الكتاب: الأعضاء والنفس المؤلف: الحكيم الترمذي   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- الأعضاء والنفس الترمذي، الحكيم الكتاب: الأعضاء والنفس المؤلف: الحكيم الترمذي   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم عونك اللهم وحدك وصلواتك على محمد وآله، الحمد لله ولي الحمد وأهله: أما ما سألت عن صفة القلب وأسمائه، و صفة الصدر وأحواله، وصفة النفس. وصفة إبليس وجنوده، وبيان سلطانه عليها وعللها وشأنها وأحوالها وبدئها، وصفة المعرفة وما في حشوها، وصفة النور ولباسه، وصفة خلق آدم عليه السلام المائة خلق، وصفة جنود المعرفة، وصفة العقل ومعدنه ومجلس قضائه وأعوانه، وصفة مدائن المعرفة، وقراها وأسوارها وعُمّارها، وبيان صفة المعسكر وبيوت الدواوين وخزائن الطاعات ومعادن الحكمة وسجون النفس، وخلقة آدم، وبيان اسمه، وترجمة لا إله إلا الله، وبيان قوله: (ألستُ بربِّكم) ، وتفسير اسم إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وتفسير اسم إبليس واسم فرعون، وتفسير قوله: (الله نور السماوات والأرض) . وتفسير شجرة الزيتون، وتفسير شجرة طوبى. فهذه ثلاثة وثلاثون مسألة ولها غور بعيد لا يمكن استقصاؤها لبعد قعرها، وسنذكر منه ما يفهمه ذو اللب، فإن الفؤاد أول مدينة من مدائن النور، وللنور سبع مدائن: أولها: الفؤاد ثم الضمير ثم الغلاف ثم القلب ثم الشغاف ثم الحبَّة ثم اللباب. فالضمير قلب الفؤاد، والغلاف قلب الضمير، والقلب قلب الغلاف، والشَّغاف قلب القلب، والحبَّة قلب الشَّغاف، واللباب قلب الحبَّة وهو معدن النور، فهذه سبع مدائن بعضها في بعض. ولكل واحدة منها باب، ولكل مفتاح، وعلى كل باب ستر، وبين كل واحد وواحد حائط، ومن وراء كل حائط خندق. صفة الأبواب أما باب الفؤاد فمن نور الرحمة، وأما باب الضمير فمن نور الرأفة، وأما باب الغلاف فمن نور الجود، وأما باب القلب فمن نور المجد، وأما باب الشَّغاف فمن نور العطاء، وأما باب الحبَّة فمن نور الألوهية، وأما باب اللباب فمن نور العطف، وأما نور العطف فمن نور القربة، ونور القربة من نور الشفقة، ونور الشفقة من نور الإرادة، ونور الإرادة من نور نور الإرادة وهو نور المحبة، ونور المحبة من نور المنة، وهو علم دقيق لا يمكن فحصه. صفة الستور فأما ستر الفؤاد فالجمال، وأما ستر باب الضمير فالجلال، وأما ستر باب الغلاف، فالسلطان، وأما ستر باب القلب فالهيبة، وأما ستر باب الشُّغاف فالقدرة، وأما ستر باب الحبَّة فالعظمة، وأما ستر باب اللباب فالحياء، والحياء من ستر الملك. صفة المفاتيح فأما مفتاح باب الفؤاد فالإقرار، وأما مفتاح باب الضمير فالتوحيد، وأما مفتاح باب الغلاف فالإيمان، وأما مفتاح باب القلب فالإسلام، وأما مفتاح باب الشُّغاف فالإخلاص، وأما مفتاح باب الحبَّة فالصدق، وأما مفتاح باب اللباب فالمعرفة. صفة الصدر فأما الصدر فإنه مصدر الأمر ومعدن المشورة والقضاء ومجلس الملك وهو العقل، وهو ربض المدينة وما والاها. وللمدينة فيه أربعة أبواب؛ شارعة إليه وهو ميدان عظيم ومجلس بهي فيه قناديل الرحمة، ومصابيح النور تزهو فيه من النور الذي في القلب، وشموع لواحة تبرق بضوئها ونورها، من ذلك ما روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وما روى الربيع عن أُبَي بن كعب في قوله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة) ، قال المصباح النور والزجاجة القلب والمشكاة الصدر، فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء فكذلك أضاء الصدر ثم نزل الضوء من الكوَّة وهي المشكاة، فكذلك نزل النور من الصدر فأضاء الجوف كله وهو النفس، وقال (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) ، وفيه معادن ودرجات ومحاصل من قوله: (وحصل ما في الصدور) وفيه ساحة لطي الملك ومعسكره، وموضع قضائه، وتزيين العمال، ومحشد الجيوش، وبحث الجنود وستور الرحمة، وله سبع حيطان وسبع خنادق. صفة الحيطان والخنادق فأما حيطانه فله سبعة حيطان حوله ما بين كل حائطين منها خندق، فأما الحائط الأول وهو الذي بينه وبين النفس فهو الاستعاذة، والثاني: من الذكر، والثالث: من الاستنصار، والرابع: الاستغاثة، والخامس: المجاهدة، والسادس: من التوكل، والسابع: من التسليم. وأما خنادقه: فالظفر، والذكر، والعون، والنصرة، والهداية، والحسبية، والنجاة. تفسير الخندق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 فأما الظفر، فهو خندق الاستعاذة من قول الله عز وجل: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) ، فوعد على الاستعاذة حيث قال: (ليس له سلطان على الذين آمنوا) ، سلب سلطان العدو، وسمي المستعيذ مؤمنا، وسمِّي المؤمن متوكلا حيث قال: (وعلى ربهم يتوكلون) ، ثم وصف سلطانه، فقال: (إنما سلطانه على الذين يتولونه) . وأما الذكر: فإنه خندق الذكر من قول الله جل وعز: (فاذكروني أذكركم) ، فوعد على ذكرك له ذكره لك، ثم قال: (ولذكر الله أكبر) ، جلل ذكره وعظمه من أن تناله أحد كما هو له أهل، وقيل في الحكمة، ذكر العبد بين ذكر الربّ بذكره الربّ بالرحمة، فبذكره العبد من ذكره له بالثناء والحمد والعبودة، فبذكره الرب بالتوبة والشكر والمغفرة والقبول، فذكر الله حرز وثيق وحصن حصين. وأما العون: وهو التوفيق فإنه خندق الاستعانة إذ أمر بذلك في أم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم، وشرط لعبده على نفسه أن نصفه له ونصفه لعبده وأن لعبده ما سأله فقال: قل، (إياك نعبد وإياك نستعين) ثم قال: (واستعينوا بالصبر والصلاة) ، فشهد لمن استعان به بالخشوع، واليقين بلقائه، والرجوع إليه عند البعث، فقال: (إنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) ، ثم قال: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) ، ثم شهد في الآية بالهداية لمن استعان به فقال: (أولئك هم المهتدون) . وأما النصر: فإنه خندق الاستنصار من قوله جل وعز: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) فوعد النصر على حد الاستنصار حيث قال: (فقد جاءكم الفتح) ، ثم قال: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) . وأما الهداية: فإنه خندق الجهاد في قوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين) الآية فأمر بالجهاد حق الجهاد ثم بين لهم منزلتهم عنده وخصوصيتهم، فقال مبرزا لمنته عليهم طالبا لشكره منهم هو اجتباكم، فأنتم أهل جبايتي جبيتكم من بين خلقي، فأنتم عبادي المجتبون ثم برهم وألطفهم وأظهر لهم العذر وبين الحجج فإنه لم يحملهم إلا ما يطيقون، فقال: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، ثم نسب ملتهم إلى خليله إبراهيم يحرضهم عليها، فقال: (ملة أبيكم إبراهيم) ، وشهد لهم بالنبوة لإبراهيم عليه السلام، أي كأنه إذاً هم من نفسه، أي بكرامة الآباء ألحق بهم الأولاد وأحفظ لهم وأتعدهم، من ذلك قوله: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم) ، ومن قوله: (وكان أبوهما صالحا) ، أي فإني إنما حفظت كنزهم تحت ذلك الجدار وعينت خليلي الخضر لإقامته بسبب صلاح أبيها، ثم قال: (رحمة من ربك فإن رحمتي قريب من المحسنين) ، ثم قال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) ، فوعد على الجهاد الهداية لسبله لا لسبيل واحد ثم شهد له بالإحسان ونصره بمعيته. رجعنا إلى ما كنا فيه، فقال: (هو سماكم المسلمين) ، فشهد لهم بالإسلام ونسب تلك التسمية إلى خليله إبراهيم أي أنه أبوكم ومن أحق بتسمية الأولاد من الآباء بودّ خليله وملته إليهم، ثم قال: (وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) ، حيث تجحد الأمم تبليغ رسل الله إليهم الكتب، وحجج الله، ثم ذكره في آخره: (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) ، حيث يتولى أموركم الكافر والمسلم وينصركم إذا استنصرتوه ويرضى اليسير ويشكر الكثير ويكرم المطيع ويرحم العاصي ويقبل التوبة والحسنة ويضاعفها، ويحط السيئة ويبدلها ويرفع الدرجة ويقبل العترة. أما الحسبية: فإنه خندق التوكل في قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ، ومن قوله: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) ، فشهد على المؤمن بالتوكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وأما النجاة: فإنه خندق التسليم حيث ذكر من شأن إبراهيم وابنه عليهم السلام، فقال: (فلما أسلما وتلَّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) . ثم قال: (وفديناه بذبح عظيم) ، (ونجيناه من الغم) ، ثم وعد بمن فعل فعله بأن يعامله معاملته، فقال: (وكذلك ننجي المؤمنين) ، ثم شهد له بالإيمان وسماه عبده، فقال: (إنه من عبادنا المؤمنين) ، ثم قال: (إنا كذلك نجزي المحسنين) ، والإحسان هاهنا الإخلاص أي اختلس نفسه من نفسه ووفاء لربه بما أمره به وتوكل عليه. باب صفة الأبواب التي على الصدر والبوابين فالصدر له بابان شارعان إلى النفس، باب الأمر وباب النهي وبواباهما المشيئة والقدرة، وعليهما ستران من الجبروت والملكوت وعلى البوابين لباسان من نور الوحدانية والإلوهية حشوهما الرأفة واللطف والعطف والرحمة قد نسجهما بنور السلطان والعظمة والهيبة والكبرياء. باب صفة أساس الحيطان فإن أساس الحيطان على سبعة أشياء على الشكر والرضا والصبر والإخلاص والنية والقبول والإقرار. باب المرمة والتعاهد فأما استصلاح الحيطان ومرمتها وقوامها كي لا تنقض فتنهار أو تصيبها آفة من ثقب أو ثلمة، أو نقص فثمانية أشياء وهي التهليل والتحميد والتكبير والتمجيد والاستسلام والتسبيح والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. باب صفة النفس وما فيها فإن النفس، نفسان: نفس ظاهرة، ونفس باطنة. فأما الباطنة؛ فهي المذمومة، وأما الظاهرة فهي متابعة لمن قادها وغلب عليها واستولاها من ذلك قول الله جل وعزّ عما يحكي عن شهادة يوسف عليه السلام بالسوء فقال: "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء". وقوله: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) ، فإنما تجادل في النفس الظاهرة النفس الباطنة، فقوله: (فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي) . وقوله: (تعلم ما في نفسي) ، فهذه صفة النفس الباطنة . وأما صفة النفس الظاهرة فأنها تابعة لمن غلب عليها، "فإن غلب عليها" الملك وهو النور والعقل كانت تابعة لهما فإن غلب عليها النفس الباطنة انقادت لها فمن قوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) لغلبة الملك عليها (وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه) ، أي نفس الشيطان وذلك أن هذه النفس الباطنة نفس الشيطان ولها شأن نصفه في موضعه إن شاء الله، وقوله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من ذكاها) ، أي زكى، أي أصلح النفس الباطنة لتصلح النفس الظاهرة بصلاحها، ومنه قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) ، وإنما قال المطمئنة لأن الباطنة إذا قمعت وسجنت ووقى شُحها، ضعفت وخمدت نيرانها، سكنت الظاهرة واطمأنت من إساءتها لها ووقعت في راحة، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ، فهاتان نفسان ظاهرة وباطنة كما وصفنا من شأنهما، وهما مدينتان عظيمتان، "وبينهما تفاوت وتفاضل" وهما خارجان من ثلل الحيطان والخنادق التي وصفنا وفيه أشياء ما لا يقدر وصفه مخافة طول الكتاب. صفة النفس الباطنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فأما صفة النفس الباطنة، فغن جوهرها من أخس التراب وأدناه وأخبثة وذلك أنها من موضع موطئ إبليس ومرتكضه ومتخطاه وممشاه إذ كان فيها ملك ورئيس في زي الملائكة مع ذلك الملأ فأصابها شؤم كفره لمواطئه عليها أياما في دهره مع الشرك الذي كان فيه والكفر والتكبر إذ وصفه الله بالكفر وهو في لباس التوحيد فشهد عليه بالكفر فأبطل ما أظهر من دينه بما كان في باطنه وضميره من الجبلة عليه يوم خلقه فقال: (وكان من الكافرين) ، فلما خلق آدم من تراب وجهه جميع الأرض أسودها وأحمرها خبيثها وطيبها سهلها وجبلها امتزج التراب والموطئ والخطى بالأخرى فلما خلقه صار خلقة آدم عليه السلام على موطئه وخطاه وصار الموطئ أخبث وأردأ من الخطوه "وسنصفه في موضعه إن شاء الله" فصارت تلك التربة جوهر خلقة النفس، نفس آدم جبلة عليها ومنها، وصارت أس النفس وقاعدتها، فلما فرغ منها وضعه تحت العرش فمر عليه إبليس وهو في زي الملائكة. فقال لهم: أرأيتم أن أمركم الله بأمر أفتطيعونه! قالوا: نعم، قال: فأنا لا أطيعه!! وذلك أنه نظر في أصل خلقته فعرف أنه خلق من ذاك التراب فتهاون به، وقال إن أمرني أن أطيعه لم أطعمه وإن لم يُطعن استنفرت المجهود في استطاعته ونصبت الحرب بيني وبينه، قالت له الملائكة: ولِمَ؟ قال: لأنه خلق من تراب موضع قدمي وموطئ خطوتي وممشاي، فلي فيه وجهان: أما أحدهما فهل يسجد الأب لابنه، والسيد لعبده، فإنه مني بمنزلة الابن أو العبد إذ خلق من مرتكض رجلي وممشاي وما مسحت به قدمي منذ ألفي سنة. أما الوجه الآخر فإن موطئ الواطئ وخطوته كبعض جسده، فلا بد لبعض الجسد من الطاعة لبعضه، ولا بد لبعض الجسد الأدنى والأقل من الطاعة لبعض الجسد الأعلى والأكبر، فقاس بهذه الأشياء أمر الله وخلقه، فأول من قاس اللعين أبعده الله. احتجاج إبليس فيم احتج؟ قيل له: ما الدليل على ما احتج إبليس وما بيانه، وبيان حججه، ما هو موجود مما قصده، قال: أرى احتجاجه في ذلك من قول الله تعالى: (فقبضت قبضة من أثر الرسول) ، أي كان تلك القبضة من موطئ فرس جبريل عليه السلام وكان على فرس الحياة، وإنما أخذ موضع حافره لما كان فيه من الحياة، فأينما طرح من تلك القبضة أحيا كل شيء، وهو في قصة السّامري يقول: فلو لم يكن ذلك التراب من الفرس لما كان يحيا منه كل ميت ومنه قوله: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) ، يقول: فإن الله يكتب للمؤمن وعلى الكافر ما قدم من خير أو شر وآثارهم؛ والآثار: أي ما تحت القدم، فيلحق الآثار بالأفعال، والآثار من الأجسام كما أن الأفعال من الأجسام، ومن قوله عز وجل: (ولا يطئون موطئا يغيض الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كُتب لهم به عمل صالح) ؛ كقول الله تعالى: نلحق، أي نجعل الموطئ من العمل فموضع الوطء، والموطئ من الجسد كبعضه، فكأنه يقول: لو لم يكن الموطئ من الوطئ كبعض الجسد لما جعل النيل والموطئ في الأجر سواء، فكما أن الوطء من الواطئ، كذلك موضع الوطء من الموطئ، فهذه صفة النفس الباطنة والظاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 رجعنا إلى ما كنا فيه من شأن النفس، فالموطئ إنما هو موضع القدم وخطوته، وكان إبليس يوم وطئ تلك التربة كافرا في علم الله مطيعا في الظاهر كما وصف الله، وكان من الكافرين ومن قوله: (اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) . فكما وجدنا لمقام إبراهيم عليه السلام من الكرامة والمنزلة ما جعله الله قبله لمن آمن، وأمرهم بأن يتخذوه مصلى وليس هو إلا أثر قدم في حجر فوقع لقدمه من الحرمة ما إن اتخذ موضعه وأثره قبله لخلقه لا تقبل الصلاة في الآفاق إلا به، فلم تقع له هذه الحرمة إلا أنه عدّ من القدم ولحقه به، كأنه هو القدم نفسه، والقدم قد زال عنه وأبلته أيدي اللامسين واختلاف الزائرين، فليس إلا رسم قد ذهبت عنه آثار الأصابع، فذلك لمقامي وقدمي وموطئي وآثري وخطواتي من المنزلة مني، أي أعدّه من نفسي وبعضي وعضوي، ومنه في حديث آدم عليه السلام حين أُهبط إلى الأرض، في أرض عند ما يلي مطلع الشمس فجال جميع الدنيا، فما كان تحت قدمه نالته رحمته وبركته فصار مدينة وما كان بين قدمه صار قرى، وما لم يصيبه قدمه صار مفاوز، ومن ذلك فضل أهل المدينة على أهل القرى، فكما نالت تلك التربة قدمه كذلك نالت شؤمه وكفره وكبره، وكما أضيف ذلك إلى آدم عليه السلام، كذلك أضاف عدو الله ذلك الشؤم إلى نفسه وذلك أنه أدعى أن الشؤم والكفر والعتو كان فيه قلما نالته التربة امتزج بها وصار كالشيء الواحد ومنه سمي الخضر خضرا، لأنه أيما مشى في الأرض نالت بركته ولطفه وطيبه فاخضرَّ ما حول قدميه، وأصل الخضرة من نور الجلالة، وقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) أي كونوا على الصلح الذي صولحتم عليه، وهو الحلال والحرام خُيِّر أبوكم بين الحلال والحرام، وخُيِّر العدوّ، فاختار أبوكم الحلال واختار العدوّ الحرام والفحش، واصطلحا على ذلك واصطلحت ورثة إبليس على ذلك، فاصطلحوا نتم يا بني آدم على صلح أبيكم وما قد اختار لنفسه ولكم من الطيبات، وما قد أباح لكم من