهك أعراضهم المصونة فأجبت برسالة ذكرت فِيهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّة الزيدية من أهل الْبَيْت وَغَيرهم ونقلت إِجْمَاعهم من طرق وَذكرت كَلِمَات قَالَهَا جمَاعَة من أكَابِر الْأَئِمَّة وظننت أَن نقل إِجْمَاع أهل الْعلم يرفع عَنْهُم العماية ويردهم عَن طرق الغواية فَقَامُوا بأجمعهم وحرروا جوابات زِيَادَة على عشْرين رِسَالَة مُشْتَمِلَة على الشتم والمعارضة بِمَا لَا ينْفق إِلَّا على بَهِيمَة وَاشْتَغلُوا بتحرير ذَلِك وأشاعوه بَين الْعَامَّة وَلم يَجدوا عِنْد الْخَاصَّة إِلَّا الْمُوَافقَة تقية لشرهم وفرارا من معرتهم وَزَاد الشَّرّ وتفاقم حَتَّى أبلغوا ذَلِك إِلَى أَرْبَاب الدولة والمخالطين لملوك من الوزراء وَغَيرهم وأبلغوه إِلَى مقَام خَليفَة الْعَصْر حفظه الله وَعظم الْقَضِيَّة عَلَيْهِ جمَاعَة مِمَّن يتَّصل بِهِ فَمنهمْ من يُشِير عَلَيْهِ بحبسى وَمِنْهُم من ينتصح لَهُ بأخراجي من مواطني وَهُوَ سَاكِت لَا يلْتَفت إِلَى شئ من ذَلِك وقاية من الله وحماية لأهل الْعلم ومدافعة عَن القائمين بِالْحجَّةِ فِي عباده وَلم تكن لي إِذْ ذَاك مداخلة لأحد من أَرْبَاب الدولة وَلَا اتِّصَال بهم وَاشْتَدَّ لهج النَّاس بِهَذِهِ الْقَضِيَّة وجعلوها حَدِيثهمْ فِي مجامعهم وَكَانَ من بيني وَبينهمْ مَوَدَّة يشيرون عَليّ بالفرار أَو الاستتار وَأجْمع رَأْيهمْ على أَنِّي إِذا لم أساعدهم على أحد الْأَمريْنِ فَلَا أَعُود إِلَى مجَالِس التدريس الَّتِي كنت أدرس بهَا فِي جَامع صنعاء فَنَظَرت مَا عِنْد تلامذتي فَوجدت أنفسهم قَوِيَّة ورغبتهم فِي التدريس شَدِيدَة إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُم فقد كَادُوا يستترون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الْخَوْف ويفرون من الْفَزع فَلم أجد لي رخصَة فِي الْبعد عَن مجَالِس التدريس وعدت وَكَانَ أول درس عاودته عِنْد وصولي إِلَى الْجَامِع فِي أصُول الْفِقْه بَين العشائين فَانْقَلَبَ من بالجامع وَتركُوا مَا هم فِيهِ من الدَّرْس والتدريس ووقفوا ينظرُونَ إِلَيّ متعجبين من الْإِقْدَام على ذَلِك لما قد تقرر عِنْدهم من عظم الْأَمر وَكَثْرَة التهويل والوعيد والترهيب حَتَّى ظنُّوا أَنه لَا يكمن الْبَقَاء فِي صنعاء فضلا عَن المعاودة للتدريس ثمَّ وصل وَأَنا فِي حَال ذَلِك الدَّرْس جمَاعَة لم تجر لَهُم عَادَة بالوصول إِلَى الْجَامِع وهم متلفعون بثيابهم لَا يعْرفُونَ وَكَانُوا ينظرُونَ إِلَيّ ويقفون قَلِيلا ثمَّ يذهبون وَيَأْتِي آخَرُونَ حَتَّى لم يبْق شكّ مَعَ أحد أَنَّهَا إِن لم تحصل مِنْهُم فتْنَة فِي الْحَال وَقعت مَعَ خروجي من الْجَامِع فَخرجت من الْجَامِع وهم واقفون على مَوَاضِع من طريقي فَمَا سَمِعت من أحدهم كلمة فضلا عَن غير ذَلِك وعاودت الدُّرُوس كلهَا وتكاثر الطّلبَة المتميزون زِيَادَة على مَا كَانُوا عَلَيْهِ من كل فن وَقد كَانُوا ظنُّوا أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يقف بَين يَدي مَخَافَة على أنفسهم من الدولة والعامة فَكَانَ الْأَمر على خلاف مَا ظَنّه وَكنت أتعجب من ذَلِك وَأَقُول فِي نَفسِي هَذَا من صنع الله الْحسن ولطفه الْخَفي لِأَن من كَانَ الْحَامِل لَهُ على مَا وَقع الْحَسَد والمنافسة لم ينجح كَيده بل كَانَ الْأَمر على خلاف مَا يُرِيد وَمن عَجِيب مَا أشرحه لَك أَنه كَانَ فِي درس بالجامع بعد صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ يحضرهُ من أهل الْعلم الَّذين مقصدهم الرِّوَايَة وَإِثْبَات السماع جمَاعَة ويحضره من عَامَّة النَّاس جمع جم لقصد الاستفادة بالحضور فَسمع ذَلِك وَزِير رافضى من وزراء الدولة وَكَانَت لَهُ صولة وَقبُول كلمة بِحَيْثُ لَا يُخَالِفهُ أحد وَله تلعق بِأَمْر الأجناد فَحَمله ذَلِك على أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 استدعى رجلا من المساعدين لَهُ فِي مذْهبه فنصب لَهُ كرسيا فِي مَسْجِد من مَسَاجِد صنعاء ثمَّ كَانَ يسرج لَهُ الشمع الْكثير فِي ذَلِك الْمَسْجِد حَتَّى يصير عجبا من الْعجب فتسامع بِهِ النَّاس وقصدوا إِلَيْهِ من كل جَانب لقصد الفرجة وَالنَّظَر إِلَى مَا لَا عهد بِهِ وَالرجل الَّذِي على الْكُرْسِيّ يملي عَلَيْهِم فِي كل وَقت مَا يتَضَمَّن الثلب لجَماعَة من الصَّحَابَة صانهم الله ثمَّ لم يكتف ذَلِك الْوَزير بذلك حَتَّى أغرى جمَاعَة من الأجناد من العبيد وَغَيرهم بالوصول إِلَيّ لقصد الْفِتْنَة فوصلوا وَصَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة قَائِمَة ودخلوا الْجَامِع على هَيْئَة مُنكرَة وشاهدتهم عِنْد وصولهم فَلَمَّا فرغت الصَّلَاة قَالَ لي جمَاعَة من معارفي إِنَّه يحسن ترك الْإِمْلَاء تِلْكَ اللَّيْلَة فِي البُخَارِيّ فَلم تطب نَفسِي بذلك واستعنت بِاللَّه وتوكلت عَلَيْهِ وَقَعَدت فِي الْمَكَان الْمُعْتَاد وَقد حضر بعض التلاميذ وَبَعْضهمْ لم يحضر تِلْكَ اللَّيْلَة لما شَاهد وُصُول أُولَئِكَ الأجناد وَلما عقدت الدَّرْس وَأخذت فِي الْإِمْلَاء رَأَيْت أُولَئِكَ يدورون حول الْحلقَة من جَانب إِلَى جَانب ويقعقعون بِالسِّلَاحِ ويضربون سلَاح بَعضهم فِي بعض ثمَّ ذَهَبُوا وَلم يَقع شئ بمعونة الله تَعَالَى وفضله ووقايته ثمَّ أَن ذَلِك الْوَزير أَكثر السّعَايَة إِلَى الْمقَام الإمامي هُوَ وَمن يُوَافقهُ على هَوَاهُ ويطابقه فِي اعْتِقَاده من أعوان الدولة واستعانوا برسائل بَعْضهَا من عُلَمَاء السوء وَبَعضهَا من جمَاعَة من الْمُقَصِّرِينَ الَّذين يظنهم من لَا خبْرَة لَهُ فِي عداد أهل الْعلم وَحَاصِل مَا فِي تِلْكَ الرسائل إِنِّي قدر أردْت تَبْدِيل مَذْهَب أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام وَأَنه إِذا لم يتدارك ذَلِك الْخَلِيفَة بَطل مَذْهَب آبَائِهِ وَنَحْو هَذَا من الْعبارَات المفتراه والكلمات الخشنة والأكاذيب الملفقة وَلَقَد وقفت على رِسَالَة مِنْهَا لبَعض أهل الْعلم مِمَّن جمعني وإياه طلب الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ونظمنا جَمِيعًا عقد الْمَوَدَّة وسابق الإلفة فرأيته يَقُول فِيهَا مُخَاطبا لإِمَام الْعَصْر إِن الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ وَيجب عَلَيْهِ أَن يَأْمر جمَاعَة يكبسون منزلي ويهجمون مسكني وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهِ من الْكتب المتضمنة لما يُوجب الْعقُوبَة من الاجتهادات الْمُخَالفَة للْمَذْهَب فَلَمَّا وقف على ذَلِك قضيت مِنْهُ الْعجب وَلَوْلَا أَن تِلْكَ الرسَالَة بِخَطِّهِ الْمَعْرُوف لدي لما صدقت وفيهَا من هَذَا الزُّور والبهت والكلمات الفظيعة شئ كثير وَهِي فِي نَحْو ثَلَاثَة كراريس وَعند تَحْرِير هَذِه الأحرف قد انتقم الله مِنْهُ فشرده إِمَام الْعَصْر إِلَى جَزِيرَة من جزائر الْبَحْر مَقْرُونا فِي السلَاسِل بِجَمَاعَة من السوقة وَأهل الْحَرْف الدنيئة وأهلكه الله فِي تِلْكَ الجزيرة (وَلَا يظلم رَبك أحدا) وَكَانَ حُدُوث هَذِه الْحَادِثَة عَلَيْهِ ونزول هَذِه الفاقرة بِهِ بمرأى ومسمع من ذَلِك الْوَزير الرافضي الَّذِي ألف لَهُ تِلْكَ الرسَالَة استجلابا لما عِنْده وطلبا للقرب إِلَيْهِ وتوددا لَهُ وَمن جملَة مَا وقفت عَلَيْهِ من الرسائل الْمُؤَلّفَة بعناية هَذَا الْوَزير رِسَالَة لبَعض مشائخي الَّذين أخذت عَنْهُم بعض الْعُلُوم الإلهية وفيهَا من الزُّور ومحض الْكَذِب مَا لَا يظنّ بِمن هُوَ دونه وَمَا حمله على ذَلِك إِلَّا الطمع فِي الْوَزير فعاقبه الله بِقطع مَا كَانَ يجرى عَلَيْهِ من الْخَلِيفَة وَأُصِيب بفقر مدقع وفاقة شَدِيدَة حَتَّى صَار عِبْرَة من العبر وَكَانَ يفد إِلَيّ يشكو حَاله وَمَا هُوَ فِيهِ من الْجهد وَالْبَلَاء فأبلغ جهدي فيمَ منفعَته وَمَا يسد فاقته وَهَكَذَا جمَاعَة من المترسلين عَليّ المبالغين فِي إِنْزَال الضَّرَر بِي أرجعهم الله إِلَيّ راغمين وأحوجهم لمعونتي مضطرين وَلم أعاقب أحدا مِنْهُم بِمَا أسلفه وَلَا كافيته بِمَا قَدمته فَانْظُر صنع الله مَعَ من عودى وأوذى لأجل تمسكه بالإنصاف ووقوفه عَنهُ الْحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 اللَّهُمَّ إِنِّي أحمدك على جميل صنعك وجزيل فضلك وَجَمِيل طولك حمدا يَتَجَدَّد بتجدد الْأَوْقَات ويتعدد بِعَدَد المعدودات وَإِنِّي لم أكن أَهلا لما أوليته فَأَنت لَهُ أهل وَبِه حقيق لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك وَمِمَّا أسوقه إِلَيْك أَيهَا الطَّالِب وَأَعْجَبَك مِنْهُ أَنه كَانَ لي صديق بِمَدِينَة من مَدَائِن الْيمن جمعني وإياه الطّلب والإلفة والوداد وَكَانَ عالي الْقدر رفيع الْمنزلَة فِي الْعلم كَبِير السن بعيد الصيت مَشْهُور الذّكر وَلَعَلَّه كَانَ يُفِيد الطّلبَة فِي الْفِقْه قبل مولدِي وَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض شيوخي ورحل إِلَى صنعاء وَطلب عُلُوم الِاجْتِهَاد فِي أَيَّام طلبي لَهَا وَكَانَ بيني وَبَينه من الْمَوَدَّة أَمر عَظِيم وَله معي مذاكرات ومباحثات وترسلات فِي فَوَائِد كَثِيرَة هِيَ فِي مَجْمُوع رسائلي فَلَمَّا حدث مَا حدث من قيام مَا قَامَ عَليّ من الْخَاصَّة والعامة وَكَانَ إِذا ذَاك قد فَارق صنعاء وَعَاد إِلَى مدينته وَعَكَفَ عَلَيْهِ الطّلبَة واستفادوا بِهِ فِي الْفُنُون فَقَامُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّه بلغ إِلَيْنَا مَا حدث من أليفك الَّذِي تكْثر الثَّنَاء عَلَيْهِ والمذاكرة لَهُ من مُخَالفَة الْمَذْهَب والتظهر بِالِاجْتِهَادِ فَإِن كنت مُوَافقا لَهُ قمنا عَلَيْك كَمَا قَامَ عَلَيْهِ أهل صنعاء وَإِن كنت تخَالفه فِيمَا ظهر مِنْهُ فترسل عَلَيْهِ فوصلت مِنْهُ رِسَالَة فِي عدَّة كراريس وَمَا حمله على ذَلِك إِلَّا المداراة لَهُم والتقية مِنْهُم وظاهرها الْمُخَالفَة وباطنها الْمُوَافقَة مَعَ حسن عبارَة وجودة مَسْلَك وَلم أستنكر ذَلِك مِنْهُ وَلَا أَنْبَتَهُ عَلَيْهِ فَإِن الصدع بِالْحَقِّ والتظهر بِمَا لَا يُوَافق النَّاس من الْحق لَا يستطيعه إِلَّا الْأَفْرَاد وَقَلِيل مَا هم ووصلت رسائل من جمَاعَة آخَرين من مَدَائِن بعيدَة من صنعاء فِيهَا مَا هُوَ مُوَافق لي مقو لما ذهبت إِلَيْهِ وفيهَا مَا هُوَ مُخَالف لذَلِك (وَلَا يزالون مُخْتَلفين) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَلَيْسَ بعجيب خذلان من خذلني وَلم يقم بنصري وَلم يصدع بِالْحَقِّ فِي أَمْرِي من عُلَمَاء صنعاء العارفين بالعلوم المتمسكين مِنْهَا بِجَانِب يفرقون بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل فثورة الْعَامَّة يتقيها غَالب النَّاس وَلَا سِيمَا إِذا حطبوا فِي جبل من ينتمي إِلَى دولة ويتصل بِملك ويتأيد بصولة ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وينصر دينه وَيُؤَيّد شَرعه وَبِالْجُمْلَةِ فالشرح لما حدث لي من الْحَوَادِث فِي هَذَا الشَّأْن يطول وَلَو ذهبت أسردها وأذكر مَا تعقبها من ألطاف الله الَّتِي هِيَ من أعظم العبر ومنحه الَّتِي لَا تبلغها الأفهام وَلَا تحيط بهَا الأوهام لم يَفِ بذلك إِلَّا مُصَنف مُسْتَقل وَلَيْسَ الْمَقْصُود هَهُنَا إِلَّا مَا نَحن بصدد من تنشيط طَالب الْعلم وترغيبه فِي التَّمَسُّك بالإنصاف والتحلي بحلبة الْحق والتلبس بلباس الصدْق وتعريفه بِأَن قِيَامه فِي هَذَا الْمقَام كَمَا أَنه سَبَب الْفَوْز بِخَير الْآخِرَة هُوَ أَيْضا سَبَب الْوُصُول إِلَى مَا تطلبه أهل الدُّنْيَا من الدُّنْيَا وَأَن لَهُ الثأر على من خَالفه والظهور على من ناوأه فِي حَيَاته وَبعد مَوته وَأَنه بِهَذِهِ الْخصْلَة الشَّرِيفَة الَّتِي هِيَ الْإِنْصَاف ينشر الله علومه وَيظْهر فِي النَّاس أمره وَيَرْفَعهُ إِلَى مقَام لَا يصل إِلَى أدنى مراتبه من يتعصب فِي الدّين وَيطْلب رِضَاء النَّاس بإسخاط رب الْعَالمين حب الشّرف وَالْمَال وَمن جملَة الْأَسْبَاب الَّتِي يتسبب عَنْهَا ترك الْإِنْصَاف ويصدر عَنْهَا الْبعد عَن الْحق وكتم الْحجَّة وَعدم مَا أوجبه الله من الْبَيَان حب الشّرف وَالْمَال اللَّذين هما أعدى على الْإِنْسَان من ذئبين ضاريين كَمَا وصف ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن هَذَا هُوَ السَّبَب الَّذِي حرف بِهِ أهل الْكتاب كتب الله الْمنزلَة على رسله وكتموا مَا جَاءَهُم فِيهَا من الْبَينَات وَالْهدى كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَقع من أَحْبَار الْيَهُود وَقد أخبرنَا الله بذلك فِي كِتَابه الْعَزِيز وَأخْبرنَا بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الثَّابِت عَنهُ فِي الصَّحِيح وَبِهَذَا السَّبَب بقى من بقى على الْكفْر من الْعَرَب وَغَيرهم بعد قيام الْحجَّة عَلَيْهِم وَظُهُور الْحق لَهُم وَبِه نَافق من نَافق وَوَقع فِي الْإِسْلَام من أهل الْعلم بذلك السَّبَب عجائب مودعة بطُون كتب التَّارِيخ وَكم من عَال قد مَال إِلَى هوى ملك من الْمُلُوك فوافقه على مَا يُرِيد وَحسن لَهُ مَا يُخَالف الشَّرْع وَتظهر لَهُ بِمَا ينْفق لَدَيْهِ من الْمذَاهب بل قد وضع بعض الْمُحدثين للملوك أَحَادِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا وَقع من وهب بن وهب أَبُو البخترى مَعَ الرشيد وَوَقع من آخر فِي حَدِيث لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو نصل فَزَاد فِي الحَدِيث أَو جنَاح مُوَافقَة للْملك الَّذِي رَآهُ يلْعَب بالحمام ويسابق بَينهَا وَوضع جمَاعَة مَنَاقِب لقوم وَآخَرُونَ مثالب لآخرين لَا حَامِل لَهُم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ذَلِك إِلَّا حب الدُّنْيَا والطمع فِي الحطام والتقرب إِلَى أهل الرِّئَاسَة بِمَا ينْفق لديهم وَيروح عَلَيْهِم نسْأَل الله الْهِدَايَة والحماية من الغواية وَكم قد سمعنَا ورأينا فِي عصرنا من أَهله فكثيرا مَا نرى الرجل يعْتَقد فِي نَفسه اعتقادا يُوَافق الْحق ويطابق الصَّوَاب فَإِذا تكلم عِنْد من يُخَالِفهُ فِي ذَلِك ويميل إِلَى شئ من الْبِدْعَة فضلا عَن أَن يكون من أهل الرِّئَاسَة وَمِمَّنْ بِيَدِهِ من الدُّنْيَا فضلا عَن أَن يكون من الْمُلُوك وَافقه وساعده وسانده وعاضده وَأَقل الْأَحْوَال أَن يكتم مَا يَعْتَقِدهُ من الْحق ويغمط مَا قد تبين لَهُ من الصَّوَاب عِنْد من لَا يجوز مِنْهُ ضَرَرا وَلَا يقدر مِنْهُ نفعا فَكيف مِمَّن عداهُ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة من تَأْثِير الدُّنْيَا على الدّين والعاجلة على الآجلة وَهُوَ لَو أمعن نظره وتدبر مَا وَقع فِيهِ لعلم أَن ميله إِلَى هوى رجل أَو رجلَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَو أَكثر مِمَّن يجاملهم فِي ذَلِك الْمجْلس ويكتم الْحق مُطَابقَة لَهُم واستجلابا لمودتهم واستبقاء لما لديهم وفرارا من نفورهم وَهُوَ من التَّقْصِير بِجَانِب الْحق والتعظيم لجَانب الْبَاطِل فلولا أَن هَؤُلَاءِ النَّفر لَدَيْهِ أعظم من الرب سُبْحَانَهُ لما مَال إِلَى هواهم وَترك مَا يعلم أَنه مُرَاد الله سُبْحَانَهُ ومطلبه من عباده وَكَفاك بِهَذِهِ الفاقرة الْعَظِيمَة والداهية الجسيمة فَإِن رجلا يكون عِنْده فَرد من أَفْرَاد عباد الله أعظم قدرا من الله سُبْحَانَهُ لَيْسَ بعد تجرئه على الله شئ أرشدنا الله إِلَى الْحق بحوله وَطوله وَمن غَرِيب مَا أحكيه لَك من تأثر هوى الْمُلُوك والميل إِلَى مَا يُوَافق مَا ينْفق عِنْدهم وَاقعَة معي مُشَاهدَة لي وَإِن كَانَت الوقائع فِي هَذَا الْبَاب لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْحصْر وَهِي مودعة بطُون الدفاتر مَعْرُوفَة عِنْد من لَهُ خبْرَة بأحوال من تقدم وَذَلِكَ أَنه عقد خَليفَة الْعَصْر حفظه الله مَجْلِسا جمع فِيهِ وزراءه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وأكابر أَوْلَاده وَكَثِيرًا من خواصه وَحضر هَذَا الْمجْلس من أهل الْعلم ثَلَاثَة أَنا أحدهم وَكَانَ عقد هَذَا الْمجْلس لطلب المشورة فِي فتْنَة حدثت بِسَبَب بعض الْمُلُوك ووصول جيوشه إِلَى بعض الأقطار الإمامية وتخاذل كثير من الرعايا واضطرابهم وارتجاف الْيمن بأسره بذلك السَّبَب فأشرت إِلَى الْخَلِيفَة بِأَن أعظم مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى دفع هَذِه النَّازِلَة هُوَ الْعدْل فِي الرّعية والاقتصار فِي الْمَأْخُوذ مِنْهُم على مَا ورد بِهِ الشَّرْع وَعدم مجاوزته فِي شئ وإخلاص النِّيَّة فِي ذَلِك وإشعار الرّعية فِي جَمِيع الأقطار والعزم عَلَيْهِ على الِاسْتِمْرَار فَإِن ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي تدفع كل الدّفع وتنجع أبلغ النجع فَإِن اضْطِرَاب الرعايا وَرفع رؤوسهم إِلَى الواصلين لَيْسَ إِلَّا لما يبلغهم من اقتصارهم على الْحُقُوق الْوَاجِبَة وَلَيْسَ ذَلِك لرغبة فِي شئ آخر فَلَمَّا فرغت من أَدَاء النَّصِيحَة انبرى أحد الرجلَيْن الآخرين وَهُوَ مِمَّن حظى من الْعلم بِنَصِيب وافر وَمن الشّرف بمرتبة علية وَمن السن بِنَحْوِ ثَمَانِينَ سنة وَقَالَ إِن الدولة لَا تقوم بذلك وَلَا تتمّ إِلَّا بِمَا جرت بِهِ الْعَادة من الجبايات وَنَحْوهَا ثمَّ أَطَالَ فِي هَذَا بِمَا يتحير عِنْده السَّامع ويشترك فِي الْعلم بمخالفته للشريعة الْعَالم وَالْجَاهِل والمقصر والكامل وَذكر أَنه قد أَخذ الجباية وَنَحْوهَا من الرّعية فلَان وَفُلَان وَعدد جمَاعَة من أَئِمَّة الْعلم مِمَّن لَهُم شهرة وَلِلنَّاسِ فيهم اعْتِقَاد وَهَذَا مَعَ كَونه عنادا للشريعة وَخِلَافًا لما جَاءَت بِهِ وجرأة على الله نصبا للْخلاف بَينه وَبَين من عَصَاهُ وَخَالف مَا شَرعه هُوَ أَيْضا مجازفة بحتة فِي الرِّوَايَة عَن الَّذين سماهم بل هُوَ مَحْض الْكَذِب وَإِنَّمَا يرْوى على بعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لم يمسهُ ذَلِك الْقَائِل وَهَذَا الْبَعْض الَّذِي يرْوى عَنهُ ذَلِك إِنَّمَا فعله أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ طوى بساطه وَعلم أَنه خلاف مَا شَرعه الله فَتَركه وَإِنَّمَا حمله على ذَلِك رَأْي رَآهُ وتدبير دبره ثمَّ تبين لَهُ فَسَاده فَانْظُر أرشدك الله مَا مِقْدَار مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل فِي ذَلِك الْجمع الحافل الَّذِي شَمل الإِمَام وَجَمِيع المباشرين للأعمال الدولية والناظرين فِي أَمر الرّعية وَلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ينْتَفع هَذَا الْقَائِل بمقالته لَا من زِيَادَة جاه وَلَا مَال بل غَايَة مَا استفاده وَنِهَايَة مَا وصل إِلَيْهِ اجْتِمَاع الألسن على ذمَّة واستعظام النَّاس لما صدر مِنْهُ وَهَكَذَا جرت عَادَة الله فِي عباده فَإِنَّهُ لَا ينَال من أَرَادَ الدُّنْيَا بِالدّينِ إِلَّا وبالا وخسرانا عَاجلا أم آجلا خُصُوصا من كَانَ من الحاملين لحجة الله المأمورين بإبلاغها إِلَى الْعباد فَإِن خَيره فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مربوط بوقوفه على حُدُود الشَّرِيعَة فَإِن زاغ عَنْهَا زاغ عَنهُ وَقد صرح الله سُبْحَانَهُ بِمَا يُفِيد هَذَا فِي غير مَوضِع من كِتَابه الْعَزِيز فَأَنت أَيهَا الْحَامِل للْعلم لَا تزَال بِخَير مَا دمت قَائِما بِالْحجَّةِ مرشدا إِلَيْهَا ناشرا لَهَا غير مستبدل بهَا عرضا من أَعْرَاض الدُّنْيَا أَو مرضاة من أَهلهَا الْجِدَال والمراء وَحب الِانْتِصَار والظهور وَمن جملَة الْأَسْبَاب الَّتِي يتسبب عَنْهَا ترك الْإِنْصَاف وكتم الْحق وغمط الصَّوَاب مَا يَقع بِي أهل الْعلم من الْجِدَال والمراء فَإِن الرجل قد يكون لَهُ بَصِيرَة وَحسن إِدْرَاك وَمَعْرِفَة بِالْحَقِّ ورغوب إِلَيْهِ فيخطئ فِي المناظرة ويحمله الْهوى ومحبة الغلب وَطلب الظُّهُور على التصميم على مقاله وَتَصْحِيح خطأه وتقويم معوجه بالجدال والمراء وَهَذِه الذريعة الإبليسية والدسيسة الشيطانية قد وَقع بهَا من وَقع فِي مهاوي من التعصبات ومزالق من التعسفات عَظِيمَة الْخطر مخوفة الْعَاقِبَة وَقد شاهدنا من هَذَا الْجِنْس مَا يقْضى مِنْهُ الْعجب فَإِن بعض من يسْلك هَذَا المسلك قد يُجَاوز ذَلِك إِلَى الْحلف بِالْإِيمَان على حَقِيقَة مَا قَالَه وصواب مَا ذهب إِلَيْهِ وَكَثِيرًا مِنْهُم يعْتَرف بعد أَن تذْهب عَنهُ سُورَة الْغَضَب وتزول عَنهُ نزوة الشَّيْطَان بِأَنَّهُ فعل ذَلِك تعمدا مَعَ علمه بِأَن الَّذِي قَالَه غير صَوَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَقد وَقع مَعَ جمَاعَة من السّلف من هَذَا الْجِنْس مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر وَصَارَ ذَلِك مَذَاهِب تروى وأقوال تحكى كَمَا يعرف ذَلِك من يعرف حب الْقَرَابَة والتعصب للأجداد وَمن الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للتعصب أَن يكون بعض سلف المشتغل بِالْعلمِ قد قَالَ بقول وَمَال إِلَى رأى فَيَأْتِي هَذَا الَّذِي جَاءَ بعده فيحمله حب الْقَرَابَة على الذّهاب إِلَى ذَلِك الْمَذْهَب وَالْقَوْل بذلك القَوْل وَإِن كَانَ يعلم أَنه خطأ وَأَقل الْأَحْوَال إِذا لم يذهب إِلَيْهِ أَن يَقُول فِيهِ إِنَّه صَحِيح ويتطلب لَهُ الْحجَج ويبحث عَن مَا يقويه وَإِن كَانَ بمَكَان من الضعْف وَمحل من السُّقُوط وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا حَظّ وَلَا مَعَه فَائِدَة إِلَّا مُجَرّد المباهاة لمن يعرفهُ والتزين لأَصْحَابه بِأَنَّهُ فِي الْعلم معرق وان بَيته قديم فِيهِ وَلِهَذَا ترى كثيرا مِنْهُم يستكثر من قَالَ جدنا قَالَ والدنا وَاخْتَارَ كَذَا صنع كَذَا فعل كَذَا وَهَذَا لَا شكّ أَن الطباع البشرية تميل إِلَيْهِ وَلَا سِيمَا طبائع الْعَرَب فَإِن الْفَخر بالأنساب والتحدث بِمَا كَانَ للسلف من الأحساب يَجدونَ فِيهِ من اللَّذَّة مَا لَا يجدونه فِي تعدد مَنَاقِب أنفسهم ويزداد هَذَا بِزِيَادَة شرف النَّفس وكرم العنصر ونبالة الْآبَاء وَلَكِن لَيْسَ من الْمَحْمُود أَن يبلغ بِصَاحِبِهِ إِلَى التعصب فِي الدّين وتأثير الْبَاطِل على الْحق فَإِن اللَّذَّة الَّتِي يطْلبهَا والشرف الَّذِي يُريدهُ قد حصل لَهُ بِكَوْن من سلفه ذَلِك الْعَالم وَلَا يضيره أَن يتْرك التعصب لَهُ وَلَا يمحق عَلَيْهِ شرفه بل التعصب مَعَ كَونه مُفْسِدا للحظ الأخروي يفْسد عَلَيْهِ أَيْضا الْحَظ الدنيوي فَإِنَّهُ إِذا تعصب لسلفه بِالْبَاطِلِ فَلَا بُد أَن يعرف كل من لَهُ فهم أَنه متعصب وَفِي ذَلِك عَلَيْهِ من هدم الرّفْعَة الَّتِي يريدها والمزية الَّتِي يطْلبهَا مَا هُوَ أعظم عَلَيْهِ وَأَشد من الْفَائِدَة الَّتِي يطْلبهَا بِكَوْن لَهُ قريب عَالم فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعهُ صَلَاح غَيره مَعَ فَسَاد نَفسه وَإِذا لم يعْتَقد فِيهِ السَّامع التعصب اعْتقد بِلَاده الفهمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ونقصان الْإِدْرَاك وَضعف التَّحْصِيل لِأَن الْميل إِلَى الْأَقْوَال الْبَاطِلَة لَيْسَ من شَأْن أهل التَّحْقِيق الَّذين لَهُم كَمَال إِدْرَاك وَقُوَّة فهم وَفضل دراية وَصِحَّة رِوَايَة بل ذَلِك دأب من لَيست لَهُ بَصِيرَة نَافِذَة وَلَا معفرة نافعة فقد حصل عَلَيْهِ بِمَا تلذذ بِهِ وارتاح إِلَيْهِ من ذكر شرف السّلف مَا حقق عِنْد سامعه بِأَنَّهُ من خلف الْخلف وَلَقَد رَأَيْت من أهل عصري فِي هَذَا عجبا فَإِن بعض من جمعني وإياه الطّلب لعلوم الِاجْتِهَاد يتعصب لبَعض المصنفين من قرَابَته تعصبا مفرطا حَتَّى أَنه إِذا سمع من يعْتَرض عَلَيْهِ أَو يستبعد شَيْئا قَالَه اضْطربَ وتزيد وَجهه وتغيرت أخلاقه سَوَاء عَلَيْهِ من اعْترض بِحَق أَو بباطل فَإِنَّهُ لَا يقبل سَمعه فِي هَذَا كلَاما وَلَا يسمع من نصيح ملاما وَمَعَ هَذَا فَهُوَ بِمحل من الْإِنْصَاف وَمَكَان من الْعرْفَان قد تحصلت لَهُ عُلُوم الِاجْتِهَاد تحصلا قَوِيا وَنظر فِي الْأَدِلَّة نظرا مشبعا وَكَانَ صُدُور مثل هَذَا مِنْهُ يحملني فِي سنّ الحداثة وشرخ الشَّبَاب على تَحْرِير مبَاحث انقض بهَا رسائل ومسائل من كَلَام قَرِيبه قَاصِدا بذلك إيقاظه ورده إِلَى صَوَاب الصَّوَاب وَكنت إِذا أردْت إغضابه أَو الانتصاف مِنْهُ ذكرت بحثا من تِلْكَ الأبحاث أَو مَسْأَلَة من تِلْكَ الْمسَائِل الَّتِي اعترضتها وَبِهَذَا السَّبَب تَجِد من كَانَ لَهُ سلف على مَذْهَب من الْمذَاهب كَانَ على مذْهبه سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمَذْهَب من مَذَاهِب الْحق أَو الْبَاطِل ثمَّ تَجِد غَالب العلوية شيعَة وغالب الأموية عثمانية وَكَانَ تَعْظِيم عُثْمَان فِي الدولة الأموية عَظِيما وَأهل تِلْكَ الدولة مشغولون بِحِفْظ مناقبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ونشرها وتعريف النَّاس إِيَّاهَا وَكَانُوا إِذْ ذَاك يثلبون من كَانَت بَينه وَبَينه عَدَاوَة أَو مُنَافَسَة ثمَّ لما جَاءَت الدولة العباسية عَقبهَا كَانَ الْعَبَّاس عِنْد أَهلهَا أعظم الصَّحَابَة قدرا وأجلهم وَكَذَلِكَ ابْنه عبد الله وتوصلت خلفاء بني الْعَبَّاس بِكَثِير من شعراء تِلْكَ الدولة إِلَى تَفْضِيل الْعَبَّاس على عَليّ ثمَّ تَفْضِيل أَوْلَاد الْعَبَّاس على أَوْلَاد عَليّ وَكَانَ النَّاس فِي أيامهم يعدونهم أهل الْبَيْت ويطبقون مَا ورد من فَضَائِل الْآل عَلَيْهِم وَأَوْلَاد عَليّ إِذْ ذَاك إِنَّمَا هم عِنْدهم خوارج لقيامهم عَلَيْهِم ومنازعتهم لَهُم فِي الْملك وَلَقَد كَانَ بَنو أُميَّة قبلهم هَكَذَا يعْتَقد أهل دولتهم فيهم أَنهم هم الْآل والقرابة وعصبة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن العلوية والعباسية لَيْسُوا من ذَلِك فِي وُرُود وَلَا صدر بل أطبقوا هم وَأهل دولتهم على لعن عَليّ وَلَا يعرف لديهم إِلَّا بِأبي تُرَاب والمنتسب إِلَيْهِ والمعظم لَهُ ترابى لَا يُقَام لَهُ وزن وَلَا يعظم لَهُ جَانب وَلَا ترعى لَهُ حُرْمَة ثمَّ قَامَت الدولة العبيدية فانتسبوا إِلَى عَليّ وَسموا دولتهم الدولة العلوية الفاطمية ثمَّ أفرطوا فِي التَّشَيُّع وغالوا فِي حب عَليّ وبغض كثير من الصَّحَابَة واشتغل النَّاس بفضائل عَليّ ونشرها وبالغوا فِي ذَلِك حَتَّى وضع لَهُم عُلَمَاء السوء أكاذيب مفتراة وَقد جعل الله ذَلِك الإِمَام فِي غنى عَنْهَا بِمَا ورد فِي فضائله فالناشئ فِي دولة ينشأ على مَا يتظهر بِهِ أَهلهَا ويجد عَلَيْهِ سلفه فيظنه الدّين الْحق وَالْمذهب الْعدْل ثمَّ لَا يجد من يرشده إِلَى خِلَافه إِن كَانَ قد تظهر أَهله بِشَيْء من الْبدع وَعَلمُوا على خلاف الْحق لِأَن النَّاس إِمَّا عَامَّة وهم يَعْتَقِدُونَ فِي تِلْكَ الْبدع الَّتِي نشأوا عَلَيْهَا ووجدها بَين ظهرانيهم إِنَّمَا هِيَ الدّين الْحق وَالسّنة القويمة والنحلة الصَّحِيحَة وَإِمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 خَاصَّة وَمِنْهُم من يتْرك التَّكَلُّم بِالْحَقِّ والإرشاد إِلَيْهِ مَخَافَة الضَّرَر من تِلْكَ الدولة وَأَهْلهَا بل وعامتها فَإِنَّهُ لَو تكلم بشئ خلاف مَا قد علمُوا عَلَيْهِ ونشروه فِي النَّاس لخشى على نَفسه وَأَهله وَمَاله وَعرضه وَمِنْهُم من يتْرك التَّكَلُّم بِالْحَقِّ مُحَافظَة على حَظّ قد ظفر بِهِ من تِلْكَ الدولة من مَال وجاه وَقد يتْرك التَّكَلُّم بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ خلاف مَا عَلَيْهِ النَّاس استجلابا لخواطر الْعَوام ومخافة من نفورهم عَنهُ وَقد يتْرك التَّكَلُّم بِالْحَقِّ لطمع يَظُنّهُ ويرجو حُصُوله من تِلْكَ الدولة أَو من سَائِر النَّاس فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان كمن يطْمع فِي نيل رئاسة من الرئاسات ومنصب من المناصب كَائِنا مَا كَانَ ويرجو حُصُول رزق من السُّلْطَان أَو أَي فَائِدَة فَإِنَّهُ يخَاف أَن تفوت عَلَيْهِ هَذِه الْفَائِدَة المظنونة والرئاسة المطموع فها فيتظهر بِمَا يُوَافق النَّاس ويتفق عِنْدهم ويميلون إِلَيْهِ ليَكُون لَهُ ذَلِك ذخيرة وبذا عِنْدهم ينَال بهَا عرض الدُّنْيَا الَّذِي يرجوه فَكيف تَجِد ذَلِك النَّاشِئ بَين من كَانَ كَذَلِك من يرشده إِلَى الْحق وَيبين لَهُ الصَّوَاب ويحول بَينه وَبَين الْبَاطِل ويجنبه الغواية وهيهات ذَاك فالدنيا مُؤثرَة وَالدّين تبع لَهَا وَمن شكّ فِي هَذَا فليخبرنا من ذَاك الَّذِي يَسْتَطِيع أَن يصْرخ بَين ظهراني دولة من تِلْكَ الدول بِمَا يُخَالف اعْتِقَاد أَهلهَا وتألفه عامتها وخاصتها وَوُقُوع مثل ذَلِك نَادرا إِنَّمَا يقوم بِهِ أَفْرَاد من مخلصي الْعلمَاء ومنصفيهم وَقَلِيل مَا هم فَإِنَّهُم لَا يوجدون إِلَّا على قلَّة وإعواز وهم حَملَة الْحجَّة على الْحَقِيقَة والقائمون بِبَيَان مَا أنزل الله والمترجمون للشريعة وهم الْعلمَاء حَقًا وَأما غَيرهم مِمَّن يعلم كَمَا يعلمُونَ وَلَا يتَكَلَّم كَمَا يَتَكَلَّمُونَ بل يكتم مَا أَخذ الله عَلَيْهِ بَيَانه وَيعْمل بِالْجَهْلِ مَعَ كَونه عَالما بِأَنَّهُ جهل وَيَقُول بالبدعة مَعَ اعْتِقَاده أَنَّهَا بِدعَة فَهَذَا لَيْسَ بِأَهْل لدُخُوله فِي مُسَمّى الْعلم وَلَا يستأهل أَن يُوصف بِوَصْف من أَوْصَافه أَو يدْخل فِي عداد أَهله بل هُوَ متظهر وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته بِالْجَهْلِ والبدعة مُطَابقَة لأهل الْجَهْل والابتداع وتنفيفا لنَفسِهِ عَلَيْهِم واستجلابا لقُلُوبِهِمْ ومداراة لَهُم حَتَّى يبْقى عَلَيْهِ جاهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَيسْتَمر لَهُ رزقه الْجَارِي عَلَيْهِ من بَيت مَال الْمُسلمين أَو وقفهم أَو نَحْو ذَلِك فَهَذَا هُوَ من البائعين عرض الدّين بالدنيا المؤثرين العاجلة على الآجلة فضلا عَن أَن يسْتَحق الدُّخُول فِي أهل الْعلم والوصول إِلَيّ هَذَا الْعلم وَمن شكّ فِيمَا ذكرته أَو تردد فِي بعض مَا سقته فليمعن النّظر فِي أهل عصره هَل يَسْتَطِيع أحد من أهل الْعلم أَن يُخَالف مَا يهواه السُّلْطَان من الْمذَاهب فضلا عَن أَن يُصَرح للنَّاس بِخِلَافِهِ هَذَا على فرض أَن ذَلِك الَّذِي يهواه الْملك بِدعَة من الْبدع الشنيعة الَّتِي لَا خلاف فِي شناعتها ومخالفتها للشريعة كَمَا تعتقده الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض فَإِن السّنة الصَّرِيحَة المتواترة الَّتِي لَا خلاف فِيهَا قد جَاءَت بقبح ذَلِك وذم فَاعله وضلاله فَانْظُر هداك الله وإياي من يتَكَلَّم من أهل الْعلم الساكنين فِي أَرض الْخَوَارِج كبلاد عمان وَنَحْوهَا بِمَا يُخَالف مَذْهَب الْخَوَارِج أَو يُنكر ذَلِك عَلَيْهِم أَو يرشد النَّاس إِلَى الْحق وَكَذَلِكَ من كَانَ سَاكِنا من أهل الْعلم بِبِلَاد الروافض كبلاد الْأَعَاجِم وَنَحْوهَا هَل تَجِد رجلا مِنْهُم يُخَالف مَا هم عَلَيْهِ من الرَّفْض فضلا عَن أَن يُنكره عَلَيْهِم بل قد تَجِد غَالب من فِي بِلَاد أهل الْبدع من الْعلمَاء الَّذين لَا تخفى عَلَيْهِم مناهج الْحق وطرائق الرشد يتظهرون للملوك والعامة بِمَا يُنَاسب مَا هم عَلَيْهِ ويوهمونهم بِأَنَّهُم يوافقونهم وَأَن تِلْكَ الْبِدْعَة الَّتِي هم عَلَيْهَا لَيست ببدعة بل هِيَ سنة وَحقّ وَشَرِيعَة ويعملون كعملهم ويدخلون فِي ضلالهم فيكونون مِمَّن أضلّهُ الله على علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فَمن كَانَ من أهل الْعلم هَكَذَا فَهُوَ لم ينْتَفع بِعِلْمِهِ فضلا عَن أَن ينْتَفع بِهِ غَيره فَعلمه محنة لَهُ وبلاء عَلَيْهِ وَالْجَاهِل خير مِنْهُ بِكَثِير فَإِنَّهُ فعل الْبِدْعَة وَوَقع فِي غير الْحق مُعْتَقدًا أَن مَا فعله هُوَ الَّذِي تعبده الله بِهِ وأراده مِنْهُ فيا من أَخذ الله عَلَيْهِ الْبَيَان وَعلمه السّنة وَالْقُرْآن إِذا تجزئت على رَبك بترك طاعاته وَطرح مَا أَمرك بِهِ فقف عِنْد هَذِه الْمعْصِيَة وَكفى بهَا وَقس مَا عَلمته كَالْعدمِ لَا عَلَيْك وَلَا لَك ودع الْمُجَاورَة لهَذِهِ الْمعْصِيَة إِلَى مَا هُوَ أَشد مِنْهَا وأقبح من ترويج بدع المبتدعين والتحسين لَهَا وإيهامهم أَنهم على الْحق فَإنَّك إِذا فعلت ذَلِك كَانَ علمك لَا علمت بلَاء على أهل تِلْكَ الْبدع بعد كَونه بلَاء عَلَيْك لأَنهم يَفْعَلُونَ تِلْكَ الْبدع على بَصِيرَة ويتشددون فِيهَا وَلَا تنجع فيهم بعد ذَلِك من موعظة واعظ وَلَا نصيحة نَاصح وَلَا إرشاد مرشد لاعتقادهم فِيك لَا كثر الله فِي أهل الْعلم من أمثالك فَإنَّك عَالم مُحَقّق متقن قد عرفت عُلُوم الْكتاب وَالسّنة فَلم يكن فِي عُلَمَاء السوء شَرّ مِنْك وَلَا أَشد ضَرَرا على عباد الله وَقد جرت قَاعِدَة أهل الْبدع فِي سَابق الدَّهْر ولاحقه بِأَنَّهُم يفرحون بصدور الْكَلِمَة الْوَاحِدَة عَن عَالم من الْعلمَاء ويبالغون فِي إشهارها وإذاعتها فِيمَا بَينهم ويجعلونها حجَّة لبدعتهم ويضربون بهَا وَجه من أنكر عَلَيْهِم كَمَا تَجدهُ فِي كتب الروافض من الرِّوَايَات لكلمات وَقعت من عُلَمَاء الْإِسْلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِمَا شجر بَين الصَّحَابَة وَفِي المناقب والمثالب فَإِنَّهُم يطيرون عِنْد ذَلِك فَرحا ويجعلونه من أعظم الذَّخَائِر والغنائم فَإِن قلت لَا شكّ فِيمَا أرشدت إِلَيْهِ من وجوب الصدع بِالْحَقِّ وَالْهِدَايَة إِلَى الْإِنْصَاف وتأثير مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيل الصَّحِيح على مَحْض الرَّأْي وَبَيَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 مَا أنزلهُ الله للنَّاس وَعدم كتمه لَكِن إِذا فعل الْعَالم ذَلِك وَصرح بِالْحَقِّ فِي بِلَاد الْبدع وأرشد إِلَى الْعَمَل بِالدَّلِيلِ فِي مَدَائِن التَّقْلِيد قد لَا يتأثر عَن ذَلِك إِلَّا مُجَرّد التنكيل بِهِ والهتك لِحُرْمَتِهِ وإنزال الضَّرَر بِهِ قلت إِنَّمَا سَأَلت هَذَا السُّؤَال وَجئْت بِهَذَا الْمقَال ذهولا عَمَّا قَدمته لَك وأوضحته وكررت من حفظ الله للمتكلمين بِالْحَقِّ ولطفه بالمرشدين لِعِبَادِهِ إِلَى الْإِنْصَاف وحمايته لَهُم عَن مَا يَظُنّهُ من ضعف إيمَانه وخارت قوته ووهت عزيمته فَارْجِع النّظر فِيمَا أسلفته وتدبر مَا قَدمته تعلم بِهِ صدق مَا وعد الله بِهِ عباده الْمُؤمنِينَ من أَن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين ثمَّ هَب صدق مَا حدسته وَوُقُوع مَا قدرته وَحُصُول المحنة عَلَيْك ونزول الضَّرَر بك فَهَل أَنْت كل الْعَالم وَجَمِيع النَّاس أم تظن أَنَّك مخلد فِي هَذِه الدَّار أم مَاذَا عَسى يكون إِذا عملت بِالْعلمِ ومشيت على الطَّرِيقَة الَّتِي أَمرك الله بهَا فنهاية مَا ينزل عَلَيْك وَيحل بك أَن تكون قَتِيلا للحق وشهيدا للْعلم فتظفر بالسعادة الأبدية وَتَكون قدوة لأهل الْعلم إِلَى آخر الدَّهْر وخزيا لأهل الْبدع وقاصمة لظهورهم وبلاء مصوبا عَلَيْهِم وعارا لَهُم مَا داموا مُتَمَسِّكِينَ بضلالهم سادرين فِي عمايتهم واقعين فِي مزالقهم وَكم قد سَبَقَك من عباد الله إِلَى هَذِه الطَّرِيقَة وظفر بِهَذِهِ الْمنزلَة الْعلية وَفِيهِمْ لَك الْقدْوَة وبهم الأسوة فَانْظُر يَا مِسْكين من قطعته السيوف ومزقته الرماح من عباد الله فِي الْجِهَاد فَإِنَّهُم طلبُوا الْمَوْت وَرَغبُوا فِي الشَّهَادَة وَالْبيض تغمد فِي الطلاء والرماح تغرز فِي الْكلأ وَالْمَوْت بمرأى مِنْهُم ومسمع يَأْتِيهم من أمامهم وخلفهم وَمن عَن يمينهم وشمالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فَأَيْنَ أَنْت من هَؤُلَاءِ وَلست إِلَّا قَائِما بَين ظهراني الْمُسلمين تدعوهم إِلَى مَا شَرعه الله وترشدهم إِلَى تَأْثِير كتاب الله وَسنة رَسُوله على مَحْض الرَّأْي والبدع فَإِن الَّذِي نظن بمثلك مِمَّن يقوم بمقامك إِن لم تنجذب لَهُ الْقُلُوب بادئ ذِي بَدْء ويتبعه النَّاس بِأول نِدَاء أَن يستنكر النَّاس ذَلِك عَلَيْهِ ويستعظموه مِنْهُ وينالوه بألسنتهم ويسيئوا القالة فِيهِ فيكثروا الْغَيْبَة لَهُ فضلا عَن أَن يبلغ مَا يصدر مِنْهُم إِلَى الْإِضْرَار بِبدنِهِ أَو مَاله فضلا عَن أَن ينزل بِهِ مِنْهُم مَا نزل بأولئك وهب أَنه ناله أعظم مَا جوزه وأقبح مَا قدره فَلَيْسَ هُوَ بأعظم مِمَّا أُصِيب بِهِ من قتل فِي سَبِيل الله وَهَا أَنا أرشدك على مَا تستعين بِهِ على الْقيام بِحجَّة الله وَالْبَيَان لما أنزلهُ وإرشاد النَّاس إِلَيْهِ على وَجه لَا تتعاظمه وتقدر فِيهِ مَا كنت تقدره من تِلْكَ الْأُمُور الَّتِي جبنت عِنْد تصورها وَفرقت بِمُجَرَّد تخيلها وَهُوَ أَنَّك لَا تَأتي النَّاس بَغْتَة وتصك وجهوهم مفاجئة ومجاهرة وتنعى عَلَيْهِم مَا هم فِيهِ نعيا صراحا وتطلب مِنْهُم مُفَارقَة مَا ألفوه طلبا مضيفا وتقتضيه اقْتِضَاء حثيثا بل أسلك مَعَهم مسالك المتبصرين فِي جذب الْقُلُوب إِلَى مَا يَطْلُبهُ الله من عباده ورغبهم فِي ثَوَاب المنقادين إِلَى الشَّرْع المؤثرين للدليل على الرَّأْي وللحق على الْبَاطِل فَإِن كَانُوا عَامَّة فهم أسْرع النَّاس انقيادا لَك وأقربهم امتثالا لما تطلبه مِنْهُم وَلست تحْتَاج مَعَهم إِلَى كثير مُؤنَة بل اكتف مَعَهم بترغيبهم فِي التَّعَلُّم لأحكام الله ثمَّ علمهمْ مَا علمك الله مِنْهَا على الْوَجْه الَّذِي جَاءَت بِهِ الرِّوَايَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وَصَحَّ فِي الدَّلِيل فهم يقبلُونَ ذَلِك مِنْك قبولا فطريا ويأخذونه أخاذ خلقيا لِأَن فطرتهم لم تَتَغَيَّر بالتقليد وَلَا تكدرت بالممارسة لعلم الرَّأْي مَا لم يتسلط عَلَيْهِ شَيْطَان من شياطين الْإِنْس قد مارس علم الرَّأْي واعتقد أَنه الْحق وَأَن غَيره الْبَاطِل وَأَنه لَا سَبِيل للعامة إِلَى الشَّرِيعَة إِلَّا بتقليد من هُوَ مقلد لَهُ وَاتِّبَاع من يتبعهُ فَإِنَّهُ إِذا تسلط على الْعَامَّة مثل هَذَا وسوس لَهُم كَمَا يوسوس الشَّيْطَان وَبَالغ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ يعْتَقد ذَلِك من الدّين وَيقطع بِأَنَّهُ فِي فعله دَاع من دعاة الْحق وهاد من هداة الشَّرْع وَأَن غَيره على ضَلَالَة وَهَذَا وَأَمْثَاله هم أَشد النَّاس على من يُرِيد إرشادهم إِلَى الْحق ودفعهم عَن الْبدع لِأَن طبائعهم قد تكدرت وفطرهم قد تَغَيَّرت وَبَلغت فِي الكثافة والغلظة والعجرفة إِلَى حد عَظِيم لَا تُؤثر فِيهِ الرقى وَلَا تبلغ إِلَيْهِ المواعظ فَلم تبْق عِنْدهم سَلامَة طبائع الْعَامَّة حَتَّى ينقادوا إِلَى الْحق بِسُرْعَة وَلَا قد بلغُوا إِلَى مَا بلغ إِلَيْهِ الْخَاصَّة من رياضة أفهامهم وتلطيف طبائعهم بممارسة الْعُلُوم الَّتِي تتعقل بهَا الْحجَج الشَّرْعِيَّة وَيعرف بهَا الصَّوَاب ويتميز بهَا الْحق حَتَّى صَارُوا إِذا أَرَادوا النّظر فِي مسئلة من الْمسَائِل أمكنهم الْوُقُوف على الْحق والعثور على الصَّوَاب وَبِالْجُمْلَةِ فالخاصة إِذا بقى فيهم شَيْء من العصبية كَانَ إرجاعهم إِلَى الْإِنْصَاف متيسر غير متعسر بإيراد الدَّلِيل الَّذِي تقوم بِهِ الْحجَّة لديهم فَإِنَّهُم إِذا سمعُوا الدَّلِيل عرفُوا الْحق وَإِذا حاولوا وكابروا فَلَيْسَ ذَلِك عَن صميم اعْتِقَاد وَلَا عَن خلوص نِيَّة فرياضة الْخَاصَّة بإيراد الْأَدِلَّة عَلَيْهِم وَإِقَامَة حجج الله وإيضاح براهينه وَذَلِكَ يَكْفِي فَإِنَّهُم لما قد عرفوه من عُلُوم الِاجْتِهَاد ومارسوه من الدقائق لَا يخفى عَلَيْهِم الصَّوَاب وَلَا يلتبس عَلَيْهِم الرَّاجِح بالمرجوح وَالصَّحِيح بالسقيم وَالْقَوِي بالضعيف والخالص بالمغشوش ورياضة الْعَامَّة بإرشادهم إِلَى التَّعَلُّم ثمَّ بذل النَّفس لتعليمهم مَا هُوَ الْحق فِي اعْتِقَاد ذَلِك الْمعلم بعد أَن صَار دَاعيا من دعاة الْحق ومرشدا من مرشدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الْمُسلمين ثمَّ ترغيبهم بِمَا وعد الله بِهِ وإخبارهم بِمَا يسْتَحقّهُ من فعل كفعلهم من الْجَزَاء وَالْأَجْر ثمَّ يَجْعَل لَهُم من الْقدْوَة بأفعاله مثل مَا يَجعله لَهُم من الْقدْوَة بأقواله أَو زِيَادَة فَإِن النُّفُوس إِلَى الِاقْتِدَاء بالفعال أسْرع مِنْهَا إِلَى الِاقْتِدَاء بالقوال والعقبة الكؤود وَالطَّرِيق المستوعرة والخطب الْجَلِيل والعبء الثقيل إرشاد طبقَة متوسطة بَين طبقَة الْعَامَّة والخاصة وهم قوم قلدوا الرِّجَال وتلقوا علم الرَّأْي ومارسوه حَتَّى ظنُّوا أَنهم بذلك قد فارقوا طبقَة الْعَامَّة وتميزوا عَنْهُم وهم لم يتميزوا فِي الْحَقِيقَة عَنْهُم وَلَا فارقوهم إِلَّا بِكَوْن جهل الْعَامَّة بسيطا وَجَهل هَؤُلَاءِ جهلا مركبا وَأَشد هَؤُلَاءِ تغييرا لفطرته وتكديرا لخلقته أَكْثَرهم ممارسة لعلم الرَّأْي وأثبتهم تمسكا بالتقليد وأعظمهم حرصا عَلَيْهِ فَإِن الدَّوَاء قد ينجع فِي أحد هَؤُلَاءِ فِي أَوَائِل أمره وَأما بعد طول العكوف على ذَلِك الشغف بِهِ والتحفظ لَهُ فَمَا أبعد التَّأْثِير وَمَا أصعب الْقبُول لِأَن طبائعهم مَا زَالَت تزداد كَثَافَة بازدياد تَحْصِيل ذَلِك وتستفيد غلظة وفظاظة باستفادة ذَلِك وبمقدار ولوعهم بِمَا هم فِيهِ وشغفهم بِهِ تكون