خلال، (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، أي لا تتبعوا نفوسكم الباطنة، فإنها خُلقت من خطوات الشيطان فإن نهمتها نهمة الشيطان وما اختاره من الحرام فهذا السّلم حصن لكم وكهف فادخلوا في حصنكم وكهفكم إذ أحزنكم أمر من العدوّ (فإنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون) ، فالسّلم حصن، والتوكل حرز وثيق وخندق قعير وبحر عميق. وأما ما وصف في شأنه (وكان من الكافرين) ، فلما وطئها نالها من شؤمه وشؤم كفره وظلمته وتمرده واستكباره الذي ظهر منه يوم السجود، فصار بهذا المعنى كعضو منه فلما لعن صارت تلك التربة ملعونة حيث كانت، نالها ذلك السخط، فلما رمى إليه الأباطيل صارت نهمة إبليس فيها ومراده من الدنيا ومطلبه ومحبوبه ومسروره ومفرحه، ونالت تلك التربة في آدم ما نال صاحبها إذ كانت قد صارت كعضو منه، فدبّر إبليس عدوّ الله وقاس فوجدها في آدم عليه السلام قائمة بعينها فاستغنمها منه إذ وجد آدم عليه السلام مجبولا على نهمة نفسه، أي كأنه وجد مجبولا على عضو من أعضاء إبليس، فقال جسدي لا يعصيني، كيفما كان فقوي بها عدوّ اله وفرح بما نال من الفرصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 رجعنا إلى ما كنا فيه فلما أكرم الله آدم عليه السلام وأبرز فضله على جميع الخلق، وأمره بالسجود فتكبر وأنف ليسجد لشيء رفع من تحت قدمه أدنى شيء وأخسه، وقال (أنا خير منه خلقتني من نار) ؛ ذكر جوهره، والنار؛ من النور، والنور من العزّة، فأنا أحق أن يسجد لي، ثم ذكر جوهر آدم عليه السلام، فقال: (وخلقته من طين) ، إن الطين من تراب والتراب ما الأرض، والأرض ممشاي وموطئي فأسجد لنفسي؛ وأسجد لتحت قدمي، وأسجد لهوائي؛ فوصف الله ذلك في التنزيل وحذر خلقه فقال: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) ، أي لا تتبعوا الخطوة التي هي خلقتكم فإنها دعوة إبليس وهي تابعة صاحبها، وقال: (وما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) ، أي نهى النفس الطاهرة عن الهوى والهوى الخلقة التي خلقت عليه وهي النفس الباطنة، وإنما سمى تلك التربة نفسا لأن عدو الله ادعاها وإنما سماها هوى لأنها منتهى غلبت في النفس الظاهرة وهويت بها إلى أمها فأمها الهاوية، وذلك أن إبليس خُلق من النار وذلك قوله: (وأما من خفت موازيمه فأمه هاوية) ، وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) ، ويقول: (اتخذ الهوى) ، أي نفسه الباطنة إلهه فجعل يطيعها فيما تأمر أو تنهى، قد نصبها ربّا بين عينيه ثم شهد عليهم إنهم كالأنعام ثم ذكر بأنها أظل من الأنعام. رجعنا إلى ما كنا فيه فلما صارت النفس الباطنة هوى إبليس وعضوا منه كما ذكرنا أطاعت إبليس بما كان يأمرها من الفحش والأباطيل والمعاصي ولم يكن للنفس الظاهر بدّ من الانقياد لها والطواعية فيما تشير فكانت تواتيها فيما يكره الله وتخضع لها إذ كان فيها من الخبث مثل ما فيها وذلك إنها من تحت القدم وهذه فيما بين القدمين الذي لم يطأها فأيّد الله عبده بما وسَّع عليها من الحلال وأباح لها وأحل وحرم؛ فنبذ الحرام والفحش إلى إبليس فرفعه ورمى الحلال والحسن إلى العقل فرفعه، فأمر بالحرام إبليس فأطاعته النفس الباطنة، فاشتهت النفس الظاهرة فأرادت أن تطيعها وتنقاد لها إذ كانت من جوهرها وإذ كانت الشهوة فيها متحركة نبذ الله إليها بالحلال فتعلقت الظاهرة بها إذ كان الغالب عليها ملكها فلم تنقذ للباطنة فعسكرت عليها الباطنة بجنود إبليس وعسكر عليها الملك وهاجت الحرب فيما بينها وهي مذبذبة بين ذلك وتلك دار الحرب لا سلم أبدا، والجوارح فيما حولها قرأها فمتى كانت الغلبة للملك اطمأنت النفس الظاهرة ورضيت بما أحل الله لها ومتى كانت الغلبة لها كانت منقادة منهوكة في الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 رجعنا إلى ما كنا فيه من التحليل فأيّد الله النفس الظاهرة بما أحل حتى حلها من وثاق الهوى، وخلصها من سجنها، وأخرجها من رقها، فقال: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ، وقال: (كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) ثم قال على فوزه (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، ثم بين سبب النهي فقال: (إنه لكم عدوّ مبين) ، فاعلم إن خطوات الشيطان هي التي تأمرك بالسوء والفحشاء، وهي نفسك الظاهرة حتى تشتهي فأطعمها الحلال فإن الله أحل وحرم فمن انتهى عن الحرام أبدل مكانه الحلال، وقال: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) أي لم يكن لي فيما خلقت حاجة إنما خلقتها من أجلكم فخذوها من وجهها ووحيها ما أحللتُ لكم فقد جعلت الحلال بينا والحرام بينا وما حرّمت إلا الخبائث والفواحش ومما لا لذة فيه، وما أحللت إلاَّ الطيب واللذيذ فقال: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) ، أي لا تطيعوا النفس الباطنة فإنها تأمركم بالفحشاء والمنكر وقال: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) ، أي من طاعتي في الحلال فإن في الحلال غنية عن الحرام، قال الله جل وعز: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون) ، فأباح أكل الحلال من الطيبات واقتضى الشكر على ما أحل وأباح لا على النعمة، ثم قال: (إن كنتم إياه تعبدون) فجعل شكرك على إباحته لك الحلال عبودة وتوحيداً، ثم اعتذر فيما حرَّم ووصف الحرام، فقال: (إنما حرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) ، أي إني لم أحرم عليكم إلاّ مثل هذه فلو كنت أحللت لكم مكان هذه الطيبات تلك الفواحش والحرام ما كنتم تصغون، وكيف كنتم تتأولون ذلك فاشكروني على إني أحللت لكم شهوتكم التي تشتهون وحرمت عليكم ما تتقذرون وتخبث نفوسكم إذا ذكرتموها، وقوله: (وما أهل به لغير الله) ، فالذي إذا ذبح لم يذكر عليه اسمي ما يصنع به ذلك فقد اجتمع عليه سمّ الدنيا وذلك أن اسمي مبارك واسم الطاغوت والشيطان شؤم وسم، فإذا لم يذكر اسمي وذكر اسم الطاغوت والشيطان كيف يهنئ ذلك في البطون فإني إنما حرمت مثل هذه الأشياء، فقال: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) ، فاقتضى الشكر أيضاً على أنه أحل لك الحرام في أوقات الضرورة وأباح لك التناول، ثم قال: (إن الله غفور رحيم) ، أي لا يأخذ على ذلك التناول من الحرام رحيم من رحمته أباح لك الحرام عند الضرورة، فهذا في الدنيا، وما في الآخرة، (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) ، أي نهي نفسه الباطنة عن الحرام، وأعطاها من الحلال، وقال: (لكم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) لما انتهى عن اتباع النفس الباطنة عن الحرام؛ فهذه صفة النفس الظاهرة والباطنة. ولها أبواب سبعة شارعة إلى الجوارح، والجوارح سبع قرى حولها، فإذا كان الملك لها أميرا عليها جاريا سلطانه كانت لها ساكنة والقرى مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فإذا كفرت بأنعم الله فأطاعت الباطن بالحرام وتركت الحلال أذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون من موافقتها لما كره الله لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وجعلنا إلى ما كنا فيه من شأن إبليس فلما أمر بالسجود تكبر فلُعن، وقيل له اخرج منها فأنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين، فأبلس وصار شيطانا رجيم أبلس من كل خير، وسلب لباس الرحمة وصار عريان آيسا من رحمة الله وفاسقا اجترا على الله، إذ قال له: خلقت خلقا أدنى مني وفضلته علي وهو ممن يعصيك ويفسد في الأرض ويسفك الدماء وأشقيتني في جنبه وهو لم يطعك طرفة عين وأنا قد عبدتك عبادة لا يصف الواصفون صفتها فما كان سبب ذلك؟ قال الله: (إني أعلم ما لا تعلمون) ، قال: إذاً سلطني عليه! قال: وما تصنع، قال: أجعله عابدا لي؛ قال: هو لن يطيعك في ذلك، قال: إذاً سلطني عليه، قال: لك ذلك، قال: وهل يمكنني ذلك إلاّ بأجل والعمر الطويل، قال: ما تشاء، قال: (ربِّ فانظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) ، قال: فبعزتك لأغوينه وولده أجمعين، قال: وكان آدم عليه السلام رجلا حيياً كريما لا يعرف الشر في الجنة مع زوجته يأكل منها رغدا حيث شاء فاحتال عدو الله بكل حيلة للعداوة التي كانت فيه والحقد على ما شقى في جنبه وطرد من الملكوت وغره بكل غرور حتى دخل الجنة كما هو في الحديث الطويل والقصة الطويلة ثم لما دخلها تقدم إلى أهلها بالنصح والعطف، فقال داركما هذه إن لم يكن لها خوف وموت، قالا ما هو؟ قال: هل نهاكما ربكما عن شيء؟ قال: نعم عن هذه، قال: أف وأخذ بجبينه منحازا مريئا لهما أنه يحزن لهما، قالا: ما لك؟ قال: أنا من الملائكة الذين يعلمون الغيب! قالا: وما تعلم من شأننا؟ قال: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) . ثم ألحق القسم بآخر الكلمة (إني لكما لمن الناصحين) فبما أعلمتكما من آخر شأنكما، قالا: وما الحيلة؟ قال: (هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى) فكلا من هذه فغرهما باسم ربهما، قال الله تعالى: (وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور) الآية فأخرجهما من الجنة فلما هبطوا إلى الأرض قال اللعين معيرا من جرأة الكفر وحرقة الحقد ألم أقل لك أنه يعصيك ويطيعني ويعبدني فمن أطاع شيئاً عبده ومن عبده صار عبده فهو عبدي وفيه لي في أصل الخلقة دعوى إذ خلقته من التراب، والتراب في الأرض، والأرض أثر قدمي وموطني وممشاي وكان بها مسكني فخلقته في ملكي وملكي وموضع قدمي وقدم الواطئ حقه في الحكم وبه عصاك إذ كان أصابه شؤمي وجرأتي وبه ظفرت عليه، قال: فما تشاء، قال: سلطني عليه، قال: اذهب فقد سلطتك عليه فاطلب منه دعواك، قال: إذاً سلطني عليه فبعزتك لأغوينه وولده أجمعين، قال الله أن لي منه عباداً مخلصين ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين، فقال إبليس اللعين (إلا عبادك منهم المخلصين) فاستثناء اللعين على استثناء الرب جل وعز. باب معاينة إبليس وسؤاله الإله جل وعز الحرب على آدم عليه السلام وولده والعون والظفر فقال يا رب إذ سلطتني عليه وشفيت صدري منه بما نبذت إليّ مما سألت فزدني قوة إلى قوتي، قال: تجري منه مجرى الدم، قال: يهزمني بذكرك، قال: قد وضعت فيه النسيان والخطأ والغفلة، قال: ويغلبني بكثرة الولد، قال: لا يولد له ولد إلاّ ولد لك مثلاه، قال: يغلبني بالقوة التي فيه، قال: اجلب عليهم بخيلك ورجالك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم إن لا جنة ولا نار، فقال: شفيت صدري منه لآتينهم من بين أيديهم الدنيا فأزينها في أعينهم ومن خلفهم فأنسيها لهم وعن أيمانهم الذنوب فأزينها وآمرهم بها وعن شمائلهم بالتوبة فأدخرها. باب سؤال آدم عليه السلام النصر والظفر على عدوه وإله الحرب وما يمنع به العدو من نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فقال آدم صلى الله عليه سلطت علي عدوك وأيدته بقوتك فكيف أقواه، قال أحفك بملائكتي، قال: زدني، قال: لا آخذك بالخطأ والنسيان، قال: زدني، قال: لا أكتب عليك نية السيئة، قال: زدني، قال: فإن لم تعملها جعلتها حسنة، قال: زدني، قال: أكتب لك ما نويت، قال: زدني، قال: إذا عملتها كتبت بعشر أمثالها، قال: زدني، قال أزيدها سبعمائة، قال: زدني، قال: إلى أضعاف، قال: زدني، قال: إذا عملت سيئة لم تكتب عليك إلى سبع ساعات، قال: زدني، قال: رحمتي سبقت غضبي، قال: يا رب يغلبني بجنده وخيله، قال: لا يولد لك إلا وكلت به من يحفظه، وذلك قوله تعالى: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ، قال: زدني، قال: التوبة مبسوطة إن تبت أو تاب أحد من ولدك إلى سنة قبلت، وقال: زدني، قال: أرسل عليك رسلي، قال: زدني، قال: وأؤيدك بالصدق ما لم تفارقه لن يغلبك، قال: زدني، قال: أعلمك كلامي، قال: زدني، قال: جعلت الآذان وارثه لك في ولدك، قال: زدني، قال: اتخذ لك مسجداً تزورني فيه، قال: زدني، قال: جعلت ذكري شرابا لك، قال: فما جنودي، قال: مائة خلق رأسهم وقائدهم العقل، قال: ما العقل؟ وما الجنود؟ قال: العقل ملك الملك وهو المعرفة وقائد العقل ومعدنه في الدماغ ومسكنه في الصدر وسلطانه في جميع الجسد وله مائة أعوان كل عون على أمر. باب سؤال إبليس المدد وإله الحرب والجنود والأعوان على آدم عليه السلام ثم تقدم عدوّ الله إبليس، فقال سلطت آدم عليَّ بعد ما جعلتني مذموما مدحوراً وأشقيتني في جنبه وسلبتني خلعة الكرامة ولباس الملائكة من أجله وأعطيته إله الحرب والجنود ونصرته وقويته وقضيت الحرب بيني وبينه فما آلتي؟ وما جنودي؟ قال: ما تشاء، قال: أعطيته الكتب فما كتابي؟ قال: قال كتابك الوشم، قال: فما رسلي؟ قال: الكهنة، قال: فما حديثي؟ قال: الكذب، قال: فما قرآني؟ قال: الشعر، قال: فما مؤذني؟ قال: الغناء والمزمار، قال: فما مسجدي؟ قال: السوق، قال: فما بيتي؟ قال: الحمام والكنائس، قال فما طعامي؟ قال: ما لم يذكر عليه اسمي، قال: فما شرابي؟ قال: كل مسكر، قال: فما مصائدي؟ قال: النساء، قال: فما سلاحي؟ قال: النساء، قال: أعطيته جنوداً، فما جنودي؟ قال: من مائة خلق من أخلاق السوء، والهوى مليكهم ضد كل خلق من أخلاق آدم صلى الله عليه، قال فرضي اللعين. باب صفة المعرفة وصفة لباسها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قال الله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) ، فالقلب مضغة خلقها الله من بطانة الأرض مما لم يمسه وطء إبليس ولا خطوته لأنه كان في سابق علمه أنه معدن معرفته ومن ذلك لا يجد الشيطان عليه سبيلاً، حيث قال: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ، أي على قلوبهم، ومنه قيل القلب بيد الرحمن ومنه في الحديث أنه سأل ربه خصلة فقال ما هي يا إبليس، قال: السبيل على قلبه، قال: ذلك محرم عليك أن تدخله أو تسلط عليه، ولكن لك سبيل ومجرى من النفس في العروق إلى حد القلب وأصل العروق في النفس ورأسها في القلب، فإذا دخلت العروق وجريت فيها عرقت من ضيق المجرى فامتزج عرقك بماء الرحمة في مجرى واحد وجرى إلى القلب مع شؤمك ونفخك ونتنك وظلمتك ووصل إلى القلب سلطانك فغلبت صاحبه ومن أردت به ضراً أو اخترته وجعلته ولياً وصديقاً ونبياً، قلعت العروق من باطن القلب ونزعتها منه فصار القلب سليماً فإذا دخلت العروق وجريت فيها لم ينله شؤمك ولم يصل إليه سلطانك ولا ظلمتك إذ كانت أصل العروق منقطعة من باطن القلب وصار ما بين القلب وبين أصل العروق فرجة فرضي اللعين بذلك، وقد ذكر الله تعالى في كتابه فقال: (إلاّ من أتى الله بقلب سليم) ، القلب السليم الذي نزعت منه أصل العروق ثم ختم عليه، فالقلب وإن كان شريفا فإنه قد خلق مما خلقت منه النفس ولكن التفضيل مما بينهما أن النفس خلقت من أديم الأرض وظاهرها، والقلب من بطانة الأرض، والأرض خلقت من كدورة الماء وخبثه وزبده وأصلها من الماء فهي يابسة خشنة، والنور من اللطف فإذا تخلّى القلب من النور ومائه ورطوبته ولطافته، رجعت إلى جوهرها من الأرض يابسة خشنة فإذا دام بها ذلك قسا القلب أي يبس وصار إلى حالتها وجوهرها، ولما احتج إبليس بما احتج على آدم عليه السلام وفضل نفسه عليه نظر في نفسه واعتبر جوهره فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) والنار من النور وخلقته من تراب، والتراب من الظلمة، ولم يلتفت اللعين إلى أن التراب من الطين والطين من الماء والماء حياة كل شيء، والماء يطفئ النار فلذلك احتج بما احتج. أما أصل معرفة المعرفة ومعرفة جوهرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فإن الله لما أراد أن يخلق آدم عليه السلام جمع وجه أديم الأرض في الموضع الذي أراد أن نتخذ منه البيت وهو الكعبة، ثم رفع تربتها منه وعجنها بماء الرحمة، ثم جعل فيه نور المعرفة، وامتزج بها ماء الرحمة، ثم جعل فيه نور المعرفة كالخميرة، ثم خمرها ووضعه أربعين يوماً حتى نشف فيها نور المعرفة، وامتزج بها ماء الرحمة، وخرج ونزع ما كان في باطنها إلى ظاهرها من النور والبهاء ثم فتح خزائن الصور فاختار أحسن صورة فرفع مثاله وصورته منها ثم رفعها فصور منها آدم عليه السلام على أحسن صورة، ثم نفخ فيه من نور الحياة فأحياه بالنور وحركه بالنفخ، والنور الروح وهو روح الحياة فإن للروح حياة فلم تدب الروح في جسد آدم عليه السلام ولم تمد عروقه منه حتى قذف الله المعرفة وهو اصل النور الذي كان وضع في آدم عليه السلام حيث خمر طينته به فلما التقى نور المعرفة والمعرفة في القلب انتشرا وابتهجا واقتربا حتى اتصلا، فلما اتصلا حتى تعارفا فلما تعارفا عرف النور المعرفة والمعرفة النور إذ كانا متصلين في البدء