عدواتهم للحق ولعم الْأَدِلَّة وللقائمين بِالْحجَّةِ وَلَقَد شاهدنا من هَذِه الطَّبَقَة مالوا سردنا بعضه لاستعظمه سامعه واستفظعه فَإِن غالبهم لَا يتَصَوَّر بعد تمرنه فِيمَا هُوَ فِيهِ إِلَّا منصبا يثبت عَلَيْهِ أَو يَتِيما يُشَارِكهُ فِي مَاله أَو أرملة يخادعها عَن ملكهَا أَو فرْصَة ينتهزها عِنْد ملك أَو قَاض فَيبلغ بهَا إِلَى شَيْء من حطام الدُّنْيَا وَلَا يبْقى فِي طبائع هَؤُلَاءِ شَيْء من نور الْعلم وَهدى أَهله وأخلاقهم بل هم أشبه شَيْء بالجبابرة وَأهل الْمُبَاشرَة للمظالم وَمَعَ هَذَا فهم أَشد خلق الله تعصبا وتعنتا وبعدا من الْحق ورجوعهم إِلَى الْحق من أبعد الْأُمُور وأصعبها لِأَنَّهُ لم يبْق فِي أفهامهم فضلَة لتعقل ذَلِك وتدبره بل قد صَار بَعْضهَا مُسْتَغْرقا بِالرَّأْيِ وَبَعضهَا مُسْتَغْرقا بالدنيا فَإِن قلت فَهَل بقى مطمع فِي أهل هَذِه الطَّبَقَة وَكَيف الْوُصُول إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 إرشادهم إِلَى الْإِنْصَاف وإخراجهم عَن التعصب قلت لَا مطمع إِلَّا بِتَوْفِيق الله وهدايته فَإِنَّهُ إِذا أَرَادَ أمرا يسر أَسبَابه وَسَهل طرائقه وَأحسن مَا يَسْتَعْمِلهُ الْعَالم مَعَ هَؤُلَاءِ ترغيبهم فِي الْعلم وتعظيم أمره والإكثار من مدح عُلُوم الِاجْتِهَاد وَأَن بهَا يعرف أهل الْعلم الْحق من الْبَاطِل ويميزون الصَّوَاب من الْخَطَأ وَأَن مُجَرّد التَّقْلِيد لَيْسَ من الْعلم الَّذِي يَنْبَغِي عد صَاحبه من جملَة أهل الْعلم لَان كل مقلد يقر على نَفسه بِأَنَّهُ لَا يعقل حجج الله وَلَا يفهم مَا شَرعه لِعِبَادِهِ فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله وَأَن من ظفر من طلبه وفاز من كده ونصبه لمُجَرّد اتِّبَاع فَرد من أَفْرَاد عُلَمَاء هَذِه الْأمة وتقليده وَقبُول قَوْله دون حجَّته فَلم يظفر بطائل وَلَا نَالَ حظاُ فَإِن بقى فِي من كَانَ من هَذِه الطَّبَقَة من علو الهمة وحظ من شرف النَّفس وقسط من الرَّغْبَة فِي نيل مَا هُوَ أَعلَى مَنَاقِب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فقد تميل نَفسه إِلَى الْعلم بعض الْميل فَيَأْخُذ من عُلُوم الِاجْتِهَاد بِنَصِيب وَيفهم بعض الْفَهم فَيعرف أَنه كَانَ مُعَللا لنَفسِهِ بِمَا لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع ومشتغلا بِمَا لَا يرتقى بِهِ إِلَى شئ من دَرَجَات الْعلم فَهَذَا الدَّوَاء لأهل هَذِه الطَّبَقَة من أَنْفَع الْأَدْوِيَة وَهُوَ لَا يُؤثر بعض التَّأْثِير إِلَّا مَعَ كَون ذَلِك الْمُخَاطب لَهُ بعض استعداد للفهم وَعِنْده إِدْرَاك وَهُوَ الْقَلِيل وَأما من كَانَ لَا يفهم شَيْئا فِيهِ من عُلُوم الِاجْتِهَاد وَإِن أجهد نَفسه وَأطَال عناها وَأعظم كدها كَمَا هُوَ الْغَالِب على أهل هَذِه الطَّبَقَة فَإِنَّهُم إِذا استفرغوا وسعهم فِي علم الرَّأْي وأنفقوا فِي الِاشْتِغَال بِهِ شطرا من أعمارهم وسكنت أنفسهم إِلَى التَّقْلِيد سكونا تَاما وقبلته قبولا كليا لم تبْق بَقِيَّة لفهم شئ من الْعُلُوم وَقد شاهدنا من هَذَا الْجِنْس من لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر قد تَقْتَضِيه فِي بعض الْأَحْوَال رَغْبَة تجذبه إِلَى النّظر فِي علم النَّحْو فَلَا يفهمهُ قطّ فضلا عَن سَائِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 عُلُوم الِاجْتِهَاد الَّتِي يفتتحها الطّلبَة بِهَذَا الْعلم فَمن كَانَ على هَذِه الصّفة وبهذه الْمنزلَة لَا يَأْتِي إرشاده إِلَى تعلم عُلُوم الِاجْتِهَاد بفائدة وَأحسن مَا يَسْتَعْمِلهُ مَعَه من يُرِيد تقليل تعصبه وَدفع بعض مَا قد تَغَيَّرت بِهِ فطرته هُوَ أَن ينظر الْعَالم من عمل بذلك الدَّلِيل الَّذِي هُوَ الْحق من قدماء المقلدين فيذكرهم أَنه قد خَالف إمَامهمْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة فلَان وَفُلَان مِمَّن هُوَ فِي طبقته أَو أعلا طبقَة مِنْهُ وَلَيْسَ هُوَ بِالْحَقِّ أولى من الْمُخَالفين لَهُ فَإِن قبل ذهنهم هَذَا فقد انْفَتح بَاب العلاج للطبيب لِأَنَّهُ ينْتَقل مَعَهم من ذَلِك إِلَى مَا اسْتدلَّ بِهِ أمامهم وَمَا اسْتدلَّ بِهِ من خَالفه وينتقل مِنْهُ إِلَى وُجُوه التَّرْجِيح مبتدئا بِمَا هُوَ أقرب إِلَى قبُول فهم ذَلِك العليل ثمَّ يَنْقُلهُ من مرتبَة إِلَى مرتبَة حَتَّى يسْتَعْمل من الدَّوَاء مَا يقلل تِلْكَ الْعلَّة فَإِنَّهُ إِذا أدْرك العليل ذهَاب شئ مِنْهَا حصل لَهُ بعض نشاط يحملهُ على قبُول مَا يذهب بالبقية وَلَكِن مَا أقل من يقبل شَيْئا من هَذِه الْأَدْوِيَة فَإِنَّهُ قد ارتكز فِي ذهن غَالب هَؤُلَاءِ إِن الصِّحَّة والسلامة لَهُم هِيَ فِي نفس الْعلَّة الَّتِي قد تمكنت من أذهانهم فسرت إِلَى قُلُوبهم وعقولهم وأشربوا من حبها زِيَادَة على مَا يجده الصَّحِيح عَن الْعلَّة من محبَّة مَا هُوَ فِيهِ من الصِّحَّة والعافية وَسبب ذَلِك أَنهم اعتقدوا أَن إمَامهمْ الَّذِي قلدوه لَيْسَ فِي عُلَمَاء الْأمة من يُسَاوِيه أَو يدانيه ثمَّ قبلت عُقُولهمْ هَذَا الِاعْتِقَاد الْبَاطِل وَزَاد بِزِيَادَة الْأَيَّام والليالي حَتَّى بلغ إِلَى حد يتسبب عَنهُ أَن جَمِيع أَقْوَاله صَحِيحَة جَارِيَة على وفْق الشَّرِيعَة لَيْسَ فِيهَا خطأ وَلَا ضعف وَأَنه أعلم النَّاس فِي الْأَدِلَّة الْوَارِدَة فِي الْكتاب وَالسّنة على وَجه لَا يفوت عَلَيْهِ مِنْهَا شئ وَلَا تخفى مِنْهَا خافية فَإِذا أسمعوا دَلِيلا فِي كتاب الله أَو سنة رَسُوله قَالُوا لَا كَانَ هَذَا راجحا على مَا ذهب إِلَيْهِ إمامنا لذهب إِلَيْهِ وَلم يتْركهُ لكنه تَركه لما هُوَ أرجح مِنْهُ عِنْده فَلَا يرفعون لذَلِك رَأْسا وَلَا يرَوْنَ بمخالفته بَأْسا وَهَذَا صَنِيع قد اشْتهر عَنْهُم وَكَاد أَن يعمهم قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر على اخْتِلَاف الْمذَاهب وتباين النَّحْل فَإِذا قَالَ لَهُم الْقَائِل اعْمَلُوا بِهَذِهِ الْآيَة القرآنية أَو بِهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح قَالُوا لست أعلم من إمامنا حَتَّى نتبعك وَلَو كَانَ هَذَا كَمَا تَقول لم يُخَالِفهُ من قلدناه فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 لم يُخَالِفهُ إِلَّا مَا أرجح مِنْهُ وَقد ينظم إِلَى هَذَا من بعض أهل الْجَهْل والسفه والوقاحة وصف ذَلِك الدَّلِيل الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُخَاطب لَهُم بِالْبُطْلَانِ وَالْكذب إِن كَانَ من السّنة وَلَو تمكنوا من تَكْذِيب مَا فِي الْكتاب الْعَزِيز إِذا خَالف مَا قد قلدوا فِيهِ لفعلوا وَأما فِي دِيَارنَا هَذِه فقد لقنهم من هُوَ مثلهم فِي الْقُصُور والبعد عَن معرفَة الْحق ذَرِيعَة إبليسية ولطيفة مشئومة هِيَ أَن دواوين الْإِسْلَام الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن الْأَرْبَع وَمَا يلْتَحق بهَا من المستندات والمجاميع الْمُشْتَملَة على السّنة إِنَّمَا يشْتَغل بهَا ويتكرر درسها وَيَأْخُذ مِنْهَا مَا تَدْعُو حَاجته إِلَيْهِ من لم يكن من اتِّبَاع أهل الْبَيْت لِأَن المؤلفين لَهَا لم يَكُونُوا من الشِّيعَة فيدفعون بِهَذِهِ الذريعة الملعونة جَمِيع السّنة المطهرة لِأَن السّنة الْوَارِدَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ مَا فِي تِلْكَ المصنفات وَلَا سنة غير مَا فِيهَا وَهَؤُلَاء وَإِن كَانُوا يعدون من أهل الْعلم لَا يسْتَحقُّونَ أَن يذكرُوا مَعَ أَهله وَلَا تنبغي الشغلة بنشر جهلهم وَتَدْوِين غباوتهم لكِنهمْ لما كَانُوا قد تلبسوا بلباس أهل الْعلم وحملوا دفاتره وقعدوا فِي الْمَسَاجِد والمدارس اعتقدتهم الْعَامَّة من أهل الْعلم وقبلوا مَا يلقونه من هَذِه الفواقر فظلوا وأظلوا وعظمت بهم الْفِتْنَة وحلت بسببهم الرزية فشاركوا سَائِر المقلدة فِي ذَلِك الِاعْتِقَاد فِي أئمتهم الَّذين قد قلدوهم واختصموا من بَينهم بِهَذِهِ الْخصْلَة الشنيعة والمقالة الفضيعة فَإِن أهل التَّقْلِيد من سَائِر الْمذَاهب يعظمون كتب السّنة ويعترفون بِشَرَفِهَا وَأَنَّهَا أَقْوَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأفعاله وَأَنَّهَا هِيَ دواوين الْإِسْلَام وَأُمَّهَات الحَدِيث وجوامعه الَّتِي عول عَلَيْهَا أهل الْعلم فِي سَابق الدَّهْر ولاحقه بِخِلَاف أُولَئِكَ فَإِنَّهَا عِنْدهم بالمنزلة الَّتِي ذَكرنَاهَا فضموا إِلَى شنعة التَّقْلِيد شنعة أُخْرَى هِيَ أشنع مِنْهَا وَإِلَى بِدعَة التعصب بِدعَة أُخْرَى هِيَ أفضع مِنْهَا وَلَو كَانَ لَهُم أقل حَظّ من علم وأحقر نصيب من فهم لم يخف عَلَيْهِم أَن هَذِه الْكتب لم يقْصد مصنفوها إِلَّا جمع مَا بلغ إِلَيْهِم من السّنة بِحَسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 مَا بلغت إِلَيْهِ مقدرتهم وانْتهى إِلَيْهِ علمهمْ وَلم يتعصبوا فِيهَا لمَذْهَب وَلَا اقتصروا فِيهَا على مَا يُطَابق بعض الْمذَاهب دون بعض بل جمعُوا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمته ليَأْخُذ كل عَالم مِنْهَا بِقدر علمه وبحسب استعداده وَمن لم يفهم هَذَا فَهُوَ بَهِيمَة لَا يسْتَحق أَن يُخَاطب بِمَا يُخَاطب بِهِ النَّوْع الإنساني وَغَايَة مَا ظفر بِهِ من الْفَائِدَة بمعاداة كتب السّنة التسجيل على نَفسه بِأَنَّهُ مُبْتَدع أَشد ابتداع فَإِن أهل الْبدع لم ينكروا جَمِيع السّنة وَلَا عَادوا كتبهَا الْمَوْضُوعَة لجمعها بل حق عَلَيْهِم اسْم الْبِدْعَة عِنْد سَائِر الْمُسلمين بمخالفة بعض مسَائِل الشَّرْع فَانْظُر أصلحك الله مَا يصنع الْجَهْل بأَهْله ويبلغ مِنْهُم حَتَّى يوقعهم فِي هَذِه الهوة فيعترفون على أنفسهم بِمَا يقشعر لَهُ جلد الْإِسْلَام وتبكي مِنْهُ عُيُون أَهله وليتهم نزلُوا كتب السّنة منزلَة فن من الْفُنُون الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَن أَهله أعرف بِهِ من غَيرهم وَأعلم مِمَّن سواهُم فَإِن هَؤُلَاءِ المقلدة على اخْتِلَاف مذاهبهم وتباين نحلهم إِذا نظرُوا فِي مَسْأَلَة من مسَائِل النَّحْو بحثوا كتب النُّحَاة وَأخذُوا بأقوال أَهله وأكابر أئمته كسيبويه والأخفش وَنَحْوهمَا وَلم يلتفتوا إِلَى مَا قَالَه من قلدوهم فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة النحوية لأَنهم يعلمُونَ أَن لهَذَا الْفَنّ أَهلا هم المرجوع إِلَيْهِم فِيهِ فَلَو فَرضنَا أَنه اخْتلف أحد المؤلفين فِي الْفِقْه من أهل الْمَذْهَب الْمَأْخُوذ بقَوْلهمْ المرجوع إِلَى تقليدهم وسيبويه فِي مَسْأَلَة نحوية لم يشك أحد أَن سِيبَوَيْهٍ هُوَ أولى بِالْحَقِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة من ذَلِك الْفَقِيه لِأَنَّهُ صَاحب الْفَنّ وإمامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَهَكَذَا لَو احْتَاجَ أحد من المقلدين أَن ينظر فِي مَسْأَلَة لغوية لرجع إِلَى كتب اللُّغَة وَأخذ بقول أَهلهَا وَلم يلْتَفت فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة إِلَى مَا قَالَه من هُوَ مقلد لَهُ وَلَا عول عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا إِذا عَارض مَا يَقُوله أَقْوَال أَئِمَّة اللُّغَة وَخَالف مَا يُوجد فِي كتبهَا وَهَكَذَا لَو أَرَادَ أحدهم أَن يبْحَث عَن مَسْأَلَة أصولية أَو كلامية أَو تَفْسِير أَو غير ذَلِك من عُلُوم الْعقل وَالنَّقْل لم يرجع فِي كل فن إِلَّا إِلَى أَهله وَلَا يعول على سواهُم أَنه قد عرف أَن أهل تِلْكَ الْفُنُون أخبر بهَا وأتقن لَهَا وَأعرف بدقائقها وخفياتها وراجحها ومرجوحها وصحيحها وسقيمها بِخِلَاف من يقلدونه فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ فِي علم الْفِقْه بارعا عَارِفًا بِهِ لكنه فِي هَذِه الْفُنُون لَا يرتقي إِلَى أقل رُتْبَة وأحقرهم معرفَة لَا يرضى مقلدوه أَن يعارضوا بقوله فِي هَذِه الْفُنُون قَول من هُوَ من أَهلهَا وَإِذا عرفت هَذَا من صنيعهم وتبينته فَقل لَهُم مَا بالكم تركْتُم خير الْفُنُون نفعا وأشرفه أَهلا وأفضله وَاضِعا وَهُوَ علم السّنة فَإِنَّكُم قد علمْتُم أَن اشْتِغَال أهل هَذَا الْعلم بِهِ أعظم من اشْتِغَال أهل سَائِر الْفُنُون بفنونهم وتنقيحهم لَهُ وتهذيبه والبحث عَن صَحِيحه وسقيمه وَمَعْرِفَة علله والإحاطة بأحوال رُوَاته وإتعاب أنفسهم فِي هَذَا الشَّأْن مَالا يتبعهُ أحد من أهل الْفُنُون فِي فنونهم حَتَّى صَار طَالب الحَدِيث فِي تِلْكَ العصور لَا يكون طَالبا إِلَّا بعد أَن يرحل إِلَى أقطار متباينة وَيسمع من شُيُوخ عدَّة وَيعرف العالي والنازل وَالصَّحِيح وَغَيره على وَجه لَا يخفى عَلَيْهِ مخرج الْحَرْف الْوَاحِد من الحَدِيث الْوَاحِد فضلا عَن زِيَادَة على ذَلِك وَفِيهِمْ من يحفظ مائَة ألف حَدِيث إِلَى خَمْسمِائَة ألف حَدِيث إِلَى ألف ألف حَدِيث هِيَ على ظهر قلبه لَا تخفى عَلَيْهِ مِنْهَا خافية وَلَا يلتبس عَلَيْهِ فِيهَا حرف وَاحِد وَمَعَ هَذَا الْحِفْظ والإتقان فِي الْمُتُون كَذَلِك يحفظون ويتقنون أسانيدهم على حد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لَا يخفى عَلَيْهِم من أَحْوَال الروَاة شَيْء وَلَا يلتبس عَلَيْهِم مَا كَانَ فِيهِ من خير وَشر وجرح وتعديل ويتركون من وجدوا فِي حفظه أدنى ضعف أَو كَانَ بِهِ أقل تساهل أَو أَحْقَر مَا يُوجب الْجرْح وَبِالْجُمْلَةِ فَمن عرف الْفُنُون وَأَهْلهَا معرفَة صَحِيحَة لم يبْق عِنْده شكّ أَن اشْتِغَال أهل الحَدِيث بفنهم لَا يُسَاوِيه اشْتِغَال سَائِر أهل الْفُنُون بفنونهم وَلَا يُقَارِبه بل لَا يعد بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كثير شَيْء فَإِن طَالب الحَدِيث لَا يكَاد يبلغ من هَذَا الْفَنّ بعض مَا يُريدهُ إِلَّا بعد أَن يفنى صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته فِيهِ وَيَطوف الأقطار ويستغرق بِالسَّمَاعِ والكتب اللَّيْل وَالنَّهَار وَنحن نجد الرجل يشْتَغل بفن من تِلْكَ الْفُنُون الْعَام والعامين وَالثَّلَاثَة فَيكون معدودا من محققي أَهله ومتقنيهم فَمَا بالكم أَيهَا المقلدة إِذا أردتم الرُّجُوع إِلَى فن السّنة لم تصنعوا فِيهِ كَمَا تصنعونه فِي غَيره من الرُّجُوع إِلَى أهل الْفَنّ وَعدم الِاعْتِدَاد بغيرهم وَهل هَذَا مِنْكُم إِلَّا التعصب البحت والتعسف الْخَالِص والتحكم الصّرْف فَهَلا صَنَعْتُم فِي هَذَا الْفَنّ الَّذِي هُوَ رَأس الْفُنُون وَأَشْرَفهَا كَمَا صَنَعْتُم فِي غَيره فرجعتم إِلَى أَهله وتركتم مَا تجدونه مِمَّا يُخَالف ذَلِك فِي مؤلفات المشتغلين بالفقه الَّذين لَا يفرقون بَين أصح الصَّحِيح وأكذب الْكَذِب كَمَا يعرف ذَلِك من يعرف نَصِيبا من الْعلم وحظا من الْعرْفَان وَمن أَرَادَ الْوُقُوف على حَقِيقَة هَذَا فَلْينْظر مؤلفات جمَاعَة هم فِي الْفِقْه بِأَعْلَى رُتْبَة مَعَ التبحر فِي فنون كَثِيرَة كالجويني وَالْغَزالِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وأمثالها فَإِنَّهُم إِذا أَرَادوا أَن يتكلموا فِي الحَدِيث جَاءُوا بِمَا يضْحك مِنْهُ سامعه ويعجب لأَنهم يوردون الموضوعات فضلا عَن الضِّعَاف وَلَا يعْرفُونَ ذَلِك وَلَا يَفْطنُون بِهِ وَلَا يفرقون بَينه وَبَين غَيره وَسبب ذَلِك عدم اشتغالهم بفن الحَدِيث كَمَا يَنْبَغِي فَكَانُوا عِنْد التَّكَلُّم فِيهِ عِبْرَة من العبر وَهَكَذَا حَال مثل هذَيْن الرجلَيْن وأشباههم من أهل طبقتهم مَعَ تبحرهم فِي فنون عديدة فَمَا بالك بِمن يتَصَدَّى للْكَلَام فِي فن الحَدِيث ويشتغل بإدخاله فِي مؤلفاته وَهُوَ دون أُولَئِكَ بمراحل لَا تحصر وَهَكَذَا تَجِد كثيرا من أَئِمَّة التَّفْسِير الَّذين لم يكن لَهُم كثير اشْتِغَال بِعلم السّنة كالزمخشري وَالْفَخْر الرَّازِيّ وغالب من جَاءَ بعدهمْ فَإِنَّهُم يوردون فِي تفاسيرهم الموضوعات الَّتِي لَا يشك من لَهُ أدنى اشْتِغَال بِعلم الحَدِيث فِي كَونه موضعا مكذوبا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ الْمُفَسّر قد أدخلهُ فِي تَفْسِيره وَاسْتدلَّ بِهِ على مَا يَقْصِدهُ من تَفْسِير كتاب الله سُبْحَانَهُ وَهَكَذَا أَئِمَّة أصُول الْفِقْه فَإِن أَكثر من يشْتَغل من النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان بمؤلفاتهم لَا يعْرفُونَ فن الحَدِيث وَلَا يميزون شَيْئا مِنْهُ بل يذكرُونَ فِي مؤلفاتهم الموضوعات ويبنون عَلَيْهَا القناطر وبهذه الْأَسْبَاب تلاعب النَّاس بِهَذَا الْفَنّ الشريف وكذبوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقبح كذب فَصَارَ من لَهُ تَمْيِيز يقْضِي من صنيعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الْعجب إِذا وقف على مؤلفاتهم وَمَعَ ذَلِك فهم لَا يَشْعُرُونَ بِمَا هم فِيهِ من الْخَطَأ والخطل والزلل وهم الموقعون لأَنْفُسِهِمْ فِي هَذِه الورطة بِعَدَمِ رجوعهم فِي هَذَا الْفَنّ بِخُصُوصِهِ إِلَى أَهله المشتغلين بِهِ كَمَا يرجعُونَ إِلَى أهل سَائِر الْفُنُون عِنْد احتياجهم إِلَى مَسْأَلَة من مسَائِله وَلست أَظن سَبَب تخصيصهم لهَذَا الْفَنّ الشريف الْجَلِيل بِعَدَمِ الرُّجُوع إِلَى أَهله دون غَيره إِلَّا مَا يجده الشَّيْطَان فِي تَزْيِين مثل ذَلِك لَهُم من الْمحَال فِي الدّين وَإِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بالأكاذيب الْمُخْتَلفَة وإغفال كثير من مهمات الدّين لعدم علم الْمُتَكَلِّمين فِي الْفِقْه بأدلتها وَأَنت لَا يخفى علك بعد هَذَا أَن إنصاف الرجل لَا يتم حَتَّى يَأْخُذ كل فن عَن أَهله كَائِنا مَا كَانَ فَإِنَّهُ لَو ذهب الْعلم الَّذِي قد تأهل للِاجْتِهَاد يَأْخُذ مثلا الحَدِيث عَن أَهله ثمَّ يُرِيد أَن يَأْخُذ مَا يتَعَلَّق بتفسيره فِي اللُّغَة عَنْهُم كَانَ مخطئا فِي أَخذ الْمَدْلُول اللّغَوِيّ عَنْهُم وَهَكَذَا أَخذ الْمَعْنى الإعرابي عَنْهُم فَإِنَّهُ خطأ بل يَأْخُذ الحَدِيث عَن أئمته بعد أَن يكْشف عَن سَنَده وَحَال رُوَاته ثمَّ إِذا احْتَاجَ إِلَى معرفَة مَا يتَعَلَّق بذلك الحَدِيث من الْغَرِيب رَجَعَ إِلَى الْكتب الْمُدَوَّنَة فِي غَرِيب الحَدِيث وَكَذَا سَائِر كتب اللُّغَة الْمُدَوَّنَة فِي الْغَرِيب وَغَيره وَإِذا احْتَاجَ إِلَى معرفَة بنية كَلِمَاته رَجَعَ إِلَى علم الصّرْف وَإِذا احْتَاجَ إِلَى معرفَة إِعْرَاب أَوَاخِر كلمة رَجَعَ إِلَى علم النَّحْو وَإِذا أَرَادَ الِاطِّلَاع على مَا فِي ذَلِك الحَدِيث من دقائق الْعَرَبيَّة وأسرارها رَجَعَ إِلَى علم الْمعَانِي وَالْبَيَان وَإِذا أَرَادَ أَن يسْلك طَريقَة الْجمع وَالتَّرْجِيح بَينه وَبَين غَيره رَجَعَ إِلَى علل أصُول الْفِقْه فالعالم إِذا صنع ظفر بِالْحَقِّ من أبوابه وَدخل إِلَى الْإِنْصَاف بأقوى أَسبَابه وَأما أَخذ الْعلم عَن غير أَهله وَرجح مَا يجده من الْكَلَام لأهل الْعلم فِي فنون لَيْسُوا من أَهلهَا وَأعْرض من كَلَام أَهلهَا فَإِنَّهُ يخبط ويخلط وَيَأْتِي من الْأَقْوَال والترجيحات بِمَا هُوَ فِي أبعد دَرَجَات الإتقان وَهُوَ حقيق بذلك فَإِن من ذهب يُقَلّد أهل علم الْفِقْه فِيمَا ينقلونه من أَحَادِيث الْأَحْكَام وَلم يعْتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بأئمة الحَدِيث وَلَا أَخذ عَنْهُم وَاعْتمد مؤلفاتهم كَانَ حَقِيقا بِأَن يَأْخُذ بِأَحَادِيث مَوْضُوعَة مكذوبة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويفرع عَلَيْهِ مسَائِل لَيست من الشَّرِيعَة فَيكون من المتقولين على الله بِمَا لم يقل الْمُكَلّفين عباده بِمَا لم يشرعه فيضل ويضل وَلَا بُد أَن يكون عَلَيْهِ نصيب من وزر العاملين بِتِلْكَ الْمسَائِل الْبَاطِلَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَإِنَّهُ قد سنّ لَهُم سننا سَيِّئَة وَيصدق عَلَيْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أفتى بِفُتْيَا غير ثَبت فَإِنَّمَا أثمه على الَّذِي أفتاه أخرجه أَحْمد فِي = الْمسند = وَابْن مَاجَه وَفِي لفظ من أفتى بِفُتْيَا بِغَيْر علم كَانَ إِثْم ذَلِك على الَّذِي أفتاه أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَرِجَال إِسْنَاده أَئِمَّة ثِقَات وَلَيْسَ هَذَا بمجتهد حَتَّى يُقَال إِنَّه إِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر بل هَذَا مجازف مجترئ على شَرِيعَة الله متلاعب بهَا لِأَنَّهُ عمد إِلَى من لَا يعرف علم الشَّرِيعَة المتطهرة فرواها عَنهُ وَترك أَهلهَا بمعزل فَإِن كَانَ يعلم أَن أَخذ مَا يسْتَدلّ بِهِ من الْأَحَادِيث عَن غير أهل الْفَنّ فَهُوَ قد أَتَى مَا أَتَاهُ من الِاسْتِدْلَال بِالْبَاطِلِ وَإِثْبَات الْمسَائِل الَّتِي لَيست بشرع عَن عمد وَقصد فَمَا أحقه أَن يُعَاقب على ذَلِك فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من روى عني حَدِيثا يرى أَنه كذب فَهُوَ أحد الْكَاذِبين وَفِي رِوَايَة يظنّ أَنه كذب والْحَدِيث ثَابت فِي = صَحِيح مُسلم = وَغَيره وَقد ثَبت فِي = الصَّحِيحَيْنِ = وَغَيرهمَا من حَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من كذب عَليّ مُتَعَمدا فليبوأ مَقْعَده من النَّار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فَهَذَا الْعَامِد إِلَى كتب مَا لَا يعْرفُونَ صَحِيح الْأَحَادِيث من باطلها وَلَا يميزونها بِوَجْه من وُجُوه التَّمْيِيز كالمشتغلين بِعلم الْفِقْه والمشتغلين بِعلم الْأُصُول قد دخل تَحت حَدِيث فَهُوَ أحد الْكَاذِبين لِأَن من كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَظَنَّة للكذب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم يكن عَن عمد مِنْهُ وَقصد لِأَنَّهُ أقدم على رِوَايَة من لَا يدْرِي أصحيح هُوَ أم بَاطِل وَمن أقدم على مَا هَذَا شَأْنه وَقع فِي الْكَذِب وَإِمَّا إِذا كَانَ النَّاقِل من غير أهل الْفَنّ لَا يدْرِي أَن من نقل عَنهُ لَا تَمْيِيز لَهُ فَهَذَا جَاهِل لَيْسَ بِأَهْل لَئِن يتَكَلَّم على أَحْكَام الله فَاسْتحقَّ الْعقُوبَة من الله بإقدامه على الشَّرِيعَة وَهُوَ بِهَذِهِ الْمنزلَة الَّتِي لَا يسْتَحق صَاحبهَا أَن يتَكَلَّم مَعهَا على كَلَام فَرد من أَفْرَاد أهل الْعلم فَكيف على كَلَام الله وَرَسُوله فبعدا وَسُحْقًا للمتجرئين على الله وعَلى شَرِيعَته بالإقدام على التأليفات للنَّاس مَعَ قصورهم وَعدم تأهلهم وَقد كثر هَذَا الصنع من جمَاعَة يبرزون فِي معرفَة مسَائِل الْفِقْه الَّتِي هِيَ مشوبة بِالرَّأْيِ إِن لم يكن هُوَ الْغَالِب عَلَيْهَا ويتصدرون لتعليم الطّلبَة لهَذَا الْعلم ثمَّ تكبر أنفسهم عِنْدهم لما يجدونه من اجْتِمَاع النَّاس عَلَيْهِم وَأخذ الْعَامَّة بأقوالهم فِي دينهم فيظنون أَنهم قد عرفُوا مَا عرفه النَّاس وظفروا بِمَا ظفر بِهِ عُلَمَاء الشَّرِيعَة المتصدرون للتأليف وَالْكَلَام على مسَائِل الشَّرِيعَة فَيجْمَعُونَ مؤلفات هِيَ مِمَّا قمشت وَطن حَبل الحاطب صنع من لَا يدْرِي لمن لَا يفهم ثمَّ يَأْخُذهَا عَنْهُم من هُوَ أَجْهَل مِنْهُم وأقصر باعا فِي الْعلم فينشر فِي الْعَالم وَتظهر فِي الْملَّة الإسلامية فاقرة من الفواقر وقاصمة من القواصم وصاحبها لجهله يظنّ أَنه قد تقرب إِلَى الله بأعظم الْقرب وتاجره بِأَحْسَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 متاجرة وَهُوَ فَاسد الظَّن بَاطِل الِاعْتِقَاد مُسْتَحقّ لسخط الله وعقوبته لِأَنَّهُ أقدم فِي مَحل الإحجام وتحلى بِمَا لَيْسَ لَهُ وَدخل فِي غير مدخله وَوضع جَهله على أشرف الْأُمُور وأعلاها وأوالها بِالْعلمِ والإتقان والتمييز وَكَمَال الْإِدْرَاك فَهَذَا هُوَ بِمَنْزِلَة القَاضِي الَّذِي لَا يعلم بِالْحَقِّ فَهُوَ فِي النَّار سَوَاء حكم بِالْحَقِّ أَو بِالْبَاطِلِ بل هَذَا الَّذِي أقدم على تصنيف الْكتب وتحرير المجلدات فِي الشَّرِيعَة الإسلامية مَعَ قصوره وَعدم بُلُوغه إِلَى مَا لَا يبد لمن يتَكَلَّم فِي هَذَا الشَّأْن مِنْهُ أَحَق بالنَّار من ذَلِك القَاضِي الْجَاهِل لِأَنَّهُ لم يصب بِجَهْل القَاضِي الْجَاهِل مثل مَا أُصِيب بمصنفات هَذَا المُصَنّف المقصر وَمن فتح الله عَلَيْهِ من معارفه بِمَا يعرف بِهِ الْحق من الْبَاطِل وَالصَّوَاب من الْخَطَأ لَا يخفى عَلَيْهِ مَا فِي هَذِه المصنفات الكائنة بأيدي النَّاس فِي كل مَذْهَب فَإِنَّهُ يقف من ذَلِك على الْعجب فَفِي بعض الْمذَاهب يرى أَكثر مَا يقف عَلَيْهِ فِي مُصَنف من مصنفات الْفِقْه خلاف الْحق وَفِي بَعْضهَا يجد بعضه صَوَابا وَبَعضه خطأ وَفِي بَعْضهَا يجد الصَّوَاب أَكثر من الْخَطَأ ثمَّ يعثر على مَا يحرره مصنفو تِلْكَ الْكتب من الْأَدِلَّة لتِلْك الْمسَائِل الَّتِي قد دونوها فيجدوا فِي الصَّحِيح وَالْحسن والضعيف والموضوع وَقد جعلهَا المُصَنّف شَيْئا وَاحِدًا وَعمل بهَا جَمِيعًا من غير تَمْيِيز وعارض بَين الصَّحِيح والموضوع وَهُوَ لَا يدْرِي وَرجح الْبَاطِل على الصَّحِيح وَهُوَ لَا يعلم فَمَا كَانَ أَحَق هَذَا المُصَنّف لَا كثر الله فِي أهل الْعلم من أَمْثَاله بِأَن يُؤْخَذ على يَده وَيُقَال لَهُ اترك مَا لَا يَعْنِيك وَلَا تشتغل بِمَا لَيْسَ من شَأْنك وَلَا تدخل فِيمَا لَا مدْخل لَك فِيهِ ثمَّ إِذا فَاتَ أهل عصره أَن يَأْخُذُوا على يَده فَلَا يَنْبَغِي أَن يفوت من بعده أَن يَأْخُذُوا على أَيدي النَّاس ويحولوا بَينهم وَبَين هَذَا الْكتاب الَّذِي لَا يفرق مُؤَلفه بَين الْحق وَالْبَاطِل وَلَا يُمَيّز بَين مَا هُوَ من الشَّرِيعَة وَمَا لَيْسَ مِنْهَا فَمَا أوجب هَذَا عَلَيْهِم فَإِن هَذَا المشئوم قد جنى على الشَّرِيعَة وَأَهْلهَا جِنَايَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 شَدِيدَة وَفعل مُنْكرا عَظِيما وَهُوَ يعْتَقد لجهله أَنه قد نشر فِي النَّاس مسَائِل الدّين ويظن من اتبعهُ فِي الْأَخْذ عَنهُ أَن هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ هَذَا المُصَنّف هُوَ الشَّرِيعَة فانتشر بَين الْجَاهِلين أَمر عَظِيم وفتنة شَدِيدَة وَهَذَا هُوَ السَّبَب الْأَعْظَم فِي اخْتِلَاط الْمَعْرُوف بالمنكر فِي كتب الْفِقْه وَغَلَبَة علم الرَّأْي على علم الرِّوَايَة فَإِن المتصدر للتصنيف فِي كتب الْفِقْه وَإِن بلغ فِي إتقانه وإتقان علم الْأُصُول وَسَائِر الْفُنُون الآلية إِلَى حد يتقاصر عَنهُ الْوَصْف إِذْ لم يتقن علم السّنة ويعرفه صَحِيحه من سقيمه ويعول على أَهله فِي إصداره وإيراده كَانَت مصنفاته مَبْنِيَّة على غير أساس لِأَن علم الْفِقْه هُوَ مَأْخُوذ من علم السّنة إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُ وَهُوَ مَا قد صرح بِحكمِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم فَمَا يصنع ذُو الْفُنُون بفنونه إِذا لم يكن عَالما بِعلم الحَدِيث متقنا لَهُ معولا على المصنفات الْمُدَوَّنَة فِيهِ وبهذه الْعلَّة تَجِد المصنفين فِي علم الْفِقْه يعولون فِي كثير من الْمسَائِل على مَحْض الرَّأْي ويدونونه فِي مصنفاتهم وهم لَا يَشْعُرُونَ أَن فِي ذَلِك سنة صَحِيحَة يعرفهَا أقل طَالب لعلم الحَدِيث وَقد كثر هَذَا جدا من المشتغلين بالفقه على تفاقم شَره وتعاظم ضَرَره وجنوا على أنفسهم وعَلى الشَّرِيعَة وعَلى الْمُسلمين وَإِذا شَككت فِي شئ من هَذَا فَخذ أَي كتاب شِئْت من الْكتب المصنفة فِي الْفِقْه وطالعه تَجِد الْكثير الْوَاسِع وَكَثِيرًا مَا تَجِد فِي ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِي لم تدع إِلَيْهَا حَاجَة وَلَا قَامَ عَلَيْهَا دَلِيل بل مُجَرّد الْفَرْض وَالتَّقْدِير وَمَا يَدُور فِي مناظرة الطّلبَة ويسبق إِلَيْهِ أذهانهم فَإِن هَذَا يكون فِي الِابْتِدَاء سؤالا ومناظرة ثمَّ يُجيب عَنهُ من هُوَ من أهل الْفِقْه وغالب من يتصدر مِنْهُم وَينْفق بَينهم هُوَ من لَا الْتِفَات لَهُ إِلَى سَائِر الْعُلُوم وَلَا اشْتِغَال مِنْهُ بهَا وَلَا يعرف الْحجَّة وَلَا يَعْقِلهَا فيدون الطّلبَة جَوَابه وَيصير حِينَئِذٍ فَقِيها وعلما وَهُوَ كَلَام جَاهِل لَا يسْتَحق الْخطاب وَلَا يعول على مثله فِي جَوَاب لَو تكلم مَعَه الْمُتَكَلّم فِي فن من فنون الِاجْتِهَاد لَكَانَ ذَلِك عِنْده بِمَنْزِلَة من يتَكَلَّم بالعجمية وَيَأْتِي بالمعميات ويتعمد الألغاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فيا هَذَا الْجَاهِل لَا كثر الله فِي أهل الْعلم من أمثالك أَلا تعتصر على مَا قد عَرفته من كَلَام من تقلده فَإِذا سَأَلَك سَائل عَن شَيْء مِنْهُ نقلته لَهُ بنصه وَإِن سَأَلَك عَمَّا لم يكن مِنْهُ قلت لَا أَدْرِي فَمَا بالك وَالْكَلَام بِرَأْيِك وَأَنت جَاهِل لعلم الرَّأْي فضلا عَن علم الرِّوَايَة وعاطل عَن كل مَعْقُول ومنقول لم تحط من علم الْفِقْه الَّذِي أَلفه أهل مذهبك إِلَّا بمختصر من المختصرات فضلا عَن مؤلفات غير أهل مذهبك فِي الْفِقْه فضلا عَن المؤلفات فِي سَائِر الْعُلُوم فَأَنت من عَلَامَات الْقِيَامَة وَمن دَلَائِل رفع الْعلم وَقد أخبرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْك وَعَن أمثالك وَأَبَان لنا أَنه يتَّخذ النَّاس رؤوسا جُهَّالًا فيفتون بِغَيْر علم فيظلون ويضلون فَأَنت مِمَّن يُفْتِي بِغَيْر علم ويعتمد الضَّلَالَة لنَفسِهِ والإضلال للنَّاس فاربع على ظلعك وأقصر من غوايتك واترك مَا لَيْسَ من شَأْنك ودع مثل هَذَا لمن علمه الله الْكتاب وَالسّنة وأطلعه على أسرارها بِمَا فتح لَهُ من المعارف الموصلة إِلَيْهِمَا فَأَنت وَإِن وكلت الْأَمر إِلَى أَهله وألقيت عنان هَذَا الْمركب إِلَى فارسه دخل إِلَى الشَّرْع من أبوابه وَوصل إِلَى الْحق من طَرِيقه وَحط عَن عباد الله كثيرا من هَذِه التكاليف الَّتِي قد كلفهم بهَا أمثالك من الْجُهَّال وأراحهم من غَالب هَذِه الأكاذيب الَّتِي يسمونها علما فَإِن ذَلِك شَيْء بِالْجَهْلِ خير مِنْهُ وَلَقَد عظمت المحنة على الشَّرْع وَأَهله بِهَذَا الْجِنْس من المقلدة حَتَّى بَطل كثير من الشَّرِيعَة الصَّحِيحَة الَّتِي لَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي ثُبُوتهَا لاشتهارها بَين أهل الْعلم ووجودها إِمَّا فِي مُحكم الْكتاب الْعَزِيز أَو فِي مَا صَحَّ من دواوين السّنة المطهرة الَّتِي هِيَ مشتهرة بَين النَّاس اشتهارا على وَجه لَا يخفى على من ينْسب إِلَى الْعلم وَإِن كَانَ قَلِيل الْحَظ فِيهِ وَسبب ذَلِك أَن هَؤُلَاءِ كَمَا عرفت قد جعلُوا غَايَة مطلبهم وَنِهَايَة مقصدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الْعلم بمختصر من مختصرات الْفِقْه الَّتِي هِيَ مُشْتَمِلَة على مَا هُوَ من علم الرَّأْي وَالرِّوَايَة والرأي أغلب وَلم يرفعوا إِلَى غير ذَلِك رَأْسا من جَمِيع أَنْوَاع الْعُلُوم فصاروا جاهلين بِالْكتاب وَالسّنة وعلمهما جهلا شَدِيدا لِأَنَّهُ قد تقرر عِنْدهم أَن حكم الشَّرِيعَة منحصر فِي ذَلِك الْمُخْتَصر وَأَن مَا عداهُ فضلَة أَو فضول فَاشْتَدَّ شغفهم بِهِ وتكالبهم عَلَيْهِ وَرَغبُوا عَمَّا عداهُ وزهدوا فِيهِ زهدا شَدِيدا فَإِذا سمعُوا آيَة من كتاب الله أَو حَدِيثا من سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصَرحًا بِحكم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة تَصْرِيحًا يفهمهُ الْعَامَّة من أهل طبقتهم كَانَ ذَلِك هينا عِنْدهم كَأَنَّهُ لم يكن كَلَام الله أَو كَلَام رَسُوله ويطرحونه لمُجَرّد مُخَالفَته لحرف من حُرُوف ذَلِك الْكتاب بل مَفْهُوم من مفاهيمه وَهَذَا لَا يُنكره من صنيعهم إِلَّا من لَا يعرفهُمْ وَقد عرفت مِنْهُم من لَو جمع لَهُ الْجَامِع مصنفا مُسْتقِلّا من أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة يشْتَمل على أَدِلَّة قرآنية وحديثية مَا يُجَاوز المئتين أَو الألوف كلهَا مُصَرح بِخِلَاف حرف من حُرُوف ذَلِك الْمُخْتَصر الَّذِي قد عرفه من الْفِقْه لم يلْتَفت إِلَى شَيْء من ذَلِك وَلَو انْضَمَّ إِلَى الْكتاب وَالسّنة المنقولة فِي ذَلِك المُصَنّف إِجْمَاع الْأمة سابقها ولاحقها وكبيرها وصغيرها من كل من ينتسب إِلَى الْعلم على خلاف مَا فِي ذَلِك الْمُخْتَصر لم يرفع رَأسه إِلَى شَيْء من ذَلِك وَلَا أستبعد أَنه لَو جَاءَهُ نَبِي مُرْسل أَو ملك مقرب يُخبرهُ أَن الْحق الَّذِي شَرعه الله لِعِبَادِهِ خلاف حرف من حُرُوف ذَلِك الْمُخْتَصر لم يسمع مِنْهُمَا وَلَا صدقهما بل لَو انشقت السَّمَاء وصرخ مِنْهَا ملك من الْمَلَائِكَة بِصَوْت يسمعهُ جَمِيع أهل الدُّنْيَا بِأَن الْحق على خلاف ذَلِك الْحَرْف الَّذِي فِي الْمُخْتَصر لم يصدقهُ وَلَا رَجَعَ إِلَى قَوْله وَأعظم من هَذَا أَنَّك ترى الْوَاحِد مِنْهُم يعْتَرف بِأَنَّهُ مقلد ثمَّ يحفظ عَن شَيْخه مَسْأَلَة يعْتَرف أَنَّهَا من أفكاره وَأَنه لم يسْبق إِلَيْهَا مَعَ اعترافه بِأَن ذَلِك الشَّيْخ مقلد واعترافه بِأَن تَقْلِيد الْمُقَلّد لَا يَصح ثمَّ يَأْخُذ هَذِه الْمَسْأَلَة عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 شَيْخه وَيعْمل بهَا قَابلا لَهَا قبولا تَاما سَاكِنا إِلَيْهَا منثلج الخاطر بهَا مُؤثر لَهَا على أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وأنظار المبرزين من الْعلمَاء وَلَو أَجمعُوا جَمِيعًا فَإِن إِجْمَاعهم ودليلهم لَا يثني هَذَا الفدم الجافي الجلف عَن كَلَام شَيْخه الْمُقَلّد الَّذِي سَمعه مِنْهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَمن كَانَ بِهَذِهِ الْمنزلَة فَهُوَ مِمَّن طبع الله على قلبه وسلبه نور التَّوْفِيق فَعمى عَن طَرِيق الرشاد وضل عَن سَبِيل الْحق وَمثل هَذَا لَا يسْتَحق تَوْجِيه الْخطاب إِلَيْهِ وَلَا يستأهل الِاشْتِغَال بِهِ فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ فِي مسلاخ إِنْسَان وعَلى شكل بني آدم فَهُوَ بالدواب أشبه وإليها أقرب وَيَا ليته لَو كَانَ دَابَّة ليسلم من معرته عباد الله وشريعته وَلَكِن هَذَا المخذول مَعَ كَونه حماري الْفَهم بهيمي الطَّبْع قد شغل نَفسه بالحط على عُلَمَاء الدّين المبرزين المشتغلين بِالْكتاب وَالسّنة وعلمهما وَمَا يُوصل إِلَيْهِمَا وعاداهم أَشد الْعَدَاوَة وكافحهم بالمكروه مكافحة ونسبهم إِلَى مُخَالفَة الشَّرْع ومباينة الْحق بِسَبَب عدم موافقتهم لَهُ على الْعَمَل بِمَا تلقنه من شَيْخه الْجَاهِل وَلَقَد جَاءَت هَذِه الأزمة فِي دِيَارنَا هَذِه بِمَا لم يكن فِي حِسَاب وَلَا خطر ببال إِبْلِيس أَن تكون لَهُ مثل هَذِه البطانة وَلَا ظن أَنه ينجح كَيده فيهم إِلَى هَذَا الْحَد ويبلغون فِي طَاعَته هَذَا الْمبلغ فَإِن غالبهم قد ضم إِلَى مَا قدمنَا من أَوْصَافه وَصفا أَشد مِنْهَا وأشنع وأقبح وَهُوَ أَنه إِذا سمع قَائِلا يَقُول قَالَ رَسُول الله أَو يملي سندا فَيَقُول حَدثنَا فلَان عَن فلَان قَامَت قِيَامَته وثار شَيْطَانه واعتقد أَن هَذِه صنع أَعدَاء أهل الْبَيْت المناصبين لَهُم بالعداوة الْمُخَالفين لهديهم فَانْظُر مَا صنع هَذَا الشَّيْطَان فَإِن فِي نسبته للمشتغلين بِالسنةِ المطهرة إِلَى مُخَالفَة أهل الْبَيْت طَعنا عَظِيما على أهل الْبَيْت لِأَنَّهُ جعلهم فِي جَانب وَالسّنة فِي جَانب آخر وَجعل بَينهمَا عنادا وتخالفا فَانْظُر هَذَا الشيعي الْمُحب لأهلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الْبَيْت الْقَائِم فِي نشر مناقبهم كَانَ أول مَا قَرَّرَهُ من مناقبهم النداء فِي النَّاس بِأَن من عمل بِالسنةِ المطهرة أَو رَوَاهَا أَو أحبها فَهُوَ مُخَالف لأهل الْبَيْت وحاشى لأهل الْبَيْت أَن يَكُونُوا كَمَا قَالَ فهم أَحَق الْأمة بِاتِّبَاع سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاهتداء بهديه والاقتداء بِكَلَامِهِ وَلَقَد رَأينَا هَؤُلَاءِ الَّذين يسخطون على السّنة المطهرة ويعاون من اشْتغل بهَا وَعَكَفَ عَلَيْهَا يسمع أحدهم فِي الْمَسَاجِد والمدارس عُلُوم الفلسفة وَسَائِر عُلُوم غير الشَّرِيعَة يَقْرَأها الطّلبَة على الشُّيُوخ فَلَا يُنكر ذَلِك وَلَا يرى بِهِ بَأْسا فَإِذا سمع حَدثنَا فلَان عَن فلَان قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ هَذَا أَشد على سَمعه من علم أرسطو طاليس وأفلاطون وجالينوس بل أثقل على سَمعه من فِرْعَوْن وهامان فقبح الله أهل الْبدع وقلل عَددهمْ وأراح مِنْهُم فَإِنَّهُم أضرّ على الشَّرِيعَة من كل شَيْء قد شغلوا أنفسهم بمسائل مَعْرُوفَة هِيَ رَأس مَذْهَبهم وأساسه وَتركُوا مَا عدا ذَلِك وعابوه وعادوا أَهله انْظُر الرافضة فَإنَّك تَجِد أَكثر مَا لديهم وَأعظم مَا يشتغلون بِهِ ويكتبونه ويحفظونه مثالب الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم المكذوبة عَلَيْهِم ليتوصلوا بذلك إِلَى مَا هُوَ غَايَة مَا لديهم من السب والثلب لَهُم صانهم الله وكبت مبغضيهم ثمَّ يعتبرون النَّاس جَمِيعًا بِهَذَا الْمَسْأَلَة فَمن وافقهم فِيمَا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الْمُسلم حَقًا المحق وَإِن فعل مَا فعل وَمن خالفهم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَهُوَ الْمُبْطل المبتدع وَإِن كَانَ على جَانب من الْوَرع وحظ من التَّقْوَى لَا يقادر قدرهما وَقد يضمون إِلَى هَذِه الْمَسْأَلَة التظهر بِجَمِيعِ الصَّلَوَات وَترك الْجمع كَمَا قلته فِي أَبْيَات (تشيع الأقوام فِي عصرنا ... منحصر فِي بدع تبتدع) (عَدَاوَة السّنة والثلب للأسلاف ... وَالْجمع وَترك الْجمع) وَأما معيار التَّشَيُّع فِي دَارنَا هَذِه عِنْد جمَاعَة من الزيدية لَا عِنْد جَمِيعهم فيزيدون على هَذِه الْأَرْبَع خَامِسَة وَهِي التظهر بترك بعض من سنَن الصَّلَاة كالرفع وَالضَّم فَإِن أهل الطَّبَقَة الَّتِي ذكرنَا لَك أَنَّهَا أصل الشَّرّ إِذا رَأَوْا من يفعل الرّفْع وَالضَّم وَنَحْوهمَا كالتوجه فِي الصَّلَاة بعد التَّكْبِير والتورك فِي التَّشَهُّد الْأَخير وَالدُّعَاء فِي الصَّلَاة بِغَيْر مَا قد عرفوه عادوه عَدَاوَة أَشد من عداوتهم للْيَهُود النَّصَارَى وظنوا أَنه على شَرِيعَة أُخْرَى وعَلى دين غير دين الْإِسْلَام وأوقعوا فِي أذهان الْعَوام أَنه ناصبي فانتقوا من فعله لهَذِهِ السّنَن أَو أَحدهَا إِلَى النصب الَّذِي هُوَ بغض عَليّ وحكموا عَلَيْهِ بِهِ حكما جَازِمًا فَانْظُر هَذَا الصنع الشنيع الَّذِي هُوَ شَبيه بلعب الصّبيان وَمِمَّا أحكيه لَك إِنِّي أدْركْت فِي أَوَائِل أَيَّام طلبي رجلا يُقَال لَهُ الْفَقِيه صَالح النهمي قد اشْتهر فِي النَّاس بِالْعلمِ والزهد وَطلب عُلُوم الِاجْتِهَاد طلبا قَوِيا فأدركها إدراكا جيدا فَرفع يَدَيْهِ فِي بعض الصَّلَوَات وَرَآهُ يفعل ذَلِك بعض المدرسين فِي علم الْفِقْه الْمَشْهُورين بالتحقيق فِيهِ والإتقان لَهُ فَقَالَ الْيَوْم ارْتَدَّ الْفَقِيه صَالح فَانْظُر هَذِه الْكَلِمَة من مثل هَذَا مَعَ شهرته فِي النَّاس واجتماع كثير من طيلة علم الْفُرُوع عَلَيْهِ فِي جَامع صنعاء وشيبه الناصع وثيابه الْحَسَنَة كَيفَ موقعها فِي قُلُوب الْعَامَّة وَمَا تراهم يَعْتَقِدُونَ فِي الْفَاعِل لذَلِك بعد هَذَا فأبعد الله هَذَا عَالما وَذهب بِهَذَا علما وَإِن كَانَ لَا عَالم وَلَا علم فَإِن من لَا يعقل الْحجَّة وَلَا يفهم إِلَّا مُجَرّد الرَّأْي لَا الرِّوَايَة لَيْسَ من الْعلم فِي شَيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَلَا يسْتَحق الدُّخُول فِي بَاب من أبوابه وَلَا يَنْبَغِي وَصفه بِشَيْء من صِفَاته فيا هَذَا لَا حياك الله أَيكُون فعل سنة الرّفْع الَّتِي اجْتمع على رِوَايَتهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ وَمَعَهُمْ زِيَادَة على أَرْبَعِينَ صحابيا ردة وَكفرا وخروجا من الْملَّة الإسلامية أَتَدْرِي مَا صنعت بِنَفْسِك يَا جَاهِل عَمَدت إِلَى سنة من السّنَن الثَّابِتَة ثبوتا متواترا فتركتها وَلم تقنع لمُجَرّد إِنْكَار ثُبُوتهَا بل جَاوَزت ذَلِك إِلَى أَن جَعلتهَا ردة فجنيت على صَاحب الشَّرِيعَة أَولا ثمَّ على كل مُسلم يفعل هَذِه السّنة ثَانِيًا ثمَّ على نَفسك ثَالِثا فخبت وخسرت وخبطت خبطا لَيْسَ من شَأْن من هُوَ مثلك من أسراء التَّقْلِيد وَاتِّبَاع التعصب وكفرت عَالما من عُلَمَاء الْمُسلمين يفعل سنة من سنَن سيد الْمُرْسلين فَمَا بالك بِهَذَا وَأَنت تعترف على نَفسك أَنَّك لَا تعرف الْحق وَلَا تعقل الصَّوَاب فِي مسَائِل الطَّهَارَة والتخلي وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة فَكيف قُمْت هَاهُنَا مقَام تَكْفِير الْمُسلمين وَالْحكم عَلَيْهِم بِصَرِيح الرِّدَّة جَازِمًا بذلك متحدثا بِهِ مطمئنا إِلَيْهِ فَمَا أوجب إِنْكَار مثل هَذَا الْمُنكر على أَئِمَّة الْمُسلمين وأولي الْأَمر مِنْهُم فَإِن التنكيل بِهَذَا الْمُتَكَلّم بِمثل هَذَا الْكَلَام بِالْحَبْسِ وَسَائِر أَنْوَاع التَّعْزِير الَّتِي تردعه وتردع أَمْثَاله من أهل التعصب عَن انتهاك أَعْرَاض الْمُسلمين والتلاعب بعلماء الدّين من أعظم مَا يتَقرَّب بِهِ المتقربون وَأفضل مَا يَفْعَله من ولاه الله من أَمر عباده شَيْئا فَإِن غَالب مَا يصدر من هَؤُلَاءِ المتعصبة من تمزيق أَعْرَاض عُلَمَاء الدّين المتمسكين بالسنن الصَّحِيحَة الثَّابِتَة فِي هَذِه الشَّرِيعَة هُوَ رَاجع إِلَى الطعْن على الشَّرِيعَة وَالرَّدّ لما جَاءَت بِهِ وتقليب السّنَن بدعا والبدع سننا وَالْأَخْذ على أَيدي هَؤُلَاءِ حَتَّى يدعوا مَا لَيْسَ من شَأْنهمْ ويقلعوا عَن غوايتهم ويقصروا عَن ضلالتهم وَاجِب على كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 مُسلم وَإِذا لم تتَنَاوَل أَدِلَّة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مثل هَذَا لم تتَنَاوَل غَيره وَمن هَذَا الْجِنْس الَّذِي يَفْعَله أهل التعصب فرارهم عَن عُلَمَاء الْإِنْصَاف وطعنهم على من اتَّصل بهم أَو أَخذ عَنْهُم وتحذيرهم للعامة وللطلبة عَن مجالسة من كَانَ كَذَلِك وإخبارهم لَهُم بِأَن ذَلِك الْعَالم سيضلهم ويخرجهم عَمَّا هم فِيهِ من الْمَذْهَب الَّذِي هم عَلَيْهِ ثمَّ يذكرُونَ عِنْد هَذَا التحذير والإنذار مطاعن يطعنون بهَا على ذَلِك الْعَالم لمُجَرّد سماعهَا يثور غضب كل مُسلم ويلتهب طبع من يسمع ذَلِك كَائِنا من كَانَ فَيَقُولُونَ مثلا لذَلِك الْعَاميّ أَو الطَّالِب هَذَا الْعَالم الَّذِي تتصل بِهِ يبغض عَليّ بن أبي طَالب وَيبغض أهل الْبَيْت أَو نَحْو هَذِه الْعبارَات الفظيعة فَعِنْدَ سَماع ذَلِك تقوم قِيَامَة هَذَا الْمِسْكِين وَلَيْسَ بملوم فَإِنَّهُ جَاهِل جَاءَ إِلَيْهِ من لَهُ ثِيَاب أهل الْعلم وسمتهم وشكلهم فَقَالَ لَهُ إِن ذَلِك الْعَالم يعْتَقد كَذَا أَو يَقُول كَذَا فَصدقهُ فالذئب مَحْمُول على ذَلِك الْقَائِل وَلَا يكون إِلَّا من أهل تِلْكَ الطَّبَقَة الَّتِي هِيَ منشأ الشَّرّ ومنبع الْفِتْنَة وَقد اشْتهر على ألسن النَّاس فِي صنعاء وَمَا يتَّصل بهَا أَن الْعلمَاء الْمُجْتَهدين وَمن يَأْخُذ عَنْهُم ويتصل بهم فِي هَذِه العصور يُقَال لَهُم سنية وَهَذَا هُوَ اللقب الَّذِي يتنافس فِيهِ الْمُتَنَافسُونَ فَإِن نِسْبَة الرجل إِلَى السّنة تنادي أبلغ نِدَاء وَتشهد أكمل شَهَادَة بِأَنَّهُ متلبس بهَا وَلكنه لما صَار فِي اصْطِلَاح هَؤُلَاءِ المتعصبة يُطلق على من يعادي عليا ويوالي مُعَاوِيَة افتراء مِنْهُم على أهل الْعلم واجتراء على الْمُسلمين استصعب ذَلِك من استصعبه عِنْد إِطْلَاقه عَلَيْهِ فِي ألسن هَؤُلَاءِ الَّذين هم بالدواب أشبه وَلم أجد مِلَّة من الْملَل وَلَا فرقة من الْفرق الإسلامية أَشد بهتا وَأعظم كذبا وَأكْثر افتراء من الرافضة فَإِنَّهُم لَا يبالون بِمَا يَقُولُونَ من الزُّور كَائِنا من كَانَ وَمن كَانَ مشاركا لَهُم فِي نوع من أَنْوَاع الرَّفْض وَإِن قل كَانَ فِيهِ مشابهة لَهُم بِقدر مَا يشاركهم فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فَهَذَا الَّذِي نجده فِي دِيَارنَا هَذِه يخْتَلف باخْتلَاف الْمُشَاركَة الْمَذْكُورَة فَمن تلاعب بِهِ الشَّيْطَان وَلم يزل يَنْقُلهُ من دَرَجَة إِلَى دَرَجَة حَتَّى وصل بِهِ إِلَى الرَّفْض البحت كَمَا تشاهده فِي جمَاعَة فَلَا مطمع فِي كَفه عَن الطعْن والثلب لخير الْقُرُون فضلا عَن أهل عصره وَلَيْسَ يفلح من كَانَ هَكَذَا وَلَا يرجع إِلَى حق وَلَا ينْزع عَن بَاطِل فَإِن تظاهر بالإنصاف والإقلاع عَن الْبِدْعَة والتلبس بِالسنةِ فالغالب أَن ذَلِك يكون لجلب مصلحَة لَهُ دنيوية أَو دفع مفْسدَة يخْشَى ضررها وَلَا يَصح إِلَّا فِي أندر الْأَحْوَال فالهداية بيد الله يهدي من يَشَاء وَقد شاهدنا من خضوع هَؤُلَاءِ لأطماع الدُّنْيَا وَإِن كَانَت حقيرة مَا لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ فَإِنَّهُ لَو طلب مِنْهُ بعض أهل الدُّنْيَا أَن يخرج من مذْهبه لَكَانَ سريع الْإِجَابَة قريب الانفعال حَتَّى ينَال ذَلِك الْغَرَض الدنيوي وَهُوَ لَا محَالة رَاجع إِلَى مَا كَانَ فِيهِ وَمن كَانَ دون هَذَا فَهُوَ أقل ضَرَرا مِنْهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَهله ولنفسه وَأقرب إِلَى الْإِنْصَاف ثمَّ من كَانَ أقل تلبسا بِهَذِهِ الْبِدْعَة كَانَ أقل شرا وأخف ضرا وَهُوَ يرجع عَنْهَا إِذا طلب الْعلم ومارس فنونه وَعَكَفَ على علم الحَدِيث فَإِن لم يكن متأهلا لطلب الْعُلُوم فليلزم أَهله المتصفين بالإنصاف العارفين بِالْحَقِّ المهتدين بهدى الدَّلِيل وَقد شاهدنا كثيرا فَمن كَانَ كَذَلِك يقْلع عَنهُ وتنحل من عقد مَا قد أَصَابَهُ عقدَة بعد عقدَة حَتَّى تصفو وَتذهب مَا تكدرت بِهِ فطرته وَيدخل إِلَى الْحق من أبوابه بِحَسب استعداده وبقدر فهمه صعوبة الرُّجُوع إِلَى الْحق الَّذِي قَالَ بِخِلَافِهِ وَمن آفَات التعصب الماحقة لبركة الْعلم أَن يكون طَالب الْعلم قد قَالَ بقول فِي مَسْأَلَة كَمَا يصدر مِمَّن يُفْتِي أَو يصنف أَو يناظر غَيره ويشتهر ذَلِك القَوْل عَنهُ فَإِنَّهُ قد يصعب عَلَيْهِ الرُّجُوع عَنهُ إِلَى مَا يُخَالِفهُ وَإِن علم أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الْحق وَتبين لَهُ فَسَاد مَا قَالَه وَلَا سَبَب لهَذَا الاستصعاب إِلَّا تَأْثِير الدُّنْيَا على الدّين فَإِنَّهُ قد يسول لَهُ الشَّيْطَان أَو النَّفس الأمارة أَن ذَلِك ينقصهُ ويحط من رتبته ويخدش فِي تَحْقِيقه ويغض من رئاسته وَهَذَا تخيل مختل وتسويل بَاطِل فَإِن الرُّجُوع إِلَى الْحق يُوجب لَهُ من الْجَلالَة والنبالة وَحسن الثَّنَاء مَا لَا يكون فِي تصميمه على الْبَاطِل بل لَيْسَ فِي التصميم على الْبَاطِل إِلَّا مَحْض النَّقْص لَهُ والإزراء عَلَيْهِ والاستصغار لشأنه فَإِن مَنْهَج الْحق وَاضح الْمنَار يفهمهُ أهل الْعلم ويعرفون براهينه وَلَا سِيمَا عِنْد المناظرة فَإِذا زاغ عَنهُ زائغ تعصبا لقَوْل قد قَالَه أَو رَأْي رَآهُ فَإِنَّهُ لَا محَالة بِكَوْن عِنْد من يطلع على ذَلِك من أهل الْعلم أحد رجلَيْنِ إِمَّا متعصب مجادل مكابر إِن كَانَ لَهُ من الْفَهم وَالْعلم مَا يدْرك بِهِ الْحق ويتميز بِهِ الصَّوَاب أَو جَاهِل فَاسد الْفَهم بَاطِل التَّصَوُّر إِن لم يكن لَهُ من الْعلم مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى معرفَة بطلَان مَا صمم عَلَيْهِ وجادل عَنهُ وكلا هذَيْن المطعنين فِيهِ غَايَة الشين وَكَثِيرًا مَا تَجِد الرجلَيْن المنصفين من أهل الْعلم قد تباريا فِي مَسْأَلَة وتعارضا فِي بحث فبحث كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن أَدِلَّة مَا ذهب إِلَيْهِ فجاءا بالمتردية والنطيحة على علم مِنْهُ بِأَن الْحق فِي الْجَانِب الآخر وَأَن مَا جَاءَ بِهِ لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع وَهَذَا نوع من التعصب دَقِيق جدا يَقع فِيهِ كثير من أهل الْإِنْصَاف وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ بِمحضر من النَّاس وَأَنه لَا يرجع الْمُبْطل إِلَى الْحق إِلَّا فِي أندر الْأَحْوَال وغالب وُقُوع هَذَا فِي مجَالِس الدَّرْس ومجامع أهل الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أَن يكون المنافس الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ صَغِير السن أَو الشَّأْن وَمن الْآفَات الْمَانِعَة عَن الرُّجُوع إِلَى الْحق أَن يكون الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ حدث السن بِالنِّسْبَةِ إِلَى من يناظره أَو قَلِيل الْعلم أم الشُّهْرَة فِي النَّاس وَالْآخر بعكس ذَلِك فَإِنَّهُ قد تحمله حمية الْجَاهِلِيَّة والعصبية الشيطانية على التَّمَسُّك بِالْبَاطِلِ أَنَفَة من الرُّجُوع إِلَى قَول من هُوَ أَصْغَر مِنْهُ سنا أَو أقل مِنْهُ علما أَو أخْفى شهرة ظنا مِنْهُ أَن فِي ذَلِك عَلَيْهِ مَا يحط مِنْهُ وَينْقص مَا هُوَ فِيهِ وَهَذَا الظَّن فَاسد فَإِن الْحَط وَالنَّقْص إِنَّمَا هُوَ فِي التصميم على الْبَاطِل والعلو والشرف فِي الرُّجُوع إِلَى الْحق بيد من كَانَ وعَلى أَي وَجه حصل من آفَات الشَّيْخ والتلميذ وَمن الْآفَات مَا يَقع تَارَة من الشُّيُوخ وَأُخْرَى من تلامذتهم فَإِن الشَّيْخ قد يُرِيد التظهر لمن يَأْخُذ عَنهُ بِأَنَّهُ بِمحل من التَّحْقِيق وبمكان من الإتقان فيحمله ذَلِك على دفع الْحق إِذا سبق فهمه إِلَى الْبَاطِل لِئَلَّا يظنّ من يَأْخُذ عَنهُ أَنه يُخطئ ويغلط وَهُوَ لَو عرف مَا عِنْد ذَلِك الَّذِي يَأْخُذ عَنهُ الْعلم أَن رُجُوعه عَن الْخَطَأ إِلَى الصَّوَاب أعظم فِي عينه وَأجل عِنْده وزاده ذَلِك رَغْبَة فِيهِ ومحبة لَهُ وَإِذا اسْتمرّ على الْغَلَط وصمم على الْخَطَأ كَانَ عِنْده دون منزلَة الرُّجُوع إِلَى الْحق بمنازل وَهَكَذَا التلميذ قد يخْطر بِبَالِهِ التزين لشيخه والتجمل عِنْده بِأَنَّهُ قوي الْفَهم سريع الْإِدْرَاك صَادِق التَّصَوُّر فيحمله ذَلِك على الْوُقُوف على مَا قد سبق إِلَى ذهنه من الْخَطَأ والتشبث بِمَا دفع لَهُ من الغلطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَبِالْجُمْلَةِ فالأسباب الْمَانِعَة من الْإِنْصَاف لَا تخفى على الفطن وَفِي بَعْضهَا دقة تحْتَاج إِلَى تيقظ وتدبر وتتفق فِي كثير من الْحَالَات لأهل الْعلم والفهم والإنصاف علاج التعصب فالمعيار الَّذِي لَا يزِيغ أَن يكون طَالب الْعلم مَعَ الدَّلِيل فِي جَمِيع موارده ومصادره لَا يثنيه عَنهُ شَيْء وَلَا يحول بَينه وَبَينه حَائِل فَإِذا وجد فِي نَفسه نزوعا إِلَى مَا غير هُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيح وَأدْركَ مِنْهَا رَغْبَة للمخالفة وتأثيرا لغير مَا هُوَ الْحق فَليعلم عِنْد ذَلِك أَنه قد أُصِيب بِأحد الْأَسْبَاب السَّابِقَة من حَيْثُ لَا يشْعر وَوَقع فِي محنة فَإِن عرفهَا بعد التدبر فليجتنبها كَمَا يجْتَنب العليل مَا ورد عَلَيْهِ من الْأُمُور الَّتِي كَانَت سَببا لوُقُوعه فِي الْمَرَض وَإِن خفيت عَلَيْهِ الْعلَّة الَّتِي حَالَتْ بَينه وَبَين اتِّبَاع الْحق فليسأل من لَهُ ممارسة للْعلم وَمَعْرِفَة بأحوال أَهله كَمَا يسْأَل الْمَرِيض الطَّبِيب إِذا لم يعرف علته وَلَا اهْتَدَى إِلَيْهَا فقد يكون دفع الْعلَّة بِمُجَرَّد تجنب الْأَسْبَاب الموقعة فِيهَا كالحمية الَّتِي يرشد إِلَيْهَا كثير من الْأَطِبَّاء إِذا لم تكن الْعلَّة قد استحكمت وَقد يكون دَفعهَا بِاسْتِعْمَال الْأَدْوِيَة الَّتِي تقاوم الْمَادَّة الكائنة فِي الْبدن وتدافعها حَتَّى تغلبها وَهَكَذَا على التعصب فَإِنَّهُ إِذا عرف سَببه أمكن الْخُرُوج مِنْهُ باجتنابه وَإِن لم يعرف سَأَلَ أهل الْعلم المنصفين عَن دَوَاء مَا أَصَابَهُ من التعصب فَإِنَّهُ سيجد عِنْدهم من الْأَدْوِيَة مَا هُوَ أسْرع كشفا وَأقرب نفعا وأنجع برا مِمَّا يجده العليل عِنْد الْأَطِبَّاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق وَاعْلَم أَنه كَمَا يتسبب عَن التعصب محق بركَة الْعلم وَذَهَاب رونقه وَزَوَال مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الثَّوَاب كَذَلِك يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْفِتَن المفضية إِلَى سفك الدِّمَاء وهتك الْحرم وتمزيق الْأَعْرَاض وَاسْتِحْلَال مَا هُوَ فِي عصمَة الشَّرْع مَا لَا يخفى على عَاقل وَقد لَا يَخْلُو عصر من العصور وَلَا قطر من الأقطار من وُقُوع ذَلِك لَا سِيمَا إِذا اجْتمع فِي الْمَدِينَة والقرية مذهبان أَو أَكثر وَقد يَقع من ذَلِك مَا يُفْضِي إِلَى إحراق الديار وَقتل النِّسَاء وَالصبيان كَمثل مَا كَانَ يَقع بَين السّنيَّة والشيعة بِبَغْدَاد فَإِنَّهُم كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي كل عَام فتنا ويهرقون الدِّمَاء ويستحلون من بَعضهم الْبَعْض مَا لَا يستحلونه من أهل الذِّمَّة بل قد لَا يستحلونه من الْكفَّار الَّذين لَا ذمَّة لَهُم وَلَا عهد وَهَذَا يعرفهُ كل من لَهُ خبْرَة بأحوال النَّاس وَمن أَرَادَ الِاطِّلَاع على تفاصيل مَا كَانَ يَقع بَينهم فِي بَغْدَاد بخصوصها فَلْينْظر فِي مثل تَارِيخ ابْن جرير وَفِي تواريخ الذَّهَبِيّ وتاريخ ابْن كثير وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ يسجل فِي حوادث كل سنة شَيْئا من ذَلِك فِي الْغَالِب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَقد تَنْتَهِي بهم التعصبات والمناقضات إِلَى مَا هُوَ من أَنْوَاع الْجُنُون والحماقات القبيحة كَمَا وَقع فِي كتب التَّارِيخ أَن أهل السّنة بِبَغْدَاد أركبوا امْرَأَة على جمل وأركبوا رجلَيْنِ آخَرين وَسموا الْمَرْأَة عَائِشَة وَالرّجلَيْنِ طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَمَشوا مَعَهم وتحزبوا وتجمعوا فَسمع بذلك الشِّيعَة من أهل الكرخ فَأَقْبَلُوا مشرعين بِالسِّلَاحِ والكراع وقاتلوا أهل السّنة قتالا شَدِيدا وضربوا الْمَرْأَة الْمُسَمَّاة عَائِشَة والمسمى طَلْحَة وَالزُّبَيْر ضربا مبرحا وَمن غرائب مناقضاتهم أَن الشِّيعَة لما اجْتَمعُوا لزيارة الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي عَاشُورَاء اجْتمعت السّنيَّة وَخَرجُوا يزورون مُصعب بن الزبير وَجعلُوا ذَلِك عَادَة لَهُم فِي عَاشُورَاء فَانْظُر مَا فِي هَذِه المناقضة من الْجَهْل فَإِن مصعبا لَيْسَ بمستحق لذَلِك لِأَنَّهُ لم يكن مَعْرُوفا بِعلم وَلَا فضل بل أَمِير كَبِير ولى الْعرَاق من أَخِيه عبد الله بن الزبير وَسَفك من الدِّمَاء مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر وَبَقِي كَذَلِك حَتَّى وَقع الْحَرْب بَينه وَبَين عبد الْملك بن مَرْوَان فخذله أهل الْعرَاق فَقتل فَانْظُر أَي فَضِيلَة لمصعب يسْتَحق بهَا أَن يكون للسنية كالحسين للشيعة وَبِالْجُمْلَةِ فقد حدثت بِسَبَب الِاخْتِلَاف بَين الطَّائِفَتَيْنِ فواقر عَظِيمَة لَو لم يكن مِنْهَا إِلَّا دُخُول التتر بَغْدَاد وقتلهم الْخَلِيفَة وَالْمُسْلِمين فَإِن سَبَب ذَلِك الْوَزير الرافضي ابْن العلقمي كَانَ بَينه وبن الْأَمِير مُجَاهِد الدّين الدويدار من الْعَدَاوَة أَمر عَظِيم وَكَانَ مُجَاهِد الدّين يتعصب على الشِّيعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 تعصبا شَدِيدا حَتَّى أفْضى ذَلِك إِلَى نهب أهل الكرخ وإحراق بعض مساكنهم فَغَضب الْوَزير عضبا شَدِيدا وَلم يسْتَطع الْمُكَافَأَة إِذا ذَاك فَحَمله ذَلِك على مُكَاتبَة التتر وترغيبهم فِي بَغْدَاد وتسهيل الْأَمر عَلَيْهِم فَأقبل هولاكو ملك التتر وَمَعَهُ جَيش من التتر عَظِيم فوصلوا بَغْدَاد وَأَحَاطُوا بهَا من جَمِيع جوانبها وَمَا زَالَ الْوَزير يخدع الْخَلِيفَة وَيفرق جيوشه ويحول بَينه وَبَين الحزم حَتَّى أعيته الْحِيلَة وَتمكن الْعَدو فَخرج عَن ذَلِك الْوَزير إِلَى التتر وَقد تقدم بَينهم من الْمُكَاتبَة مَا فِيهِ حُرْمَة وَذمَّة وتكفل لَهُم بإقاع الْخَلِيفَة وأعيان الْمحل فِي أَيْديهم يَقْتُلُونَهُمْ كَيفَ شاؤوا ثمَّ دخلوهم بَغْدَاد بعد ذَلِك ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْخَلِيفَة وَأخْبرهُ أَن سُلْطَان التتر لَا يُرِيد استئصاله وَلَا نزع يَده من الْخلَافَة وَلَيْسَ لَهُ رَغْبَة إِلَى ذَلِك بل مُرَاده أَن يكون متصرفا عَن أَمر الْخَلِيفَة كَمَا كَانَ يتَصَرَّف عَن أَمرهم الْمُلُوك الحمدانية والبويهية والسلجوقية وَأَنه يُرِيد أَن يتَزَوَّج ابْن الْخَلِيفَة بابنته وَمَا زَالَ يخدع الْخَلِيفَة ويفتل مِنْهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى أسعده وَمَال إِلَى مقاله وَقَالَ لَهُ يخرج هُوَ وأعيان الْبَلَد لعقد النِّكَاح فَخرج الْخَلِيفَة وأخوته وَأَوْلَاده وأعمامه وأمراؤه وأعيان بَغْدَاد من كل طبقَة من الطَّبَقَات الَّتِي تتصل بالخليفة وَكَانَ الَّذِي عين الخارجين وَسَمَّاهُمْ هُوَ الْوَزير الْمَذْكُور فَلم يدع أحدا من أَرْكَان الدولة يخْشَى مِنْهُ وَلَا سِيمَا من كَانَ متعصبا على الشِّيعَة كالأمير مُجَاهِد الدّين الدويدار فَإِنَّهُ جعلهم فِي أول الخارجين لشهود العقد وَقد كَانَ أبرم هُوَ وسلطان التتر أَنه سيجعله وزيرا كَمَا كَانَ مَعَ الْخَلِيفَة العباسي فَلَمَّا خرج أُولَئِكَ الْأَعْيَان والخليفة قَتلهمْ التتر جَمِيعًا ثمَّ دخلُوا بَغْدَاد فَقتلُوا من بهَا من الطَّائِفَتَيْنِ لم يبقوا على شيعي وَلَا سني وَكَانَ جملَة الْقَتْلَى كَمَا نَقله كثير من ثِقَات المؤرخين ثَمَانِيَة عشر لكا عَن ألف قَتِيل وثماني مائَة ألف قَتِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فَانْظُر هَذِه الفاقرة الْعَظِيمَة الَّتِي تسببت عَن تعصب الْوَزير الرافضي لأَصْحَابه من الرافضة لَا رَحمَه الله وَقد كَانَ يظْهر التأسف والتندم وَيَقُول إِنَّه مَا كَانَ يظنّ أَن الْأَمر يَقع هَكَذَا وَأَنه كَانَ يظنّ سَلامَة الشِّيعَة وَعدم وُصُول الْأَمر إِلَيْهِم حَسْبَمَا قدمه لنَفسِهِ وَلَهُم وَلم يصل إِلَى مَا شَرطه لنَفسِهِ من الوزارة وَلَا غَيرهَا وَغَايَة مَا ناله السَّلامَة من الْقَتْل وَمَات بعد أَن اقْتَرَف هَذِه الْعَظِيمَة بأيام يسيرَة دون سنة وَكَانَ مَوته كمدا على مَا جناه على نَفسه خُصُوصا وعَلى إخوانه من الرافضة وَسَائِر الْمُسلمين وَكَانَ فِي بعض الْأَوْقَات يظْهر التجلد وَيَقُول لَا يُبَالِي بِمن قتل وَلَا بِمن أُصِيب بعد أَن شفى نَفسه من الدويدار فَانْظُر هَذِه الْجَاهِلِيَّة الَّتِي تظاهر بهَا هَذَا الرافضي وَانْظُر مَا صنع بِالْمُسْلِمين وَمَا جناه الْخَلِيفَة على نَفسه من استخلاصه للوزارة وأمانته على الْأَسْرَار والركون إِلَيْهِ فِي تَدْبِير الدولة وَهَكَذَا من ألْقى مقاليد أمره إِلَى رَافِضِي وَإِن كَانَ حَقِيرًا فَإِنَّهُ لَا أَمَانَة لرافضي قطّ على من يُخَالِفهُ فِي مذْهبه ويدين بِغَيْر الرَّفْض بل يسْتَحل مَاله وَدَمه عِنْد أدنى فرْصَة تلوح لَهُ لِأَنَّهُ عِنْده مُبَاح الدَّم وَالْمَال وكل مَا يظهره من الْمَوَدَّة فَهُوَ تقيه يذهب أَثَره بِمُجَرَّد إِمْكَان الفرصة وَقد جربنَا هَذَا تجريبا كثيرا فَلم نجد رَافِضِيًّا يخلص الْمَوَدَّة لغير رَافِضِي وَإِن آثره بِجَمِيعِ مَا يملكهُ وَكَانَ لَهُ بِمَنْزِلَة الخول وتودد إِلَيْهِ بِكُل مُمكن وَلم نجد فِي مَذْهَب من الْمذَاهب المبتدعة وَلَا غَيرهَا مَا نجده عِنْد هَؤُلَاءِ من الْعَدَاوَة لمن خالفهم ثمَّ لم نجد عِنْد أحد مَا نجد عِنْدهم من التجرئ على شتم الْأَعْرَاض المحترمة فَإِنَّهُ يلغن أقبح اللَّعْن ويسب أفظع السب كل من تجْرِي بَينه وَبَينه أدنى خُصُومَة وأحقر جِدَال وَأَقل اخْتِلَاف وَلَعَلَّ سَبَب هَذَا وَالله أعلم أَنه لما تجرؤا على سبّ السّلف الصَّالح هان عَلَيْهِم سبّ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عداهم وَلَا جرم فَكل شَدِيد ذَنْب يهون مَا دونه وَقد يَقع بعض شياطينهم فِي عَليّ كرم الله وَجهه حردا عَلَيْهِ وغضبا لَهُ حَيْثُ ترك حَقه بل قد يبلغ بعض ملاعينهم إِلَى ثلب الْعرض الشريف النَّبَوِيّ صانه الله قَائِلا إِنَّه كَانَ عَلَيْهِ الْإِيضَاح للنَّاس وكشف أَمر الْخلَافَة وَمن الأقدم فِيهَا والأحق بهَا وَأما تسرع هَذِه الطَّائِفَة إِلَى الْكَذِب وإقدامهم عَلَيْهِ والتهاون بأَمْره فقد بلغ من سلفهم وخلفهم إِلَى حد الْكَذِب على الله وعَلى رَسُوله وعَلى كِتَابه وعَلى صالحي أمته وَوَقع مِنْهُم فِي ذَلِك مَا يقشعر لَهُ الْجلد وناهيك بِقوم بلغ الخذلان بغلاتهم إِلَى إِنْكَار بعض كتاب الله وتحريف الْبَعْض الآخر وإنكار سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَاوَزَ ذَلِك جمَاعَة من زناديقهم إِلَى اعْتِقَاد الألوهية فِي مُلُوكهمْ بل فِي شُيُوخ بلدانهم وَلَا غرو فاصل هَذَا الْمظهر الرافضي مظهر إلحاد وزندقة جعله من أَرَادَ كيدا لِلْإِسْلَامِ سترا لَهُ فأظهر التَّشَيُّع والمحبة لآل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استجذابا لقلوب النَّاس لِأَن هَذَا أَمر يرغب فِيهِ كل مُسلم وقصدا للتغرير عَلَيْهِم ثمَّ أظهر للنَّاس أَنه لَا يتم الْقيام بِحَق الْقَرَابَة إِلَّا بترك حق الصَّحَابَة ثمَّ جَاوز ذَلِك إِلَى إخراجهم صانهم الله عَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ ومعظم مَا يَقْصِدهُ بِهَذَا هُوَ الطعْن على الشَّرِيعَة وإبطالها لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم هم الَّذين رووا للْمُسلمين علم الشَّرِيعَة من الْكتاب وَالسّنة فَإِذا تمّ لهَذَا الزنديق بَاطِنا الرافضي ظَاهرا الْقدح فِي الصَّحَابَة وتكفيرهم وَالْحكم عَلَيْهِ بِالرّدَّةِ بطلت الشَّرِيعَة بأسرها لِأَن هَؤُلَاءِ هم حملتها الراوون لَهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا هُوَ الْعلَّة الغائية لَهُم وَجَمِيع مَا يتظهرون بِهِ من التَّشَيُّع كذب وزور وَمن لم يفهم هَذَا فَهُوَ حقيق بِأَن يتهم نَفسه وَيَلُوم تَقْصِيره وَلِهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 تَجدهُ إِذا تمكنوا وسارت لَهُم دولة يتظاهرون بِهَذَا وَيدعونَ النَّاس إِلَيْهِ كَمَا وَقع من القرامطة والباطنية والإسماعلية وَمَا نحا نَحوه فَإِنَّهُم لما تمكنوا أظهرُوا صَرِيح الْكفْر والزندقة وفعلوا تِلْكَ الأفاعيل من الاستهتار بمحارم الله وَمَا عظمه كنقلهم للحجر الْأسود من الْحرم إِلَى هجر وكقول رَئِيس القرامطة اللعين لما سفك دِمَاء الْحجَّاج بِالْبَيْتِ الْحَرَام وَفعل بِهِ من الْمُنْكَرَات مَا هُوَ مَعْرُوف (وَلَو كَانَ هَذَا الْبَيْت لله رَبنَا ... لصب علينا النَّار من فَوْقنَا صبا) (لأَنا حجَجنَا حجَّة جَاهِلِيَّة ... محللة لم يبْق شرقا وَلَا غربا) ثمَّ قَالَ لمن بَقِي فِي الْحرم سالما من الْقَتْل يَا حمير أَنْت تَقولُونَ (وَمن دخله كَانَ آمنا) وَقد كَانَ أول هَذِه النحلة القرمطية التظهر بمحبة أهل الْبَيْت والتوجع لَهُم والعداوة لأعدائهم ثمَّ انْتهى أَمرهم إِلَى مثل هَذَا وَهَكَذَا الباطنية فَإِن مَذْهَبهم الَّذِي يتظهرون بِهِ ويبدونه للنَّاس هُوَ التَّشَيُّع وَلَا يزَال شياطينهم ينقلون من دخل مَعَهم فِيهِ من مرتبَة إِلَى مرتبَة حَتَّى يقفوه على بَاب الْكفْر وصراح الزندقة وَإِذا تمكن بعض طواغيتهم فعل كَمَا فعل عَليّ بن الْفضل الْخَارِج بِالْيمن من دُعَاء النَّاس إِلَى صَرِيح الْكفْر وَدَعوى النُّبُوَّة ثمَّ الترقي إِلَى دَعْوَى الألوهية وكما فعله الْحَاكِم العبيدي بِمصْر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أَمر النَّاس بِالسُّجُود لَهُ وَالْقِيَام عِنْد ذكره على صفة مَعْرُوفَة فَكَانَ إِذا ذكره الْخَطِيب يَوْم الْجُمُعَة على الْمِنْبَر قَامَ جَمِيع من بِالْمَسْجِدِ ثمَّ يخرون ساجدين ثمَّ يقوم بقيامهم من يتَّصل بالجامع من أهل الْأَسْوَاق ثمَّ يسري ذَلِك إِلَى قيام أهل مصر وَمَا كَانَ يبديه من الْأَفْعَال المتناقضة والحماقات الْبَارِدَة مَقْصُوده من ذَلِك تجريب أَحْوَال النَّاس واختبار طاعتهم لَهُ فِي الْأُمُور الْبَاطِلَة وَفِي مُخَالفَة الشَّرِيعَة حَتَّى ينقلهم إِلَى مَا يُريدهُ وَكم نعدد لَك من هَذَا وَالْجُمْلَة فَإِذا رَأَيْت رجلا قد انْتهى بِهِ الرَّفْض إِلَى ذمّ السّلف الصَّالح والوقيعة فيهم وَإِن كَانَ ينتمي إِلَى غير مَذْهَب الإمامية فَلَا تشك فِي أَنه مثلهم فِي مَا قدمنَا لَك وجرب هَذَا إِن كنت مِمَّن يفهم فقد جربناه وَجَربه من قبلنَا فَلم يَجدوا رجلا رَافِضِيًّا يتنزه عَن شئ من مُحرمَات الدّين كَائِنا مَا كَانَ وَلَا تغتر بالظواهر فَإِن الرجل قد يتْرك الْمعْصِيَة فِي الْمَلأ وَيكون أعف النَّاس عَنْهَا فِي الظَّاهِر وَهُوَ إِذا أمكنته فرْصَة انتهزها انتهاز من لَا يخَاف نَارا وَلَا يَرْجُو جنَّة وَقد رَأَيْت من كَانَ مِنْهُم مُؤذنًا ملازما للجماعات فانكشف سَارِقا وَآخر كَانَ يؤم النَّاس فِي بعض مَسَاجِد صنعاء وَله سمت حسن وَهدى عَجِيب وملازمة للطاعة وَكنت أَكثر التَّعَجُّب مِنْهُم كَيفَ يكون مثله رَافِضِيًّا ثمَّ سَمِعت بعد ذَلِك عَنهُ بِأُمُور تقشعر لَهُ الْجُلُود وترجف مِنْهَا الْقُلُوب وَكَانَ لي صديق يكثر المجالسة لي والوصول إِلَيّ وَفِيه رفض يسير وَهُوَ متنزه عَن كل مَحْظُور ثمَّ مَا زَالَ ذَلِك يزِيد بِهِ الْأَسْبَاب حَتَّى صَار يصنف فِي مثالب جمَاعَة من الصَّحَابَة ثمَّ صَار يمزق أَعْرَاض جمَاعَة من أَحيَاء أهل الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 والأموات وينسبهم إِلَى النصب بِمُجَرَّد كَونهم لَا يوافقونه على رفضه ثمَّ صَار يتَّصل بِهِ جمَاعَة وَيَأْخُذُونَ عَنهُ من الرَّفْض مَا لَا يتظاهر بِمثلِهِ أهل هَذِه الديار وَكنت أعرف مِنْهُ فِي مبادئ أمره صلابة وعفة قلت إِذا كَانَ وَلَا بُد من رَافِضِي عفيف فَهَذَا ثمَّ سَمِعت عَنهُ بفواقر نسْأَل الله السّتْر وَالسَّلَام وَأما وثوب هَذِه الطَّائِفَة على أَمْوَال الْيَتَامَى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ وَمن يقدرُونَ على ظلمه كَائِنا من كَانَ فَلَا يحْتَاج إِلَى برهَان بل يَكْفِي مدعيه إِحَالَة منكره على الِاسْتِقْرَار والتتبع فَإِنَّهُ سَيظْهر عِنْد ذَلِك بِصِحَّة مَا ذَكرْنَاهُ وَلَقَد جربت أهل عصرى فِي هَذِه الْمَادَّة تجريبا عَظِيما لتعلقي بِمَا تتَعَلَّق بِهِ الأطماع واختبار بِالنَّاسِ على اخْتِلَاف طبقاتهم وَلَا شكّ أَن الدُّنْيَا مُؤثرَة وَأَن الْوُثُوب على مصالحها وتقديمها وانتهاز الفرص فِي مَا يتَعَلَّق بهَا غير مُخْتَصّ بهؤلاء بل هُوَ عَام لكل الْفرق والزاهد فِيهَا الْمُؤثر للدّين عَلَيْهَا هُوَ الشاذ النَّادِر لَكِن هَؤُلَاءِ لَهُم مزِيد تكالب وعظيم تهافت وَشدَّة تهالك مَعَ عدم وقُوف عِنْد حُدُود الشَّرْع واقتصار على مَا فِيهَا من تَحْلِيل وَتَحْرِيم وَمن أقرب حوادث الرَّفْض فِي دِيَارنَا هَذِه أَنه كَانَ جمَاعَة من المتظهرين بِالْعلمِ يملون على النَّاس فِي جَامع صنعاء فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة بعد الْألف فِي كتب فَضَائِل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ نَحْو ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة كل وَاحِد مِنْهُم قد اجْتمع عَلَيْهِ جمَاعَة كَثِيرَة من الْعَامَّة وَكَانَ أحدهم يملي على كرْسِي مُرْتَفع وتسرج حوله الشمع الْكثير فيجتمع من النَّاس عدد كثير جدا لقصد الفرجة كَمَا يتَّفق فِي مثل هَذَا وَكَانُوا يشوبون المناقب بِذكر مثالب بعض الصَّحَابَة ويحطون من بَعضهم ويصرحون بسب الْبَعْض ويتوجعون من الْبَعْض وَكَانَ مَا يصدر من هَؤُلَاءِ من هَذِه الْأُمُور إِنَّمَا هُوَ مُطَابقَة للوزير الرافضي الَّذِي قد قدمت لَك ذكره وَلَا سِيمَا صَاحب الْكُرْسِيّ وَهَذَا الْوَزير لم يكن رفضه لوازع ديني كَمَا يتَّفق لكثير من أهل الْجَهْل المتعلقين بالرفض فَهُوَ أنذل من ذَاك وَأَقل وَلكنه يفعل ذَلِك مساعدة لجَماعَة من شياطين المتفقهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المتعصبة يدْخلُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ إِنَّه لم يبْق من يحامي على هَذَا الْأَمر سواك وَإنَّك ركن التَّشَيُّع وملجأ أَهله وَنَحْو هَذِه الْعبارَات فيبالغ فِي التظهر بِهَذِهِ الْخصْلَة وَيُحب نِسْبَة ذَلِك إِلَيْهِ فَكَانَ الرَّفْض مكملا لمثالبه متتما لمعايبه لِأَنَّهُ فِي كل بَاب من أَبْوَاب القبائح قريع ظَهره ونسيج وَحده فَلَمَّا تكاثر مَا يصدر من أُولَئِكَ المشتغلين بِمَا لَا يعنيهم من ثلب السّلف مَعَ مَا يَنْضَم إِلَى ذَلِك من إِدْخَال الضغائن فِي قُلُوب الْعَامَّة وَإِيمَانهمْ أَن النَّاس قد تركُوا مَذْهَب أهل الْبَيْت وفعلوا وفعلوا وكل ذَلِك كذب فَإِن النَّاس هم فِي هَذِه الديار زيدية وَكثير مِنْهُم يُجَاوز ذَلِك فيصيروا رَافِضِيًّا جلدا وَلم يكن فِي هَذِه الديار على خلاف ذَلِك إِلَّا الشاذ النَّادِر وهم أكَابِر الْعلمَاء وَمن يقتد بهم فَإِنَّهُم يعْملُونَ بِمُقْتَضى الدَّلِيل وَلَا ينتمون إِلَى مَذْهَب وَلَا يتعصبون لأحد فَهَؤُلَاءِ الَّذين يقصدهم أُولَئِكَ الرافضة بِكُل فاقرة ويرمونهم بِالْحجرِ والمدر ويسمونهم بميسم النصب فَلَمَّا تفاقم شَرّ أُولَئِكَ المدرسين وَصَارَ الْجَامِع ملعبا لَا متعبدا واشتغل بأصواتهم المصلون عَن صلَاتهم والذاكرون عَن ذكرهم رَجَعَ إِمَام الْعَصْر أعز الله بِهِ الدّين منع صَاحب الْكُرْسِيّ من الْإِمْلَاء فِي الْجَامِع وَأمره بِالْعودِ إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي كَانَ يملي فِيهِ فَحَضَرَ أُولَئِكَ المستعمرون على عَادَتهم وَكَانَ الْإِمْلَاء قبل صَلَاة الْعشَاء فَلَمَّا لم يحضر شيخهم ذهب بَعضهم ليجيء بِهِ من بَيته فَأخْبرهُم أَن الإِمَام قد مَنعه وَأمره بِالْعودِ إِلَى حَيْثُ كَانَ فَلم يعذروه وَلَا سمعُوا مِنْهُ وَرَجَعُوا إِلَى الْجَامِع ثمَّ ثَارُوا ثورة شيطانية وَقَامُوا قومة طاغوية فمنعوا من الصَّلَاة فِي الْجَامِع وَمَا زَالَ ينظم إِلَيْهِم كل رَافِضِي وَمن لَهُ رَغْبَة فِي إثارة الْفِتْنَة حَتَّى صَارُوا جمعا كثيرا ثمَّ خَرجُوا فقصدوا بَيت الْمُؤَذّن الَّذِي أظهر عَلَيْهِم الرَّأْي الإمامي فرجموه حَتَّى كَادُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 يهدمونه وَفِيه نسَاء وَأَطْفَال قد صَارُوا فِي أَمر مريع هَذَا وَلَيْسَ لذَلِك الْمُؤَذّن الْمِسْكِين سعي وَلَا لَهُ قدرَة على شئ وَلكنه أرسل بِالرَّأْيِ الإمامي وَإِلَى الْأَوْقَاف إِلَيْهِ ووالى الْوَقْف أَيْضا لَيْسَ لَهُ سعي فِي ذَلِك وَلكنه أرْسلهُ إِلَيْهِ بعض من يتَّصل بالْمقَام الإمامي ثمَّ لما فرغوا من رجم بَيت الْمُؤَذّن ذَهَبُوا وَلَهُم صُرَاخ عَظِيم وأصوات شَدِيدَة إِلَى بَيت وَالِي الْأَوْقَاف وَهُوَ رجل من أهل الْعلم من آل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرجموا بَيته رجما شَدِيدا حَتَّى غشى على بعض من فِيهِ من الشرائف فَقَالَ لَهُم قَائِل إِن هَؤُلَاءِ الشرائف المرجومات هن بَنَات نَبِيكُم وَبَنَات عَليّ بن أبي طَالب وَلم يكن بَنَات مُعَاوِيَة وَلَا بَنَات عمر بن الْعَاصِ وَغَيرهمَا مِمَّن تعادونهم فَمَا لكم ولهن فَلم يلتفتوا إِلَى ذَلِك واستمروا فِي الرَّجْم ثمَّ دخلُوا إِلَى بعض الْبَيْت ونهبوا بعض مَتَاعه وبلغهم أَن وَالِي الْأَوْقَاف وَولده لمَسْجِد قريب من بَيته فحاصروا حَيْصَة حمر الْوَحْش وصرخوا صرخة الْحمر الْأَهْلِيَّة وذهبوا إِلَى ذَلِك الْمَسْجِد عازمين على قَتله فأغلق عَلَيْهِ بعض النَّاس مَقْصُورَة الْمَسْجِد فَسلم ثمَّ ذَهَبُوا بصراخهم وجلبتهم إِلَى بَيت بعض أهل الْعلم من أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ وَكَانَ يعظ النَّاس بالجامع ويتظهر بِبَعْض من السّنة فرجموا بَيته رجما شَدِيدا وَفِيه شرائف وَأَطْفَال ثمَّ ثَارُوا إِلَى بَيت بعض وزراء الْخَلِيفَة لَا لذنب إِلَّا لكَونه ينافسه ذَلِك الْوَزير الرافضي وَكَونه ينتسب إِلَى بعض بطُون قُرَيْش فرجموه رجما شَدِيدا ثمَّ كسروا بعض أبوابه ودخلوا وكادوا يتصلون بِمن فِيهِ لَوْلَا أَنه حماه جمَاعَة بِالرَّمْي بالبنادق وَآخَرُونَ بِالسِّلَاحِ ويتصل بِبَيْت هَذَا الْوَزير المرجوم بَيت وَزِير آخر من أهل الْعلم فرجموه ورجمهم من فِي بَيت الْوَزير حَتَّى أَصَابُوا جمَاعَة مِنْهُم فَتَرَكُوهُ وَسبب رجمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لبيت الْوَزير هَذَا أَنه من جملَة من يتظهر بِعلم السّنة ثمَّ لما كَاد ينقضى اللَّيْل فارقوا مَا هم فِيهِ وَقد أثاروا فتْنَة عَظِيمَة ومحنة شَدِيدَة وَلما كَانَ النَّهَار جمع الْخَلِيفَة أعوانه وطلبني واستشارني فأشرت عَلَيْهِ بِأَن يحبس أُولَئِكَ المدرسين الَّذين أثاروا الْفِتْنَة فِي الْجَامِع بِسَبَب مَا يصدر مِنْهُم من نكاية الْقُلُوب وإثارة الْعَوام فحبسهم ثمَّ أَشرت عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَأْمر بتتبع أُولَئِكَ الَّذين رجموا الْبيُوت وفعلوا تِلْكَ الأفاعيل وَمن وجدوه حبسوه وَيَأْمُر بتتبع جمَاعَة من شياطين الْفُقَهَاء المثيرين للفتنة فَفعل وحبسوا جَمِيعًا وَلَكِن لم ينصح وَإِلَى مَدِينَة صنعاء لموافقته للوزير الرافضي فِي الرَّفْض ومهابته لَهُ ووقوفه عِنْدَمَا يختاره ويرتضيه وَبعد أَن اجْتمع فِي الْحَبْس جمَاعَة كَثِيرَة من هَؤُلَاءِ أرسل الإِمَام حفظه الله لجَماعَة من شياطينهم المباشرين للفتنة من الْفُقَهَاء فجِئ بهم من الْحَبْس إِلَيْهِ وضربهم بالعصى تَحت دَاره وَهُوَ ينظر ثمَّ أرسل فِي الْيَوْم الآخر لجَماعَة من أهل السُّوق المباشرين للفتنة فَصنعَ بهم مَا صنع بأولئك ثمَّ جعل جمَاعَة من شياطين الْجَمِيع فِي سلاسل وَأرْسل بهم إِلَى جزائر الْبَحْر على هَيْئَة مُنكرَة فسكنت الْفِتْنَة سكونا تَاما وَلَقَد شهِدت من التعصبات فِي هَذِه الْفِتْنَة مَا بهرني من الْخَاصَّة والعامة أما الْخَاصَّة فَإِنِّي رَأَيْت من أهل بَيت الْخلَافَة من أَوْلَاد الإِمَام وَغَيرهم وَمن الوزراء والأمراء والقضاه وَأهل الْعلم من ذَلِك مَا يعجب مِنْهُ فَإِنِّي لما أَشرت على الْخَلِيفَة بِمَا أَشرت خرجت من الْمَكَان الَّذِي هُوَ مُسْتَقر فِيهِ إِلَى حجرته وفيهَا أكَابِر أَوْلَاده وهم إِذا ذَاك أُمَرَاء الأجناد وَعِنْدهم جَمِيع الوزراء وهم جَمِيعًا فِي أَمر مريع فيهم من يعظم عَلَيْهِ حبس أُولَئِكَ المدرسين وَيَرَاهُ حطا فِي مرتبَة الرَّفْض ونقصا من الرافضة وَقد قتل مِنْهُم ذَلِك الْوَزير الرافضي فِي الذرْوَة وَالْغَارِب وأوهمهم أَنَّهَا ستثور فتْنَة من الْعَامَّة والأجناد ومازال بعض أَوْلَاد الْخَلِيفَة يردد عَليّ ذَلِك ويرغبني فِي الرُّجُوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عَن الشور الَّذِي أَشرت بِهِ على الْخَلِيفَة وَيذكر مَا قد أَلْقَاهُ إِلَيْهِ الْوَزير الرافضي من خشيَة ثورة الأجناد والعامة فمازلت أعرفهُ بِالصَّوَابِ وأذكر لَهُ أَن هَذِه الْفِتْنَة لَو لم تحسم يَوْمنَا هَذَا بِحَبْس المثيرين لَهَا لهلك غَالب النَّاس فِي اللَّيْلَة الْوَاصِلَة ونهبوا الْأَمْوَال جهارا وَأَنه سيصل الْأَمر إِلَى الْخَلِيفَة وَأَوْلَاده فضلا عَن غَيرهم وعرفته أَنه مَا سيثور بِسَبَب ذَلِك أجناد وَلَا غَيرهم فَإِن هَذَا تسكين للفتنة لَا إثارة لَهَا وَلَقَد حمدوا هَذِه المشورة بعد حِين وَعرفُوا أَنَّهَا صَوَاب وَأَن بهَا كَانَ سُكُون تِلْكَ الْفِتْنَة الَّتِي غلت مراجلها وكادت تعم جَمِيع أهل صنعاء ثمَّ تسرى بعد ذَلِك إِلَى سَائِر الديار اليمنية وَأما الْعَامَّة فَلَا يَتَّسِع الْمقَام لسرد مَا شوهد مِنْهُم من الصولة والجولة والاشتغال بِهَذَا الْأَمر وَلَقَد كنت أرى كثيرا من المنسوبين إِلَى الْعلم يَبْكُونَ رَحْمَة لإخوانهم المثيرين للفتنة لما حل بهم من الْعقُوبَة وَلَقَد تَغَيَّرت بهجة هَذِه الْمَدِينَة الْعَظِيمَة وتكدرت مشاربها العلمية وَذهب رونق معارفها بِمَا يصنعه جمَاعَة الْمُقَصِّرِينَ المغيرين لفطرتهم السليمة بِمَا حدث من علم الروافض ودسائسهم الَّتِي هِيَ أضرّ على الْمُقَصِّرِينَ من السم الْقِتَال وأدوى على من لم تستحكم مَعْرفَته وترسخ فِي الْعُلُوم قدمه من الدَّاء العضال على كَثْرَة من فِيهَا من الْعلمَاء المنصفين والطلبة المتميزين الأذكياء الماهرين فَإِنَّهُ قل أَن يُوجد بِمَدِينَة من الْمَدَائِن مَا يُوجد الْآن فِي صنعاء من رُجُوع أهل الْعلم بهَا إِلَى مَا صَحَّ عَن الشَّارِع وَعدم تعويلهم على الرَّأْي وطرحهم للمذاهب عِنْد قيام الدَّلِيل الناهض فَإِن هَذِه مزية وفضيلة لَا تكَاد تعرف فِي سَائِر الأقطار إِلَّا فِي الْفَرد الشاذ الْبَالِغ من الْعلم إِلَى منزلَة علية مَعَ مُرَاجعَته لفطرته وتفكره فِي طروء مَا طَرَأَ من الْمُغيرَات وتدبره لما قدمنَا ذكره من الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للتعصب الحائلة بَين المتمذهبين وَبَين الْإِنْصَاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَهَذَا النَّادِر الشاذ يُبَالغ فِي الكتم ويستكثر من المجانبة لما يَظُنّهُ الْحق مَخَافَة من وثوب المقلدة عَلَيْهِ وهتكهم لَهُ لأَنهم لَا يقنعون من الْعَالم وَإِن كَانَ فِي أَعلَى دَرَجَات الِاجْتِهَاد إِلَّا بِأَن يكون مثلهم مُقَلدًا بحتا مقتديا بالعالم الَّذِي يقلدونه هم وأسلافهم وَإِن كَانَ هَذَا الْعَالم الَّذِي يُرِيدُونَ مِنْهُ ذَلِك أغلا رُتْبَة وَأجل قدرا وَأكْثر علما من عالمهم الَّذِي يقلدونه كَمَا يجده من لَهُ اطلَاع على كثير من أَحْوَال النَّاس فَإِن فِي عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة من هُوَ أوسع علما وأعلا قدرا من أَمَامه الَّذِي ينتمي إِلَيْهِ وَيقف عِنْد رَأْيه ويقتدي بِمَا قَالَه فِي عِبَادَته ومعاملته وَفِي فَتَاوِيهِ وقضائه ويسرى ذَلِك إِلَى مصنفاته فيرجح فِيهَا مَا يرجحه إِمَامه وَإِن كَانَ دليلة ضَعِيفا أَو مَوْضُوعا أَو لَا دَلِيل بِيَدِهِ أصلا بل مُجَرّد مَحْض الرَّأْي وَيدْفَع من الْأَدِلَّة الْمُخَالفَة لَهُ مَا هُوَ أوضح من شمس النَّهَار تَارَة بالتأويل المتعسف وحينا بالزور الملفق مَعَ كَونه بمَكَان من الْعلم لَا يخفى عِنْده الصَّوَاب وَلَا يلتبس مَعَه الْحق وَلكنه يفعل ذَلِك مَخَافَة على نَفسه من تِلْكَ الطَّبَقَة المشومة أَو تَأْثِيرا لما قد ظفر بِهِ من الدُّنْيَا والجاه الَّذِي لَا يسْتَمر لَهُ إِلَّا بالموافقة لَهُم والسلوك فِيمَا يرضيهم وَقد يحملهُ على ذَلِك الْحِرْص على نفاق مُصَنفه بَينهم واشتهاره عِنْدهم وتداولهم لَهُ وَمَا كَانَ أغناه عَن هَذِه البلية الَّتِي وَقع فِيهَا وَالْجِنَايَة الَّتِي جناها عل نَفسه فِي العاجلة والآجلة أما فِي الآجلة فَظَاهر فَإِن اشْتِغَاله بذلك التصنيف الْمُشْتَمل على تَأْثِير رأى فَرد من أَفْرَاد أهل الْعلم على مَا شَرعه الله فِي مُحكم كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله من أعظم الذُّنُوب الَّتِي تَلقاهُ بَين يَدي الله فَإِنَّهُ ضال مضل مفتون فاتن محَارب للشريعة المطهرة معاند لَهَا فَعَلَيهِ إِثْم بِمَا سنة من هَذِه السّنة السَّيئَة وإثم من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأما فِي العاجلة فَإِن مثل هَؤُلَاءِ الصم الْبكم من المقلدة لَا يفرح الْعَاقِل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 بانتشار مصنفاته عِنْدهم وشيوعها بَينهم لأَنهم لَا يفهمون الْعلم وَلَا يعْرفُونَ أَهله وَلَا فرق بَينهم وَبَين الْعَامَّة البحت إِلَّا مُجَرّد الدعْوَة والتلبس بلباس أهل الْعلم وَالْقعُود فِي مقاعد أَهله فَكَمَا أَن الْعَاقِل لَا يفرح بِإِقْرَار جمَاعَة لَهُ من البدو والحراث أَو السوقة من أهل الحياكة والحجامة وسقاط أهل المهن الدنيئة والمعاشر الوضيعة كَذَلِك لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يفرح بِمثل ذَلِك من المقلدة فَإِنَّهُم كَمَا قَالَ الْقَائِل (فَإِن لم يكنها أَو تكنه فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غذته أمه بلبانها) وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يعرف نَفسه بِهَذَا التصنيف لاستقصار أهل الْعلم الَّذين هم أَهله وَعَلَيْهِم الْمعول فِيهِ لغايته واستحقار مَا جَاءَ بِهِ والإزراء عَلَيْهِ من كل وَاحِد مِنْهُم فِي عصره ذَلِك وَمَا بعده من العصور مَا دَامَ ذَلِك المُصَنّف المشؤوم مَوْجُودا على وَجه الأَرْض كَمَا هُوَ مَعْلُوم فَإِن الْمُحَقق من أهل الْعلم إِذا عثر على شئ من هَذِه المصنفات المتعسفة الْخَارِجَة عَن الْحق انقبضت أنفسهم عَنهُ واستبردوه وَسقط مُصَنفه عِنْدهم وَلم يعدوه من أهل الْعلم فِي ورد وَلَا صدر وألحقوه بالطبقة الَّتِي حَملته على ذَلِك الصنع الَّذِي صنعه لَهُم وأحملوا ذكره فِي مصنافاتهم الَّتِي هِيَ المصنفات الْمُعْتَبرَة وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا صنع هَذَا المُصَنّف لنَفسِهِ بذلك التصنيف إِلَّا مَا هُوَ خزى لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ووبال عَلَيْهِ فِي الآجلة والعاجلة وَقد يسْلك بعض هَؤُلَاءِ مسلكا هُوَ أخس من ذَلِك المسلك وَذَلِكَ بِأَن يُورد الْأَقْوَال ويحتج لكل وَاحِد مِنْهَا بِمَا احْتج بِهِ قَائِله ويستكثر من إِيرَاد أَدِلَّة مَا هُوَ الْحق مِنْهَا ويخرجه من مخارجه المقبولة ثمَّ يذكر مَا قيل من ضعف دَلِيل مَا قَالَ بِهِ من يَعْتَقِدهُ أهل عصره وقطره وينسب ذَلِك التَّضْعِيف إِلَى من يعْتد بِهِ من أهل الْعلم ثمَّ يعْتَرض ذَلِك التَّضْعِيف باعتراض يعرف من هُوَ من أهل الْعلم والإتقان سُقُوطه وبطلانه ركونا مِنْهُ على أَن ذَلِك لَا يخفى على من لَهُ قدم فِي الْعلم وزعما أَنه قدر من لَهُم إِلَى مَا هُوَ الْحق بإيراد دَلِيله الصَّحِيح وَإِلَى مَا يُخَالِفهُ بإيراد دَلِيله الضَّعِيف وَأَنه لم يَأْتِ بِمَا