في مكان واحد عند الملك الأعلى منتصبا بين يديه فاجتمع نوراهما على القلب وسطعا بنوريهما فأنارا القلب وأضاء في سلطان النور وسطع منهما شعاع إلى العرش فوقف بين يدي الجليل فأتبع القلب بصر عينه حتى انتهى منتهى الشعاع فشاهد المعرفة وأبصر الجلال وحجب إليها فالتقى نور المعرفة ونور الشعاع وهو نور المعرفة والمعرفة بنفسها، فعرف ربه فلما أذن له بالكلام أتى بما كان عاين وشاهد وعرف فقال: لا إله إلا الله فلما التمس الروح المنقذ والسبيل للخروج إذ ضاق به ذرعاً في الكون في موضع مضيق كريه هائل وقد كان مخلي عنه في ساحات الملكوت فلم يجد السبيل اضطرب فنظر إليه الرب نظرة حتى خر نار تعد من هيبة سلطانه فسكن فخرج التنفس منه ثم استقر، فقال الحمد لله فلما أخرج ذريته منه نالهم ذلك النور الموضوع في أبيهم يوم التخمير بالجصص فصار لكل منه حظ على قدر ما كان في القضاء في سابق علمه فمن كان في سابق علمه أنه لا يؤمن لم يؤيده بالمعرفة ولم يمده بها وتركه على ذلك النور الذي جُبل عليه أبوه آدم عليه السلام فلم يعرف ربه لأنه لم يقذف إليه المعرفة ليعرف النور المعرفة والمعرفة النور فيعرف صاحبها ربه وعلمه أن سألته عنه ولم يعرفه ومن ذلك قوله: (فطرة الله الذي فطر الناس عليها) ، وهو النور نور المعرفة، وقوله: (ولئن سألتهم من في السماوات والأرض ليقولن الله) ، ومن كان في سابق علمه أنه يؤمن أمده بالمعرفة وقذفها إليه فالتقيا وتعارفا وسطع نوراهما إلى الملك فدلا صاحبهما على ربه فاتبع القلب بصره إلى ما سطع فوحدهما بين يدي الجليل في نور القربة فعرف العبد ربه، فمن ذلك قوله تعالى: (أفمن كان على بينة ربه) ، وهو نور المعرفة ويتلوه شاهد منه وهو المعرفة وإنما جمع تربته في موضع الكعبة كان في سابق علمه أن يتخذها لهم قبلة. وأما المعرفة فأنه سئل أفعل الله هي أم فعل العبد، قال: المعرفة هي من العْبُد والمنسوبة إليه وبها يصير محمودا عند ربه وبخلوه عنها يصير مذموما ولكن السبب الذي به يصل العْبُد إليها خمسة أشياء، وهن لسن إليه ولكن محمود عند ربه باستعمالها ومدرك ربه معرفة وبه وهن: الفهم والذهن والذكاء والحفظ والعلم، وهو ذكر الفطرة وهن من الله لعبده وليس إلى عبده منهن شيء ولكنه محمود باستعمالهن مذموم بترك استعمالهن. وأما نور المعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فهو من الله ربه ليس إلى العبد منه شيء وذلك أن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم عليه السلام خمر طينته بيده وولي تصويره نفسه وخلقه من شيئين من أدنى شيء وأخسه وهو التراب وأعلى شيء وأشرفه وأطيبه وألطفه وهو ماء الرحمة ووضع فيها شيئا أشرف الأشياء وأبهاها وأنورها أخرجه من خزان الربوبية وقده بعلم الوحدانية عليه لباس الألوهية محشو بنور الجلال والفردانية، يحكي عن رب كريم وإله عظيم وقادر لطيف ليس كمثله شيء وهو الحكيم الخبير، وهو نور المعرفة ثم وضع فيه تلك الخمسة الأشياء التي ذكرناها ثم وضع الطينة تحت عرشه أربعين خريفاً حتى تشرب فيه كل ما وصفنا وخلص إلى كل عضو وعرق ومفصل منه من قرنه إلى قدمه ثم نفخ فيه الروح حتى امتلأ منه واستقر فأخذ كل شيء في آدم حظه من نفخ الروح ومن النور الذي وصفنا ومن قربة التصوير وصنعة اليد ومن تلك الخمسة الأشياء التي وصفنا وأصابت جميع ذريته حظوظهم من ذلك كله هم في صلبه كل على حياله وحصّنه وصارت تلك الثلاثة عندهم آية لربهم ودليله عليه واستدلوا بها على ربهم إذ نالوا من التصوير وصنعة اليد القربة ونالوا من النفخ الحياة إذ كانت الحياة من حياته فحيوا به، ومن النور الذي ذكرنا وهو نور المعرفة بالرؤية بلا كيفية ولا حد وإنما رأوا ذلك بتلك الخمسة التي ذكرنا لو لم يكن تلك لم يقيموا على ذلك كله ولم يقدروا على معرفته. أما الذهن فيه يوصل إلى كل ما خفي عليه، وأما الفهم فبه يدرك الغيب، وأما الذكاوة فبه يستخرج المكنون بالتحقيق، وأما الحفظ فبه يحاط، وأما العلم فبه يذكر ما غاب، فباستعمال هذه عرفوا ربهم وبها فهموا عن ربهم، ووقفوا على صانعهم وحفظوا ما نالوا منه وأسماؤهم في المقادير وهم في صلب أبيهم آدم عليه السلام ذلك هدي العلي العظيم العليم، فلما أخرجهم من صلبه يوم الميثاق ووضعهم على كفه ونالهم قربته واستعملوا الأشياء الخمسة دلتهم تلك القربة على هذه القربة أن كليهما من الرب الرحيم فأيقنوا به فلما كلمهم دلهم نفخ النور على أن الكلام من الذي نفخ الروح يومئذ إذ كان له عليهم بينه فيه ثم لما تجلى لهم عن وجهه الجليل سطع منه نور على وجوههم وغشيهم به دلهم ذلك النور الذي وضع في أبيهم وهو نور المعرفة على أن النور الذي غشيهم اليوم من الجليل الجميل فعرفوه رباً واحداً أحداً فرداً وذلك أنه لما اتفق النوران والتقيا سطع على أعين قلوبهم النوران الربانيان دلهم على ربهم الفرد الواحد فعرفوه وأيقنوا به، ويرون ذلك كله باستعمال تلك الخمسة التي وصفنا فالعبد في استعمالهن محمود وفي تركهن مذموم على كل حال وفي كل وقت وفي كل مكان وذلك أنه إذا لم يستعملهن في كل وقت ونسي صنع ربه به وما أكرمه به من النفخ والنور والقربة يوم آدم ولم يذكرها ولم يحفظها بالفهم والذهن لم يعرف ربه يوم الميثاق إذ لم يكن عنده ما يستدل به على كلامه وقربته ونوره الذي ينالهم وهم في كفه، فالمعرفة واستعمال تلك الخمسة على العبد هو مطلوب بهن ومحاسب عليهن محمود على استعمالهن، مذموم على تركهن، ونور المعرفة من الرب ليس إلى العبد منه شيء ولا عليه ذم ولا مدح إذ كان ذلك من فعل الله بعبده وإكرامه له به فإذا استعمل العبد تلك الخمسة فإن استعملهن خرجت المعرفة فإذا استعمل المعرفة برز النور المتمكن فيها وهو نور المعرفة فالتقى النور الميثاقي الذي غشيهم وسطع من الجليل عند التجلي فتشاكلا ولك يتشابه دلاً على ربهم فاستدل العبد بما سطع يوم الميثاق بما كان عنده من النور الذي وضع في آدم يدل كل واحد منهما على نفسه أمن العبد وأيقن وعرفه ومثل ذلك مثل القدح فالنور كالنار والمعرفة كالحديد متمكن فيه النار وهو النور الأول يوم المقادير والحجر التجلي يوم الميثاق والنور متمكن فيه والقلب والفطنة المندوق فلما قدح العبد الحجر بالحديد خرج منهما النار فالتقيا على القلب فيلهما القلب فنوراه ودلاه على الله عز وجل. وأما الكافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فإنه لما سطع نور الجليل على عينه يوم الميثاق وناله قربة الكف وقربة الكلام لم يكن عنده ما يستدل عليه فيعرفه تاه وتحير وذلك أنه نسي الصنع الأول فترك استعمال تلك الخمسة فصارت حديدته وهي المعرفة كأنه لا يعي ما الرحمة فيه فلم يعمل ذلك السطوع وتلاشي النار وبطل لم يقبله القلب إذ لم يجد شاهداً على ذلك فصار مشبهاً مشتركاً، قال الله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) ، فالبينة التي هي من ربه هي النور المقاديري والشاهد الذي يتلوه من النور الميثاقي، وقال: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) ، وقال: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) ، ألا ترى أن العيون هذه بنورها لا تبصر شيئا حتى تؤيد بنور المدد ليلتقيا بنوريهما على الشيء فيبصر الإنسان ما أحب فنور العين نور المعرفة متمكن فيها وهو النور الذي وضع في آدم عليه السلام ونور المدد النور الميثاقي من الجلال وهو نور البهاء أو السراج فما لم يلتق النوران على العين لم يبصر الإنسان الشيء فكذلك ما وصفنا ألا ترى أن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه لما نظر إلى الكواكب والقمر والشمس قال: (هذا ربي) ، فلما استعمل الخمسة الأشياء واستدل بما كان عنده فلم يتفق ولم يتشاكل نفاه، فقال: (لا أحب الآفلين) ، وتبرأ من كل واحد منها، وذلك أنه لما وقع بصره على النور ظن أنه نور ربه فقال هذا ربي، فلما استدل بما كان عنده من النور المقاديري الرباني ونور الميثاقي المؤيدي واستعمل قدحه الذي ذكرنا لم يعمل شيئا وتلاشى ذلك النور في جنب ما كان عنده ولم يتشاكلا ولم يدل على ربه كما دل الأولان ولم تقبله فطنة قلبه ورآه زائلاً علم أنه ليس من ذلك النور وتبرأ منه وفرغ إلى ربه فقال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) ، إلى آخره، وذلك من الله له ابتلاء واختيار إذ أراد أن يتخذه لنفسه خليلا ولا يتوهم عليه أنه شرك في ربه ولهذا غور بعيد لا يمكن صفته وفي قدر ما وصفنا كفاية للمستنبط العليم. تفسير قوله ألست بربكم قال له قائل: فقوله: ألست بربكم ما هذه الألف هاهنا، قال له وجهان: وجه باطن، ووجه ظاهر. أما الوجه الظاهر فهو وجه الاستفهام، والاستفهام من السائل للمسئول يصف الجواب وهو التلقين والإشارة إلى ما عند المسئول في قلبه من الموجود والمدرك والمفهوم عليه والمعلوم والموصوف كذا وجدنا في مجاري كلام العرب وإنما استفهم الرب في ذلك الوقت لأن نور المعرفة كان عندهم بالحظوظ التي أصابوا من أبيهم يوم الخلقة وقربة النفخ وقربة التصوير وصنعة اليد، فقال: (ألست بربكم) ويذكرهم ويستحفظهم ويستجلبهم الذكر من ذلك الصنع الذي صنع بهم يوم آدم عليه السلام وما أكرمهم من النور ونفخ الروح وصنعة اليد ليذكروا ذلك ويستعملوا أفهامهم وأذهانهم فيبرزوا بهن نور المعرفة فيستدلوا به على ذلك فيعرفوه ويؤمنوا به ولا تكون المعرفة أبداً دون الرؤية أو السمع أو القربة كان بدياً قبل ذلك فإذا لاقاه بعد ذلك وقد سبق منه إليه قبل ذلك من قربة أو رؤية أو لقي أو سمع أو صفة دالة عليه أو آية تشير إليه بما فيها من معنى يؤدي عنه فذكر نفسه ذلك واستعمل الذهن في إصابته والوقوف على معرفته دلَّه الذهن والفهم والحفظ عليه فعرفه فقيل عارف ولا يقال لهذا علم فهو عالم إذ قد يستفهم العالم بالشيء الجاهل فيقول ألست بعالم بالكتابة والحساب. والمستفهم لا يعلم أن المستفهم كاتب أم لا؟ ولا يستفهم العارف بالشيء غير العارف لا يقال لغير العارف ألست بالكاتب حتى يعلم أنه بها عارف فإذا كان له منه معرفة قبل ذلك به استفهمه، فقال ألست بكاتب فيقول المستفهم بلى فدلّك هذا المثال على أن بني دم قد كانوا أصابوا حظوظهم يوم الخلقة من صنعة اليد والنفخ وصار ذلك عندهم رسماً على أعين قلوبهم فلما رأوا نوره يوم الميثاق وسمعوا كلامه ونالوا قربة كفه استنار ذلك بما كان عندهم فدلهم ذلك عليه فعرفوه فلما استفهمهم قال: ألست بربكم أي ألستم تعرفوني بالعلائم والشواهد والبينات والآيات التي عندكم قالوا بلى فقبل الله شهادتهم وإقرارهم فجعلهم عبيده من بين الخلق وصفوته ومجتباه وأحباءه وأولياءه. وأما الوجه الباطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فهو أن الألف أول الأسماء وأشرفها ومبتدؤها وأن جميع أسمائه التي تعرف وما لا تعرف إنما خرجت منها فهو محشو بجميع أسمائه وصفاته كما أن الأرضين كلها خرجت من تحت الكعبة ومدت منها من الأديم كذلك خرجت جميع أسمائه منه، والألف في الكتابة حرف منتصف من غير وصل ولا فصل لا انحراف فيه ولا اعوجاج فهو اسم الله دال بحرفيته وانتصابه واستقامته من غير انحراف ولا اعوجاج ولا تمايل على المسمّى الذي هو اسمه أنه واحداً أحداً صمد فرد أبد ودائم عدل تام بارئ قائم بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم وهو في التهجي واستعمال الأدوات ثلاثة أحرف ألف، ولام، وفاء ثم الألف منها ثلاثة أحرف، واللام حرفان والفاء حرفان في التهجي وفي الكتابة حرف فاللام في التهجي لام وألف وميم، والفاء فاء وياء، فمن الألف وهو الثلاثة الأحرف يخرج ثلاثة أسماء الله واللطيف والفاضل، الله من الألف واللطيف من الاللام والفاضل من الفاء، ثم تخرج من لام الألف اسمان لطيف ومجيد، اللطيف من اللام والمجيد من الميم، ثم تخرج من ميم الميم الذي خرج من لام الألف اسمان ملك ومهيمن، ثم تخرج من ميم الملك ولامه وكافة أسماء المولى والمحيي والمميت ومن ميم المهيمن وهائه ويائه وميمه الآخر ونونه خمسة أسماء المعطي من ميمه الأول والهادي من الهاء واليد من الياء والمكرم من الميم الآخر، والنون والناصر من النون فعلى هذا المثال يخرج من الألف جميع الأسماء والصفات وهو في الكتابة حرف وفي التهجي ثلاثة أحرف فقوله: (ألست بربكم) ، لما أراد الله أن يأخذ عليهم الميثاق أبرز لهم هذا الألف على مثال الذي وصفنا حرفا منتصبا في صدورهم على أعين قلوبهم ثم أشار لهم إليه حتى إذا رأوه ونظروا إلى حرفيته وانتصابه واستقامته من غير انحراف ولا اعوجاج وفرديته من بين الأحرف وصموته ووقفوا على معنى ربّهم وهو في القول ثم قال: (ألست بربكم) والألف تماثله على أعين قلوبهم يشير لهم إلى وحدانية الملك ويدلهم بآياته وصفاته عليه فأجابوا ربهم ببلى واستدلوا باسمه الألف بحرفيته واستقامته ودلالته على ربهم وشهدوا له بالوحدانية وأقروا له بالربوبية وأيقنوا بالفردية وأعلموا أن الله إنما أبرز لهم هذا الاسم من بين أسمائه وصوره على أعين قلوبهم ليشهدوا به عليه ويعرفوه بالآيات التي تشير الألف بما فيه إليها ويوقنوا بالمعاني التي تؤدي الألف عنها يوقروا بالصفات التي تدلهم الألف عليها فاستدلوا بوحدانية الألف على أن المسمى الذي الألف اسمه واحداً أحداً واستدلوا بفرديته على أنه فرد واستدلوا بصموته على أنه صمد واستدلوا بحرفيته على أنه وتر واستدلوا ببراءته عن الوصل والفصل على ديمومته وقدمه واستدلوا ببعده عن أن يشبه الأشكال على كونه وبعده عن الكيفية ومنتهاه وحدوديته فعرفوه بالصفات والآيات والبينات معرفة بلا كيفية ولا محدودية وأقروا له بالربوبية ولأنفسهم بالعبودية فأجابوه بثلاثة أحرف وهو الباء واللام والياء فقالوا بلي فرضي عنهم وقبل منهم وجعلهم في كنفه ثم صبّ عليهم النور وأشهدهم على أنفسهم وأشهد الملائكة بذلك عليهم وكفى بالله شهيداً ولهذا غور بعيد لا يمكن استفراغه ولا استفحاصه ولكن في قدر ما وصفنا كفاية وهداية لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإنما أجابوه ببلى ولم يجيبوه بنعم، وبلى ثلاثة أحرف ونعم أيضاً كمثله ثلاثة أحرف لأن في بلى ما ليس في نعم وما في نعم ما ليس في بلى وإن كانا من الحروف سواء ولأن نعم ليس لها عند الاستفهام موضع ولا معنى لأنه ليس في حروف نعم ويكون جواباً للاستفهام ولهذا غور بعيد لا يمكن وصفه ولكن سنشرح منه شيئاً لتفهموه، إن الباء اسم يخرج منه اسم البرَّ والبرِّ والرب واحد في القلب فلما قال الله يوم الميثاق: (ألست بربكم) ؟ نظروا فقالوا إن لله أسماء كثيرة وإنما استقررنا من بين أسمائه باسمه الرب والرب من البر والبر مخرجه من الباء، والباء حرفان باء وألف فإنما يريد ربنا أن نقرّ له باسمه البر ونجيبه به، والباء الذي في أوله باء الإضافة، والثاني اسمه البر والبر من البار وفي البار الألف وهو اسمه الأول فأقروا له به وأجابوه باسم هو في الحرف حرفان باء وراء والألف فيما بينهما مندمج لا يبرز إلا في وقت تهجي الباء ليكون إقرارهم له باسمه الله وجوابهم له بحرف يوافق حرفه الأول الذي ابتدأ به أول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 كلامه في قوله بربكم الباء الذي قبل الراء وذلك أنهم نظروا فقالوا لم نقل ربنا ألست بخالقكم ولا رازقكم ولا مولكم ولا إلهكم فإن له أسماء كثيرة ما تعني ربنا في استقرارنا بهذا الاسم وهو الربّ فتبين لهم أنهم إذا أجابوه بالباء دخل فيه أشرف الأسماء وأولها وهو الألف مع ما وافقوا في جوابهم له بباريهم الذي ابتدأوا جوابهم من قول الربّ بربكم وقولهم بلى فجعلوا مفتتح الجواب بمفتتح الاسم الذي استقر ربهم واستفهمهم به ليتفق الباطن من الكلام من قوله بربكم بلى فوافقوا في الجواب بابتداء الباء ببائه وهو باء البر لا باء الإضافة ووافقوا في المعنى الذي أراد أن يقروا له من جميع أسمائه بألف الإله على ما أشار إليه ومثّل لهم بدياً فالباء هاهنا قالب الألف وهو المعنى ما في القلب لا في القالب فقوله باء إنما هو ألف فالمعنى ما في القالب والمشار إليه والقالب الاستعمال ألا ترى إلى حروف أبجد إنما ابتدأوا أول حروفه بالألف ثم الباء فقالوا أب نجد الألف منه معنى اسمه الله والباء معنى قولهم بلى وإلى حروفها الثمانية والعشرين ألف باء تاء ثاء وإنما جمعوا بين الألف والباء هاهنا وجعلوا مفتتحه بالألف وتاليه الباء لأنهم لم يكتفوا بالألف المندمج للعامة عند الاستعمال فقبلوه وجعلوا مفتتح كلامهم ألفاً مندمجاً وجعلوا تاليه الباء كما هو في الأصل لأنهم علموا أن المبتغى الألف والباء للاستعمال فأبرزوا ما كان مندمجاً وجعلوه مفتتح الكلام وجعلوا التالي الباء فقالوا أب وقالوا ألف وباء ولو تركوه على ما كان سبيله أن يقال هنا بباء باء البر وباء بلى والألف مندمج فيما بينهما ولكنهم علموا أنهم إذ قالوا ألف دخل فيه كل اسم ثم إذا قالوا باء كان قد دخل الباء مرة من الألف ومرة الآن فهذان باءان ومبتدأهما الألف فترجموا إحدى الباءين وهو الذي من الألف مندمج فيه وتركوا الباء الآخر المبرز على حاله تالياً للألف علامة ورسماً على القلوب ليوم الميثاق وجوابهم ربهم ببلى، فاسم آدم عليه السلام ما لي أراه ألفاً والدال تاليه وليس تالي اسمه الباء وهو أبُ البشر، قال: له اسمان، أحدهما اسم الخلقة، والآخر اسم الفعل، أما اسم الفعل فإنه أبُ البشر ففيه ألف والباء تاليه، وأما اسم الخلقة، فهو آدم الألف مبدأه والدال تاليه لأنه لم يوجد عليه الميثاق يوم الميثاق ولم يستفهم وإنما عفي عنه لأنه كان مصوّر يده قد شاهد القربة ونال نور الجلال وأبدل مكان الميثاق عرض الأمانة فجعل مبتدأ اسمه الألف علامة لمعنى اسمه الله، والدال علامة الخلقة، أنه خلق من أديم الأرض ونما خلق من الأرض لأن الله كان عالماً به أنه إن خلقه من نوره وبهائه اغتر وتجبر باتفاق النور "ومال إلى الزهو" والعوز والقربة وغلبا عليه فأهلكاه. ألا ترى إلى إبليس كيف تجبر واستكبر بأصل خلقته وهو نار العزّ على آدم في سجوده حتى كفر، وكيف مارى آدم في الخلقة فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فعطف الله علينا بني آدم إذ خلق أبانا آدم من التراب وعصمنا من دواهي أنفسنا وخلصنا من المهالك برأفته وليست تجري أسماء ذريته على هذا السبيل إنما ذلك سبيل آخر وسبيل مجرى الأسماء أسماء الخلق ومدارها على نحو آخر وهو ما يخرج من أفعالهم وأخلاقهم وطبائعهم وتصرفهم من حال إلى حال وأما الموضع الذي يجعل تالي الألف واللام فهو سبيل مجرى الكلام وهو على نحو ما ذكرنا بدياً أن الألف اسم من أسمائه وأول الأسماء وأشرفها وهو الدال على صانع الخلق وخالقهم فالألف ألف المعرفة واللام علم المعرفة ولا تكون المعرفة دالة مع علمها إلا فيما وصفنا بدياً في يوم الميثاق فإن الله أخرج الألف يومئذ بغير علمها وهو قوله: (ألست بربكم) وكان سبيله مع العلم أن يقول أل الألف مع اللام ليكون بروزه مع العلم ثم يقول لست بربكم فإن اللام التي في قوله لست ليست بلام علم المعرفة وإنما هي لام لست نكرة لأن لام لست ليست زائدة كألف كلام الله فالألف مع اللام معرفة مع العلم كقولك الدار والرجل فالألف اسم يدلك ما فيه على المسمى واللام علمها وهو المصدق لها، والنكرة أن تقول رَجُلٌ ودار ليس فيها معرفة ولا علم وهو اسم مصمت وإنما أخرج الله يومئذ الألف وحده من غير علم لأنه أحب أن يعرفوه ربا ويقروا به غيباً من غير علامة يرون أو إشارة يبصرون سوى الذي في الألف فإن في حشوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 منن الدلائل والعلائم والبينات والدلالات ما يحملهم على وحدانيته ويدلهم على فردانيته من غير علم المعرفة فأخرج الألف دالاً بصفاته عليه من غير لام كالنكرة وليست بنكرة إنما هي معرفة بلا علم ليكون معرفته به وإقرارهم به غيباً كما دعاهم إليه غيباً فيمدحهم ويثني عليهم ويباهي بهم خلقه الآخرين، وقال: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) .ل والعلائم والبينات والدلالات ما يحملهم على وحدانيته ويدلهم على فردانيته من غير علم المعرفة فأخرج الألف دالاً بصفاته عليه من غير لام كالنكرة وليست بنكرة إنما هي معرفة بلا علم ليكون معرفته به وإقرارهم به غيباً كما دعاهم إليه غيباً فيمدحهم ويثني عليهم ويباهي بهم خلقه الآخرين، وقال: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) . فقال له قائل، فقوله: "هو آية كلمة هي وما في حشوها فإني أسمع الله يشهد وملائكته وأُولي العلم على أنه هو وقال في سورة الإخلاص قل يا محمد (هو الله أحد) "، وقال في آخر الحشر (هو الله الذي لا إله إلا هو) ثم قال في موضع آخر: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) وقال في آية أخرى: (لا إله إلا أنا فاعبدوني) ، قال هيهات هيهات أن يكون لهذا العلم في إهابك مساغ، فإن هذا علم جليل دقيق، ولكن سنذكر منه شيئاً لتستدل به على ما تريد قوله هو، فإن هو كلمة محشوة في صفاته الإلهية والفردية والجلالة والملك والعزة والقدرة والسلطان والجبروت وهو حرفان هاء، وواو، فالهاء منها الهداية، إن الله وهو الهادي، والواو الوله لأن الوله لا يجوز ولا يستحق إلا الله فمستقر جميع الصفات الآتية والأسماء الرفيقة في الهاء، والواصف لها، والدليل مما فيه الخلق والمشير إليها والمعبر عنها، والمؤدي عن معناها بكنهة الألف لا ترى أنه لما قال: (قل هو) ، لم يَدُل على صفاته حتى قال: الله، فأبرز الألف، ثم قال: (أحد) ثم قال: (الله) ، فأبرز الألف، ثم قال: (الصمد) ، فأبرز الألف قبل الصفات أولا ترى إلى قوله: (هو الله الذي لا إله إلا هو) ، فسكت ثم قال: (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) ، ثم قال: (هو الله الخالق البارئ) ، لم يكتفي بهو في تلك المواضع حتى ذكر بعده الله، ثم وصف فهو كلمة لا ينطبق بما فيها ولا تدل ولا تشير ولا تصف وهو محشو بها، فالألف المعبر عنها بما فيها وهي في الكتابة حرف الألف لا تظهر ألاَّ عند القراءة والتهجي، وأما الواو الذي يتلوه فهو الاسم وله الخلق إليه وإلهية الملك بوحدانيته، فالرب تعالى لما دعا الخلق إليه في المقادير ووصف نفسه وصف بهو لأن فيه علم الغيب، ودعاهم إليه به، فقال: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) ، ولما دعاهم إليه يوم الميثاق دعاهم إليَّ أنا فقال: (لا إله إلاّ أنا فاعبدون) ، هذا إقرار ومر أن يعبدوه في الجملة ولما دعاهم إلى عبادته ودعاته دعاهم إلى اسمه الله فقال: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) ، وقال: (إنني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) ، فقوله: (هو) ، اسم لا ينطبق ولا يدل، وقوله: (أنا) ؛ اسم مضمر فيه اسمه الله، وقوله: الله؛ اسم واضح دال الوصف. قيل له: اسمه إبليس، أوله ألف وتاليه الباء، ما معناه، قال: ذاك ليس من هذا المعنى في شيء ذاك اسم سماه الله به يوم أبى عليه بالسجود لآدم عليه السلام أخرجه من فعله، وأما اسمه الذي هو اسمه فهو غزازيل فهذا اسم الخلق في البدأ، وذاك اسم سماه الله به من فعله الذي بدا منه. فأما تفسير اسمه عزازيل فإن العزاز العبد، والآيل الرب، والعزاز مأخوذ من العزة، وذلك أنه خلق من نار العزة، والعزة ثلاثة أحرف، والعزاز: أربعة أحرف وكل حرف منها يدل على فعله إذ كانت الأسماء تدل على الأفعال، وهو العين والزاي والألف والزاي الآخر فمن العين خرج علوه ومن الزاي خرج زهوه ومن الألف خرج إباءه واستكباره وأما الزاي الآخر فهو ركن الكلام وعقبة لإتمام القالب في العربية كقوله: الرحمن، وسبحان وأما المبتغى منه السبح والرحم، وأما أن منهما فهو القالب على مجرى فعلان فهذا تفسير اسمه عزازيل. وأما تفسير اسمه إبليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فإنه خمسة أحرف كل حرف منها يدل على فعله الذي هو فيه ويبدو منه وهو الألف والباء واللام والياء والسين، فأما الألف فإنه ألف الإباء والاستكبار إذ كان إباءه من الاستكبار، كما قال: (أبى واستكبر وكان من الكافرين) فإباؤه من الاستكبار واستكباره من الكفر. وأما الباء فإنه بالبراءة حيث برأ من ربه بتركه السجود، وأما اللام فأنه لام لم، وأما الياء فإنه ياء لم يكن، يقول لم يكن، وأما السين فإنه سين السجود فإذا جمعت الحروف كلها أدى المعنى على أنه أبيَّ على ربه واستكبر ولم يكن من الساجدين لآدم عليه السلام مع الملائكة، قال الله تعالى: (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) ، قيل له فاسم إبراهيم عليه السلام أخرج أيضا مبتدؤه الألف ثم الباء. اشرح لنا منه شيئاً قال: أما تفسير اسم إبراهيم فإن كل حرف منه اسمه دليل على فعله الذي كان من مندمجاً فيه منكمناً كالنار في الحديدة وعلى ما أخرج منه يوم الابتلاء والاختبار، فأما الألف فإنه ألف الإسلام، حيث قال الله له: (اسلم) ، قال: (أسلمت لرب العالمين) . وشهد الله له ذلك ولابنه إسحاق. فقال (فلما أسلما وتله للجبين) ، ويحتمل أن يكون ألف الإخلاص أنه كان مخلصاً ويحتمل أن يكون الألف ألف الإيمان إذ شهد بذلك فقال: (إنه من عبادنا المؤمنين) ، ويحتمل أن يكون على ما ذكرنا بدياً من أن الألف اسم الله والباء علامة جوابهم بلى وكل حسن، وأما الباء على التفسير الذي ذكرنا إن الألف ألف الإسلام فإنه باء البراءة حيث قال: (إني بريء منكم ومما تعبدون من دون الله) ، ثم قال: (أنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله) ، وأما الراء فإنه راء الرؤيا حيث قال: (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) ، وأما الهاء فإنه هاء الهم، وأما الباء فإنه باء التصديق فإذا جمعت من الحروف صار كلاماً وأدى المعنى المبتغى منه في القول أنه أسلم لربه فيما رأى في الرؤيا وهم أن يصدق رؤياه بذبحه ابنه فاكتفى الله بهمه وعفا عنه ورضي عنه وفداه بكبش، وأما الميم الذي يعقبه فإنه ميم مه حيث هم بذبحه قال الله جل وعز "مه" فسماه الله بذلك الاسم ولم يظهر بعد منه هذه الأفعال لعلمه به وما يبدو منه بعد ذلك. قيل له فاسم فرعون: أحببنا أن تشرح لنا منه شيئاً ليكون لنا فائدة؛ قال: أما تفسير اسم فرعون فإنه له اسمين: أحدهما الوليد، والآخر فرعون، وكان يدل على فعله وسوء سيرته الذي منه بدا. فأما الوليد فإنه أربعة أحرف: واو، ولام، وياء، ودال، فالواو واو الويل، واللام لام اللعنة، والياء ياء اليوم، والدال دال الدين فإذا جمعت بينهما أبدى المعنى على أن عليه الويل واللعن يوم الدين، فهذا اسم قد سماه الله به وحشوه ما يصل إليه في الآخرة مندمج منكمن فيه في الويل واللعن. وأما الاسم الآخر فهو فرعون فهو خمسة أحرف: وهو الفاء والراء والعين والواو والنون؛ فالفاء فاء الفراق والتفريق والراء راء الركوب والركون، والعين عين العلو، والواو واو الويل، والنون نون النار، فإذا جمعت بين حروفه الخمسة أبدى عن المعنى على أنه حيث ملك فارق دينه، وفرق بين بني إسرائيل، وركن إلى الأرض وركب هواه وعلا كما قال الله: (إن فرعون علا في الأرض) ، وكما قال: (وإن فرعون لعال في الأرض) ، وكما قال بنفسه وادعى الربوبية: (أنا ربكم الأعلى) فهذا ما بدا منه في الدنيا، وأما الواو والنون فله الويل والنار يوم القيامة في خزي وهوان أبد الآبدين. قيل له فتفسير لا إله إلاَّ الله وترجمته: إن وفق الله لك أن تذكر لنا منه شيئاً شكرنا الله لك بالسداد والرشد، قال فأما تفسير لا إله إلاَّ الله، فإنها في الحروف عشرة أحرف لا آن وهاءان وثلاثة ألفات وثلاثة لامات، فأما إله فثلاثة أحرف؛ والاسم منها في الألف وهو الاسم المنحول المستعار للأصنام مأخوذ من اسم ربنا الله اختلافاً واستراقاً، وأما الله فهو أربعة أحرف؛ والاسم منها في الألف، فالألفان اسمان: أحدهما محق بالتحقيق؛ وهو الله اسم لربنا عز وجل والآخر مستعار مسترق منحول مختلف والهاءان علما إلوهيته إلى المنسوب إليه بالألف وهو اسم في قوله: (إله) ، وقوله: (الله) وأحدهما التحقيق والآخر مستعار كما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فإذا قلت لا إله إلاَّ الله فلا الثاني، لألف الإله، لأن الاسم المستعار فيه وهو اسم الصّنم، وإذا قلت إلاَّ الله، فألف إلاَّ هو المثبت لألف الله لأن السم المستحب فيه وهو اسم ربنا جل وعزّ، وأما لا فهو عماد الألف هاهنا؛ لأن الألف لا يمكن عبارته باللسان دون اللام إذ هو علمه فكذلك اللام لا يمكن استعماله إلاَّ مع الألف وإن استعمل دون الألف ذهب المعنى، وتلاشى المراد، وبطل المبتغى، وصار كلاماً آخر يؤدي إلى معنى آخر، ولأن الكلام التام عند العرب لا يكون من ثلاثة أحرف إلا في أحرف قليلة منها قول الله: (كن) ، وهو حرفان خرج منهما الملك والملكوت وشأن الدارين، وأمر الآخرة، وذلك تقدير من العزيز العليم، أخرجه من خزائن الربوبية فقوله كن؛ نما هو في الأصل حرف والنون قائمته، فلو قال ربنا لما شاء أن قال: كن من غير نون كان ما شاء، ولكن أحب أن يخرجه مع القائمة ليفهم خلقه كلامه ومعناه في تنزيله في شرائعهم على لغاتهم وألفاظهم ليكون أيسر على ألسنتهم وأفهم للسامع على المراد ألا ترى إلى بعض رؤوس السور المبهمة كيف تاه الناس فيها، وكيف اختلفوا في تفسيرها وهن "الطَّواسين والحواميم والميمات" وغيرها، وهن ثلاثة أحرف، وأكثر فلولاً إنهم تاهوا فيها إذن لهم أتوب في قوله: طس ويس ونون وقاف، وكل حرف منها محشو بمعان وصفات وكل إنما هو بعض من كلام، كما قالوا إن ألف لام ميم، فالألف منها اسم ربنا الله والله اسمه اللطف والميم اسمه الملك فانظر كم حرف اللطيف، وكم حرف الملك، وكم حرف الله، وكم حرف الألف من الله، وكم حرف اللام من اللطيف، وكم حرف الميم من الملك، وقد قال بعض المفسرين إن الألف إلا الله وإن اللام لطف الله، وأن الميم ملك الله، ويقال أيضاً أن الألف اسم الله وأن اللام اسم جبريل، وأن الميم اسم محمد صلى الله عليه وسلم، فقوله (كن) هو حرف كقوله نون وقوله كاف والنون قائمته ليكون للسامع أفهم وللقائل أيسر وأشبع في الكلام وأتم في القالب، فلا كلمة نفي ولا كلمة إثبات ولا يكون الإثبات إلا بالألف ويكون النفي بغير الألف، لأن الألف في لام مضمر مندمج فيه، فإذا قلت لا علمت أنه لام وألف، وإذا قلت إلا علمت أنه لام وألفان أحدهما قبل لا والآخر بعد لا، ولا في الكتابة له فرعان من أصل واحد وفي الكلام لا تظهر إلا في فتحة اللام ومدَّته، فاكتفى الله بنفي كل معبود دونه بحرف لا لأنه وإن كان حرفاً واحداً في الكتابة فإنه حرفان في الأصل لام وألف، والفرعان اللذان فيه يدلان على ذلك، وإن خفي على الناس معرفة ذلك والألف أشرف أسمائه وأعزها فاكتفى به في النّفي وإن كان مضمراً فإن له سلطاناً ينفي وحدة اسم كل معبود سموا باسمه الله اختلافا واستراقاً وانتحالاً واستعارة، ولم يكتفي به عند الإثبات حتى أبرز ألف إلاّ سوى الألف الذي في لا وترك اللف الذي في الأعلى حال تأكيد وتثبيت، فقال عند النفي لا حرف واحد وهو اللام وفيه الألف المضمر، وقال عند الإثبات ألاَّ فترك لا على حالة وأبرز ألفاً آخر قبله ليكون حرفان ظاهران؛ ألف، ولام سوى الألف الذي في لا لئلا يكون إثباته بحرف واحد كما إن النفي بحرف واحد فيشبه الإثبات النفي في قوله (لا) فميز افثبات من النفي بالألف الذي أبرز قبل لا. وأما ترجمة لا إله إلاّ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فليس على ما ذهب إليه العامة، ولا على ما فسره المفسرون، ولا على ما ترجمه المترجمون، وقد غلطوا في ترجمته وتفسيره وقصدوا غير سبيله، وشرحوا الظاهر وكتموا الباطن وما في حشوه، وذلك أنهم ترجموا قوله لا بالأعجمية ميست وهو خطأ بيِّن، وكيف يشبه لإبليس، أم كيف يشبه نه بالأعجمية نيست؟ ولو كان كما ذهب إليه الناس من قولهم: لا إله: نيست خداي، لكان ليس إله على قياس قولهم، ولكنهم بالخطأ يتكلمون وبالمحال يترجمون، وإلههم ينفون لا الإله، وسنبين لك خطأ قولهم ومحال ترجمتهم لتفهمه، وتكون على علم منه إن شاء الله والتوفيق بالله، إن لا كلمة نفي وتبرئة أبرزها الجليل لينفي بها كل معبود دونه عن أن يكون مثله، وتنزه بها ربك عن أن يكون له شبيه أو يكون له في ملكه شريك أو ولد كما زعم الكفار والمشركون وكفرة أهل الكتاب، والنفي والتبرئة هو التسبيح والتنزيه، وأما ليس فهي كلمة جحود وإنكار، وليس للإنكار والجحود هاهنا معنى ولا موضع، إنما هاهنا موضع النفي والتبرئة؛ وهما التنزيه والتسبيح، وقد دعا الله سبحانه وتعالى الخلق إليهما، وبهما أمر لا إلى الجحود والإنكار وذلك أن القوم لم يكونوا ينكرون أو يجحدون أن ليس في السماء إله، ولكنهم يزعمون أن له ولدا يشبهه وهو عيسى، وإن له شريكاً في ملكه وهو هذه الأصنام، وإنه قد اتخذ صاحبة وهي مريم وإنه اصطفى البنات على البنين؛ وهن الملائكة، وأن الشمس والقمر والشجر والكواكب له شركاء في ملكه، وقد قال تعالى في كتابه يحكي عن قولهم (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) ؛ فدعا الله خلقه إلى أن ينفوا عنه مقالاتهم الرجسة، وينزهوه عن ذلك كله، وأن ينفوا الآلهة التي اتخذوها من دون الله، ويوحدوه بوحدانيته في ربوبيته، فإذا قال العبد: لا إله، وزعم أن ترجمته ليس إله فإنما أنكر الإله المستحق وله جحد، وهو الربّ تبارك اسمه "لا اسمه المستعار وهو الصنم" لأن الاسم المستعار للصنم من اسم ربنا وهو الإله لا يدخل في قوله: ليس، إنما يدخل الاسم المستحق وهو اسم الرب لأن الجحود إنما يقع المستحق نصاً، لا على المستعار المنحول، وإنما يقع النفي على المستعار والمنحول، ألا ترى أنك إذا قلت ليس إله فقد جحدت اسم الإله الذي هو إله، وإذا قلت لا إله فقد نفيت اسم الإله المستعار المنحول؛ لأن الله تعالى دعاك أن توحده وتنفي ما دونه مما تسمى باسمه الله، وزعموا أنه إله دونه، وتنزهه وتبرئه عن أن يكون دونه أحد أو معه في ملكه أحد، فأطلق لسانك على أ، تقول لا إله وهو بالأعجمية "نه خدايست" هذا الذي تزعمون أنه إله دون إلهي وقد سميتموه باسم الله، ثم تقول إلاَّ الله، وبالأعجمية "جزاز خداي" الذي له اسم الإله المستحق فإذا قلت ذلك فقد أجبتهم به، ورددت عليهم قولهم، وما سمّوا به أصنامهم، ونفيت اسم إلهك عنه، ونزهت ربك عن كل ما أشركوا فيه، وبرأته عن أن يكون في ملكه ما يشبهه، وأثبته ملكاً فرداً ووحدته أحداً صمداً، وسبحته بما هو أهل، وأصبت معنى الله بقولك في الرد عليهم وعلى مقالاتهم الرجسة وناضحت عن ربك، وانتقمت منهم نقمة ربك، ولاشيت أقوالهم، وأبطلت حججهم، ودمرت عليهم تدميراً، ونصرت اسم ربك وقدسته من أقذارهم وفككت أسرته، وإذا قلت لا وزعمت أن ترجمته ليس لم يكن لهم في قولك جواب، وتلاشى كلامك وبطل المعنى، وصار النفي غير ذلك، لأن المعنى في كلامك يؤدي هاهنا على خلاف ما في الضمير، لأن معناك من قولك هذا على النفي وإثبات الرب، وقولك على لسانك يؤدي نفي اسم الله لا اسم الصنم، فكيف يغني عنك لو أنك تقول هات كوزاً من ماء وفي ضميرك معنى الخبز، وإن أردت أن يظهر لك قبح تلك الترجمة وفحشها، ورشد ترجمته وحسنها، وإصابة المعنى في التمييز بينهما، مثلت لك لتدركه، فإن هذا حرف لطيف لا يدرك ما قلنا ولا يفهمه إلاَّ من دقق النظر، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أرأيت لو أن لك فرساً ولرجل حمار قد سماه فرساً أتاك فقال هذا فرسي كفرسك ما كنت تقول له: إن قلت له ليس بفرس نفيت فرسك، وجحدت أن يكون فرسك فرساً لا حماراً لأن فرسه حمار ومتسمِّي باسم فرسك؛ ولو قلت ليس بحمار كذبت لأنه حمار وليس فرساً. قيل اشرح لنا كيف سبيله، قال: إن قلت ليس فرس إلاَّ الفرس لم يكن كلاماً لأنك قد نفيت الفرس الذي هو فرسي وجحدته قبل أن تثبته وقبل أن تنفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فرسهسه إذ أنه ليس بفرس، ألا ترى أنك حين قلت ليس فرساً نفيت فرسك لأنه هو الفرس، ولم تقع كلمتك ونفيك على الحمار لأنك قلت ليس فرساً ولم تقل ليس حماراً، وإنما هو حمار وإن قلت ليس حماراً لم يكن كلاماً لأنك كذبت في قولك ليس حماراً، فإذا قلت لا فرس فقد رددت عليه ما جاء به من الاسم المستعار من فرسك على حماره، ثم قلت ألا الفرس، فأثبت اسم فرسك المستحق على فرسك الذي هو اسمه، وكقول رجل للفلس هذا دينار فإذا قلت ليس ديناراً نفيت الدينار لا الفلس، لأن الفلس فلساً إنما سمي ديناراً، وإذا قلت إلاَّ الدينار، أثبت الدينار الذي هو دينار. إذ أنه ليس بفرس، ألا ترى أنك حين قلت ليس فرساً نفيت فرسك لأنه هو الفرس، ولم تقع كلمتك ونفيك على الحمار لأنك قلت ليس فرساً ولم تقل ليس حماراً، وإنما هو حمار وإن قلت ليس حماراً لم يكن كلاماً لأنك كذبت في قولك ليس حماراً، فإذا قلت لا فرس فقد رددت عليه ما جاء به من الاسم المستعار من فرسك على حماره، ثم قلت ألا الفرس، فأثبت اسم فرسك المستحق على فرسك الذي هو اسمه، وكقول رجل للفلس هذا دينار فإذا قلت ليس ديناراً نفيت الدينار لا الفلس، لأن الفلس فلساً إنما سمي ديناراً، وإذا قلت إلاَّ الدينار، أثبت الدينار الذي هو دينار. تفسير قوله: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 قال كثرت التفاسير لهذه الآية من وجوه شتى، وكل حسان؛ ولكن التفسير ما فسره الحكماء من الحكمة العليا التي خرجت من خزائن المعرفة ونطقت به ألسنة أهل العقول من بحور الإلهام حتى صارت منها أودية ملأت الأفق، أما قوله عز وجل (الله نور السماوات والأرض) ، فإن الأنوار كلها تسعة، وهن كلهن من نور الله، فأما النور الأول فنور الشمس ولباسه الضوء، وأما الثاني فنور القمر، وليس عليه لباس وإنما معنانا في ذلك لباس الباطن لا لباس الظاهر، فأما لباس الظاهر فإن لكل واحد منهما لباساً، فلباس الشمس من العرش، ولباس القمر من الكرسي، هذا في المجاز وفي التحقيق لا يقال لما ذكرنا لباس، إنما ذلك كسوة، والكسوي سوى اللباس، الكسوة ما يواري العورة، واللباس ما يلبس فوق الثياب، ذلك للنفس وهذا للعين، وشتان ما بينهما عند من له فهم ولبّ في التمييز بينهما، ونكتة أخرى أن الكسوة لحاجة النفس، واللباس فرح القلب وفيه ما لا يمكن الفحص عنه، ولو قصدت ذلك طال الكتاب، رجعنا إلى ما كنا فيه، وأما النور الثالث فنور الكواكب، وأما النور الرابع فنور النهار، وأما النور الخامس فنور البرق، وأما النور السادس فنور النار، وأما النور السابع فنور الأعين، وأما النور الثامن فهو نور الجواهر، وأما النور التاسع فهو رأس الأنوار وملكها وذلك أنه خرج من الوحدانية وعليه لباس الربوبية يدل على الألوهية ويشير إلى الفردية وذلك قوله، (أفمن كان على بينة من ربه) ، فهو نور المعرفة ويتلوه شاهد منه فهو نور هذه الشواهد والعلائم الذي يدل على معنى الله ويشير إليه ويؤدي عنه بالصفات والذات والأسماء الدالات، وإنما صار أبهر الأنوار وأعلاها وأشرفها وكلهن من رب واحد لأن تلك أنوار الظاهر، وهذا نور الباطن فبنور الظاهر وبنور الباطن يرى الباطن لو أنك أردت أن تنظر إلى ما غاب عنك بنور بصرك لم تطق ذلك أبداً. ونكتة أخرى أن بنور الباطن يرى الظاهر والباطن كلاهما، وبنور الظاهر لا تطاق الرؤية إلاَّ للظاهر فجميع الأنوار التي ذكرنا بدت من ملكه وقدرته، والنور الأشرف وهو نور المعرفة إنما بدا من الوحدانية، فتلك دالة على الملك والملكوت لأنها بدت منها ومن نوريته خرجت هذه الأنوار كلها، فوصف نوريته الذي بدا من الملك لأهل السماوات وأهل الأرض، ثم عطف على النور الأعلى والأشرف، وهو نور المعرفة الذي بدا من الوحدانية فذكره وضرب له مثلا ليفهمه خلقه وليعرفوا كرامتهم التي أكرمهم الله بها من بين خلقه ليشكروه على صنعه بهم ونظره لهم وعطفه عليهم في سابق علمه بهم حيث لا أرض ولا سماء ولا عرش ولا كرسي ولا قدر ولا قضاء ولا شيء ولا مقادير، نظر إليهم في هويته وفرديته وديمومته وقدمه فاجتباهم وهداهم واختارهم لنفسه وجعل أسماءهم عنده في سابق علمه ليكون خروجهم ذريتهم بين يديه في غيبة المكنون ينظر إليهم وكنفه بالمحبة عليهم فيباهي به خلقه وخليفته حتى يمجدوه ويثنون عليه ويركعون ويسجدون له، وحيث يسلون سيوفهم النورانية من أغمادها مموهة بماء المحبة محددة بالمعرفة، مسقاة بإخلاص فيهزونها بالشوق بين يدي الجليل على بساط الفرح فتلمع سيوفهم وتشرق منها أنوار فتحرق الحجب هيبته، وتحير الملائكة سلطانه وتحرق الشرك واكفر نيرانه، ويرتعد من الشوق إلى صاحبها عرش الجليل، وينبع ويزهو جنان الفردوس من طيبه فيا له من عز ويا له من شرف لو كنت تعقل، رجعنا إلى ما كنا فيه، فقال: (كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد) إلى آخر الآية، فأما وجه غربيته، فإنه يقول: كمشكاة، ككوة فيها مصباح، والمصباح في زجاجة، والزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة: يقول يوقد القنديل من دهن شجرة مباركة وهي الزيتون لا شرقية ولا غربية، يقول: ليس في الشجرة شرقية ولا غربية؛ يكاد زيتها يضيء، يقول: يضيء القنديل بغير نار ولو لم تمسسه نار، يقول: يضيء ضياء لو لم يكن نار، نور على نور يقول: هو نور يعني الزيتون على نور، يقول على الزجاجة، يهدي الله لنوره من يشاء وأما المثل فإنه يقول: كان بيت له مشكاة وهي الكوة، وفيها قنديل معلق قد صبّ فيه ماء وفوقه دهن الزيت إلى أن جاوز النيزق وصارت الفتيلة فيها مصبوغة، والقنديل يضيء أهل البيت بضوء الدهن، الذي فيه وهو دهن الزيتون من غير نار كأنه كوكب دري في شدة ضوء ودريته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 تفسير مثل القنديل فإن المشكاة الكوة، والبيت الصدر، والمصباح السراج، والمصباح الآخر الفتيلة، والزجاجة نايزق القنديل، والزجاج الآخر نفس القنديل، ووقوده من دهن زيت لا شرقية ولا غربية بلا نار، وهو الصدر والمصباح المنسوب إلى الفتيلة اللسان والزجاجة المنسوبة إلى النايزق الحلق، والزجاجة المنسوبة إلى نفس القنديل القلب، وأم الوقود الذي ذكر أنه من الزيتون هو المعرفة، وأما الماء الذي هو تحت الدهن فهو ماء الرحمة. وأما تفسير القلب حيث سماه بالزجاجة من جميع الأشياء والجواهر وإنما شبه القلب بالزجاجة لأن الزجاجة جوهرة أصلها من النور واستعمالها بالنور، وهي النار فلما اجتمعا ودخل سلطان النار فيها ازدادت نوراً وضياء، ويبست من سلطان حراريتهما حرارة النار وحرارة النور وضعفت ورخوت فمهما أصابتها يد الآدميين انكسرت من غلبة سلطان النار وحرارته عليها ولذلك قال: حكيم من الحكماء إنما شبه الله قلب المؤمن بالزجاجة لأنها سريعة الانكسار بطيئة الانجبار أي إذا انكسرت لا تقبل الجبر ولا تصلح حتى لا تصيبها النار فسماها لضعفه وسرعة انكساره وشدة نوره وضوئه للزجاجة التي وصف. وأما تفسير القلب حيث شبهه بنوره وضوئه ودريته بغير نار بالكوكب من بين الأشياء الدريات وإما شبَّه بالكوكب لأن الكوكب من المور ولباسه من النور، وهو معلق من السماء يضيء لأهل الأرض من مسيرة خمسمائة عام وأكثر بغير نار بالنور الذي هو جوهره والنور الذي هو لباسه، فشبه قلب المؤمن بضوئه ونوره وضوء المعرفة التي فيه من الأرض لهل السماء بغير نار بالكوكب الذي يضيء لأهل الأرض من السماء بغير نار، فقال كأنه كوكب دري، وكما أن القنديل يعلق بالهواء بحبل، والكوكب معلق في السَّماء، كذلك القلب معلق في السماء وسماؤه العرش وحبله الإيمان وهو الإقرار به. وأما تفسير قوله: (يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) قال؛ أما شجرة الزيتون فإن أصلها ومنبتها من شجرة طوبى التي هي في الجنة أهداها الله لآدم يوم تاب عليه وزوده بها وسماها باسم سوى اسم طوبى، وهو الزيتون، ولكنه بلطفه وحكمته غير حروفها وأبدل كل حرف منها بحرف آخر، وختمها بحرف زائد ما ليس فيها وهي النون من الزيتون، وذلك أن طوبى أربعة حرف طاء، وواو، وباء، وياء، وزيتون أربعة أحرف أيضاً: زاي وياء وتاء وواو وزيادة حرف في آخره وهي النون. وأما تفسير الزيتونة فإنها في الحروف خمسة أحرف كما ذكرنا، وهي الزاي والياء والتاء والواو والنون وكل حرف منه يدل على فعله وما في حشوه، فالزاي زاي الزاد، والياء ياء اليوم، والتاء تاء التوبة، والواو واو السمة حيث وسم الله تعالى شجرة طوبى حين غرسها، ولها قصة نذكرها في بابها إن شاء الله؛ النون نون النور فإذا جمعت بين حروفها المتفرقة دلل على أن الله عز وجل زود آدم عليه السلام بها يوم تاب عليه، والنون علامة النور في الزيتونة، ودلالة على أن فيها نوراً يضيء القنديل بنوره من غير نار، كما قال: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) ، هاهنا تم الكلام. ثم استأنف الكلام: (نور على نور) أي لأن الزيتون نور على نور الزجاجة وهي القلب، والزيتونة المعرفة، يقول: كما أن دهن القنديل من شجرة الزيتونة، كذلك دهن القلب من شجرة التوحيد، وشجرة التوحيد هي التي ذكرها الله في القرآن (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) ، وهي التوحيد أصلها ثابت في قلب المؤمن وفروعها في السماء وهو العرش (تؤتي أُكلها) يعني ثمرها كل حين كل ساعة بإذن ربها، نقول لا تثمر إلاَّ بأمر ربها. أما تفسير قوله: مباركة فإن قصتها في ذكر قصة طوبى، وسنذكرها في موضعها إن شاء الله مع سمتها التي ذكرنا. وأما تفسير قوله لا شرقية ولا غربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فذلك أن الله تعالى حيث أهداها إلى آدم عليه السلام يوم أهداها غرسها في تلعة من الأرض، ولم يكن يومئذ حيطان تواري عن الشمس ولا ظل وكانت الدنيا فيافي وبراري، أهدى الله حبَّة من حبَّات ثمرة شجرة طوبى حين تاب عليه، وقيل يا آدم: إن فيك داعية تدعوك إلى جوهرها ولا بد لك من اتباعها وهي جوهرة التراب وهي التي دعتك إلى أن أخرجتك من الجنة، وأسكنتك الأرض، فهي كما دعتك من الجنة إلى أن أخرجت من جواري وأسكنتك جوهرها وهي الأرض فهي لا تدعك أن ترجع إلى جواري وداري لأنها تحب جوهرها وتطمئن إليها وهي الأرض، وتنسيك الآخرة فرحمتك يا آدم وزوّدتك بهذه الجنّة، فإنها في الجنّة، لتكون داعية لك إلى جوهرها؛ وهي الجنة، كما أن جوهره الترابي يدعوك إليها وهي الأرض فخذ هذه يا آدم واغرسها فغرسها فلما نبتت واستغلظت وأخرجت شطأها فازدهرت واستوت على ساقها، أعجب آدم عليه السلام نباتها وكانت إذا طلعت الشمس طلعت عليها وإذا غربت عنها فأينعت وازدهرت وأورقت واخضرت وتسنبلت وأثمرت وأخرجت على كل ورقة منها سمة منقوشة بالسورية لا إله إلاَّ الله، فلما نظر إليها آدم عليه السلام أعجب بها، وقال ليتني أعرف اسمها، فقيل له: يا آدم هذه شجرة الزيتون، وهي من شجرة طوبى، قال: يا ربّ ولِمَ سميتها شجرة الزيتون وهي من شجرة طوبى، قال: لأني زودتك بها يوم تبت عليك فالزاي زاي الزاد، والياء ياء اليوم، والتاء تاء التوبة، قال: يا رب فما الواو الذي فيها؛ قال: تلك علامة السمة التي وسمت بها أمها وهي طوبى فأخرجت هذه تلك السمة، قال: وما سمتها، قال: سمة طوبى أني أنا الله، وسمة هذه هذا المنقوش على أوراقها وهي لا إله إلا الله، قال: فما هذا النون في عقبها؟ قال: ذلك علامة النور الذي وضع فيها، فإن فيها نوراً نضيء منه، وهو الذي قال: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) . رجعنا إلى ما كنا فيه فشبه دهن شجرة القلب: وهي المعرفة؛ بدهن شجرة الزيتون التي؛ لا شرقية ولا غربية، وهي التي غرسها آدم عليه السلام يومئذ، يقول: فكما أن الزيتونة إذا كانت بتلك الحال تكون أجود لثمرها وأحسن، كذلك يكون ثمر شجرة المعرفة، أحسن وأجود إذا كانت لا شرقية ولا غربية، فشمس الزيتونة شمسنا هذه وشمس شجرة المعرفة نظر الله الجميل إليها كل يوم بكرة وأصيلا، وليس فيما بينه وبينها شيء يمنعه عن النظر إليها، وذلك أنه إذا كان بين نظره وبين الشجرة هوية أو ذنب أو شيء لم يقع النظر على الشجرة، وبين الشمس وبينه حائط أو ستر لم تقع عليهما الشمس، وبقيت تحت ظل الحائط فسقمت وذبلت وتناثرت أوراقها واصفرت وتغيرت عن حالها، وما أخرجت من الثمار أخرجته نكدا لا بذاقة لها، وخبّ عليها اليبس؛ ولذلك قيل أن الزيتون لا يستقر في بطن المنافق حتى يقيء ولا يطيق أكله إلاَّ كل مؤمن طيب؛ لأنه من طوبى، وطوبى من الجنة ولا يستقر ثمر الجنة في بطن المنافق. أما تفسير شجرة طوبى التي الزيتونة منها وتفسير سمتها والبركة التي فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فإن الله تبارك اسمه لمَا أراد أن يغرس شجرة طوبى خلق جوهره ثم سقها فاستخرج منها حبّ ثم شقها فحشاها بالبرد والبركة والبهاء وطواها في لباس الرحمة ووسمها بسمته إني أنا الله لا إله إلاَّ أنا، ثم هيا لها مغرسا في متوسط الجنان وميدانها ومجالسها فنثر المسك والورس وأخذها بيده يوم الأحد فغرسها فيها، فنبتت من ساعتها، وأخرجت شظاها، وأورقت واسودت على ساقها، واخضرت وازدهرت وأعينت واغصوصنت مائة غصن عدد درجات الجنة في كل درجة منها غصن من ياقوته حمراء، وأصله من جوهرة صفراء، وأوراقها من زمردة خضراء، وثمارها على صفاء اللؤلؤ، وبياضها أطيب من المسك وأحلى من العسل تؤتي أكلها كل ساعة ما شاء الله حللا وطيبا وثمارا وجواري وغلمانا، منقوش على كل ورقة منها كلام بالعربية إني أنا الله لا إله إِلاَّ أنا رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يؤمنون بي ويصدقون محمدا خاتم الأنبياء فلما نظر الجليل إليها رضى بها، وباهى بها على الأشجار والثمار، وقال رحمتي عليك ونظري إليك إني أنا الذي خلقتك، إني أنا الذي ربيتك: إني أنا طويتك في لباس الرحمة، إني أنا الذي وسمتك سمتي التي عليك، إني أنا الذي باركت عليك وحشوتك بالبر والبهاء والبركة، إني أنا الذي غرستك بيدي فأنت غرسة يدي ومختارة خلقي من بين الأشجار قد شققت لك اسماً من صنعي بك، بما حشوت فيك؛ فأنت طوبى يا طوبى، قال: فالطاء طاء الطي حيث طويتك من الرحمة، والواو واو السمة حيث وسمتك بسمتي، والباء باء البر والبركة والبهاء التي حشوتك بها، والياء ياء اليد أي بيدي غرستك، فكل حرف من اسمك دليل على صنعي بك، وعلى ما ما حشوتك به من نظري لك، وطيّ لك بالرحمة، وحشوي لك بالبر والبركة وغرسي لك بيدي، فيا طوبى لمن نالك، ويا طوبى لمن نظر إليك واستظل بك، أضنّ بك على خلقي؛ إلا على من يقرّ بي على إقرار توحيدي، إني أنا الله لا إله إلا نا، وقد قيل، إن الأشجار ثلاثة: شجرة الزيتونة في الأرض، وشجرة طوبى في الجنة، وشجرة المعرفة في قلوب المؤمنين، فكل حرف من هذه الأسماء يدل على نفسها وصنع الله لها، فشجرة الزيتونة اسمها الزيتونة وهي كما ذكرنا، وشجرة طوبى اسمها طوبى كما ذكرنا، وشجرة المعرفة اسمها الطيبة كما قال تعالى (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) فالتي في الجنة طوبى، والتي في قلوب العباد طيبة؛ فتلك أربعة حروف، وهذه أربعة أحرف، ألا أن فيها واواً زائدة، وفي هذه هاء زائدة، وهناك الباء قبل الياء، وهنا الياء قبل الباء، وهذا تدبير وتقدير من العزيز العليم، فهمه من فهمه، وجهله من جهله، وسنذكر منه ما يستدل أولو العقل من الناس. أما الطاعة فطاء الطاعة، وأما الياء فياء اليد، وأما الباء فباء البيعة، وأما الهاء فهاء هو فإذا جمعت بين حروفها دل على أن الخلق بها أطاعوا ربهم، وليد الله بايعوا وبها أطاعوا، وبها بايعوه، وذلك أن الله تعالى لما أراد أن يأخذ عليهم الميثاق ويشهدهم على أنفسهم، ويبايعهم على أنهم لا يطيقون أن يبايعوا يده حجراً أخرجه من الجنة فبايعوه به فسماها الله شجرة طيبة لذلك، ومن ذلك قيل الحجر يمين الله في الأرض. تفسير قوله عز وجل: ألم قد تكلم الناس في ذلك حتى أكثروا، وحتى ذكرنا بعض ذلك في صدر كتابنا هذا ولكن في الجملة نذكر منه ما يحتمله قلوب الخلق ويكون لأنابهم مساغاً، أن حشو الألف الوحدانية والربوبية والفردية والألوهية وأسمائه وصفاته الذاتية فجميع ما يخرج من هذا النوع إنما يخرج من الألف وهو الله، وحشو اللام اللطيف والبر والإحسان والعفو والرحمة والصفح وما يشبهها يخرج من اللام وهو اللطيف، وحشو الميم الملك والقدرة والجبروت والسلطان والقهر والعذاب وما يشبهها يخرج من الميم وهو الملك وفي بيان ما قلنا شفاء لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وعمى لمن جعل الله صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء. تفسير قوله: (اهدنا السراط المستقيم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فإن السراط المستقيم هو الإسلام، وقد هدى وأعطى، أليس بمحال أن يستهدوا الإسلام وهم مسلمون، قال: هذا ليس على ما ذهب إليه الناس، أن الهدى هدى الإسلام، وأن السراط المستقيم الإسلام، ولكن هذا من هداية الطريق لأن القوم خافوا على أنفسهم من الأهواء المضلة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، "أن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة وهي الجماعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فنظر أولو العقول من الناس، فقالوا إن هذه الفرق التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهرت وكل تدعي على أنها هي الجماعة، وكل على ما هو عليه فخرج مستبشر، كما قال الله تعالى في كتابه: (كل حزب بما لديهم فرحون) ، قال: معجوبون وكل فرقة قد سمّت صاحبتها باسم من أسماء ألاّ هو المضلة المروية المنسوبة إلى النار، فتاه أولو العقول في ذلك، وخافوا على أنفسهم أنهم في بعض منها، وأنهم لا يعلمون فجاروا إلى الله متضرعين خائفين فقالوا: (إياك نعبد وإياك نستعين) ، يا ربنا على عبادتك اهدنا نقول عرفنا يا رب طريقك المرضيّ ومنهاجك الواضح من بين هذه الطرق والسبل فإنهم يدعوننا إليه، ونحن لا نعرف أهي طريقتك أم لا، الصراط تقول الطريق المستقيم الذي ترضاه لنفسك وميزته بحكمتك من بينها؛ صراط الذين أنعمت عليهم وهم أهل الصلاح والأولياء، غير المغضوب عليهم، غير طرق اليهود، ولا الضالين، ولا طرق النصارى، وهي الأهواء، الاثنان والسبعون، فإنها قد فشت في هذه الأمة فلو أن واحداً منها أخذ بواحدة منها أخذ بشعبة من تلك الأهواء النصرانية، فقولوا: اهدنا، يقول: عرفنا على ليس ما ذهب إليه الناس من الهدى، فإن الله قد هداهم ومحال أن يسأل الشيء الذي قد أعطى وذلك في اللغة جارية أن يقال أتهدي منزل فلان أي أتعرف، ومثال ذلك في الدنيا لو أن رجلاً حباه الله ببدرة من دنانير من غير سؤال، ولا تعرض فنسي الرجل البدرة وتقدم إليه يسأله بدرة من دنانير، فما ظنك به أليس يهان ويطرد، ويقال أليس قد أعطيناك أمس ما تسأل اليوم فأنت كفور جهول فحرم العطية ويغلق دونه باب الملك فلو كان هذا لاستنكر بملوك الدنيا ويقبح عندهم إذن لهو أقبح عند الجليل الجميل، ومثال الكلام الأول أن القوم خافوا على أنفسهم اشتباه الطريق عليهم فاستعرفوا الله المرضيّ من بينها كرجل دعاه الملك إليه على طريق يرضاه الملك أن يأتي إليه في ذلك الطريق ومن منزل الرجل إلى الملك مسافات وجبايات وطرق مختلفة على عدد الاثنين والسبعين فرقة، وعلى طريق منها دال يدله على الطريق ويزعم أن الطريق المستقيم الذي يرضاه الملك ويجب أن يؤتى إليه فيه هذا ويحتج ويبين ويريه العلائم والشواهد فينتبه الرجل ويقول، إن محبوب الملك من بين هذه الطرق طريق واحد، وإن كل واحد من هؤلاء يزعم أن الطريق الذي هو عليه هو المرضيّ المختار، وكل يدل بالحجج والشواهد فيتفكر الرجل في ذلك، ويقول لا أرى حيلة على وجود تحري مسيرة الملك في الإتيان إليه على سبيل يرضاه الملك ويختاره إلاَّ بكتاب من عندي إليه أستهديه محبوبه ومختاره من هذه الطرق وأستعرفه ليعرفني ويهديني إليه فإني قد تهت ولا أدري في أيها أسلك فاكتب إليه وأستعرفه، فقال: عرفني أيها الملك طريقك المستقيم لأسلك فيه إليك فقد اشتبه عليّ الطرق، فيقال له أي صراط تريد، فيقول صراط الذين أنعمت عليهم، مننت عليهم بأن عرفتهم طريق الرشد من طريق الغي بعد ما تاهوا فيه كما تهنا، فيقول لهم يعنون طريق اليهود ابتلاء واختباراً، فيقولون: غير طريق من غضبت عليهم وهم اليهود، فيقول أفطريق النصارى، فيقولون: ولا طريق الضالين وهم النصارى، وهم أصحاب الأهواء، فاستجاب لهم ربهم فقال (ولا يزالون مختلفين إلاَّ من رحم ربك ولذلك خلقهم) ، فقالوا: فأي سبيل سبيلك، فقال: قل يا محمد (هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) ، فقالوا أي سبيل هذه قال: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) ، قالوا على أي سبيل قال: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) ، قالوا: وما ذاك، قال: (وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبيل فتتفرق بكم عن سبيله) ، قالوا أي صراط هذا، قال: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) ، ولذلك قال: لداود عليه السلام، يا داود لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالأهواء فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع طريق عبادي المريدين إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة الإيمان من صدورهم، فبين الله سبيل مرضاته من بين تلك الأهواء والسبل لعباده المريدين والمتحرين لمرضاته طريق الرشد في أي من القرآن ويدلهم إلى الاقتداء بالأئمة الصالحين والتمسك بأخلاقهم وسبيلهم ما وافق كتاب ربهم فإن في موافقة الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الحلول على بساطة مرضاة الله والتناول من ولائم الله والشرب من كأس محبته. ول على بساطة مرضاة الله والتناول من ولائم الله والشرب من كأس محبته. باب تفسير لباس المعرفة ملك قد ملكه الله وأحله موضعاً من أشرف النفس وأضرفه وأعلاه وله لباس من الجمال ولباس من الجلال، ولباس من السلطان، ولباس من العظمة، ولباس من الهيبة، ولباس من الجود، ولباس من المجد، ولباس من الكرم، ولباس من الرحمة، ولباس من الرأفة، ولباس من العطف، ولباس من الشفقة، ولباس من الجبروت، ولباس من الملكوت وعليه تاج من الإلوهية قد سطع نوره إلى ذي العرش المجيد، وله شأن أغور من هذا ننبه أفهام العوام من عجائبه، فقد كتمناه خوفاً من ولوج الوسواس على أعين قلوبهم والفتتان بها لكنه علم جليل. باب تفسير حجبه وبين يديه حجب من العدل والحق والعظمة والهيبة والسلطان وحجب من النور وحجب من الرحمة وحجب من الكبرياء. باب صفة العقل وأما صفة العقل فإن الله تعالى خلق العقل من نور الهيبة وهو ثلاثة أحرف من الكتاب: عين وقاف ولام، فللعين خمسة معاني: من العزة والعظمة والعلو والعلم والعطاء، فهذا تفسير معنى العين، ولكل حرف منه جوهر فوضع من كل جوهر فيه، فقولك عين فيه العظمة والعزة والعلو والعلم والعطاء، وأما القاف فلها خمسة معاني فالقاف من القربة والقول والقرار والقوام والقدرة، فإن قلت: عق دخل فيه العين والقاف، ومعاني العين ومعاني القاف، وأما اللام من اللطف، واللطف من الرحمة، والرحمة من العطف، والعطف من الشفقة، والشفقة من الشوق، والشوق من الحب، والحب: حرفان؛ حاء وباء، فالحاء من الحياة والحياء والحلم والحكمة، فإذا قلت حاء دلل هذا الحاء على أن فيه الحياء والحياة والحلم والحكمة، وأما الباء فمن البر والبهاء، فبحاء الحياة أحيا جسده، وبحاء الحب أحيا قلبه حتى عرفه، وباء البرّ برّه بنعم الحياة، وبباء البهاء باهى به عند الملائكة فالعقل خلّق فيه ما وصفنا تخرج حروف خلقته هذه المعاني، ثم هو في صورته أحسن الخلق وأزينه، ثم في لباسه أحسن الألبسة وأشرفها، وحشاه بأنوار الوحدانية والفردية والكبرياء، وكساه بكساء من نور الجمال ونور البهاء ونور الجلال ونور الحسن ونور العظمة ونور الهيبة فلما فرغ من خلقه قال له: "أقبل فأقبل" ثم قال له "أدبر فأدبر"، ثم قال: "أقعد فقعد"، فقال: "بعزّتي ما خلقت خلقاً أحسن منك ولا أجمل منك ولا أشرف منك ولا أنبل منك خلقتك من نور وحشوتك بالنور وكسوتك بالنور وقربتك بالنور وأمدك بالنور وأسكنتك معدن النور فأنا النور ومعرفتي نور وكلامي نور وأنت من نور النور والبستك نور وحشوتك في النور وأسكنتك في النور فأنت نور على نور أهدي لنوري من أشاء من عبادي"، ثم قال له من أنا قال: أنت الله لا إله إلاَّ أنت، قال: فقال الربّ: بك أطاع وبك أشكر وبك أعطي ولك الثواب وعليك الحساب؛ حدثنا بذلك فهذه صفة العقل. باب صفة جنوده وأسماؤهم فالعلم، والحلم، واليقين، والحق، والنصر، والفطنة، والفهم، والوقار، والسكينة، والحياء، والصبر، والهدى، والرشد، والحفظ، والصيانة، والعفاف، والرزانة، والتقى، والورع، والفكرة، والتذكر، والعفو، والبر، والرحمة، والرقة، والرأفة، والعطف، واللين، والجود، والمجد، والعطاء، والكرم، والحمد، والذكر، والثناء، والشكر، والهيبة، والسلطان، والكبر، والعظمة، والفخر، والعز، والتواضع، والتضرع، والخشوع، والخضوع، والصدق، والصحة، والإخلاص، والنية، والعزم، والحزم، والوفاء، والعدل، والسلامة، والسداد، والإحسان، والشوق، والحكمة، والعبادة، والقناعة، والرضا، والحذر، والتدبر، والرأي، والتوكل، والتفويض، والتسليم، والظفر، والنصر، والنصح، واصفح، والغفران، والستر، والرعب، والرهبة، والرجاء، والخوف، والعظمة، والنوال، والمداراة، والصمت، والحب، والأمر، والنهي، والصلابة، والخلق، والسمت، والذهن، والإلهام، والمراقبة، والفنيَّ، والتوبة، والإنابة، والفرح، والسرور، والعبرة، والعظمة، والندامة، والذكاوة، والكياسة، والزهد، فهذه مائة نفس أفراس ورجال وأبطال وغيرهم وكل على أمر. باب بيان أمر الجنود وعماله وأمرائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فأما العلم والحلم فهما وزيرا العقل، واليقين قائد الجيش، والحق صاحب المظالم، والنصر الفتح، والفطنة الطليعة، والفهم صاحب النيات، والوقار والسكينة قائدان، والحياء صاحب السر، والصبر صاحب الاستدراج، والهدى والرشد الدليلان، والحفظ والصيانة صاحب الكنوز، والعفاف والرزانة والتقى والورع أصحاب الخزائن، والفكرة والتذكر صاحب المكر، والعفو والبرّ صاحب الصلح، والرحمة والرقة والمراقبة واللطف والعطف واللين والمداراة فإنهم أعوان القاضي، والجود والمجد والعطاء والكرم صاحب الأرزاق، والحمد والذكر والثناء والشكر أصحاب المدد، والهيبة والسلطان والكبر والعظمة والفخر والعز الأبطال المحاربون، والتواضع والخشوع والخضوع الرجالة، والصدق القاضي، والصحة والإخلاص والنية والعزم والحزم أصحاب المبارزة، والوفاء الأمين، والعدل السجان، والسلامة والسداد أصحاب الأعلام، والإحسان صاحب الرايات، والشوق صاحب اللواء، والحكمة الحاكم، والعبادة الخدم، والقناعة والرضا قيم الأمور، والحذر المدبر، والتدبير والرأي صاحب المشورة، والتوكل صاحب الحصن، والظفر صاحب النصر الرماة، والنصح والصفح الرسل، والرغبة والرهبة والرجاء والخوف الشاكر به، والمداراة والصمت أصحاب الرّصد، والحب البندار، والأمر والنهي العهد والميثاق، والصلابة الجلاد، والخلق والسمت وكيلان، والحدة صاحب الشرطة، والذهن أمير الجيش، والإلهام رسول الملك الأعلى، والمراقبة صاحب الأخبار، والفناء الطبال، والفرح والسرور والانبساط واللعب والعبرة الجاسوس، والفطنة المبادئ، والذكاوة والكياسة أصحاب الفاشيات والجنايب، والورع والزهد المحتسبان، والتوبة المقدمة، والندامة السباقة، فهذه صفة الجنود وأمورهم وإمارتهم وعالمهم وأفراسهم ورجالاتهم. باب صفة إبليس وصفة الهوى وصفة جنوده فأما صفة اللعين وصفة جنوده فإن له اثنا عشر وزيراً تحت يدي كل واحد منهم مائة ألف قائد ثم تحت يد كل منهم مائة ألف، حتى على رجل واحد من بني آدم، يبعث أكثر من ربيعة ومضرّ وكل قائد منهم على أمر وله أخلاق السوء مائة، وكما أن ملك المعرفة العقل، كذلك الهوي ملكه، فأما أسماء وزرائه الاثني عشر؛ فأولهم كرام بن الكريم، وهو صاحب مكارم الأخلاق في الجن والنهي عن مساوئها، والأمر بالعقل والأخذ به، والثاني هامة بن إبليس وهو صاحب كبائر الذنوب، والثالث شيعبان بن شوقيان وهو صاحب الأسواق يأمر بالتطفيف، والرابع الزوبع بن دامغ وهو صاحب السعايات والنميمة، والخامس أم زوبر وهي صاحبة الحروب التي تهيج بين الناس وتأمرهم بالقتال، والسادس شيطط بن لويط وهو الذي يأمر بالقرطب والقيادة والفجور، والسابع سوقب بن ذوهب وهو صاحب الرياء والطامات والخيانات، والثامن عذر بن خدع وهو صاحب المكر والخديعة والنكت وقلة الوفاء، والتاسع زولة بن جراض وهو صاحب الوسوسة والجنون وحديث النفس، والعاشر قسيط بن طيط وهو صاحب التخليط بين الناس وترك النصيحة والاستقامة، والحادي عشر قانط بن قوطل وهو الذي يأمر بكل شر بالبذاء والشتم والمناقرة، والثاني عشر عزاف بن حسود وهو صاحب الملاهي والمجالس التي يشرب فيها الخمور ويعتكف فيها بالفجور وله عمله وصناع سوى ذلك ممن اتخذوا المعازف والملاهي يفتنون بها الخلق ويلهونهم بها وكان بدو جميع الملاهي منهم. أسماء أصحاب الصنائع والعملة وأصحاب المعازف والملاهي؛ وهم أكرم الخلق على اللعين، أحدهم: أبو سملقة وهو أول من اعتصر العنب فخمره وشربه وتغنى، والهفاف، وهو أول من عزف، وذلك أنه أخذ حفنة فحلب ماء الكَرْم وشرب منه ثم وضعها تحت الكَرْم وغطى رأسها بورقة ثم عاد إليها بعد أيام فإذا لها هزير ورغوة سقاه أخاه شربات منه فسكر فعزف فسمي أخوه عزافاً وسمي هفافاً وكان اسمه قبل ذلك مشقصاً. ومرة بن الحرث أول من اتخذ البربط وذلك أنه أتى هفافاً يوماً فسقاه الهفاف من شرابه فطار فوقع في جزيرة من جزائر البحر فبقي فيها سنة يتفكر في أن يأتي بشيء يذكر به كما ذكر الهفاف بالعصير فإذا هو يوماً بطائر له صوت شجي حسن فسمع صوته فأعجبه تلونه فنحت عوداً وشد عليه خيوطاً من لحاء الشجر حتى صيره على صنعة العود فاتخذ عوداً ثم اتخذ من بعد ذلك أوتاراً من تغير اللحاء من أذناب خيل البرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ولوقس بن لاقس أول من اتخذ المزامير، وذلك أنه مر يوماً بالهفاف، ومرة وهما يشربان ويطربان فسمع صوتاً لم يسمع بمثله قط فدنا فشرب شراباً لم يشرب مثله قط فطار حتى وقع إلى أرض بابل فمكث سنة متفكراً لبدع حتى سمع ليلة صوت ذبابة فتناول قصبة فثقبها ثم نفخ فيها. وصهيب بن عازب وهو الذي اتخذ الصنج وذلك أنه وقع عند الهفاف فأحب أن يكون له شيء يذكر كما ذكر الهفاف وأصحابه فوقع في جزيرة في البحر فظل فيها دهراً ملتمساً بدعة حتى هاجت يوماً ريح عند الصيف ووقعت الريح في شجرة يابسة فصوتت فأعجبته فاتخذ صنجاً. وأبو شكيم وهو الذي ابتدع الطبل وذلك أنه غطى يوماً ذيله على باطية هفاف فجعل هفاف يضرب يده عليها فصوت فجعل مكان الذيل جلداً. باب أصحاب المنازل والحرف فمن أصحاب المنازل والحرف شيطان يقال له القمام بن القشب وهو ساكن المزابل ينضح البول على الثياب، وشيطان يقال له الزفوف بن الغارب وهو على