أَتَى بِهِ من الِاعْتِرَاض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 السَّاقِط والتقوية لِلْقَوْلِ الْفَاسِد إِلَّا على وَجه لَا يخفى على أهل الإتقان وَلَا يلتبس عِنْد العارفين وَهُوَ فِي زَعمه قد أرْضى الْخَاصَّة والعامة وسلك مسلكا فِي غَايَة التحذلق وَنِهَايَة التبصر وَهُوَ لَا يشْعر بِأَن الْخَاصَّة من أهل التَّحْقِيق فِي غنى عَن رمزه وهمزه وتحذلقه فَإِنَّهُم يعْرفُونَ مسالك الْحق بِدُونِ زَعمه وَيَأْخُذُونَ الصَّوَاب من معادنه فنفاق مَا جَاءَ بِهِ لديهم غَايَة مَا فِيهِ أَنهم لَا يطعنون عَلَيْهِ بِالْجَهْلِ والقصور والبلادة وَبعد الْإِدْرَاك وَلكنه قد فتح للمقصرين أَبْوَاب الطعْن على الْأَدِلَّة الصَّحِيحَة وَزَادَهُمْ إِلَى مَا لديهم من البلايا الْبَاطِلَة بلايا أُخْرَى وَجعل بَينهم وَبَين الرُّجُوع إِلَى الْحق ردما فَوق الرَّدْم الَّذِي قد كَانَ معمورا وَرفع أبنية الْبَاطِل وشيدها وَلم يهدم مِنْهَا بتصنيفه حجرا وَلَا مدرا لِأَنَّهُ لقنهم المطاعن على الشَّرْع وَفتح لَهُم أَبْوَاب الْمقَال على الْأَدِلَّة وهم لَا يعْرفُونَ أَن اعتراضهم فَاسد وَأَنه لَا ينْفق وَلَا يصلح لقُصُور أفهامهم عَن إِدْرَاك مَا هُوَ صَحِيح أَو بَاطِل وَضعف معارفهم عَن الْبلُوغ إِلَى دَرَجَة التَّمْيِيز فَزَادَهُم بِمَا أفادهم شرا إِلَى شرهم وتعصبا إِلَى تعصبهم وبعدا عَن الْحق إِلَى بعدهمْ وَلم ينْتَفع الْخَاصَّة بِشَيْء مِمَّا جَاءَ بِهِ من الألغاز بل أنزل بهم من الضَّرَر مَا لم يكن قبله فَإِن أهل التعصب يصولون عَلَيْهِم باعتراضه ويجولون ويدفعون بِهِ فِي وَجه من قَالَ بِضعْف دَلِيل القَوْل الَّذِي قَالَه من يقلدونه ويجعلون ذَلِك ذَرِيعَة لَهُم إِلَى الِاغْتِبَاط بِمَا هم فِيهِ والتهالك على مَا ألفوه ووجدوا عَلَيْهِ آباهم وَإِنَّمَا التصنيف الَّذِي يسْتَحق أَن يُقَال لَهُ تصنيف والتأليف الَّذِي يَنْبَغِي لأهل الْعلم الَّذين أَخذ الله عَلَيْهِم بَيَانه وَأقَام لَهُم على وُجُوبه عَلَيْهِم برهانه هُوَ أَن ينصرُوا فِيهِ الْحق ويخذلوا بِهِ الْبَاطِل ويهدموا بحججه أَرْكَان الْبدع ويقطعوا بِهِ حبائل التعصب ويوضحوا فِيهِ للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم من الْبَينَات وَالْهدى ويبالغوا فِي إرشاد الْعباد إِلَى الْإِنْصَاف ويحببوا إِلَى قُلُوبهم الْعَمَل بِالْكتاب السّنة وينفروهم من اتِّبَاع مَحْض الرَّأْي وزائف الْمقَال وكاسد الِاجْتِهَاد وَلَا يمنعهُم من ذَلِك مَا يخيله لَهُم الشَّيْطَان ويسوله من أَن هَذَا التصنيف لَا ينْفق عِنْد المقلدة أَو يكون سَببا لجلب فتْنَة أَو نزُول مضرَّة أَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ذهَاب جاه أَو مَال أَو رئاسة فَإِن الله نَاصِر دينه ومتمم نوره وحافظ شَرعه ومؤيد من يُؤَيّدهُ وجاعل لأله الْحق ودعاة الشَّرْع والقائمين بِالْحجَّةِ سُلْطَانا وأنصارا واتباعا وَإِن كَانُوا فِي أَرض قد انغمس أَهلهَا فِي موجات الْبدع وتكسعوا فِي متراكم الضلال وَقد قدمنَا الْإِرْشَاد إِلَى شئ من هَذَا فَإِن قلت هَؤُلَاءِ المتعصبة قد طبقوا جَمِيع أقطار الأَرْض الإسلامية وَصَارَت الْمدَارِس والفتاوى وَالْقَضَاء وَجَمِيع الْأَعْمَال الدِّينِيَّة بِأَيْدِيهِم فَإِن كل مملكة من الممالك الإسلامية يعتزى أَهلهَا إِلَى مَذْهَب من الْمذَاهب ونحلة من النَّحْل وكل بلد من الْبِلَاد وقطر من الأقطار كثرت أَو قلت لَا بُد أَن يكون أَهلهَا مقلدين لمَيت من الْأَمْوَات يَأْخُذُونَ عَنهُ مَا يَجدونَ فِي مؤلفاته ومؤلفات أَتْبَاعه المقلدين لَهُ حَتَّى صَارَت مسَائِل مَذْهَبهم نصب أَعينهم لَا يتحولون عَنْهَا وَلَا يخالفونها ويعتقد من تفاقم تعصبه من المقلدة أَن الْخُرُوج عَن ذَلِك الْخُرُوج من الدّين بأسره وَإِن كَانَت بَقِيَّة الْمذَاهب على خلَافَة فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة كَمَا نجده فِي كل مَذْهَب من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا فَمَا عَسى يغنى إرشاد فَرد من أَفْرَاد الْعلم إِلَى الْإِنْصَاف وَاتِّبَاع نَص الدَّلِيل فِي قطر وَاسع من أقطار الأَرْض أَو مَدِينَة كَبِيرَة من مدائنه فَأَنَّهُ بِأول كلمة تخرج مِنْهُ وأيسر مُخَالفَة يفوه بهَا يقوم عَلَيْهِ من المقلدة من ينغص عَلَيْهِ مشربه ويكدر عَلَيْهِ حَاله وَأَقل الْأَحْوَال أَن يسْعَى بِهِ هَؤُلَاءِ المقلدة إِلَى أمثالهم مِمَّن بِأَيْدِيهِم الْأَمر وَالنَّهْي والدولة والصولة فيمنعونه من المعاودة ويتوعدونه بأبلغ توعد هَذَا إِذا لم يمنعوه من التدريس والإفتاء بِمُجَرَّد ذَلِك ويحولون بَينه وَبَين مَا أردْت مِنْهُ بِكُل حَائِل وَمَا يصنع الْمِسْكِين بَين مئين من المقلدة كل وَاحِد مِنْهُم أجل قدرا مِنْهُ وأنبل ذكرا وَأحسن ثيابًا وأفره مركوبا وَأكْثر اتبَاعا عِنْد أُلُوف مؤلفة من الْعَامَّة الَّذين هم بَين جند وسوقة وحراث وَأهل حرف لَا يفهمون خطابا وَلَا يعْقلُونَ حَقًا فَمَا ظَنك بالعامة إِذا بَلغهُمْ الْخلاف بَين فَرد من أَفْرَاد الْعلم خامل الذّكر وَبَين جَمِيع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يعدونه عَالما من أهل بلدهم من المدرسين والقضاة والمفتين وهم عدد جم وَمِقْدَار ضخم أَترَاهُم يظنون الْحق بيد ذَلِك الْفَرد ويتبعونه وَيَقُولُونَ بقوله وَيدعونَ من يُخَالِفهُ من أهل مدينتهم قاطبة هَذَا مَا لَا يكون فَإنَّا نجد الْعَامَّة فِي قديم الزَّمن وَحَدِيثه مَعَ الْكَثْرَة وَلَا سِيمَا من كَانَ لَهُ من أهل الْعلم نصيب من دولة كالقضاة فَإِن الْوَاحِد مِنْهُم يعدل عِنْد الْعَامَّة ألوفا من أهل الْعلم الَّذين لَا مناصب لَهُم وَلَا دولة فَكيف إِذا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك مَا يلقيه إِلَيْهِم المقلدة من الْكَلِمَات الَّتِي تثير غضبهم وتستطير حميتهم كَقَوْلِهِم هَذَا الرجل يُخَالف إمامكم وَيَدْعُو النَّاس إِلَى الخرج من مذْهبه ويزرى عَلَيْهِ وَيَقُول إِنَّه جَاءَ بِغَيْر الْحق وَخَالف الشَّرْع فَإِنَّهُم عِنْد سَماع هَذَا مَعَ مَا قد رسخ فِي عقائدهم وَثَبت فِي عُقُولهمْ لَا يبالون أَي دم سَفَكُوا وَأي عرض انتهكوا يعلم هَذَا كل من لَهُ خبْرَة بهم وممارسة لَهُ قلت هَذَا السُّؤَال الَّذِي أوردته أَيهَا الطَّالِب للحق الرَّاغِب فِي الْإِنْصَاف قد أفادنا أَنَّك لم تفهم مَا قَدمته لَك فِي هَذَا الْكتاب حق الْفَهم وَلم تتصوره كُلية التَّصَوُّر فقد كررت لَك فِي مَوَاضِع مِنْهُ مَا تستفيد مِنْهُ جَوَاب مَا أوردته هُنَا فعاود النّظر وَكرر التدبر وأطل الْفِكر بعد أَن تبالغ فِي تصفية الْفطْرَة وتستكثر من الاستعداد للقبول وهب أَنه لم يتَقَدَّم مَا يصلح أَن يكون جَوَابا لما خطر ببالك الْآن من هَذَا السُّؤَال فها أَنا أُجِيب عَلَيْك بجوابين الأول جَوَاب مُجمل وَالْآخر جَوَاب مفصل أما الْجَواب الْمُجْمل فَأَقُول لَك بعد تَسْلِيم جَمِيع مَا أوردته فِي سؤالك هَذَا من أَن حَامِل الْعلم ومبلغ الْحجَّة سيحال بَينه وَبَين مَا يُريدهُ بِأول كلمة تخرج مِنْهُ فِيهَا مُخَالفَة لما أَلفه النَّاس وَلَا يقدر بعْدهَا عل شئ من الْهِدَايَة إِلَى الْحق والإرشاد إِلَى الْإِنْصَاف لما قدرته من أَنَّهَا ستقوم عَلَيْهِ الْقِيَامَة وتأزف عَلَيْهِ الآزفة وتضيق عَنهُ دَائِرَة الْحق وتنبو عَنهُ جَمِيع المسامع وَتُؤْخَذ عَلَيْهِ كل وَسِيلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فَبعد هَذَا كُله قد قَامَ بِمَا أوجب الله عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَا طلبه الله مِنْهُ من الْهِدَايَة ووفي بِمَا أَخذ عَلَيْهِ من الْعَهْد وامتثل مَا ألزنه بِهِ من الْبَيَان وَصَارَ بذلك من الْعلمَاء العاملين القائمين بنشر حجج الله وإبلاغ شرائعه وَهَذَا فَرْضه لَيْسَ عَلَيْهِ غَيره وَلَا يجب على من سواهُ فَهُوَ لم يكتم مَا علمه الله وَلَا خَان عهد الله وَلَا خَالف أمره وَلَا اشْترى بِهِ ثمنا قَلِيلا وَلَا بَاعه بِعرْض من أَعْرَاض الدُّنْيَا فَلهُ أجر من مكنه الله من ذَلِك وخلى بَينه وَبَينه لِأَنَّهُ قد قَامَ فِي الْمقَام الَّذِي افترضه الله عَلَيْهِ وسلك الطَّرِيقَة الَّتِي أمره بسلوكها فحال بَينه وَبَينه من لَا يُطيق دَفعه وَلَا يقدر على مناهضته فَكَانَ ذَلِك قَائِم بِعُذْرِهِ مسْقطًا لفرضه مُوجبا لاستحقاقه لثواب مَا قد عزم عَلَيْهِ وَأجر مَا أَرَادَهُ فَأَي غنيمَة أجل من غنيمته ونعمة أكبر من نعْمَته وَأَيْنَ مَنْزِلَته عِنْد الله من منزلَة من فتح الله عَلَيْهِ من أَبْوَاب معارفه ولطائف شَرِيعَته بِمَا يفرق بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل وَيعرف بِهِ صَوَاب القَوْل من خطأه فكتم الْحجَّة وآثر على نشرها مَا يرجوه من استدرار خلف من أخلاف الدُّنْيَا ونيل جاه من الجاهات ورئاسة من الرئاسات ومعيشة من المعائش فَمضى عمره وَانْقَضَت حَيَاته كَاتِما للحجة مُخَالفا لأمر الله نابذا لعهده طارحا لما أَخذه عَلَيْهِ وَأما الْجَواب الْمفصل فَاعْلَم أَنِّي لم أرد بِمَا أرشدت إِلَيْهِ فِي هَذَا الْكتاب مَا خطر ببالك وَلَا لوم عَليّ فقد كررت لَك مَا قصدته تكررا لَا يخفى على الفطن فَهَل طلبت من حَامِل الْحجَّة أَن يقوم بَين ظهراني النَّاس قَائِلا اجتنبوا كَذَا من الرَّأْي اتبعُوا كَذَا من الْكتاب وَالسّنة صَارِخًا بذلك فِي المحافل ناطقا بِهِ فِي الْمشَاهد مَعَ علمه بتراكم سحائب الْجَهْل وتلاطم أمواج بحار التعصب وإظلام أفق الْإِنْصَاف واكفهرارا وَجه الاسترشاد فَإِن هَذَا وَإِن كَانَ مسْقطًا لما افترضه الله على من استخلصه من عباده لحمل حجَّته وإبلاغ شَرِيعَته لَكِن لكل عَالم قدوة بِأَنْبِيَاء الله وأسوة بِمن أرْسلهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 من رسله فقد كَانُوا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدبرون عباد الله بتدبيرات فِيهَا من الرِّفْق واللطف وَحسن المسلك مَا لَا يخفى على أهل الْعلم فَإِن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تألف رُؤَسَاء الْمُشْركين وهم إِذْ ذَاك حديثو عهد بجاهلية وَترك الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار من الْغَنِيمَة وَسُيُوفهمْ تقطر من دِمَاء المؤلفين واتباعهم وَمن يشاكلهم فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَصَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ترك من كَانَ منافقا على نفَاقه وعصمهم بِظَاهِر كلمة الْإِسْلَام وَلم يكشفهم ويتلف مِمَّا عِنْدهم بعد أَن ظهر مِنْهُم مَا ظهر من النِّفَاق كَعبد الله بن أبي سلول رَأس الْمُنَافِقين وَقَالَ لَا يتحدث النَّاس أَن مُحَمَّد يقتل أَصْحَابه وَقد اشْتَمَل الْكتاب وَالسّنة على مَا كَانَ يَقع من الْأَنْبِيَاء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تَدْبِير أَمرهم والرفق بهم واغتنام الفرص فِي إرشادهم وإلقاء مَا يحدوبهم إِلَى الْحق فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت وَالْحَالة بعد الْحَالة على حسب مَا تقبله عُقُولهمْ وتحتمله طبائعهم وتفهمه أذهانهم فالعالم الَّذِي أعطَاهُ الله الْأَمَانَة وَحمله الْحجَّة وَأخذ عَلَيْهِ الْبَيَان يُورد الْكَلَام مَعَ كل أحد على حسب مَا يقبله عقله وبقدر استعداده فَإِن كَانَ كَلَامه مَعَ أهل الْعلم الَّذين يفهمون الْحجَّة ويعقلون الْبُرْهَان ويعلمون أَن الله سُبْحَانَهُ لم يتعبد عباده إِلَّا بِمَا أنزلهُ فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله وَحَال بَينهم وَبَين الِالْتِفَات إِلَى ذَلِك وَالرُّجُوع إِلَيْهِ وَالْعَمَل عَلَيْهِ مَا تكدرت بِهِ فطرهم وتشوشت عِنْده أفهامهم من اعْتِقَاد حقية لتقليد أَو استعظام الْأَمْوَات من أهل الْعلم أَو استقصار أنفسهم عَن معرفَة الْحق بِنَصّ الدَّلِيل فَعَلَيهِ أَن يعْتَمد مَعَهم تسهيل مَا تعاظموه من الْوُقُوف على الْحق قَائِلا إِن الله تعبد جَمِيع هَذِه الْأمة بِمَا فِي الْكتاب وَالسّنة وَلم يخص بفهم ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 من كَانَ من السّلف دون من تَبِعَهُمْ من الْخلف وَلَا قصر فَضله بِمَا شَرعه لجَمِيع عباده على أهل عصر دون عصر أَو أهل قطر دون قطر أَو أهل بطن دون بطن فالفهم الَّذِي خلقه للسلف خلق مثله للخلف وَالْعقل الَّذِي رَكبه فِي الْأَمْوَات ركب مثله فِي الْأَحْيَاء وَالْكتاب وَالسّنة موجودان فِي الْأَزْمِنَة الْمُتَأَخِّرَة كَمَا كَانَا فِي الْأَزْمِنَة الْمُتَقَدّمَة والتعبد بهما لمن لحق كالتعبد لمن مضى وَعلم لُغَة الْعَرَب مَوْجُود فِي الدفاتر عِنْد الْمُتَأَخِّرين على وَجه لَا يشذ مِنْهُ شئ بعد أَن كَانَ المتقدمون بأخذونه عَن الروَاة حرفا حرفا ويستفيدون من أربابه كلمة كلمة وَكَذَلِكَ تَفْسِير الْكتاب الْعَزِيز مَوْجُود فِي التفاسير الَّتِي دونهَا السّلف للخلف بعد أَن كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يرحل فِي تَفْسِير آيَة من كتاب الله إِلَى الأقطار الشاسعة وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيث المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوْجُودَة فِي الدفاتر الَّتِي جمعهَا الأول للْآخر بعد أَن كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يرحل فِي طلب الحَدِيث الْوَاحِد إِلَى الْبِلَاد الْبَعِيدَة وَهَكَذَا جَمِيع الْعُلُوم الَّتِي يستعان بهَا على فهم الْكتاب وَالسّنة فالوقوف على الْحق والاطلاع على مَا شَرعه الله لِعِبَادِهِ قد سهله الله على الْمُتَأَخِّرين ويسره على وَجه لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ من الْعِنَايَة والتعب إِلَّا بعض مَا كَانَ يَحْتَاجهُ من قبلهم وَقد قدمنَا الْإِشَارَة إِلَى هَذَا الْمَعْنى ثمَّ أَن هَذَا الْعَالم يُوضح لمن يَأْخُذ عَنهُ الْعلم فِي كل بحث مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل ويوجبه الْإِنْصَاف وَهُوَ وَإِن أَبى ذَلِك فِي الِابْتِدَاء فَلَا بُد أَن يُؤثر ذَلِك الْبَيَان فِي طبعه قبولا وَفِي فطرته انقيادا ويحرص على أَن تكون أوقاته مَشْغُولَة بتدريس الطّلبَة فِي كتب التَّفْسِير والْحَدِيث وشروحه وَفِي كتب الْفِقْه الَّتِي يتَعَرَّض مؤلفوها لذكر الْأَدِلَّة وَالتَّرْجِيح فَإِنَّهُ فِي تدريس هَذِه المؤلفات يَتَيَسَّر لَهُ من الْإِرْشَاد وَالْهِدَايَة وتأسيس الْحق وتقريب الْإِنْصَاف مَا لَا يَتَيَسَّر لَهُ فِي غَيرهَا وَإِن كَانَ كَلَامه وَمَعَ من هُوَ دون هَذِه الطَّبَقَة فأنفع مَا يلقيه إِلَيْهِ هُوَ ترغيبه فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد وتعريفه أَن الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْعُلُوم هُوَ الْوُصُول إِلَى مَا وصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 إِلَيْهِ عُلَمَاء الْإِسْلَام فَإِذا جد فِي ذَلِك فقد انفتحت مِنْهُ أَبْوَاب الْهِدَايَة ولاحت عَلَيْهِ أنوار التَّوْفِيق ثمَّ إِذا تأهل واستعد لفهم الْحجَّة سلك مَعَه المسلك الأول وَمن كَانَ لَا يَهْتَدِي إِلَى طلب تِلْكَ الْعُلُوم بِوَجْه من الْوُجُوه فأقرب مَا يسلكه الْعَالم مَعَه هُوَ أَن ينظر إِلَى من قَالَ من أهل الْعلم الَّذين يعتقدهم ذَلِك المقصر بِمَا قَامَت عَلَيْهِ الْأَدِلَّة وَأوجب سلوكه الْإِنْصَاف فَيَقُول لَهُ إِن قَول الْعَالم الْفُلَانِيّ قوم رَاجِح لقِيَام الْأَدِلَّة عَلَيْهِ ثمَّ يصنع مَعَه هَذَا الصنع فِي الْمسَائِل الَّتِي يعتقدها تقليدا ويجمد عَلَيْهَا قصورا فَإِن انْتفع بذلك فَهُوَ الْمَطْلُوب وَإِن لم ينْتَفع فَأَقل الْأَحْوَال السَّلامَة من معرته والخلوص من شَره وَأما الْعَامَّة الَّذين لم يتعلقوا بِشَيْء من علم الرَّأْي فهم أسْرع النَّاس انقيادا وأقربهم إِلَى الْقبُول إِن سلمُوا من بلايا مَا يلقيه إِلَيْهِم المتعصبون وَبِالْجُمْلَةِ فالعالم المتصدي للإرشاد المتصدي للهداية لَا يخفى عَلَيْهِ مَا يصلح من الْكَلَام مَعَ من يتَكَلَّم مَعَه فَهَذَا هُوَ الَّذِي أردته من نشر حجج الله وإرشاد الْعباد إِلَيْهَا وَقد قَدمته بأبسط من هَذَا وَإِنَّمَا كررته هُنَا لقصد دفع مَا سبق من السُّؤَال عود إِلَى أَسبَاب التعصب الِاسْتِنَاد إِلَى قَوَاعِد ظنية وَمن جملَة أَسبَاب التعصب الَّتِي لَا يشْعر بهَا كثير من المشتغلين بالعلوم مَا يذكرهُ كثير من المصنفين من أَنه يرد مَا خَالف الْقَوَاعِد المقررة فَإِن من لَا عناية لَهُ بالبحث يسمع هَذِه الْمقَالة وَيرى مَا صنعه كثير من المصنفين من رد الْأَدِلَّة من الْكتاب وَالسّنة إِذا خَالف تِلْكَ الْقَاعِدَة فيظن أَنَّهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَإِذا كشفها وجدهَا فِي الغاب كلمة تكلم بهَا بعض من يَعْتَقِدهُ النَّاس من أهل الْعلم الَّذين قد صَارُوا تَحت أطباق الثرى لَا مُسْتَند لَهَا إِلَّا مَحْض الرَّأْي وبحت مَا يدعى من دلَالَة الْعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَكَثِيرًا مَا تَجِد فِي علم الْكَلَام الَّذِي يسمونه أصُول الدّين قَاعِدَة قد تقررت بَينهم واشتهرت وتلقنها الآخر من الأول وخطوها جِسْرًا يدْفَعُونَ بهَا الْآيَات القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة فَإِذا كشفت عَنْهَا وَجدتهَا فِي الأَصْل كلمة قَالَهَا بعض حكماء الْكَلَام زاعما أَنه يَقْتَضِي ذَلِك الْعقل ويستحسنه وَلَيْسَ إِلَّا مُجَرّد الدَّعْوَى على الْعقل وَهُوَ عَنهُ برِئ فَإِنَّهُ لم يقْض بذلك الْعقل الَّذِي خلقه الله فِي عباده بل قضى بِهِ عقل قد تدنس بالبدع وتكدر بالتعصب وابتلى بِالْجَهْلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع وَجَاء بعده من هُوَ أَشد بلَاء مِنْهُ واسخف عقلا وَأَقل علما وَأبْعد عَن الشَّرْع فَجعل ذَلِك قَاعِدَة عقلية ضَرُورِيَّة فَدفع بهَا جَمِيع مَا جَاءَ عَن الشَّارِع عرف هَذَا من عرفه وجهله من جَهله وَمن لم يعرف هَذَا فليتهم نَفسه فيا لله العجيب من مزية يفتريها على الْعقل بعض من حرم علم الشَّرْع ثمَّ يَأْتِي من بعده فيجعلها أصولا مقررة وقواعد محررة ويؤثرها على قَول الله عز وَجل وَقَول الْأَنْبِيَاء وَهَكَذَا تَجِد فِي علم أصُول الْفِقْه قَاعِدَة قد أَخذهَا الآخر عَن الأول وتلقنها الْخلف عَن السّلف وبنوا عَلَيْهَا القناطر وجعلوها إِمَامًا لأدلة الْكتاب وَالسّنة يجيزون مَا أجازته ويردون مَا ردته وَلَيْسَت من قَوَاعِد اللُّغَة الْكُلية وَلَا من القوانين الشَّرْعِيَّة بل لَا يسْتَند لَهَا إِلَّا الخيال المختل وَالظَّن الْفَاسِد والرأي البحت وَمَعَ هَذَا فهم يَزْعمُونَ أَن هَذَا الْعلم لَا تقبل فِيهِ إِلَّا الْأَدِلَّة القطعية دَعْوَى ظَاهِرَة الْبطلَان وَاضِحَة الْفساد فَإِن غالبها لَا يُوجد عَلَيْهِ دَلِيل من الْآحَاد صَحِيح وَلَا حسن بل لَا يُوجد أحادي ضَعِيف وغالب مَا يُوجد الموضوعات الَّتِي لَا يمترى من لَهُ حَظّ من الْعلم فِي كذبهَا كاستدلالهم بِمثل حكمي على الْوَاحِد حكمي على الْجَمَاعَة وبمثل نَحن نحكم بِالظَّاهِرِ وَنَحْو هَذِه الأكاذيب فالمغرور من اغْترَّ بِهَذِهِ الدلس والمخدوع من خدع بهَا وترقى بهَا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 كَونهَا مَوْضُوعَة إِلَى كَونهَا صَحِيحَة ثمَّ من كَونهَا صَحِيحَة إِلَى كَونهَا قَطْعِيَّة فيا لله الْعجب من نفاق مثل هَذِه الْأُمُور على كثير من أهل الْعلم وانقراض الْقرن بعد الْقرن وَالْعصر بعد الْعَصْر وَهِي عِنْدهم مسَائِل قَطْعِيَّة وقواعد مقررة والذنب لمن تكلم بهَا وَذكرهَا فِي مؤلفاته وَلم يقف حَيْثُ أوقفهُ الله من جَهله بِمَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَة وَهَكَذَا مَا وَقع فِي كثير من أَبْوَاب الْفِقْه من ذكر قَوَاعِد يطردونها فِي جَمِيع الْمسَائِل ويظنون أَنَّهَا من قَوَاعِد الشَّرْع الثَّابِتَة بقطعيات الشَّرِيعَة وَمن كشف عَن ذَلِك وجد أَكْثَرهَا مَبْنِيا عل مَحْض الرَّأْي الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ إثارة من علم وَلَا يرجع إِلَى شئ من الشَّرْع وَمن خفى عَلَيْهِ هَذَا فَليعلم أَن قصوره وَعدم اشْتِغَاله بِالْعلمِ هُوَ الَّذِي جنى عَلَيْهِ وغره بِمَا لَا يغتر بِهِ من عض على الْعلم بناجذه وكشف عَن الْأُمُور كَمَا يَنْبَغِي فعلى من أَرَادَ الْوُصُول إِلَى الْحق والتمسك بشعار الْإِنْصَاف أَن يكْشف عَن هَذِه الْأُمُور فَإِنَّهُ إِذا فعل ذَلِك هان عَلَيْهِ الْخطب وَلم يحل بَينه وَبَين الْحق مَا لَيْسَ من الْحق عدم الموضوعية فِي عرض حجج الْخُصُوم وَمن أَسبَاب الْوُقُوع فِي غر الْإِنْصَاف والتمسك بذيل من الاعتساف أَن يَأْخُذ طَالب الْحق أَدِلَّة الْمسَائِل من مجاميع الْفِقْه الَّتِي يعتزى مؤلفها إِلَى مَذْهَب من الْمذَاهب فَإِن من كَانَ كَذَلِك يُبَالغ فِي إِيرَاد أَدِلَّة مذْهبه ويطيل ذيل الْكَلَام عَلَيْهَا وَيُصَرح تَارَة بِأَنَّهَا أَدِلَّة وَتارَة بِأَنَّهَا حجج وَتارَة بِأَنَّهَا صَحِيحَة ثمَّ يطفف لخصمه الْمُخَالف فيورد أدلته بِصِيغَة التمريض ويعنونها بِلَفْظ الشّبَه وَمَا يُؤْذِي هَذَا الْمَعْنى فَإِذا اقْتصر طَالب الْحق على النّظر فِي مثل هَذِه المؤلفات وَقع فِي الْبَاطِل وَهُوَ يَظُنّهُ الْحق وَخَالف الْحق وَهُوَ يَظُنّهُ الْبَاطِل وَالَّذِي أوقعه فِي ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ُ 115 اقْتِصَاره فِي الْبَحْث وَالنَّظَر على ذَلِك الْكتاب الَّذِي أَلفه ذَلِك المعتصب وإحسان الظَّن بِهِ وغفوله عَن أَن مَوَاطِن الْأَدِلَّة هِيَ مجاميع الحَدِيث كالأمهات وَمَا يلْتَحق بهَا وَأَن هَؤُلَاءِ هم أهل الْعلم وأربابه الَّذين يعْرفُونَ صَحِيحَة من فاسده كَمَا قدمنَا الْإِشَارَة إِلَى هَذَا وَلَا بَأْس بِأَن ينظر طَالب الْحق فِي كتب الْعلمَاء الْمَشْهُورين بالإنصاف الَّذين لم يتعصبوا لمَذْهَب من الْمذَاهب وَلَا انتسبوا إِلَى عَالم من الْعلمَاء فَإِنَّهُ يَسْتَفِيد بمطالعة مؤلفات المصنفين كَيْفيَّة الْعَمَل عِنْد التَّعَارُض ويهتدي إِلَى مواقع التَّرْجِيح ومواطن مَا يحِق الِاجْتِهَاد على الْوَجْه المطابق وَهَكَذَا كتب الْكَلَام وأصول الْفِقْه فَإِن كل طَائِفَة تصنع هَذَا الصنع فِي الْغَالِب فتصف مَا يُوَافق مذهبها بالحجج القواطع والأدلة الراجحة وتطفف للمخالف فتورد لَهُ مَا لَا يعجزون عَن جَوَابه وَدفعه ويتركون مَا لَا يتمكنون من دَفعه وَقد يذكرُونَهُ على وَجه فِيهِ مدْخل للدَّفْع ويلصقون بِهِ مَا يفتح فِيهِ أَبْوَاب الْمقَال فليحذر المُصَنّف من الركون على مَا يُورِدهُ المتذهبون لأَنْفُسِهِمْ ولخصومهم من الْحجَج فَإِنَّهُ قد علق بِكُل طَائِفَة من الْعَدَاوَة لِلْأُخْرَى مَا يُوجب عدم الْقبُول من بَعضهم فِي بعض وَبِالْجُمْلَةِ فليبس المتعصب بِأَهْل لِأَن يُؤْخَذ الْحق من مؤلفاته فَإِذا إِذا لم ينْتَفع بِالْعلمِ ويهتدي بِمَا علف مِنْهُ فَكيف يَهْتَدِي بِهِ غَيره أَو يتَوَصَّل بِمَا جمعه إِلَى مَا هُوَ الْحق فالمصاب بالعمى لَا يَقُود الْأَعْمَى فَإِن فعل كَانَت ظلمات بَعْضهَا فَوق بعضه وَالْمَرِيض لَا يداوي من هُوَ مصاب مثل مَرضه وَلَو كَانَ صَادِقا فِيمَا يزعمه من اقتدار على المداواة كَانَت نَفسه الَّتِي بَين جَنْبَيْهِ أَحَق بِذَاكَ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 تَقْلِيد المتعصبين من عُلَمَاء الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَمن جملَة الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من الْإِنْصَاف التَّقْلِيد فِي علم الْجرْح وَالتَّعْدِيل لمن فِيهِ عصبية من المصنفين فِيهِ كَمَا يجده اللبيب كثيرا فَإِنَّهُ إِذا تصدى لذَلِك بعض المصابين بالتقليد كَانَ الْعدْل عِنْده من يُوَافقهُ فِي مذْهبه الَّذِي يَعْتَقِدهُ والمجروح من خَالفه كَائِنا من كَانَ وَمن خفى عَلَيْهِ فَلْينْظر مَا فِي مصنفات الْحفاظ بعد انتشار الْمذَاهب وتقيد النَّاس بهَا وَكَذَلِكَ مَا فِي كتب المؤرخين فَإِن الْمُوَافقَة فِي الْمَذْهَب حاملة على ترك التَّعَرُّض لموجبات الْجرْح وكتم الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة لذَلِك فَإِن وَقع التَّعَرُّض لشئ مِنْهَا نَادرا أَكثر المُصَنّف من التأويلات والمراوغات والتعسفات الْمُوجبَة لدفع كَون ذَلِك الْخَارِج خَارِجا وَإِن كَانَ الْكَلَام على أَحْوَال المخالفات كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ من ذَلِك فالفضائل مغموطة والرذائل منشورة من غير تَأْوِيل وَلَا إِحْسَان ظن وَبِالْجُمْلَةِ فالاهتمام فِي الْمُوَافق بِذكر المناقب دون المثالب وَفِي الْمُخَالف بِالْعَكْسِ من ذَلِك وَلَا أَقُول إِنَّهُم يتعمدون الْكَذِب ويكتمون الْحق فهم أَعلَى قدرا وَأَشد تورعا من ذَلِك وَلَكِن رسخ فِي قُلُوبهم حب مذاهبهم فَأحْسنُوا الظَّن بِأَهْلِهَا فتسبب عَن ذَلِك مَا ذكرنَا وَلم يشعروا بِأَن هَذَا الصَّنِيع من أَشد التعصب وأقبح الظُّلم بل ظنُّوا أَن ذَلِك من نصْرَة الدّين وَرفع منار المحقين وَوضع أَمر المبطلين غَفلَة مِنْهُم وتقليدا وَقد يَقع ذَلِك بَين أهل الْمَذْهَب الْوَاحِد مَعَ اتِّفَاقهم فِي التَّقْلِيد لإِمَام وَاحِد واعتقادهم بمعتقد وَاحِد فَإِذا تصدى أحدهم لتراجم أهل مذْهبه أَطَالَ ذيل الْكَلَام عِنْد ذكر شُيُوخه وتلامذته بِكُل مَا يقدر عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يُوسع نطاق الْمقَام عِنْد تَرْجَمته لمن عَلَيْهِ أَي يَد كَانَت فَإِذا ترْجم غير شُيُوخه وتلامذته وَأهل مودته طفف لَهُم تطفيفا وأوسعهم ظلما وحيفا وَإِذا كَانَ هَذَا مَعَ الِاتِّفَاق فِي الْمَذْهَب والمعتقد فَمَا ظَنك بِمَا يكون مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الِاخْتِلَاف فِي الْمَذْهَب والاتفاق فِي التسمي باسم وَاحِد إِمَّا بِاعْتِبَار الِاعْتِقَاد أَو بِاعْتِبَار أَمر آخر كَأَهل الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فَإِنَّهُم اخْتلفُوا فِي الْمذَاهب مَعَ اتِّفَاقهم على أَنهم أهل السّنة واشتراك غالبهم فِي اعْتِقَاد قَول الْأَشْعَرِيّ فَإِن دَائِرَة الأهوية حِينَئِذٍ تتسع ومحبة العصبية تكْثر كَمَا ترَاهُ كثيرا فِي تراجم بَعضهم لبَعض خُصُوصا فِيمَا بَين الْحَنَابِلَة وَمن عداهم من أهل الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَكَذَلِكَ فِيمَا بَين الْحَنَفِيَّة وَمن عداهم وَمن نظر فِي ذَلِك بِعَين الْإِنْصَاف علم بِالصَّوَابِ دع عَنْك مَا يَقع مَعَ الِاخْتِلَاف فِي الْمذَاهب والمعتقدات فَإِنَّهُ يبلغ الْأَمر إِلَى عَدَاوَة فَوق عَدَاوَة أهل الْملَل الْمُخْتَلفَة فطالب بالإنصاف لَا يلْتَفت إِلَى شَيْء مِمَّا يَقع من الْجرْح وَالتَّعْدِيل بالمذاهب والنحل فيقبلون جَمِيعًا إِلَّا أَن يكون مَا جَاءَ بِهِ المتذهب مقويا لبدعته أَو كَانَ على مَذْهَب لَا يرى بِالْكَذِبِ فِيهِ بَأْسا كَمَا هُوَ عِنْد غلاة الرافضة وَأما مَا عدى الْجرْح وَالتَّعْدِيل بالمذاهب والمعتقدات فَإِن كَانَ الْمُتَكَلّم فِي ذَلِك بَرِيئًا عَن المتذهب والتعصب كَمَا يرْوى عَن السّلف قبل انتشار الْمذَاهب فاحرص عَلَيْهِ واعمل بِهِ على اعْتِبَار صِحَة الرِّوَايَة وصدوره فِي الْوَاقِع وَأما بِاعْتِبَار كَونه جارحا أَو غير جارح فَذَلِك مفوض إِلَى نظر الْمُجْتَهد وَالَّذِي يَنْبَغِي التعويل عَلَيْهِ أَن القادح إِن كَانَ يرجع إِلَى أَمر يتَعَلَّق بالرواية كالكذب فِيهَا وضعت الْحِفْظ والمجازفة فَهَذَا هُوَ القادح الْمُعْتَبر وَإِن كَانَ يرجع إِلَى شَيْء آخر فَلَا اعْتِدَاد بِهِ وَإِن كَانَ الْمُتَكَلّم متلبسا بِشَيْء من هَذِه الْمذَاهب فَهُوَ مَقْبُول فِي جرح من يجرحه من الموافقين لَهُ وتزكية من يُزَكِّيه من الْمُخَالفين لَهُ وَأما مَا جَاءَ بِمَا يَقْتَضِي تَعْدِيل الْمُوَافق وجرح الْمُخَالف فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّوَقُّف فِيهِ حَتَّى يعرف من طَرِيق غَيره أَو يشْتَهر اشتهارا يقبله سامعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 المنافسة بَين الأقران بِلَا تبصر وَمن الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من الْإِنْصَاف مَا يَقع من المنافسة بَين المتقاربين فِي الْفَضَائِل أَو فِي الرِّئَاسَة الدِّينِيَّة أَو الدُّنْيَوِيَّة فَإِنَّهُ إِذا نفخ الشَّيْطَان فِي أنفهما وترقت المنافسة بلغت إِلَى حد يحمل كل وَاحِد مِنْهُمَا على أَن يرد مَا جَاءَ بِهِ الآخر إِذا تمكن من ذَلِك وَإِن كَانَ صَحِيحا جَارِيا على مَنْهَج الصَّوَاب وَقد رَأينَا وَسَمعنَا من هَذَا الْقَبِيل عجائب صنع فِيهَا جمَاعَة من أهل الْعلم صَنِيع أهل الطاغوت وردوا مَا جَاءَ بِهِ بَعضهم من الْحق وقابلوه بالجدال الْبَاطِل والمراء الْقَاتِل وَإِنِّي لأذكر أَيَّام اشْتِغَال الطّلبَة بالدرس عَليّ فِي كثير من الْعُلُوم وَكنت أُجِيب عَن مسَائِل ترد عَليّ يحررها الطّلبَة ويحررها غَيرهم من أهل الْعلم من أمكنة قريبَة وبعيدة فَكَانَ يتعصب على تِلْكَ الْأَجْوِبَة جمَاعَة من المشاركين لي فِي تدريس الطّلبَة فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد وَغَيرهَا وَقد يسلكون مسلكا غير هَذَا فَيَقَع مِنْهُم الإيهمام على الْعَوام بمخالفة ذَلِك الْكَلَام لما يَقُوله من يَعْتَقِدُونَ قَوْله من الْأَمْوَات فينشأ عَن ذَلِك فتن عَظِيمَة وحوادث جسيمة وَكَانَ بعض نبلائهم يكْتب على بعض مَا أكتبه ثمَّ يهديه إِلَى السَّائِل وَإِن كَانَ فِي بلد بعيد من دون أَن يَقْصِدهُ بسؤال وَلَا طلب مِنْهُ تعقب مَا أجبْت بِهِ من الْمقَال وَقد أَقف على شَيْء من ذَلِك فأجده فِي غَايَة من الإعتساف فأتعقبه تعقبا فِيهِ كشف عواره وإيضاح بواره وَقد يَنْضَم إِلَى ذَلِك كَلِمَات والاستشهاد بِأَبْيَات اقتضاها الشَّبَاب والنشاط واشتعال الْغَضَب لما أرَاهُ من التعصب والمنافسة على مَا لَيْسَ فِيهِ اخْتِيَار فَإِن وُرُود سُؤَالَات السَّائِلين إِلَيّ من الْعَامَّة والخاصة وانثيال المستفتين من كل جِهَة لم يكن بسعي مني وَلَا احتيال وَكَذَلِكَ اجْتِمَاع نبلاء الطّلبَة لدي وَأَخذهم عني وتعدد دروسهم عِنْدِي لَيْسَ لي فِيهِ حِيلَة وَلَا هُوَ من جهتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فَكَانَ هَذَا الصنع مِنْهُم يحملني على مجاوبتهم بِمَا لَا يُعجبنِي بعد الصحو من سكر الحداثة وَالْقِيَام من رقدة الشَّبَاب لَا لكَونه غير حق أَو لَيْسَ بصواب بل لكَون فِيهِ من سِهَام الملام وصوارم الْخِصَام مَا لَا يُنَاسب هَذَا الْمقَام فَإِذا كَانَ هَذَا فِي المشتركين فِي التدريس والأفتى وهما خارجان عَن مناصب الدُّنْيَا لِأَنَّهُمَا فِي دِيَارنَا لَا يقابلان بِشَيْء من الدُّنْيَا لَا من سُلْطَان وَلَا من غَيره من نوع الْإِنْسَان فَمَا بالك بالرئاسات الَّتِي لَهَا مدْخل فِي الدّين وَالدُّنْيَا أَو الَّتِي هِيَ خَاصَّة بالدنيا متمحضة لَهَا فَإِنَّهُ لَا شكّ أَن التنافس بَين أَهلهَا أهم من الرئاسات الدِّينِيَّة الْمَحْضَة الَّتِي لم تشب بِشَيْء من شوائب الدُّنْيَا فَيَنْبَغِي للمنصف أَن لَا يغْفل عَن هَذَا السَّبَب فَإِن النَّفس قد تنقبض عَن كَلَام من كَانَ منافسا فِي رُتْبَة مُعَارضا فِي فَضِيلَة وَإِن كَانَ حَقًا وَقد يحصل مَعَ النَّاظر فِيهِ زِيَادَة على مُجَرّد الانقباض فيتكلم بِلِسَانِهِ أَو يحرر بقلمه مَا فِيهِ مُعَارضَة للحق وَدفع للصَّوَاب فَيكون مؤثرا لحمية الْجَاهِلِيَّة وعصبية الطاغوت على الشَّرِيعَة المطهرة وَكفى بِهَذَا فَإِنَّهُ من الخذلان الْبَين نسْأَل الله الْهِدَايَة إِلَى سَبِيل الرشاد التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد وَمن أَسبَاب التعصب الحائلة بَين من أُصِيب بهَا وَبَين المتمسك بالإنصاف التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد وَكَثِيرًا مَا يَقع ذَلِك فِي أصُول الْفِقْه فَإِنَّهُ قد اخْتَلَط فِيهَا الْمَعْرُوف بالمنكر وَالصَّحِيح بالفاسد والجيد بالرديء فَرُبمَا يتَكَلَّم أهل الْعلم على مسَائِل من مسَائِل الرَّأْي ويحررونها ويقررونها وَلَيْسَت مِنْهُ فِي شي وَلَا تعلق لَهَا بِهِ بِوَجْه فَيَأْتِي الطَّالِب لهَذَا الْعلم إِلَى تِلْكَ الْمسَائِل فيعتقد أَنَّهَا مِنْهُ فَيرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 إِلَيْهَا الْمسَائِل الفروعية وَيرجع إِلَيْهَا عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة وَيعْمل بهَا فِي كثير من المباحث زاعما أَنَّهَا من أصُول الْفِقْه ذاهلا عَن كَونهَا من علم الرَّأْي وَلَو علم بذلك لم يَقع فِيهِ وَلَا ركن إِلَيْهِ فَيكون هَذَا وَأَمْثَاله قد وَقَعُوا فِي التعصب وفارقوا مَسْلَك الْإِنْصَاف وَرَجَعُوا إِلَى علم الرَّأْي وهم لَا يَشْعُرُونَ بِشَيْء من ذَلِك وَلَا يَفْطنُون بِهِ بل يَعْتَقِدُونَ أَنهم متشبثون بِالْحَقِّ متمسكون بِالدَّلِيلِ واقفون على الْإِنْصَاف خارجون عَن التعصب وَقل من يسلم من هَذِه الدقيقة وينجو من غُبَار هَذِه الأعاصير بل هم أقل من الْقَلِيل وَمَا أخطر ذَلِك وَأعظم ضَرَره وَأَشد تَأْثِيره وَأكْثر وُقُوعه وأسرع نفَاقه على أهل الْإِنْصَاف وأرباب الِاجْتِهَاد فَإِن قلت إِذا كَانَ هَذَا السَّبَب كَمَا زعمت من الغموض والدقة وَوُقُوع كثير من المنصفين فِيهِ وهم لَا يَشْعُرُونَ فَمَا أحقه بِالْبَيَانِ وأولاه بالإيضاح وأجرده بالكشف حَتَّى يتَخَلَّص عَنهُ الواقعون فِيهِ وينجوا مِنْهُ المتهافتون إِلَيْهِ قلت اعْلَم أَن مَا كَانَ من أصُول الْفِقْه رَاجعا إِلَى لُغَة الْعَرَب رُجُوعا ظَاهرا مكشوفا كبناء الْعَام على الْخَاص وَحمل الْمُطلق على الْمُقَيد ورد الْمُجْمل إِلَى الْمُبين وَمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمر وَالنَّهْي وَنَحْو هَذِه الْأُمُور فَالْوَاجِب على الْمُجْتَهد أَن يبْحَث عَن مواقع الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة وموارد كَلَام أَهلهَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي مثل ذَلِك فَمَا وَافقه فَهُوَ الأحق بِالْقبُولِ وَالْأولَى بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فَإِذا اخْتلف أهل الْأُصُول فِي شَيْء من هَذِه المباحث كَانَ الْحق بيد من هُوَ أسعد بلغَة الْعَرَب هَذَا على فرض عدم وجود دَلِيل شَرْعِي يدل على ذَلِك فَإِن وجد فَهُوَ الْمُقدر على كل شَيْء وَإِذا أردْت الزِّيَادَة فِي الْبَيَان والتكثر من الْإِيضَاح بِضَرْب من التَّمْثِيل وطرق من التَّصْوِير فَاعْلَم أَنه قد وَقع الْخلاف فِي أَنه هَل يبْنى الْعَام على الْخَاص مُطلقًا أَو مَشْرُوطًا بِشَرْط أَن يكون الْخَاص مُتَأَخِّرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَوَقع الْخلاف فِي أَنه هَل يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد مَعَ اخْتِلَاف السَّبَب أم لَا وَوَقع الْخلاف فِي معنى الْأَمر الْحَقِيقِيّ هَل هُوَ الْوُجُوب أم غَيره وَوَقع الْخلاف فِي معنى النَّهْي الْحَقِيقِيّ هَل هُوَ التَّحْرِيم أَو غَيره فَإِذا أردْت الْوُقُوف على الْحق فِي بحث من هَذِه الأبحاث فَانْظُر فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة واعمل على مَا هُوَ مُوَافق لَهَا مُطَابق لما كَانَ عَلَيْهِ أَهلهَا واجتنب مَا خالفها فَإِن وجدت مَا يدل على ذَلِك من أَدِلَّة الشَّرْع كَمَا تقف عَلَيْهِ فِي الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة من كَون الْأَمر يُفِيد الْوُجُوب وَالنَّهْي يُفِيد التَّحْرِيم فَالْمَسْأَلَة أصولية لكَونهَا قَاعِدَة كُلية شَرْعِيَّة لكَون دليلها شَرْعِيًّا كَمَا أَن مَا يُسْتَفَاد من اللُّغَة من الْقَوَاعِد الْكُلية أصولية لغوية فَهَذِهِ المباحث وَمَا يشابهها من مسَائِل النّسخ ومسائل الْمَفْهُوم والمنطوق الراجعة إِلَى لُغَة الْعَرَب المستفادة مِنْهَا على وَجه يكون قَاعِدَة كُلية هِيَ مسَائِل الْأُصُول والمرجع لَهَا الَّذِي يعرف بِهِ راجحها من مرجوحها هُوَ الْعلم الَّذِي هِيَ مستفادة مِنْهُ مَأْخُوذَة من موارده ومصادره وَأما مبَاحث الْقيَاس فغالبها من بحث الرَّأْي الَّذِي لَا يرجع إِلَى شَيْء مِمَّا تقوم بِهِ الْحجَّة وَبَيَان ذَلِك أَنهم جعلُوا لِلْعِلَّةِ مسالك عشرَة لَا تقوم الْحجَّة بِشَيْء مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ رَاجعا إِلَى الشَّرْع كمسلك النَّص على الْعلَّة أَو مَا كَانَ مَعْلُوما من لُغَة الْعَرَب كالإلحاق بمسلك إِلْغَاء الْفَارِق وَكَذَلِكَ قِيَاس الأولى الْمُسَمّى عِنْد الْبَعْض بفحوى الْخطاب وَأما المباحث الَّتِي يذكرهَا أهل الْأُصُول فِي مقاصده كَمَا فَعَلُوهُ فِي مقصد الْكتاب ومقصد السّنة وَالْإِجْمَاع فَمَا كَانَ من تِلْكَ المباحث الْكُلية مستفادا من أَدِلَّة الشَّرْع فَهُوَ أصولي شَرْعِي وَمَا كَانَ مستفادا من مبَاحث اللُّغَة فَهُوَ أصولي لغَوِيّ وَمَا كَانَ مستفادا من غير هذَيْن فَهُوَ من علم الرَّأْي الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 كررنا عَلَيْك التحذير مِنْهُ وَمن الْمَقَاصِد الْمَذْكُورَة فِي الْكتب الْأُصُولِيَّة الَّتِي هِيَ من مَحْض الرَّأْي الِاسْتِحْسَان والاستصحاب والتلازم وَأما المباحث الْمُتَعَلّقَة بِالِاجْتِهَادِ والتقليد وَشرع من قبلنَا وَالْكَلَام على أَقْوَال أَصْحَابه فَهِيَ شَرْعِيَّة فَمَا انتهض عَلَيْهِ دَلِيل الشَّرْع مِنْهَا فَهُوَ حق وَمَا خَالفه فَبَاطِل وَأما المباحث الْمُتَعَلّقَة بالترجيح فَإِن كَانَ الْمُرَجح مستفادا من الشَّرْع فَهُوَ شَرْعِي وَإِن كَانَ مستفادا من علم من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة فالاعتبار بذلك الْعلم فَإِن كَانَ لَهُ مدْخل فِي التَّرْجِيح كعلم اللُّغَة فَإِنَّهُ مَقْبُول وَإِن كَانَ لَا مدْخل لَهُ إِلَّا لمُجَرّد الدَّعْوَى كعلم الرَّأْي فَإِنَّهُ مَرْدُود وَإِذا تقرر هَذَا ظهر لَك مِنْهُ فَائِدَتَانِ الأولى إرشادك إِلَى أَن بعض مَا دون أهل الْأُصُول فِي الْكتب الْأُصُولِيَّة لَيْسَ من الْأُصُول فِي شَيْء بل هُوَ من علم الرَّأْي الَّذِي هُوَ عَن الشَّرْع وَمَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِهِ من الْعُلُوم بمعزل الثَّانِيَة إرشادك إِلَى الْعُلُوم الَّتِي تستمد مِنْهَا الْمسَائِل الْمُدَوَّنَة فِي الْأُصُول لترجع إِلَيْهَا عِنْد النّظر فِي تِلْكَ الْمسَائِل حَتَّى تكون على بَصِيرَة ويصفو لَك هَذَا الْعلم ويخلص عَن مشوب الْكَذِب فَإِن قلت إِذا كَانَ الْأَمر كَمَا ذكرته فَمَا تَقول فِيمَا يزعمه أهل الْأُصُول من أَنه لَا يقبل فِي إِثْبَات مسَائِله إِلَّا الْأَدِلَّة القطعية قلت هَذِه دَعْوَى مِنْهُم يكذبها الْعَمَل ويدفعها مَا دونوه فِي هَذَا الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 من أَدِلَّة مسَائِله فَإِن قلت إِذا كَانَ استمداد هَذَا الْعلم عِنْدهم من الْكَلَام والعربية وَالْأَحْكَام كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَيْسَ ذَلِك دَعْوَى مُجَرّدَة فَإِنَّهُم قد صَرَّحُوا فِي علم الْكَلَام بِأَنَّهُ لَا يقبل فِي إِثْبَات مسَائِله إِلَّا الْأَدِلَّة القطعية وصرحوا فِي الْكَلَام على نقل اللُّغَة أَنَّهَا لَا تثبت بالآحاد وَإِذا كَانَ مَا مِنْهُ الاستمداد مثبتا ببراهين قَطْعِيَّة كَانَ مَا استمد مِنْهُ مثله فِي ذَلِك قلت هَذِه دَعْوَى على دَعْوَى وظلمات بَعْضهَا فَوق بعض أما علم الْكَلَام فغالب مسَائِله مَبْنِيَّة على مُجَرّد الدعاوي على الْعقل الَّتِي هِيَ كسراب بقيعة إِذا جَاءَهُ طَالب الْهِدَايَة لم يجد شَيْئا وَقد قدمنَا الْإِشَارَة إِلَى هَذَا وَأما مَا كَانَ من مسَائِله مأخوذا من الشَّرْع فَهِيَ مسَائِل شَرْعِيَّة وَلَا فرق بَين شَرْعِي وشرعي من هَذِه الْحَيْثِيَّة وَأما اللُّغَة فقد وَقع الْخلاف بَين أهل الْعلم هَل يشْتَرط فِي إِثْبَاتهَا أَن يكون النَّقْل متواترا أم لَا وَالْحق بيد من لم يثبت هَذَا الشَّرْط فَإِن سَابق المشتغلين بِنَقْل علم اللُّغَة ولاحقهم قد رأيناهم يثبتونها لمُجَرّد وجود الْحَرْف فِي بَيت من أَبْيَات شعرائهم وَكلمَة من كَلِمَات بلغائهم وَمن أنكر هَذَا فَهُوَ مكابر لَا يسْتَحق تَطْوِيل الْكَلَام مَعَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الختلفة طَبَقَات طلاب الْعلم كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى للْعلم كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّالِثَة كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الرَّابِعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الْمُخْتَلفَة إِذْ قد انْتهى بِنَا الْكَلَام فِي بَيَان الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من الْإِنْصَاف إِلَى هَذِه الْغَايَة وتغلغل بِنَا الْبَحْث إِلَى ذكر مَا ذَكرْنَاهُ من تِلْكَ الدقائق الَّتِي يَنْبَغِي لكل عَالم ومتعلم أَن تكون نصب عَيْنَيْهِ فِي إقدامه وإحجامه وَأَن تكون ثَابِتَة فِي تصَوره فِي جَمِيع أَحْوَاله وَمَا أحقها بذلك وأولاها بالحرص على مَا هُنَالك فَإِنَّهَا فَوَائِد لَا تُوجد فِي كتاب وفرائد لَا يَخْلُو أَكْثَرهَا عَن قُوَّة كثير من المرشدين الْمُحَقِّقين وَإِن حَال بَينهم وَبَين إبرازها إِلَى الْفِعْل حجاب فلنتكلم الْآن على مَا يَنْبَغِي لطَالب الْعلم أَن يتعلمه من الْعُلُوم طَبَقَات طلاب الْعلم فَأَقُول إِنَّهَا لما كَانَت تَتَفَاوَت المطالب فِي هَذَا الشَّأْن وتتباين الْمَقَاصِد بتفاوت همم الطالبين وأغراض القاصدين فقد ترْتَفع همة الْبَعْض مِنْهُم فيقصد الْبلُوغ إِلَى مرتبَة فِي الطّلب لعلم الشَّرْع ومقدما لَهَا يكون عِنْد تَحْصِيلهَا إِمَامًا مرجوعا إِلَيْهِ مستفادا مِنْهُ مأخوذا بقوله مدرسا مفتيا مصنفا وَقد تقصر همته عَن هَذِه الْغَايَة فَتكون غَايَة مقْصده ومعظم مطلبه وَنِهَايَة رغبته أَن يعرف مَا طلبه مِنْهُ الشَّارِع من أَحْكَام التَّكْلِيف والوضع على وَجه يسْتَقلّ فِيهِ بِنَفسِهِ وَلَا يحْتَاج إِلَى غَيره من دون أَن يتَصَوَّر الْبلُوغ إِلَى مَا تصَوره أهل الطَّبَقَة الأولى من تعدِي فَوَائِد معارفهم إِلَى غَيرهم وَالْقِيَام فِي مقَام أكَابِر الْأَئِمَّة ونحارير هَذِه الْأمة وَقد يكون نِهَايَة مَا يُريدهُ وَغَايَة مَا يَطْلُبهُ أمرا دون أهل الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَذَلِكَ كَمَا يكون من جمَاعَة يرغبون إِلَى إصْلَاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بِمَا يقتدرون بِهِ على فهم مَعَاني مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الشَّرْع وَعدم تحريفه وَتَصْحِيفه وتغيير إعرابه من دون قصد مِنْهُم إِلَى الِاسْتِقْلَال بل يعزمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 على التعويل على السُّؤَال عِنْد عرُوض التَّعَارُض والاحتياج إِلَى التَّرْجِيح فَهَذِهِ ثَلَاث طَبَقَات للطلبة من المتشرعين الطالبين للاطلاع على مَا جَاءَ فِي الْكتاب وَالسّنة إِمَّا كلا أَو بَعْضًا بِحَسب اخْتِلَاف الْمَقَاصِد وتفاوت المطالب وَثمّ طبقَة رَابِعَة يقصدون الْوُصُول إِلَى علم من الْعُلُوم أَو علمين أَو أَكثر لغَرَض من الْأَغْرَاض الدِّينِيَّة والدنيوية من دون تصور الْوُصُول إِلَى علم الشَّرْع فَكَانَت الطَّبَقَات أَربع وَيَنْبَغِي لمن كَانَ صَادِق الرَّغْبَة قوي الْفَهم ثاقب النّظر عَزِيز النَّفس شهد الطَّبْع عالي الهمة سامي الغريزة أَن لَا يرضى لنَفسِهِ بالدون وَلَا يقنع بِمَا دون الْغَايَة وَلَا يقْعد عَن الْجد وَالِاجْتِهَاد المبلغين لَهُ إِلَى أَعلَى مَا يُرَاد وَأَرْفَع مَا يُسْتَفَاد فَإِن النُّفُوس الأبية والهمم الْعلية لَا ترْضى بِدُونِ الْغَايَة فِي المطالب الدُّنْيَوِيَّة من جاه أَو مَال أَو رئاسة أَو صناعَة أَو حِرْفَة حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ (إِذا غامرت فِي شرف مدوم ... فَلَا تقنع بِمَا دون النُّجُوم) (فَطَعِمَ الْمَوْت فِي أَمر حقير ... كطعم الْمَوْت فِي أَمر عَظِيم) وَقَالَ آخر مُشِيرا إِلَى هَذَا الْمَعْنى (إِذا لم تكن ملكا مُطَاعًا ... فَكُن عبدا لخالقه مُطيعًا) (وَإِن لم تملك الدُّنْيَا جَمِيعًا ... كَمَا تهواه فاتركها جَمِيعًا) (هما شَيْئَانِ من ملك ونسك ... ينيلان الْفَتى شرفا رفيعا) وَقَالَ آخر (فإمَّا مَكَانا يضْرب النَّجْم دونه ... سرادقه أَو باكيا لحمام) وَقد ورد هَذَا الْمَعْنى كثيرا فِي النّظم والنثر وَهُوَ الْمطلب الَّذِي تنشط إِلَيْهِ الهمم الشَّرِيفَة وتقبله النُّفُوس الْعلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَإِذا كَانَ هَذَا شَأْنهمْ فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة الَّتِي هِيَ سريعة الزَّوَال قريبَة الاضمحلال فَكيف لَا يكون ذَلِك من مطَالب المتوجهين إِلَى مَا هُوَ أشرف مطلبا وَأَعْلَى مكسبا وَأَرْبع مرَادا وَأجل خطرا وَأعظم قدرا وأعود نفعا وَأتم فَائِدَة وَهِي المطالب الدِّينِيَّة مَعَ كَون الْعلم أَعْلَاهَا وأولاها بِكُل فَضِيلَة وأجلها وأكملها فِي حُصُول الْمَقْصُود وَهُوَ الْخَيْر الأخروي فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد قرن الْعلمَاء فِي كِتَابه بِنَفسِهِ وَمَلَائِكَته فَقَالَ (شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأولُوا الْعلم) وَقصر الخشية لَهُ الَّتِي هِيَ سَبَب الْفَوْز لَدَيْهِ عَلَيْهِم فَقَالَ (إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء) وَأخْبرهُ عباده بِأَنَّهُ يرفع عُلَمَاء أمته دَرَجَات فَقَالَ (يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات) وَأخْبرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وناهيك بِهَذِهِ المزية الجليلة والمنقبة النبيلة فَأكْرم بِنَفس تطلب غَايَة المطالب فِي أشرف المكاسب وأحبب بِرَجُل أَرَادَ من الْفَضَائِل مَا لَا تدانيه فَضِيلَة وَلَا تساميه منقبة وَلَا تقاربه مكرمَة فَلَيْسَ بعد مَا يتصوره أهل الطَّبَقَة الأولى مُتَصَوّر فَإِن نالوه على الْوَجْه الَّذِي تصوروه فقد ظفروا من خير العاجلة والآجلة وَشرف الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بِمَا لَا يظفر بِهِ إِلَّا من صنع صنيعهم ونال نيلهم وَبلغ مبالغهم وَإِن اخترمهم دونه مخترم وَحَال بَينهم وَبَينه حَائِل فقد أعذروا وَلَيْسَ على من طلب جسميا ورام أمرا عَظِيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 إِن منعته عَنهُ الْمَوَانِع وصرفته عَنهُ الصوارف من بَأْس وَمَا أحسن مَا قَالَه الشريف الرضي الموسوي (لَا بُد أَن أركبها صعبة ... وقاحة تَحت علام وقاح) (اجهدها أَو تنثني بالردا ... دون الَّذِي أملت أَو بالنجاح) أما فَتى نَالَ المنى فاشتفي ... أَو بَطل ذاق الردى فاستراح) وَكنت فِي أَيَّام الطّلب وعصر الشَّبَاب قد نظمت قصيدة فِي هَذَا الْمَعْنى على هَذَا النمط أذكر مِنْهَا الْآن أبياتا هِيَ (قد أتعب السّير رحالي وَقد ... آن لَهَا بعد الوحى أَن تراح) (فَمَا يهاب العتب من فَازَ من ... غَايَة أمْنِيته بالنجاح) سعى فَلَمَّا ظَفرت بالمنى ... يَمِينه ألْقى العصى واستراح) فيا أَيهَا الْعَالم الصعلوك قد ظَفرت برتبة أرفع من رتب الْمُلُوك ونلت من الْمَعَالِي أَعْلَاهَا وَمن المناقب والفضائل أولاها بالشرف وأولاها فَإِن كل الْمَعَالِي الدُّنْيَوِيَّة وَإِن تناهت فَلَيْسَتْ بِاعْتِبَار الْمَعَالِي العلمية والشرف الْحَاصِل بهَا فِي ورد وَلَا صدر فَإِنَّهُ يحصل للْعَالم أَولا وبالذات الْفَوْز بالنعيم الأخروي الدَّائِم السرمدي الَّذِي لَا تعدل مِنْهُ الدُّنْيَا بأسرها قيد شَرط بل مِقْدَار سَوط وَيحصل لَهُ ثَانِيًا وبالعرض من شرف الدُّنْيَا مَا يصغر عِنْده كل شرف ويتقاصر دونه كل مجد ويتضاءل لَدَيْهِ كل فَخر وَإِن من فهم مِقْدَار مَا فِي الْعُلُوم من الْعُلُوّ كَانَ عِنْد نَفسه أعز قدرا وَأَعْلَى محلا وَأجل رُتْبَة من الْمُلُوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَإِن كَانَ متضايق الْمَعيشَة يركب نَعْلَيْه ويلبس طمريه وَقلت فِي هَذَا الْمَعْنى من أَبْيَات (قد كنت ذَا طمرين أمرح فِي ... الْعلَا مرح الْأَغَر بِجَانِب الميدان) (مَا كنت مضطهدا فأطلب رفْعَة ... أَو خاملا فَأُرِيد شهرة شاني) فاحرص أَيهَا الطَّالِب على أَن تكون من أهل الطَّبَقَة الأولى فَإنَّك إِذا ترقيت من الْبِدَايَة التصورية إِلَى الْعلَّة الغائية الَّتِي هِيَ أول الْفِكر وَآخر الْعَمَل كنت فَرد الْعَالم وَوَاحِد الدَّهْر وقريع النَّاس وفخر الْعَصْر وَرَئِيس الْقرن وَأي شرف يسامي شرفك أَو فَخر يداني فخرك وَأَنت تَأْخُذ دينك عَن الله وَعَن رَسُوله لَا تقلد فِي ذَلِك أحدا وَلَا تقتدي بقول رجل وَلَا تقف عِنْد رَأْي وَلَا تخضع لغير الدَّلِيل وَلَا تعول على غير النَّقْد هَذِه وَالله رُتْبَة تسمو على السَّمَاء ومنزلة تتقاصر عِنْدهَا النُّجُوم فَكيف بك إِذا كنت مَعَ هَذِه المزية مرجعا فِي دين الله ملْجأ لعباد الله مترجما لكتاب الله وَسنة رَسُول الله يَدُوم لَك الْأجر وَيسْتَمر لَك النَّفْع وَيعود لَك الْخَيْر وَأَنت بَين أطباق الثرى وَفِي عداد الْمَوْتَى بعد مئتين من السنين وَلَا يحول بَيْنك وَبَين هَذَا الْمطلب الشريف مَا تنازعك نَفسك إِلَيْهِ من مطَالب الدُّنْيَا الَّتِي تروقها وتود الظفر بهَا فَإِنَّهُ حَاصِلَة لَك على الْوَجْه الَّذِي تحب والسبيل الَّذِي تُرِيدُ بعد تحصيلك لما أرشدتك إِلَيْهِ من الرُّتْبَة العلمية وَتَكون إِذْ ذَاك مخطوبا لَا خاطبا ومطلوبا لَا طَالبا وعَلى فرض أَنَّهَا تكدي عَلَيْك المطالب وتعاند الْأَسْبَاب فلست تعدم الكفاف الَّذِي لَا بُد لَك مِنْهُ فَمَا رَأينَا عَالما وَلَا متعلما مَاتَ جوعا وَلَا أعوزه الْحَال حَتَّى انكشفت عَوْرَته عريا أَو لم يجد مَكَانا يكنه ومنزلا يسكنهُ وَلَيْسَ الدُّنْيَا إِلَّا هَذِه الْأُمُور وَمَا عَداهَا فضلات مشغلة للأحياء مهلكة للأموات (أَنا إِن عِشْت لست أعدم قوتا ... وَإِذا مت لست أعدم قبرا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وعَلى الْعَاقِل أَن يعلم أَن لن يُصِيبهُ إِلَّا مَا كتبه الله لَهُ وَلَا يعدوه مَا قدره لَهُ وَأَنه قد فرغ من أَمر رزقه الَّذِي فَرْضه الله لَهُ فَلَا الْعُقُود يصده وَلَا السَّعْي واتعاب النَّفس يُوجب الْوُصُول إِلَى مَا لم يَأْذَن بِهِ الله وَهَذَا مَعْلُوم من الشَّرْع قد توَافق عَلَيْهِ صَرِيح الْكتاب وَالسّنة وتطابقت عَلَيْهِ الشَّرَائِع وَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا فَمَا أَحَق هَذَا النَّوْع الْعَاقِل من الْحَيَوَان الَّذِي دارت رحى التَّكْلِيف عَلَيْهِ ونيطت أَسبَاب الْخَيْر وَالشَّر بِهِ أَن يشْتَغل بِطَلَب مَا أمره الله بِطَلَبِهِ وَتَحْصِيل مَا خلقه الله لتحصيله وَهُوَ الِامْتِثَال لما أمره بِهِ من طَاعَته والانتهاء مِمَّا نَهَاهُ عَنهُ من مَعَاصيه وَإِن أعظم مَا يُريدهُ الله مِنْهُ ويقربه إِلَيْهِ ويفوز بِهِ عِنْده أَن يشغل نَفسه ويستغرق أوقاته فِي طلب معرفَة هَذِه الشَّرِيعَة الَّتِي شرعها الله لِعِبَادِهِ وَينْفق ساعاته فِي تَحْصِيل هَذَا الْأَمر الَّذِي جَاءَت بِهِ رسل الله إِلَى عباده وَنزلت بِهِ مَلَائكَته فَإِن جَمِيع مَا يُريدهُ الله من عباده عَاجلا وآجلا وَمَا وعدهم بِهِ من خير وَشر قد صَار فِي هَذِه الشَّرِيعَة فَأكْرم بِرَجُل تاقت نَفسه عَن أَن يكون عبد بَطْنه إِلَى أَن يكون عبد دينه حَتَّى يَنَالهُ على الْوَجْه الْأَكْمَل ويعرفه على الْوَجْه الَّذِي أَرَادَهُ الله مِنْهُ ويرشد إِلَيْهِ من عباده من أَرَادَ لَهُ الرشاد وَيهْدِي بِهِ من اسْتحق الْهِدَايَة فَانْظُر أعزّك الله كم الْفرق بَين الرجلَيْن وَتَأمل قدر مَسَافَة التَّفَاوُت بَين الْأَمريْنِ هَذَا يسْتَغْرق جَمِيع أوقاته وَينْفق كل ساعاته فِي تَحْصِيل طَعَامه وَشَرَابه وملبسه وَمَا لَا بُد مِنْهُ قَامَ أَو قعد سعى أَو وقف وَهَذَا يُقَابله بسعي غير هَذَا السَّعْي وَعمل غير ذَلِك الْعَمَل فينفق ساعاته ويستغرق أوقاته فِي طلب مَا جَاءَ عَن الله وَعَن رَسُوله من التكاليف الَّتِي كلف بهَا عباده وَمَا أذن بِهِ من إبلاغه إِلَيْهِم من أُمُور دنياهم وأخراهم لينْتَفع بذلك ثمَّ ينفع بِهِ من يَشَاء الله من عباده ويبلغ إِلَيْهِم حجَّة الله ويعرفهم شرائعه فَلَقَد تعاظم الْفرق بَين النَّوْعَيْنِ وتفاوت تَفَاوتا بقصر التَّعْبِير عَنهُ ويعجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الْبَيَان لَهُ إِلَّا على وَجه الْإِجْمَال بِأَن يُقَال إِن أحد النَّوْعَيْنِ قد الْتحق بالدواب وَالْآخر بِالْمَلَائِكَةِ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا قد سعى سعيا شابه من الْتحق بِهِ فَإِن الدَّابَّة يستعملها مَالِكهَا فِي مَصَالِحه وَيقوم بطعامها وشرابها وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَمن نظر فِي الْأَمر بِعَين البصيرة وتأمله حق التَّأَمُّل وجد عَيْش من شغل نَفسه بِالطَّاعَةِ وفرغها للْعلم وَلم يلْتَفت إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة من أَمر دُنْيَاهُ تَجدهُ أرفه وحاله أقوم وسروره أتم وَتلك حِكْمَة الله الْبَالِغَة الَّتِي يتَبَيَّن عِنْدهَا أَنه لن يعدو الْمَرْء مَا قدر لَهُ وَلنْ يفوتهُ مَا كَانَ يُدْرِكهُ وكما أَن هَذَا الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ ثَابت فِي الشَّرِيعَة مُصَرح بِهِ فِي غير موطن مِنْهَا قد أجراه الله على لِسَان الْجَبَابِرَة من عباده وعتاة أمته حَتَّى قَالَ الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ فِي بعض خطبه مَا مَعْنَاهُ أَيهَا النَّاس إِن الله كفانا أَمر الرزق وأمرنا بِالْعبَادَة فسعينا لما كفيناه وَتَركنَا السَّعْي للَّذي أمرنَا بِهِ فليتنا أمرنَا بِطَلَب الرزق وكفينا الْعِبَادَة حَتَّى نَكُون كَمَا أَرَادَهُ الله منا هَذَا معنى كَلَامه لَا لَفظه فَلَمَّا بلغ كَلَامه هَذَا بعض السّلف المعاصرين لَهُ قَالَ إِن الله لَا يخرج الْفَاجِر من هَذِه الديار وَفِي قلبه حِكْمَة ينْتَفع بهَا الْعباد إِلَّا أخرجهَا مِنْهُ وَإِن هَذَا مَا أخرجه من الْحجَّاج فَانْظُر هَذَا الْجَبَّار كَيفَ لم يخف عَلَيْهِ هَذَا الْأَمر مَعَ مَا هُوَ فِيهِ من التجبر وَسَفك الدِّمَاء وهتك الْحرم والتجرؤ على الله وعَلى عباده وتعدي حُدُوده فَمَا أحقه بِأَن لَا يخفى على من هُوَ أَلين مِنْهُ قلبا وَأَقل مِنْهُ ظلما وأخف مِنْهُ تجبرا وَأقرب مِنْهُ من خير وَأبْعد مِنْهُ من شَرّ وَإِن من تصور هَذَا الْأَمر حق التَّصَوُّر وتعقله كَمَا يَنْبَغِي انْتفع بِهِ انتفاعا عَظِيما ونال بِهِ من الْفَوَائِد جسيما وَالْهِدَايَة بيد الْهَادِي جلّ جَلَاله وتقدست أسماؤه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَإِن لحسن النِّيَّة وإخلاص الْعَمَل تَأْثِيرا عَظِيما فِي هَذَا الْمَعْنى فَمن تعكست عَلَيْهِ بعض أُمُوره من طلبة الْعلم أَو أكلف عَلَيْهِ مطالبه وتضايقت مقاصده فَليعلم أَنه بِذَنبِهِ أُصِيب وبعدم إخلاصه عُوقِبَ أَو أَنه أُصِيب بِشَيْء من ذَلِك محنة لَهُ وابتلاء واختبارا لينْظر كَيفَ صبره واحتماله ثمَّ يفِيض عَلَيْهِ بعد ذَلِك من خَزَائِن الْخَيْر ومخازن العطايا مَا لم يكن بحسبان وَلَا يبلغ إِلَيْهِ تصَوره فليعض على الْعلم بناجذه ويشد عَلَيْهِ يَده ويشرح بِهِ صَدره فَإِنَّهُ لَا محَالة وَاصل إِلَى الْمنزل الَّذِي ذكرنَا نائل للمرتبة الَّتِي بَينا وَمَا أحسن مَا حَكَاهُ بعض أهل الْعلم عَن الْحَكِيم أفلاطون فَإِنَّهُ قَالَ الْفَضَائِل مرّة الْأَوَائِل حلوة العواقب والرذائل حلوة الْأَوَائِل مرّة العواقب وَقد صدق فَإِن من شغل أَوَائِل عمره وعنفوان شبابه بِطَلَب الْفَضَائِل لَا بُد أَن يفطم نَفسه عَن بعض شهواتها ويحسبها عَن الْأُمُور الَّتِي يشْتَغل بهَا أترابه ومعارفه من الملاهي ومجالس الرَّاحَة وشهوات الشَّبَاب فَإِذا انْتهى إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من تِلْكَ اللَّذَّات والخلاعات وجد فِي نَفسه بِحكم الشَّبَاب وحداثة السن وميل الطَّبْع مَا هُنَاكَ مرَارَة وَاحْتَاجَ إِلَى مجاهدة يرد بهَا جَامع طبعه ومتفلت هَوَاهُ ومتؤثب نشاطه وَلَا يتم لَهُ ذَلِك إِلَّا بإلجام شَهْوَته بلجام الصَّبْر ورباطها بمربط الْعِفَّة وَكَيف لَا يجد مرَارَة الْحَبْس للنَّفس من كَانَ فِي زَاوِيَة من زَوَايَا الْمَسَاجِد ومقصورة من مقاصر الْمدَارِس لَا ينظر إِلَّا فِي دفتر وَلَا يتَكَلَّم إِلَّا فِي فن من الْفُنُون وَلَا يتحدث إِلَّا إِلَى عَالم أَو متعلم وأترابه ومعارفه من قرَابَته وجيرانه وَذَوي سنه وَأهل نشأته وبلده يتقبلون فِي رافه الْعَيْش ورائق القصف وَإِذا انْضَمَّ لذَلِك الطَّالِب إِلَى هَذِه المرارة الْحَاصِلَة لَهُ بعزف النَّفس عَن شهواتها مرَارَة أُخْرَى هِيَ اعواز الْحَال وضيق المكسب وحقارة الدخل فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يجد من المرارة المتضاعفة مَا يعظم عِنْده موقعه لكنه يذهب عَنهُ قَلِيلا قَلِيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فَأول عقدَة تنْحَل عَنهُ من عقد هَذِه المرارة عِنْدَمَا يتَصَوَّر مَا يؤول بِهِ الْأَمر الْأَمر وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ حَاله من الْوُصُول إِلَى مَا قد وصل إِلَيْهِ من يجده فِي عصره من الْعلمَاء ثمَّ تنْحَل عَنهُ الْعقْدَة الثَّانِيَة بفهم المباحث وَحفظ الْمسَائِل وَإِدْرَاك الدقائق فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك يجد من اللَّذَّة والحلاوة مَا يذهب بِكُل مرَارَة ثمَّ إِذا نَالَ من المعارف حظا وأحرز مِنْهَا نَصِيبا وَدخل فِي عداد أهل الْعلم كَانَ متقلبا فِي اللَّذَّات النفسانية الَّتِي هِيَ اللَّذَّات بِالْحَقِيقَةِ وَلَا يعْدم عِنْد ذَلِك من اللَّذَّات الجسمانية مَا هُوَ أفضل وَأحلى من اللَّذَّات الَّتِي يتقلب فِيهَا كل من كَانَ من أترابه وَهُوَ إِذا وازن بَين نَفسه الشَّرِيفَة وَبَين فَرد معارفه الَّذين لم يشتغلوا بِمَا اشْتغل بِهِ اغتبط بِنَفسِهِ غَايَة الِاغْتِبَاط وَوجد من السرُور والحبور مَا لَا يقادر قدره هَذَا بِاعْتِبَار مَا يجده من اللَّذَّة النفسانية عِنْد أَن يجد نَفسه عَالِمَة وَنَفس معارفه جاهلة ويزداد ذَلِك بِمَا يحصل لَهُ من لَوَازِم الْعلم من الْجَلالَة والفخامة وَبعد الصيت وَعظم الشُّهْرَة ونبالة الذّكر ورفعة الْمحل وَالرُّجُوع إِلَيْهِ فِي مسَائِل الدّين وتقديمه على غَيره فِي مطَالب الدُّنْيَا وخضوع من كَانَ يزري عَلَيْهِ ويستخفف مَكَانَهُ من بني عصره فَإِذا جمعهم مجْلِس من الدُّنْيَا كَانُوا لَهُ بِمَنْزِلَة الخدم وَإِن كَانَ على غَايَة من الإفلاس والعدم ثمَّ إِذا تناهى حَاله وَبلغ من الْحَظ فِي الْعلم إِلَى مَكَان عَليّ انثال عَلَيْهِ الطّلبَة للعلوم وَأَقْبل إِلَيْهِ المستفتون فِي أَمر الدّين وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ مُلُوك الدُّنْيَا فضلا عَن غَيره فَيكون عِنْد هَذَا عيشه حلوا مَحْضا وعمره مغمورا باللذات النفسانية والجسمانية ويرتفع أمره عَن هَذِه الدرجَة ارْتِفَاع لَا يقادر قدره إِذا تصور مَاله عِنْد الله من عَظِيم الْمنزلَة وَعلي الرُّتْبَة وعظيم الْجَزَاء الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود أَولا وبالذات من عُلُوم الدّين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَكنت فِي أَوَائِل أَيَّام طلبي للْعلم فِي سنّ الْبلُوغ وَبعدهَا بِقَلِيل تصورت مَا ذكرت هُنَا فَقلت (سددت الْأذن عَن دَاعِي ... التصابي فَلَا دَاع لدي وَلَا مُجيب) (وأنفقت الشبيبة غير وان ... لمجد الشيب فليهن المشيب) وَقلت أحب رامز إِلَى هَذَا الْمَعْنى (وأبدي رَغْبَة لنجود نجد ... وشوقا لَا نتشاقى مِنْهُ ريحًا) (وَمَا بسوى العقيق أَقَامَ قلبِي ... وأضحى بَين أهليه طريحا) وَأما كَون الرذائل حلوة الْأَوَائِل مرّة العواقب فَصدق هَذَا غير خَافَ على ذِي لب فَإِن من أرسل عنان شبابه فِي البطالات وَحل رِبَاط نَفسه فأجراها فِي ميادين اللَّذَّات أدْرك من اللَّذَّة الجسمانية من ذَلِك بِحَسب مَا يتَّفق لَهُ مِنْهَا وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ ذَا مَال وجمال وَلكنهَا تَنْقَضِي عَنهُ اللَّذَّة وتفارقه هَذِه الْحَلَاوَة إِذا تَكَامل عقلهَا وَرجح فهمه وَقَوي فكره فَإِنَّهُ لَا يدْرِي عِنْد ذَلِك مَا يدهمه من المرارات الَّتِي مِنْهَا الندامة على مَا اقترفه من معاصي الله ثمَّ الْحَسْرَة على مَا فَوته من الْعُمر فِي غير طائل ثمَّ على مَا أنفقهُ من المَال فِي غير حلّه وَلم يفز من الْجَمِيع بِشَيْء وَلَا ظفر من الْكل بطائل وتزداد حسرته وتتعاظم كربته إِذا قَاس نَفسه بِنَفس من أشتغل بِطَلَب الْمَعَالِي من أترابه فِي مقتبل شبابه فَإِنَّهُ لَا يزَال عِنْد موازنة ذَاته بِذَاتِهِ وَصِفَاته بصفاته فِي حسرات متجددة وزفرات متصاعدة وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ بَيته فِي الْعلم طَوِيل الدعائم وسلفه من المتأهلين لتِلْك الْمَعَالِي والمكارم فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تذْهب عَنهُ سكرة البطالة وتنقشع عَنهُ عماية الْجَهَالَة بكروب طَوِيلَة وهموم ثَقيلَة وَقد فَاتَهُ مَا فَاتَ وحيل بَين العير والنزوان وَحَال الجريض دون القريض وَفِي الصَّيف ضيعت اللَّبن فَانْظُر أعزّك الله أَي الرجلَيْن أربح صَفْقَة وَأكْثر فَائِدَة وَأعظم عَائِدَة فقد بَين الصُّبْح لذِي عينين وَعند الصَّباح يحمد الْقَوْم السرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ولنعد الْآن إِلَى بَيَان مَا يحْتَاج إِلَيْهِ أهل تِلْكَ الطَّبَقَات من الْعُلُوم وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يشتغلوا بِهِ فَنَقُول كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى للْعلم أما أهل الطَّبَقَة الأولى الَّتِي هِيَ فِي أرفع مَكَان وأعز مَحل يرتقي إِلَيْهِ عُلَمَاء الشَّرِيعَة على حسب مَا قدمنَا بَيَانه فَيَنْبَغِي لمن تصور الْوُصُول إِلَيْهَا وَقصد الْإِدْرَاك لَهَا علم النَّحْو أَن يشرع بِعلم النَّحْو مبتدئا بالمختصرات كمنظومة الحريري المسماه بالملحة وشروحها فَإِذا فهم ذَلِك وأتقنه انْتقل إِلَى = كَافِيَة ابْن الْحَاجِب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وشروحها و = مغنى اللبيب = وشروحه هَذَا بِاعْتِبَار هَذِه الديار اليمنية إِذا كَانَ طَالب الْعلم فِيهَا لِأَنَّهُ يجد شُيُوخ هَذِه المصنفات وَلَا يجد شُيُوخ غَيرهَا من مصنفات النَّحْو إِلَّا بِاعْتِبَار الوجادة لَا بِاعْتِبَار السماع فَإِذا كَانَ ناشئا فِي أَرض يشتغلون فِيهَا بِغَيْر هَذِه المصنفات فَعَلَيهِ الِاشْتِغَال بِمَا اشْتغل بِهِ مشائخ تِلْكَ الأَرْض مبتدئا بِمَا هُوَ أقربها تناولا منتهيا إِلَى مَا هُوَ النِّهَايَة للمشتغلين بذلك الْفَنّ وَذَلِكَ الْقطر فأعرف هَذَا وَأعلم أَن مَا أُسَمِّيهِ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار مَا يشْتَغل بِهِ النَّاس فِي الديار اليمنية فَمن كَانَ فِي غَيرهَا فليأخذ عَن شيوخها فِي كل فن مِقْدَارًا يُوَافق مَا أذكرهُ هُنَا وَأعلم أَنه لَا يَسْتَغْنِي طَالب الْعلم المتصور المتبحر فِي علم الشَّرِيعَة العازم على أَن يكون من أهل الطَّبَقَة الأولى عَن إتقان مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ شرح الرضي على الكافية من المباحث اللطيفة والفوائد الشَّرِيفَة وَكَذَلِكَ مَا فِي = مغنى اللبيب = من الْمسَائِل الغريبة وَيكون اشْتِغَاله بِسَمَاع شُرُوح المختصرات بعد أَن تكون هَذِه المختصرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 مَحْفُوظَة لَهُ حفظا يمليه عَن ظهر قلب ويبديه من طرف لِسَانه وَأَقل الْأَحْوَال أَن يحفظ مُخْتَصرا مِنْهَا هُوَ أَكْثَرهَا مسَائِل وأنفعها فَوَائِد وَلَا يفوتهُ النّظر فِي مثل = الألفية = لِابْنِ مَالك وشروحها = والتسهيل = وَشَرحه و = الْمفضل = للزمخشري و = الْكتاب = لسيبويه فَإِنَّهُ يجد فِي هَذِه الْكتب من لطائف الْمسَائِل النحوية ودقائق المباحث الْعَرَبيَّة مَا لم يكن قد وجده فِي تِلْكَ وَيَنْبَغِي للطَّالِب الْمَذْكُور أَن يطلع على مختصرات الْمنطق وَيَأْخُذهُ عَن شُيُوخه وَيفهم مَعَانِيه بعد أَن يفهم النَّحْو يفهم مَا يَبْتَدِئ بِهِ من كتبه ليستعين بذلك على فهم مَا يُورِدهُ المصنفون فِي مطولات كتب النَّحْو ومتوسطاتها من المباحث النحوية ويكفيه فِي ذَلِك مثل الْمُخْتَصر الْمَعْرُوف = بإيساغوجي = أَو = تَهْذِيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 السعد = وَشرح من شروحهما وَسَيَأْتِي بَيَان مَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَال بِهِ من فن الْمنطق إِن شَاءَ الله وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا إِلَّا الِاسْتِعَانَة بِمَعْرِِفَة مبَاحث التصورات والتصديقات إِجْمَالا لِئَلَّا يعثر على بحث من مبَاحث الْعَرَبيَّة من نَحْو أَو صرف أَو بَيَان قد سلك فِيهِ صَاحب الْكتاب مسلكا على النمط الَّذِي سلكه أهل الْمنطق فَلَا يفهمهُ كَمَا يَقع كثيرا من الْحُدُود والإلزامات فَإِن أهل الْعَرَبيَّة يَتَكَلَّمُونَ بذلك بِكَلَام المناطقة فَإِذا كَانَ الطَّالِب عاطلا عَن علم الْمنطق بالمرة فَلم يفهم تِلْكَ المباحث كَمَا يَنْبَغِي علم الصّرْف ثمَّ بعد ثُبُوت الملكة لَهُ فِي النَّحْو وَإِن لم يكن قد فرغ من سَماع من سميناه يشرع فِي الِاشْتِغَال فِي علم الصّرْف = كالشافية = وَشَرحهَا و = الريحانية ولامية الْأَفْعَال = وَلَا يكون عَالما بِعلم الصّرْف كَمَا يَنْبَغِي إِلَّا بعد أَن تكون الشافية من محفوظاته لانتشار مسَائِل فن الصّرْف وَطول ذيل قَوَاعِده وتشعب أبوابه وَلَا يفوتهُ الِاشْتِغَال بشرح = الرضى = على الشافية بعد أَن يشْتَغل بِمَا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أخصر مِنْهُ من شرحها = كشرح الجاربردي و = لطف الله الغياث = فَإِن فِيهِ من الْفَوَائِد الصرفيه مَا لَا يُوجد فِي غَيره علم الْمعَانِي وَالْبَيَان ثمَّ يَنْبَغِي لَهُ بعد ثُبُوت الملكة لَهُ نَحوا وصرفا وَإِن لم يكن قد فرغ من سَماع كتب الفنين أَن يشرع فِي علم الْمعَانِي وَالْبَيَان فيبتدئ بِحِفْظ مُخْتَصر من مختصرات الْفَنّ يشْتَمل على مهمات مسَائِله = كالتلخيص = و = شرح السعد = الْمُخْتَصر وَمَا عَلَيْهِ من الْحَوَاشِي وَشَرحه المطول وحواشيه فَإِنَّهُ إِذا حفظ هَذَا الْمُخْتَصر وحقق الشرحين الْمَذْكُورين وحواشيهما بلغ إِلَى مَكَان من الْفَنّ مكين فقد أحاطت هَذِه الْجُمْلَة بِمَا فِي مؤلفات الْمُتَقَدِّمين من شرَّاح الْمِفْتَاح وَنَحْوه وَإِذا ظفر بِشَيْء من مؤلفات عبد القاهر الْجِرْجَانِيّ والسكاكي فِي هَذَا الْفَنّ فليمعن النّظر فِيهِ فَإِنَّهُ يقف فِي تِلْكَ المؤلفات على فَوَائِد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فن الْوَضع والمناظرة وَيَنْبَغِي لَهُ حَال الِاشْتِغَال بِهَذَا الْفَنّ أَن يشْتَغل بفنون مختصرة قريبَة المأخذ قَليلَة المباحث كفن الْوَضع وفن المناظرة ويكفيه فِي الأول رِسَالَة الْوَضع وَشرح من شروحها وَفِي الثَّانِي أدب الْبَحْث العضديه وَشرح من شروحها وَقد تشعبت مسَائِل علم المناظرة فِي الْأَزْمِنَة الْأَخِيرَة فوصل رجل من الأكراد من طلبة الْعلم وَمَعَهُ رِسَالَة وَشَرحهَا يذكر أَنَّهَا لبَعض عُلَمَاء الْهِنْد وَلم يعرف اسْمه وفيهَا من الْفَوَائِد وشروحها والتفاصيل مَا لَا يُوجد فِي الْآدَاب العضدية وشروحها إِلَّا مَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كالرموز وَقد نقلهَا النَّاس عَنهُ وانتشرت بَين عُلَمَاء صنعاء وَهِي فِي نَحْو ثَلَاثَة كراريس مُشْتَمِلَة على مُقَدّمَة وَتِسْعَة مبَاحث وَلَا يَسْتَغْنِي طَالب هَذَا الْفَنّ عَن إمعان النّظر فِيهَا وَقد اشتغلت بِهَذِهِ الرسَالَة وقابلتها مَعَه على نسخته وَلم يكن لَهُ من الْفَهم والاستعداد مَا يبلغ بِهِ إِلَى أَن تُؤْخَذ عَنهُ هَذِه الرسَالَة وَشَرحهَا رِوَايَة وَلَا دراية مَعَ كَونه كَانَ من أهل الصّلاح والإكباب على الطّلب وَالرَّغْبَة فِي الْعلم وكما تشعبت مبَاحث علم المناظرة فقد تشعبت أَيْضا عِنْد الْمُتَأَخِّرين مبَاحث علم البديع فَإِن الْمَوْجُود فِي كتب الْمُتَقَدِّمين من أَنْوَاعه اللفظية والمعنوية دون أَرْبَعِينَ نوعا وَعند أهل البديعيات زِيَادَة على مائَة وَخمسين نوعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَأَخْبرنِي الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الرئيس من عُلَمَاء الْحرم الْمَكِّيّ عِنْد وفوده إِلَى صنعاء أَنه قد أنهاها بعض الْمُتَأَخِّرين إِلَى نَحْو سبع مائَة نوع وَأَنه وقف على رِسَالَة أَو منظومة الشَّك مني لبَعض الْمُتَأَخِّرين تشْتَمل على ذَلِك وَأَنا بِحَمْد الله قد استخرجت أنواعا من البديع وَذكرت لَهَا أَسمَاء خَارِجَة عَن الْأَسْمَاء الَّتِي ذكرهَا أهل هَذَا الْعلم وَذكرت أبياتا اشْتَمَلت على ذَلِك المؤلفات الْمُشْتَملَة على بَيَان مُفْرَدَات اللُّغَة عُمُوما وخصوصا ثمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَن يكْتب على مؤلفات اللُّغَة الْمُشْتَملَة على بَيَان مفرداتها = كالصحاح = و = الْقَامُوس = و = شمس الْعُلُوم = و = ضِيَاء الحلوم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 و = ديوَان الْأَدَب = وَنَحْو ذَلِك من المؤلفات الْمُشْتَملَة على بَيَان اللُّغَة الْعَرَبيَّة عُمُوما أَو خُصُوصا كالمؤلفات المختصة بغريب الْقُرْآن وَالْحَدَث علم الْمنطق ثمَّ يشْتَغل بعد هَذَا بِعلم الْمنطق فيحفظ مُخْتَصرا من مختصراته = كالتهذيب = أَو = الشمسية = ثمَّ يَأْخُذ فِي سَماع شروحها على أهل الْفَنّ فَإِن الْعلم بِهَذَا الْفَنّ على الْوَجْه الَّذِي يَنْبَغِي يَسْتَفِيد بِهِ الطَّالِب مزِيد إِدْرَاك وَكَمَال استعداد عِنْد وُرُود الْحجَج الْعَقْلِيَّة عَلَيْهِ وَأَقل الْأَحْوَال أَن يكون على بَصِيرَة عِنْد وُقُوفه على المباحث الَّتِي يوردها المؤلفون فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد من المباحث المنطقية كَمَا يَفْعَله كثير من المؤلفين فِي الْأُصُول وَالْبَيَان والنحو فن أصُول الْفِقْه ثمَّ يشْتَغل بفن أصُول الْفِقْه بعد أَن يحفظ مُخْتَصرا من مختصراته الْمُشْتَملَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 على مهمات مسَائِله = كمختصر الْمُنْتَهى = أَو = جمع الْجَوَامِع = أَو = الْغَايَة = ثمَّ يشْتَغل بِسَمَاع شُرُوح هَذِه المختصرات كشرح الْعَضُد على = الْمُخْتَصر = وَشرح الْمحلى على = الْجَوَامِع = وَشرح ابْن الإِمَام على = الْغَايَة = وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يطول الباع فِي هَذَا الْفَنّ ويطلع على مؤلفات أهل الْمذَاهب الْمُخْتَلفَة = كالتنقيح = و = التَّوْضِيح = و = التَّلْوِيح = و = الْمنَار = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وتحرير ابْن الْهمام وَلَيْسَ فِي هَذِه المؤلفات مثل التَّحْرِير الْمَذْكُور وَشَرحه وَمن أَنْفَع مَا يستعان بِهِ على بُلُوغ دَرَجَة التَّحْقِيق فِي هَذَا الْفَنّ الاكباب على الْحَوَاشِي الَّتِي ألفها الْمُحَقِّقُونَ على الشَّرْح العضدي وعَلى شرح الْجمع علم الْكَلَام أَو أصُول الدّين ثمَّ يَنْبَغِي لَهُ بعد إتقان فن أصُول الْفِقْه وَإِن لم يكن قد فرغ من سَماع مطولاته أَن يشْتَغل بفن الْكَلَام الْمُسَمّى بأصول الدّين وَيَأْخُذ من مؤلفات الأشعرية بِنَصِيب وَمن مؤلفات الْمُعْتَزلَة بِنَصِيب وَمن المؤلفات الماتريدية بِنَصِيب وَمن مؤلفات المتوسطين بَين هَذِه الْفرق كالزيدية بِنَصِيب فَإِنَّهُ إِذا فعل كل هَذَا عرف الاعتقادات كَمَا يَنْبَغِي وأنصف كل فرقة بالترجيح أَو التجريح على بَصِيرَة وقابل كل قَول بِالْقبُولِ أَو الرَّد على حَقِيقَة وَمن أحسن مؤلفات الْمُعْتَزلَة المجتبي وَمن أحسن مؤلفات متأخري الأشعرية = المواقف العضدية = وَشَرحهَا للشريف و = الْمَقَاصِد السعدية = وَشَرحهَا لَهُ وَإِيَّاك أَن يثنيك عَن الِاشْتِغَال بِهَذَا الْفَنّ مَا تسمعه من كَلِمَات بعض أهل الْعلم فِي التنفير عَنهُ والتزهيد فِيهِ والتقليل لفائدته فَإنَّك إِن عملت على ذَلِك وَقبلت مَا يُقَال فِي الْفَنّ قبل مَعْرفَته كنت مُقَلدًا فِيمَا لَا يدْرِي مَا هُوَ - - _ والكون فِي الطَّبَقَة الأولية بل أعرفهُ حق مَعْرفَته وَأَنت بعد ذَلِك مفوض فَمَا تَقوله من مدح أَو قدح فَإِنَّهُ لَا يُقَال لَك حِينَئِذٍ أَنْت تمدح مَا لَا تعرفه أَو تقدح فِيمَا لَا تَدْرِي مَا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 على أَنه يتَعَلَّق بذلك فَائِدَة وَزِيَادَة بَصِيرَة فِي عُلُوم أُخْرَى كعلم التَّفْسِير وَعلم تَفْسِير الحَدِيث فَإنَّك إِذا بلغت إِلَى ذَلِك علمت مَا فِي الْعلم بِهَذَا الْفَنّ من الْفَائِدَة لَا سِيمَا عِنْد قِرَاءَة = كشاف = الزَّمَخْشَرِيّ وَمن سلك مسلكه فَإِن فِي مباحثهم من التدقيقات الراجعة إِلَى علم الْكَلَام مَا لَا يفهمها حق الْفَهم إِلَّا من عرف الْفَنّ واطلع على مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة والأشعرية وَسَائِر الْفرق وَإِنِّي أَقُول بعد هَذَا إِنَّه لَا يَنْبَغِي لعالم أَن يدين بِغَيْر مَا دَان بِهِ السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم من الْوُقُوف على مَا تَقْتَضِيه أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وإبراز الصِّفَات كَمَا جَاءَت ورد علم الْمُتَشَابه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَعدم الِاعْتِدَاد بِشَيْء من تِلْكَ الْقَوَاعِد الْمُدَوَّنَة فِي هَذَا الْعلم المبنية على شفى جرف هار من أَدِلَّة الْعقل الَّتِي لَا تعقل وَلَا تثبت إِلَّا بِمُجَرَّد الدعاوي والافتراء على الْعقل بِمَا يُطَابق الْهوى وَلَا سِيمَا إِذا كَانَت مُخَالفَة لأدلة الشَّرْع الثَّابِتَة فِي الحَدِيث وَالسّنة فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ حَدِيث خرافة ولعبة لاعب فَلَا سَبِيل للعباد يتوصلون بِهِ إِلَى معرفَة مَا يتَعَلَّق بالرب سُبْحَانَهُ وبالوعد والوعيد وَالْجنَّة وَالنَّار والمبدأ والمعاد إِلَّا مَا جَاءَت بِهِ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه عَن الله سُبْحَانَهُ وَلَيْسَ للمعقول وُصُول إِلَى تِلْكَ الْأُمُور وَمن زعم ذَلِك فقد كلف الْعُقُول مَا أراحها الله مِنْهُ وَلم يتعبدها بِهِ بل غَايَة مَا تُدْرِكهُ وَجل مَا تصل إِلَيْهِ هُوَ ثُبُوت الْخَالِق الْبَارِي وَأَن هَذِه المصنوعات لَهَا صانع وَهَذِه الموجودات لَهَا موجد وَمَا عدى ذَلِك من التفاصيل الَّتِي جاءتنا فِي كتب الله عز وَجل وعَلى ألسن رسله فَلَا يُسْتَفَاد من الْعقل بل من ذَلِك النَّقْل الَّذِي مِنْهُ جَاءَت وإلينا بِهِ وصلت وَاعْلَم أَنِّي عِنْد الِاشْتِغَال بِعلم الْكَلَام وممارسة تِلْكَ الْمذَاهب والنحل لم أزدد بهَا إِلَّا حيرة وَلَا اسْتَفَدْت مِنْهَا إِلَّا الْعلم بِأَن تِلْكَ المقالات خزعبلات فَقلت إِذْ ذَاك مُشِيرا إِلَى مَا استفدته من هَذَا الْعلم (وَغَايَة مَا حصلته من مبحاثي ... وَمن نَظَرِي من بعد طول التدبر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 (هُوَ الْوَقْف مَا بَين الطَّرِيقَيْنِ حيرة ... فَمَا علم من لم يلق غير التحير) (على أنني قد خضت مِنْهُ غماره ... وَمَا قنعت نَفسِي بِدُونِ التبحر) وَعند هَذَا رميت بِتِلْكَ الْقَوَاعِد من حالق وطرحتها خلف الْحَائِط وَرجعت إِلَى الطَّرِيقَة المربوطة بأدلة الْكتاب وَالسّنة المعمودة بالأعمدة الَّتِي هِيَ أوثق مَا يعْتَمد عَلَيْهِ عباد الله وهم الصَّحَابَة وَمن جَاءَ بعدهمْ من عُلَمَاء الْأمة المقتدين بهم السالكين مسالكهم فطاحت الْحيرَة وانجابت ظلمَة العماية وانقشعت وانكشفت ستور الغواية وَللَّه الْحَمد على أَنِّي وَللَّه الشُّكْر لم أشتغل بِهَذَا الْفَنّ إِلَّا بعد رسوخ الْقدَم فِي أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة فَكنت إِذا عرضت مَسْأَلَة من مسَائِله مَبْنِيَّة على غير أساس رجعت إِلَى مَا يَدْفَعهَا من علم الشَّرْع ويدمغ زائفها من أنوار الْكتاب وَالسّنة ولكنني كنت أقدر فِي نَفسِي أَنه لَو لم يكن لدي إِلَّا تِلْكَ الْقَوَاعِد والمقالات فَلَا أجد حِينَئِذٍ إِلَّا حيرة وَلَا أَمْشِي إِلَّا فِي ظلمَة ثمَّ إِذا ضربت بهَا وَجه قَائِلهَا وَدخلت إِلَى تِلْكَ الْمسَائِل من الْبَاب الَّذِي أَمر الله بِالدُّخُولِ مِنْهُ كنت حِينَئِذٍ فِي رَاحَة من تِلْكَ الْحيرَة وَفِي دعة من تِلْكَ الخزعبلات وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين عدد مَا حَمده الحامدون بِكُل لِسَان فِي كل زمَان علم التَّفْسِير ثمَّ بعد إِحْرَاز هَذِه الْعُلُوم يشْتَغل بِعلم التَّفْسِير فَيَأْخُذ عَن الشُّيُوخ مَا يحْتَاج مثله إِلَى الْأَخْذ = كالكشاف = ويكب على كتب التَّفْسِير على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا وتباين مقاديرها ويعتمد فِي تَفْسِير كَلَام الله سُبْحَانَهُ مَا ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ عَن الصَّحَابَة فَإِنَّهُم مَعَ كَونهم أعلم من غَيرهم بمقاصد الشَّارِع هم أَيْضا من أهل اللِّسَان الْعَرَبِيّ فَمَا وجده من تفاسير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْكتب الْمُعْتَبرَة = كالأمهات = وَمَا يلْتَحق بهَا قدمه على غَيره بل يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْأَخْذ بِهِ وَلَا يحل لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 مُخَالفَته وَأجْمع مؤلف فِي ذَلِك وأنفعه وَأَكْثَره فَائِدَة = الدّرّ المنثور = للسيوطي وَمَا ذكرنَا من تَقْدِيم مَا ورد عَن الصَّحَابَة مُقَيّد بِمَا إِذا لم يُخَالف مَا يعلم من لُغَة الْعَرَب وَلم تكن تِلْكَ الْمُخَالفَة لأجل معنى شَرْعِي فَإِن كَانَت لِمَعْنى شَرْعِي فقد تقرر أَن الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة مُقَدّمَة على اللُّغَوِيَّة وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يطول الباع فِي هَذَا الْعلم ويطالع مطولات التفاسير = كمفاتيح الْغَيْب = للرازي فَإِن الْمعَانِي الْمَأْخُوذَة من كتاب الله سُبْحَانَهُ كثير الْعدَد يسْتَخْرج مِنْهَا كل عَالم بِحَسب استعداده وَقدر ملكته فِي الْعُلُوم وَلَا يغتر بِمَا يزعمه بعض أهل الْعلم من أَنه يَكْفِي الِاطِّلَاع على تَفْسِير آيَات الْكتاب الْعَزِيز كَمَا وَقع لكثير من التآليف فِي تَفْسِير آيَات مَخْصُوصَة مسميا لَهَا = بآيَات الْأَحْكَام = كالموزعي وَصَاحب = الثمرات = فَإِن الْقُرْآن جَمِيعه حَتَّى قصصه وَأَمْثَاله لَا يَخْلُو من فَوَائِد مُتَعَلقَة بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة ولطائف لَا يَأْتِي الْحصْر عَلَيْهَا لَهَا مدْخل فِي الدّين يعرف هَذَا من يعرفهُ ويجهله من يجهله وَيَنْبَغِي أَن يقدم على قِرَاءَة التفاسير الِاطِّلَاع على عُلُوم الْأَدَاء وكل مَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لَهُ مدْخل فِي التِّلَاوَة وَسَائِر الْعُلُوم الْمُتَعَلّقَة بِالْكتاب الْعَزِيز وَمَا أَنْفَع الإتقان للسيوطي فِي مثل هَذِه الْأُمُور ثمَّ لَا يهمل النّظر فِي الْكتب الْمُدَوَّنَة فِي الْقرَاءَات وَمَا يتَعَلَّق بهَا = كالشاطبية = وَشَرحهَا و = الطّيبَة = وشروحها علم السّنة إِذا عرفت مَا يَنْبَغِي لمن أَرَادَ أَن يكون من أهل الطَّبَقَة الأولى فَاعْلَم أَن أعظم الْعُلُوم فَائِدَة وأكثرها نفعا وأوسعها قدرا وأجلها خطرا علم السّنة المطهرة فَإِنَّهُ الَّذِي تكلفل بِبَيَان الْكتاب الْعَزِيز ثمَّ اسْتَقل بِمَا لَا ينْحَصر من الْأَحْكَام وَلست أَقُول إِن الطَّالِب يشْتَغل بِهِ فِي وَقت معِين وَلَا أَقُول إِنَّه يقدمهُ على هَذِه الْعُلُوم الْمُتَقَدّمَة أَو يُؤَخِّرهُ عَنْهَا بل أَقُول إِنَّه يَنْبَغِي لطَالب الْعلم بعد أَن يُقيم لِسَانه بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من النَّحْو أَن يقبل على سَماع الْكتب الَّتِي جمع فِيهَا أهل الْعلم متون الْأَحَادِيث مَقْطُوعَة الْأَسَانِيد = كجامع الْأُصُول = و = الْمَشَارِق = و = كنز الْعمَّال = و = الْمُنْتَقى = لِابْنِ تَيْمِية و = بُلُوغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المرام = لِابْنِ حجر و = الْعُمْدَة = ثمَّ يسمع الْكتب الَّتِي فِيهَا الْأَسَانِيد = كالأمهات السِّت = و = مُسْند أَحْمد = و = صَحِيح = ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَابْن الْجَارُود و = سنَن = الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا بلغت إِلَيْهِ قدرته وَوجد فِي أهل عصره شُيُوخه من كتب السّنة جد فِي سَمَاعه واجتهد بِحَسب مَا يُمكنهُ وَيكون هَذَا الِاشْتِغَال بِهَذَا الْعلم الْجَلِيل مصاحبا لاشتغاله بِجَمِيعِ الْعُلُوم الْمُتَقَدّمَة من الْبِدَايَة إِلَى النِّهَايَة فَإِذا قضى وطره من سَماع كتب الْمَتْن والإسناد اشْتغل بشروح هَذِه المؤلفات فَيسمع