المطبخ يشغل النساء لتحترق الأخبزة فيغضب الأزواج وعلى القدور يملحونها، والبرباض بن دخران وهو على الأموال والكنوز، والرائب بن لمس وهو صاحب الحمام، والضحاك بن المقطب وهو على الزقاق والسكك والمربعات يرشد السكارى إلى بيوتهم، والقطوف بن الحبر وهو على مجالس الغيان والعزف والمرق وهما شيطانا العربدة، والحشود بن اللطف وهو الذي يجمع بين الغلمان والنساء، والتحيت بن المفتحم وهو الذي على الأسواق وهو الذي على حوانيت الخمور. باب لما أراد الله أن يسكن الخلق الأرض خلق الجان من نار السموم وخلق زوبعة منه فغشيها فحملت إحدى وثلاثين بيضة فوضعت بيضة واحدة فتفلقت عن قطربة وهي أم القطارب فلما أطلعت رأسها قالت الجنة وهي زوجة الجان يا قطربة، قالت قطربة سميعاً دعوت، قالت الجنة احضني ولدي، قالت قطربة ما خلفت، فوضعت الجنة ثلاثين بيضة فحضنتها قطربة فتفلق منها عشر بيضات، فكان في البيضة الأولى الأبالسة منهم الحرث أبو مرة عدو آدم عليه السلام ونسله فسكنوا البحور، وتفلقت البيضة الثانية عن الوسواس فسكن الجزائر، وتفلقت البيضة الثالثة عن الغيلان فسكنوا الخرابة والفلوات، وتفلقت البيضة الرابعة عن السَّعالي فسكنوا الجبال والرمال، وتفلقت الخامسة عن الرهاوية فسكنوا الأدغال والآجام، وتفلقت السادسة عن الأراجيل فسكنوا العيون ومجامع الطرق، وتفلقت السابعة عن التهاويس فسكنوا الحمامات والمزابل والكنف، وتفلقت الثامنة عن الهوام فسكنوا الهواء وغيره، وتفلقت التاسعة عن الأرائي فسكنوا معارك الحروب والنواويس والقبور، وتفلقت العاشرة عن الدواجن فسكنوا الدور والقصور وخيام الأعراب، أما العشرون البواقي فإن قطربة حملتهن فطارت في الهواء حتى إذا كان بين مسقط عين الشمس ومطلع سهيل فلقت فسمت منهن خمساً، ثم قالت اعمروا وانتشروا واكثروا ومضت حتى إذا كان بين مطلع سهيل وبين مطلع قرن الشمس ففلقت وسمت منهن خمساً، وقالت لهنّ مثل ذلك ثم مضت حتى إذا كان بين مطلع قرن الشمس ومطلع بنات نعش فلقت فسمت خمساً وقالت لهن مثل ذلك ومضت حتى إذا كان بين مطلع بنات نعش وبين نعش فسمت خمساً، فقالت لهنّ مثل ذلك، ثم رجعت القطربة إلى الجنة فقالت ملأت البر والبحر ففلقت كل بيضة عن ألف توأم ذكر وأنثى، تحدثنا بذلك كله، فهذا كل عدو آدم وذريته فبث اللعين سراياه وشؤم أموره يدبر ويسوط حتى أنه ليبعث ألف سرية على رجل واحد من ولد آدم صلى الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وأما صفة اللعين فحدثنا أبو مقاتل عن صلح بن سعيد عن أبي سهل عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبليس عدو الله كان يلقى الأنبياء عليهم السلام ويتحدث إليهم من لدن نوح إلى عيسى ابن مريم عليهم السلام وما بين ذلك من الأنبياء"، غير أنه لم يكن لأحد أكثر زيارة ولا أشد استئناساً إلى يحيى بن زكريا عليه السلام وإنه دخل عليه ذات يوم فلما أراد الانصراف من عنده قال له يحيى عليه السلام: يا أبا مرة واسمه الحرث وكنيته أبو مرة وإنما سماه الله جل وعز إبليس لأنه أبلس من الخير كله يوم آدم عليه السلام فقال له يا أبا مرة إني سائلك حاجة فأحب أن لا تردني عنها، فقال له لك ذلك يا نبي الله، فسل فقال له يحيى بن زكريا عليه السلام إني أحب أن تحبني في صورتك وخلقك وتعرض عليَّ مصائدك التي بها تهلك الناس، فقال إبليس سألتني أمراً عظيماً ذقت به ذرعاً وتفاقم خطبه عندي ولكنك أعز عليَّ وآمن من أردك بمسألة ولا أجيبك بحاجة ولكني أحب أن تخلو لرؤيتي فلا يكون معك أحد غيرك فتواعد الغد عند ارتفاع النهار فصدر من عنده على ذلك فلما كان من الغد في تلك الساعة مثل بين يديه قائماً فنظر إلى أمر من أمر الله إذ هم ممسوخ منكوس مقبوح هائل كريه جسده على مثال أجساد الخنازير ووجهه على وجه القردة وشق عينيه طولاً وشق فاه طولاً حبال رأسه وأسنانه كلها عظم واحد لا ذقن له أصلاً ولا لحية وشعر رأسه مفلل مقلوب المنبت نحو السماء وله أربعة أيد يدان في منكبيه ويدان في جنبيه وأصابعه مما يليه من القدم خلفه وعراقيبه أمامه وأصابع يديه ستة وجسده أصغراً ومنخراً أنفه نحو السماء له خرطوم كخرطوم الطير ووجهه قبل القفا أعمش العينين أعوج معوج له جناح وإذا عليه قميص مقلص قد تمنطق فوقه فعل المجوس وإذا أكواز صغار وقد علقها من منطقة مقدمة، وحوالي قميصه خياعيل شبه الشرّي في ألوان شتى من بياض وسواد وحمرة وصفرة وخضرة وبيده جرس ضخم وعلى رأسه بيضة في قلبها حديدة مستطيلة معقفة الطرف فقال له يحيى عليه السلام أخبرني يا أبا مرة عما أسلك مما أرى، قال: يا نبي الله ما دخلت عليك على هذه الحالة إلا وأنا أحب أن أخبرك بكل شيء تسألني عنه ثم لا أعمي عليك، فقال: حدثني يا أبا مرة عن نطاقك هذا فوق القميص، قال: يا نبي الله نشبه بالمجوس أنا وضعت المجوسية وزينتها، قال: فاخبرني ما هذه الأكواز التي هي معلقة من منطقتك مقدمة، قال: يا نبي الله فيها شهواتي ومخاعيلي ومصائدي فأول ما أصيد به المؤمن من قبل النساء فإن هو اعتصم بطاعة الله أقبلت عليه من قبل جمع المال من الحرام طمعاً فيه وحرصاً عليه، فإن اعتصم بطاعة الله واجتنبني بالزهادة أقبلت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 من قبل الشراب المسكر حتى أكدر عليه هذه الشهوات كلها ولا بد من أن يواقع بعضها ولو كان من أزهد الناس قال فما هذه الخياعيل إلى طرف قميصك قال: يا نبي الله ألوان صباغ النساء وزينتهن فلا يزال أحدهن تلون ثيابها حتى تأتي على ما يليق بها فهناك أهش الرجال إلى ما عليها من الزينة، قال فما هذا الجرس بيدك، قال يا نبي الله هذا معدن الطرب وجماعات أصوات المعازف من بين بربط وطنبور ومزامير وطبول ودفوف ونوح وغناء، فأن القوم يجتمعون على محفل شرب وعندهم بعض ما ذكرت من المعازف فلا يكادون يتنغمون في مجلس ويستدلون ويطربون فإذا رأيت ذلك منهم حركت هذا الجرس فيختلط هذا الصوت بمعازفهم فهناك يزيد استلذاذهم وطربهم ورقصهم فمنهم من إذا سمع هذا فيقرع أصابه ومنهم من يهز رأسه قال يا نبي الله أحرز بها رأسي هذه البيضة من كل نكبة، قال وما النكبة قال اللعنة، قال فما هذه الحديدة التي في قلبها، قال: يا نبي الله هي التي أقلب بها قلوب الصالحين، قال: بقيت حاجة، قال: سل، قال: ما بال خلقك وصورتك على كل ما أرى من القبح والتقليب والأفكار، قال يا نبي الله هذا بسبب أبيك آدم عليه السلام إني كنت من المكرمين ممن لم أرفع رأسي من سجدة واحدة أربعمائة ألف سنة فعصيت ربي في أمر سجودي لآدم أبيك فغضب الله عليَّ فلعنني فحولت من صورة الملائكة إلى صورة الشياطين ولم يكن في الملائكة أحسن صورة مني فصرت ممسوخاً منكوساً مقلوباً مقبوحاً هائلاً كريهاً كما ترى، قال فهل أريت صورتك هذه أحداً قط ومصايبك بهذه الصورة، قال لا وعزة ربي إن هذا الشيء ما نظر إليه آدمي قط ولقد أكرمتك بهذه دون الناس كلهم، قال فتمم إكرامك إياي بمسألتين أسألك عنهما إحداهما عامة والأخرى خاصة، قال لك ذلك يا نبي الله: فسل، قال: حدثني أي الأشياء أرجى عندك وأدعمه لظهرك وأسلاه لكآبتك وأمره لعينك وأشد لركنك وأفرحه لقلبك، قال يا نبي الله إني أخاف أن يخبر أحداً فيحفظون ذلك فيعتصمون به فيضيع كيدي، قال يحيى صلى الله عليه وسلم "إن الله أنزل في الكتب شأنك وكيدك وبيّن لأنبيائه ولأوليائه فاحترزوا بما احترزوا، وأما الغاوون فأنت أولى بهم قد تلعب بهم كالصولجة بالكرة فحدث فليس قولك عندهم أدعى وأعز من قول الله، قال يا نبي الله إن أرجى الأشياء عندي وأدعمه لظهري وأسلاه لكآبتي وأسره لأذني وأشده لرغبتي وأفرحه لقلبي وأقره لعيني النساء فإنهن حبائلي ومصائدي وسهمي الذي به لا أخطئ بهن لو لم يكن هن ما أطلقت إضلال آدمي، هن قرآت عيني بهن أظفر في المهالك يا حبذا هن إذ اختممت بسبب النسالك والعباد والعلماء وغلبوني بعد ما أرسلت إليهم الجيوش فانهزموا وبعد ما ركنت فقهرت النساء طاب نفسي وسكن غضبي واطمأنت كظمي واستشف غيظي وسدت نفسي وقرت عيني واشتد أزري ولولا هن من نسل آدم لسجدت لهن فهن سيداتي وعلى عنقي سكناهن وعلى نهماتهن ما اشتهت امرأة من حبالتي حاجة إلا كانت أسعى لرأسي دون رجلي في إسعاف حاجاتها لأنهن رجائي وظهري وعصمتي ومنيتي وثقتي وعوني قال: ما نفعل وفرحك من ضلالة الآدمي بأي شيء سلطت عليه، قال: خلق الله الأفراح والأحزان والحلال والحرام وخيرني فيهما يوم آدم عليه السلام فأخذت الشهوات والحرام والفحش والمناكير وصارت تلك نهمتي وهوائي، خير آدم عليه السلام فاختار الأحزان والعبادة والحلال وصار ذلك له نهمة ومنية وذاك منيتي وتهمته وهذا هوائي ونهمتي وشهوتي فذاك شيؤه وماله ومدائحه وهذا شيئي ومتاعي وبضاعتي ومالي وشيء المرأة نفسه لأن فيه نهمته وشهوته ونهمة المرأة وشهوتها حياته فإذا سلبت الحياة هلك وكم ترى من خلق الله من سلب منه نهمته فمات وهلك كذلك إن لما أخذت ما اخترت صار ذلك شهواتي وهوائي وحياتي ومهما سلبت هلكت ومهما ظفرت به فرحت وحيت فإذا رأيت شهوتي وهواي وحياتي عند غيري قد سلبها مني اجتهد كل الجهد حتى أظفر بها ليكون بها قوامي فهذا الآدمي سلب حياتي وهي الشهوة والهوى فجعلها في كنه وحرزة وقد تهيأ ليقتلني ويحاربني فهل يدمن المحاربة ليصل المحق إلى حقه ويقهر الظالم فهذه حالتي وشأني وسبب فرحي إذا غلبته قال وما ظلمك حيث تقول يقهر الظالم قال لقد ظلمني إذا سلب هوائي جعله في كنه ولولا ظلمه كيف لا أطلع أنا في خزنة وحلالي كما طمع هو في حزامي وهواي قال ليس بمحال أن تقول أنا أريد استرداد هواي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 منهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وتفرح أن هو استعملها وتحزن إن لم يستعمل هواك في شؤونه قال إذا استعمل هواي لست أحزن لكني أفرح لأنه قد أعطاني نهمتي لأن نهمتي الفرح إنما أحزن لأنه قد جبل علي لكني أريد استعماله فإذا استعمله أعطاني منيتي وفرحي لأن الشهوة منيتي ومختاري وحياتي فهو نفسي فإذا استعمل منيتي أحياني وفرحني لأن استعماله على جهته فإذ لم يستعمله فهو كنه كالمسجون فإذا كان هو في كنه مسجوناً مقيداً وهو حياتي كنت كأني مسجون المقيد فصرت هزيماً لأنه أبدلني بمكان شيء شياه أي بمكان حياتي الموت فلا بدا لي من أن أحتال بكل حيلة وأريده بكل خدعة وأهيئ وأزين الآلة والأدوات وأخرج الملاهي وأدواتها وأحريها وأحركها وأحولها لعله يرى ذلك فيطرب ويذكر وينشط ويغتر ويقبح ويستعمل الهوى الذي فيه هو حياتي وشهوتي فأحيا وأبهج حين يجد هو السبيل إلى التحرك والخلاص من السجن وهذا ما لم أذكره لأحد قط منذ خلقت ولولا ما أرى لك من الفضل والكرامة ما أخبرتك بهذا كله قال هذا الذي وصف إبليس هنا يصدق بجميع ما قلنا من شأن الهوى بالنفس قال يحيى صلوات الله عليه والمسألة الخاصة التي سألتك، قال: نعم سل، قال: هل أصبت مني فرصتك قط في لحظة من بصر أو لفظة بلسان أو بقلب أو هم، قال اللهم لا إلا أنه كان يعجبني منك خصلة لكبر ذلك عنك فوقع عندي موقعاً شريفاً فتغير لون يحيى عليه السلام من قوله وتلبد وتقاصرت إليه نفسه وارتعد وارتعدت فرائصه وغشي عليه، قال: ما ذلك يا أبا مرة، قال: أنت رجل أكول وكنت أحياناً تكثر الطعام فتشبع منه ويعتريك الوهن والنوم والثقل والكسل والنعاس فكنت تنام عن حزبك أحياناً من الأوقات التي كنت تقوم فيها بالليل فكان هذا يعجبني منك، وقال بهذا كنت تجد علي فرصة قال نعم، قال: أما أشد لفرحك وما أشد لحزنك، قال: ذكرتك فلم تحفظ ولكن أحمل إليك جميع ما يكره الله فهو مختاري وجميع ما يحب الله منبوذي فإذا رفع الإنسان منبوذي لم أتمالك حتى احتال بكل حيلة وحتى أنبذه فأزين له مختالي حتى يرفعه لأن حياتي في الستعماله ومختاري ومماتي وهلاكي وذلي وضعفي في استعماله مرفوضي وممبوذي وهو الحلال الطيب من الأشياء والأحزان ومختاري الحرام والخبيث من الأشياء والأفراح بما قد حضر الله عليه، قال إبليس حسبك يا يحيى فرحاً بما أظهر ليحيى كأنه قد وجد عليه فرصة، فقال يحيى عليه السلام لم تجد علي فرصة في عمري إلا الذي ذكرت لي، قال اللهم لا إلاّ ذاكراً، قال يحيى عليه السلام عاهدت الله نذراً واجباً علي أن أخرج من الدنيا ولا أشبع من الطعام قال فغضب إبليس وحزن على ما أخبره فاحترز يحيى صلوات الله عليه واعتصم وقال خدعتني يا ابن آدم، وأنا أعاهد الله ربي نذراً واجباً علي إلاَّ أنصح آدمياً أبداً ولقد غلبتني يا ابن آدم وكسرت ظهري بما خدعتني حتى سلبت آلتي فخرج من عنده غضبان متذمراً، فهذه صفة إبليس وبدو أمره وقصته ومصائده وتفسير هواه وحياته. تفرح أن هو استعملها وتحزن إن لم يستعمل هواك في شؤونه قال إذا استعمل هواي لست أحزن لكني أفرح لأنه قد أعطاني نهمتي لأن نهمتي الفرح إنما أحزن لأنه قد جبل علي لكني أريد استعماله فإذا استعمله أعطاني منيتي وفرحي لأن الشهوة منيتي ومختاري وحياتي فهو نفسي فإذا استعمل منيتي أحياني وفرحني لأن استعماله على جهته فإذ لم يستعمله فهو كنه كالمسجون فإذا كان هو في كنه مسجوناً مقيداً وهو حياتي كنت كأني مسجون المقيد فصرت هزيماً لأنه أبدلني بمكان شيء شياه أي بمكان حياتي الموت فلا بدا لي من أن أحتال بكل حيلة وأريده بكل خدعة وأهيئ وأزين الآلة والأدوات وأخرج الملاهي وأدواتها وأحريها وأحركها وأحولها لعله يرى ذلك فيطرب ويذكر وينشط ويغتر ويقبح ويستعمل الهوى الذي فيه هو حياتي وشهوتي فأحيا وأبهج حين يجد هو السبيل إلى التحرك والخلاص من السجن وهذا ما لم أذكره لأحد قط منذ خلقت ولولا ما أرى لك من الفضل والكرامة ما أخبرتك بهذا كله قال هذا الذي وصف إبليس هنا يصدق بجميع ما قلنا من شأن الهوى بالنفس قال يحيى صلوات الله عليه والمسألة الخاصة التي سألتك، قال: نعم سل، قال: هل أصبت مني فرصتك قط في لحظة من بصر أو لفظة بلسان أو بقلب أو هم، قال اللهم لا إلا أنه كان يعجبني منك خصلة لكبر ذلك عنك فوقع عندي موقعاً شريفاً فتغير لون يحيى عليه السلام من قوله وتلبد وتقاصرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 إليه نفسه وارتعد وارتعدت فرائصه وغشي عليه، قال: ما ذلك يا أبا مرة، قال: أنت رجل أكول وكنت أحياناً تكثر الطعام فتشبع منه ويعتريك الوهن والنوم والثقل والكسل والنعاس فكنت تنام عن حزبك أحياناً من الأوقات التي كنت تقوم فيها بالليل فكان هذا يعجبني منك، وقال بهذا كنت تجد علي فرصة قال نعم، قال: أما أشد لفرحك وما أشد لحزنك، قال: ذكرتك فلم تحفظ ولكن أحمل إليك جميع ما يكره الله فهو مختاري وجميع ما يحب الله منبوذي فإذا رفع الإنسان منبوذي لم أتمالك حتى احتال بكل حيلة وحتى أنبذه فأزين له مختالي حتى يرفعه لأن حياتي في الستعماله ومختاري ومماتي وهلاكي وذلي وضعفي في استعماله مرفوضي وممبوذي وهو الحلال الطيب من الأشياء والأحزان ومختاري الحرام والخبيث من الأشياء والأفراح بما قد حضر الله عليه، قال إبليس حسبك يا يحيى فرحاً بما أظهر ليحيى كأنه قد وجد عليه فرصة، فقال يحيى عليه السلام لم تجد علي فرصة في عمري إلا الذي ذكرت لي، قال اللهم لا إلاّ ذاكراً، قال يحيى عليه السلام عاهدت الله نذراً واجباً علي أن أخرج من الدنيا ولا أشبع من الطعام قال فغضب إبليس وحزن على ما أخبره فاحترز يحيى صلوات الله عليه واعتصم وقال خدعتني يا ابن آدم، وأنا أعاهد الله ربي نذراً واجباً علي إلاَّ أنصح آدمياً أبداً ولقد غلبتني يا ابن آدم وكسرت ظهري بما خدعتني حتى سلبت آلتي فخرج من عنده غضبان متذمراً، فهذه صفة إبليس وبدو أمره وقصته ومصائده وتفسير هواه وحياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وأما أسماء المائة الخلق التي سأل إبليس ربه وجعلها جنوده كما أعطى آدم صلوات الله عليه: فلما أعطي ىدم صلوات الله عليه المائة خلق وقيل له هذا جند من جنود الله استعملها على عدوك إبليس فسأل إبليس ربه أن يعطيه أضدادها كي يحاربه بها فأعطاه إياها فجعل الهوى ملكاً وجعل ما أعطي تابعاً له وأعواناً وجنوداً كما جعل العقل ما أعطي جنوداً وأعواناً وهي الكفر، والجهل، والكبر، والحسد، والحقد، والكر، والخداع، والغش، والغل، والخيانة، والعداوة، والكذب، والزور، والبهتان، والبخل، والشر، والنميمة، والغيبة، والغضب، والجبن، والمداهنة، والرياء، والسمعة، والشك، والشرك، والميل، والبدعة، والضلالة، والغي، والخلابة، والغرور، والجور، والظلم، والبغي، والحمق، وقلة المبالاة، والخفة، والطيش، واللعب، والعبث، واللهو، والسهو، والغفلة، والسرور بالدنيا، والفرح بالدنيا، والعجلة، والفظاظة، والغلظة، والخشونة، والعنف، والأنفة، والاستكبار، والفخر