مِنْهَا مَا تيَسّر لَهُ سَمَاعه ويطالع مَا لم يَتَيَسَّر لَهُ سَمَاعه ويستكثر من النّظر فِي المؤلفات فِي علم الْجرْح وَالتَّعْدِيل بل يتوسع فِي هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الْعلم بِكُل مُمكن وأنفع مَا ينْتَفع بِهِ مثل = النبلاء = و = تَارِيخ الْإِسْلَام = و = تذكرة الْحفاظ = و = الْمِيزَان = فَإِنَّهُ يجد فِي هَذِه المؤلفات من الِاخْتِلَاف فِي المترجم لَهُ وَذكر أَسبَاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل مَا لَا يجده فِي غَيرهَا = كتهذيب الْكَمَال = وفروعه علم مصطلح الحَدِيث وَهَذَا بعد أَن يشْتَغل بِشَيْء من علم اصْطِلَاح أهل الحَدِيث كمؤلفات = ابْن الصّلاح = و = الألفية = للعراقي وشروحها وَلَا يَسْتَغْنِي عَن المطولات بالمختصرات لَا سِيمَا إِذا بَالغ مؤلفوها فِي الِاخْتِصَار = كالنخبة = وَمَا هُوَ مشابه لَهَا علم التَّارِيخ وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يشْتَغل بمطالعة الْكتب المصنعة فِي تَارِيخ الدول وحوادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الْعَالم فِي كل سنة كَمَا فعله الطَّبَرِيّ فِي = تَارِيخه = وَابْن كثير فِي = كَامِله = وكما فعله كثير من المؤرخين على اخْتِلَاف مسالكهم فِي تَخْصِيص التصنيف بدولة من الدول أَو طَائِفَة من طوائف أهل الْعلم وَالْأَدب أَو فرقة من فرق أهل الرئاسات أَو غير ذَلِك فَإِن للاطلاع على ذَلِك فَائِدَة جليلة لَا يعرفهَا إِلَّا من عرف أَحْوَال الْعَالم وأتقن أهل كل عصر مِنْهُم وَعلم بأوقات موالدهم ووفياتهم مؤشر الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى فَإِذا أحَاط الطَّالِب بِمَا ذَكرْنَاهُ من الْعُلُوم فقد صَار حِينَئِذٍ فِي الطَّبَقَة الْعَالِيَة من طَبَقَات الْمُجْتَهدين وكملت لَهُ جَمِيع أَنْوَاع عُلُوم الدّين وَصَارَ قَادِرًا على اسْتِخْرَاج الْأَحْكَام من الْأَدِلَّة مَتى شَاءَ وَكَيف شَاءَ وَلكنه يَنْبَغِي لَهُ أَن يطلع على عُلُوم أُخْرَى ليكمل لَهُ مَا قد حازه من الشّرف وَيتم لَهُ مَا قد ظفر بِهِ من بُلُوغ الْغَايَة علم الْفِقْه فَمن ذَلِك علم الْفِقْه وَأَقل الْأَحْوَال أَن يعرف مُخْتَصرا فِي فقه كل مَذْهَب من الْمذَاهب الْمَشْهُورَة فَإِن معرفَة مَا يذهب إِلَيْهِ أهل الْمذَاهب الإسلامية قد يَحْتَاجهُ الْمُجْتَهد لإِفَادَة المتذهبين السَّائِلين عَن مَذَاهِب أئمتهم وَقد يَحْتَاجهُ لدفع من يشنع عَلَيْهِ فِي اجْتِهَاده كَمَا يَقع ذَلِك كثيرا من أهل التعصب وَالتَّقْصِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فَإِنَّهُ إِذا قَالَ لَهُ قد قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة الْعَالم الْفُلَانِيّ أَو عمل عَلَيْهَا أهل الْمَذْهَب الْفُلَانِيّ كَانَ ذَلِك دافعا لصولته كاسرا لسورته وَقد وقعنا فِي كثير من هَذِه الْأُمُور مَعَ الْمُقَصِّرِينَ وتخلصنا عَن شغبهم بحكاية مَا أنكروه علينا عَن بعض من يعتقدونه من الْأَمْوَات وَمَا أَنْفَع الِاطِّلَاع على المؤلفات البسيطة فِي حِكَايَة مَذَاهِب السّلف وَأهل الْمذَاهب وحكاية أدلتهم وَمَا دَار بَين المتناظرين مِنْهُم إِمَّا تَحْقِيقا أَو فرضا كمؤلفات ابْن الْمُنْذر وَابْن قدامَة وَابْن حزم وَابْن تَيْمِية وَمن سلك مسالكهم فَإِن الْمُجْتَهد يزْدَاد بذلك علما إِلَى علمه وبصيرة إِلَى بصيرته وَقُوَّة فِي الِاسْتِدْلَال إِلَى قوته فَإِن تِلْكَ المؤلفات هِيَ مطارح أنظار الْمُحَقِّقين ومطامح أفكار الْمُجْتَهدين وَكَثِيرًا مَا يحصل للْعَالم من النكت واللطائف الصَّالِحَة للاستدلال بهَا مَا لَا يحصل للْعَالم الآخر وَإِن تقاربت معارفهما وتوازنت علومها بل قد يَتَيَسَّر لمن هُوَ أقل علما مَا لَا يَتَيَسَّر لمن هُوَ أَكثر علما من الِاسْتِدْلَال وَالْجَوَاب والنقض والمعارضة وكما قيل (ورأيان أحزم من وَاحِد ... ورأي الثَّلَاثَة لَا ينْقض) وكما قيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 (وَلَكِن تَأْخُذ الأفهام مِنْهُ ... على قدر القرائح والعلوم) وَلَا سِيمَا مؤلفات أهل الْإِنْصَاف الَّذين لَا يتعصبون لمَذْهَب من الْمذَاهب وَلَا يقصدون إِلَّا تَقْرِير الْحق وتبيين الصَّوَاب فَإِن الْمُجْتَهد الطَّالِب للحق ينْتَفع بهَا ويستعين بِأَهْلِهَا فَينْظر فِيمَا قد حرروه من الْأَدِلَّة وقدروه من المباحث وَيعْمل فكره فِي ذَلِك فَيَأْخُذ مَا يرتضيه وَيزِيد عَلَيْهِ مَا بلغت إِلَيْهِ قدرته ووصلت إِلَيْهِ ملكته غير تَارِك للبحث عَن تَصْحِيح مَا قد صححوه وتضعيف مَا قد ضَعَّفُوهُ على الْوَجْه الْمُعْتَبر من لَوَازِم الْإِنْصَاف وَالِاجْتِهَاد وَمن حق الْإِنْصَاف ولازم الِاجْتِهَاد أَن لَا يحسن الظَّن أَو يسيئه بفرد من أَفْرَاد أهل الْعلم على وَجه يُوجب قبُول مَا جَاءَ بِهِ أَو رده من غير إِعْمَال فكر وإمعان نظر وكشف وَبحث فَإِن هَذَا شَأْن المقلدين وصنيع المتعصبين وَإِن غرته نَفسه بِأَنَّهُ من المنصفين وَأَن لَا يغتر بِالْكَثْرَةِ فَإِن الْمُجْتَهد هُوَ الَّذِي لَا ينظر إِلَى من قَالَ بل إِلَى مَا قَالَ فَإِن وجد نَفسه تنازعه إِلَى الدُّخُول فِي قَول الْأَكْثَرين وَالْخُرُوج عَن قَول الأقلين أَو إِلَى مُتَابعَة من لَهُ جلالة قدر ونبالة ذكر وسعة دَائِرَة علم لَا لأمر سوى ذَلِك فَيعلم أَنه قد بَقِي فِيهِ عرق من عروق العصبية وَشعْبَة من شعب التَّقْلِيد وَأَنه لم يوف الِاجْتِهَاد حَقه وَبِالْجُمْلَةِ فالمجتهد على التَّحْقِيق وَهُوَ من يَأْخُذ الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة من مواطنها على الْوَجْه الَّذِي قدمْنَاهُ ويفرض نَفسه مَوْجُودا فِي زمن النُّبُوَّة وَعند نزُول الْوَحْي وَإِن كَانَ فِي آخر الزَّمَان وَكَأَنَّهُ لم يسْبقهُ عَالم وَلَا تقدمه مُجْتَهد فَإِن الخطابات الشَّرْعِيَّة تتناوله كَمَا تناولت الصَّحَابَة من غير فرق وَحِينَئِذٍ يهون الْخطب وَتذهب الروعة الَّتِي نزلت بِقَلْبِه من الْجُمْهُور وتزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الهيبة الَّتِي تدَاخل قُلُوب الْمُقَصِّرِينَ أهمية الِاطِّلَاع على أشعار المبدعين وَمِمَّا يزِيد من أَرَادَ هَذِه الطَّبَقَة الْعلية علوا ويفيده قُوَّة إِدْرَاك وَصِحَّة فهم وسيلان ذهن الإطلاع على أشعار فحول الشُّعَرَاء ومجيديهم والمشهورين مِنْهُم باستخراج لطائف الْمَعْنى ومطربات النكات مَعَ مَا تحصل لَهُ بذلك من الاقتدار على النّظم وَالتَّصَرُّف فِي فنونه فقد يحْتَاج الْعَالم إِلَى النّظم لجواب مَا يرد عَلَيْهِ من الأسئلة الْمَنْظُومَة أَو المطارحات الْوَارِدَة إِلَيْهِ من أهل الْعلم وَرُبمَا ينظم فِي فن من الْفُنُون لغَرَض من الْأَغْرَاض الصَّحِيحَة فَإِن من كَانَ بِهَذِهِ الْمنزلَة الرفيعة من الْعلم إِذا كَانَ لَا يقتدر على النّظم كَانَ ذَلِك خدشة فِي وَجه محاسنه ونقصا فِي كَمَاله النّظر فِي بلاغات مبدعي الْإِنْشَاء وَهَكَذَا الاستكثار من النّظر فِي بلاغات أهل الْإِنْشَاء الْمَشْهُورين بالإجادة وَالْإِحْسَان المتصرفين فِي رسالاتهم وحكاياتهم بأفصح لِسَان وَأبين بَيَان فَإِنَّهُ ينْتَفع بذلك إِذا احْتَاجَ إِلَى الْإِنْشَاء أَو جاوب صديقا أَو كَاتب حبيبا لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يكون كَلَامه على قدر علمه وَهُوَ إِذا لم يمارس جيد النّظم والنثر كَانَ كَلَامه سَاقِطا عَن دَرَجَة الِاعْتِبَار عِنْد أهل البلاغة وَالْعلم شَجَرَة ثَمَرَتهَا الْأَلْفَاظ وَمَا أقبح بالعالم المتبحر فِي كل فن أَن يتلاعب بِهِ فِي النّظم والنثر من لَا يجاريه فِي علم من علومه ويتضاحك مِنْهُ من لَهُ أدنى إِلْمَام بمستحسن الْكَلَام ورائق النظام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 علم الْعرُوض والقوافي ويستعين على بُلُوغ مَا يَلِيق بِهِ ويطابق رتبته بِمثل علم الْعرُوض والقوافي وأنفع مَا فِي ذَلِك منظومة الْجُزُولِيّ وشروحها وبمثل المؤلفات الْمُدَوَّنَة لذَلِك وأنفع مَا ينْتَفع بِهِ الْمثل السائر فِي أدب الْكَاتِب والشاعر لِابْنِ الْأَثِير أهمية الِاطِّلَاع على الْعُلُوم الفلسفية ثمَّ لَا بَأْس على من رسخ قدمه فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة أَن يَأْخُذ بِطرف من فنون هِيَ من أعظم مَا يصقل الأفكار ويصفي القرائح وَيزِيد الْقلب سُرُورًا وَالنَّفس انشراحا كَالْعلمِ الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب وَبِالْجُمْلَةِ فالعلم بِكُل فن خير من الْجَهْل بِهِ بِكَثِير وَلَا سِيمَا من رشح نَفسه للطبقة الْعلية والمنزلة الرفيعة ودع عَنْك مَا تسمعه من التشنيعات فَإِنَّهَا كَمَا قدمنَا لَك شُعْبَة من التَّقْلِيد وَأَنت بعد الْعلم بِأَيّ علم من الْعُلُوم حَاكم عَلَيْهِ بِمَا لديك من الْعلم غير مَحْكُوم عَلَيْك واختر لنَفسك مَا يحلو وَلَيْسَ يخْشَى على من كَانَ غير ثَابت الْقدَم فِي عُلُوم الْكتاب وَالسّنة فَإِنَّهُ رُبمَا يتزلزل وتحول ثقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فَإِذا قدمت الْعلم بِمَا قدمنَا لَك من الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فاشتغل بِمَا شِئْت واستكثر من الْفُنُون مَا أردْت وتبحر فِي الدقائق مَا اسْتَطَعْت وجاوب من خالفك وعذلك وشنع عَلَيْك بقول الْقَائِل (أَتَانَا أَن سهلا ذمّ جهلا ... علوما لَيْسَ يعرفهن سهل) (علوما لَو دراها مَا قلاها ... وَلَكِن الرضى بِالْجَهْلِ سهل) وَإِنِّي لأعجب من رجل يَدعِي الْإِنْصَاف والمحبة للْعلم وَيجْرِي على لِسَانه الطعْن فِي علم من الْعُلُوم لَا يدْرِي بِهِ وَلَا يعرفهُ وَلَا يعرف مَوْضُوعه وَلَا غَايَته وَلَا فَائِدَته وَلَا يتصوره بِوَجْه من الْوُجُوه وَقد رَأينَا كثيرا مِمَّن عاصرنا ورأيناه يشْتَغل بِالْعلمِ وينصف فِي مسَائِل الشَّرْع ويقتدي بِهِ بِالدَّلِيلِ فَإِنَّهُ سمع مَسْأَلَة من فن من الْفُنُون الَّتِي لَا يعرفهَا كعلم الْمنطق وَالْكَلَام والهيئة وَنَحْو ذَلِك نفر مِنْهُ طبعه وَنَفر عَنهُ غَيره وَهُوَ لَا يدْرِي مَا تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَلَا يَعْقِلهَا قطّ وَلَا يفهم شَيْئا مِنْهَا فَمَا أَحَق من كَانَ هَكَذَا بِالسُّكُوتِ وَالِاعْتِرَاف بالقصور وَالْوُقُوف حَيْثُ أوقفهُ الله والتمسك فِي الْجَواب إِذا سُئِلَ عَن ذَلِك بقوله لَا أَدْرِي فَإِن كَانَ وَلَا بُد متكلما ومادحا أَو قادحا فَلَا يكون متكلما بِالْجَهْلِ وعائبا لما لَا يفهمهُ بل يقدم بَين يَدي ذَلِك الِاشْتِغَال بذلك الْفَنّ حَتَّى يعرفهُ حق الْمعرفَة ثمَّ يَقُول بعد ذَلِك مَا شَاءَ وَلَقَد وجدنَا لكثير من الْعُلُوم الَّتِي لَيست من علم الشَّرْع نفعا عَظِيما وَفَائِدَة جليلة فِي دفع المبطلين والمتعصبين وَأهل الرَّأْي البحت وَمن لَا اشْتِغَال لَهُ بِالدَّلِيلِ فَإِنَّهُ إِذا اشْتغل من يشْتَغل مِنْهُم بفن من الْفُنُون كالمشتغلين بِعلم الْمنطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 جعلُوا كَلَامهم ومذكراتهم فِي قَوَاعِد فنهم ويعتقدون لعدم اشتغالهم بِغَيْرِهِ أَن من لَا يجاريهم فِي مباحثه لَيْسَ من أهل الْعلم وَلَا هُوَ مَعْدُود مِنْهُم وَإِن كَانَ بِالْمحل العالي من عُلُوم الشَّرْع فَحِينَئِذٍ لَا يبالون بمقاله ويوردون عَلَيْهِ مَا لَا يدْرِي مَا هُوَ ويسخرون مِنْهُ فَيكون فِي ذَلِك من المهانة على عُلَمَاء الشَّرِيعَة مَا لَا يقادر قدره وَأما إِذا كَانَ الْعَالم المتشرع المتصدر للهداية إِلَى المسالك الشَّرْعِيَّة والمناهج الإنصافية عَالما بذلك فَإِنَّهُ يجْرِي مَعَهم فِي فنهم فيكبر فِي عيونهم ثمَّ يعْطف عَلَيْهِم فيبن لَهُم بطلَان مَا يعتقدونه بمسلك من المسالك الَّتِي يعرفونها فَإِن ذَلِك لَا يصعب على مثله ثمَّ بعد ذَلِك يُوضح لَهُم أَدِلَّة الشَّرْع فيقبلون مِنْهُ أحسن قبُول ويقتدون بِهِ أتم قدوة وَأما الْعَالم الَّذِي لَا يعرف مَا يَقُولُونَ فغاية مَا يجْرِي بَينه وَبينهمْ خصام وسباب ومشاتمة هُوَ يرميهم بالاشتغال بالعلوم الكفرية وَلَا يدْرِي مَا هِيَ تِلْكَ الْعُلُوم وهم يرمونه بالبلادة وَعدم الْفَهم وَالْجهل بِعلم الْعقل وَلَا يَدْرُونَ مَا لَدَيْهِ من علم الشَّرْع أَنْصَاف المثقفين فِي زمن الشَّوْكَانِيّ وَلَقَد أَهْدَت لَهَا هَذِه الْأَيَّام مَا لم يكن لنا فِي حِسَاب من زعانف هم سقط الْمَتَاع وفقعة القاع وَأَبْنَاء الرعاع لابسوا طلبة الْعلم بعض الملابسة وشاركوهم بِجَامِع الْخلطَة وَالْعشرَة فِي مثل النّظر فِي مختصرات النَّحْو حَتَّى صَارُوا مِمَّن يتَمَكَّن من إِعْرَاب أَوَاخِر الْكَلم ثمَّ طاحت بهم الطوائح ورمت بهم الروامي إِلَى مطالعة تَجْرِيد الطوسي وَبَعض شروحه وفهموا بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 مباحثه فظنوا أَنهم قد ظفروا بِمَا لم يظفر بِهِ أرسطو طاليس وَلَا جالينوس دع مثل الْكِنْدِيّ والفارابي وَابْن سينا فَإِنَّهُم عِنْدهم فِي عداد الْمُقَصِّرِينَ وَأما مثل الرَّازِيّ وطبقته فليسوا من أهل الْعلم فِي ورد وَلَا صدر وَأما سَائِر الْعلمَاء المتبحرين فِي علم الشَّرْع وَغَيره من أهل الْعَصْر وَغَيرهم فهم عِنْد هَؤُلَاءِ النوكاء الرقعاء لَا يفهمون شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ فقبح الله تِلْكَ الْوُجُوه فَإِنَّهَا صَارَت عارا وشنارا على أهل الْعلم وَصَارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 دُخُول مثل هَؤُلَاءِ الَّذين دنسوا عرض الْعلم وجهموا وَجهه وأهانوا شرفه من أعظم المصائب الَّتِي أَصَابَت أَهله وأكبر المحن الَّتِي امتحن بهَا حَملته فَإِنَّهُ يسمعهم السَّامع يثلبون أَعْرَاض الْأَحْيَاء والأموات من الْمَشْهُورين بِالْعلمِ الَّذين قد اشتهرت مصنفاتهم وانتشرت معارفهم فيزهد فِي الْعلم وَيخَاف من أَن يعرض نَفسه للوقيعة من مثل هَؤُلَاءِ الجهلة وعَلى أَنهم لَا يعْرفُونَ شَيْئا إِلَّا مَا ذكرت لَك وَلَا يفهمون علما من الْعُلُوم لَا بالكنة وَلَا بِالْوَجْهِ فَمَا أَحَق هَؤُلَاءِ بِالْمَنْعِ لَهُم عَن مجَالِس الْعلم وَالْأَخْذ على أَيْديهم من الدُّخُول فِي مدَاخِل أَهله والتشبه بهم فِي شَيْء من الْأُمُور وإلزامهم بملازمة حرف آبَائِهِم وصناعات أهلهم وَالْوُقُوف فِي الْأَسْوَاق لمباشرة الْأَعْمَال الَّتِي يُبَاشِرهَا سلفهم فَلَيْسَ فِي مفارقتهم لَهَا إِلَّا مَا جلبوه من الشَّرّ على الْعلم وَأَهله وَلَكنهُمْ قد تحذلقوا وَجعلُوا لأَنْفُسِهِمْ حصنا حصينا وسورا منيعا فتظهروا بِشَيْء من الرَّفْض وتلبسوا بثيابه فَإِذا أَرَادَ من لَهُ غيرَة على الْعلم المعاقبة لَهُم وإعزاز دين الْإِسْلَام بإهانتهم قَالُوا للعامة إِنَّهُم أصيبوا بِسَبَب التَّشَيُّع وأهينوا بِمَا اختاروه لأَنْفُسِهِمْ من محبَّة أهل الْبَيْت رَضِي الله عَنْهُم وَقد علم الله وكل من لَهُ فهم أَنهم لَيْسُوا من ذَلِك فِي قبيل وَلَا دبير بل لَيْسَ عِنْدهم إِلَّا التهاون بالشريعة الإسلامية والتلاعب بِالدّينِ والطعن على الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه فضلا عَن غَيرهم من المتمسكين بِالشَّرْعِ وكل عَارِف إِذا سمع كَلَامهم وتدبر أبحاثهم يتضوع لَهُ مِنْهَا رَوَائِح الزندقة بل قد يقف على مَا هُوَ صَرِيح الْكفْر الَّذِي لَا يبْقى مَعَه ريب وَلَقَد كَانَ الْقُضَاة من أهل الْمذَاهب فِي الْبِلَاد الشامية والمصرية والرومية والمغربية وَغَيرهَا يحكمون بإراقة دم من ظهر مِنْهُ دون مَا يظْهر من هَؤُلَاءِ حَسْبَمَا تحكيه كتب التَّارِيخ وَقد أَصَابُوا أصَاب الله بهم فإعزاز دين الله هُوَ فِي الانتقام من أعدائه المتنقصين بِهِ وَمَا يصنع الْعَالم فِي مثل أَرْضنَا هَذِه فِي مثل هَؤُلَاءِ المخذولين فَإِنَّهُ إِن قَامَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 عَلَيْهِم وَأفْتى بِمَا يستحقونه ويوجبه عَلَيْهِم الشَّرْع حَال بَينه وَبينهمْ حوائل مِنْهَا عدم اعتياد مثل هَذِه الْبِلَاد لمثل سفك دِمَاء المتزندقين وَمِنْهَا عدم نُفُوذ أفهام المنفذين لأحكام الشَّرْع حَتَّى يعرفوا الدقائق الكفرية الْمُوجبَة لِلْخُرُوجِ من الْإِسْلَام القاضية بسفك دم من صدرت عَنهُ وَكَيف يفهم ذَلِك غَالب الْقُضَاة وهم يعجزون عَن فهم شُرُوط الْوضُوء وفرائضه وسننه بل يقصرون عَن فهم مبَاحث أَبْوَاب قَضَاء الْحَاجة فَهَل تراهم يفهمون مَا يَقُوله لَهُم الْمُفْتِي بسفك دم المتزندق من أَنه كفر بِكَذَا اسْتحق سفك دَمه بِكَذَا هَيْهَات هَيْهَات فَإِنَّهُم أبلد من ذَاك وأسوأ فهما من الْبلُوغ إِلَيْهِ وَمِنْهَا وَهُوَ أعظمها مَا عرفناك بِهِ من تظهرهم بالرفض وادعائهم أَنهم لم يصابوا بذنب سواهُ وَلَا نالهم مَا نالهم إِلَّا بِسَبَبِهِ فَإِن هَذِه الدَّعْوَى سريعة النِّفَاق تدخل إِلَى أذهان غَالب النَّاس وتقبلها عُقُولهمْ بأيسر عمل للاشتراك فِي الْجِنْس وَإِن لم يكن على التواطئ بل على التشكيك وَكَفاك من شَرّ سَمَاعه وَبعد هَذَا فَإِنِّي أَرْجُو الله عز وَجل أَن يُمكن مِنْهُم فتجري عَلَيْهِم الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَينفذ فيهم مَا يَقْتَضِيهِ مر الْحق وَنَصّ الدَّلِيل وَقد علم الله سُبْحَانَهُ أَنِّي أجد من الْحَسْرَة والتلهف مَا لَا يقادر قدره وَلَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بتغاض عَن مُبْتَدع وَلَا بِمُجَرَّد سكُوت عَن انتهاك حُرْمَة من حرمات الشَّرْع بل هُوَ سكُوت عَن الْكفْر وإغماض عَن متظهر بالزندقة يتَكَلَّم فِيمَا بملء فِيهِ ويبدي مِنْهَا مَا تبْكي لَهُ عُيُون الْإِسْلَام وَأَهله فَتَارَة يتهاون بِالْقُرْآنِ وَتارَة يتهاون بالأنبياء وَتارَة يتهاون بحملة الدّين وحينا يزري على عُلَمَاء الْمُسلمين وَلَكِن بعبارات لَا يفهمها المقصرون ورموز لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا المشتغلون بِأَبْوَاب الْفِقْه مَعَ خلط تِلْكَ الْعبارَات بِشَيْء من الرَّفْض يفهمهُ المقصر والكامل فَإِذا نظره المقصرون فِي كَلَامهم لم يفهموا مِنْهُ إِلَّا مَا فِيهِ من الرَّفْض وَلَا يفهمون شَيْئا مِمَّا عداهُ وَإِذا أخْبرهُم الْعَالم بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ ذَلِك الْكَلَام من الْكفْر والزندقة لم تقبله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أفهامهم لأمرين أَحدهمَا الْجَهْل بالعلوم الَّتِي يتوصلون بهَا إِلَى فهم ذَلِك وَالثَّانِي اعْتِقَادهم أَن ذَلِك الْمُتَكَلّم شيعي وَأَن هَذَا الْعَالم الَّذِي أنكرهُ إِنَّمَا قَامَ عَلَيْهِ لأجل الشِّيعَة لكَوْنهم يَعْتَقِدُونَ فِي كل من اشْتغل بعلوم الِاجْتِهَاد أَنه يُخَالف الشِّيعَة طبيعة راسخة فيهم وَأمر ورثوه عَن أسلافهم وداء قبلوه من كل مخذول ومحنة تعاظم بِسَبَبِهَا الْبلَاء على الشَّرِيعَة وعَلى أَهلهَا فبهذه الْأَسْبَاب علمت أَن قيامي عَلَيْهِم لَا يجدى إِلَّا ثوران فتْنَة وَظُهُور محنة وَقد يكون سَببا لتظهرهم بِزِيَادَة على مَا يتظهرون بِهِ من تِلْكَ الْأُمُور الفظيعة والكفريات الشنيعة اللَّهُمَّ إِنِّي أشهدك وَأَنت خير الشَّاهِدين أَنِّي أول حَاكم بسفك دم من صدر مِنْهُ ذَلِك وَأول مفت بقتل من فعل شَيْئا مِنْهُ أَو قَالَ بِهِ عِنْد أول بارقة من بوارق الْعدْل وَفِي إخفاء رَائِحَة من رَوَائِح الْإِنْصَاف وَلست أَقُول أَن جَمِيع من أَشرت إِلَيْهِم هم على الصّفة الَّتِي ذكرتها الْمُوجبَة لإراقة الدَّم وإزهاق الرّوح بل يتظهر بذلك بعض مخذوليهم ويشتغل بِهِ أنَاس من شياطينهم والبقية وَإِن كَانُوا بِمَا يصدر مِنْهُم نقمة على الْعلم وَأَهله فَإِنَّهُم ينفرون النَّاس عَن علم الشَّرْع ويهونونه فِي صُدُورهمْ ويستصغرون عُلُوم الدّين بأسرها ويجذبون من يطمعون فِيهِ إِلَى جهالاتهم وضلالاتهم فهم مستحقون للْحَيْلُولَة بَينهم وَبَين كل سَبَب يتوصلون بِهِ إِلَى الْعلم على كل تَقْدِير كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ سَابِقًا مَعَ إِنْزَال بعض مَا فِيهِ إهانة لَهُم بهم ومسهم بِسَوْط إذلال ليَكُون فِي ذَلِك إعزاز للدّين وَرفع لمناره وَغسل لما قد لوثوا بِهِ أَهله من الْقدر الَّذِي يلقونه عَلَيْهِم وينجسونهم بِهِ وَالله المرجو فَعنده الْخَيْر كُله وَهُوَ أغير على دينه وَهُوَ أكْرم عَلَيْهِ من أَن يهان أَو يضام أَهله وَفِيهِمْ أَفْرَاد قَلِيلُونَ يصلحون بتَعَلُّم الْعلم ويتشبهون بأَهْله ويجرون على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 نمط من يتعلمون مِنْهُ وَيَأْخُذُونَ عَنهُ إِن خيرا فَخير وَإِن شَرّ فشر وَلَكِن مَا أقل من يكون هَكَذَا مِنْهُم المؤهلون لتلقي الْعلم فَإِن قلت وَمَا هَذِه الْأَهْلِيَّة الَّتِي يكون صَاحبهَا محلا لوضع الْعلم فِيهِ وتعليمه إِيَّاه قلت هِيَ شرف المحتد وكرم النجار وَظُهُور الْحسب أَو كَون فِي سلف الطَّالِب من لَهُ تعلق بِالْعلمِ وَالصَّلَاح ومعالم الدّين أَو بمعالي الْأُمُور ورفيع الرتب وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الثَّابِت عَنهُ فِي الصَّحِيح فَقَالَ النَّاس معادن كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام إِذا فقهوا فَاعْتبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخِيَار فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَيْسَ ذَلِك لأمر يتَعَلَّق بِالدّينِ فَإِنَّهُ لَا دين لأهل الْجَاهِلِيَّة بل المُرَاد بِخِيَار أهل من كَانَ مِنْهُم من أهل الشّرف وَفِي الْبيُوت الرفيعة فَإِن هَذَا أَمر يجذب بطبع صَاحبه إِلَى معالي الْأُمُور ويحول بَيته وَبَين الرذائل وَيُوجب عَلَيْهِ إِذا دخل فِي أَمر أَن يكون مِنْهُ فِي أَعلَى مَحل وَأَرْفَع رُتْبَة فمتعلم الْعلم مِنْهُم يكون فِي أَهله على أتم وصف وَأحسن حَال غير شامخ بِأَنْفِهِ وَلَا متباه بِمَا حصله وَلَا مترفع على النَّاس بِمَا نَالَ مِنْهُ وَأما من كَانَ من سقط الْمَتَاع وسفساف أهل المهن كَأَهل الحياكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 العصارة والقضابة وَنَحْو ذَلِك من المهن الدنية والحرف الوضيعة فَإِن نَفسه لَا تفارق الدناءة وَلَا تجانب السُّقُوط وَلَا تأبى المهانة وَلَا تنفر عَن الضيم فَإِذا اشْتغل مشتغل مِنْهُم بِطَلَب الْعلم ونال مِنْهُ بعض النّيل وَقع فِي أُمُور مِنْهَا الْعجب والزهو وَالْخُيَلَاء لِأَنَّهُ يرى نَفسه بعد أَن كَانَ فِي أوضع مَكَان وأخس رُتْبَة قَاعِدا فِي أعلا مَحل وَأَرْفَع مَوضِع فَإِن منزلَة الْعلم وَأَهله هِيَ الْمنزلَة الَّتِي لَا تساميها منزلَة وَإِن علت وَلَا تساويها رُتْبَة وَإِن ارْتَفَعت فَبَيْنَمَا ذَلِك الطَّالِب قَاعد بَين أهل حرفته من أهل الحياكة أَو الْحجامَة أَو الجزارة أَو نحوهم فِي أخس بقْعَة وَأعظم مهانة إِذْ صَار بَين الْعلمَاء المتعلمين الَّذين هم فِي أعلا منَازِل الدُّنْيَا وَالدّين فمبجرد ذَلِك يحصل لَهُ من الْعجب والتطاول على النَّاس والترفع عَلَيْهِم مَا يعظم بِهِ الضَّرَر على أهل الْعلم فضلا عَن غَيرهم مِمَّن هُوَ دونهم وَمَعَ مَا يَنْضَم إِلَى ذَلِك من السخف الَّذِي نَشأ عَلَيْهِ وتلقاه من سلفه وَسُقُوط النَّفس وَضعف الْعقل ونذالة الهمة وَمثل تَأمر الصَّبِي لما ينشأ عَلَيْهِ من أَخْلَاق آبَائِهِ لَا يُنكره أحد وَلِهَذَا يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا صَحَّ عَنهُ فِي = الصَّحِيح = كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَلَكِن أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه فَإِذا كَانَ الصَّغِير ينطبع بِطَابع الْكفْر بِسَبَب أَبَوَيْهِ فَمَا بالك بِسَائِر الْأَخْلَاق الَّتِي يجدهما عَلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وَمِمَّا يَقع فِيهِ هَذَا الطَّالِب النَّاشِئ بَين أهل الوضاعة المرتضع من ثدي الرقاعة أَنه بِحكم الطَّبْع وَألف المنشأ لَا يرى فِي النَّاس إِلَّا أهل حرفته وَبني مهنته فَيَعُود من حَيْثُ بدا وَيرجع من الْبَاب الَّذِي خرج مِنْهُ فَيكون فِي ذَلِك من الإهانة للْعلم والإزراء على أَهله والوضع بجانبه مَا لَا يقادر قدره لِأَن هَذَا يرَاهُ النَّاس تَارَة فِي الْمدَارِس قَاعِدا بَين أَيدي شُيُوخ الْعلم مشاركا للمتعلمين وَتارَة يرونه فِي دكاكين الحجامين وحوانيت العطارين وَمن جرى هَذَا المجرى من المحترفين وَمِمَّا يَقع فِيهِ أَنه بِحكم الطَّبْع الَّذِي استفاده من المنشأ وتطبع بِهِ من أَبَوَيْهِ وَمن يماثلهما وَإِن دخل فِي مدَاخِل الْعلم وتزيا بزِي أَهله فهم أبْغض النَّاس إِلَيْهِ وأحقرهم لَدَيْهِ لَا يقيموا لَهُ وزنا وَلَا يعْتَرف لَهُم بفضيلة بل يكون ديدنه وهجيراه وَمعنى كَلَامه وفحواه هُوَ التهاوم بهم وتحقير مَا عظمه الله من أَمرهم والإغراء بَين أماثلهم والتعرض للمفاضلة بَين فضائلهم وَإِدْخَال الشحناء بَينهم بِكُل مُمكن وَمن نكر هَذَا فَعَلَيهِ بالاستقراء والتتبع فَإِنَّهُ سيجد مَا وَجَدْنَاهُ وَيقف على صِحَة مَا حكيناه وَلَا يخرج من هَؤُلَاءِ إِلَّا النَّادِر الْقَلِيل وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا لعرق يَنْزعهُ إِلَى الشّرف ويجذبه إِلَى الْخَيْر فِي سلفه الْقَدِيم وَإِن جَهله من لم يعرفهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مَا تفيده التجربة وتشير إِلَيْهِ بعض الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة وَإِذا صَحَّ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاضع الْعلم فِي غير أَهله كمقلد الْخَنَازِير الْجَوْهَر فَفِيهِ أعظم عِبْرَة للمعتبرين من الحاملين لعلوم الدّين وَقد عزاهُ بعض أهل الْعلم إِلَى ابْن مَاجَه وَلَا استحضره حَال الرقم فِيمَا هُوَ فِي حفظ من أَحَادِيث كتاب = سنَن ابْن مَاجَه = فَلْينْظر ثمَّ كشفت عَنهُ فَوَجَدته فِي = سنَن ابْن مَاجَه = عَن أنس بن مَالك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 طلبُوا الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم وَوَاضِع الْعلم عِنْد غير أَهله كمقلد الْخَنَازِير الْجَوْهَر واللؤلؤ وَالذَّهَب وَفِي إِسْنَاده حَفْص بن سُلَيْمَان الْبَزَّاز وَفِيه مقَال وَأما من كَانَ أَهلا للعم وَفِي مَكَان من الشّرف فَإِنَّهُ يزْدَاد بِالْعلمِ شرفا إِلَى شرفه ويكتسب بِهِ من حسن السمت وَجَمِيل التَّوَاضُع ورائق الْوَقار وبديع الْأَخْلَاق مَا يزِيد عمله علوا وعرفانه تَعْظِيمًا فيتخلق بأخلاق الْأَنْبِيَاء وَمن يمشي على طريقهم من عَامل الْعلمَاء وَصَالح الْأمة وَيعرف للْعلم حَقه ويعظمه بِمَا يَنْبَغِي من تَعْظِيمه فَلَا يكدره بالمطامع وَلَا يشوبه بالخضوع لأهل الدُّنْيَا وَلَا يجهمه بالتوصل بِهِ إِلَى مَا فِي يَد الْأَغْنِيَاء فَيكون عِنْده مخدوما لَا خَادِمًا ومقصودا لَا قَاصِدا وَبَين هَذِه الطَّائِفَتَيْنِ طَائِفَة ثالثه لَيست من هَؤُلَاءِ وَلَا من هَؤُلَاءِ جعل الْعلم مكسبا من مكاسب الدُّنْيَا ومعيشة من معايش أَهله لَا غَرَض لَهُم فِيهِ إِلَّا إِدْرَاك منصب من مناصب أسلافهم ونيل رئاسة من الرئاسات الَّتِي كَانَت لَهُم كَمَا نشاهده فِي غَالب الْبيُوت المعمورة بِالْقضَاءِ أَو الْإِفْتَاء أَو الخطابة أَو الْكِتَابَة أَو مَا هُوَ شَبيه بِهَذِهِ الْأُمُور فَإِن من كَانَ طَالبا للوصول إِلَى شئ من هَذِه الْأُمُور ذهب إِلَى مدارس الْعلم يتَعَلَّم مَا يتأهل بِهِ لما يَطْلُبهُ وَهُوَ لَا يتَصَوَّر الْبلُوغ إِلَى الثَّمَرَة المستفادة من الْعلم والغاية الْحَاصِلَة لطالبه فَيكون ذهنه كليلا وفهمه عليلا وَنَفسه خائرة وَنِيَّته خاسرة بل غَايَة تصَوره ومعظم فكرته فِي اقتناص المنصب والوصول إِلَيْهِ فيخدم فِي مُدَّة طلبه واشتغاله أهل المناصب وَمن يَرْجُو مِنْهُم الْإِعَانَة على بُلُوغ مُرَاده أَكثر مِمَّا يخْدم الْعلم ويتردد إِلَى أَبْوَابهم ويتعثر فِي مجَالِسهمْ وَيَذُوق بِهِ من الإهانة مَا فِيهِ أعظم مرَارَة ويتجرع من الْغصَص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 مَا يصغر قدر الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَإِذا نَالَ ذَلِك المنصب ضرب بالدفاتر وَجه الْحَائِط وَأَلْقَاهَا خلف الصُّور لعدم الْبَاعِث عَلَيْهَا من جِهَة نَفسه والمنشط على الْعلم والمرغب فِيهِ فَهَذَا هُوَ شَبيه بِمن يتَعَلَّم مهنة من المهن ويتدرب فِي حِرْفَة من الْحَرْف فيقصد أَهلهَا حَتَّى يُدْرِكهَا وَيكون فِيهَا أستاذا ثمَّ يذهب إِلَى دكان من الدكاكين فيعتاش بِتِلْكَ الحرفة وَلَيْسَ هُوَ من أهل الْعلم فِي ورد وَلَا صدر وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون معدودا مِنْهُم وَإِن ارتسم فِي ذهنه مِنْهُ رسوم فَهُوَ من أزهد النَّاس فِيهَا وأجفاهم لَهَا وَأَقلهمْ احتفالا بهَا وَلَا فَائِدَة فِي تعلمه رَاجِعَة إِلَى الدّين قطّ بل غَايَة مَا استفاده مِنْهُ الْعلم وَأَهله تعريضه وتعريضهم للإهانة عِنْد أهل الدُّنْيَا وإيقاعه وإيقاعهم فِي يَد من لَا يعرف للْعلم قدرا وَلَا يرفع لَهُ ذكرا وَلَا يُقيم لَهُ وزنا كَمَا يُشَاهد من المتعلقين بِالْأَعْمَالِ الدولية فَإِنَّهُم يتلاعبون بطلبة المناصب الدُّنْيَوِيَّة غَايَة التلاعب ويعرضونهم للإهانة مرّة بعد أُخْرَى ويتلذذون بذلك ويبتهجون لأَنهم يظنون أَنَّهَا قد ارْتَفَعت طبقتهم عَن طَبَقَات أهل الْعلم وحكموا تَارَة فيهم بِالْولَايَةِ وَتارَة بِالْعَزْلِ وتمرغوا على عتابتهم مرّة بعد مرّة فبهذه الْوَسِيلَة دخل على أهل الْعلم بِمَا يصنعه هَؤُلَاءِ من هَذِه الهنات الوضيعة والفعلات الشنيعة مَا تبْكي عُيُون الْعلم وَأَهله وَتقوم عَلَيْهِ النواعي ويغضب لَهُ كل من لَهُ حمية دينة وهمة علية وَلَو علم أُولَئِكَ المغرورون لم يبتهجوا بِمن قصدهم من هَؤُلَاءِ النوكاء فَإِنَّهُم لَيْسُوا من أهل الْعلم وَلَا بَينهم وَبينهمْ علاقَة وَلَا فرق بَينهم وَبَين من يطْلب الْأَعْمَال الدولية الَّتِي لَا تعلق لَهَا بِالْعلمِ وَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة تنازل منصب الْعلم وتهاون النَّاس بِهِ لأَنهم يرَوْنَ رجلا قد لبس لِبَاس أهل الْعلم وتزين بزيهم وَحضر مجَالِسهمْ ثمَّ ذهب إِلَى مجَالِس أهل الدُّنْيَا وَمن لَهُم قدرَة على إِيصَال أهل الْأَعْمَال الدُّنْيَوِيَّة إِلَيْهَا من وَزِير أَو أَمِير فتصاغر لَهُم وتذلل وتهاون وتحقر حَتَّى يصير فِي عداد خدمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَمن هُوَ فِي أَبْوَابهم ثمَّ أَعْطوهُ منصبا من المناصب فَعمل مَا يريدونه مِنْهُم وَإِن خَالف الشَّرْع وَاعْتمد على مَا يرسمونه لَهُ وَإِن كَانَ طاغوتا بحتا فيظن من لَا علم عِنْده بحقائق الْأُمُور أَن أهل الْعلم كلهم هَكَذَا وَأَنَّهُمْ ينسلخون من الْعلم إِذا ظفروا بِمنْصب من المناصب هَذَا الانسلاخ ويمسخون هَذَا المسخ وَيعود أَمرهم إِلَى هَذَا الْمعَاد فيزهد فِي الْعلم وَأَهله وتنفر عَنهُ نَفسه وتقل فِيهِ رغبته ويؤثر الْحَرْف الدُّنْيَوِيَّة عَلَيْهِ ليربح السَّلامَة من المهانة الَّتِي رَآهَا نازلة بِهَذَا المشؤوم الجالب على نَفسه وعَلى أهل الْعلم مَا جلب من الذل وَالصغَار وَإِذا كَانَ مَا جناه هَؤُلَاءِ النكاء على الْعلم وَأَهله بَالغا إِلَى هَذَا الْحَد عِنْد سَائِر النَّاس فَمَا ظَنك بِمَا يَعْتَقِدهُ فيهم من يطلبونه من المناصب بعد أَن شَاهد مِنْهُم مَا يُشَاهد من الخضوع والذلة والانسلاخ عَن الشَّرْع إِلَى مَا يريدونه مِنْهُ وبذل الْأَمْوَال لَهُم على ذَلِك ومهاداتهم بأفخر الْهَدَايَا وَالْوُقُوف على مَا يطلبونه مِنْهُ على أَي صفة ترَاد مِنْهُم وينظم إِلَى هَذَا خلوهم عَن الْعلم وجهلهم لأَهله الَّذين هم أهلهم فيظنون أَن هَؤُلَاءِ الَّذين قصدوهم وتعثروا على أَبْوَابهم هم رُؤُوس أَهله لما يشاهدونه عَلَيْهِم من الْهَيْئَة واللباس الفاخر الَّذِي لَا يجدونه عِنْد المشتغلين بِالْعلمِ فَهَل تراهم بعد هَذَا يميلون إِلَى مَا يَقُوله أهل الْعلم وينزجرون بِمَا يوردونه عَلَيْهِم من الزواجر الشَّرْعِيَّة المتضمنة لإنكار مَا هُوَ مُنكر وَالْأَمر بِمَا هُوَ مَعْرُوف والتخويف لَهُم عَن مُجَاوزَة حُدُود الله هَيْهَات أَن يصغوا لهَذَا سمعا أَو يفتحوا لَهُ طرفا فَإلَى الله المشتكى وَعَلِيهِ الْمعول فَهَذَا أَمر وَقع فِيهِ أهل العصور الأول فألأول وَمَا أَحَق أهل الْعلم الحاملين لحجيج الله المرشدين لِعِبَادِهِ إِلَى شرائعه أَن يطردوا هَؤُلَاءِ عَن مجَالِسهمْ ويبعدونهم عَن مَوَاطِن تعليمهم وَأَن لَا يبذلوا الْعلم إِلَّا لمن يقدره حق قدره وينزله مَنْزِلَته ويطلبه لذاته ويرغب فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 لشرفه ويعتقد أَنه أشرف مطلب من مطَالب الدّين وَالدُّنْيَا وَأَنه يصغر عِنْده الْملك فضلا عَمَّا هُوَ دونه تولي أهل الْعلم للمناصب وَلَا أَقُول إِن أهل الْعلم العارفين بِهِ المطلعين على أسراره يمْنَعُونَ أنفسهم من المناصب الدِّينِيَّة وَكَيف أَقُول بِهَذَا وَهَذِه المناصب إِذا لم ترْبط بهم ضَاعَت وَإِذا لم يدْخل فِيهَا الْأَخْبَار تتَابع فِيهَا الأشرار وَإِذا لم يقم بهَا أهل الْعلم قَامَ بهَا أهل الْجَهْل وَإِذا أدبر عَنْهَا أهل الْوَرع أقبل إِلَيْهَا أهل الْجور وَكَيف أَقُول هَذَا وَأهل الْعلم هم المأمورون بالحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَالْعدْل والقسط وَمَا أنزل الله وَمَا أَرَاهُم الله الْقيام بَين النَّاس بحججه والتبليغ لأحكامه وتذكيرهم بِمَا أَمر الله بالتذكير بِهِ وإرشادهم إِلَى مَا أرشدهم الله إِلَيْهِ وَلأَهل الْقَضَاء والإفتاء وَنَحْوهَا من هَذِه الْأُمُور أوفر نصيب وأكبر حَظّ وَلَكِنِّي أَقُول إِنَّه يَنْبَغِي لطَالب الْعلم أَن يَطْلُبهُ كَمَا يَنْبَغِي ويتعلمه على الْوَجْه الَّذِي يُريدهُ الله مِنْهُ مُعْتَقدًا أَنه أَعلَى أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا راجيا أَن ينفع بِهِ عباد الله بعد الْوُصُول إِلَى الْفَائِدَة مِنْهُ وَمن جملَة النَّفْع إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ الْمُلُوك وَأهل الدُّنْيَا أَن يَلِي منصبا من المناصب فطلبوا مِنْهُ ذَلِك وعولوا عَلَيْهِ فِي الْإِجَابَة معترفين بِحَق الْعلم منقادين إِلَى مَا يُوجِبهُ الشَّرْع معظمين لما أوجب الله تَعْظِيمه وَكَانَ قد بلغ إِلَى منزلَة فِي الْعلم تصلح لذَلِك المنصب وَشهد لَهُ أهل الْعلم بِكَمَال التأهيل وإحراز عدته فَهَذَا إِذا كَانَ الْحَال هَكَذَا لَا يحل لَهُ أَن يمْتَنع من الْإِجَابَة أَو يَأْتِي من قبُول ذَلِك فَإِنَّهُ إِذا فعل ذَلِك كَانَ تَارِكًا لما أوجبه الله عَلَيْهِ من الْقيام بحجته وَنشر أَحْكَامه وإرشاد عباده إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 معالمه ونهيهم عَن تجَاوز حُدُوده وَلَا شكّ أَن ذَلِك من أوجب الْوَاجِبَات على أهل الْعلم وأهم الْمُهِمَّات وَلَو جَازَ ذَلِك لمن طلب مِنْهُم وعول عَلَيْهِ لجَاز لغيره من أهل الْعلم أَن يصنع كصنعه ويسلك مسلكه فتتعطل معاهد الشَّرْع وَتذهب رسومه ويتخذ النَّاس رؤوسا جُهَّالًا يقضون بِغَيْر علم فيضلون ويضلون وَذَلِكَ من عَلَامَات الْقِيَامَة وأشراط السَّاعَة كَمَا ورد بِهِ الْخَبَر الصَّحِيح كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة للْعلم وَإِذا عرفت مَا يَنْبَغِي لأهل الطَّبَقَة الأولى من الْعُلُوم فلنتكلم الْآن على مَا يَنْبَغِي لأهل الطَّبَقَة الثَّانِيَة من الطَّبَقَات الْمَذْكُورَة سَابِقًا وَهِي طبقَة من يُرِيد أَن يعرف مَا طلبه مِنْهُ الشَّارِع من أَحْكَام التَّكْلِيف والوضع على وَجه يسْتَقلّ فِيهِ بِنَفسِهِ وَلَا يحْتَاج إِلَى غَيره من دون أَن يتَصَوَّر الْبلُوغ إِلَى مَا تصَوره أهل الطَّبَقَة الأولى من تعدِي فَوَائِد معارفهم إِلَى غَيرهم وَالْقِيَام فِي مقَام أكَابِر الْأَئِمَّة المرجوع إِلَيْهِم كَمَا يتصوره أهل الطَّبَقَة الأولى فَتَقول صَاحب هَذِه الطَّبَقَة الثَّانِيَة هُوَ من يطْلب مَا يصدق عَلَيْهِ مُسَمّى الِاجْتِهَاد ويسوغ بِهِ الْعَمَل بأدلة الشَّرْع وَهُوَ يَكْفِي بِأَن يَأْخُذ من كل فن من فنون الِاجْتِهَاد بِنَصِيب يعلم بِهِ ذَلِك الْفَنّ علما يَسْتَغْنِي بِهِ عَن الْحَاجة إِلَيْهِ أَو يَهْتَدِي بِهِ إِلَى الْمَكَان الَّذِي فِيهِ ذَلِك الْبَحْث على وَجه يفهم بِهِ مَا يقف عَلَيْهِ مِنْهُ علم النَّحْو فيشرع بتَعَلُّم علم النَّحْو حَتَّى تثبت لَهُ فِيهِ ملكة يقتدر بهَا على معرفَة أَحْوَال أَوَاخِر الْكَلم إعرابا وَبِنَاء وَأَقل مَا يحصل لَهُ ذَلِك بِحِفْظ مُخْتَصر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 المختصرات الْمُشْتَملَة على مهمات مسَائِل النَّحْو والمتضمنة لتقرير مباحثه على الْوَجْه الْمُعْتَبر = كالكافية = لِابْنِ الْحَاجِب وَقِرَاءَة شرح من شروحها المختصرة وأحسنها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشُّرُوح المختصرة شرح الجامي فَإِنَّهُ ينْتَفع بِهِ الطَّالِب انتفاعا لَا يجده فِي غَيره من مختصرات الشُّرُوح علم الصّرْف ثمَّ يحفظ مُخْتَصرا فِي الصّرْف = كالشافية = لِابْنِ الْحَاجِب وَقِرَاءَة شرح من شروحها المختصرة وأحسنها شرح الجاربردي علم الْمعَانِي وَالْبَيَان ثمَّ يشْتَغل بِحِفْظ مُخْتَصر من مختصرات علم الْمعَانِي وَالْبَيَان = كالتلخيص = للقزويني وَقِرَاءَة شرح من شروحه المختصرة كشرح السعد الْمُخْتَصر علم أصُول الْفِقْه ثمَّ يشْتَغل بِحِفْظ مُخْتَصر من مختصرات الْأُصُول الْفِقْهِيَّة وَقِرَاءَة شرح منُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 شروحه وأنفع مَا ينْتَفع بِهِ الطَّالِب = الْغَايَة = للحسين بن الْقَاسِم وَشَرحهَا لَهُ فَإِنَّهُمَا مَعَ الْمُبَالغَة فِي الِاخْتِصَار قد اشتملا على مَا حوته غَالب المطولات الْكِبَار علم التَّفْسِير ثمَّ يشْتَغل بِقِرَاءَة تَفْسِير من التفاسير الْمُخْتَلفَة كتفسير القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ مَعَ مُرَاجعَة مَا يُمكنهُ مُرَاجعَته من التفاسير علم الحَدِيث ثمَّ يشْتَغل بِسَمَاع مَا لابد من سَمَاعه من كتب الحَدِيث وَهِي = السِّت الْأُمَّهَات = فَإِن عجز عَن ذَلِك اشْتغل بِسَمَاع مَا هُوَ مُشْتَمل على مَا فِيهَا من الْمُتُون = كجامع الْأُصُول = ثمَّ لَا يدع الْبَحْث عَن مَا هُوَ مَوْجُود من أَحَادِيث الْأَحْكَام فِي غَيرهَا بِحَسب مَا تبلغ إِلَيْهِ طاقته ويبحث عَن الْأَحَادِيث الْخَارِجَة عَن الصَّحِيح فِي المواطن الَّتِي هِيَ مَظَنَّة للْكَلَام عَلَيْهَا من الشُّرُوح والتخريجات عُلُوم أُخْرَى وَيكون مَعَ هَذَا عِنْد ممارسته لعلم اللُّغَة على وَجه يَهْتَدِي بِهِ فِي الْبَحْث عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة واستخراجها من مواطنها وَعِنْده من علم إصْلَاح الحَدِيث وَعلم الْجرْح وَالتَّعْدِيل مَا يَهْتَدِي بِهِ إِلَى معرفَة مَا يتَكَلَّم بِهِ الْحفاظ على أَسَانِيد الْأَحَادِيث ومتونها مؤشر الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة فَمن علم بِهَذِهِ الْعُلُوم علما متوسطا يُوجب ثُبُوت مُطلق الملكة فِي كل وَاحِد مِنْهَا صَار مُجْتَهدا مستغنيا عَن غَيره مَمْنُوعًا من الْعَمَل بِغَيْر دَلِيل وَعَلِيهِ أَن يبْحَث عِنْد كل حَادِثَة يحْتَاج إِلَيْهَا فِي دينه عَن أَقْوَال أهل الْعلم وَكَيْفِيَّة استدلالهم فِي تِلْكَ الْحَادِثَة وَمَا قَالُوهُ وَمَا رد عَلَيْهِم بِهِ فَإِنَّهُ ينْتَفع بذلك انتفاعا كَامِلا وَيضم إِلَى علمه علوما وَإِلَى فهمه فهوما وَهُوَ وَإِن قصر عَن أهل الطَّبَقَة الأولى فَلَيْسَ بمحتاج فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ من أَمر الدّين إِلَى زِيَادَة على هَذَا الْمِقْدَار وَيخْتَلف الِانْتِفَاع بالعلوم باخْتلَاف القرائح والفهوم فقد ينْتَفع من هُوَ كَامِل الذكاء صَادِق الْفَهم قوي الْإِدْرَاك بِالْقَلِيلِ مَا لَا يقتدر على الِانْتِفَاع بِمَا هُوَ أَكثر مِنْهُ كثير من جامد الْفَهم راكدي الفطنة كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّالِثَة للعم وَأما أهل الطَّبَقَة الثَّالِثَة وهم الَّذين يرغبون فِي إصْلَاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بِمَا يقتدرون بِهِ على فهم مَعَاني مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الشَّرْع وَعدم تحريفه وَتَصْحِيفه وتغيير إعرابه من دون قصد مِنْهُم إِلَى الِاسْتِقْلَال بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 يعزمون على التعويل على السُّؤَال عِنْد عرُوض التَّعَارُض والاحتياج إِلَى التَّرْجِيح علم الْإِعْرَاب فَيَنْبَغِي تعلم شَيْئا من علم الْإِعْرَاب حَتَّى يعرف بِهِ إِعْرَاب أَوَاخِر الْكَلِمَة ويكفيه فِي مثل ذَلِك حفظ منظومة الحريري الْمُسَمَّاة = الملحة = وَقِرَاءَة شروحها على أهل الْفَنّ وتدربه فِي إِعْرَاب مَا يطلع عَلَيْهِ من الْكَلَام المنظوم والمنثور ويحفى السُّؤَال عَن إِعْرَاب مَا أشكل عَلَيْهِ حَتَّى تثبت لَهُ بِمَجْمُوع ذَلِك ملكه يعرف بهَا أَحْوَال أَوَاخِر الْكَلم إعرابا وَبِنَاء وَإِلَّا لم يعلم بِوُجُودِهِ الْعِلَل النحوية وَلَا عرف الْحجَج الْعَرَبيَّة علم مصطلح الحَدِيث ثمَّ يتَعَلَّم اصْطِلَاح علم الحَدِيث ويكفيه فِي مثل ذَلِك مثل = النخبة = وَشَرحهَا علم السّنة ثمَّ بعد هَذَا يكب على سَماع المختصرات فِي الحَدِيث مثل = بُلُوغ المرام = و = الْعُمْدَة = و = الْمُنْتَقى = وَإِن تمكن من سَماع = جَامع الْأُصُول = أَو شئ من مختصراته فعل فَإِذا أشكل عَلَيْهِ معنى حَدِيث نظرا فِي الشُّرُوح أَو كتب اللُّغَة وَإِن أشكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 عَلَيْهِ الراجحة من المتعارضات أَو الْتبس عَلَيْهِ هَل الحَدِيث مِمَّا يجوز الْعَمَل بِهِ أم لَا شَأْن عُلَمَاء هَذَا الشَّأْن الموثوق بعرفانه وأنصافهم وَيعْمل على مَا يرشدونه إِلَيْهِ استفتاء وَعَملا بِالدَّلِيلِ لَا تقليدا وَعَملا بِالرَّأْيِ علم التَّفْسِير ويشتغل بِسَمَاع تَفْسِير من التفاسير الَّتِي لَا يحْتَاج إِلَى تَحْقِيق وتدقيق = كتفسير الْبَغَوِيّ = وَتَفْسِير السُّيُوطِيّ الْمُسَمّى = الدّرّ المنثور = مَاذَا يفعل الطَّالِب عِنْد حُدُوث إِشْكَال أَو صعوبة وَإِذا أشكل عَلَيْهِ بحث من المبادئ أَو تَعَارَضَت عَلَيْهِ التفاسير وَلَا يهتد إِلَى الرَّاجِح أَو الْتبس عَلَيْهِ أَمر يرجع إِلَى تَصْحِيح شئ مِمَّا يجده فِي كتب التَّفْسِير رَجَعَ إِلَى أهل الْعلم لذَلِك الْفَنّ سَائِلًا لَهُ عَن الرِّوَايَة لَا عَن الرَّأْي وَقد كَانَ من هَذِه الطَّبَقَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيه الَّذين يَقُولُونَ فيهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فَإِنَّهُم كَانُوا يسْأَلُون أهل الْعلم مِنْهُ عَن حكم مَا يعرض لَهُم مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي معاشهم ومعادهم فيروون لَهُم فِي ذَلِك مَا جَاءَ عَن الله تَعَالَى أَو عَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيعلمون بروايتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 لَا برأيهم من دون تَقْلِيد وَلَا الْتِزَام رَأْي كَمَا يعرف ذَلِك من يعرفهُ وَقد أوضحت هَذَا إيضاحا كثيرا فِي كتابي الَّذِي سميته = القَوْل الْمُفِيد فِي حكم التَّقْلِيد = فَليرْجع إِلَيْهِ كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الرَّابِعَة للْعلم وَأما الطَّبَقَة الرَّابِعَة الَّذين يقصدون الْوُصُول إِلَى علم من الْعُلُوم أَو علمين أَو أَكثر لغَرَض من الْأَغْرَاض الدينة أَو الدُّنْيَوِيَّة من دون تصور إِلَى علم الشَّرْع كَمَا يَفْعَله من يُرِيد أَن يكون مدْركا لصناعة من الصناعات الَّتِي لَهَا تعلق بِالْعلمِ وَذَلِكَ كمن يُرِيد أَن يكون شَارِعا ومنشئا أَو حاسبا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَن يتَعَلَّم مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى ذَلِك الْمطلب كَيفَ تصبح شَاعِرًا فَمن أَرَادَ أَن يكون شَاعِرًا تعلم من علم النَّحْو والمعاني وَالْبَيَان مَا يفهم بِهِ مَقَاصِد أهل هَذِه الْعُلُوم ويستكثر من الِاطِّلَاع على علم البديع والإحاطة بأنواعه والبحث عَن نكته وأسراره وَعلم الْعرُوض والقوافي ويمارس أشعار الْعَرَب ويحفظ مَا يُمكنهُ حفظه مِنْهَا ثمَّ أشعار أهل الطَّبَقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الأولى من أهل الْإِسْلَام كجرير والفرزدق وطبقتهما ثمَّ أشعار مثل بشار بن برد وَأبي نواس وَمُسلم بن الْوَلِيد وأعيان من جَاءَ بعدهمْ كَأبي تَمام والبحتري والمتنبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ثمَّ أشعار الْمَشْهُورين بالجودة من أهل العصور الْمُتَأَخِّرَة ويستعين على فهم مَا استعصب عَلَيْهِ بكتب اللُّغَة ويكب على الْكتب الْمُشْتَملَة على تراجم أهل الْأَدَب = كيتيمة الدَّهْر = وذيولها = وقلائد العقيان = وَمَا هُوَ على نمطه من مؤلفات أهل الْأَدَب = كالريحانة = و = النفحة = كَيفَ تصبح منشئا وكما يحْتَاج إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من أَرَادَ أَن يكون شَاعِرًا فَهُوَ يحْتَاج إِلَيْهِ أَيْضا من أَرَادَ أَن يكون منشئا مَعَ احْتِيَاجه إِلَى الإطلاع على = الْمثل السائر = لِابْنِ الْأَثِير و = الْكَامِل = للمبرد و = الأمالي = للقالي ومجاميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 خطب البلغاء ورسائلهم خُصُوصا مثل مَا هُوَ مدون من بلاغات الجاحظ والفاضل والعماد وأمثالهم فَإِنَّهُ ينْتَفع بذلك أتم انْتِفَاع كَيفَ تصبح محاسبا وَمن أَرَادَ أَن يكون محاسبا اشْتغل بِعلم الْحساب ومؤلفاته مَعْرُوفَة كَيفَ تصبح عَالما بالفلسفة وَهَكَذَا من أَرَادَ أَن يطلع على علم الفلسفة فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى معرفَة الْعلم الرياضي وَهُوَ علم يعرف بِهِ أَحْوَال الْكمّ الْمُتَّصِل والمنفصل وَالْعلم الطبيعي وَهُوَ الْعلم الباحث عَن أَحْوَال عَالم الْكَوْن وَالْفساد وَالْعلم الإلهي وَهُوَ الْعلم الباحث عَن أَحْوَال الْمَوْجُود بِمَا هُوَ مَوْجُود مَعَ مَا يتَعَلَّق بذلك من أَحْوَال المبدأ والمعاد وَهَكَذَا علم الهندسة وَهُوَ الْعلم الباحث عَن مقادير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الْأَشْيَاء كَمَا وكيفا ومبادئ الأشكال فَمن جمع هَذِه الْعُلُوم الْأَرْبَعَة أَعنِي الرياضي والطبيعي والإلهي والهندسي صَار فيلسوفا وَالْعلم بالعلوم الفلسفية لَا يُنَافِي علم الشَّرْع بل يزِيد المتشرع الَّذِي قد رسخت قدمه فِي علم الشَّرْع غِبْطَة بِعلم الشَّرْع ومحبة لَهُ لِأَنَّهُ يعلم أَنه لَا سَبِيل للوقوف على مَا حاول الفلاسفة الْوُقُوف عَلَيْهِ إِلَّا من جِهَة الشَّرْع وَأَن كل بَاب غير هَذَا الْبَاب لَا يَنْتَهِي بِمن دخل إِلَيْهِ إِلَى غَايَة وَفَائِدَة كَيفَ تصبح طَبِيبا وَمن كَانَ مرِيدا لعلم الطِّبّ فَعَلَيهِ بمطالعة كتب جالينوس فَإِنَّهَا أَنْفَع شئ فِي هَذَا الْفَنّ بِاتِّفَاق من جَاءَ بعده من المشتغلين بِهَذِهِ الصِّنَاعَة إِلَّا النَّادِر الْقَلِيل وَقد انتقى مِنْهَا جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين سِتَّة عشر كتابا وشرحوها شروحا مفيدة فَإِن تعذر عَلَيْهِ ذَلِك فأكمل مَا وقفت عَلَيْهِ من الْكتب الجامعة بَين الْمُفْردَات والمركبات والعلاجات كتاب = القانون = لِابْنِ سينا و = كَامِل الصِّنَاعَة = الْمَشْهُور ب = الملكي = لعَلي بن الْعَبَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وَمن أَنْفَع المختصرات فِي هَذَا الْفَنّ = الذَّخِيرَة = لِثَابِت بن قُرَّة فَإِنَّهَا قد تَضَمَّنت من العلاجات النافعة والأدوية المجربة مَعَ اختصارها مَا هُوَ قَائِم مقَام كثير من المطرلات وَمن أَنْفَع مَا فِي هَذَا الْفَنّ بِاعْتِبَار خَواص الْأَدْوِيَة المفردة وَبَعض المركبات = تذكرة الشَّيْخ دَاوُد الْأَنْطَاكِي = وَلَو كمل بالمعالجات لَكَانَ مغنيا عَن غَيره وَلكنه انْقَطع بعد أَن شرع فِي الْكَلَام على معالجات الْعِلَل على حُرُوف أبجد فوصل إِلَى حرف الطَّاء ثمَّ انْقَطع الْكتاب وَمن أَنْفَع الْكتب فِي هَذَا الْفَنّ = الموجز = وشروحه وَبِالْجُمْلَةِ فَمن كَانَ قَاصِدا إِلَى علم من الْعُلُوم كَانَ عَلَيْهِ أَن يتَوَصَّل إِلَيْهِ بالمؤلفات الْمَشْهُورَة بنفع من اشْتغل بهَا المحررة أحسن تَحْرِير المهذبة أبلغ تَهْذِيب وَقد قدمنَا فِي كل فن مَا فِيهِ إرشاد إِلَى أحسن المؤلفات فِيهِ كَيفَ تكون عَالما بِمذهب من الْمذَاهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَكَثِيرًا مَا يقْصد الطَّالِب الَّذِي لم يتدرب بأخلاق المنصفين ويتهذب بإرشاد الْمُحَقِّقين الِاطِّلَاع على مَذْهَب من الْمذَاهب الْمَشْهُورَة وَلم تكن لَهُ فِي غَيره رَغْبَة وَلَا عِنْده لما سواهُ نشاط فأقرب الطَّرِيق إِلَى إِدْرَاك مقْصده ونيل مأربه أَن يَبْتَدِئ بِحِفْظ مُخْتَصر من مختصرات أهل ذَلِك الْمَذْهَب = كالكنز = فِي مَذْهَب الْحَنَفِيَّة و = الْمِنْهَاج = فِي مَذْهَب الشَّافِعِيَّة فَإِذا صَار ذَلِك الْمُخْتَصر مَحْفُوظًا لَهُ متقنا على وَجه يَسْتَغْنِي بِهِ عَن حمل الْكتاب شرع فِي تفهم مَعَانِيه وتدبر مسَائِله على شيخ من شُيُوخ ذَلِك الْفَنّ حَتَّى يكون جَامعا بَين حفظ ذَلِك الْمُخْتَصر وَفهم مَعَانِيه مَعَ كَونه مكررا لدرسه متدبرا لمعانيه الْوَقْت بعد الْوَقْت حَتَّى يرسخ حفظه رسوخا يَأْمَن مَعَه من التفلت ثمَّ يشْتَغل بدرس شرح مُخْتَصر من شروحه على شيخ من الشُّيُوخ ثمَّ يترقى إِلَى مَا هُوَ أَكثر مِنْهُ فَوَائِد وأكمل مسَائِل ثمَّ يكب على مطالعة مؤلفات الْمُحَقِّقين من أهل ذَلِك الْفَنّ فيضم مَا وجده من الْمسَائِل خَارِجا عَن ذَلِك الْمُخْتَصر قد صَار مَحْفُوظًا لَهُ إِلَيْهِ على وَجه يستحضره عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ وَلكنه إِذا لم يكن لَدَيْهِ من الْعلم إِلَّا مَا قد صَار عِنْده من فقه ذَلِك الْمَذْهَب فَلَا ريب أَنه يكون عَامي الْفَهم سيء الْإِدْرَاك عَظِيم البلادة غليظ الطَّبْع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فَعَلَيهِ أَن يَبْتَدِئ بتهذيب فهمه وتلقيح فكره بِشَيْء من مختصرات النَّحْو ومجاميع الْأَدَب حَتَّى تثبت لَهُ الفقاهة الصورية وَأما الفقاهة الْحَقِيقِيَّة فَلَا يَتَّصِف بهَا إِلَّا الْمُجْتَهد بِلَا خلاف بَين الْمُحَقِّقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 مبَاحث ضَرُورِيَّة لطَالب الْحق جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد الدَّلَائِل الْعَامَّة والكليات أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة أَو قرينَة التحايل على أَحْكَام الشَّرِيعَة الْإِجْمَاع - الْقيَاس الِاجْتِهَاد - الِاسْتِحْسَان مفاسد أَصَابَت دين الْإِسْلَام الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي بعض الْأَمْوَات تعدد الْمذَاهب مفاسد بعض أدعياء التصوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَإِذا عرفت مَا يَنْبَغِي لكل طبقَة من تِلْكَ الطَّبَقَات من المعارف العلمية فلنكمل لَك الْفَائِدَة بِذكر مبَاحث ينْتَفع بهَا طَالب الْحق ومريد الْإِنْصَاف انتفاعا عَاما ويرتقي بهَا إِلَى مَكَان يَسْتَغْنِي بِهِ عَن كثير من الجزئيات جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد فَمِنْهَا أَن يعلم أَن هَذِه الشَّرِيعَة المطهرة السمحة مَبْنِيَّة على جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد وَمن تتبع الوقائع الكائنة من الْأَنْبِيَاء والقصص المحكية فِي كتب الله الْمنزلَة علم ذَلِك علما لَا يشوبه شكّ وَلَا تخالطه شُبْهَة وَقد وَقع ذَلِك من نَبيا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقوعا لَا يُنكره من لَهُ أدنى علم بالشريعة المطهرة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تبين لَهُ نفاق بعض الْمُنَافِقين واستحقاقه للْقَتْل بِحكم الشَّرِيعَة قَالَ لَا يتحدث النَّاس بِأَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه فَترك قَتله لجلب مصلحَة هِيَ أتم نفعا لِلْإِسْلَامِ وَأكْثر عَائِدَة على أَهله وَدفع مفْسدَة هِيَ أعظم من الْمفْسدَة الكائنة بترك قَتله وَبَيَان ذَلِك أَنه إِذا تحدث النَّاس بِمثل هَذَا الحَدِيث وشاع بَينهم شيوعا لَا يتَبَيَّن عِنْده السَّبَب كَانَ ذَلِك من أعظم المنفرات لأهل الشّرك عَن الدُّخُول فِي الدّين لِأَنَّهُ يصد أسماعهم ذَلِك الحَدِيث فيظنون عِنْده أَن مَا يعتقدونه من السَّلامَة من الْقَتْل بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَام غير صَحِيح فيهربون مِنْهُ هربا شَدِيدا ويبعدون عَنهُ بعدا عَظِيما وَهَكَذَا وَقع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّأْثِير لجَماعَة مِمَّن لم تثبت قدمه فِي الْإِسْلَام بغنائم حنين كَأبي سُفْيَان والأقرع بن حَابِس وعيينة بن حصن فَكَانَ يُعْطي الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ وأمثالهم الْمِائَة من الْإِبِل وَمَا يقوم مقَام ذَلِك والمهاجرون وَالْأَنْصَار الَّذين هم الْمُقَاتلَة المستحقون للغنيمة ينظرُونَ إِلَى التَّأْثِير وَوَقع فِي أنفسهم مَا وَقع حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ يرحم الله رَسُول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يُعْطي هَؤُلَاءِ وسيوفنا تقطر من الدِّمَاء فَلَمَّا علمُوا بِمَا أَرَادَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمصلحَة العائدة على الْإِسْلَام وَأَهله بتأليف مثل هَؤُلَاءِ وتأثيرهم بِالْغَنِيمَةِ قبلوه أتم قبُول وَطَابَتْ أنفسهم أكمل طيبَة وَهَكَذَا وَقع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَزْم على مصالحة الْأَحْزَاب بِثلث ثمار الْمَدِينَة ظنا مِنْهُ بِأَن فِي ذَلِك جلب مصلحَة وَدفع مفْسدَة فَلَمَّا تبين لَهُ أَن التّرْك أجلب للْمصْلحَة وأدفع للمفسدة صَار إِلَيْهِ وَهَكَذَا وَقع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَن تلقيح النّخل فَلَمَّا تبين لَهُ مَا فِي ذَلِك من الْمصلحَة لأَهله أذن لَهُم بِهِ وَهَكَذَا وَقع مِنْهُ الْأذن بالعرايا لما شكى عَلَيْهِ الْفُقَرَاء مَا يلحقهم من الْمفْسدَة بِالْمَنْعِ من شِرَاء الرطب بِالتَّمْرِ مَعَ عظم الْخطر فِيمَا هُوَ مَظَنَّة بالربا وَكم يعد الْعَاد من هَذِه الْأُمُور وَبِالْجُمْلَةِ فَكل مَا وَقع من النّسخ والتخصيص وَالتَّقْيِيد فِي هَذِه الشَّرِيعَة المطهرة فسببه جلب الْمصَالح أَو دفع الْمَفَاسِد فَإِن كل عَالم بِعلم أَن نسخ الحكم بِحكم آخر يُخَالِفهُ لم يكن إِلَّا لما فِي النَّاسِخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 من جلب مصلحَة أَو دفع مفْسدَة زَائِدَة على مَا فِي الأولى من النَّفْع وَالدَّفْع وَهَكَذَا بالتقييد كَمَا وَقع فِي قَوْله تَعَالَى (غير أولى الضَّرَر) وَقَوله عز وَجل (من الْفجْر) وَنَحْو ذَلِك كثير جدا وَقد كَانَ دينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهجيره الْإِرْشَاد إِلَى التَّيْسِير دون التعسير وَإِلَى التبشير دون التنفير فَكَانَ يَقُول يسروا وَلَا تُعَسِّرُوا وَلَا تنفرُوا وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرشد إِلَى الألفة واجتماع الْأَمر وينفر عَن الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف لما فِي الألفة والاجتماع من الجلب للْمصَالح وَالدَّفْع للمفاسد وَفِي الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف من عكس ذَلِك فالعالم المرتاض بِمَا جَاءَنَا عَن الشَّارِع الَّذِي بَعثه الله تَعَالَى متمما لمكارم الْأَخْلَاق إِذا أَخذ نَفسه فِي تَعْلِيم الْعباد وإرشادهم إِلَى الْحق وجذبهم عَن الْبَاطِل ودفعهم عَن الْبدع وَالْأَخْذ بحجزهم عَن كل مزلقة من المزالق مدحضة من المداحض بالأخلاق النَّبَوِيَّة وَالشَّمَائِل المصطفوية الْوَارِدَة فِي الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة المطهرة فيسر وَلم يعسر وَبشر وَلم ينفر وأرشد إِلَى ائتلاف الْقُلُوب واجتماعها وَنهى عَن التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف وَجعل غَايَة همه وأقصى رغبته جلب الْمصَالح الدِّينِيَّة للعباد وَدفع الْمَفَاسِد عَنْهُم كَانَ من أَنْفَع دعاة الْمُسلمين وأنجع الحاملين لحجج رب الْعَالمين وانجذبت لَهُ الْقُلُوب ومالت إِلَيْهِ الْأَنْفس وتذلل لَهُ الصعب وتسهل عَلَيْهِ الوعر وانقلب لَهُ المتعصب منصفا والمبتدع متسننا وَرغب فِي الْخَيْر من لم يكن يرغب فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَمَال إِلَى الْكتاب وَالسّنة من كَانَ يمِيل عَنْهُمَا وتردى بأثواب الرِّوَايَة من كَانَ متجلببا بِالرَّأْيِ وَمَشى فِي رياض الِاجْتِهَاد واقتطف من طيب ثمراته واستنشق من عابق رياحينه مَا كَانَ معتقلا فِي سجن التَّقْلِيد مكبلا بالقيل والقال مكتوفا بآراء الرِّجَال فَإِن قلت مَا ذكرته من انبناء الشَّرِيعَة المطهرة على جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد مَاذَا تُرِيدُ بِهِ هَل يُلَاحظ ذَلِك النَّفْع وَالدَّفْع مُطلقًا أَو فِي حَالَة من الْحَالَات قلت لَا أُرِيد مَا قَدمته إِلَّا أَن مَا لم يرد فِيهِ نَص يَخُصُّهُ وَلَا اشْتَمَل عَلَيْهِ عُمُوم وَلَا تنَاوله إِطْلَاق فَحق على الْعَالم المرشد للعباد الطَّالِب للحق أَن يستحضر ذَلِك ويرشد إِلَيْهِ ويهتم بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَأما مواقع النُّصُوص وموارد أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة ومواطن قيام الْحجَج فَلَا جلب نفع وَلَا دفع ضرّ أولى من ذَلِك وَأقرب مِنْهُ إِلَى الْخَيْر وَأولى مِنْهُ بِالْبركَةِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مصَالح مجلوبة ومفاسد مدفوعة وَإِن قصرت بعض الْعُقُول عَن إِدْرَاك ذَلِك والإحاطة بكنهه وَالْوُقُوف على حَقِيقَته فَمن قُصُورهَا أتيت وَمن ضعف إِدْرَاكهَا دهيت وَمن تدبر ذَلِك كل التدبر وتأمله بِحَق التَّأَمُّل لم يخف عَلَيْهِ فَإِن كل جزئي من جزئيات الشَّرِيعَة الَّتِي قَامَ الدَّلِيل على طلبَهَا والتعبد بهَا للْكُلّ أَو الْبَعْض مُطلقًا أَو مُقَيّدا لَا بُد أَن يشْتَمل على جلب مصلحَة أَو مصَالح عرفهَا من عرفهَا وجهلها من جهلها وكل جزئي من جزئيات الشَّرِيعَة الْوَارِدَة بِالنَّهْي عَن أَمر أَو أُمُور لَا بُد أَن يكون الْمنْهِي عَنهُ مُشْتَمِلًا على مفْسدَة أَو مفاسد تنْدَفع بِالنَّهْي عَنْهَا ولمزيد التتبع وَكَثْرَة التدبر فِي ذَلِك مدخلية جليلة لَا سِيمَا مَعَ استحضار الِاسْتِعَانَة بِاللَّه والتوكل عَلَيْهِ والتفويض إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الدَّلَائِل الْعَامَّة والكليات وَمِمَّا يَسْتَعِين بِهِ طَالب الْحق ومريد الْإِنْصَاف على مَا يُريدهُ من ربط الْمسَائِل بالدلائل وَالْخُرُوج من آراء الرِّجَال المتلاعبة بِأَهْلِهَا من يَمِين إِلَى شمال أَن يتدبر الدَّلَائِل الْعَامَّة ويتفكر فِيمَا ينْدَرج تحتهَا من الْمسَائِل بِوَجْه من وُجُوه الدّلَالَة الْمُعْتَبرَة فَإِنَّهُ إِذا تمرن فِي ذَلِك وتدرب صَار مستحضرا لدَلِيل كل مَا يسْأَل عَنهُ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كَائِنا مَا كَانَ وَعرف معنى قَوْله عز وَجل (مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء) وَمن أمعن النّظر فِيمَا وَقع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اسْتِخْرَاج الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من كتاب الله تَعَالَى زَاده ذَلِك بَصِيرَة كَمَا ثَبت عَنهُ أَنه لما سُئِلَ عَن الْحمر الْأَهْلِيَّة فَقَالَ لم أجد فِيهَا إِلَّا هَذِه الْآيَة القائلة (من يعلم مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره) فَإِن فِي هَذَا وَأَمْثَاله أعظم عِبْرَة للمعتبرين وَأجل بَصِيرَة للمتبصرين وأوضح قدرَة للمعتدين من الْعلمَاء الْمُجْتَهدين وَثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعَمْرو ابْن الْعَاصِ صليت بصحابك وَأَنت جنب يَا عَمْرو فَقَالَ سَمِعت الله يَقُول (وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم) فقرره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضحك وَلم يقل شَيْئا وَهَذَا بَاب وَاسع يطول تعداده وَهَكَذَا التفكر فِي الكليات الصادرة عَمَّن أعْطى جَوَامِع الْكَلم وأفصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 من نطق بالضاد كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ فَإِن هَذَا اللَّفْظ الموجز والعبارة المختصرة صَالِحَة للاستدلال بهَا على كل جُزْء من جزئيات الشَّرْع فَتدخل مَا حصلت فِيهِ النِّيَّة فِي عداد الْأَعْمَال المقبولة وَيخرج مَا لم تحصل فِيهِ النِّيَّة إِلَى حيّز الْأَعْمَال الْمَرْدُودَة وَتصير بهَا الْمُبَاحَات قربات وعبادات أقل أحوالها الاندراج تَحت حقائق المندوبات وَيبْطل كثير من الصُّور والحاكية لما هُوَ من الْعِبَادَات بِعقد النِّيَّة وَعدم وجودهَا لَا على الْوَجْه الْمُعْتَبر وَكَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل بِدعَة ضَلَالَة وَمن غَشنَا فَلَيْسَ منا والحلال بَين وَالْحرَام بَين وكل أَمر لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فَإِن كل فَرد من أَفْرَاد هَذِه الْعبارَات وأمثالها صَالح لجعله قَضِيَّة كبرى للشكل الأول فَلَا يبْقى فَرد من الْأَفْرَاد إِلَّا وَأمكن إدراجه تَحت هَذِه الْكُلية باجتلاب قَضِيَّة صغرى سهلة الْحُصُول نقُول مثلا هَذَا أَمر لَيْسَ عَلَيْهِ أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكل أَمر لَيْسَ عَلَيْهِ أمره رد فَهَذَا رد فَلَا يبْقى فعل وَلَا قَول وَلَا اعْتِقَاد لم يَأْتِ بِهِ الشَّرْع إِلَّا وَأمكن الِاسْتِدْلَال على رده بِهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح وَهَكَذَا الْعَمَل فِي سَائِر الكليات والمتحلى بالمعارف العلمية يَسْتَغْنِي بِمُجَرَّد الْإِشَارَة والإيقاظ لِأَن الْموَاد قد حصلت لَهُ بِمَا حصله من الْعُلُوم ومارسه من المعارف فَرُبمَا يغْفل عَن إِخْرَاج مَا فِي الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل فَإِذا نبه على ذَلِك تنبه وَكَانَ الْعَمَل سهلا وَالِانْتِفَاع بالعلوم يَسِيرا أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة أَو قرَابَة وَمن جملَة مَا يَنْبَغِي تصَوره ويعينه استحضاره أَن يعلم أَن هَذِه الشَّرِيعَة الْمُبَارَكَة هِيَ مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة من الْأَوَامِر والنواهي والترغيبات والتنفيرات وَسَائِر مَاله مدْخل فِي التَّكْلِيف من غير قصد إِلَى التعمية والألغاز وَلَا إِرَادَة لغير مَا يفِيدهُ الظَّاهِر وَيدل عَلَيْهِ التَّرْكِيب ويفهمه أهل اللِّسَان الْعَرَبِيّ فَمن زعم أَن حرفا من حُرُوف الْكتاب وَالسّنة لَا يُرَاد بِهِ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمدلول الْوَاضِح فقد زعم على الله وَرَسُوله زعما يُخَالف اللَّفْظ الَّذِي جَاءَنَا عَنْهُمَا فَإِن كَانَ ذَلِك لمسوغ شَرْعِي تتَوَقَّف عَلَيْهِ الصِّحَّة الشَّرْعِيَّة أَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الْعَقْلِيَّة الَّتِي يتَّفق الْعُقَلَاء عَلَيْهَا لَا مُجَرّد مَا يَدعِيهِ أهل الْمذَاهب والنحل على الْعقل مطابقا لما قد حببه إِلَيْهِم التعصب فأدناه من عُقُولهمْ الْبعد عَن الْإِنْصَاف فَلَا بَأْس بذلك وَإِلَّا فدعوى التَّجَوُّز مردوده مَضْرُوب بهَا فِي وَجه صَاحبهَا فاحرص على هَذَا فَإِنَّهُ وَإِن وَقع الِاتِّفَاق على أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة وقرينة كَمَا صرح بِهِ فِي الْأُصُول وَغَيرهَا فالعلم فِي كتب التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه يُخَالف هَذَا لمن تدبره وأعمل فكره وَلم يغتر بالظواهر وَلَا جمد على قبُول مَا يُقَال من دون بحث عَن موارده ومصادره وَكَثِيرًا مَا يجد المتعصبين يحأمون عَن مذاهبم ويؤثرونها على نُصُوص الْكتاب وَالسّنة فَإِذا جَاءَهُم نَص لَا يَجدونَ عَنهُ متحولا وأعياهم رده وأعجزهم دَفعه أَدْعُو أَنه مجَاز واذْكُرُوا للتجوز علاقَة هِيَ من الْبعد بمَكَان وقرينة لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِك الْمقَام وجود وَلَا تَدْعُو إِلَيْهَا حَاجَة وَأَعَانَهُمْ على هَذِه الترهات استكثارهم من تعداد أَنْوَاع الْقَرَائِن والعلاقات حَتَّى جعلُوا من جملَة مَا هُوَ من العلاقات المسوغة للتجوز التضاد فَانْظُر هَذَا التلاعب وتدبر هَذِه الْأَبْوَاب الَّتِي فتحوها على أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وَقبلهَا عَنْهُم من لم يمعن النّظر ويطيل التدبر فَجَعلهَا علما وَقبلهَا على كتاب الله وَسنة رَسُوله وَأَصلهَا دَعْوَة افتراها على أهل اللُّغَة متعصب قد آثر مذْهبه على الْكتاب وَالسّنة لم يسْتَطع التَّصْرِيح بترجيح الْمَذْهَب على الدَّلِيل فدقق الْفِكر وأعمق النّظر عنادا الله تَعَالَى وبغيا على شَرِيعَته وخداعا لِعِبَادِهِ فَقَالَ هَذَا الدَّلِيل وَإِن كَانَ مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيّ يُخَالف مَا نَذْهَب إِلَيْهِ فَهُوَ هُنَا مجَاز والعلاقة كَذَا والقرينة كَذَا وَلَا علاقَة وَلَا قرينَة فَيَأْتِي بعد عصر هَذَا المتعصب من لَا يبْحَث عَن الْمَقَاصِد وَلَا يتدبر المسالك كَمَا يَنْبَغِي فَيجْعَل تِلْكَ العلاقة الَّتِي افتراها ذَلِك المتعصب من جملَة العلائق المسوغة للتجوز وَلِهَذَا صَارَت العلاقات قَرِيبا من ثَلَاثِينَ علاقَة ثمَّ لما كَانَ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 جملَة أَنْوَاع الْقَرَائِن الْعُرْفِيَّة والعقلية افترى كل متعصب على الْعقل وَالْعرْف مَا شَاءَ وصنع فِي مَوَاطِن الْخلاف مَا أرد وَالله الْمُسْتَعَان التحايل على أَحْكَام الشَّرِيعَة وَمن جملَة مَا يَسْتَعِين بِهِ على الْحق ويأمن مَعَه من الدُّخُول فِي الْبَاطِل وَهُوَ لَا يشْعر أَن يُقرر عِنْد نَفسه أَن هَذِه الشَّرِيعَة لما كَانَت من عِنْد عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الَّذِي لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها وَيعلم مَا تكن الصُّدُور وتخفيه الضمائر ويحول بَين الْمَرْء وَقَلبه كَانَت المخادعة بالحيل الْبَاطِلَة والتخلص مِمَّا طلبه بالوسائل الْفَاسِدَة من أعظم الْمعاصِي لَهُ وأقبح التجرؤ عَلَيْهِ وَجَمِيع هَذِه الْحِيَل الَّتِي دونهَا أهل الرَّأْي هِيَ ضد لما شَرعه وعناد لَهُ ومراوغة لأحكامه ومجادلة بَاطِلَة لما جَاءَ فِي كِتَابه وَسنة رَسُوله وَمن تفكر فِي الْأَمر كَمَا يَنْبَغِي وتدبره كَمَا يجب اقشعر لَهُ جلده وقف عِنْده شعره فَإِن هَذَا الَّذِي وضع للعباد هَذِه الْحِيَل كَأَنَّهُ يَقُول لَهُم هَذَا الحكم الَّذِي أوجبه الله عَلَيْكُم أَو حرمه قد وجدت لكم عَنهُ مخلصا وَمِنْه متحولا بذهني الدَّقِيق وفكري العميق هُوَ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا المخذول قد بلغ من التجرؤ على الله تَعَالَى مبلغا يتقاصر عَنهُ الْوَصْف لِأَنَّهُ ذهب يعانده ويضاد مَا تعبدنا بِهِ بِمُجَرَّد رَأْيه الفايل وتخليه الْبَاطِل مقرا على نَفسه بقبيح صنعه وَأَنه جَاءَ بِمَا يرِيح الْعباد من الحكم الشَّرْعِيّ فَإِن كَانَ مَعَ هَذَا مُعْتَقدًا أَن ذَلِك التحيل الَّذِي جَاءَ بِهِ يحلل الْحَرَام وَيحرم الْحَلَال فَهُوَ مَعَ كذبه على الله وافترائه على شَرِيعَته قد ضم إِلَى ذَلِك مَا يسْتَلْزم أَنه يَدعِي لنَفسِهِ أَن يشرع للعباد من عِنْد نَفسه غير مَا شَرعه لَهُم وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا لله سُبْحَانَهُ فَإِن كَانَ هَذَا المخذول يَدعِي لنَفسِهِ الإلوهية مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الله سُبْحَانَهُ فحسبك من شَرّ سَمَاعه وَإِن كَانَ لَا يَدعِي لنَفسِهِ ذَلِك فَيُقَال لَهُ مَا بالك تصنع هَذَا الصنع وَأي أَمر ألجأك إِلَيْهِ وأوقعك فِيهِ قَالَ فَإِن رَأَيْت الله عز وَجل قد صنع مثل هَذَا فِي مثل قصَّة أَيُّوب وصنعه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَرِيض الَّذِي زنى فَيُقَال لَهُ مَا أَنْت وَهَذَا لأكْثر الله فِي أهل الْعلم من أمثالك وَمن أَنْت حَتَّى تجْعَل لنَفسك مَا جعله الله لنَفسِهِ فَلَو كَانَ هَذَا الْأَمر الفظيع سائغا لأحد من عباد الله لَكَانَ لَهُم أَن يشرعوا كَمَا شرع وينسخوا من أَحْكَام الدّين مَا شاوا كَمَا نسخ ثمَّ أَي جَامع بَين هَذِه أَو بَين مَا شَرعه الله من ذَلِك فَإِنَّهُ مُجَرّد خُرُوج من مأثم وتحلل من يَمِين قد شرع الله تَعَالَى فِيهَا إتْيَان الَّذِي هُوَ خير كَمَا تَوَاتَرَتْ بذلك الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة حَتَّى ثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلف على ذَلِك فَقَالَ وَالله لَا أَحْلف على شئ فَأرى غَيره خيرا مِنْهُ إِلَّا أتيت الَّذِي هُوَ خير وكفرت عَن يَمِيني فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا يصنعه أسراء التَّقْلِيد من الْكَذِب على الله تَعَالَى وعَلى شَرِيعَته وعَلى عباده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أما الْكَذِب على الله فلكونهم زَعَمُوا عَلَيْهِ أَنه أذن لَهُم وسوغه لَهُم وَهُوَ كذب بحت وزور مَحْض وَإِن كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك بل جَعَلُوهُ من عِنْد أنفسهم جرْأَة وعنادا ومكرا وخداعا فَالْأَمْر أَشد والقضية أعظم وَأما كذبهمْ على الشَّرِيعَة فلكونهم جعلُوا مَا نصبوه من الْحِيَل الملعونة والذرائع الشيطانية والوسائل الطاغوتية من جملَة الشَّرِيعَة وَمن مسائلها ودونوه فِي كتب الْعِبَادَات والمعاملات وَأما الْكَذِب على عباده فلكونهم ذَهَبُوا إِلَيْهِم فخدعوهم وماكروهم بِأَن مَا أوجبه الله من كَذَا لَيْسَ بِوَاجِب وَمَا حرمه من كَذَا لَيْسَ بِمحرم إِذا فعلوا كَذَا أَو قَالُوا كَذَا وَمَا أشبه هَذَا بِمَا كَانَ يصنعه رُؤَسَاء الْجَاهِلِيَّة لأَهْلهَا من التلاعب بهم كَمَا يتلاعب الصّبيان والمجانين وكما يصنعه المجان وَأهل الدعاية فَإِن تَحْرِيم الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحام وَكَذَلِكَ مَا كَانَ يَفْعَلُونَهُ من النسئ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من الميسر والأنصاب والأزلام وَمَا كَانُوا يعتمدونه من يطوف بِالْبَيْتِ الْحَرَام من تِلْكَ الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ أشبه بِأَفْعَال المجانين كالتعري وَمَا يشاكله لَا مقصد لرؤساء الْجَاهِلِيَّة بِهَذِهِ الْأُمُور الَّتِي كَانُوا يفعلونها ويأمرون الْعباد بهَا إِلَّا مُجَرّد ارْتِفَاع الذّكر وَإِظْهَار اقتدارهم على تَنْفِيذ مَا يريدونه وَقبُول النَّاس لما يأمرونهم بِهِ وَإِن كَانَت أُمُور متكررة وبلايا مُتعَدِّدَة وأعمالا شاقة فَتدبر هَذَا وتأمله لتَكون على حذر من نفاق مَا جَاءُوا بِهِ من الْحِيَل الْبَاطِلَة عنْدك وَإِلَّا كنت كالبهيمة الَّتِي لَا تمنع ظهرهَا من رَاكب وَلَا تستعصى على مُسْتَعْمل وَقد دلّت أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة على هَذَا وَكَفاك بِمَا قصَّة الله سُبْحَانَهُ علينا من حِيلَة أهل السبت وَقد أورد البُخَارِيّ فِي = كتاب الْحِيَل = من صَحِيحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 مَا يشفى ويكفى ولبعض الْمُتَأَخِّرين فِي هَذَا مُصَنف حافل استوعب فِيهِ جَمِيع الْأَدِلَّة وَهِي مَعْلُومَة لعلماء الْكتاب وَالسّنة ولكننا اقتصرنا هَهُنَا على بَيَان الْأَسْبَاب الَّتِي تنشأ عَنْهَا الْحِيَل والمفاسد الَّتِي تتأثر عَنْهَا ليَكُون ذَلِك أوقع للْمُصَنف وأوقع فِي نَفسه كَمَا هُوَ دأبنا فِي هَذَا الْمُخْتَصر فَإنَّا نشِير إِلَى الْقَضِيَّة الَّتِي يَنْبَغِي اجتنابها بِكَلِمَات لَا تنبو عَنْهَا مسامع المنصفين وَلَا تنكرهَا قُلُوبهم وَلَا تبعد عَنْهَا أفهامهم وَإِذا حصل الْمَقْصُود بالاختصار لم تبْق للتطويل حَاجَة وَقد ينفع الْقَلِيل نفعا لَا يبلغهُ الْكثير على أَنا لم نَكُنْ بصدد نشر الْأَدِلَّة وإيراد ألفاظها فَإِنَّهَا مَعْرُوفَة مدونة بل نَحن بصدد الْإِرْشَاد إِلَى الْإِنْصَاف بعبارات تشْتَمل على معَان قد تحتجب عَن كثير من الأذهان وتبعد عَن غَالب الأفهام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 عدم الاغترار بِمُجَرَّد الِاسْم دون النّظر فِي مَعَاني المسميات وحقائقها وَمن جملَة مَا يَنْبَغِي لَهُ استحضاره أَن لَا يغتر بِمُجَرَّد الِاسْم دون النّظر فِي مَعَاني المسميات وحقائقها فقد يُسمى الشئ باسم شَرْعِي وَهُوَ لَيْسَ من الشَّرْع فِي شئ بل هُوَ طاغوت بحت وَذَلِكَ كَمَا يَقع من بعض من نَزعه عرق إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من عدم تَوْرِيث الْإِنَاث فَإِنَّهُم يخرجُون أَمْوَالهم أَو أَكْثَرهَا أَو أحْسنهَا إِلَى الذُّكُور من أَوْلَادهم بِصُورَة الْهِبَة وَالنّذر وَالْوَصِيَّة أَو الْوَقْف فَيَأْتِي من لَا يبْحَث عَن الْحَقَائِق فَينزل ذَلِك منزلَة التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة اغْتِرَارًا مِنْهُ بِأَن الشَّارِع سوغ للنَّاس الْهِبَة وَالنّذر وَالْوَصِيَّة غير ملتفت إِلَى أَن هَذَا لم يكن لَهُ من ذَلِك إِلَّا مُجَرّد الِاسْم الَّذِي أحدثه فَاعله وَلَا اعْتِبَار بالأسماء بل الِاعْتِبَار بالمسميات فالهبة الشَّرْعِيَّة هِيَ الَّتِي أرشد إِلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سَأَلَهُ بشير وَالِد النُّعْمَان عَن تَخْصِيص وَلَده النُّعْمَان بِشَيْء من مَال وَطلب مِنْهُ أَن يشْهد على ذَلِك فَقَالَ لَا أشهد على جور وَوَقع مِنْهُ الْأَمر بالتسوية بَين الْأَوْلَاد وَهُوَ حَدِيث صَحِيح لَهُ طرق مُتعَدِّدَة فالهبة الْمُشْتَملَة على التَّفْصِيل الْمُخَالف لفرائض الله لَيست بِهِبَة شَرْعِيَّة بل جور مضاد لما شَرعه الله فإطلاق اسْم الْهِبَة عَلَيْهَا مخادعة لله ولعباده فَلَا ينفذ من ذَلِك شئ بل هُوَ بَاطِل رده لكَونه لَيْسَ على أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَهَكَذَا من خصص بعض ورثته بِنذر يُخَالف مَا شَرعه الله من الْفَرَائِض فَهَذَا لَيْسَ هُوَ النّذر الَّذِي شَرعه الله بل هُوَ نذر طاغوتي فَإِن النّذر الَّذِي شَرعه الله سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النّذر مَا ابْتغى بِهِ وَجه الله وَيَقُول لَا نذر فِي مَعْصِيّة الله كَمَا هُوَ ثَابت فِي الصَّحِيح وَهَذَا النَّاذِر أخرج بعض مَاله إِلَى بعض ورثته مُخَالفا لما فَرْضه الله تَعَالَى من الْمَوَارِيث ثمَّ سمى ذَلِك الْبَعْض نذرا وَهُوَ لم يبتغ بِهِ وَجه الله وَلَا أطاعه بِهِ بل ابْتغى بِهِ وَجه الشَّيْطَان الَّذِي وسوس لَهُ بِأَن يُخَالف الشَّرْع وأطاعه بِمَعْصِيَة الله وَهَكَذَا من أخرج بعض مَاله على تِلْكَ الصّفة بِالْوَصِيَّةِ فَإِن هَذِه الْوَصِيَّة المتضمنة للمفاضلة بَين الْوَرَثَة لَيست الْوَصِيَّة الَّتِي شرعها الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ بل وَصِيَّة طاغوتية فَإِن الْوَصِيَّة الشَّرْعِيَّة هِيَ الَّتِي يَقُول فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله قد أعْطى كل حق حَقه وَلَا وَصِيَّة لوَارث وَيَقُول فِيهَا الرب تبَارك وَتَعَالَى (من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دين غير مضار) وَيَقُول فِيهَا (فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا فَأصْلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بَينهم فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) وَالْمرَاد بالإصلاح إبِْطَال مَا جَاءَ من الْفساد فِي وَصيته وَقد ورد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الضرار فِي الْوَصِيَّة من أَسبَاب النَّار وَأَنه يحبط عبَادَة الْعُمر كَمَا أخرج ذَلِك جمَاعَة وَصَححهُ من صَححهُ فَمن جَاءَتْهُ من هَذِه الْوَصَايَا الْمُشْتَملَة عل الضرار بِوَجْه من الْوُجُوه فأنفذها من الثُّلُث مستدلا على ذَلِك بِمثل حَدِيث الثُّلُث وَالثلث كثير وبمثل مَا ورد من سَائِر الْآيَات وَالْأَحَادِيث القاضية بِالْوَصِيَّةِ على الْإِطْلَاق فقد غلط بَينا فَإِن هَذِه الْوَصِيَّة الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثُّلُث وَالثلث كثير هِيَ وَصِيَّة قربَة كَمَا فِي الْقِصَّة الْمَشْهُورَة الثَّابِتَة فِي الْأُمَّهَات أَن سعد بن أبي وَقاص اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتَصَدَّق بِجَمِيعِ مَاله فمازال ينازله حَتَّى قَالَ لَهُ الثُّلُث وَالثلث كثير وَهَكَذَا مَا ورد من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله جعل لكم ثلث أَمْوَالكُم فِي آخر أعماركم فَإِنَّهُ قَيده بقوله فِي آخِره زِيَادَة فِي حسناتكم وَلَا يزِيد فِي الْحَسَنَات إِلَّا مَا كَانَ قربَة وَأما وَصَايَا الضرار المتضمنة لمُخَالفَته مَا شَرعه الله فَهِيَ زِيَادَة فِي السَّيِّئَات لَا زِيَادَة فِي الْحَسَنَات فَتبين لَك أَن هَذِه الْوَصِيَّة الَّتِي أذن بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لَيست وَصِيَّة الضرار فَإِن تِلْكَ قد أخرجهَا الله من عُمُوم مَشْرُوعِيَّة الْوَصِيَّة بقوله (غير مضار) وأخرجها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا تقدم من الْوَعيد الشَّديد لمن يضار فِي وَصيته وَيمْنَع الْوَصِيَّة للْوَارِث حَتَّى ثَبت فِي بعض الرِّوَايَات بِلَفْظ لَا تجوز وَصِيَّة لوَارث وَقد أوضحته فِي أبحاث مُتعَدِّدَة من مصنفاتي وَلَيْسَ المُرَاد هَهُنَا إِلَّا إرشاد طَالب إنصاف إِلَى عدم الاغترار بِمَا يَفْعَله المتلاعبون بِأَحْكَام الشَّرْع من تَسْمِيَة أُمُور تصدر عَنْهُم من الطاغوت بأسماء شَرْعِيَّة مخادعة لأَنْفُسِهِمْ واستدراجا لمن لَا فهم عِنْده وَلَا بحث عَن الْحَقَائِق وَهَذِه الذريعة الشيطانية قد عَمت وطمت خُصُوصا أهل الْبَادِيَة فَإِنَّهُ بقى فِي أنفسهم مَا كَانَت عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة الأولى من عدم تَوْرِيث الْإِنَاث وَمن لاحظ لَهُ عِنْدهم من الْوَرَثَة وَإِن كَانُوا ذُكُورا فأرادوا الِاقْتِدَاء بهم وَلَكنهُمْ لما كَانُوا مخبوطين بِسَوْط الشَّرْع مقهورين بِسَيْفِهِ نصبوا هَذِه الْوَسَائِل الملعونة فَقَالُوا نذرنا وهبنا أَو وصينا وساعدهم على ذَلِك طَائِفَة من الْمُقَصِّرِينَ الَّذين لَا يعْقلُونَ الصَّوَاب وَلَا يفهمون ربط المسببات بأسبابها فحرروا لَهُم تحريرات على أبلغ مَا يُفِيد النّفُوذ وَالصِّحَّة طَمَعا فِيمَا يتعجلونه من الحطام الَّذِي هُوَ من أقبح أَنْوَاع السُّحت فَإِن مَا يأخذونه على ذَلِك هُوَ حرَام كَمَا ثَبت عَن الشَّارِع من تَحْرِيم حلوان الكاهن وَأجر الْبَغي وَمَا يَأْخُذهُ من يعلم كتاب الله وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور وَلَا يشك من يفهم الْحجَج الشَّرْعِيَّة أَن سَبَب تَحْرِيم ذَلِك هُوَ كَونه على تَحْلِيل حرَام أَو تَحْرِيم حَلَال وَهَذَا الَّذِي يكْتب هَذِه المكاتيب الطاغوتية المتضمنة لمُخَالفَة مَا شَرعه الله من لِعِبَادِهِ من الْمَوَارِيث وَقدره لَهُم فِي كِتَابه وَقَيده بِعَدَمِ الضرار هُوَ أولى بِتَحْرِيم مَا يَأْخُذهُ من أُولَئِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وَقد يقوم شَيْطَان من شياطين المقلدة ومخذول من مخذولي المشتغلين بِالرَّأْيِ فيجادل عَن هَذِه الْوَصَايَا وَالنّذر ورد الهبات وَنَحْوهَا وينزلها منزلَة الْوَصَايَا وَالنُّذُور والهبات الشَّرْعِيَّة ويورد مَا قَالَه من يقلده مِمَّن يستعظم النَّاس كَلَامه ويقتدون بمذهبه ويحكى لَهُم مَا صرح بِهِ فِي هَذِه الْأَبْوَاب وَنَحْوهَا من مصنفاته غير متعقل الْفرق بَين هَذِه الطواغيت وَبَين تِلْكَ الْأُمُور الشَّرْعِيَّة وَلَا فاهم للمغايرة الْكُلية وَلَا متأمل للأسباب الَّتِي تصدر عَنْهَا تِلْكَ الْأُمُور وَأَن أهل الْعلم بأسرهم إِنَّمَا تكلمُوا فِي مصنفاتهم على الْأُمُور الشَّرْعِيَّة لَا الْأُمُور الْجَاهِلِيَّة وَأَن مُجَرّد الِاسْم لَا يحلل الْحَرَام وَلَا يحرم الْحَلَال كَمَا لَو سميت الْخمر مَاء أَو المَاء خمرًا فَإِنَّهُ لَو كَانَ الحكم يَدُور على التَّسْمِيَة لَكَانَ الْخمر الْمُسَمّى مَاء حَلَالا وَكَانَ المَاء الْمُسَمّى خمرًا حَرَامًا وَهَذَا خرق للشَّرْع وهتك للدّين وَمن اغْترَّ فَلَيْسَ من النَّوْع الإنساني بل من النَّوْع البهيمي وَلَا يَنْبَغِي الْكَلَام نعه بل يُقَال لَهُ هَذَا الَّذِي فِيهِ النزاع لَيْسَ هُوَ مَا تكلم عَلَيْهِ من تقلده وتقتدي بِهِ بل هُوَ شئ آخر يضاده وَيُخَالِفهُ لِأَن أهل الشَّرْع إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ على الْأُمُور الشَّرْعِيَّة وَهَذَا لَيْسَ شَرْعِي بل طاغوتي فَإِن فهم هَذَا استراح مِنْهُ وَإِن لم يفهمهُ فَفِي السُّكُوت رَاحَة من تحمل كرب مُخَاطبَة السُّفَهَاء وَلَقَد وقعنا