بالدنيا، والخيلاء، والتجبر، والحيرة، والكسل، والثقل، والعجز، والتأخير، والملالة، والخطأ، والنسيان، والشهوة، والوهم، والنهمة، والسبة، والأمل، والباطل، والغل، والتيه، والسفه، والضحك، والحمق، والجزع، والكفران، وطلب العفو، وحب الدنيا، والإسراف، ومحمدة الناس، والمدحة، والشبهة، والحرام، والزينة، والحرص، والفحش، والقساوة، والشره، والأشر، والبطر والقنوط، والسماجة، والبذخ، والتخيل، والمرح، والتمني، والتجبر، والنخوة، والتجسس، والغبن، والريبة، والشكاية، والحلف، والصلف، فهذه الجنود التي أعطي وهي مائة خلق من أخلاق الهوى التابع له وهي أعوان أخلاق آدم فعدو العلم الجهل، وعدو العلم الحرق، وعدو العقل البغي، وعدو العمل الكسل، وعدو اللين الخشونة، وعدو التأني العجلة، وعدو اليقين الشك، وعدو الورع الفجور، وعدو الشكر الكفران، وعدو الصدق الكذب، وعدو الصبر الجزع، وعدو الرفق العنف، وعدو الصواب الخطأ، وعدو الذكر النسيان، ثم على هذه الصفة إلى آخره، فمتى استعمل الآدمي خلقاً من تلك الأخلاق أبرز الهوى خلقاً من أخلاقه ليحاربه لعله يقهره فهذه صفة الأخلاق وبيانها. رجعنا إلى ما كنا فيه من شأن القلب والنفس والصدر ومعسكرهما فللقلب سبع مدائن بعضها في بعض بحيطانها وأبوابها وستورها والملك في أقصاها وهو اللباب بجنوده والصدر مدينة عظيمة حولها ممر فيه المدائن والمجالس والعسكر والمعاون، والعقل معدنه في الدماغ ومسكنه في الصدر بجنوده وحشمه وهو والي الملك أعني المعرفة. والنفس مدينتان عظيمتان؛ إحداهما في الأخرى، إحداهما باطنة، والأخرى ظاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أما الباطنة فدار حرب والأخرى تابعة لمن غلب وتسلط واستولى، فيها صاحب مأوى وهو الخناس وطليعته مبحث الأخبار وهو الجاسوس أعني الوسواس وهلاك الآدمي منهما ومنه قول الله تعالى: (من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) ، كما وصفنا هذا كله بدياً في موضعه؛ والجوارح قرى حولها وعلى كل واحد منهما عامل فإذا كان العدو مغلوباً مقهوراً والهوى مسجوناً كان الملك وهو المعرفة في سلطان جاري وملك وهيبة وكمال وأمر نافذ مطاع مشكور وعز وشرف منوراً قد سطع نور الجلال من لدنه إلى أقصى المدينة وقراها وكانت المدينة بما فيها جنة طربة أعي القلب وكانت المدائن حوله ساكنة مطمئنة قد انجلى عنها غيم الهوى وغمام الضلالة ودخان الشهوة والعامل في عز وشرف وبهاء ورفعة منوراً قد سطع نور الرعية والطاعة ونور الفرح منه إلى أقصى المدائن وقراها وكانت القرى مطمئنة ساكنة وكان العمال بها مطيعة والرعية في راحة ومال والخناس مقهور والوسواس منحجز والهوى مسجون، واللعين مدحور محسور، وإذا غلب عليها العدو وأخذها عنوة وأمّر عليها أميراً ودخل الجنود مع أميره وحشمه بظلمته ودنسه وشهواته وملاهيه وأباطيله وخدعه وأدناسه ونتنه ودخانه وغيمه قويت النفس وهي الهوى وحييت وتخلصت من السجن والقيد وعسكرت واستعمل عليها عاملاً وعلى القرى عمالاً وثبت ملكه إلى أن يأخذ مسكن العقل وموضع قضائه فيحمل عليه العقل بجنوده وتنصب الحرب بينهما فيثور من بينهما عجاجة سوداء ودخان مظلم من نتن الهوى وظلمته فيظلم على العقل ومسكنه وهو الصدر فيصير الملك ومن معه من الجنود في حجب من ظلماتها ودخانها، فأما أن كان الغلبة له عليها وأما غلبة لها فإذا كان الغلبة لها عليه انهزم العقل بجنوده من شدة الظلمة ونتنها ودخانها وضعف وذل وأخلّ بمركزه ولجأ إلى ملكه وهو المعرفة بجنوده مستغيثا فزعا وتركوا الميادين والمراكز وهو الصدر ووثب رجالة العدو وفرسانه مع الصدر وأخذوه ونزلوا به وكان الأمر أمر العدو والسلطانسلطانه نافذ أمره مطاع مشكور والمدائن ساكنة مطيعة والقرى محمودة مرضية والرعية مطواعة والعمال في منعة والعدو فرح واللعين مستبشر مباه وكان الملك وملك الملك وهو العقل والمعرفة وجنودهما وحشمهما محجوبين مسجونين مقهورين مذلين لا يجاوز أمرهما وسلطانهما ربض المدينة وهو القلب فيجزع الملك من ذلك ويحزن ويستوحش فينقبض وينزوي فيتجلى من القلب من نوره على قدر الانقباض والانزواء فيصير ذلك الموضع من القلب خاليا من النور وكلما كان سلطان العدو أجرأ وأمره أنفذ كان الصدر أظلم، وكلما كان الصدر أظلم كان الملك أحزن وأوحش وكلما كان الملك أوحش كان انقباضه وانزواؤه أشد وكلما كان انقباضه أشد كان سلطان نوره أضعف كان القلب أحزن وكان من نوره أخلى وذلك أنه لا يصل النور إلى حوالي القلب وزوايا نوره لانقباضه وضعف نوره لوحشته ألا ترى إلى المصباح في بيت واسع كلما كان سلطان السراج أشد كان ضوء البيت أضوأ وأنور وأسطع حتى يجاوز الزوايا وينفذ المشاكي، وكلما كان سلطانه أضعف كان الضوء منه أضعف لا أنه ينقبض منه ولكن قد ضعف الضوء فليس له سلطان يسطع لوحشته وظلمة دخانه على الصدور وعلى باب القلب فإذا طال ذلك عليه وهو محبوس ومسجون محجوب قد حجبته غيوم جنود العدو ودخانها منطوي سلطان نوره مرضت المدينة أي القلب وذلك أنها صارت كسية مقحوطة قد منعت عنها الماء فيبست أشجارها وتغيرت ألوانها فلم يزل عليلاً مريضاً حتى يموت ومن ذلك قول الله عز وجل: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يسكبون) ، قال الذنب على الذنب حتى يموت القلب وذلك أن العدو إذا كان مسلطاً على المدائن كان الأمر أمره وكانت الرعية مطيعة وكلما أمر أمراً أطيع فذلك كسبت ورين على القلب أي انطوى نور من الملك على القلب وانقبض فإذا بطل الانقباض منع الماء فإذا منع الماء عن المدينة وظهرت في ألوانها وأشجارها الشدة واليبوسة حتى إذا طال ذلك وكثر مات القلب أي هلكت المدينة ويبست أشجارها أصلاً وذلك أن الروح حياة النفس والنور حياة القلب فإذا ضعف الروح ضعف البدن ألا ترى إلى الإنسان إذا نام أو مرض أو غشي عليه لا يمكنه التحرك ولا القيام، والروح فيه لم تنقض منه وكذلك القلب إذا انطوى سلطان النور وانقبض ضعف القلب ويبس حتى يموت وكذلك الشجر إذا منعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 عنهاا الماء مرضت حتى تيبس فالنور للقلب كالماء للأرض وكالروح للجسد ومنه سمي يحيى عليه السلام لأنه لم يعص ولم يهم بمعصية وذلك أنه لم يعمل عملاً يُظلم عليه ويحجبه فاستوحش منه المعرفة فتنقبض فينطوي نورها ويمتنع فيتخلى عن القلب قدره من النور فيبس ذلك الموضع منه ومنه قوله تعالى: (لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين) أي من قلبه حي كله بنور المعرفة لينطوي عليه ليس من يحجب نوره أو يظلم عليه "فإذا طال ذلك" فيتخلى عن القلب قدره من النور. لماء مرضت حتى تيبس فالنور للقلب كالماء للأرض وكالروح للجسد ومنه سمي يحيى عليه السلام لأنه لم يعص ولم يهم بمعصية وذلك أنه لم يعمل عملاً يُظلم عليه ويحجبه فاستوحش منه المعرفة فتنقبض فينطوي نورها ويمتنع فيتخلى عن القلب قدره من النور فيبس ذلك الموضع منه ومنه قوله تعالى: (لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين) أي من قلبه حي كله بنور المعرفة لينطوي عليه ليس من يحجب نوره أو يظلم عليه "فإذا طال ذلك" فيتخلى عن القلب قدره من النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 رجعنا إلى ما كنا فيه فإذا طال ذلك على الملك شكى إلى الله طول ما يلقى فأما أن يؤيده حتى ينهزم العدو ويستولي على أنصاره ويقهر جنوده وأما أن يغضب فيلعن فإذا غضب فلا بد من إحدى أربع: أما أن يسلب المعرفة ويقفل على قلبه، وأما أن يطبع عليه، وأما أن يجعله على خلاف، وأما أن يختم عليه ومن ذلك قوله تعالى: (أم على قلوبهم أقفالها) ، وقوله: (فطبع على قلوبهم) ، وقوله: (وقالوا قلوبنا غلف) ، وقوله: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) وأشدها الختم فإذا سلب المعرفة، كما أن البدن قالب الروح، فالبدن ناطق سامع بصير فإذا خرج الروح صم عمي وبكم، والقلب إذا خلا عن المعرفة عمي وصم وبكم، ومن ذلك قوله: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) وللقلوب موتان: موت خروج النور، وموت ضعف سلطان النور، والمعرفة كما ذكرنا، فنعوذ بالله من الخذلان ونسأل الله أن ينصرنا على عدونا نصراً عزيزاً ويجعله ذليلاً مقهوراً كما هو محسور مدحور ويجعلنا أن نتخذه عدواً كما هو عدو وأن نتعظ وأن نتذكر بما وعظنا ربنا وحذرنا في تنزيله فقال: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً) ، وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء يلقون إليهم بالمودة) ، وقال: (لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني) ، وقال: (لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) ، وقال: (الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) ، وقال: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والمنكر والله يعدكم مغفرة منه) ، فنسأل الله أن يجعلنا من أهل المغفرة وعدته إنه ملك كريم وإله عظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله عز وجل: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً) ، فالبلد النفس المطمئنة يريد الذي غلب عليها ماء الرحمة والملك بأعوانه فاستولاها، وقهر العدو والنبات الثمرات وهي الأعمال الصالحة وقوله عز وجل: (والذي خبث لا يخرج إلا نكداً) فالذي خبث ما غلبها السبخة والعدو فاستولاها لا يخرج ثمراتها أي أعمالها إلا نكداً فالقلب مستقر ماء الرحمة ومعدن النور العطف والمعرفة والنفس أرض منبتة منها ذات سباخ فيه الجوارح والأشجار وما يخرج من الجوارح من العمال الحسنة الثمرات فمتى ما كانت السبخة فيها ذائبة فيها متلاشية كانت أنهارها تجري بمياهها من المستقر إلى أشجارها ومن المستقر إلى المدينة وهي النفس سبعة أنهار على كل نهر أنهار شتى من بين صغير وكبير، قيل له: ما السباخ التي ذكرت؟ قال: نصفه في موضعه إن شاء الله، فإذا كانت أنهارها جارية صافية كانت المدينة ساكنة طيبة مطمئنة والملك عليها أميراً فرحاً مستبشرة وأشجارها غضة طربة مونقة مزدهرة تؤتي أكلها كل حين بأمر ربها والأكل والثمرات وإذا ظهرت السباخ في أنهارها وغلبت عليها غلبت الماء وامتزجت به فإذا لم يجر الماء في أنهارها وانتشفت أشجارها تغيرت ألوانه وانقبضت وانزوت أوراقها واصفرت وتناثرت وسلبت منها الطراوة والغضاضة ولم تخرج ثمراتها إلا في كد وشدة وما أخرجت أخرجت من بين مر وحامض وحلو لغلبة السباخ عليها وامتزاجها بمياه الرحمة فذا دام ذلك وطال تكدرت المياه كلها وغارت وتلاشت وذاب سقياها من ذلك الشرب فسدت عروقها وغضت ويبست أشجارها أصلاً فلم تثمر ولم تخرج ولم تتورق فحينئذ يغضب الجليل فحظر عليها الماء وسد أفواه أنهار القلب فلم يدع أن يجري إلى المدينة ولا أن يمده فخربت المدينة بما فيها وماتت ثم سلب ماء الرحمة من القلب وقسا فمات فحزن القلب وخربت النفس ويبست الأشجار وصار كما قال تعالى: (وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن موضعه) ، وقال: فإذا مات القلب وماتت النفس ويبست الأشجار أثمرت الشوك وهو الكفر والشرك وذلك أن السبخة هي أصل النفس وجوهرها وخلقتها وهي الهوى "والهوام والكفر" وذلك أنه من الهاوية فإذا نزع ماء الرحمة من مستقره وسلب أبدل مكانه الكفر فصارت الأنهار تجري بمياه الكفر وصار سقياها من مياه الكفر فإذا جرت المياه من ماء الكفر تشابكت أشجارها وأثمرت ثمرات الكفر والشرك كما قال الله: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً) . فالبلد الطيب النفس إذا كانت قد غلب عليها ماء الرحمة وأنهارها فصارت حية طيبة وصارت أشجارها طرية غضة مونقة مزدهرة، والذي خبث أي خبث بغلبة السباخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 عليها في أنهارها فتشابكت أشجارها لما نزع ماء الرحمة وسلب وأبدل مكانه الكفر، قيل له وما أصل السباخ والبر، وكيف أصل خلقها، وبدو أمرها وغلبتها على الماء في أنهارها، بين لنا رحمك الله؛ قال: إن النفس نفسان، نفس باطنة، ونفس ظاهرة، فأما أصل خلقة النفس الباطنة فمن موطئ الشيطان وتحت قدمه وأثره. وأما النفس الظاهرة فمن خطوته وبين موطئه وهي ممدودة مبسوطة من النفس الباطنة إذا كانت الخلقة هي الأس والبينة فهي كالقائمة الظاهرة، والظاهرة مخلوقة عليها مركبة مفروزة فيها فلما عرف اللعين ذلك كله من نفس آدم عليه السلام علم أنه سيظفر عليه إن احتلج إلى ذلك إذ وجد نصيبه فيه قائماً فلما أمر بالسجود نظر فوجد نصيبه في آدم وهو النفس فأبى وتكبر ووجد اللعين ذلك في نفسه من نفسه فاتفقا فأبى وعتا وتكبر فلعن وطرد فلما أسكن آدم عليه السلام الفراديس تفكر اللعين في أمره وأمر آدم عليه السلام إذ لمن في جنبه فهاجت إبليس بحور الحسد مياها وأزبدت وامتدت فسألت منها عليه أودية فاغتراف من ذلك بالقياس والحيلة على ما ينغض على آدم عليه السلام ما نال من النعيم وما يسلبه تلك الكرامة، وبما يهلكه فاغتنم بالشجرة التي نهي الله آدم عليه السلام عنها فاحتال حتى وجد عليه الفرصة من ذلك الوجد فلما قال لآدم عليه السلام ما قال وأشار عليه بالأكل تفكر آدم عليه السلام في نفسه فهاجت منه مياه النور والرحمة والنور والعلم وامتدت فاغترف آدم عليه السلام منه الحكمة والنظر والتدبير بالأخذ إلى ما أشار وبالانتهاء عنه فكان مرة يأتي على قبله أن لا ومر أن أذن فانتهى آدم عليه السلام يشاور في ذلك فسبق اللعين إلى القسم بالغرور تصديقا على ما أتى على ما قلب آدم عليه السلام من الدنو إذ كان ذلك من النفس الباطنة التي هي من موطئ اللعين فحرضه عليه وندبه إليه وردَّ ما أتى على قلبه من الانتهاء وذلك أن الذي نهاه عن ذلك كان الحكمة والعلم الذي ندبه إلى الأخذ كان من النفس الباطنة موافق اللعين وكان سأل ربه أن يعطيه السلطان ليجري منه مجرى الدم في عروقه فأعطاه ما سأل إذ كان موطئه في آدم عليه السلام قائما وهو النفس إذ سأل ربّه المجرى في دعوته والسبيل إلى حظه وهو أصل خلقه آدم عليه السلام إذ جبل من أثر تراب قدمه وموطئه فصار ذلك وراثة في ولده فهو يجري منهم مجرى الدم ومن ذلك حرم الدم المسفوح لما جرى مجرى اللعين والدم في مجرى واحد في العروق وذلك أن اللعين يحبس فينحبس الدم الطيب في العروق الطيبة بنجاسته لجريهما معا في مجرى واحد فإذا أراد اللعين أو بعض أعوانه أن يدنو من ابن آدم وجدت النفس الباطنة ريحه فعرفته وإذا دنا منها حست أثره وعلمت أنه قد دنى فرحت وابتهجت واشرأبت شوقا إليه إذ لقي بعض العضو بعض عضوه والحب حبه واهتشت لرؤيته وانتشت للقائه وازدهرت للدنو إليه وانتشرت وسرت ودخل الشيطان يجري في العروق فعرق من شدة السرور والابتهاج والدبيب في ضيق المجاري فامتزج عرقه بمياه الرحمة التي تجري في مجاري العروق وتلطخت نجاسته في مجاري عروقه فتكدرت المياه والدماء من نجاسته وعرقه وبجريه وغمامه ودخانه وعجاجته وظلمته وكثرت وامتدت وكلما كان جريه فيها أدوم وأدأب كانت العروق بما فيها من مياه الرحمة أكدر وأثقل حتى تتكدر وتتحمأ وتفور من ضفة الأنهار وهي العروق فإذا طال ذلك بها ودام أزبدت واحمرت وأسبخت وتسلفت الكدورة والثقل فسدة أفواه المجاري وانبثقت من كثرة الكدورة وسرة السباخ والزبد وخشنت العروق فلم يجد الماء السبيل إلى المجرى فركدت المياه فيها فإذا ركدت اجتمعت المياه وفارت فوق الضفة فأصابت السباخ والزبد الذي على الضفة وامتزجت بها فإذا طال ذلك بها ودام انكسرت البثور والسدد من كثرة الماء وتطرقت وذهبت حفاير ندما وسبختها ونجاسته فإذا جرت إلى الأشجار اصفرت الأوراق ويبست الأشجار "وذبلت الطرية الغضة وتقبضت وانزوت الثمرات" ومررت الحلو الطيب وفسدت اللذيذة وذبلت المزدهرة المونقة وشاكت الأشجار بما فيها من سلطان الهوا والكفر وذلك أنها إذا طال ذلك بها ولم يعالج صاحبها إصلاحها بالمجاهدة على إخراج اللعين وطرده وغضب الجليل سبحانه على صاحبه فسلبه ماء الرحمة ونور المعرفة وأبدل مكانهما الكفر فتجري مياه الكفر والهوا مع اللعين في المجاري فإذا جرت إلى الأشجار شاكت الأشجار من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 سلطانن الكفر وأثمرت الأعمال السيئة، ولم تخرج المنافع إلا نكداً كما ذكر الله تعالى: (والذي خبث لا يخرج إلا نكداً) ، قيل له: وهل تخرج الأشجار التي تشوك المنافع والثمرات الطيبة قال نعم ألا ترى إلى الكافر وما يجري عليه من الأعمال الصالحة. وأثمرت الأعمال السيئة، ولم تخرج المنافع إلا نكداً كما ذكر الله تعالى: (والذي خبث لا يخرج إلا نكداً) ، قيل له: وهل تخرج الأشجار التي تشوك المنافع والثمرات الطيبة قال نعم ألا ترى إلى الكافر وما يجري عليه من الأعمال الصالحة. 1 27 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42