مَعَ جمَاعَة من مقصري الْقُضَاة والمفتين فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي أُمُور عَظِيمَة وخطوب جسيمة وَفتن كَبِيرَة لَا يَتَّسِع الْمقَام لبسطها وَالْحق مَنْصُور وَالْبَاطِل مخذول وَللَّه الْحَمد وَأعظم مَا يتمسكون بِهِ من التَّغْرِير على الْعَوام والتزوير على الْمُلُوك وَمن يقدر على الْقيام بنصرهم استكثارهم من قَوْلهم هَذَا خَالف الْمَذْهَب فعل كَذَا قَالَ كَذَا وَلم يُخَالف فِي الْوَاقِع إِلَّا الطاغوت وَلَا نصر إِلَّا الشَّرْع فليحذر طَالب الْعلم من الاغترار بِمثل ذَلِك والروعة مِنْهُ فَإِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين وَالله نَاصِر المحقين والأعمال بِالنِّيَّاتِ وَلَقَد تلطف المحبون لهَذِهِ الطواغيت والمساعدون لَهُم على كتبهَا لما صممت على إِبْطَالهَا وأبطلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 كل من ترد عَلَيْهِ من فاض أَو غَيره بعد أَن وَقع بيني وَبينهمْ مَا أَشرت إِلَيْهِ سَابِقًا فَكَانَ من جملَة مَا عدلوا إِلَيْهِ من الذرائع والوسائل الْإِقْرَار للذكور أَو لمن يحبونَ بديون ونفقات ومكتسبات وَلم ينْفق ذَلِك عَليّ وَلَا الْتفت إِلَيْهِ بل كشفت عَن أصل كل إِقْرَار فَمَا كَانَ صادرا عَن هَذِه الْمَقَاصِد الْفَاسِدَة أبطلته وَمن جملَة مَا تلطف بِهِ من لَهُ أَوْلَاد ذُكُورا وإناثا أَن يعمدوا إِلَى أَوْلَاد أَوْلَادهم الذُّكُور فينذرون عَلَيْهِم ويوصون لَهُم وَيَقُولُونَ إِنَّهُم فعلوا ذَلِك لغير وَارِث وَلم يَفْعَلُوا ذَلِك إِلَّا لقصد تقليل نصيب بناتهم وتوفير نصيب الذُّكُور وَقد تتبعت هَذَا فَمَا وجدت أحدا يُوصي لأولاده أَوْلَاده أَو ينذر عَلَيْهِم إِلَّا وَمَعَهُ بَنَات أَو لَهُ ميل إِلَى بعض الْأَوْلَاد دون بعض وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِك لمقصد صَالح إِلَّا فِي أندر الْحَالَات وأقلها وَمن جملَة هَذِه الْوَصَايَا الطاغوتية وَالنُّذُور الشيطانية مَا يَفْعَله كثير من النَّاس من النذور والوصايا على قبُول الْأَمْوَات فَإِنَّهُ لَا مقصد لَهُم بذلك إِلَّا استجلاب الْخَيْر واستدفاع الشَّرّ من صَاحب الْقَبْر وَهُوَ قد صَار بَين أطباق الثرى يعجز عَن نفع نَفسه فضلا عَن نفع غَيره فَلَا يَصح شئ من ذَلِك بل يتَوَجَّه على أهل الولايات صرفه فِي مصَالح الْمُسلمين ويعرفون النَّاس بقبح مَا يصنعونه من ذَلِك وَأَنه من الْأُمُور الَّتِي لَا يحل اعتقادها وَأَن الضّر والنفع واستجلاب الْخَيْر واستدفاع الشَّرّ بيد الله عز وَجل لَيْسَ لغيره فِيهِ حكم وَلَا لَهُ عَلَيْهِ اقتدار فَإِن رجعُوا عَن ذَلِك وتابوا وَإِلَّا انْتقل صَاحب الْولَايَة مَعَهم إِلَى مَا هُوَ أَشد من ذَلِك وَلَا يدعهم حَتَّى يتوبوا وَهَكَذَا مَا يَقع من الْأَوْقَاف على الْقُبُور فَإِنَّهَا من الْحَبْس الشيطانية والدلس الطاغوتية وَلَا يحل تَقْرِير شئ مِنْهَا وَلَا السُّكُوت عَنهُ بل صرفهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فِي مصَالح الْمُسلمين من أهم الْأُمُور وأوجبها فَإِن فِي عدم إنكارها وإبطالها مفْسدَة عَظِيمَة تنشأ عَنْهَا الاعتقادات الْبَاطِلَة المفضية بصاحبها إِلَى نوع من أَنْوَاع الشّرك وَهُوَ لَا يشْعر الْإِجْمَاع و َالْقِيَاس وَالِاجْتِهَاد وَالِاسْتِحْسَان وَمن جملَة مَا يَنْبَغِي لطَالب الْحق أَن يتصوره ويحذر من قبُوله بِدُونِ كشف عَنهُ مَا يَجعله كثير من أهل الْعلم دَلِيلا يستدلون بِهِ على إِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة على الْعباد وَهُوَ الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَالِاجْتِهَاد وَالِاسْتِحْسَان الْإِجْمَاع فَأَما الْإِجْمَاع فقد أوضحت فِي كثير من مؤلفاتي أَنه لَيْسَ بِدَلِيل شَرْعِي على فرض إِمْكَانه لعدم وُرُود دَلِيل يدل على حجيته وأوضحت انه لَيْسَ بممكن لاتساع الْبِلَاد الإسلامية وَكَثْرَة الحاملين للْعلم وخمول كثير مِنْهُم فِي كل عصر من الْأَعْصَار مُنْذُ قَامَ الْإِسْلَام إِلَى هَذِه الْغَايَة وَتعذر الاستقراء التَّام لما عِنْد كل وَاحِد مِنْهُم وَأَن الْأَعْمَار الطَّوِيلَة لَا تتسع لذَلِك فضلا عَن الْأَعْمَار القصيرة فَإِن الْمَدِينَة الواسعة قد يعجز من هُوَ من أَهلهَا أَن يعرف مَا عِنْد كل فَرد من أَفْرَاد علمائها بل قد يعجز عَن معرفَة كل عَالم فِيهَا كَمَا هُوَ مشَاهد محسوس مَعْلُوم لكل فَرد فَكيف بِالْمَدَائِنِ المتباينة فَكيف بِجَمِيعِ الأقطار الإسلامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 بدوها وحضرها ومداينها وقراها فقد يُوجد فِي زَاوِيَة من الزوايا الَّتِي لَا يؤبه لَهَا وَلَا يرفع الرَّأْس إِلَيْهَا من يقل نَظِيره من الْمَشَاهِير فِي الْأَمْصَار الواسعة وَمَعَ هَذِه فَهَذَا الْمذَاهب قد طبقت الأقطار وَصَارَت عِنْد المنتمين إِلَى الْإِسْلَام قدوة يقتدون بهَا لَا يخرج عَنْهَا ويجتهد رَأْيه وَيعْمل بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيل إِلَّا الْفَرد بعد الْفَرد وَالْوَاحد بعد الْوَاحِد وهم على غَايَة الكتم لما عِنْدهم والتستر بِمَا لديهم خوفًا من المتمذهبين لأَنهم قد جعلُوا الْمَذْهَب الَّذِي هم عَلَيْهِ حجَّة شَرْعِيَّة على كل فَرد من أَفْرَاد الْعباد لَا يخرج عَنهُ خَارج وَلَا يُخَالِفهُ مُخَالف إِلَّا مزقوا عرضه وأهانوه وأخافوه والدولة فِي كل أَرض مَعَهم وَفِي أَيْديهم والملوك مَعَهم لأَنهم من جنسهم فِي الْقُصُور والبعد عَن الْحَقَائِق وَإِذا وجد النَّادِر من الْمُلُوك والشاذ من السلاطين لَهُ من الْإِدْرَاك والفهم للحقائق مَا يعرف بِهِ الْحق والمحقين فَهُوَ تَحت حكم المقلدة وطوع أَمرهم لأَنهم جنده ورعيته فَإِذا خالفهم خالفوه فيظن عِنْد ذَلِك ذهَاب ملكه وَخُرُوج الْأَمر من يَده وَإِذا كَانَ الْحَال هَكَذَا فَكيف يُمكن الْوُقُوف على مَا عِنْد كل عَالم من عُلَمَاء الْإِسْلَام هَذَا بِاعْتِبَار الْأَحْيَاء وَهُوَ فِي أهل العصور المنقرضة من الْأَمْوَات أَشد بعدا وَأعظم تعذرا فَإِنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى ذَلِك إِلَّا مَا يُوجد فِي المصنفات وَمَا كل من يعْتد بِهِ فِي الْإِجْمَاع يشْتَغل بالتصنيف بل المشتغلون بذلك مِنْهُم هم الْقَلِيل النَّادِر وَمَعَ هَذَا فَمن اشْتغل مِنْهُم بالتصنيف لَا يحظى بانتشار مؤلفاته مِنْهُم إِلَّا أقلهم وَهَذَا مَعْلُوم لكل أحد لَا يكَاد يلتبس وَلَا شكّ أَن من الْمُلُوك من يصر على أَمر مُخَالف للشَّرْع فَلَا يَسْتَطِيع أحد من أهل الْعلم أَن يُنكر عَلَيْهِ أَو يظْهر مُخَالفَته تقية ومحاذرة ورغبة فِي السَّلامَة وفرارا من المحنة وَبِالْجُمْلَةِ فالدنيا مُؤثرَة فِي كل عصر وَإِذا عجز الْملك عَن إِظْهَار مذْهبه على فرض أَنه من أهل الْإِدْرَاك وَالْحَال أَن بِيَدِهِ السَّيْف وَالسَّوْط فَمَا ظَنك بعالم المستضعف لم يكن بِيَدِهِ إِلَّا أقلامه ومحبرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَمِمَّا أحكيه لَك مِمَّا أَدْرَكته فِي أَيَّام الحداثة وَمن الصِّبَا أَن الإِمَام الْمهْدي الْعَبَّاس بن الْحُسَيْن رَحمَه الله تَعَالَى أحد مُلُوك الْيمن ووالد إمامنا الإِمَام الْمَنْصُور حفظه الله كَانَ لَهُ إِدْرَاك تَامّ وَفهم ثاقب واتصل بمقامه من أكَابِر الْعلمَاء المنصفين الْعَالمين بالأدلة جمَاعَة فأظهر فِي الصَّلَاة سنَن كَانَت متروكة لترك المتمذهبين لَهَا فَقَامَتْ قِيَامَة جمَاعَة من المتفيهقين المقلدين وأثاروا حفائظ جمَاعَة من شياطين البدوان الَّذين لَا يعْرفُونَ من الْإِسْلَام إِلَّا اسْمه وَلَا يَدْرُونَ من الدّين إِلَّا رسمه فتجمعوا فِي بواديهم وَقَالُوا قد خرج الإِمَام من مَذْهَب الشِّيعَة إِلَى مَذْهَب السّنة وَمن الِاقْتِدَاء بعلي بن أبي طَالب إِلَى الِاقْتِدَاء بِمُعَاوِيَة كَمَا لقنهم هَذِه الْمقَالة شياطين المقلدة ثمَّ خَرجُوا عَلَيْهِ فِي جند يعجز عَن مقاومتهم فَمَا وَسعه إِلَّا مصانعتهم بِالْمَالِ والإعلان بترك تِلْكَ السّنَن الَّتِي هِيَ أوضح من شمس النَّهَار وأحكي لَك أَيْضا حَادِثَة أشنع من هَذِه كائنة فِي عَام تَحْرِير هَذِه الأحرف هِيَ أَنِّي لم أزل مُنْذُ اتَّصَلت بخليفة عصرنا حفظه الله مرغبا لَهُ فِي الْعدْل فِي الرّعية على الْوَجْه الَّذِي ورد الشَّرْع بِهِ وَرفع الْمَظَالِم الْمُخَالفَة لقطعيات الشَّرِيعَة كالمكس وَنَحْوه والاقتصار على مَا ورد بِهِ الشَّرْع وَعدم مجاوزته فِي شَيْء فألهمه الله سُبْحَانَهُ إِلَى الْإِجَابَة إِلَى ذَلِك بعد طول مداراة وترغيب فَجعلت مَكْتُوبًا محكيا عَنهُ مضمونه أَنه قد أَمر عماله فِي الْعدْل فِي الرّعية وَرفع كل مظْلمَة والاقتصار على مَا ورد بِهِ الشَّرْع فِي كل شَيْء وَأَن من لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يمتثل هَذَا الْأَمر كَانَ على القَاضِي فِي ذَلِك الْقطر أَن ينْهَى أمره إِلَى حَضْرَة الإِمَام حَتَّى يحل بِهِ من الْعقُوبَة مَا يردعه ويردع أَمْثَاله وَفِي هَذَا الْمَكْتُوب التَّشْدِيد فِي الرِّبَا والسياسة الشيطانية وَالْأَخْذ على قُضَاة الأقطار أَن يبعثوا من يعلم النَّاس أَمر دينهم من الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَالزَّكَاة والتوحيد على الْوَجْه المطابق لمراد الله عز وَجل وَقرر الإِمَام ذَلِك وأنفذه وأظهره فِي النَّاس فَقَامَتْ شياطين المقلدة وفراعين البدوان وخونة الوزراء فِي وَجه هَذَا الْأَمر قيَاما يبكي لَهُ الْإِسْلَام وَيَمُوت كمدا عِنْده الْأَعْلَام فَجعلُوا هَذَا الْمَعْرُوف مُنْكرا وَمَا كَانَ الْأَمر السَّابِق عَلَيْهِ من الْمُنكر مَعْرُوفا وَلَيْسَ الْعجب مِمَّن لَهُ حَظّ فِي الْمَظَالِم وَنصِيب من المكس وقسط من السُّحت فقد يفعل ذَلِك من يُؤثر الدُّنْيَا وَيبِيع الآجل بالعاجل وَلَكِن الْعجب من جمَاعَة لَا حَظّ لَهُم فِي شَيْء من ذَلِك وَلَهُم حَظّ من الْعلم وَنصِيب من الْوَرع متكئين على أرائكهم عاكفين على دفاترهم صَارُوا يُنكرُونَ من هَذَا الْأَمر مَا يعلمُونَ أَنه مُخَالفَة لقطعيات الشَّرِيعَة مَعَ علمهمْ بِحكم من خالفها واعترافهم بِأَن هَذَا هُوَ الْحق الَّذِي اتّفقت عَلَيْهِ الْكتب الْمنزلَة وَالرسل الْمُرْسلَة لكِنهمْ يتركون تَدْبِير الشَّرْع ويعودون لتدبير الدولة وَمَا يصلحهم وَيصْلح لَهُم حَتَّى كَأَنَّهُمْ من أهل الولايات وَمن القابضين للجبايات وَظهر مَا عِنْدهم وَتَكَلَّمُوا بِهِ للنَّاس حَتَّى اعْتقد من لَا حَقِيقَة لَدَيْهِ من الْعَامَّة وَمن يلْتَحق بهم وَمن أَصْحَاب الدولة وَمن شابههم أَنِّي أرشدت إِلَى خطأ وَأمرت بمنكر فَاجْتمع من جَمِيع مَا قدمت ذكره تشوش خاطر الإِمَام وَمن لَهُ رَغْبَة فِي شرائع الْإِسْلَام فتوقف الْأَمر وَلم ينفذهُ من يقدر على التَّنْفِيذ مِمَّن لَهُ رَغْبَة فِيهِ وَوجد أَعدَاء الله من الظلمَة المجال فبالغوا فِي الْمُخَالفَة والمدافعة والمحاولة والمصاولة فاسمع هَذِه الأعجوبة وَاعْتبر بهَا وَأَنِّي لَا أَشك أَن الله سُبْحَانَهُ منفذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 شَرعه وناصر من نَصره وخاذل من خذله ومتم نوره على رغم أنف من أَبَاهُ وَلَكِن للباطل صولة وللشيطان جَوْلَة حَتَّى يقر الْحق فِي قراره وَيتم من الْعدْل وَرفع الظُّلم مَا أَمر الله بِهِ وَمن رام أَن ينصر بَاطِلا أَو يدْفع حَقًا فَهُوَ مركوس من غير فرق بَين رَئِيس ومرؤوس وَإِذا جَاءَ نهر الله بَطل نهر معقل وَعند عزائم الرَّحْمَن ينْدَفع كيد الشَّيْطَان الْقيَاس وَأما الْقيَاس فَاعْلَم أَنه قد رسمه أهل الْأُصُول بِأَنَّهُ مُسَاوَاة أصل للفرع فِي عِلّة حكمه ثمَّ شرطوه بِشُرُوط وقيدوه بقيود هِيَ مَعْلُومَة عِنْد من يعرف الْفَنّ لكِنهمْ توسعوا فِي هَذِه الْمُسَاوَاة وأثبتوها بِأُمُور هِيَ مُجَرّد خيال لَيْسَ على ثُبُوته إِشَارَة من علم وَبَيَانه أَنهم جعلُوا مسالك الْعلَّة أنواعا فَأكْثر مَا قيل أَنَّهَا عشرَة ثمَّ جَمِيع هَذِه المسالك إِلَّا الْقَلِيل هِيَ بحث الرَّأْي ومحصل الدعاوي الْمُجَرَّدَة فَعَلَيْك أَن تضع قدمك مَوضِع الْمَنْع وَتقوم فِي مقَام الْإِنْكَار حَتَّى يُوجب عَلَيْك الْمصير إِلَى شَيْء مِنْهَا مَا لَا يقدر على دَفعه وَلَا يشك فِي صِحَّته كمسلك النَّص على الْعلَّة ومسلك الْقطع بِانْتِفَاء الْفَارِق وَمثل هَذَا فحوى الْخطاب وَمَا شابه هَذِه الْأُمُور وَإِيَّاك أَن تثبت أَحْكَام الله بخيالات تقع لَك أَو لعالم مثلك من سَابق الْأمة أَو لاحقها فَإِن عَلَيْك من الْوزر والوبال مَا قدمنَا ذكره فِي هَذَا الْكتاب وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقِيَاس الَّذِي يذكرهُ أهل الْأُصُول لَيْسَ بِدَلِيل شَرْعِي تقوم بِهِ الْحجَّة على أحد من عباد الله وَلَا جَاءَ دَلِيل شَرْعِي يدل على حجيته وَإِن زعم ذَلِك من لَا خبْرَة لَهُ بالأدلة الشَّرْعِيَّة وَلَا بكيفية الِاسْتِدْلَال بهَا يعرف هَذَا من يعرفهُ وينكره من يُنكره وَأما مَا كَانَت الْعلَّة فِيهِ منصوصة فالدليل هُوَ ذَلِك النَّص على الْعلَّة لِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الشَّارِع كَأَنَّهُ صرح باعتبارها إِذا وجدت فِي شَيْء من الْمسَائِل من غير فرق بَين كَونه أصلا أَو فرعا وَهَكَذَا مَا وَقع الْقطع فِيهِ بِنَفْي الْفَارِق فَإِنَّهُ بِهَذَا اقدر قد صَار الْأَمْرَانِ اللَّذَان لَا فَارق بَينهمَا شَيْئا وَاحِدًا مَا دلّ على أَحدهمَا دلّ على الآخر من دون أصلا أَو فرعا وَهَكَذَا مَا وَقع الْقطع فِيهِ بِنَفْي الْفَارِق فَأَنَّهُ بِهَذَا الْقدر قد صَار الْأَمْرَانِ اللَّذَان لَا فَارق بَينهمَا شَيْئا وَاحِدًا مَا دلّ على أَحدهمَا دلّ على الآخر من دون تَعديَة وَلَا اعْتِمَاد أَصْلِيَّة وَلَا فرعية وَأما فحوى الْخطاب ولحنه فهذان هما راجعان إِلَى الْمَفْهُوم والمنطوق وَإِن سماهما بعض أهل الْعلم بِقِيَاس الفحوى وَبحث الْعَمَل بِالْمَفْهُومِ خَارج عَمَّا نَحن بصدده وَقد جَاءَت لُغَة الْعَرَب الحاكية لما كَانُوا يفهمونه ويتحاورون بِهِ ويعملون عَلَيْهِ أَن مثل هَذَا الْمَفْهُوم كَانَ مُعْتَبرا لديهم مأخوذا بِهِ عِنْدهم وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من الْعلمَاء إِنَّه مَنْطُوق لَا مَفْهُوم وَلَقَد تلاعب كثير من أهل الرَّأْي بِالْكتاب وَالسّنة تلاعبا لَا يخفى إِلَّا على من لَا يعرف الْإِنْصَاف بِهَذِهِ الذريعة القياسية وعولوا على مَا هُوَ مِنْهُ أوهن من بَيت العنكبوت وقدموه على آيَات قرآنية وَأَحَادِيث نبوية وَمَا هَذِه بِأول فاقرة جَاءَ بهَا الشَّيْطَان وحسنها لنَوْع الْإِنْسَان وَذَادَ بهَا عباد الله عَن شرائعه وَمن أنكر هَذَا فَلْينْظر المصنفات فِي الْفِقْه ويتتبع مسائلها المبنية على مُجَرّد الْقيَاس الْمَبْنِيّ على غير أساس مَعَ وجود أَدِلَّة نيرة وبراهين مرضية وَمن هَذَا الْبَاب دخل أهل الرَّأْي وَإِلَيْهِ خَرجُوا من أَبْوَاب الْأَدِلَّة الثَّابِتَة فِي كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَكُن رجلا رجله فِي الثرى ... وهامه همته فِي الثريا) وكل من لَهُ فهم لَا يغرب عَنهُ أَن الله تَعَالَى لم يتعبد عباده بِمُجَرَّد قَول عَالم من الْعلمَاء أَنه قد أَفَادَهُ مَسْلَك تَخْرِيج المناط أَو تَنْقِيح الناط أَو الشّبَه أَو الدوران أَو نَحْو هَذَا الهذيان هَذَا على فرض أَنه لم يُوجد فِي الْكتاب وَالسّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 مَا يُخَالف هَذَا المسلك الَّذِي لَا يسلكه المتورعون وَلَا يمشي عَلَيْهِ المتدينون فَكيف إِذا كَانَ الدَّلِيل الْمُخَالف لَهُ وَاضح الْمنَار ظَاهر الاشتهار قريب الديار لمن سَافر إِلَيْهِ من أهل الِاعْتِبَار وَالْكَلَام فِي هَذَا الْبَحْث طَوِيل الذيول وَقد أفرده جمَاعَة من أهل الْعلم بالتصنيف وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا إِلَّا مُجَرّد التَّنْبِيه لطاب الْعلم وَإِنِّي وَإِن حذرته عَن الْعَمَل بِهَذَا الْقيَاس فَلَا أحذره عَن الْعلم بِهِ وَتَطْوِيل الباع فِي مَعْرفَته والإحاطة بِمَا جَاءَ بِهِ المصنفون من أهل الْأُصُول فِي مباحثه فَإِنَّهُ لَا يعرف صِحَة مَا قلته إِلَّا من عرفه حق مَعْرفَته وَقد يعرف الشَّيْء ليجتنب ويحذر وَيعرف الشَّرّ لَا للشر الِاسْتِحْسَان وَأما الِاسْتِحْسَان فَاعْلَم أَنهم رسموه بِأَنَّهُ دَلِيل ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد ويعسر عله التَّعْبِير عَنهُ وَأَنت لَا يخفى عَلَيْك إِن بَقِي لَك نصيب من فهم وحظ من إنصاف أَن الله تبَارك وَتَعَالَى لم يتعبد أحدا من عباده بِدَلِيل يسْتَدلّ بِهِ أحد من عُلَمَاء الْأمة ويمكنه التَّعْبِير عَنهُ وإبرازه من القَوْل إِلَى الْفِعْل إِلَّا إِذا كَانَ صَحِيحا تقوم بِهِ الْحجَّة فَكيف يتعبدهم بِمَا انقدح فِي نفس فَرد من أفرادهم على وَجه لَا يُمكنهُ التَّعْبِير عَنهُ وَلَا إبرازه إِلَى الْخَارِج فَإِن هَذَا الَّذِي انقدح فِي نَفسه لَا نَدْرِي مَا هُوَ وَلَا كَيفَ هُوَ فَكيف يكون حجَّة على أحد من النَّاس وَقد عجز صَاحبه عَن بَيَانه وعسرت عَلَيْهِ تَرْجَمته فبالله الْعجب من هَذَا الهذيان وَكَيف استجاز قَائِله أَن يحكم عَلَيْهِ وَأَنه دَلِيل شَرْعِي ويفترى على الشَّرْع مَا لَيْسَ مِنْهُ وعَلى الله سُبْحَانَهُ مَا لم يقلهُ وَبِالْجُمْلَةِ تبيان فَسَاد هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى إِيضَاح وإفهام الْبشر وَإِن بلغت فِي الضعْف أَي مبلغ وقاربت أفهام الدَّوَابّ فَهِيَ لَا تطلب الْبُرْهَان على بطلَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 هَذَا الهذيان وَلَو احْتَاجَ مُحْتَاج إِلَى الِاسْتِدْلَال على بطلَان هَذَا الْبَاطِل لزمَه أَن يدْفع فِرْيَة كل مفتر على الله وَللَّه در الإِمَام الشَّافِعِي حَيْثُ يَقُول من اسْتحْسنَ فقد شرع الِاجْتِهَاد وَأما الِاجْتِهَاد فقد رسموه بِأَنَّهُ استفراغ الْفَقِيه الوسع لتَحْصِيل ظن يحكم شَرْعِي وَلَا شكّ أَن هَذَا الظَّن الْكَائِن بعد الاستفراغ وَإِن تعبد الله بِهِ ذَلِك المستفرغ لكَونه فَرْضه عِنْد فقد الدَّلِيل كَمَا تقدم الْبَحْث عَن هَذَا وَالِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ لَكِن الشَّأْن فِي كَون هَذَا الظَّن حجَّة على أحد من عباد الله مِمَّن لم يَقع لَهُ هَذَا الظَّن وَلَا تقدم لَهُ استفراغ الوسع فَإِن الْحجَّة الشَّرْعِيَّة لَيست ظنون بعض الْمُكَلّفين بِالشَّرْعِ المتعبدين بِهِ على الْبَعْض الآخر وَلَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَة حرف وَاحِد مِمَّا يُفِيد هَذَا وَيدل عَلَيْهِ بل صرح الْكتاب الْعَزِيز بِالنَّهْي عَن اتِّبَاع الظَّن وَأَنه لَا يُغني من الْحق شَيْئا وَأَن بعضه إِثْم وَهَذِه الْأَدِلَّة الْكُلية توجب على الْإِنْسَان أَن لَا يعْمل بظنه فِي شئ كَائِنا مَا كَانَ إِلَّا مَا خصصه الشَّرْع فَكيف بِظَنّ غَيره فيا معشر المقلدة اسمعوا وعوا فَإِنَّكُم إِنَّمَا تتبعون ظنونا خطرت لقوم الْحجَّة من الله بِمَا فِي كِتَابه وَسنة نبيه قَائِمَة عَلَيْهِم كَمَا هِيَ قَائِمَة عَلَيْكُم وهم متعبدون بهَا كتعبدكم بهَا فَمَا لكم وَلَهُم وماذا عَلَيْكُم من ظنونهم فقد أَسْفر الصُّبْح لذِي عينين وارتفع مَا على قُلُوب قوم من الرين إِن بَقِي للهداية مجَال ولاستماع الصَّوَاب احْتِمَال وَقد كررت الْكَلَام فِي الْمقَام بِمَا لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى التَّطْوِيل هُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 مفاسد أَصَابَت دين الْإِسْلَام وَأعلم أَن الْمَفَاسِد الماحقة لبركة الله والمفرقة لكلمة الْمُسلمين كَثِيرَة جدا والإحاطة بهَا تتعسر وَقد ذكرنَا هُنَا مَا حضر عِنْد التَّحْرِير وَأعظم مَا أُصِيب بِهِ دين الْإِسْلَام من الدَّوَاهِي الْكِبَار والمفاسد الَّتِي لَا يُوقف لَهَا فِي الضَّرَر على مِقْدَار أَمْرَانِ تعدد الْمذَاهب أَحدهَا هَذِه الْمذَاهب الَّتِي ذهبت ببهجة الْإِسْلَام وغيرت رونقه وجهمت وَجهه وَقد قدمنَا فِي هَذَا مَا يسْتَغْنى عَن الزِّيَادَة إِن بَقِي لَهُ فهم يرجع بِهِ إِلَى الْحق وَيخرج بِهِ من الْبَاطِل الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي بعض الْأَمْوَات وَالْأَمر الثَّانِي هَذِه الاعتقادات الَّتِي حدثت لهَذِهِ الْأمة فِي صالحي الْأَمْوَات حَتَّى صَار الرجل يقرن من يَعْتَقِدهُ من الْأَمْوَات بِمن يقلده مِنْهُم فَيَقُول إِمَامه فِي الْمَذْهَب فلَان وَشَيْخه فِي الِاعْتِقَاد والمحبة فلَان وَهَذَا يَقُوله ظَاهرا وَهُوَ لَو كوشف ونطق بِمَا فِي ضَمِيره لقَالَ وَشَيْخه الَّذِي يعول عَلَيْهِ فِي زَعمه عِنْد الشدائد فِي قَضَاء حاجاته ونيل مطالبه فلَان وصمى صَامَ من خلف وأمام فَإِن هَذِه الداهية الدهياء والمصيبة الصماء العمياء فقد كَانَ أَوَائِل المقلدة يعتمدون على أئمتهم فِي الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة ويعولون على آرائهم ويقفون عِنْد اختياراتهم وَيدعونَ نُصُوص الْكتاب وَالسّنة وَلَكنهُمْ اينزلون حوائجهم بِغَيْر الله عز وَجل وَلَا يناجون سواهُ وَلَا يرجون غَيره وَلَا يعولون إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا يطْلبُونَ إِلَّا مِنْهُ فهم وَإِن خلطوا صومهم وصلاتهم وحجهم وزكاتهم وَسَائِر عباداتهم ومعاملاتهم بآراء الرِّجَال وقلدوا فِي كثير من تفاصيلها مَا لم يَأْذَن الله بتقليده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وَأخذُوا دينهم على الْوَجْه الَّذِي لم يَأْمر الله بِهِ وَلَا ارْتَضَاهُ لَهُم لكِنهمْ لم يخلطوا فِي معنى لَا إِلَه إِلَّا الله وَلَا تلاعبوا بِالتَّوْحِيدِ وَلَا دخلُوا فِي أدوار الشّرك ومضايق الْجُحُود وبلايا الْجَاهِلِيَّة وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَأما هَؤُلَاءِ فعمدوا إِلَى جمَاعَة من الْأَمْوَات الَّذين لَا يَسْتَطِيعُونَ توصية وَلَا إِلَى أهلهم يرجعُونَ فقصدوهم فِي الْمُهِمَّات وعكفوا على قُبُورهم ونذروا لَهُم النذور ونحروا لَهُم النحاير وفزعوا إِلَيْهِم عِنْد الْمُهِمَّات فَتَارَة يطْلبُونَ مِنْهُم من الْحَاجَات مَا لَا يقدر عَلَيْهِ إِلَّا الله عز وَجل وخصوهم بالنداء وأفردوهم بِالطَّلَبِ وَتارَة ينادونهم مَعَ الله عز وَجل ويصرخون بِأَسْمَائِهِمْ مَعَ اسْم الله سُبْحَانَهُ فَيَأْتُونَ بِكَلِمَات تقشعر لَهَا جُلُود من يعلم معنى لَا إِلَه إِلَّا الله وَيعرف مَدْلُول قل هُوَ الله أحد وتلاعب بهم الشَّيْطَان فِي ذَلِك ونقلهم من مرتبَة إِلَى مرتبَة وَمن منزلَة إِلَى منزلَة حَتَّى استعظموا من جَانب هَؤُلَاءِ الْأَمْوَات الَّذِي خلقهمْ الله ورزقهم وأحياهم وأماتهم مَا لَا يستعظمونه من جَانب بارئ الْبَريَّة وخالق الْخَالِق يستعظمون جلّ اسْمه وَتَعَالَى قدره وَلَا إِلَه غَيره وأفضى ذَلِك إِلَى أَن أحدهم يحلف بِاللَّه تَعَالَى فَاجِرًا وَلَا يحلف بِمن يَعْتَقِدهُ من الْأَمْوَات وَيقدم على الْمعْصِيَة فِي الْمَسَاجِد الَّتِي هِيَ بيُوت الله وَلَا يقدم عَلَيْهَا عِنْد قبر من يَعْتَقِدهُ وتزايد الشَّرّ وعظمت المحنة وتفاقمت الْمُصِيبَة حَتَّى صَار كثير مِنْهُم ينسبون مَا أَصَابَهُم من الْخَيْر فِي الْأَنْفس وَالْأَمْوَال والأهل إِلَى ذَلِك الْمَيِّت وَمَا أَصَابَهُم من الشَّرّ فِي ذَلِك إِلَيْهِ وَقد صَارَت تَحت أطباق الثرى وغيب عَن أعين الْبشر وَصَارَ مَشْغُولًا عَاجِزا عَن جر نفع إِلَيْهِ أَو دفع ضرّ عَنهُ منتظرا لما ينْتَظر لَهُ مثله من الْأَمْوَات لَا يدْرِي مَا نزل بِهِ من هَؤُلَاءِ النوكاء وَلَا يشْعر بِمَا ألصقوه بِهِ وَلَو علم بذلك لجالدهم بِالسَّيْفِ ودفعهم بِمَا يقدر عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وَمن أعظم الذرائع الشيطانية والوسائل الطاغوتية أَنهم بالغوا فِي التأنق فين عمَارَة قُبُور من يعتقدونه من الصَّالِحين ونصبوا عَلَيْهَا القباب وَجعلُوا على أَبْوَابهَا الْحجاب وَوَضَعُوا عَلَيْهَا من الستور الْعَالِيَة والآلات الرائعة مَا يبهر النَّاظر إِلَيْهِ وَيدخل الروعة فِي قلبه ويدعوه إِلَى التَّعْظِيم كَمَا جبلت عَلَيْهِ طبائع الْعَوام من دُخُول المهابة فِي قُلُوبهم والروعة فِي عُقُولهمْ بِمَا يتعاطاه المريدون لذَلِك كَمَا يَفْعَله غَالب مُلُوك الدُّنْيَا من الْمُبَالغَة فِي تَزْيِين مَنَازِلهمْ وتعظيمها والتألق فِي بنائها والاستكثار من الْحجاب والخدم والصياح والجلبة وارتباط الْأسود وَنَحْوهَا من الْحَيَوَانَات وَلبس فاخر الثِّيَاب قَاصِدين بذلك تربية المهابة لَهُم والمخافة مِنْهُم وصنع هَؤُلَاءِ القبوريون كصنعهم فَفَعَلُوا فِي الْأَمْوَات من جوالب التَّعْظِيم وَأَسْبَاب الهيبة مَا يكون لَهُ من التَّأْثِير فِي قُلُوب من يزورهم من الْعَامَّة مَا لَا يقادر قدره ثمَّ يزِيد ذَلِك قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى يحصل لَهُم من الِاعْتِقَاد فِي أُولَئِكَ الْأَمْوَات مَا يقْدَح فِي إسْلَامهمْ ويخدش فِي توحيدهم وَلَو اتبع النَّاس مَا أرشد إِلَيْهِ الشَّارِع من تَسْوِيَة الْقُبُور كَمَا ثَبت فِي = صَحِيح مُسلم = وَغَيره من حَدِيث أبي الْهياج قَالَ قَالَ لي عَليّ بن أبي طَالب أَلا أَبْعَثك على مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا تدع قبرا مشرفا إِلَّا سويته وَلَا تمثالا إِلَّا طمسته فَانْظُر كَيفَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمِيرا لهدم الْقُبُور المشرفة وطمس التماثيل هُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ ثمَّ بعث عَليّ أَيَّام خِلَافَته أَمِيرا على ذَلِك هُوَ أَبُو الْهياج وَأخرج أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يجصص الْقُبُور وَأَن يَبْنِي عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وَأَن يكْتب عَلَيْهِ وَأَن يوطئ وَأخرجه مُسلم فِي صَحِيحه بِدُونِ ذكر الْكِتَابَة قَالَ الْحَاكِم النَّهْي عَن الْكِتَابَة على شَرط مُسلم وَهِي صَحِيحَة غَرِيبَة قَالَ وَالْعَمَل من أَئِمَّة الْمُسلمين من الْمشرق إِلَى الْمغرب على خلاف ذَلِك يَعْنِي يقررون كِتَابَة الِاسْم من دون إِنْكَار انْتهى وَأَقُول لَا حجَّة فِي أحد خَالف السّنة الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَائِنا من كَانَ قل عَددهمْ أَو كثر فَلَيْسَ لَهُم أَن يشرعوا للنَّاس غير مَا شَرعه الله بل يحملون على الْخَطَأ وَعدم الْعِنَايَة بِأَمْر الشَّرْع والتساهل فِي أَمر الدّين وَمَا هَذَا بِأول بَاب من أَبْوَاب الشَّرْع أهمله النَّاس وخالفوا فِيهِ السّنَن الْوَاضِحَة والشرائع الثَّابِتَة وَلَا سميا بعد أَن استعلى الْجَهْل على الْعلم وغلبت آراء الرِّجَال مَا جَاءَ فِي الْكتاب وَالسّنة وَصَارَ التَّقْلِيد والتمذهب هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْجُمْهُور وَغَيره الْمُنكر وَلَا اعْتِبَار بسكوت أهل الْعلم الَّذين هم أَهله فَإِنَّهُم مغلوبون مكثورون مخبوطون بِسَوْط الْعَامَّة الَّذين مِنْهُم السلاطين وجنودهم كَمَا قدمنَا الْإِشَارَة إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 هَذَا وأطباق أهل الْمشرق وَالْمغْرب على الْكِتَابَة هُوَ كأطباقهم على رفع الْقُبُور وتجصيصها وَوضع القباب عَلَيْهَا وَجعلهَا مَسَاجِد فخالفوا مَا تقدم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ مخالفتهم لما ثَبت فِي الصَّحِيح عَنهُ ثبوتا لَا يُخَالِفهُ فِيهِ مُخَالف من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تجْعَلُوا قَبْرِي مَسْجِدا لَا تجْعَلُوا قبرى وثنا لعن الله الْيَهُود اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسْجِدا وَكَانَ هَذَا القَوْل من آخر مَا قَالَه فِي مرض مَوته كَمَا ثَبت أَن آخر مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَمر بِإِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة الْعَرَب وتنفيذ جَيش أُسَامَة ثمَّ كَانَ الْوَاقِع من أمته بعد هَذَا التَّأْكِيد أَنهم بنوا على قَبره الشريف قبَّة ومازال مُلُوك الْإِسْلَام يبالغون فِي تحسينها وتزيينها وَرفع سمكها وَوَضَعُوا القباب وَرفعُوا الْقُبُور وَكَانُوا يَفْعَلُونَ هَذَا بِأَهْل الصّلاح ثمَّ تزايد الشَّرّ وصاروا يَفْعَلُونَ ذَلِك لمن لَهُ رئاسة دنيوية وَإِن كَانَ من أفجر الفجرة وَقد يُوصي الْمَيِّت فِي وَصيته بذلك وأعجب من هَذَا كُله تَصْرِيح جمَاعَة من أهل الْفِقْه بِأَنَّهُ لَا بَأْس بذلك إِذا كَانَ الْمَيِّت فَاضلا ودونوه فِي مصنفاتهم الَّتِي هِيَ مدارس الطّلبَة وضربوا مَا ذَكرْنَاهُ من الْأَدِلَّة فِي وَجه من جَاءَ بِهِ ورموا بهَا خلف الْحَائِط وَلم يردعهم دين وَلَا وزعهم حَيَاء وَقَابَلُوا بِمَا أسلفنا بقَوْلهمْ أَنه قد اسْتحْسنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 رفع هَذِه القباب وتزيين هَذِه الْقُبُور بعض السّلف فَلَا كثر الله فِي أهل الْعلم من أَمْثَال من اسْتحْسنَ مُخَالفَة الشَّرْع من السّلف الَّذين صرتم تَقولُونَ عَلَيْهِم بِمَا لم يقولوه فَإِنَّهُ إِذا صَحَّ مَا تزعمونه من أَنه اسْتحْسنَ ذَلِك بعض السّلف فَلَا حجَّة فِي اسْتِحْسَان من اسْتحْسنَ مُخَالفَة الشَّرْع كَائِنا من كَانَ فَإِنَّهُ أَو مُبْتَدع ومخالف للشَّرْع وعاص لله وَلِرَسُولِهِ وللشريعة المطهرة وَلَقَد تزلزل بِهَذَا السَّبَب أَقْدَام كثير من الْعباد عَن الْإِسْلَام وَذهب بِهَذِهِ الذريعة إِيمَان جَمَاهِير من الْأَنَام فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فَإِنَّهَا لَو كَانَت الْقُبُور على الصّفة الَّتِي شرعها الله وَعلمهَا الْأمة رَسُول الله لم يحدث من هَذِه الاعتقادات الْفَاسِدَة شئ وَلَا يشك عَاقل أَن أعظم مَا أَدخل فَاسد الِاعْتِقَاد فِي صُدُور كثير من الْعباد هُوَ هَذَا الْأَمر مَعَ سكُوت الْعلمَاء عَن الْبَيَان الَّذِي أَمرهم الله بِهِ ومجاملتهم للعامة إِمَّا مَعَ علمهمْ بِمَا فِي هَذَا الْأَمر من الْخطر أَو مَعَ غَلَبَة الْعَادَات الطارئة عَلَيْهِم لما عِنْدهم من الْعلم حَتَّى ذهب ذَلِك بِمَا يعلمونه ومحق بركته وأبطل ثَمَرَته وَمِمَّا أحكيه لَك أَنه كَانَ يبلغنِي وَأَنا فِي الطّلب للْعلم والاشتغال بِهِ مَا يصنعه أهل الْقطر التهامي من الِاجْتِمَاع لزيارة جُمُعَة من المعتقدين لديهم وَمَا يحدث مِنْهُم عِنْد ذَلِك من النهيق الَّذِي لَا يعود صَاحبه إِلَى الْإِسْلَام سالما مَعَ عدم إِنْكَار من بِتِلْكَ الديار من الْعلمَاء بل كَانَ الْكثير مِنْهُم يحْضرُون تِلْكَ المجامع وَيشْهدُونَ تِلْكَ الزيارات فَتكون الْمُنْكَرَات وَمَا يحدث من أَنْوَاع الشّرك بمرأى مِنْهُم ومسمع فَكتب رِسَالَة إِلَى الْعلمَاء من أهل تِلْكَ الديار على يَد رجل من أهل الْعلم الراحلين إِلَى هُنَالك فَلَمَّا عَاد أَخْبرنِي بِمَا حصل من الاستنكار مِنْهُم لما كتبته إِلَيْهِم وَعدم الِاعْتِدَاد بِهِ والالتفات إِلَيْهِ فَقضيت من ذَلِك الْعجب ثمَّ لما ولى الْقَضَاء بِبَعْض البيادر التهامية بعض عُلَمَاء صنعاء الأكابر وشاهدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 من هَذِه الْمُنْكَرَات مَا حمله على أَن يحرر إِلَيّ سؤالا فأجبته برسالة مُطَوَّلَة سميتها الدّرّ النضيد فِي إخلاص التَّوْحِيد وأمرته أَن يكْتب نسخا ويرسلها إِلَى الْقُضَاة فِي تِلْكَ الديار فَفعل وَلم يُؤثر ذَلِك شَيْئا بل كتب كثير من عُلَمَاء تِلْكَ الديار على رسالتي مناقشات واعتراضات فَلم تمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى نزل بهم السَّيْف وَهدم الله تِلْكَ الطواغيب وَذهب بِتِلْكَ الاعتقادات الْفَاسِدَة فَهِيَ الْآن صَافِيَة عَن تِلْكَ الْأُمُور الَّتِي كَانَ يتلوث بهَا أَهلهَا فَلَا يقدر أحد مِنْهُم أَن يستغيث بِغَيْر الله سُبْحَانَهُ أَو يُنَادي مَيتا من الْأَمْوَات أَو يجْرِي ذكره على لِسَانه وَلكنه لم يغسل أدرانهم ويذيب بالكدورات الَّتِي كَانَت تشوب صافي إسْلَامهمْ إِلَّا السَّيْف وَهُوَ الحكم الْعدْل فِي من استحكمت عَلَيْهِ نزعات الشَّيْطَان الرَّجِيم وَلم تردعه قوارع آيَات الرَّحْمَن الرَّحِيم مفاسد بعض أدعياء التصوف ويلتحق بالأمرين الْمَذْكُورين أَمر ثَالِث وَإِن لم تكن مفسدته كمفسدتهما وَلَا شُمُوله كشمولهما وَهُوَ مَا صَار عَلَيْهِ هَذِه الطَّائِفَة المدعوة بالمتصوفة فقد كَانَ أول هَذَا الْأَمر يُطلق هَذَا الِاسْم على من بلغ فِي الزّهْد وَالْعِبَادَة إِلَى أعلا مبلغ وَمَشى على هدى الشَّرِيعَة المطهرة وَأعْرض عَن الدُّنْيَا وَصد عَن زينتها وَلم يغتر ببهجتها ثمَّ حدث أَقوام جعلُوا هَذَا الْأَمر طَرِيقا إِلَى الدُّنْيَا ومدرجا إِلَى التلاعب بِأَحْكَام الشَّرْع ومسلكا إِلَى أَبْوَاب اللَّهْو والخلاعة ثمَّ جعلُوا لَهُم شَيخا يعلمهُمْ كَيْفيَّة السلوك فَمنهمْ من يكون مقْصده صَالحا وطريقته حَسَنَة فيلقن أَتْبَاعه كَلِمَات تباعدهم من الدُّنْيَا وتقربهم من الْآخِرَة وينقلهم من رُتْبَة إِلَى رُتْبَة على أعراف يتعارفوها وَلكنه لَا يَخْلُو غَالب ذَلِك من مُخَالفَة للشَّرْع وَخُرُوج عَن كثير من آدابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَالْخَيْر كل الْخَيْر فِي الْكتاب وَالسّنة فَمَا خرج عَن ذَلِك فَلَا خير فِيهِ وَإِن جَاءَنَا أزهد النَّاس فِي الدُّنْيَا وأرغبهم فِي الْآخِرَة وأتقاهم الله تَعَالَى وأخشاهم لَهُ فِي الظَّاهِر فَإِنَّهُ لَا زهد لمن يمش على الْهدى النَّبَوِيّ وَلَا تقوى وَلَا خشيَة لمن لم يسْلك الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فَإِن الْأُمُور لَا تكون طاعات بالتعب فِيهَا وَالنّصب وإيقاعها على أبلغ الْوُجُوه بل إِنَّمَا تكون طاعات خَالِصَة مَحْضَة مباركة نافعة بموافقة الشَّرْع وَالْمَشْي على الطَّرِيقَة المحمدية وَاعْتبر بالخوارج فقد وَصفهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا وصف من تِلْكَ الْعِبَادَات والمجاهدات الَّتِي لَا تبلغ عبادتنا وَلَا مجاهدتنا إِلَى شئ مِنْهَا وَلَا تعْتَبر بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَمَعَ هَذَا فَقَالَ إِنَّهَا لَا تجَاوز تراقيهم وَقَالَ إِنَّهُم يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية وَقَالَ إِنَّهُم كلاب النَّار فَانْظُر كَيفَ كَانَت مجاهداتهم وعباداتهم وقيامهم اللَّيْل وصيامهم النَّهَار نقمة عَلَيْهِم وبلية ومحنة لَهُم لم تعد عَلَيْهِ بنفع قطّ إِلَّا مَا أصيبوا بِهِ من الخسار والنكال والوبال فَكَانَت تِلْكَ الطَّاعَات الصورية من صَلَاة وَصِيَام وتهجد وَقيام هِيَ نفس الْمعاصِي الْمُوجبَة للنار وَهَكَذَا كل من رام أَن يُطِيع اله على غير الْوَجْه الَّذِي شَرعه لِعِبَادِهِ وارتضاه لَهُم فَإِنَّهُ رُبمَا يلْحق بالخوارج بِجَامِع وُقُوع مَا أطاعوا الله بِهِ على غير مَا شَرعه لَهُم فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله وَإِنِّي أخْشَى أَن يكون من هَذَا الْقَبِيل مَا يَقع من كثير من المتصوفة من تِلْكَ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال الَّتِي ظَاهرهَا التنفير عَن الدُّنْيَا والبعد عَن أَهلهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 والفرار عَن زينتها مَعَ تِلْكَ الْوَظَائِف الَّتِي يلازمونها من التخشع والإنكسار والتلهب والتأسف والصراخ تَارَة والهدوء تَارَة أُخْرَى والرياضيات والمجاهدات مُلَازمَة أذكار يذكرُونَ بهَا لم ترد فِي الشَّرْع على صِفَات لم يَأْذَن الله بهَا مَعَ مُلَازمَة تِلْكَ الثِّيَاب الخشنة الدرنة وَالْقعُود فِي تِلْكَ المساطب القذرة وَمَا يَنْضَم إِلَى ذَلِك من ذَلِك الهيام والشطح وَالْأَحْوَال الَّتِي لَو كَانَ فِيهَا خير لكَانَتْ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه الَّذين هم خير الْقُرُون وَلَا أنكر أَن فِي هَذِه الطَّائِفَة من قد بلغ فِي تَهْذِيب نَفسه وغسلها من الطواغيب الْبَاطِنَة والأصنام المستورة عَن النَّاس كالحسد وَالْكبر وَالْعجب والرياء ومحبة الثَّنَاء والشرف وَالْمَال والجاه مبلغا عَظِيما وارتقى مرتقا جسيما وَلَكِنِّي أكره لَهُ أَن يتداوى بِغَيْر الْكتاب وَالسّنة وَأَن يتطبب بِغَيْر الطِّبّ الَّذِي اخْتَارَهُ الله لِعِبَادِهِ فَإِن فِي القوارع القرآنية والزواجر المصطفوية مَا يغسل كل قذر ويرخص كل درن ويدمغ كل شهية وَيدْفَع كل عَارض من عوارض السوء فَأَنا أحب لكل عليل فِي الدّين أَن يتداوى بِهَذَا الدَّوَاء فيعكف على تِلَاوَة كتاب الله متدبرا لَهُ متفهما لمعانيه باحثا عَن مشكلاته سَائِلًا عَن معضلاته ويستكثر من مطالعة السِّيرَة النَّبَوِيَّة ويتدبر مَا كَانَ يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ليله ونهاره ويتفكر فِي أخلاقه وشمائله وهديه وسمته وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابه وَكَيف كَانَ هديهم فِي عِبَادَتهم ومعاملاتهم فَإِنَّهُ إِذا تداوى بِهَذَا الدَّوَاء ولاحظته الْعِنَايَة الربانية وجذبته الْهِدَايَة الإلهية فَازَ بِكُل خير مَعَ مَاله من الْأجر الْكثير وَالثَّوَاب الْكَبِير فِي مُبَاشرَة هَذِه الْأَسْبَاب وَإِذا حَال بَينه وَبَين الِانْتِفَاع بِهَذِهِ الْأُمُور حَائِل وَمنعه من الظفر بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَانع فقد نَالَ بِتِلْكَ الْأَسْبَاب الَّتِي بَاشَرَهَا أجرا عَظِيما لِأَنَّهُ طلب الْخَيْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 من معدنه ورام نيل الرشد من موطنه فَكَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الأشغال من الْأجر مَا لطلبة علم الشَّرْع لِأَنَّهُ قد جهد نَفسه فِي الْأَسْبَاب وَلم يفتح لَهُ بَاب فَانْظُر كم بَين هذَيْن الْأَمريْنِ من الْمسَافَة الطَّوِيلَة فَإِن طَالب الرشد بِغَيْر الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة لَا يَأْمَن على نَفسه بعد الْوُصُول إِلَى مَطْلُوبه من أَن يكون صنعه كصنع الْخَوَارِج فِي خسرانهم بِمَا ظنوه ربحا ووقوعهم فِي الظلمَة وَقد كَانُوا يظنون أَنهم يلاقون صبحا لأَنهم خالفوا الطَّرِيقَة الَّتِي أرشد الله إِلَيْهَا عباده وَأمرهمْ بسلوكها وَإِذا كَانَ هَذَا الْأَمر مجوزا فِي طلبة الْخَيْر من غير طَرِيق الشَّرْع كصلحاء الصُّوفِيَّة اللَّذين لَا رَغْبَة لَهُم فِي غير تَهْذِيب أَخْلَاقهم على وَجه يُوجب زهدهم فِيمَا ترغب النُّفُوس إِلَيْهِ وتتهالك الطبائع البشرية عَلَيْهِ فَمَا ظَنك بِمن كَانَ من متصوفة الفلاسفة الَّذين يدورون بمرقعاتهم وأبدانهم القشفة وثيابهم الخشنة ووجوههم المصفرة حول مَا يَقُوله الفلاسفة من تِلْكَ المقالات الَّتِي هِيَ ضد الشَّرْع وَخلاف لَهُ وينهقون عِنْد إِدْرَاك شئ من تِلْكَ المعارف الشيطانية نهيقا مُنْكرا ويسمون ذَلِك حَالا وَهُوَ عِنْد التَّحْقِيق حَال حَائِل عَن طَرِيق الدّين وخيال مائل عَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ وللرد على هَؤُلَاءِ جمعت الرسَالَة الَّتِي سميتها الصوارم الْحداد هِيَ من المجموعات الَّتِي جمعتها فِي أَيَّام الحداثة وأوائل الشَّبَاب وَبعد هَذَا كُله فلست أَجْهَل أَن فِي رجال هَذِه الطَّائِفَة الْمُسَمَّاة بالصوفية من جمع الله لَهُ بَين الْمُلَازمَة لهَذِهِ الشَّرِيعَة المطهرة وَالْمَشْي على الطَّرِيقَة المحمدية والصراط الإسلامي مَعَ كَونه قد صَار من تصفية بَاطِنه من كدورات الْكبر وَالْعجب والحسد والرياء وَنَحْوهَا بِمحل يتقاصر عَنهُ غَيره ويعجز عَنهُ سواهُ وَلَكِنِّي فِي هَذَا المُصَنّف بِسَبَب الْإِرْشَاد إِلَى الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة والتنفير عَمَّا عداهما كَائِنا مَا كَانَ فلست أحب لمن أَرَادَ الْقرب إِلَى الله والفوز بِمَا لَدَيْهِ وَالظفر بِمَا عِنْده أَن يتسبب إِلَى ذَلِك بِسَبَب خَارج عَنْهُمَا من رياضة أَو مجاهدة أَو خلْوَة أَو مراقبة أَو يَأْخُذ عَن شيخ من شُيُوخ الطَّرِيقَة الصُّوفِيَّة شَيْئا من الاصطلاحات الموصلة إِلَى الله عِنْدهم بل يطْلب علم الْكتاب وَالسّنة ويأخذهما عَن الْعلمَاء المتقنين لَهما المؤثرين لَهما على غَيرهمَا المتجنبين لعلم الرَّأْي وَمَا يُوصل إِلَيْهِ النافرين عَن التَّقْلِيد وَمَا يحمل عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذا فعل ذَلِك سلك مَسْلَك النُّبُوَّة وظفر بهدى الصَّحَابَة وَسلم من الْبدع كائنة مَا كَانَت فَعِنْدَ ذَلِك يحمد مسراه ويشكر مسعاه ويفوز بِخَير أولاه وأخراه تمّ بِحَمْد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221