الكتاب: نور القبس المؤلف: أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود اليغموري (المتوفى: 673هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- نور القبس اليغموري الكتاب: نور القبس المؤلف: أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود اليغموري (المتوفى: 673هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين الحمد لله وصلواته على خير خلقه أجمعين وآله وصحبه الطاهرين. وبعد فهذا علقته انتخابا من كتاب الشهاب القبس من المقتبس تأليف الشيخ الحافظ أبي عُبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني رحمه الله في أخباره النحاة والقراء والرواة. انتخبه الشيخ الامام نجم الدين بشير بن أبي بكر حامد بن سليمان الجعفري التبريزي المجاور بمكة حرسها الله تعالى وقال: الباعث عليه أمران أولها استفادتي منه ساعة بعد ساعة وثانيهما إفادة أهليه بغرائبه والنوادر التي فيه، فقد سمعت مشيختنا يقولون: لا يوجد من هذا الكتاب نسخة سوى الأصل الذي هو بخط المصنف، وهو ثمانية عشر مجلدا في وقف الوزير نظام الملك في مدرسته بمدينتة السلام حماها الله تعالى، وقال: وقد حذفت الأسانيد والطرق وما لا يتعلق ولم أخل ترجمة منه غير أني أذكر أحاسن ما ذكر، وبالله التوفقيق والعصمة في حُسن الاختار. في الحث على تعلم العلم وتقويم اللسان قال عليه السلام: أعربوا القارآن والتسوا غرائبه. وقال عُمر الخطاب رضي الله عنه: تعلموا العربية فإنها تُنبت العقل وتزيد في المروة. وقال علي عليه السلام: عليكم السلام: عليكم بالعربية والشعر فإنها يحلان عُقدتين من اللسان العُجبمة والدكنة. وقالت عائشة رضي الله عنها: تعلموا الشعر فإنه يُعرب ألسنتكم. وقال عبد الملك بن مروان: اللحن في الرجل السري كاجدري في الوجه الحسن. وقال لبنيه: اطلبواالعلم فإن استغنيتم كان لكم جمالا وإن افتقرتم كان لكم مالا. وقال أبو الحراج العقيلي: تعلموا العلم فإنكم إن كنتم ملكوكا فقتم، وإن كنتم أوساطاً سُدتم، وإن أعوزتم عشتم. وكان عُمر بن عبد العزيز يُؤدب أولاده ورعيته على اللحن. وكتب كاتب لأبي موسى إلى عمر رضي الله عنهما: من أبو موسى. فكتب عمر أن اضربه سوطا واعزله عن عَمَلك! قال رجل للحسن: يا أبو سعيد! فقال له: كسب الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا ابا سعيد! ثم قال: تعلموا الفقه للاديان والطب للابدان والنحو للسان. وقال الضحاك بن رمل: شهدت سليمان بن عبد الملك يعرض الخيل بدابق، فقام إله رجل وقال: أصلح لله الأمير! إن أبينا هلك فوثب أخانا وأخذ مالنا. فقال سليمان: فلا رحم الله! قال سليمان: دعوه! فلو كان تارك اللحن ترك االساعة. ودخل على عبد العزيز بن مروان رجل يشكو صهراً فقال: إن خَتَني فَعَلَ كذا وكذا. فقال له عبد العزيز: ومن خَتَنَك؟ قال: الختان الذي يختن الناس. فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك! بم أجابني؟! فقال أيها الامير، إنك لحنت! وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقوا: من خَنَتُك؟ فاشتغل عبد العزيز حنى صار من أفصح الناس، وكان يُعطي على العربية ويحرم على اللحن. كان الرجلُ يأتيه، فيقول له: ممن أنت؟ فيقول: من بني فلان. فيقول لكاتبه: أعطيه مائتي دينار! ودخل عليه رجل من عبد الدار فقال له: ممن أنت؟ فقال: من بنو عبد الدار. فقال هل: تجدها في جائزتك! فأمر له بمائة درهم. ودخل أبو عمرو بن العلآء دار القُطن، فرأى على أعدال التجار مكتوباً: لأبو فلان. فقال: ياعجباً أيَلْحَنون ويَرْبَحون؟! وقال الحجاج ليحيى بن يعمر: أسمِعتني ألحن؟ قال: الأمير أفصح الناس! ثم اعاد عليه، فقال: نعم، حرفا واحدا! قال: أين؟ قال: في القرآن قال: ذلك اشنع! فما هو؟ قال: قرأت (قُلْ إِنْ كَانَ أَبَاؤُكُمْ وأَبناؤُكًمْ) إلى قوله (أَحب إِلَيْكُم) قرأت: احب، بالرفع كأنه لما طال الكلام نسيت ما ابتدأت به. فقال له الحجاج: لاجرم، لا تسمع ذلك مني أبدا! وألحقه بخراسان، وكان بها يزيد بن المُهلب فاستكتبه، فكتب: عن يزيد بن المهلب إلى الحجاج، إنا لقينا العدو، ففعلنا واضطررناهم إلى عُرعرة الجبل. فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولذا الكلام؟ فقيل له: إن ابن يَعمر هناط. قال: ذاك إذا!. ابتدآءُ امر النَحْو ومن تكلم فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد رسم لأبي الأسود الدُؤلي حروفاً يعلمها الناس لما فسدت ألسنُتهم، فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضنا به بعد علي رضي الله عنه. فلما كان زياد وجه إليه أن اعملشيئاً تكون فيه إماما وينتفع به الناسُ، فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس! فدافع بذلك حتى مر يوما بكلاء البصرة، وإذا قارى يقرأ (أَنَّ ألله بَرِيء مِنَ المشرِكِينَ وَرَسُوِله) وفي آخرين، حتى سمع رجلا قال: سقطت عصاتي. فقال: لا يحل لي بهد هذا أن أترك الناس. فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير، فلبغ لي كاتباً حصيفا ذكيا يعقل ما أقول. فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يَرضه، فأتي بآخر من ثقيف، فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بحرف فانقط نقطة على ألاه، إذا ضَممتُ فمي فانقُط نُقطة بين يدي الحرف، وإذا كسرت فاضجَعلِ النُقطة تحت الحرف، فإذا أتبعتُ ذلك عُنَّةً، فاجعل النقطة نقطتين. ففعل. فهذا نقطُ أبي الأسود، وعمل الرفع والنصب والجر. واختلف الناي إليه يتعلمون العربية. وكان ابرع أصحابه واحفظهم عنه عنبسة، فلما مات وكان ألقنهم عنه ميمُون الأقْرَنُ أخذ الناس عنه، فلما مات وكن اكثر الناس أخذا عنه عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي مولى الحضارمة أخذوا عنه، وهو أول من بعج النحو ومد القياس والعلل. وكان معه أبو عمرو العلآء. قال سماك بن حرب: لا أظنُ فيهم أحدا أتم فهما ولا أحسن عقلا من أبي إسحاق؛ فنجم من اصحابه عيسى بن عمر الثقفي، ونجم من أصحاب عيسى الخليل بن أحمد الفراهيدي. قال شعبة: ولا أظن أنه كان فيهم مثله ولا أكمل منه. وأخذ عن الخليل عمر بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب وهو سيبويه؛ وأخذ عن سيبويه أبو الحسن الأخفش أبو عثمان المازني، ولا أعلم أن أحد ضبط عنه ظبطه. فأما خلف الأحمر فأخد النحو عن عيسى بن عُمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو. وجمع بلال بن أبي بردة بين ابن أبي إسحاق وابي عمرو بالبصرة، وهو يومئذ والٍ عليها، ولاه خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك. قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز يومئذ، فنظرت فيه بعد ذلك وبالغتُ فيه. وأخذ يونس حبيب عن أبي عمرو، وكان مع ابن أبي إسحاق وأبي عمرو مَسْلَمَةُ بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري وهو مسلمة النحو، كان ابن أبي إسحاق خاله؛ وكان معهم حماد بن الزبرقان، وكان يونس يُفضله في النحو. ومدح الفرزدق يزيد بن عبد الملك بأبيات فيها: مُسْتَقْبِلِينِ شمال الشامِ تَضِربُنا ... بحاصب كنديف القطن منْثُور على عَمائمِنا يُلقَى وأَرْحُلنا ... على زَواحِف تُرْجَى مُخُّها رير قال ابن أبي إسحاق: أخطأت، أنما هي ريرُ، وكذلك قياس النحو في هذا الوضع. قال يونس: والذي قال جائز حسنٌ. فلما ألُّحو على الفرزدق قال: " زواحف نُزجيها محاسير ". قال التوزي: يقال: رير ورار وهو المخ الرقيق، وكيح الجبل أسفله، وقيدٌ رُمح وقاد رمُح. من اخبار العلماء والنحاة والرواة من اهل البصرة 1 - من أخبار أبي الأسْوَد هو أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس - ويقال حُلَيس - بن نُفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. قال يونس: الدُول في بني حنيفة ساكنة الواو، والديل في عبد القيس ساكنة الياء، والدُؤل مهموز في بني كنانة رهط أبي الأسود. وقال عيسى بن عمر: الدُئلي بكسر الهمز والقياسُ الفتح. - أدرك أبو الأسود حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وُلدتُ عام الفتح. وهاجر الى البصرة على عهد عمر بن الخطاب، واستعمله عليٌّ على البصرة خلافة لعبد الله بن العباس، وكان شيعةً له، وهو شاعر مجيد مكثر، وعنه أخذ يحيى بن يعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 قال أبو الأسود: دخلت يوماً على علي بن أبي طالب، فرأيته مطرقاً يُفكر، فقلت: مالي أراك ياأمير المؤمنين مفكراً؟ فقال: قد سمعت من بعض مَنْ معي لحناً، وقد هممت أن أصنع كتاباً أجمع فيه كلام العرب. فقلتُ: إن فعلت ذلك أحييت قوماً وأبقيت العربية في الناس. فألقى إليَّ صحيفة فيها الكلامُ كلُّه: اسم وفعل وحرف، فالاسم مادلَّ على المسمى، والفعل مادلَّ على الحركة، والحرف ماجاء لمعنى ليس باسم ولافعلٍ. فاستأذنته في أن أضع في نحو ماصنع شيئاً أعرضه عليه، فأذن لي؛ فألفت كلاماً وأتيته به، فزاد فيه ونقص، وكان هذا اصل النحو. قال ابن الأعرابي: الفصحاء في الإسلام أربعة: أبان بن عثمان والحسن بن يسار البصري وأبو الأسود الدُؤْلي وقبيصة بن جابر الأسدي. - وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة: أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتفهموا العربية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب، وعلموا أولادكم العوم الدرية، وألقوا الرُكب، وأنزوا على الخيل نزوا! - الرُكب جمع ركاب - وقيل: إن أبا الأسود أتى ابن عباس فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع لهم شيئاً يقيمون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو، أما إنه حق، وأستعين بسورة يوسف عليه السلام. - وقال الشعبي: قاتل الله أبا الأسود! ماكان أعف أطرافه وأحضر جوابه! كان استعمل عليّ أبا الأسود على البصرة وزياداً على الديوان والخراج، فبلغ أن زياداً يطعن عليه عند علي، فقال: رأيت زياداً ينتحيني بشره ... وأعرضُ عنه بادٍ مقاتله وكلٌّ امرئٍ، والله بالناس عالمٌ ... له عادةٌ قامت عليه شمائله تعوَّدها فيما مضى من شبابه ... كذلك يدعو كُلَّ أمرٍ أوائله ويُعجبه صّفحي له وتحملي ... وذو الجهل يجزي الفحش من لايعادله ولما هلك عليّ عليه السلام قال أبو الأسود: ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... فلا قرَّت عيون الشامتينا أفي الشهر الحرام فجعتمونا ... بخير الناس طُراً أجمعينا قتلتم خير من ركب المطايا ... وخيَّسها ومن ركب السفينا ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمئينا إذا استقبلت وجه أبي حُسين ... رأيت البدر راق الناظرينا لقد علمت معد حيث كانت ... بأنك خيرها حسباً ودينا ولما حمل عبيد الله بن زياد ولد الحسين بن علي رضي الله عنه وحرمه إلى يزيد بن معاوية شيَّعهم جمعٌ من أهل الكوفة، فلما بلغوا النجف وقفوا لتوديعهم، فأنشأت أم كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب: ماذا تقولون، إنْ قال النبي لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بأهل بيتي وأنصاري ومحرمتي ... منهم أسارى وقتلى ضُرجوا بدمِ ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي والشعر لأبي الأسود. - قال: (رَبَّنا ظَلْمنا أنْفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) . وقال أبو الأسود: أترجو أمَّةٌ قتلت حُسيناً ... شفاعة جده يوم الحساب وأرسل معاوية إلى زياد رسولاً فهما في أمر أراده فقال: سترى عنده أبا الأسود الدؤلي شيخاً عليه عمامة سوداء، يجلس عن يمينه، لايتقدمه عنده أحدٌ في الكلام، فقل له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خبرني عن قولك: يقول الأرذلون بنو قُشير: ... طوال الدهر لاتنسى عليا أحِبُّ محمداً حُباً شديداً ... وعبَّاساً وحمزة والوصيا أُحبهم لحُب الله حتى ... أجيءَ إذا بُعثت على هويّا هوىً أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا وما أنسى الذي لاقى حسينُ ... ولاحسن بأهونهم عليا بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا فن يك حبهم رشدنا ... ولست بمخطيءٍ إن كان غيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 أشككت في حبهم أرُشد هو أم غيٌّ؟ فلما حضر عند زياد قال لأبي الأسود ذلك، فقال أبو الأسود: قل له: ماكنت أحب إلا تعلم أني متحقق متيقن في حبهم أنه رشد، فإن الله عز وجل قال: (وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضلال مبين) ، أفيرى الله عز وجل شك في ضلالتهم ولكنه حققه بهذا عليم؟! ولما وقعت الفتنة بالبصرة في أيام ابن الزبير مر أبو الأسود على مجلس بني قشير فقال: يابني قشير، على ماذا اجتمع رأيكم في هذه الفتنة؟ قالوا: ولم تسألنا؟ قال: لأخالفه، فإن الله لايجمعكم على هدى! - وأنشد عمر في هذا المعنى: إذا اشتبه الأمران يوماً وأشكلا ... عليَّ ولم أعرف صواباً ولم أدر سألت أبا بكر خليلي محمداً ... فقلت له: ماتستحب من الأمر فإن قال قولاً قلت خلافه ... لأن خلاف الحق قول أبي بكر وقال زياد لأبي الأسود: كيف حبك لعلي؟ قال؛ حبي يزداد له شدة كما يزداد بغضك له شدة، ويزداد لمعاوية حبا، وأيم الله إني لأريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله، وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفها، وذلك زائل بعد قليل! فقال له زياد: إنك شيخ قد خزفت، ولولا أني أتقدم إليك لأنكرتني. فقال أبو الأسود: غضب الأمير بأن صدقت وربما ... غضب الأمير على البري المسلم ودخل أبو الأسود على معاوية، فقال له: أصبحت جميلاً ياأبا الأسود، فلو علقت تميمة تدفع عنك العين! فقال أبو الأسود وعرف أنه يهزأ به: أفنى الشباب الذي فارقت بهجته ... كر الجديدين من آت ومنطلق لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً أخاف عليه لذعة الحدق قد كنت أرتاع للبيضاء أنظرها ... في شعر رأسي وقد أيقنت بالبلق والآن حين خضبت الرأس فاقني ... ما كنت التذ من عيشي ومن خلقي وقال زياد لأبي الأسود: لولا أنك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا. فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس عندي، وإن كنت تريد رأيي وعقلي فهو أوفر مما كان. وأنشأ يقول: زعم الأمير بأن كبرت وربما ... نال المكارم من يدبُّ على العصا أأبا المغيرة رُبَّ أمر مبهمٍ ... فرَّجته بالمكر مني والدَّها مر عبيد الله بن زياد على أبي الأسود وعليه ثياب رثة يكثر لبسها، فقال: إلا تستبدل بجبتك هذه؟ فقال: رب مملولٍ لايستطاع فراقه! فأرسل إليه عبيد الله ثمانين ثوبا - وقيل: مائة -، فقال أبو الأسود: كساك ولم تستكسه فاشكرن له ... أخُ لك يعطيك الجميل وناصر وإن أحق الناس إن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر وقال أبو الأسود لابنه: يابني، إذا كنت في قوم فحدثهم على قدر سنك، وسائلهم على قدر محلك، ولاترتفع عن الواجب فتستثقل، ولا تنحط عنه فتحتقر! وإذا أوسع الله عليك فابسط، وإذا أمسك عليك فأمسك، ولاتجاود الله عز وجل، فالله أجود منك! - وزوّج ابنتيه فقال لإحداهما: يابنية، أكرمي أنف زوجك وعينيه وأذنيه! يريد: لايشم منك إلا طيبا ولايرى إلا جميلا ولايسمع إلا حسنا. وقال للأخرى: يابنية، أمسكي عليك الفضلين! يريد: فضل النكاح وفضل الكلام. - وقال لأولاده: أحسنت إليكم كباراً وصغاراً وقبل أن تولدوا! قالوا: أحسنت إلينا صغارا وكبارا، فكيف قبل أن نولد؟ قال: طلبت لكم النسيب كيلا تعيروا. وقيل له: من أكرم الناس عيشا؟ قال: من حسن عيش غيره في خيره. فمن أسوأ الناس عيشا؟ قال: من لايعيش في عيشه أحد. - وقال: البلاغة سلاطة اللسان. وقيل: مارضيته الخاصة وفهمته العامة. وقال: ليس شيءٌ أعز من العلم، وذاك لأن الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. وقال: العلم زين وتشريف لصاحبه ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا لاخير فيمن له أصل بلا أدب ... حتى يكون على ما زانه حدبا كم من حسيب أخيٍ عيٍ وطمطمة ... فدم لدى القوم معروق إذا انتسبا في بيت مكرمة أباؤه نجب ... كانوا رؤوساً فأمسى بعدهم ذنبا وخامل مقرف الأباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرتبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أضحى عزيزاً عظيم الشأن مشتهراً ... في خده صعر قد ضل محتجبا العلم كنز وذخر لانفاد له ... نعم القرين إذا ما صاحب صحبا قد يجمع المرء مالاً ثم يسلبه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا وجامع العلم مغبوط به أبدا ... ولا يحاذر منه الفوت والسلبا يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لاتعدلن به درّا ولاذهبا وقال: وإذا وعدت الوعد كنت كغارم ... ديناً أقرّ به وأحضر كاتبا حتى أنفذه كما وجهته ... وكفى عليَّ له بنفسي طالبا وإذا منعت منعت منعاً بيتنا ... وأرحت من طول العناء الراغبا لاأشتري الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا وقال: إذا لم يكن للمرء عقل فإنه ... وإن كان ذا مال على الناس هين وإن كان ذا عقل أجل لعقله ... وأفضل عقل عقل من يتدين وقال: وعدد من الرحمان فضلا ونعمة ... عليك إذا ماجاء للخير طالب وأن أمرا لايرتجى الخير عنده ... يكن هيناً ثقلاً على من يصاحب أرى دولاً هذا الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائب فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالباً ... فإنك لاتدري متى أنت راغب وإن قلت في شيء نعم فأتمه ... فإن نعم دين على الحر واجب وإلا فقل: لا، واسترح وأرح بها ... لكيلا يقول الناس: إنك كاذب إذا كنت تبغي شيمة غير شيمة ... جبلت عليها لم تطعك الضرائب تخلق أحيانا إذا ما أردتها ... وخلقك من دون التخلق غالب وقال: إا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... ففاض ففي صدري لسري متسع إذا فات شيء فاصطبر لذهابه ... ولاتتبعن الشيء إن فاتك الجزع ففي اليأس عما فات عزٌ وراحة ... وفيه الغنى والفقر ياضافي الطمع إذا صاحبا وصل بحبل تجاذبا ... فمل قواه أوهن الحبل فانقطع ولاتحفرن بئراً تريد أخا بها ... فإنك فيها أنت من دونه تقع وكلُّ امرئ يبغي على الناس ظالماً ... تصبه على رغم عواقب ما صنع وذكرت العمائم عنده، فقال: العمامة خير ملبوس: جنة في الحروب وواقية في الأحداث، مسكنة من الحر ومدفئة من البرد، وقار في الندي وزيادة في القامة، وهي تعد من تيجان العرب. وقال لابن قيس الرقيات: وما خصلة قد تذل الرجال ... بأسوأ وأخزى من المسأله فإن مت ضراً فلا تسألن ... أخا الجهل من ماله خردله فترجع من عنده نادماً ... وتقطع من كفك الأنمله وإن هو أعطاك مجهوده ... فليس بأعطى من المكحله وقال: وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء تجئك بملئها يوماً ويوما ... تجئ بحماة وقليل ماء ولاتقعد على كسل التمني ... تحيل على المقادر في القضاء فإن مقادر الرحمان تجري ... بأرزاق العباد من السماء مقدرة بقبض أو ببسط ... وعجز المرء من سبب البلاء وبعض الرزق في دعة وخفض ... وبعض الرزق يكسب بالعناء بينا أبو الأسود يوماً في طريق إذ لقيته امرأة لها رواء، فقالت: يا أبا الأسود، هل لك فيّ؟ قال: ومن أنت؟ قالت: فلانة ابنة فلان. فعرفها فتزوجها؛ فلما مضت عليه أيام استكتمها سرا، فأفشته، فنهاها، ثم عادت لمثل مانهاها، فقال لها: أصنعي طعاما وابعثي إلي إخوتك حتى يأتوك! فلما جاؤوا وأكلوا وقف أبو الأسود عليهم وقال: أرأيت امرأ كنت لم أبله ... أتاني فقال: اتخذني خليلا فخاللته ثم صافيته ... فلم أستفد منه يوماً فتيلا فعاتبته ثم ناقرته ... عتاباً رفيقاً وقولاً جميلا فألفيته حين خاللته ... خؤون الأمانة خبا بخيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ألست حقيقاً بهجرانه ... وإسماع أذنيه هجراً طويلا قالوا: بلى والله، من كان كذلك فهو محقوق بهذا. فقال: هي أختكم، خذوا بيدها! وطلقها. وخاصمت أمرأة أبي الأسود أبا الأسود في ولدها إلى معاوية - وكان معاوية قد حج المدينة، وكان أبو الأسود كبيراً عنده يقرب مجلسه ويسأله عن أشياء، فيقول فيها بعلم - فقالت: أصلح الله أمير المؤمنين، أمتع به! إن الله جل وعز جعلك خليفة في البلاد، ورقيبا على العباد، يستسقى بك المطر، ويستنبت بك الشجر، ويؤمن بك الخائف، ويردع بك الحائف، فأنت الخليفة المصطفى، والأمير المرتضى، فأسأل الله عز وجل النعمة من تغيير، والبركة من غير تقتير، فقد ألجأني إليك - ياأمير المؤمنين - أمر، ضاق به عني الهم، ولينصفني من الخصم، وليكن ذلك على يديه، وأنا أعوذ بعد لك من العار الوبيل، والأمر الجليل، الذي يستتر على الحرائز ذوات البعول. فقال لها معاوية: من هذا الذي شعرك بشناره؟ فقالت: أمر طلاق كان من بعل غادر، لاتأخذه من الله مخافة، ولايجد بأحد رأفة. قال: ومن بعلك؟ قالت: هو أبو الأسود. فالتفت معاوية إليه وقال: أجق ماتقول هذه المرأة؟ قال: إنها لتقولن من الحق بعضا، وليس يطيق أحدُ عليها تقضا، أما ما ذكرت من طلاقها فهو حق، وسأخبرك عن ذلك بصدق، أما والله ما طلقتها لريبة ظهرت، ولامن هفوة حضرت، كرهت شمائلها، فقطعت حبائلها. قال: وأي شمائلها كرهت؟ قال: إنك مهيجها علي بلسان شديد، وجواب عتيد. قال: لابد لك من مجاوبتها، فأردد عليها قولها عند محاورتها. قال: هي ياأمير المؤمنين كثيرة الصخب، دائمة الذرب، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، إن ذكر خير دفنته، وإن ذكر شر أذاعته، تخبر بالباطل، وتطير مع الهازل، ولاتنكل من صخب، ولايزال منها زوجها في تعب. فقالت: أما والله لولا حضور أمير المؤمنين، ومن حضره من المسلمين، أرددت عليك بوادر كلامك بنوادر تردع كل سهامك. فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته! فقالت: ياأمير المؤمنين، هو والله سؤول جهول، ملحاح بخيل، إن قالفشر قائل، وإن سكت فذو ضغائن، ليث خبيث مأمن ثعلب حين يخاف، شحيح حين يضاف، إن ألتمس الجود عنده انقطع، لما يعلم من لؤم أبائه، وقصور بنائه، ضيفه جائع، وجاره ضائع، لايحمي ذمارا، ولايضرم نارا، ولايرى جوارا، أهون الناس عليه من أكرمه، وأكرمهم عليه من أهانه. فقال معاوية: ما ر أيت أعجب من هذه المراة! أنصرفي إليَّ رواحا! فلما كان العبثي جاءت، ومعاوية يخطب. فقال أبو الأسود: اللهم أكفني شرها! قالت: قد كفاك الله شري، وأرجو أن يعيذك من شر نفسك! فقال معاوية: مارأيت أعجب من هذه المرأة! فقال أبو الأسود: ياأمير المؤمنين، إنها تقول من الشعر أبياتا، فتجيدها. قال: فتكلف أنت لها أبياتا، لعلك أن تقهرها بالشعر. فقال أبو الأسود: مرحبا بالتي تجور علينا ... ثم أهلا بحامل محمول أغلقت بابها علي وقالت: ... إن خير النساء ذات البعول شغلت قلبها عليَّ فراغا ... هل سمعتم بفارغ مشغول فقالت تجيبه: ليس من قال بالصواب وبالحق ... كمن جار عن منار السبيل كان حجري فناءه حين يضجي ... ثم ثديي سقاءه بالأصيل لست أبغي بواحدي ياابن حرب ... بدلا ما رأيته والجليل وفي رواية أنها قالت: إن هذا يريد أن يغلبتي على ابني، وقد كان بطني له رعاء، وثديي له سقاء، وحجري له فناء. فقال أبو الأسود: أبهذا تريدين أن تغلبيني على ابني، فوالله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولاسواء إنك حملته خفا وحملته ثقلا، ووضعته شهوة ووضعته كرها. فقال معاوية: ليس من غذاه طفلا صغيرا ... وسقاه من ثديه بالخذول هي أولى به وأقرب رحما ... من أبيه، وفي قضاء الرسول أنه ما حنث عليه ورقت ... هي أولى بذا الغلام الجميل فدفعه معاوية إليها. اشترى أبو الأسود جارية - يقال لها صلاح - لتخدمه، فطمعت فيه وأقبلت تتطيب وتتعرض لفراشه، فأنشأ يقول: أصلاح إني لاأريدك للصبا ... فذري التشكل حولنا وتبدَّلي إني أريدك للعجين وللرحا ... ولحمل قربتنا وغلي المرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 إذا تروح ضيف أهلك أو غدا ... فخذي التأهب نحو آخر مقبل وقال له رجل: إنك والله ظريف لفظ، وظرف علم، ووعاء حلم، غير أنك بخيل. فقال: وما خير ظرف لايمسك مافيه؟! - وسلّم أعرابي عليه فقال: كلمة مقولة. قال: أتأذن في الدخول؟ قال: وراءك أوسع عليك! قال: هل عندك شئٌ يؤكل؟ قال: نعم. قال: أطعمني! قال: عيالي أحق به! قال: مارأيت ألأم منك! قال: نسيت نفسك! - وكان يقول: ليس السائل الملحف مثل الردّ الجامسّ أي الجامد. وكان أبو الأسود قد أتخذ دكاناً على باب داره بقدر مجلسه، لايسع غيره وغير طبق يكون بين يديه يأكل منه، فإذا مرّ به مار فسلم عليه عرض عليه طعامه، فينظر فلايرى لنفسه موضعاً، فيدعو له وينصرف. فمر به أعرابي وهو يأكل، فدعاه، فأجابه وأقبل يأكل معه وهو قائم؛ فلما اشتد عليه القيام أخذ الطبق فوضعه في الأرض وقال له: إن كان لك في الطعام حاجة فانزل وكل! وأقبل الأعرابي يأكل، وأبو الأسود ينظر إليه ويتغيظ، ثم قال: ماأسمك، يأعرابي؟ قال: لقمان. فقال: لقد أصاب أصلك اسمك! ثم أنشأ يقول: أنظر الى جلسته ومطه ... ولقمه مبادراً وغطه ولفه رقاقه ببطه ... كأن جالينوس تحت ابطه وسأله رجل فمنعه، فقال: ماأصبحت حاتمياً! قال: بلى أصبحت حاتمياً من حيث لاتدري! أليس حاتم الذي يقول: أماويَّ إما مانعٌ فمبين ... وأما عطاءٌ لاينهنهه الزجر وكانت له ناحية من عبد الله بن عامر، فأنكر بعض شأنه ورأى منه جفوة، فقال أبو الأسود: ألم تر مابيني وبين ابن عامر ... من الود قد بالت عليه الثعالب وأصبح ماقد كان بيني وبينه ... كأن لم يكن، والدهرُ فيه العجائب فقلت: تعلم أن صرمك جاهرا ... ووصلك عنه شقةٌ متقارب فما أنا بالباكي عليك صبابة ... ولا بالذي تأتيك مني المثالب إذا المرء لم يحببك إلا تكرها ... فذلك من أخلاقه ما يغالب فللنأي خير من دنو على أذى ... ولاخير فيمن خالفته الضرائب كان أبو الأسود صديقا لحوثرة بن مسلم عامل إصبهان، فخرج إليه، فلم يحفل به حوثرة، فكتب إليه: إنك اليوم امرؤ محتقرٌ ... خصَّه الله بلؤم وضعه يسأل الناس ولا يعطيهم ... هبلته أمه ما أخضعه لاتؤاخ الدهر خبا راضعاً ... ملهب الشد سريع المنزعه خفق النعل إذا ماقلته ... واحذرن مخزاته في المجمعه لايكن برقك برقا خلباً ... إن خير البرق ما الغيث معه لاتشوبن بحق باطلا ... إن في الحق لذي الدين سعه أولها: سل خليلي ماالذي غيَّر لي ... وده والنصح حتى ودعه لاتهني بعد إذ أكرمتني ... فشديد عادةٌ منتزعه فلما قرأها أعياه جوابه. فعرضه على جماعة شعراء، فلم يجترؤا على أبي الأسود، فأجابه عنه عطية بن حمزة بأبيات لم يلتفت إليها، فأجابه أبو الأسود: ألم تر أني والتكرم شيمتي ... وكلُّ أمرىٍ جارٍ على ماتعودا أطهر أثوابي من الغدر والخنا ... وأنجو إذا ماكان خيرا وأنجدا أعود على المولى إذا زال حلمه ... بحلمي وكان الحلم أبقى وأحمدا وكنت إذا المولى بدا لي غشه ... تجاوزت عنه وانتظرت به غدا لتحكمه الأيام أو غيره ... عليَّ ولم أبسط لساناً ولايدا فحمل إليه حوثرة مائة درهم. ولما كبر أبو الأسود كان يكثر الركوب، فقيل له: قد كبرت، فلو تودعت ولزمت منزلك! فقال: صدقتم! ولكن الركوب يشد بضبعي، وأسمع من الخير مالاأسمع في بيتي، وأستنشق الريح وألقى الإخوان، ولو جلست في منزلي اغتم أهلي واستأنس بي الصبي واجترأت عليَّ الخادم، وكلمني من أهلي من كان يهاب كلامي، لإلفهم إياي وجلوسي عندهم. وله: أظل كئيباً لو تشوكك شوكة ... وتفرح لو دهدهت من رأس حالق لشتان مابيني وبينك في الإخا ... صدقتك في نفسي ولست بصادق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أفق عنك لايذهب بك التيه سالماً ... فإنك مخلوق ولست بخالق وكل أخٍ عند الهوينا ملاطف ... ولكنما الإخوان عند الحقائق وقال له رجل وكان حسن المتجرد: أشتهي أن يكون متاعي في سرَّتك! فقال: ياأحمق، إذا يصير جرداني في سبتك! - وقال له رجل: لايبقى إلا الله والعمل الصالح! إن العمل السوء يبقى حتى يخزي صاحبه. ولما ولي حارثة بن بدر الغداني سرق كتب إليه أبو الأسود: أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها يخون ويسرق ولاتحقرن ياحار شيئاً فإنما ... يصيبك من مال العراقين سُرقُ وإنك تلقى الناس إما مكذب ... يقول بما يهوى وإما مصدق يقولون أقوالاً ولايبرمونها ... فإن قيل: هاتوا حققوا! لم يحققوا وباه تميما بالغنى إن للغنى ... لساناً به العي الهيوبة ينطق وكن حازما في اليوم إن الذي به ... يجئ غد يومٌ على الناس مطبق ولاتعجزن فالعجز أوطأ مركب ... وماكل من يدعى إلى الخير يرزق إذا مادعاك القوم عدوك آكلا ... فكل حار أوجع لست ممن يحمق وشيع أبو الأسود حارثة بن بدر لما ولاه عبيد الله بن زياد سرق، فلما أراد فراقه قال حارثة: جزاك إله العرش خير جزائه ... فقد قلت معروفاً وأوصيت كافياً أشرت بأمر لو أشرت بغيره ... لألفيتني فيه لرأيك عاصياً ستلقى أخا يصفيك بالود حازما ... ويوليك حفظ العهد إن كان نائياً وأيسر ماعندي المؤاساة مسمحا ... إذا لم تجد يوماً صديقاً مؤاسياً فقال أبو الأسود: إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء بالأمر الوثيق ولاتك عندها حلواً فتحسى ... ولا مراً فتنشب في الحلوق فكل إمارة إلا قليلا ... مغيرة الصديق على الصديق وما استخبأت في رجل خبيئاً ... كدين الصدق أو حسب عتيق ذوو الأحساب أكرم مخبرات ... وأصبر عند نائبة الحقوق مرض أبو الأسود فقيل له: اصبر، فهذا أسر الله! قال: هو، أشد له! - مات رحمه الله في الطاعون الجارف سنة تسع وستين، وسنة خمس وثمانون سنة. 2 - ومن أخبار يحيى بن يعمر العدواني كان من بني عدوان وعداده في بني ليث؛ روى عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وعائشة، روى عنه قتادة وإسحاق بن سويد وغيرهما من العلماء، وهو من أهل البصرة. - قال عبد الملك بن عمير: أدركت فصحاء العرب ثلاثة: قبيصة بن جابر الأسدي وموسى بن طلحة ويحيى بن يعمر. وقيل: هو أول من نقط المصاحف. قال له الحجاج: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فمن أين لك هذه الفصاحة؟ قال: كان أبي نشأ بتَّوج فأخذت عنه. - وكان الحجاج قد استدعاه من خراسان بسبب كتاب كتبه عن يزيد بن المهلب اعجبته فصاحته فيه، ثم قال له: أسمعتني ألحن؟ قال: نعم، إنك تقصر الممدود وتمد المقصور. - وقيل: تجعل مكان أن إن - فرده إلى خراسان. - وقيل: إنه قال له: يايحيى، أنت الذي تزعم أن ولد علي من فاطمة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فقلت: إن آمنتني تكلمت. قال: فأنت آمن، والله لتخرجن من ذلك أو لألقين الأكثر منك شعرا! فقلت: نعم، أقرأ ذلك في كتاب الله عز وجل أن الله يقول، وقوله الحق: (ووهبنا لهُ إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمن وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلٌ من الصالحين) . وعيسى كلمة الله وروحه، ألقاها إلى العذراء البتول، نسبه الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام، فجعله من ذرية إبراهيم. قال: مادعاك إلى نشر هذا ذكره؟ قلت: ماأستوجب الله به على العلماء في علمهم، ليبيننه للناس ولايكتمونه. قال: لاتعودن لذكر هذا ونشره! ثم كتب إلى قتيبة: إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمر على قضائك، والسلام. سأل يزيد بن المهلب يحيى بن يعمر: هل تشرب النبيذ؟ فقال: ما أدعه صباحي ولامسائي ولافيما بينهما! فقال له: أنت مشغول بنبيذك! وعزله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فمرّ به الفرزدق ذات يوم، فتعبث به يحيى وذكر بعض شعره، وكان يحيى أعلم أهل زمانه بالنحو، فقال له الفرزدق: مرة عند الحجاج تلحنه، ومرة تخبر يزيد بن المهلب بشربك النبيذ، ومرة تتعرض للفرزدق، وما أتى هذا كله إلا من طول لحيتك! فقال يحيى: ياأبا فراس، لو صلح أن نقطع منها مايزيد في لحيتك فعلنا! فقال الفرزدق: ياأحمق، لو أن هذا يكون لما تركك كواسج قومك وعليك منه شئ! فقال: مازحناك، ياأبافراس! قال: نحن جاددناك! إن شئت فزد حتى نزيد. مات يحيى رحمه الله في سنة ثلاث وثمانين. 3 - ومن أخبار نصر بن عاصم الليثي كان ممن أخذ العربية من أبي الأسود وكان فقيها، وقيل أيضاً: إنه أوّل من نقط المصاحف. 4 - ومن أخبار سعد الرابية هو سعد بن شداد اليربوعي، أخذ النحو من أبي الأسود. وإنما قيل له سعد الرابية لأنه كان يعلم النحو في مكان يقال له رابية بني تميم. قال فيه الفرزدق: إني لأبغض سعداً أن أُجاوره ... ولاأحب بني عمرو بن يربوع قوم إذا غضبوا لم يخشهم أحد ... والجار فيهم ذليل غير ممنوع وكان مضحكاً لزياد. 5 - ومن أخبار عنبسة بن معدان الفيل كان أبرع أصحاب أبي الأسود. وإنما لقب أبوه بالفيل لأنه كان قد أهدى إلى زياد فيل، فكان يجري عليه في كل يوم عشرة دراهم، فجاء معدان وهو من أهل ميسان، فقال: ادفعوه إلى وخذوا مني في كل يوم عشرة دراهم! فدفعه إليه زياد، فكان يدور به في البصرة ويكتسب به فأثرى. - وادعى إلى مهرة بن حيدان. 6 - ومن أخبار عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي كان يقال له أعلم أهل البصرة وأعقلهم، فرع النحو وقاسه، وتكلم في الهمز حتى عمل فيه كتاب مما أملاه. كان يقول: قد آذاني هؤلاء الفترخانيون! والفترخة المبالغة في الشئ والتعمق فيه، وأنشد أعرابي: يصد الفترخانيون عني ... كما صدت عن الشرط الجوالي إذا اجتمعوا على ألف وباه ... فيالك من قتال أو جدال اجتمع أبو عمر بن العلاء وعيسى بن عمر وابن أبي أسحاق عند بلال بن أبي بردة، فقال: أنشدوني أنصاف أبيات مكتفية. فأنشد عيسى بن عمر لنمر بن تولب: فكيف ترى طول السلامة يفعل وأنشد عبد الله لحميد بن ثور: وحسبك داءً أن تصح وتسلما وأنشد أبو عمرو لأبي ذؤيب: والدهر ليس بمعتب من يجزع قال عبد الله يوماً عند الحسن: رَعُفْتُ. فقال الحسن: تقول " رعُفتُ " وأنت رأس في العربية؟ قل: رعَفتُ. توفي ابن أبي اسحاق قبل الثلاثين والمائة رحمه الله. 7 - ومن أخبار أبي عمرو بن العلاء قال المرزباني: لم يكن أصحابه يعرفون اسمه سنين إجلالاً له، قيل: اسمه كنيته. قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو بن العلاء: مااسمك؟ فقال: أبو عمرو. وقيل: إن أسمه زبان وهو أثبت، وقيل: ريان، وقيل: جزء، وقيل: عتيبة، وقيل: العريان وهو الأكثر عند العلماء، واسم أبي العلاء عمار، قال الفرزدق: مازلت أفتح أبواباً وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار حتى أتيت فتى ضخما دسيعته ... مُرّض المريرة حراً وابن أحرار وعمار هو ابن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهمة من بني مازن بن مالك ابن عمرو بن تميم. وكان لأبي عمرو ثلاثة إخوة: أبو سفيان - واسمه عيينة - وعمر ومعاذ، وأبو عمرو وأسنهم. وكان يقول: نحن من أهل كازون. - وقال أبو عمرو بن العلاء: إني دعي، فلو كنت مدعيا لادعيت الى من هو أشرف ممن أنا منه. - كان أسمر طوالا ضرب البدن حاد النظر فهما عالما مشدود الثنيتين بالذهب. وقال: إن لأهل الكوفة حذلقة النبط وصلفها، ولأهل البصرة حدة الخوز ونزقها، ولنا دهاء فارس وأحلامها. - قيل: كانت دفاتر أبي عمرو ملأ بيت إلى السقف، ثم انتسك فأحرقها. وكان رأساً في القرآن والحسن حيُّ، وكان من التابعين، لقي أنس بن مالك. ومر الحسن به وحلقته متوافرة والناس عكوف، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو عمر. قالَ: لاإله إلا الله، كاد العلماء أن يكونوا أرباباً! - كان يشتري كلَّ يوم كوزاً بفلس، فيشرب فيه يومه، ثم يتصدق به، ويشتري بفلس ريحاناً فيشمه، ثم يجففه ويخلطه بالأشنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقد قرأ العظيم على عبد الله بن كثير، وعبد الله على مجاهد، ومجاهد على ابنى عباس، وابن عباس على أبي، وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم. - قال أبو عمر: كان سعيد بن جبير إذا رآني بمكة قاعداً مع الشباب ناداني: ياأبا عمرو، قم عن هؤلاء وعليك بالشيوخ! وكان أبي قد هرب من الحجاج، فلحق بمكة، فلقيت بها عدة ممن قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم. - وقال: الرجز والرجس واحد كالأزد والأسد. وقال: الأسارى من شدَّ، والأسرى من كان في أيديهم غير مشدودين. وسأل رجل أبا عمرو حاجة، فوعده بقضائها، فتعذرت عليه بعد أجتهاد، فلقيه الرجل فقال له: قد غمني أن وعدتني وعدا لم تنجزه! فقال له أبو عمر: فمن أحق بالغم أنا أو أنت؟ قال الرجل: أنا المدفوع عن حاجتي. قال أبو عمرو: بل أنا لأني وعدتك وعدا، فأنت بفرح الوعد، وأنا بهم الإنجاز، وبت ليلتك فرحا مسروراً، وبت ليلتي مفكراً مغموماً، ثم عاق القدر عن بلوغ الوطر، فلقيتني مدلا، ولقيتك محتشماً، فأنا أولى بالغم منك. وقال: ماقالت الشعراء في شئ كما قالوا في المشيب، ومابلغوا كنهه. قال الاصمعي: ولقد أجاد النمري حيث يقول " من البسيط ": ماكنت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع وقال أبو عمرو: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير. - وكان يشبه شعر ثلاثة من شعراء الإسلام بشعر ثلاثة من شعراء الجاهلية: الفرزدق بزهير وجرير بالأعشى والأخطل بالنابغة. قيل: فهلا شبهوا جريراً بأمرئ القيس؟ قال: هو بالأعشى أشبه، كانا بازيين يصيدان مابين الكركي إلى العندليب. وشبه شعر زهير بشعر الفرزدق لمتانتهما واعتسارهما، والأخطل بالنابغة لقرب مأخذهما وسهولتهما، وهما مع ذلك لو ضربت بهما الحائط ثلمته! - النابغة وزهير من مضر وامرؤ القيس من اليمن والأعشى من ربيعة. - وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ فقال: النابغة إذا رهب، وامرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب! أو قال: غضب. - وقال أبو عمرو في ترتيبهم: امرؤ القيس ثم النابغة ثم زهير ثم الأعشى. قال: ثم بعدهم جرير والفرزدق والأخطل. وقال: افتتح الشعر بأمرئ القيس وخُتم بذي الرمة. - وقال: أقسام الشعر تؤول إلى أربعة أركان: فمنه افتخار ومنه مديح ومنه هجاء ومنه نسيب، فأما الافتخار فيسبق الناس إليه جرير في قوله " من الوافر ": إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلَّهم غضابا وأما المديح فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من الوافر ": ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وأما الهجاء فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من الوافر ": فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولاكلابا وأما النسيب فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من البسيط ": إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا وكان يفضل الأخطل ويقول: لو أدرك من الجاهلية يوماً واحداً ما قدّمت عليه جاهلياً ولاإسلامياً. وقال: ماتساب اثنان إلا غلب ألأمُهما. وقال: عاجلوا الأضياف بالحاضر فإن الضيف متعلق القلب بالسرعة. - وقال يونس: قدم إلينا أبو عمرو طبق رطب، فأكلنا، فرفعت يدي، فقال: كل! فقلت: قد أحسبني. فضحك أبو عمرو وأعجبه ذلك وقال: هذا من قول الله عز وجلّ: (جزاء من ربك عطاء حسابا) ! أي كافياً. وقيل له: من أبدع الناس بيتا؟ فقال: الذي يقول " من الرمل ": لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم قيل: من أمدح الناس؟ قال: الذي يقول " من الطويل ": لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يُعدي فلا أنا منه ماأفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فبذرت ماعندي قيل: فمن أغزل الناس بيتاً؟ قال: الذي يقول " من الرمل ": ختم الحُبُّ لها في عنقي ... موضع الخاتم من أهل الذمم والكل لبشار بن برد. - وقال: أرثى بيت قيل قول عبدة في قيس بن عاصم " من الطويل ": فما كان قيس هُلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما وقال: أحسن المراثي ابتداء قول " أوس بن حجر في " فضالة بن كلدة العبسي " من المنسرح ": أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 إن الذي جمَّع السماحة ... والنجدة والبرَّ والتُقى جُمعا الألمعي الذي يظن لك ... الظن كأن قد رأى وقد سمعا قال الصولي: ولاأعرف ابتداء بعد هذه أحسن من أبتداء أبي تمام في مرثيته " من الطويل ": أصم بك الناعي وإن كان أسمعا وقال: ماقالت العرب بيتاً أبرع من قول أبي ذؤيب " من الكامل ": والنفس راغبةٌ إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع وقال: ماقالت أمدح من قول الشاعر " من الطويل ": تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله وأنشد أبو عمرو لجابر بن رالان وهو أحسن ماوصف به الماء " من الطويل ": أيا لهف نفسي كلما التحت لوحة ... على شربة من ماءٍ أحواض مأرب بقايا نطاف أودع الغيم صفوها ... مصقلة الأرجاء زرق المشارب ترقرق ماء الحسن فيهن والتوت ... عليهن أنفاس الرياح الغرائب قال: ولم أسمع في وصف الماء أحسن من قول امرئ القيس " من الطويل ": فلما استطابوا صب في الصحن نصفه ... وجئ بماءٍ غير طرقٍ ولاكدر بماء سحاب زلَّ عن متن صخرة ... إلى جوف أخرى طيب طعمه خصر وكان يستحسن قول الشاعر " من الطويل ": وتهجره إلا اختلاساً بلحظها ... وكم من محب رهبة الناس هاجر وقال الجرمي: كيف بأبي عمرو لو سمع قول ابن الدمينة " من الطويل ": بنفسي من لابد أني هاجره ... وأني في الميسور والعسر ذاكره ومن قد رماه الناس حتى أتقاهم ... ببغضي إلا ما تجن ضمائره وقال أبو عمرو: وأحسن ماقيل في الصبر " من الطويل ": تقول: أراه بعد عُروة لاهياً ... وذلك رزءٌ ماعلمت جليل فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكنَّ صبري يا أميم جميلُ قال الاصمعي: وأنا أقول: أحسن ماقيل في الصبر قول أبي ذؤيب " من الكامل ": وتجلدي للشامتين أريهم ... أني اريب الدهر لاأتضعضع حتى كأني للحوادث مروة ... بلوى المشقر كل يومٍ تقرع وسمع أبو عمرو رجلاً ينشد " من الخفيف ": أصبر النفس عند كل مهم ... إن في الصبر حيلة المحتال لاتضيقن في الأمور فقد ... يكشف غماؤها بغير احتيال ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال وكان قد خرج يريد الانتقال وهو مختف من الحجاج فقال: ماالأمر؟ قال: مات الحجاج. قال: فلم أدر بأيهما أنا أفرح بموت الحجاج أم بقوله فرجة؟ وكنا نقول: فرجة من الفرج وغيره. قال الأصمعي: بالفتح من الفرج وبالضم فُرجة الحائط. دخل أبو عمرو على سليمان بن علي، فسأله عن شئ، فصدقه، فلم يعجب ذلك سليمان، فخرج أبو عمرو متعجباً من كساد الصدق عندهم ونفاق الكذب، فقال " من المتقارب ": أنفت من الُّل عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قربوا إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون مني بأن يكذبوا قال أبو عبيدة: فكنا نرى أن الشعر له. - قال أبو عمرو: وسمعت هاتفاً يقول في بعض الأدوية " من الطويل ": وإن أمرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور وقال عبد الله بن عتمة الضبي يرثي بسطام بن قيس الشيباني لما قتلته ضبة، ويصف قسمته الغنائم في أصحابه إذا أصابها " من الطويل ": لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول قال أبو عمرو: المرباع أن يكون له ربع الغنيمة، والصفايا ما اصطفى لنفسه من الغنيمة، وحكمك يقول: لك أن تحكم في الغنيمة بما أحببت، والنشيطة ما انتشط دون الحي الذي يطلب فيه فهو له، إن شاء قسم لهم وإن شاء أخذ لنفسه، والفضول إذا قسم الغنائم على أصحابه ففضلت فضلة لا تنقسم مثل بعير وبعيرين وثلاثة لايقع فيها قسم فهي له. قال أبو عمرو: فجاء الله بالإسلام بالخمس فأبطل المغانم كلها. وقال: كان لبيد مجبراً والأعشى عدلياً، وأنشد قول لبيد " من الرمل ": من هداه سُبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وأنشد للأعشى " من المنسرح ": استأثر الله بالوفاء ... وبالعدل وولَّى الملامة الرجلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وقال أبو عمرو في قول جميل " من الطويل ": رمى الله في عيني بثينة بالقذي ... وفي الغر من انيابها بالقوادح قال: عيناها رقباؤها، وأنيابها ساداتها لاأسنانها التي في فيها، والقوادح الحجارة. وقال أبو عمرو: حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه في سنة عشر ومائة، وقدم جرير من اليمامة، فاجتمع إليه الناس، فما أنشدهم، ولاوجدوه كما عهدوه، فقلت له في ذلك، فقال: أطفأ موت الفرزدق والله جمرتي وأسال عبرتي وقرب مني منيتي. ثم شخص إلى اليمامة، فنعي لنا في شهر رمضان من تلك السنة. وسأل أبو عمرو رؤبة: مالسانح؟ قال: ماولاك ميامنه. قال: مالبارح؟ قال: مولاك مياسره، والذي يأتيك من أمامك النطيح، والذي يأتيك من خافك القعيد. وقال أبو عمرو: خرجت مع جرير إلى الشام نريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا من بساطه طرب جرير، فقال: ياأبا عمرو، أنشدني للمليحي! - يعني كثيرا - فأنشدته " من الطويل ": وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح توليت عني حين مالي حيلة ... وخليت ما خليت بين الجوانح فقال جرير: والله، لولا أني شيخ يقبح بمثلي النخير لنخرت نخرة يسمعها الإمام على سريره! وأتى أبو عمرو ذا الرمة فقال: أنشدني قصيدتك " من البسيط ": مابال عينك منها الماء ينسكب فأنشده إياها إلى قوله " من البسيط ": تصغي إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا مااستوى في غرزها تثب قال له أبو عمرو: قول عمك الراعي أحسن مما قلت وأثبت، وهي " من المتقارب ": تراها إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر ولا تعجل المرء قبل البرو ... ك وهي بركبته أبصر فقال ذو الرمة: الراعي وصف ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سوقة. - قال الصولي: يروى أن أعرابياً سمع ذا الرمة ينشد بيته هذا، فقال: سقط والله الرجل. - وما أحسن ماأخذ هذا الإصغاء أبو نواس، فقال يصف الناقة في مدحه الخصيب بن عبد الحميد " من السريع ": وكأنها مصغ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر وقال أبو عمرو: قال رؤبة: ما سمعت بأفخر من قول امرئ القيس " من الطويل ": فلو أ، ماأسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي ولاأنذل ولاأبعد من قوله " من الوافر ": لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها عصي فتملا بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غني شبع وري ومن شعر أبي عمرو " من البسيط ": هبت تلوم وما أحدثت من حدث ... إلا ولوعا تلافاه بتأنيب أن تحمليني على مالست راكبه ... فقد أردتن كيداً بابن يعقوب وقال أبو عمرو: ماكذبت في شيء قط غير أني زدت في شعر الأعشى " من البسيط ": واستنكرتني وما الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعل وقال أبو عبيدة: قرأت شعر الأعشى على بشار، فقال: هذا البيت كأنه ليس من نفس الأعشى، ولايورد خاطره مثله لأنه أنكر إنكارها ما لا يحب أن ينكر مثله من قولها. فلما قال أبو عمرو هذا علمت أن بشارا أعلم بالشعر وأشد تمييزاً لألفاظه ومعانيه. ومما يروى لأبي عمرو " من الطويل ": ترى المرء يبكيه الذي عاش بعده ... وموت الذي يبكي عليه قريب يحب الفتى المال الكثير وإنما ... لنفس الفتى مما يحب نصيب وأنكر أبو عمرو الوقوف على هاء (ماأغنى عني ماليه) . فقيل له: هي من لغة قربش، أما رأيت قول ابن قيس الرقيات " من الكامل ": إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعتني وقرعن مروتيه وجببتني جب السنام فلم ... يتركن ريشاً في مناكبيه قال الأصمعي: يلحن ابن قيس الرقيات في بيت منها في الندبة حين قال " من الكامل ": تبكيهم أسماء معولة ... وتقول ليلي: وارزيتيه كان ينبغي أن يقول: وارزيتاه! كما تقول: واعماه! واأخاه! وكان أبو عمرو إذا استراب من شئ تمثل بهذين البيتين " من الوافر ": كما قال الحمار ليهم رامٍ ... به عقب البعير وريش نسر حديدة صقيل في عود نبع ... لقد جمعت من شتى الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قال أبو عمرو: أصيب حجر مزبور بقنسرين بالعبرانية، فترجم فإذا فيه " من الوافر ": إذا جار الأمير وصاحباه ... وقاضي الأمريدهن في القضاء فويل ثم ويلُ ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء قال: وأصيب حجر مزبور بالطالقان، فترجم فإذا فيه " من البسيط ": اليأس عما بأيدي الناس نافلة ... والمال يعجز والأخلاق تتسع لاتجزعن على ما فات مطلبه ... هب قد جظعت فماذا ينفع الجزع قال: وأصيب على باب مدينة من مدائن سليمان بن داود عليهما السلام حجر مزبور فإذا فيه " من الهزج ": لاتصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه يقاس المرء بالمرء ... إذا ماهو ماشاه وللشيء من الشيء ... علامات وأشباه وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه قال: ووجد في زمن سليمان بن عبد الملك بدمشق حجر مكتوب فيه بالأعجمية، فترجم فإذا فيه: ياابن آدم، لو رأيت يسير مابقي من أجلك، لزهدت في طويل ماترجو من أملك، ولقصر بك عن حرصك وحيلك، وإنما تلقى ندمك، لو زلت بك قدمك، وفارقك أهلك وحشمك، وانصرف عنك القريب، وودعك الحبيب، فلا أنت في عملك زائد، ولا إلى أهلك عائد، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة! وقال: لقيت أعرابياً فقلت: من أين أنت؟ قال: من عمان. فقلت: صف لي أرضك! فقال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صلدح، ورجل أصبح. فقلت: فمالك؟ قال: النخل. قلت: فأين أنت عن الأبل؟ قال: إن النخل حملها غذاء، وسعفها ضياء، وجذعها بناء، وكربها صلاء، وليفها رشاء، وخوصها وعاء، وقرؤها إناء. - وقال رجل لأبي عمرو لم سميت الخيل خيلا وإنما هي الدواب؟ فلم يكن عنده جواب. فقال أعرابي حضرهم: سميت خيلاً لاختيالها. أبو عمرو عن أبيه عن أبن عباس أنه قال: إن لكل داخل دهشة فالقوه بالتحية. - وقال أبو عمرو: جنان الدنيا ثلاثة: نهر الأبلة وغوطة دمشق وسغد سمرقند؛ وحشوش الدنيا ثلاثة: هيت وأردبيل وعمان. قال محمد بن سلام: ذاكرت معاوية بن أبي عمرو ببيت جرير: من الوافر ": ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وقلت: أين هو من بيت الأخطل " من البسيط ": شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا فقال: بيت جرير أسهل وأيسر، وبيت الأخطل أجود وأحكم. - قال الصولي: بيت الأخطل عند من يفهم الشعر وينقده أحسن وأجود قسمة لأن قوله " شمس العداوة حتى يستقاد لهم " قسمة حسنة قائمة بنفسها، ثم قال " وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا " فقابل ورتب وقسَّم؛ وبيت جرير: " الستم خير من ركب المطايا " هو إلى ههنا كالكلام الفارغ، وإنما يستحسن " بطون راح ". ولد أبو عمرو في أول خلافة عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعب بن الزبير. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائة وهو ابن تسعين سنة. وكان يقول في مرضه الذي مات فيه: اللهم إن أنزلت بلاءً فأنزل صبرا، وإن وهبت عافية فهب شكرا! - وشخص أبو عمرو من البصرة يريد بيت المقدس، فمات بالكوفة. ودخل يونس بن حبيب على أولاد أبي عمرو معزياً لهم، فقال " من الوافر ": نعزيكم وأنفسنا بمن لا ... نرى شبها له أخرى الزمان والله لو قسم علم أبي عمرو رحمه الله وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهاداً، والله لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره ماهو عليه. فأجابه معاوية بن أبي عمرو - فإنه كان يلزم مجلسه ويأخذ عنه كثيراً - فقال مرتجلاً " من الرجز ": أنت أبونا بعده وعمنا ... وأنت بعد الله مرجو لنا قد كان قبل الموت وصاك بنا ... فأقض بإقبال علينا حقنا فليس نشكو ما بقيت فقدنا ... عشت لنا كهفاً وعشت بعدنا ولزموا مجلس يونس فما منهم إلا عالم. - وقال معاوية بن أبي عمرو: سألت بلال بن جرير عن لكع، فقال: هو الجحش الصغير في لغتنا، وإلى هذا كان يذهب الحسن البصري. وقعد الناس يبكون على أبي عمرو عند موته، فقال: لاتبكوا عليَّ، أنا مامت لكني قد فنيت! وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت كما قال الربيع بن ضبع الفزاري " من المنسرح ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أصبحت لاأحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا 8 - ومن أخبار سلمة بن عياش العامري هو مولى بني عامر بن لؤي، وهو من غلمان ابن أبي إسحاق الحضرمي، ولد سنة ثمانين ومات وقد قارب السبعين. قال ولده عبد الله بن سلمة بن عياش: بينا أنا أسير في طرق إصبهان إذا أنا برجل عليه فرو جالس إلى العين في المنزل، فقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من أهل البصرة. فقال: أنشدني لأبي نواسكم شيئاً! فإنه لو كشف استه كان أحسن من قوله " من المنسرح ": وجه جنان سراء بستان ... جمع فيه من كل ألوان فأنشدته له " من الكامل ": ممتايه بجماله صلف ... لايستطاع كلامه تيها للحسن في وجناته بدع ... ما إن يمل الدرس قاريها لو كانت الأشياء تعقله ... أجللته إجلال باريها لو تستطيع الأرض لأنقبضت ... حتى يصير جميعه فيها قال: أنشدني غير هذا! فأنشدته " من البسيط ": إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها حتى تهم بإقلاع فيمنعها ... خوف التسخط من عصيان منشيها قال: أحسن وأجاد! قلت: من أنت؟ قال: أنا كلثوم بن عمرو العتابي. قلت: ألا تنشدني من شعرك؟ فأنشدني " من الكامل ": طمع النفوس مطية الفقر ... وليأسها أدنى إلى الوفر اصبر إذا بدهتك نازلة ... ماعال منقطع إلى الصبر الصبر أنبل ما أعتصمت به ... ولنعم حشو جوانح الصدر 9 - ومن أخبار مسلمة النحوي هو أبو محارب مسلمة بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري، وهو ابن أخت عبد الله بن أبي أسحاق الحضرمي، وكان مؤدباً لجعفر بن أبي جعفر المنصور، ومضى معه إلى الموصل، وأقام بها حتى مات، فصار علم أهل الموصل من قبله. - قال مسلمة: إن زياداً أول من أتخذ ديوان زمام وخاتما، امتثالا لما كانت الفرس تفعله. - وقال: قال كسرى: ما قرأت كتاب رجلٍ إلا عرفت عقله. 10 - ومن أخبار يزيد بن أبي سعيد النحوي قال الجاحظ: كان من الفقهاء المذكورين. وقال يحيى بن معين: هو خراساني من أهل مرو وهو ثقة في الحديث. روى عن عكرمة عن أبن عباس أن رسول الله صلىة الله عليه وسلم بعث سرية، فأسروا قوما ولقوا رجلا، فقال: إني لست منهم، أنا عشقت امرأة منهم أدماء قنواء جسيمة. فكلمها ثم أقبل إلينا، فضربنا عنقه. فجاءت المرأة فوقعت عليه، فسمعنا شهقة فنظرنا فإذا هي ميتة. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بحديثهما، فقال: أما فيكم رجل رحيم؟! 11 - ومن أخبار أبي بكر الهذلي واسمه سلمان أو سلم، وقيل: سليمان بن عبد الله، وأمه بنت حميد بن عبد الرحمان الحميري. وقال ابن أبي خيثمة: اسمه سلمي بن عبد الله، وكذا قال يحيى بن معين. قال أبو بكر: قال لي الزهري: أيعجبك الحديث؟ قلت: نعم. قال: أما أنه يعجب ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم! وقال: قال لي الشعبي: أتحب الشعر؟ قلت: نعم. قال: إنما يحبه فحول الرجال ويكرهه مؤنثوهم. - وروى أبو بكر عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعر الجاهلية إلا القصيدة الحائية لأمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وقصيدة الأعشى في ذكر عامر وعلقمة، فإنه نهى عن إنشادهما. وقال أبو بكر: كنا مع الحسن في وليمة ومعنا محمد بن سيرين، فجاؤا بجام فضة - أو قال: صحفة فضة - فيها خبيص. فقال محمد: إليك إليك! فقال الحسن: هلم! فأخذ الصحفة فقلب ما فيها من الخبيص على رغيف، ثم رفع الصحفة وقال: كلوا! - قال: وكنا جلوساً عند الحسن البصري إذ جاء الفرزدق، فتخطى حتى جلس إلى جنبه، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد، الرجل يقول: لاوالله وبلى والله! لايعقد اليمين؟! فقال الفرزدق: لاشئ! فقال الحسن: وما علمك بذلك؟ قال: أوما سمعت ما قلت؟ قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت " من الطويل ": ولست بمأخوذ بشئ تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 قال: فسكت الحسن. ثم لم يلبث أن جاء رجل فقال: إنما نكون في هذه المغازي فنصيب المرأة ذات الزوج، أفيحل غشيانها ولم يطلقها زوجها؟ فقال: الفرزدق: نعم! أوما سمعت ماقلت؟ قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت " من الطويل ": وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالا لمن يبني بها لم تطلق قال: فسكت الحسن. قال: قال لي ابن سيرين: أيُّ بيت قالت العرب أنسب؟ فقلت: لاأدري. فقال: قول يزيد بن معاوية " من الطويل ": إذا سرت ميلاً أو تغيبت ساعة ... دعتني دواعي الحب من آل خالد قال: فذكرت ذلك لمسعر بن كدام، فقال: بل قول كثير " من الطويل ": وما أنصفت أما النساء فبغضت ... إلينا وأما بالنوال فضنت قال: ودخلت على محمد بن سيرين، وقد خدرت رجلاه، وقد نقعهما في الماء وهو يتمثل بقول قيس بن ذريح " من الطويل ": إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لألقيت نفسي نحوها فقضيت فقلت: يا أبا بكر، أتنشد مثلها؟ فقال: يالكع، إنما هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح! وقال: قال لي السفاح: بأي شيء بلغ حسنكم مابلغ؟ قال: قلت: ياأمير المؤمنين، جمع كتاب الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة؛ فلم يجاوز سورة إلى غيرها حتى يعرف تأويلها وفيما أنزلت، ولم يقلب درهماً في تجارة، ولم يل لسلطان إمارة، ولم يأمر بشء حتى يدعه. فقال: بهذا بلغ الشيخ. وقال أبو بكر الهذلي: اجتمعنا عند أبي لعباس السفاح، ولم يكن من أهل البصرة غيري، وكان من أهل الكوفة محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى والحجاج بن أرطاة، وحضر الحسن بن زيد. فذكروا أهل البصرة وأهل الكوفة، فقال ابن أبي ليلى: نحن والله، ياأمير المؤمنين. أكثر منهم خراجاًوأوسع أنهاراً. فقال السفاح: ذاك إن رضي أبو بكر. قال: قلت: معاذ الله! وكيف يكون ذلك ولنا السند والهند، وكرمان ومكران، والقرض والفرض، والديار وسعة الانهار؟! فقال ابن أبي ليلى: نحن أكثر منهم فقها، وأغزر علماً، مقر بذلك أهل البصرة لأهل الكوفة، كما أقرّ أهل مكة لأهل المدينة. فقال أبو بكر: هم أكثر أنبياء وأقل أتقياء وأعظم كبرياء، منهم المغيرة الخبيث السريرة وبيان وأبو بيان، وتنبت فيهم الأنبياء، والله ما أتانا إلا نبي واحد صلى الله عليه وسلم، والله ما رأيت بلداً قط أكثر نبياً مصلوباً ولا رأساً مضروباً من أهل الكوفة. فقال الحسن بن زيد: أنتم أصحاب عليّ يوم سرتم إليه لتقتلوه. فقال أبو بكر: نحن والله أصحاب عليّ يوم سرنا إليه لنقتله، فكف الله أيدينا وشوكتنا عنه وعن غيره، وسار إليه أهل الكوفة فقتلوه، فأينا أعظم ذنباً؟! فقال الحجاج بت أرطأة: لقد أخبرني بعض أشياخنا أن أهل البصرة كانوا يومئذ ثلاثين ألفا، فلما ألتقت حلقتا البطان وتناهد النهدان وأخذت الرجال أقرانها فما كانوا إلا كرماد في يوم عاصف. فقال أبو بكر: كيف يكون ذلك وخرجت ربيعة سامعة مطيعة تعين علياً، وخرج الأحنف بن قيس في سعد والرباب وهم السنام الأعظم والجمهور الأكبر يعين علياً؟! ولكن سل هؤلاء كم كان عدتنا يوم استعانوا بنا! فلما التقت حلقتا البطان وتناهد النهدان وأخذت الرجال أقرانها شدخنا منهم في صعيد واحد سبعة آلاف نقتلهم قتل الحمنانن! - يعني القردان الصغار. فقال أبن ابي ليلى: نحن أشرف منهم أشرافا، وأذكر منهم أسلافا، مقر بذلك أبو بكر! فقلت: معاذ الله! هل كان في تميم الكوفة مثل الأحنف ابن قيس في تميم البصرة يقول له الشاعر " من الوافر ": إذا الأبصار أبصرت ابن قيس ... ظللن مهابة منه خشوعا وهل كان في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم في قيس البصرة الذي يقول فيه الشاعر " من الخفيف ": كل عام يحوي قتيبة نهبا ... ويزيد الأموال مالا جديدا دوخ السغد بالقنابل حتى ... ترك السغد بالعراء قعودا باهلي قد عصب التاج حتى ... شبن منه مفارق كن سودا وهل كان في أزد الكوفة مثل المهلب في أزد البصرة الذي يقول له الشاعر " من الطويل ": إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... أمرنا أبا غسان يوماً فعسكرا وهل كان في بني قيس الكوفة مثل الحكم بن المنذر بن الجارود في قيس البصرة الذي يقول له الشاعر " من الرجز "؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أنت الجواد بن الجواد المحمود ... سرادق المجد عليك ممدود فانقطعوا كلهم، وضحك السفاح حتى ضرب برجله وقال: والله ما رأيت مثل هذه الغلبة قط. ولما توفيت أمرأة الهذلي وبلغ ذلك المنصور فأمر الربيع الحاجب أن يأتيه ويعزيه عنها، ويقول له: إن أمير المؤمنين موجه الليل بجارية نفيسة لها أدب وظرف وهيئة ومعرفة تسليك عن امرأتك. فلم يزل أبو بكر يتوقع ذلك فلم يره، وأنسيه المنصور، ثم حج وأبو بكر معه، فقال وهو بالمدينة: إني أحب أن أطوف الليلة في المدينة، فانظروا لي رجلا يعرف منازل أهل المدينة ومساكنها ورباعها وطرقها وأخبارها، يكون معي فيعرفني ذلط! فقالوا له: ما تعلم أحداً أعلم بذلك من أبي بكر. فأمر بالحضور، وخرج المنصور على حمار يطوف معه في سكك المدينة، ويسأله عن ربع ربع وسكة سكة، فيخبره لمن هو ولمن كان، حتى مر ببيت عاتكة، فسأل عنه، فقال: ياأمير المؤمنين، هذه بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص " من الكامل ": يابيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل وأنشده القصيدة حتى بلغ قوله: وأراك تفعل ما تقول ومنهم ... مذق الحديث يقول ما لايفعل فقال له المنصور: ويحك ياأبا بكر وفي الدنيا أحد يعد ولاينجز ويقول ولايفعا! قال: نعم، ياأمير المؤمنين، إذا نسي. قال: فضحك المنصور وقال: صدقت! أذكرتني ماكنت وعدتك، لاجرم والله لاتصبح حتى يأتيك ذلك! قال: فلم يصبح حتى وجه بجارية نفيسة بفرشها وأثاثها ووصلنا بمال. وقال الهذلي: طلبت اإذن على المنصور، فوعدت بيوم أدخل عليه فيه، فوافيت ذلك اليوم، فوجدت أبا حنيفة وعمرو بن عبيد قد سبقاني، فقعدنا قليلاً، ثم خرج الآذان فأذن، وكنت هيأت كلاماً ألقى به أبا جعفر المنصور، وهيأ أبو حنيفة مثل ذلك. فلما رأيناه أرتج علينا وكان جهدنا أن أقمنا التسليم، فأومأ برأسه إلينا، فجلست أنا وأبو حنيفة في شق، وجلس عمرو بن عبيد في شق. فأقبل أبو جعفر ينكت في الأرض وقد طأطأ رأسه، فرفع عمرو رأسه فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم، والفَجر، وَليالٍ عشرٍ، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العتناد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد) ، ياأمير المؤمنين، بالمرصاد لمن عمل مثل عملهم أن ينزل به مثل مانزل بهم، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإن وراءك نيرانا تأجج من الجور، ما يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فقال: ياأبا عثمان، إنا لنكتب إليهم في الطوامير فآمرهم بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع؟ فقال: ياأمير المؤمنين، مثل أذن فأرة يجزيك من الطوامير، الله تكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا تنفذ، إنك والله لو لم ترض من عمالك إلا بالعدل إذن لتقرب إليك من لانية له فيه! ثم ذكر سليمان بن مجالد ومعارضته لعمرو. فقال له عمرو: ياابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته! ياأمير المؤمنين، إن هؤلاء اتخذوك سلماً لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإنك ميت وحدك ومبعوث وحدك ومحاسب وحدك، لن يغني عنك هؤلاء من الله شيئاً! فأطرق أبو جعفر يفكر في كلامه، ثم دعا خادماً فسار بشئ، فأتاه بمنديل فيه دنانير، فقال: ياأبا عثمان، بلغني ما الناس فيه من الشدة، فاصرف هذه حيث شئت! قال: ماكنت لآخذها! قال: لتأخذنها! قال: لاآخذها! قال: والله لتأخذنها! قال: والله لاآخذها! فقال له المهدي: أيحلف أمير المؤمنين لتأخذنها وتحلف أنت لاتأخذه؟! فقال عمرو: ياأبن أخي، أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني! فقال أبو جعفر للمهدي: اسكت فإن عمك بنا واثق. قال: فسكت وقعد قليلاً، وقمنا، فقلت لأبي حنيفة عند خروجنا: عدّ أنا نسينا ما أردنا من الكلام، فكيف ذهب عنا أن نجيء بما جاءؤ به عمرو من كتاب الله؟! أبو بكر الهذلي - اسمه سلمي بن عبد الله بن سلمي - مات في سنة تسع وخمسين ومائة. 12 - ومن أخبار عيسى بن عمر الثقفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ومن مولى بني مخزوم، كثير السماع من العرب كثير الرواية عالماً بالنحو، أخذ عن أبن أبي إسحاق. وقال القحذمي: عيسى بن عمر مولى لخالد بن الوليد. وأنكر وديعة فأتي به يوسف بن عمر، فأمر بضربه، فاعترف وقال: أيها الأمير، إنما كانت أثياباً في أسيفاط قبضها عشاروك! فوكل به حتى أخذها منه. تؤفي عيسى بن عمر رحمه الله سنة تسع وأربعين، وقيل: خمسين ومائة. وسئل الأصمعي عن معنى قول ذي الرمة " من الطويل ": يقاربن حتى يطمع اليافع الصبي ... وتشرع أحشاء القلوب الحوائم حديث كطعم الشهد حلو صدوره ... وأعجازه الخطبان دون المحارم فقال: سألت عيسى بن عمر عن ذلك، فقال: هنّ لعفتهن شهد إذا أمن الحرام، وخطبان إذا خشينه، والخطبان خضر الحنظل. فعرضت هذا على خلف، فقال: أراد أن صدور حديثه حلوة لشغف اللقاء والتلسيم، وأعجازه مرة لحين الفراق والتوديع، وما في الحالتين تعرض لمحرم. قال الصولي: فأخذه أبو العميثل فقال " من الطويل ": أتيت ابنة السهمي زينب عن عفر ... ونحن حرام مسي عاشرة العشر فكلمتها ثنتين كالثلج منهما ... وأخرى على لوح أحر من الجمر فسئل ثعلب وأنا حاضر عن معنى هذين البيتين، فقال: الأولى الباردة كلام السلام، والأخرى الحارة كلام الوداع، فظننت أن أبا العميثل لم يسبق إلى هذا المعنى، ولاسبق ثعلب إلى تفسيره حتى سمعت خبر الأصمعي. 13 - ومن أخبار أبي الخطاب الأخفش اسمه عبد الحميد مولى بني قيس بن ثعلبة، وهو من أصحاب عبد الله بن أبي إسحاق هو ويونس وعيسى، وهو أعلم الناس. وقيل: كان هو وخلف الأحمر يأخذان عن أبي عمرو بن العلاء. وكان يعرف بالأخفش الكبير، وكان لايدع الإعراب. فدخل عليه لصوص فضربوه بالسيوف، فجعل يقول: قد كم الآن قد كم الآن. 14 - ومن أخبار حماد بن سلمة هو أبو سلمة بن أبي صخرة بن دينار مولى بني تميم، وقيل: مولى جعدة ابن هبيرة، وهو ابن أخت حميد الطويل، وكان فقيهاً حافظاً فاضلاً عالماً بالقرآن كثير الحديث إلا أنه ربما حدث بالمناكير، وكان شاعراً مجيداً. قال الأصمعي: وصفني شعبة لحماد بن سلمة فقال: جئني به! فذهبت معه إليه، فقال لي: كيف تنشد بيت الحطيئة " من الطويل ": أولئك قوم إن بنوا أحسنوا ماذا؟ قلت: إلينا. فلوى حماد شفتيه، فقلت له: فكيف تنشد أنت؟ فقال: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلبنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا قال الأصمعي: فما رأيت حمادا بعد ذلك إلا هبته! قال يحيى بن معين: حدثنا شيخ قال: كنت عند حماد بن سلمة، فجاءه كتاب أبي حرة يعاتبه في هذه الأحاديث التي حدث بها حماد - يعني في الرؤية - ويأمره بالرجوع عنها. فقال حماد: لاأفعل، سمعتها من قوم ثقات فأنا أحدث بها كما سمعت! - قال يحيى: وكان حماد من خيار المسلمين وأهل السنة، وهو ثقة مأمون عندنا، والأحاديث التي حدث بها في الرؤية نؤمن بها، ومن كذب بها كان عندنا مبتدعا، ولانفسرها نحن برأينا. مات حماد رحمه الله يوم الثلاثاء في ذي الحجة سنة سبع وستين ومائة، وصلى عليه إسحاق بن محمد. - قال بعضهم: رأيت حماد بن سلمة في النوم، فقلت: مافعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني وأسكنني الفردوس. قلت: بماذا؟ قال: بقولي: ياذا الطول والإكرام، ياكهيعص، لأسكني الفردوس! فأسكنني الفردوس. 15 - ومن أخبار يونس بن حبيب النحوي هو أبو عبد الرحمان مولى بني ضبة، وقيل: مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة من كنانة، وقيل: مولى بلال بن هرمي من بني ضبيعة بن بجالة، قيل: إنه من أهل جبل. ولد يونس سنة تسعين، ومات سنة أثنتين وثمانين ومائة وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، وقيل: مات وله مائة وسنتان. ومات هو وابو يوسف القاضي وعلي بن يقطين ومروان بن أبي حفصة الشاعر في يوم واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقال يونس: اشتهي أن أعاتب في الجنة ثلاثة: آدم عليه السلام فأقول: أبي رضي الله عنك، أدخلك الله الجنة وأباحها لك كلها إلا شجرة واحدة، فأكلتها وأشقيتنا وأخرجتنا من الجنة! ويوسف عليه السلام فأقول: رضي الله عنك، تركت أباك وبينك وبينه مسيرة كذا وكذا، فتركته كذا وكذا من الدهر لم تكتب إليه كتاباً ولم ترسل إليه رسولاً حتى ذهب بصره من الحزن! وطلحة والزبير فأقول: رضي الله عنكما، بايعتما علياً بالحجاز ثم خلعتماه وجئتما تقاتلانه من غير حدث أحدث. سأل رجلُ عن بني المحبل: من هم من العرب؟ فلم يعرف ذلك أحد، فلم يترك بالحجاز والشأم والكوفة أحداً إلا سأله. فأتى البصرة فلم يعرفهم أحد، فقيل له: إيت يونس بن حبيب! فأتاه فسأله، فضحك فقال: هؤلاء قوم من كندة عرفوا بأبيهم، وكان من قضيته أنه قال " من الوافر ": أكرم جارتي وأصون عرضي ... وأفرغ في مزادتها سقائي فأتركها وإن كانت عقيما ... كناز البطن من مذخور مائي فقيل له: المحبل وتجنب الناس جواره. ومن حكمه ومستحسن ألفاظه، كان يقول: إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر من تأليف الكلام ونظمه ما لايشعر له غيره؛ الحمية طابع الصحة؛ الكبر وكل عيب، العزل وكلّ ذنب، الولاية وكل مدح، الشباب وكل صحة، اليسار وكل فضيلة، الفقر وكل لؤم؛ أعلم الناس بالزمان من لم يتعجب من أحداثه؛ ليس لمعجب رأي ولا لمتكبر صديق. - وكان يشرب الصبر كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إنه يصفي البشرة ويذهب بالبثور وينقي الأعصاب. - وكان يقول: حسن الوجه يجذب أعنة الأبصار؛ ويقول: ليس لناقص البيان بهاء ولو حك بأنفه عنان السماء. وسمع يونس رجلاً ينشد " من البسيط ": استودع العلم قرطاساً فضيعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس فقال: قاتله الله ماأشد صبابته بالعلم وأحسن صيانته للعلم، ثم قال: مالك من بدنك وحفظك من روحك: فحفظ علمك حفظ روحك وحفظ مالك حفظ بدنك. وأخذ محمد بن بشير هذا المعنى فقال " من المنسرح ": قل لبغاة الآداب: ماوقعت ... منها إليكم فلا تضيعونها وضمنوا علمها الدفاتر ... والحبر بحسن الكتاب أوعوها وإن دعتكم إلى القراطيس ... والأنقاس نفس فلا تطيعوها وقال يونس: اختلفنا في أن الشعر ينقض الوضوء أم لا، فرأيت محمد ابن سبرين قد دخل المسجد، فبعث إليه رجلا فسأله، فأنشأ يقول " من الطويل ": ألا تلكم عرس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت رمح استه لاستقرت ثم استقبل القبلة فقال: الله أكبر. استأذن أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لرجال قبله ثم أذن له، فقال: يارسول الله، كدت تأذن لحجارة الجهلتين قبلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما مثلك في ذلك، ياأبا سفيان، ما قال الأول: كل الصيد في جوف الفرلء. - قال خلاد: فحدثت يونس، فقال: والله لقد جود له رسول الله صلى الله عليه وسلم! أتدري ماهذا؟ خرج رجال فتصيدوا، فاصطاد رجل منهم حمار وحش، واصطاد الآخرون من بين ظبي وأرنب، فاجتمعت نساؤهم، فجعلت المرأة تقول: اصطاد زوجي كذا، فيقول صاحب الحمار: كل الصيد في جوف الفراء. وسئل يونس عن قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك) وقد أغرق الله فرعون ولم ينجه، فقال: يعني نلقيك بنجوة البحر، وهي شاطئه وكذلك نجوة الوادي شفير الوادي، وتمثل بقول الشاعر " من البسيط ": دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يمسكه من قام بالراح فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح يقول: المستكن كمن يمشي بالفضاء. قال أبو حنيفة ليونس: ياأبا عبد الرحمان، علمت أن الزمان ليس من الفاكهة؟ قال: لم؟ قال: لقول الله عز وجل: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) . فقال يونس: فجبريل وميكائيل إذا ليسا من الملائكة لقوله تعالى: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل) . قال: فكيف ذاك؟ قال: إن الله عز وجل إذا خص الشيء بالفضل أدخله في الجملة ثم أبانه بالاستثناء وأفرد ذكره. وقال يونس: من أمثال العرب: المرء يعجز لا المحالة، يريد أن العجز يأتي من قبله. فأما الحيلة فواسعة غير ضيقة، وأنشد " من الكامل ": أعصيت أمر ذوي النهى ... وأطعت أمر ذوي الجهاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 واحتلت حين عصيتني ... والمرء يعجز لا المحاله وسئل عن مثل: مجير أم عامر، فقال: خرج فتيان من العرب إلى الصيد فأثاروا ضبعا، فانفلتت من أيديهم ودخلت خباء بعض الأعراب، فخرج إليهم فقال: والله لاتصلون إليها وقد استجارت بي! فخلوا بينه وبينها. فلما أنصرفوا عمد إلى خبز ةلبن وسمن فثرده وقربه إليها، فأكرلت حتى شبعت، وتمددت في جانب الخباء، وغلب الأعرابي النوم، فلما استثقل وثبت عليه، فقرضت حلقه وبقرت بطنه وأكلت حشوته وخرجت تسعى، وجاء أخُ للأعرابي، فلما نظر إليها أنشد يقول " من الطويل ": ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاق الذي لاقى مجير أم عامر أعد لها لما أستجارت ببيته ... قراها من ألبان اللقاح البهازر فأشبعها حتى إذا ما تمطرت ... فرته بأنياب لها وأظافر فقل لبني المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروف إلى غير شاكر وقال: لم يقل لبيد في الإسلام إلا بيتاً واحداً وهو " من البسيط ": الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا وقال: إن علماء البصرة كانوا يقدمون أمرء القيس، وإن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرا والنابغة. - وكان يفضل الفرزدق على جرير، وكان يقول: ماتهاجى شاعران قط في جاهلية ولا إسلام إلا غلب أحدهما على صاحبه غيرهما، فإنهما تهاجيا نحوا من ثلاثين سنة، فلم يغلب أحد منهما على صاحبه. - وقال: لو تمنيت أن أقول الشعر لما تمنيت أن أقول إلا مثل قول عدي بن زيد " من الخفيف ": أيها الشامت المعير بالمو ... ت أأنت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... أم أنت جاهل مغرور من رأيت المنون عزين أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير وقال: أشعر بيت قالت العرب قول دريد بن الصمة في مرثيته أخاه عبد الله " من الطويل ":س صبا ماصبا حتى إذا شاب رأسه ... وأحدث حلماً قال للباطل: أبعد قليل التشكي للمصيبات حافظ ... من اليوم أدبار الأحاديث في غدِ وقال: أتينا خالد بن صفوان نعزيه في ابنه، فانتهينا إليه وهو يقول " من الطويل ": وهون ما ألقى من الوجد أنني ... أجاوره في داره اليوم أو غدا قال الاصمعي: قلت ليونس: ما - أراد ذو الرمة بقوله " من الطويل ": وليلٍ كجلباب العروس ادَّرعتهُ ... بأربعةٍ والشخص في العين واحدُ فقال يونس: لاأحسب الجنَّ تقع على ماوقع عليه وفطن له، قوله: " وليلٍ كجلباب العروس " يقول: ليلٌ كقميص العروس في الطول لأن العروس تجرُ أذيالها، " ادرعته ": لبسته، " بأربعة ": يعني نفسه وناقته وسيفه وظله يعني خيمته، " والشخص في العين واحد " يقول: والإنسان واحدُ. ودخل المهلَّبُ على الحجاج بعد فراغه من أمر الخوارج، فأجلسه إلى جانبه وقال: أنت والله كما قال لقيط الإيادي " من البسيط ": فقلدوا أمركم، لله درُّكم ... ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا لامترفاً إن رخاء العيش ساعده ... وليس إن عضَّ مكروه به خشعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقال: كنت في حلقة أبي عمرو بن العلاء، فجاءه شبيل بن عزرة الضُبَعّيُّ، فتزحزح له أبو عمرو ورفعه، فقال لأبي عمرو: ألا تعجبون لرؤبتكم هذا؟! سألته مم اشتقاق اسمه فلم يعرفه! قال يونس: فما تمالكت أن قمت فجلست بين يديه، وقلت له: لعلك تظن أن معَّد بن عدنان كان أفصح من رؤبة! فأنا غلام رؤبة، فما الروبة والروبة والروبة والروبة والرؤبة إحداهن مهموز! فقام مغضباً، فقال لي أبو عمرو: ماأردت بهذا؟ رجلٌ شريف أتانا في مجلسنا، فسؤته - أو قال: فأَذَّيته وأبسته -! قال: هو مثل التهكم! فقلت: والله ما تمالكت إن ذكر رؤبة أن قلت ما قلت. ثمّ فسّر لنا يونس ذلك فقال: الروُبة الحاجة، يقال: قمتُ بروبة أهلي، أي بحاجتهم؛ والروبة: ما يلقى في اللبن الحليب من اللبن الحامض حتى يروب؛ والروبة: جمام الفحل، يقال: أعرني روبة فحلك؛ والروبة: القطعة من الليل؛ والرؤبة القطعة من الخشب يشعب بها القعب ويرقع بها العُسُّ وما أشبه ذلك، يقال: رأبت الشئ أرابه رأباً إذا أصلحته، والعمل الرأب وكلّ شئ أصلحته فقد رأبته، ومنه اشتقاق اسم رئاب، ومنه قولهم: اللهم أرأب ثأينا، أي أصلح فسادنا! ومن ذلك اشتقاق اسم رؤبة إن كان مهموزاً. - والروبة: من النوم ومنه " من المقارب ": فأما تميم تميمُ بنُ مُرٍ ... فألفاهمُ القومُ روبى نياما ويقال: مازال على روبة واحدة، أي طريقة واحدة؛ قال: روبة البحر: وسطه ومعظمه، والمهموز منه: رأبت، من القطعة التي يرأب بها القَدَحُ. - قال: وقلت لرؤبة: مامعنى قوله عليه السلام: لاعدوى ولاطيرة ولا صفر، مالصفر؟ قال: داءٌ يأخذ الإبل، يعدي فيهم يخافون إعداءه. وقال يونس: إني جالس إذ أقبلت جارية من أحسن الناس، ثم طلع فتىً في نحو هيئتها؛ فوقف علينا وسلم ودهش وخفي عليه مسلكها، فقلت له: أخذت ههنا! فاتبعها وهو يقول " من الطويل ": إذا سلكت قصد السبيل سلكته ... وتعدلُ أحياناً بنا فنحيد ويروى " فنميل "، ويروى: " وإن هي جارت جرت حيث تجور ". وقال الشعبي: وجد في خزائن عادٍ سهم ريشه ريش نسر مكتوب فيه " من الطويل ": فليس إلى أكناف صبح بذي اللوى ... لوى الرمل فأعذرن النفوس معاد بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذا الناس ناس والبلاد بلاد وقال يونس: ماصحَ عندنا ولابلغنا أنّ علياً قال شعرا إلا هذين البيتين " من البسيط ": تلكم قريش تمنتني لتقتلني ... فلا وربك مابروا وما ظفروا فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات روقتين لايعفو لها أثر قال ثعلب: يقول أترك فيهم آثاراً لاتذهب. وقال: الظل من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، والفيء من زوال الشمس إلى الليل، وأنشد لابن سلاّم " من الطويل ": لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل وأنشد " من الطويل ": فلا ظلٌ من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تطيق قيل ليونس: قد بلغت سن الشيخوخة، فقال: هذا الذي كنت أتمنى. أخذ هذا المعنى محمد بن عبد الملك الزيات فقال " من البسيط ": وعائبٍ عابني بشيبٍ ... لم يعد لما ألمَّ وقته فقلت: إذ عابني بشيبي ... يا عائب الشيب لا بلغته 16 - ومن أخبار أبي عبد الرحمان الخليل بن أحمد الفراهيدي لم نجد في نسبه زيادة على أسم أبيه، ويقول البصريون: لايعرف أحدُ سميّ بأحمد بعد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أبيه، وهو من الأزد من حي يقال لهم الفراهيد. وسئل: من أي العرب أنت؟ فقال: فرهيدي. ثم سئل، فقال: فرهودي. قال أبو العباس: قوله " فراهيدي " أنتسب إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وكان من أنفسهم صحيح النسب معروف الأهل؛ وقوله " فرهودي " انتسب إلى واحد الفراهيد وهو فوهود، والفراهيد صغار الغنم. - وكان من أهل عمان من قرية من قراها. ثم أنتقل إلى البصرة. - وكان من أزهد الناس وأعلاهم نفساً؛ وكان يعيش من بستان له بالخريبة خلفه له أبوه. - وكان يحج سنة ويغزو سنة إلى أن مات. وكان يقول: أشتهي أن أكون عند الله من أرفع الناس وعند الناس من أوسط الناس وعند نفسي من أسفل الناس. وكان يدعو بذلك. - ومر بقوم يتكلمون فيه فقال " من الطويل ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن كثرت منه عليَّ الجرائم وما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وأتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا ... تفضلت إن الفضل بالعز حاكم وأما الذي دوني فإن قال: صنت عن ... إجابته عرضي وإن لام لائم وقال: قدمت من عمان ورأيي رأي الصفرية، فجلست إلى أيوب بن أبي تميمة السختياني، فسمعته يقول: إذا أردت أن تعلم علم أستاذك فجالس غيره! فظننت أنه يعنيني، فلزمته فنفعني الله به. قال يونس: قلت للخليل: مابال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنهم بنو أم واحدة وعليّ بن أبي طالب عليه السلام كأنه ابن علة؟ فقال: من أين لك هذا السؤال؟ قلت: أريد أن تجيبني! فقال: على أن تكتم عليَّ مادمت حياً! قلت: أجل! فقال: تقدمهم إسلاماً وبذهم شرفاً وفاقهم علماً ورجحهم حلماً وكثرهم زهداً وأنجدهم شجاعة، فحسدوه، والناس إلى أمثالهم وأشكالهم أميل منهم إلى من فاقهم وكثرهم ورجحهم. وقال ابن سلام: لم يكن في العرب أذكى من الخليل بعد الصحابة ولا في العجم أذكى من أبن المقفع ولا اجمع من حماد بن زيد. - وقد ضربت الشعراء الأمثال في أشعارهم بالخليل، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي يهجو الأصمعي " من الوافر ": أليس من العجائب أنّ قرداً ... أصيمع باهلياً يستطيل ويزعم أنه قد كان يفتي ... أبا عمرو ويسأله الخليل وقال خالد النجار يهجو التوزي " من الكامل ": يا من يزيد تمقتاً ... وتباغضاً في كل لحظه والله لو كنت الخليل ... لمار روينا عنك لفظة وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال: رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه. وقيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟ قال: رأيت رجلاً علمه اكثر من عقله. قال المغيرة بن محمد: صدقاً، ادى عقل الخليل إلى أن مات ازهد الناس، وجهل أبن المقفع إلى ان قتل. وذلك أنه كتب كتاباً لعبد الله بن علي إلى المنصور، فقال فيه ما كان مستغنياً أن يقوله، كتب: ومتى غدر أمير المؤنين بعمه عبد الله بن علي فنساؤه طوالق ودوابه حبيس وعبيده أحرار والمسلمون منه في حل من بيعته. فأشتد ذلك على المنصور جداً وخاصة أمر البيعة، فكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي - وهو امير البصرة من قبله - أن اقتل ابن المقفع! فقتله. وقال الخليل يمدح كتابي عيسى بن عمر في النحو " من الرمل " بطل النحو الذي جمعتم ... غير ما احدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع ... وهما للناس شمس وقمر وعن عيسى اخذ الخليل النحو، وأخذ عن الخليل جماعة لم يكن فيهم مثل سيبويه، وهو اعلم الناس بعد الخليل، فألف كتابه الذي سماه الناس قرآن النحو، وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل. قال النضر بن شميل: كان اصحاب الشعر يمرون بالخليل فيتكلمون النحو، فقال الخليل: لا بد لهم من اصل. فوضع العروض، فخلا في بيت ووضع بين يديه طستاً، فجعل يقرعه بعود ويقول: فأعلن مستفعلن فعولن. قال: فسمعه أخوه فخرج الى المسجد فقال: إن اخي قد أصابه جنون! فأدخلهم على الخليل وهو يضرب الطست، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، مال؟ اصابك شئ؟ أتحب أن نعالجك؟ قال: وما اك؟ قالوا: أخوك يزعم انك قد خولطت. فأنشأ يقول: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... او كنت أجهل ما تقول عذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا دخل أعرابي مسجد البصرة فطاف على الخلق وسمع ما يقولون حتى صار إلى حلقة الخليل، فسمعهم يتذاكرون النحو والشعر حتى افضوا إلى دقيق النحو والعروض، فقام عنهم وقال: ما زال أحدهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم حتى سمعت كلاماً لست اعرفه ... كأنه زجل الغربان والبوم رفضت نحوهم والله يعصمني ... من التقحم في تلك الحراثيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وكان الخليل منفطعاً إلى الليث بن رافع بن نصر بن سيار صاحب خراسان، وكان من أكتب الناس وكان بارع الادب وكان كاتباً للبرامكة. فأراد الخليل ان يهدي له هدية، فعلم أن المال والاناث لا يقعان عنده موقعاً، فصنف له كتاب العين الي لم يوضع مثله. فوقع عنده موقعاً جسيماً، وحفظ نصفه. وكانت له بنت عم تحته عاقلة، فأبتاع جارية بارعة الجمال، فبلغها ذلك فنالتها عليه غيرة، فقالت: لاغظينه! وعمدت إلى الكتاب فأحرقته لعلمها بإعجابه به. فطلب الليث الكتاب. فطلب نسخة للكتاب، فأعوزته لأن الخليل كان قد خصه به. فأستدرك النصف من حفظة وجمع على النصف الباقي أدباء زمانه، فمثلوا على النصف الأول ولم يلحقوا، فالنصف الأخير الذي في أيدي الناس ليس من تصنيف الخليل. وهو أول من جمع الحروف في بيت فقال " من البسيط ": صف خلق خودٍ كمثل الشمس إذ بزغت ... يحظى الضجيع بها نجلاء معطار وله ثلاثة أبيات على قافية واحدة وهي " من السريع ": يا ويح قلبي من دواعي الهوى ... إذ رحل الجيران عند الغروب أتبعتهم طرفي وقد أمعنوا ... ودمع عيني كفيض الغروب بانوا وفيهم طفلةٌ حرةٌ ... تفتر عن مثل أقاحي الغروب وقال " من المتقارب ": كفاك لم تخلقا للندى ... ولم يكُ بخلهما بدعه فكفٌ عن الخير مقبوضةٌ ... كما نقصت مائة سبعه وكفٌّ ثلاثة آلافها ... وتسعٌ مئيها لها شرعه وهذا مما أبدع فيه الخليل ولم يسبق إليه أنه وصف انقباض اليدين بحالين من الحساب مختلفتين في القدر متشاكلين في الصورة وهما ثلاثة وتسعون وتسعمائة وثلاثة آلاف. - وأنشد المبرد لغيره في معناه " من الوافر ": وما تسعون تخفرها ثلاث ... يشدُّ بعقدها رجلٌ شديدُ بكفٍ حزقةٍ جمعت لوجءٍ ... بأنكد من عطائك يا يزيد وقال الخليل على وزن فَعْلُنْ فَعْلُنْ " من المتدارك ": يعدو عمرو يستنهي من ... زيدٍ عند الفضل القاضي فانهوا عمراً إني أخشى ... صول الليث العادي الماضي ليس المرءُ الحامي أنفاً ... مثل المرءِ الصتْم الراضي وقال على وزن فَعِلُنْ فَعِلُن " من المتدارك ": سُئلوا فأبوا فلقد بخلوا ... ولبئس لعمرك ما فعلوا أبكيت على طلل طرباً ... فشجاك وأحزنك الطلل وقال: إن لم تعلم الناس ثوابا فعلمهم لتدرس بتعليمهم ما عندك! ولا تجزع ممن يقرع السؤال فإنه ينبهك على علم ما لم تعلم! وقال: العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها. وقال: أخرج من منزلي فألقي رجلاً من أربعة رجال: رجلاً أعلم مني فهو يوم فائدتي، أو رجلاً مثلي فهو يوم مذاكرتي، أو رجلاً متعلماً فهو يوم ثوابي وأجري، أو رجلاً دوني في الحقيقة وهو يرى أنه فوقي وهو يحاول أن يتعلم مني وكأنه يعلمني، فذاك الذي لا أكلمه ولا أنظر إليه. - وقال " من البسيط ": العلم يذكي عقولاً حين يصحبها ... وقد يزيدها طول التجاريب وذو التأدب في الجهال مغترب ... يرى ويسمع ألوان الأعاجيب وقال: الرجال أربعة: فرجلُ يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم، فاتبعوه! ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك ناس، فأذكروه! ورجلُ لايدري ويدري أنه لايدري فذاك جاهل، فعلموه! ورجلٌ لايدري ولايدري أنه لايدري فذاك مائق، فاحذروه! - وقال " من السريع ": ما أتسعت أرض إذا كان من ... تبغض في شئ من الأرض وله " من الطويل ": ربَّ امري يجري ويدري بأنه ... إذا كان لايدري جهول بما يجري وتجري ولاتدري بأنك من عمى ... لأنك لاتدري بأنك لاتدري وقال أبو عثمان الناجم: أنشدنا الناشئ لنفسه في داود بن علي الإصبهاني " من الطويل ": أقول كما قال الخليلُ بن أحمد ... وإن شتَّ ما بين النظامين في الشعر عذلت على مالو علمت بقدره ... بسطت مكان العذل واللوم من عذري جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ... فمن لي بأن تدري بأنك لاتدري وقال " من البسيط ": اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وانظر لنفسك فيما أنت فاعله ... من الأمور وشمر فوق تشميري وقال: تكلم أربعة أملاك بأربع كلمات كأنها رمية واحدة، قال كسرى: أنا على رد مالم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال قيصر: لاأندم على مالم أقل وقد أندم على ما قلت. وقال ملك الصين: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني وإذا لم أتكلم بها ملكتها. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة وإن رفعت عليه ضرته وإن لم ترفع عليه لم تنفعه. قال الخليل: فطلبت لها نظائر في أشعار العرب فوجدتها، قال الشاعر " من الخفيف ": حبس ما لم أقل عليَّ يسيرٌ ... وعسيرٌ ردُّ الكلام المقول وقال آخر " من الكامل ": ما لم أقله فلا أشعه ندامةً ... ومتى أقل يكثر عليَّ تندمي وقال آخر " من الطويل ": كلامك مملوك إذا لم تفه به ... وتلقاه إن أطلقته لك مالكاً وقال آخر " من الرجز ": عجبت للقائل قولاً هذراً ... متى يشع يدن إليه ضررا وليس بالنافع إما سترا وقال يزيد بن المهلب للخليل: يا أبا عبد الرحمان، ما تقول في السماح؟ فقال: هو إلى الكرم ارتياح، وفي النعم امتناح، وليس فيه كبير جناح، يغفر الله عما فوقه، ويأخذ بما هو دونه، وما أحبُّ أن أغرَّ بقولي ورعاً، ولا أهزُّ طبعا. وسئل عن قولهم " من المتقارب ": إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه فقال: الحكيم الذي لايحتاج إلى وصية: الدرهم. - وقال: أكمل ما يكون الرجل عقلاً وذهناً وهو ابن أربعين سنة، وهي السنُّ التي بعث الله رسوله فيها، ثم يتغير وينقص إذا صار ابن ثلاث وستين، وهي السنُّ التي قبض صلى الله عليه وسلم فيها، وأصفى مايكون ذهنه في السحر. - وقال " من الوافر ": إذا ضيقت أمراً زاد ضيقاً ... وإن هونت صعب الأمر هانا فلا تجزع لأمر ضاق شيئاً ... فكم صعبٍ تشدد ثم لانا وقال " من الوافر ": وما بقيت من اللذات إلا ... محاورة الرجال ذوي العقول وقد كانوا إذا عدوا قليلاً ... فقد صاروا أقل من القليل وقال " من الوافر ": وما شيءُ أحب إلى لئيم ... إذا سبَّ الكرام من الجواب متاركة اللئيم بلاى جوابٍ ... أشدُ على اللئيم من السباب وقال: الزاهد من لايطلب المفقود حتى يفقد الموجود. وقال: الجود بذل الموجود. وقال: الأيام ثلاثة: معهود ومشهود وموعود، فالمعهود أمس والمشهود اليوم والموعود غداً. وقال " من الرجز ": حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت وقال " من السريع ": غرَّ جهولاً أمله ... حتى يوافي أجله ومن دنا من حتفه ... لم تغن عنه حيله لايصحب الإنسان من ... دنياه إلا عمله قال ابن المعتز: يستحسن من شعر الخليل في وصف الدنيا وذمها وترك الحرص عليها قوله " من الطويل ": وما هي إلا ليلة ثم يومها ... وحولٌ إلى حولٍ وشهرٍ إلى شهر مطايا يقربن الجديد من البلى ... ويدنين أشلاء الكرام من القبر ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويبعدن جثمان الشحيح من الوفر وقال " من الكامل ": إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال وقال " من الكامل ": عش مابدا لك، قصرك الموت ... لا مزحل عنه ولا فوت بينا غنى بيت وبهجته ... زال الغنى وتقوض البيت يا ليت شعري ما يراد بنا ... ولقلما تغني إذا ليت وقال " من الكامل ": المرءُ ذو صوت يعيش به ... في الناس ثم سينفذ الصوت وقال " من الوافر ": يعيش المرء في أمل ... يردده إلى الأبد يؤمل ما يؤمل من ... صنوف المال والولد ولا يدري لعلّ المو ... ت يأتي دون بعد غد فلا يبقى لوالده ... ولا يبقي على ولد وقال " من الوافر ": أتبكي بعد شيب قد علاكا ... ولا ينهاك شيبك عن بكاكا فهلا إذ بكيت على التصابي ... بكيت على الصبابة في صباكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقال: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال. - وقال " من الطويل ": تكثر من الإخوان ما اسطعت إنهم ... بطون إذا استنجدتهم وظهور وما بكثير ألف خل لعاقل ... وإن عدوا واحداً لكثير وقال: إذا أخبرك بعيبك صديق قبل أن يخبرك به عدوٌ فأحسن شكره واقبل نصحه، فإنك إن قبلته لم ينفعه وإن رددته لم تضر إلا نفسك! ومن أظهر لك عيوباً وكشف لك عن مكروه قناعاً فقس ما غاب عنك بما ظهر لك من فعله! وأنشد " من الكامل ": ليس المسئ إذا تغيب سوءه ... عني بمنزلة المسء المعلن من كان يظهر ما أحب فإنه ... عندي بمنزلة الأمين المحسن والله أعلم بالقلوب وإنما ... لك ما بدا لك منهم بالألسن وكان الخليل قد نظر في النجوم وبالغ وأشرف على مالا يحب، ثم لم يرضها، فأنشأ يقول " من الخفيف ": أبلغا عنيّ المنجم أني ... كافرٌ بالذي قضته الكواكب عالمٌ أنَّ ما يكون وماكا ... ن بحكم من المهيمن واجب شاهد أنَّ من يفوض أو يجبر ... زارٍ على المقادير كاذب قالت القدرية: لايكون قدرٌ من الله عملاً مني. والمعنى: لايكون معنيان في شيء واحد. فكلم الخليل رجلاً منهم فأخذ عوداً فكسره وقال للقدري: أيُّ شيءٍ كان مني في هذا العود؟ قال: الكسر. قال: فأي شيءٍ كان من العود في نفسه؟ قال: الانكسار. قال: قد اجتمع المعنيان في شيء واحد الكسر والانكسار. قال الخليل: بعث إليَّ المهدي، فأتيته وهو جالسٌ في الماء على سريرٍ له إلى صدره، فسلمت عليه. فقال لي: إني اشتهيت الحديث الساعة، فحدثني! ثم قال: حدثني عن القمر! فلم أدر عن أيه أحدثه، ثم عرض لي أن قلت: قيل للقمر: كم أنت ابن ليله؟ قال: رضاع سخيله. قيل: لليلتين؟ قال: حديث أمتين بكذب ومين. قيل: ابن ثلاث؟ حديث فتيات مختلفات. قيل: ابن أربع؟ قال: عتمة أم الربع. قيل: ابن خمس؟ قال: سر وأمس. قيل: ابن ست؟ قال: سر وبت. قيل: ابن سبع؟ قال: عشية جمع. قيل: لثمان؟ قال: قمر إضحيان. قيل: لتسع؟ قال: مثقب الجزع. قيل: لعشر؟ قال: أبادر الفجر. ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قيل: لا يحفظ هذا الحديث إلا عاقل. قال: فخذه عليَّ! فأعاده كما حدثته. ثم دعا بثيابه فخرج، وأتينا بمائدة عليها خمسة قوالب كأنها الثلج، فأكل وقال: كل! فأكلت، فلم أر شيئاً قط أطيب منه. فقال لي: هذا المخ بالطبرزد، وأتي بشراب شديد الحمرة حسن اللون، فشرب ثم قال: اشرب! فظننت أنه الخمر فقلت: لاأشرب من هذا. قال: اشرب، لا ام لك! فشربت شيئاً لم أشرب مثله قط فوجدت برده في عيني. فقال: هذا عصارة الرمان، وتفاح لبنان، وعسل إصبهان، وماء المسرقان، وثلج ماسبذان، بزعفران. ثم خرجت من عنده بغير شيء. ولما وليّ سليمان بن حيب المهلبي الأهواز زاره الخليل، فلم يحمد أمره، فرجع إلى البصرة وكتب إليه " من البسيط ": أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ ... وفي غنىً غير أني لست ذا مال سخى بنفسي أتي لاأرى أحدا ... يموت هزلاً ولايبقى على حال وإن بين الغنى والفقر منزلة ... مخطومة بجديد ليس بالبالي الرزق عن قدرٍ لاالضعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال إن كان ضنَّ سليمان بنائله ... فالله أفضل مسؤول لسؤال فكتب يعتذر إليه، فلما أتاه الرسول أدخله منزله فأخذ خبزاً يابساً فبله بماء ثم قال للرسول: أبلغ سليمان أنا لاحاجة لنا فيه مادمنا نجد هذا! - وقال وهب بن جرير: خرج أبي والخليل والفضل بن المؤتمن العتكي إلى سليمان بن الحبيب بن المهلب إلى الأهواز، فبدأ بعطاء الإثنين قبل الخليل، فكتب إليه الخليل بأبيات تمثل بها " من الكامل ": ورد العفاة المعطشون فأصدروا ... رياً فطاب لهم لديك المكرع ووردت حوضك ظامئاً متدفقاً ... فرددت دلوي شنها يتقعقع وأراك تمطر جانباً عن جانب ... وفناء أرضي من سمائك بلقع أبحسن منزلتي تؤخر حاجتي ... أم ليس عندك لي خير مطمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ورحل عنه، فوّجه إليه بألف دينار، فردّها وقال: هيهات، أفلتت قائبة من قوبها! وقال: أبلغ سليمان الأبيات. - وأنشد أبو هفّان للخليل " من البسيط ": وزلةٍ يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا لاتعجبن لخير زلَّ عن يده ... فالكواكب النحس يسقى الأرض أحيانا وقيل: كان الخليل صديق سليمان بن حبيب، وكثر الزوار، فتشاغل عنهم، فسألوا الخليل يذكره بأمرهم، فكتب إليه " من الكامل ": لاتقبلن الشعر ثم تعقه ... وتنام والشعراء غير نيام واعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعتابهم يبقى على الأيام لما دخل الخليل البصرة عزم على مناظرة أبي عمرو بن العلاء، فجلس في حلقته، ثم انصرف ولم ينطق. فقيل له: ماحملك على السكوت عن مناظرته؟ قال: نظرت فإذا هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد، فلم أكلمه. وقيل: أراد بعض آل المهلب أن يشتري أرضاً، فأشير عليه أن لايشتريها. وأشار عليه الخليل بشرائها، ففعل فرأى مايحب، فقال الخليل يصفها " من البسيط ": ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت ... عن المعاطش واستغنت بسقياها فاعتم بالطلح والزيتون أسفلها ... وماد بالنخل والرمان أعلاها وصار يحسده من كان يعذله ... ولائم لام فيها قد تمناها أبا معاوية اشكر فضل واهبها ... وكلما جثتها فاعمر مصلاها وعن الخليل أنه قال: كلم ابن عباس عبد الله بن الزبير في محمد بن الحنفية وقال: ماتريد من رجل كفّ لسانه ويده عنك؟ اتق الله! فإنك قادم على ربك. فقال له ابن الزبير: تكلمني في رجل سخيف الرأي ضعيف العقل، ليس له بذم ولادين. فقال ابن عباس: رماه الله بداءٍ لاشفاء له إن كان شرا منك في الدين والدنيا! فغضب ابن الزبير وقال: أنت أيضاً تتكلم عندي؟! فقام ابن عباس، وندم ابن الزبير على ماقال، وخرج من عند ابن الزبير من وجهه إلى الطائف وقال: العجب من حنكيل يتعجب من كلامي عنده، وقد تكلمت غلاماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، يرونني أحق من نطق، يستمع قولي وتقبل مشورتي، ليحك حنكيل جربه، ولاينقاص عليَّ انقياص الكثيب! أظن ابن الزبير أني مساعده على بني عبد المطلب؟! والله لأنملة من أنامل ابن الحنفية أحب إليَّ من أبن الزبير! والله غنه لأوفر منه عقلاً وأوفى منه عهداً وأكمل منه رأياً وأفضل ديناً وأصدق ورعاً! - فمات ابن عباس بالطائف، وصلى عليه ابن الحنفية، كبر عليه أربعاً وضرب عليه قسطاطاً وقال: دفنتم اليوم خير هذه الأمة. - قال ابن دريد: رجل بذم: إذا كان ذا قوة، وحنيكل تصغير حنكل: وهو الصغير المجتمع الخلق، وينقاص: يتهدم، وانقاصت سنه: إذا انكسرت، وأنشد " من الطويل ": فراق كقيص السن فالصبر إنه ... لكل أناسٍ عبرةٌ وحبور قال الخليل: مرَّ بنا الفرزدق ونحن صبيان نلعب، وقد انصرف من المهالبة وهو على بغل، وكان قبيح الوجه، فجعلنا ننظر إليه، فوقف وقال " من الكامل ": نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر التيوس إلى مدى القصاب فقال له بعضنا: نظرنا إليك أنك مليح، كما ينظر إلى القرد وهو مليح، فصرف وجه بغلته وانصرف. - قال أبو العيناء: الخليل قال له هذه المقالة وهو صبي، ولكنه لم يحب أن تحكيه عن نفسه. ويروى أن سيار بن هاني أبا إبراهيم بن سيار النظام جاء بابنه إبراهيم إلى الخليل، وقال: أحب أن يكون هذا الصبي بين يديك! فقال الخليل لإبراهيم كالعابث وفي دار الخليل نخلة: صف لي هذه النخلة! قال: بمدح أم بذم. قال: بذم! قال: هي صعبة المرتقى خبيثة المجتنى. قال: فصف زجاجتي هذه! - يعني كأساً في يده. فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بذم! قال: هي سريعة الانكسار بطيئة الانجبار. فقال الخليل لأبيه: أنا أحتاج أن أتعلم من أبنك هذا. ومن شعر الخليل " من السريع ": ما أسمج النسك بسأ ال ... وأقبح البخل بذي المال وأقبح الثروة ما لم تكن ... عند أخي جودٍ وإفضال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والحرص من شر أداة الفتى ... لاخير في الحرص على حال من بات محتاجاً إلى أهله ... هان على ابن العم والخال ما وقع الواقع في ورطة ... أزرى به من رقة الحال وقال " من البسيط ": رزقت جوداً ولم أرزق مرؤته ... وما المروءةُ إلا كثرة المال إذا أردت مساماة تقاعدني ... عما ينوه باسمي رقة الحال وقال " من الوافر ": وهذا المال يرزقه رجال ... مناديل إذا اختبروا فسول ورزق الخلق مجلوب إليهم ... مقادير يقدرها الجليل كما تسقى سباخ الأرض ريا ... وتصرف عن كرائمها السيول فلا ذو المال يرزقه بعقل ... ولا بالمال تقتسم العقول وقال في تفضيل شكر الشاكر على إنعام المنعم " من الطويل ": وما بلغ الإنعام في النفع غايةً ... من الفضل إلا مبلغ الشكر أفضل وما بلغت أيدي المنيلين بسطة ... من الطول إلا بسطة الشكر أطول ولا رجحت بالمرء يوماً صنيعة ... على المرء إلا وهي بالشكر أثقل وقال " من المجتث ": إن لم يكن لك لحم ... كفاك خلُّ وزيت أو لم يكن ذا وهذا ... فكسرة وبييتُ تظل فيه وتأوى ... حتى يجيئك موتُ هذا عفاف وأمن ... فلا يغرك ليت وقال يصف قصر عيسى بن جعفر بالخريبة " من البسيط ": زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لابدَّ من زورة من غير ميعاد زره فليس له شبه يعادله ... من منزل حاضرٍ إن شئت أو باد ترفى قراقيره والعيس واقفة ... والنون والضب والملاح والحادي القراقير: ضرب من السفن، وترفى: أي توقف السفن بها، والمعنى أنه مجمع البر والبحر. وقال - وقيل: هي لأبي عيينة المهلبي " من المنسرح ": يا جنة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمةٌ ولا ثمن ألفتها فاتخذتها وطناً ... إن فؤادي لأهلها وطن صاهر حيتانها الضباب بها ... فهذه كنة وذا ختن من سفن كالنعام مقبلةٍ ... ومن نعامٍ كأنها سفن سأل الأخفش الخليل: لم سميت الطويل طويلاً؟ قال: لأنه تمت أجزاؤه. قال: فالبسيط؟ قال: لأنه أنبسط عن مدى الطويل. قال: فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول خماسيه. قال: فالوافر؟ قال: لوفارة الأجزاء. وتدا بوتد. قال: فالكامل؟ قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم يجتمع في غيره. قال: فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة الرجزاء. قال: فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب شبه هزج الصوت. قال: بعض. قال: لأنه يسرع على اللسان. قال: فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته. قال: فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات. قال: فالمقتضب؟ قال: لأنه اقتضب من الشعر لقلته. قال: فالمضارع؟ قال: لأنه ضارع المقتضب. قال: فالمجتث؟ قال: لأنه أجتث، أي قطع من طول دائرته. قال: فالمتقارب؟ قال: لتقارب أجزائه، وإنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضاً. وتردد إلى مجلس الخليل بعضهم فلم يحظ منه بطائل لقصور فهمه، فقال له الخليل " من الوافر ": إذا لم تستطع أمراً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وقال: أنا أول من سمى الأوعية ظروفاً، وإنما قيل للإنسان ظريف لأنه جعل ظرفاً لأدب ونظافة. - قالت امرأة الخليل له: لاأراك تجلس عندي كثيرا. قال: ما أصنع عندك؟ أنت تجلين عن دقيقي وأنا أدق عن جليلك! ومات الخليل سنة ستين ومائة. - قال عليّ بن نصر: رأيت الخليل في النوم فقلت في نفسي: لاأرى أحداً من أسلافنا في النوم أعقل من الخليل. فقلت ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني! ثم قال لي: رأيت ماكنا فيه ما انتفعنا بشئ منه، وكله باطل، ولكن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ما رأينا انفع منهن! 17 - ومن أخبار أبي محرز خلف بن حيان الأحمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 مولى بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو من السغد الذين سباهم قتيبة بن مسلم الباهلي، فوهبهم سلم بن قتيبة لبلال بن أبي بردة. - أخذ النحو عن عيسى بن عمر واللغة عن أبي عمرو بن العلاء، ولم ير أحدٌ أعلم بالشعر والشعراء منه. ومما نسب من شعره إلى تأبط شراً " من المديد ": إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يُطل القصيدة. - ومر خلف باليزيدي، فقال له: يا أبا محرز، ما معنى قول الشاعر " من الكامل "؟ وإذا انتشيت فإنني ... ربُّ الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني ... ربُّ الشويهة والبعير فقال له خلف " من الكامل ": وإذا انتشيت فإنني ... ربُّ الحريبة والرميح وإذا صحوت فإنني ... ربُّ الدوية واللويح يعرض باليزيدي أنه معلم. - قال الأصمعي: قرأت على خلف شعر جرير، فلما بلغت قوله " من الطويل ": ويومٍ كإبهام القطاة محبب ... إليّ هواه غالبُ لي ماطله رزقنا به الصيد الغرير ولم نكن ... كمن نبله محرومة وحبائله فيالك يوماً خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله فقال: ويله! وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ فقلت له: كذا قرأته على أبي عمرو، فقال لي: صدقت وكذا كان يجب أن يقول؟ قال: الأجود لو قال: " فيالك يوماً خيره دون شره "، فاروه هكذا! فقد كانت الرواة قديماً تصلح أشعار القدماء. فقلت: والله لاأرويه بعدها إلا هكذا. - وقال خلف: ما أحد بيَّن عن حقيقة الطيف إلا قيس بن الخطيم في قوله " من الكامل ": ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه ... في النوم غير مكدر محسوب كان المنى بلقائها فلقيتها ... فلهوت من لهو امرئ مكذوب ولا اتبعه حق الاتباع إلا ذو الرمة في قوله " من الطويل ": إذا نحن عرسنا بأرض سرى لنا ... هوى لبسته بالقلوب اللوابس نأت دار ميٍ أن تزار وزورها ... إذا مادجا الإظلام منَّا وساوس وقرأ أبو نواس على خلف، وأمره أن يرثيه وهو حي، فرثاه أبو نواس، فلما سمعه خلف قال له: أنت أشعر الناس! وقال له مرة أخرى: يابني لشعرك فوق سنك. - وجاء رجلٌ إلى خلف فقال: إني قد قلت شعرا أحببت أن أعرضه عليك. قال: هات! فأنشده " من الكامل ": رقد النوى حتى إذا انتبه الهوى ... بعث النوى بالبين والترحال ياللنوى جدُّ النوى قطع النوى ... بالوصل بين ميامن وشمال فقال له خلف: قولي، واحذر الشاة! فو الله لئن ظفرت بهذا الشعر لتجعله بعرا، على أني ما ظننت بك هذا كله. وقال الأصمعي: حج قومٌ بالبصرة وقدموا، فأهدى إليهم خلف هدية فقصروا في ثوابه، فقال " من الوافر ": سقى حجاجنا نوءُ الثريا ... على ماكان من لؤم وبخل همُ شدّوا القباب وأحرزوها ... فلو زادوا لها باباً بقفل وقد عدوا لنا شيئاً بشئٍ ... مقايضة له مثلا بمثل فإن أهديت فاكهة وكبشاً ... وعشر دجائج بعثوا بنعل ومسواكين طولهما ذراع ... وعشرٍ من صغار المقل خشل فإن أهديت ذاك ليحملوني ... على نعل فدق الله رجلي أناس مائهون لهم رواءٌ ... تغيم سماؤهم من غير وبل إذا نسبوا فحي من قريش ... ولكنَّ الفعال فعال عُكْل وقال ليحيى بن وردان وقد قدم من مكة فلم يهد إليه شيئاً " من البسيط ": هلا أتيت بقمري أربيه ... أو ساق حرٍ إذا ما شئت غناني فليس للبر والتقوى حججت ولا ... من خشية الله يايحيى بن وردان كنت الخبيث إذا شدوا محاملهم ... أيام مكة أنت الفاسق الزاني قال حبيب القاضي: خرجنا بسحرة نريد بعض الفقهاء ومعنا عباد بن صهيب، فجاء كلب حتى تشممه، ثم بال عليه، فقال خلف: كان هذا الكلب من قافة بني مدلج، وضع البول في موضعه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وقال خلف: كنت أسمع ببشار وما كنت رأيته، فذكروه لي يوماً وذكروا بيانه وسرعة جوابه وجودة شعره، وأنشدوني شعراً ليس بالمحمود عندي. فقلت: والله لآتينه ولأطأطئن منه! فأتيته وهو جالس على باب داره، فرأيت أعمى قبيح المنظر عظيم الجثة، فقلت: لعن الله من يبالي بهذا! فوقفت أتأمله طويلاً، فبينا أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال: إن فلاناً سبعك عند الأمير محمد بن سليمان ووضع منك. فقال: أفعل؟ قال: نعم! فأطرق، وجلس الرجل عنده وجلست، وجاء قومٌ فسلموا عليه، فلم يردد عليهم السلام، فجلسوا ينظرون إليه، فندرت أوداجه فما نشب أن أنشدنا بأعلى صوته وأفخمه " من الكامل ": نبئت راكب أمه يغتابني ... عند الأمير وهل عليَّ أمير ناري محرقة وسيبي واسع ... للمعتفين ومجلسي مغمور ولي المهابة في الأحبة والعدى ... وكأنني أسد به تأمور غرثت حليلته وأخطأ صيده ... فله على لقم الطريق زئير فارتعدت والله فرائصي وعظم في عيني جداً وقلت في نفسي: الحمد لله الذي أنقذني من شرك! وذكر عليّ بن هارون المنجم عن أبيه أن خلفاً قال قصيدة نحلها عباد بن الممزق، يذكر فيها أبا محمد اليزيدي ويرميه باللواط بأملح معان وأقرب لفظ، وهي " من الكامل ": إني ومن وسج المطي له ... حدب الذرى اقرابها رجف يطرحن باليد السخال إذا ... حث النجاء الركب وازدهفوا وإذا قطعن مساف مهمهة ... تأتي تعرض دونه شرف والمحرمون لصوتهم زجل ... بفناء كعبته إذا هتفوا وافت بهم فرض مزممة ... مثل القسي ضوامر شسف مني إليه غير ذي كذبٍ ... ما أن رأى قوم ولا عرفوا في غبر الناس الذين بقوا ... والفرط الماضيين إذ سلفوا في معرك تلقى الكمي به ... للوجه منبطحاً وينحرف وإذا أكب القرن أتبعه ... طعناً دوين صلاه ينخسف لله درك أي ذي دلف ... في الحرب أنت إذا هم وقفوا لاتخطئ الوجعاء ألته ... ولا تصد إذا هم زحفوا وله جياد ليس تعوزها الاجلال والمضمار والعلف جرد يهان لها السويق وألبان اللقاح كأنها ترف مرد وأطفال تخالهم ... دراً تطابق فوقه الصدف ومتى يشا يجنب له جذع ... نهد أسيل الخد مشترف يمشي العرضنة تحت فارسه ... عبل الشوى في مشيه قطف ربذا إذا عرقت مغابنه ... ذهب السكون وأقبل العنف في حقوه عرد تقدمه ... صلعاء في يافوخها قنف جرداءُ تشحذ بالبصاق إذا ... دعيت نزال وهبّ ترتدف أقعت على قيد الذراع شديد الجلز في يافوخه جوف خاط ممر متنه ضرم ... لاخانه خور ولا قضف لو أنّ قناصاً تأمله ... نادى بحر الويل يلتهف وإذا يمسحه لعادته ... ودنا الطراد فمدعس قطف وإذا أبس به رباً وثرا ... حتى يكاد لعابه يكف ياليتني أدري أمنجيتي ... وجناء ناجية بها شدف من أن تعلقني حبائله ... أو أن يواري هامتي اللحف ربما أقول لصاحبي خلف ... إيها هديت تحرزن خلف فلو أنّ بيتك في ذرى علم ... من دون قلّة رأسه شعف ذلق أعليه وأسفله ... وعلا تنائف بينها قذف لخشيت جزرك أن يبيتني ... إن لم يكن لي عنك منصرف وهجا رجلاً كوسجاً يقال له محرز " من الوافر ": أمحرز ما نظرت إليك إلا ... ذكرت من النساء عجوز لوط أرى شعراً بخدك غير حلو ... شبيهاً حين يمشط بالخيوط فما شيء بأشبه من عجوز ... إذا فكرت من شيخ سنوط وقال يصف حية " من الوافر ": يرون الموت دونك إن رأوني ... وصل صفا لنابيه ذباب من المتطويات بكهف طود ... عرام لا يرام له جناب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أبى الحاوون أن يطوا حماه ... ولا تسري بعقونه الذئاب إذا ما استجرس الأصوات أبدى ... لساناً دونه الموت العباب يعظل نهاره نوماً سباتاً ... ونزوته طموراً وانسياب كأن جرادة نشرت عليه ... جناحاً فارتدى منها الحباب متى مايرم عن عينيه شخصاً ... فليس إلى الحياة له إياب وقال " من الكامل ": صب اإله على عبيد حية ... لاتنفع النفاث فيها والرقى جبلية تسري إذا ما جنها ... ليلٍ وتكمن بالنهار فما ترى مهروتة الشدقين ينطف نابها ... سماً ترى ما أن يهاب ويتقى خضرت لها عنق وسائر خلقها ... بض يبين كمثل مصباح الدجى وكأنما لبست بأعلى لونها ... برداً من الأثواب أنعجة البلى رقشاه تقتصد الطريق إذا دنا ... منها المساء كأنها ثنيا رشا قرناء أنساها الزمان فأدركت ... عاداً فليس لنهشه منها شفا أو حية ذا طفيتين أحله ... آباؤه في شامخ صعب الذرى فنشا بغار مظلم أرجاؤه ... لا الريح تصرده ولا برد الشتا لم تغشه شمس وحالف قعره ... فنهاره ومساؤه فيه سوا لو عض حرفي صخرة لتطايرت ... من نابه فلقا كأفلاق النوى أو حالكاً أما النهار فكامن ... متطرق فإذا رأى ليلاً سرى في عينه قبل وفي خيشومه ... فطس وفي أنيابه مثل المدى يلقى عبيداً ماشياً متفضلاً ... متخلفاً قد ملَّه طول السرى في ليلة نحس يحار هداتها ... لا لابساً خفاً يقيه ولاحذا فيحوصه في كعبه بمذرب ... ماضٍ إذا أنحى على عظم فرى وقال يدعو على رجل بالرتيلي " من الرجز ": ابعث له من الرتيلي سقما ... مذبوبة تبعث فيه ألما يظل منه لحمه مقسماً ... دهماء مثل العنكبوت أيما لم تبق بعلاً لا ولم تبق اينما ... جزاء خطاب بما تأثما وقال أيضاً في مثله " من الرجز ": ابعث له يارب ذات أرجل ... في فمها أحجن مثل المنجل دهماء مثل العنكبوت المحول ... تأخذه من تحته ومن عل وقال في العقرب " من الرجز ": يا ربنا ربَّ الشمال والصبا ... ومن سعى بالبيت أو تحصبا ابعث له تحت الظلام عقربا ... مصفرة تنمي إليه خببا تسل محجوباً نحيفاً نيربا ... أكلف لو مسسته لأندبا كأنما تمس منه حربا ... حتى إذا خالطه فضربا أتاك منه سائلاً محبباً ... فإن نجا فابعث إليه القرطبا فمرَّ يفري سبسباً فسبسباً ... فصعدا دماغه وصوبا وأكلا من لحمه وشربا ... جزاء خطاب بما تحوبا وقال في البرغوث " من الرجز ": يا عجباً للدهر ذي الإعجاب ... للأحدب البرغوث ذي الأنياب يلسع لسع العقرب الدباب ... يقفز بين الجلد والثياب وقال " من الرجز ": وحية مسكنه الرمال ... كأنه إذا انثنى خلخال وقال " من الرجز ": ابعث على الكذاب في برد السحر ... حية غار في منيف مشمخر وقال " من الرجز ": وحنش كأنه رشاء ... أسود ما لمسه دواء وقال في مرض موته " من الرجز ": يا أيها الليل الطويل ذنبه ... كأن ديناً لك عندي تطلبه أما لهذا الليل صبح يقربه وتمثل عند موته بهذا البيت " من البسيط ": لايبرح المرء يستقري مضاجعه ... حتى يبيت بأقصاهن مضجعا وقال المبرد: إن خلفاً بقي إلى وفاة الرشيد أو بعد ذلك. وقال عبد الباقي ابن قانع: توفي خلف سنة خمس وسبعين ومائة. وهذا بعيد مما أورده المبرد لأن الرشيد توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة، والله أعلم. 18 - ومن أخبار أبي محمد اليزيدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 هو يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي، وإنما سمي اليزيدي لصحبته يزيد بن منصور خال المهدي، وبذلك كبر وارتفع صيته، وكان من غلمان أبي عمرو بن العلاء. - ثم أدب المأمون وكان ابنه محمد لاصقاً بالمأمون من أهل أنسه، وكان يدخل إلى المأمون مع الفجر فيصلي به ويدرس عليه المأمون ثلاثين آية، وكان لايزال يعادله في أسفاره ويفضي إليه بأسراره. - وكان شاعرا فصيحاً نحوياً، روى عنه أبو عبيد القاسم بن سلام. وله " كتاب نوادر في اللغة " على مثال كتاب نوادر الأصمعي الذي عمله لجعفر بن يحيى البرمكي، وفي مقدار عدد ورقه، وله جامع شعر جيد. وأخذ عن الخليل بن أحمد العروض وغيره، وكتب عن أبي الوليد عبد الملك بن جريج، وتوفي ابن جريج سنة خمسين ومائة. - قال ابو هفان: أشعر العلماء النبل أربعة: الكميت والطرماح والكساني واليزيدي. وله من الأولاد محمد وإبراهيم وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وإسحاق، وترتيبهم في السن على هذا النسق: فيعقوب وإسحاق تزهدا وكانا عالمين بالحديث، والأربعة برعوا في اللغة العربية، ونادم المأمون من هذه الجماعة محمد وإبراهيم، وكان محمد المتقدم وهو الخارج مع المعتصم حين خرج إلى المبيضة بمصر، فمات محمد بها ومات الباقون ببغداد. قال اليزيدي: اجتمعت مع الكسائي عند المهدي فقال: كيف نسبوا إلى البحرين؟ فقالوا: بحراني! ونسبوا إلى الحصنين؟ فقالوا: حصني! ولم يقولوا: حصناني؟ قلت: أصلح الله الأمير، إنهم لو نسبوا إلى البحرين فقالوا بحري لم يعرف إلى البحرين نسبوه أم إلى البحر، ولما جاؤا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر يقال له الحصن ينسب إليه غير الحصنين فقالوا حصني. قال أبو محمد اليزيدي: فسمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع: لو سألني الأمير لأخبرته فيها بعلة هي أحسن من هذه. قال أبو محمد: قلت: اصلح الله الأمير! إن هذا يزعم أنك لو سألته لأجاب بأحسن مما أجبت به. قال: فقد سألته. فقال الكسائي: لما نسبوا إلى الحصنين كانت فيه نونان فقالوا: حصني اجتراء بإحدى النونين من الأخرى، ولم يكن في البحرين إلا نون واحدة فقالوا بحراني. فقلت: أصلح الله الأمير، كيف ينسب رجلاً من جنان يلزمه أن يقول جني لأن في جنان نونين؟ فإن قال كان ذلك، فقد سوى بينه وبين المنسوب إلى الجن! فقال المهدي: فتناظرا! قال: فتناظرنا. قال: وسأل المأمون اليزيدي عن شيء، فقال: لا وجعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين! فقال: لله درك! ما وضعت واو قط موضعاً أحسن من وضعها في لفظك هذا! - وشكا اليزيدي إلى المأمون خلَّة أصابته وديناً ارتكبه، فقال: ماعندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ماتريد. فقال: عندك منادمون فيهم ما إن حركته نلت منهم ما أريد، فأطلق لي الحيلة فيهم! قال: قل مابدا لك! قال: إذا حضروا وحضرت الباب فمر فلانا الخادم أن يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتها فأرسل إليّ: دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن أختر لتفسك من أحببت ينادمك! فقال: أفعل! فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه أتى الباب فدفع الرقعة إلى الخادم الذي ذكره للمأمون، فأوصلها إليه، فقرأها فإذا فيها " من السريع ": ياخير إخوان وأصحاب ... هذا الطفيلي على الباب خبر أنذَ القوم في دعوة ... يرنو إليها كلُّ أواب فصيروني بعض جلاسكم ... أو أخرجوا لي بعض أصحابي فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل علينا الطفيلي. فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فأختر لنفسك من أحببت نخرجه إليك لتنادمه! فقال: ماأرى لنفسي اختياراً غير عبد الله بن طاهر. فقال له المأمون: قد وقع اختياره فصر إليه! فقال: ياأمير المؤمنين، فأكون شريك الطفيلي؟! قال: فما يمكت ردُّ أبي محمد عن أمرين فإن أحببت أن تخرج وإلا فافد نفسك! فقال: ياأمير المؤمنين، له عليَ عشرة آلاف درهم! قال: لاأحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك. قال: فلم يزل يزيده عشرة والمأمون يقول له: لاأرضى له بذلك! حتى بلغ المائة، فقال له المأمون: فعجلها له! فكتب بها إلى وكيله ووجه معه رسولاً. فأرسل المأمون إلى أبي محمد: تقبض هذه في هذا الوقت أصلح لك من منادمته على مثل حاله وأنفع عاقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وقيل: إنه استأذن على المأمون ينادمه، فأخطا في كلام تكلم به، فانقبض المأمون من ذلك، فعرفه ذلك بعض الناس، فأتاه وهو متكفن متحنط وأنشده " من الطويل ": أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو فقبل عذره وعفا عنه. اجتمع اليزيدي وسلم الخاسر عند عيسى بن عمر، فقال سلم لليزيدي: اهجني وليكن على روي قصيدة امرئ القيس " من المديد ": ربَّ رام من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره فقال اليزيدي وكان حيياً عفيفاً: مالك ولهذا؟ قال سلم: كذلك أريد! فقال اليزيدي: ما أغنانا عن التعرض للنشر فلتسعك العافية! وأراد سلم أن يعرف عيسى أن لليزيدي مفحم عيي، فقال سلم: إنك لتحتجز بغاية الاحتجاز. فقال عيسى: سألتك يا أبا محمد إلا فعلت! فأخذ نعله وقلبها وكتب عليعا " من المديد ": ربَّ مغموم بعافية ... غمط النعماء من أشره وامرئ طالت سلامته ... فرماه الدهر من غيره بسهام غير مشويةٍ ... نقضت منه قوى مرره وكذاك الدهر منقلب ... بالفتى حالين من عصره يخلط العسرى بميسرة ... ويسار المرء في عسره عق سلم أمه سفهاً ... وأبا سلم على كبره كلُّ يومٍ خلقه رجلٌ ... رامح يسعى على أثره يولج الغرمول سبته ... كولوج الضب في حجره فقال سلم: هكذا استدعاء الشر والشقاء، ما كان أغناني عن هذا! فقال عيسى: لاأبعد الله غيرك! ولاأتعس إلا جدك! قد كان الرجل يستعفيك ويحترز منك أشد الاحتراز، بقياً على دينه فأبيت إلا ماسمعت. ومن شعر اليزيدي " من السريع ": من يلم الدهر ألا ... فالدهر غير معتبه أو يتعجب لصرو ... ف الدهر أو تقلبه وكل ذي عجوبة ... جار إلى تعجبه مضى بذاك مثل ... من ير يوماً ير به قول حكيم قاله ... في سالفات حقبه ورأس أمر لامرئ ... خير له من ذنبه حتف امرئ لسانه ... في جده أو لعبه بين اللهى مقتله ... ركب في مركبه ورب ذي مزح أفيتت نفسه في سببه ليس الفتى كلَّ الفتى ... إلا الفتى في أدبه وبعض أخلاق الفتى ... خير له من نسبه يحلم عنك في الرضا ... كحلمه في غضبه وذو النهى ليست تبا ... عات الهوى من أدبه لما يرى من أفنه ... فيه ومن تشعبه وآفة الرأي الهوى ... والحزم في تجنبه والأصل ينمي فرعه ... والمرء عند حسبه واظنن بكل كاذب ... ما شئت بعد كذبه والصدق من أفضل ما ... يؤثر عن مكتسبه من يقنع الدهر وإن ... قلَّ اثاث نشبه يعش رحيباً باله ... في ضيقه أو رحبه ومن يصاحب صاحباً ... ينسب إلى مستصحبه بزانيات رشده ... أو شانيات رتبه وربما عرَّ صحا ... حاً جرب بجربه يعرف من حال الفتى ... في لبسه ومركبه وفي شمأزيزته ... منك وفي تعتبه عليك او إصغائه ... إليك أو تحببه والحر قد تعرفه ... بلينه وقربه وعزمه وحزمه ... ورأيه وحدبه والمرء قد يدركه ... يوماً جنود منصبه بجهله يعرف و ... سيماه في توثبه وشرة النفس وفي ... إلحاحه وطلبه رفيق كل مطمع ... بحرصه وتعبه وقد تعدى طوره ... عن كنهات رتبه وقال " من الكامل ": آخ الكريم فإن ... صحبتك اللئام عليك وصمه والمال أصلحه ... فليس لمقتر في الناس حرمه وإذا استشرت فلا تشا ... ور غير من جربت حزمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 واحلم إذا جهل الجهو ... ل إذا دعتك الجهل حلمه ودع المراء لأهله ... واحذر معرته وإثمه وقال " من الكامل ": استبق ودَّ أبي المقا ... تل حين تدنو من طعامه سيان كسر رغيفه ... أو كسر شئ من عظامه ويصوم كرها ضيفه ... لم ينو أجرا في صيامه وقال " من الكامل ": باعد أخاك ببعده ... وإذا دنا شيئاً فزده كم من أخ لك ياابن بشار وأمك لم تلده وقال يهجو علماء البصرة والكوفة " من السريع ": وقل لمن يطلب علماً ألا ... ناد بأعلى شرف ناد ياضيعة النحو به مغرب ... عنقاء أودت ذات إصعاد أفسده قوم وأزروا به ... من بين أغتام وأوغاد ذوي مراء وذوي لكنة ... لئام آباء وأجداد لهم قياس احدثوه هم ... قياس سوء غير منقاد فهم من النحوواو عمرواأعمار عادٍفي أبي جاد أما الكسائي فذاك امرؤ ... في النحو حادٍ غير مزداد وهو لمن يأتيه جهلاً به ... مثل سراب البيد للصادي كان أبو عبيدة معمر بن المثنى يتهم بالغلمان، فجاء أبو محمد وحمل غلاما على عاتقه وقال له: اكتب على السارية التي يجلس إليها أبو عبيدة " من البسيط ": صلى الإله على لوط وأسرته ... أبا عبيدة قل بالله 'مينا وأنت عندي بلا شكٍ تبيتهم ... منذ احتلمت وقد جاوزت سبعينا فلما دخل أبو عبيدة المسجد وإذا السارية مكتوب في أعلاها البيتان، فحمل رجلاً على عنقه وقال: امحه! فقال: قد محوته وقد بقيت الطاء. فقال: امحها! فإنما البلاء في الطاء. وقال أبو زيد الانصاري يهجو أبا محمد " من الخفيف ": وجه يحيى يدعو إلى البصق فيه ... غيلا أني أصون عنه بصاقي وقال أبو محمد " من الوافر ": متى ما تسمعي بقتيل عشق ... أصيب فإنني ذاك القتيل فأخذ المعنى ابنه أبو عبد الله فقال " من الوافر ": بكيت ولم يهج حزني ... رسومٌ لا ولا طلل ولكن للنوى أبكي ... وطول العهد ياأمل أتيتك عائذا بك منك لما ضاقت الحيل وصيرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل فإن سلمت بكم نفسي ... فما لاقيته جلل وإن قتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل وقال أبو محمد " من السريع ": قومٌ كرامٌ ماعدا أنهم ... صولتهم منهم على جارهم وتوفي أبو محمد رحمه الله اثنتين ومائتين وكذا ذو الرئاستين. آخر الجزء الاول من نور القبس والحمد لله وحده 19 - ومن أخبار أبي عبد الله محمد بن أبي محمد اليزيدي قال محمد بن العباس اليزيدي: قال جدي محمد " ..... " وأنشدها المأمون " من الكامل ": الجهل بعد الأربعين قبيح ... فزعِ الفؤاد وإن ثناه جموح وبع السفاهة بالوقار وبالنهى ... ثمن لعمرك إن عقلت ربيح وأغنم بقايا من شبابك آذنت ... بتصرم والجسم منك صحيح فلقد حدا بك حاديان إلى البلى ... ودعاك داعٍ بالرحيل فصيح إلى غير ذلك من النمط، فبعث إليه الرشيد: مالنا وما لهذا الشعر يا محمد؟ فقال " من الكامل ": يسعى إليك بها غلام أهيف ... من جيبه ريح العبير يفوح ميسان أما دلّه فمخنثٌ ... غنج وأما وجهه فمليح وقال " من الوافر ": صحيحٌ وُدٌّ من أمسى عليلاً ... ليكتب أو يرى لكم رسولا رآك نشوبه الهجران حتى ... إذا ما أعتل كنت له دليلا هما موتان موتُ هوى وهجرٍ ... وموت الهجر شرهما سبيلا وقال غيره في المعنى وأحسن منه " من الطويل ": يودُّ بأن يمسي سقيماً لعلها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله ويهتزُ للمعروف في طلب العلى ... لتحمد يوماً عنه سلمى شمائله قال محمد: دخلتُ على المأمون، فقال لي: أما ترى عتق هذا الشراب حتى لم يبق إلا أقله، ما أحسن ما قيل في قدم الشراب؟ فقلت: قولُ الحكمي " من المديد ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 عُتِقت حتى لو أتصلت ... بلسان ناطقٍ وفم لاتبت في القوم ماثلة ... ثمَّ قصت الأمم فقال: كان هذا في نفسي. ثمّ نكت في الأرض ورفع رأسه وقال: يا محمد، قد قلت شعرا في شربنا! ثمّ أنشدني " من البسيط ": إني وأنت رضيعاً قهوةٍ نطفت ... عن العيان ودقَّت عن مدى الفهم مابيننا رحمٌ إلا إدارتها ... والكأس حُرمتها أولى من الرحم وقال محمد بن يزيد: كنتُ بباب المأمون، إذ جاءه محمد بن أبي محمد اليزيدي، فقال له الحاجب: قد أخذ أمير المؤمنين دواءٍ وأمرني أن لاآذن لأحد. فقال له: فأمرك ألا تدخل رقعة؟ قال: لا. فدعا بدواةٍ وقرطاس وكتب " من الوافر ": هديتي التحية للإمام ... إمامِ العدل والملك الهمام لأني لو بذلت له حياتي ... وما أحوي لقلا للإمام اراك من الدواءِ الله نفعاً ... وعافيةً تكون إلى تمام وأعقبك السلامة منه ربٌّ ... يريك سلامةً في كل عام ااذن في الدخول بلا كلام ... سوى تقبيل كفك والسلام فأدخل الحاجب الرقعةَ وخرج مبادراً وأدخله، فقبل يده، ثمّ ضمه إليه، وحمل معه ثلاثة آلاف دينار. - وقال " من الكامل ": نعم المحدّث والنديمُ كتابُ ... تلهو به إن ملك الأحباب لا مفشياً سِراً إذا استودعته ... ولديه ما تحيى به الألباب لا عيب فيه غير أنَّ ندامهُ ... لا أكلَ فيه وليس ثمَّ شراب 20 - ومن أخبار أبي إسحاق إبراهيم بن أبي محمد اليزيديّ كان ذا حظ وافرٍ من الأدب، وله الكتاب الذي يصول به اليزيديون ويفتخرون وهو " ما أتفق لفظه واختلف معناه " في نحو من سبعمائة ورقةٍ، وله " كتاب مصادر ونوادر من لغات العرب " وكان شاعراً فاضلا. حضر مجلس المأمون يحيى بن أكتم وإبراهيم بن أبي محمد اليزيدي، فأقبل يحيى على إبراهيم يمازحه فقال يحيى لإبراهيم: مابال المعلمين ينيكون الصبيان؟ فرفع إبراهيم رأسه، فإذا المأمون يحرش يحيى على العبث به، فغاظ ذلك إبراهيم فقال إبراهيم: أمير المؤمنين أعلم خلقِ الله بهذا، إلا أنَّ أبي أدَّبه. فقام المأمون من مجلسه، ورفعت الملاهي وكلّ ماكان بحضرته، فأقبل يحيى على إبراهيم فقال: أتدري ما أتيت وما تكلمت؟ إني لأحسب أنّ هذا سبب زوال أمركم! قال إبراهيم: فزالت عني سورة النبيذ، وسألت بعض الخدم أن يحضر لي دواةٍ ورقعة، فأحضرها، فكتبت معتذراً " من الطويل ": أنا المُذنب الخطاء والعفو واسعٌ ... ولو لم يكن ذنبٌ لما عرف العفو سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما ... كرهت وما إن يستوي السُكر والصحو ولاسيما إذ كنتُ عند خليفةٍ ... وفي مجلسٍ ما إن يليقُ به اللغو ولولا حمياً الكأس كان احتمال ما ... بدهت به لاشك فيه هو السرو تنصلت من ذنبي تنصل ضارع ... إلى من لديه يغفر العمد والسهو فإن تعفُ عني ألفِ خطوي واسعاً ... وإن لايكن عفوٌ فقد قصر الخطو قال: فأدخلها الحاجب ثمّ خرج إلي فأدخلني، فمدّ المأمون باعيه، فأكببتُ على يديه فقبلتهما، فضمني إليه وأجلسني ثمّ قال: مه يا أبا إسحاق، فإن الشراب بساط يطوي ماعليه. 21 - ومن أخبار أبي عليّ اسماعيل بن أبي محمد اليزيدي كان راويةً أديباً شاعرا، وابنه أبو الحسن أحمد مثله، ولإسماعيل كتاب في طبقات الشعراء لطيف، ومات أحمد قبل أبيه وأسن إسماعيل وله " من البسيط ": أتت ثمانون فاستمرت ... بالنقص من قوتي وحزمي فرقّ جلدي ودقّ عظمي ... واختل بعد التمام جسمي وقد رماني الزمان منه ... في العين من ركبتي بسهم فإن أنؤتؤت لا بحمد ... لقوةٍ الساق بل بذم كأن ما كنت فيه مما ... خلا من العيش ضغث حلم 22 - ومن أخبار أبي جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 قال أحمد بن محمد: كنا بين يدي المأمون فأنشدته مدحاً له، فقال: لئن كانت حقوق أصحابي تجب عليَّ بطاعتهم بأنفسهم، فإن أحمد بن محمد تجب له المراعاة والتفقد بنفسه وصحبته ولأبيه وخدمته ولجده وسبقته، وإنه لعريق في موالاتنا، متصلُ النسب في خدمتنا. فقلت: علمتني والله يا أمير المؤمنين كيف أقول! ثمّ تنحيّت ورجعت فأنشدته " من الكامل ": ليَ بالخليفة أعظم السبب ... فيه أمنت بوائق العطب ملك غذتني كفه فأبي ... قبلي وجدي كان قبل أبي فاختصني الرحمن منه بما ... أسمو به في العجم والعرب فقال: نظمت أحمد ما نثرناه. وقال أحمد: دخلت على المأمون في مجلس غاص بأهله، فأنشدته مديحاً فيه، وكان يستمع من الشعراء ماكان فيه نسيب أو وصف ضربٍ من الضروب حتى - إذا بلغ إلى مديحه فأنشد منه المنشد بيتين أو ثلاثة - قال: حسبك ترفعاً! فأنشدته " من الكامل ": يامن شكوت إليه ماألقاه ... وبذلت من ودي له أقصاه فأثابني بخلاف ما أملته ... ولربما حرم الحريص مناه أترى جميلاً إن شكا ذو صبوة ... فهجرته وغضبت من شكواه يكفيك صمت أو جواب مؤيس ... إن كنت تكره وصلهُ وهواه موت المحب سعادة إن كان من ... يهواه يزعم أنّ فيه رضاه فلما صرت إلى المديح قلت " من الكامل ": أبقى لنا الله الإمام وزاده ... عزاً إلى العز الذي أعطاه فالله أكرمنا بأنا معشرٌ ... عتقاءُ من نعم العباد سواه فسرَّه ذلك وضحك وقال: جعلنا الله وإياكم ممن يشكر النعم بحسن العمل. قال أحمد: قال لي المأمون وبحضرتنا يحيى بن أكتم: ياأحمد، أريد أبياتاً في الخضاب لم يتداولها الناس ولم يُقلْ في معناها. قلتُ: الساعة يا أمير المؤمنين! قال: فاعتزلت ناحية فقلت " من المتقارب ": إذا ظلم الشيبُ رأس الفتى ... فنازله وهو غضُّ الشباب فأحسن حالاته ستره ... ليترك أحبابه في ارتياب فبين مكذبةٍ إن وشى ... إليها به كاشحٌ ذو اغتياب وبين مصدقهةٍ لم ترع ... بحدة صاحبها في الخضاب بذلك أوصي بني أربعين ... وخمسين أو نحو هذا الحساب فان طال عُمرٌ فترك الخضا ... ب أولى بهم لانقضاء التصابي قال: فاستحسنها المأمون، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، فيها عيب! قال: ماهو؟ قال: لم يمدح أمير المؤمنين فيها! قال: فقلت: إنما أمرني أن أقول في الخضاب. ثمّ قلت " من المتقارب ": لقد أجمع الناس أنّ الإمام ... لقد بان بالفضل في كلّ باب وما زال مذ ساس أمر العباد ... يوفقُ في حكمه للصواب فآراؤه كلُّها حازمٌ ... إذا عيَّ بالرأيِ أهل الخطاب قليل العقوبة للمذنبيين ... وللمحسنيين جزيلُ الثواب فبلغه الله آماله ... وصير أعداءه في تباب وأمكنه من بلاد العدو ... ليحكم فيها بحكم الكتاب وقد كان همَّ بالخروج إلى بلاد الروم. 23 - ومن أخبار أبي العباس الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي كتب إلي أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وكان يداعبه، فجرت بينهما جفوة " من السريع ": استحي من نفسك في هجري ... واعرف بنفسي أنت لي قدري واذكر دخولي لك في كلّ ما ... يجمل أو يقبح من أمري قد مرّ لي شهرٌ ولم ألقكم ... لا صبر لي أكثر من شهر قال إبراهيم بن المدُبَّر: اجتمع عندي يوماً الفضل اليزيدي والبحتري وأبو العيناء، فجعل الفضل يلقي على بعض الفتيان نحواً، فقال له أبو العيناء: في أي بابٍ هو من النحو؟ قال: في باب الفاعل والمفعول به. فقال: هذا بابي وباب الوالدة حفظها الله! فغضب الفضل وخرج، ثمّ خرج البحتري من بغداد إلى سُرَّ من رأى وكتب إليّ بشعر وقال " من الخفيف ": ذكرتنيك روحة للشمول ... أوقدت لوعتي وهاجت غليلي ليت شعري يا ابن المدبر هل يد ... نيك فرطُ الرجاءِ والتأميل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بعد العهد غير رجع كتاب ... يصف الشوق أو بلاغ رسولي أيُّ شئٍ ألهاك عن سرَّ من ر ... أى وظلٍّ للعيش فيها ظليل اقتصاراً على أحاديث فضلٍ ... وهو مستبردٌ كثير الفضول وهي طويلة وآخرها: جُلُّ ما عنده الترددُ في الفا ... عل من والديه والمفعول قال ابن المدبر: فأمرت أن يكتب جواب الكتاب ويوجه إليه بمائة دينار، ودخل أبو العيناء، فأقرأته الشعر، فقال: أعطني نصف المائة، هجاه والله بكلامي! فأخذ خمسين، ووجهت إلى البحتري بخمسين وعرفته الخبر، فكتب إليَّ البحتري: صدق والله، مابنيت إلا عليه! 24 - أخبار رجلٍ من اليزيديين لم يسمَّ قال هذا اليزيدي: دخلت دار الواثق، فرآني من حيث لا أراه أمشي مسترسلاً، فلَّما دنوت منه قال: أتخطر في داري؟ فانقدعت حياءً، فقال: كيف تقول: قام زيدٌ؟ فقلت: قام زيدٌ. فقال: كيف تقول: لم يقم زيدٌ؟ فقلت: لم يقم زيد. قال: كيف تقول: أقيم زيد؟ قلت: أُقيم زيد. قال: مرفوع إذا فعل وإذا لم يفعل وإذا فُعل به. فقلت " من الرمل ": أحدث الواثقُ بالله لأهل النحو كيداً وهو المانعُ أن يضرب عبد الله زيدا 25 - ومن أخبار سيبويه وهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ويقال: كنيته أبو الحسن، من موالي بني الحارث بن كعب، ويقال: هو مولى آل الربيع بن زياد الحارثي، وتفسير سيبويه بالفارسية رائحة التفاح، وقيل: إن امرأة كانت ترقصه وهو صغير تقول له ذلك. أخذ النحو عن عيسى بن عمر ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد، واللغة عن أبي الخطاب الأخفش وغيره. قال ابن دريد: هو من أهل أرجان. وقيل: إنه كان يستملُّ على حماد بن سلمة، فقال له حماد يوماً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحدٌ من أصحابي إلا وقد أخذت عليه ليس أبا الدردراء. فقال سيبويه: ليس أبو الدردراء. فقال حماد: لحنت يا سيبويه! فقال سيبويه: لاجرم لأطلبن علماً لاتلحنني فيه أبداً! فطلب النحو ولزم الخليل. قال المبرد: لم يقرأ أحدٌ كتاب سيبويه عليه وإنما قُرئ بعده على أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، وكان ممن قرأه على الأخفش صالح بن إسحاق الجرمي. - قال أبو زيد النحوي يفتخر: كلُّ ما حكى سيبويه في كتابه فقال: أخبرني الثقة، فأنا أخبرته. - قال الأخفش: كان الكسائي جاءنا إلى البصرة وسألني أن أقرئه كتاب سيبويه، ففعلت، فوّجه إليَّ خمسين ديناراً. وكان الأخفش أسنَّ من سيبويه، ولم يأخذ عن الخليل. وقال الفراء: كان سيبويه عضلة من العضل، ولما قال بشار في وصفه السفينة " من الطويل ": تُلاعب نينان البحور وربما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري أنكر سيبويه ذلك على بشار وزعم أن العرب لاتجمع النون على نينان، وأتصل ذلك ببشار، فقال: ويحه! أما يقول: حُوت وحيتان وغول وغيلان؟! - وقيل: إن الذي عاب عليه ذلك أبو الحسن الأخفش - وتوعد بشار سيبويه ولدغه بأبيات، فكف سيبويه عن تتبع شعره واحتج ببعضه تقرباً إليه واستكفافاً لشره. وقد كان في نسيب هذه القصيدة " من الطويل ": على الغزلي مني السلام فربما ... لهوت بها في كلّ مخضرّة زهرِ يريد بالغزالي الغزل، فعاب عليه سيبويه " الغزالي " وقال: لم يسمع هذا من العرب. واتصل ذلك ببشار فقال: هذا مثلُ النقري والجفلي والمرطي وهو السرعة في المشي. وقال بشار فيه " من الطويل ": اسيبويه يا ابن الفارسية مالذي ... تحدثت من شتمي وما كنت تنبذُ أطلت تغنى سادراً بمساءتي ... وأُمك بالمصرين تعطي وتأخذ فقيل لبشار: تنسبه إلى الفارسية؟ فقال: نسبته إلى أعرف أبويه. قيل: فلم جعلتها فارسية؟ قال: إن بفارس الوضيع والشريف. - وقال أبو محكم: كانت بالبصرة امرأة زانية يقال لها الفارسيَّة، مشهورة بالزنا، فكان أهل البصرة إذا أرادوا أن يزنُّوا إنساناً قالوا: يا ابن الفارسية! وإلى هذا ذهب بشار. قال ابن سلام: سألت سيبويه عن قوله عز وجل: (لَلَوْلا كانتْ قَرْيَةٌ آمنَتْ فَنَفَعها إيمانَهُا إلا قَوْمَ يُونُس) على أي شيء نصب؟ قال: ألا إذا كانت بمعنى لكنَّ نصبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وقيل: كان سبب ميتة سيبويه أنه كان عنده صديق له، فتمسى عنده وأخذ منه الشراب، فحرص به صاحب المنزل أن يبيت عنده، فأبى فوجّه معه غلاماً ليوصله إلى منزله، فصار إلى دربه وقد أغلق دونه، فتسور الدرب ومكث الغلام مكانه، فتردى من أعلى الدرب على رأسه فوقص فسمع وهو يقول " من الطويل ": يَسُرُّ الفتى ماكان قدَّم من تقى ... إذا أبصر الداءَ الذي هو قاتله وقيل: إنه مات من علة وله ثمان وثمانون سنة. - وقيل له في علته التي مات فيها: ماتشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي. وقيل: لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه، فأغمي عليه، فدمعت عبنُ أخيه فقطرت قطرة من دموعه على خده، فأفاق من غشيته فرأى أخاه يبكي فقال " من الطويل ": أخَييَّنِ كنَّا فرَّقَ الدَهْرُ بيننا ... إلى الأمدِ الأقصى فمن يأمن الدَهْرا وقال ابن دريد: مات سيبويه بشيراز وقبره بها. وقال عبد الباقي بن قانع: مات بالبصرة سنة احدى وستين ومائة. قال المرزباني: وهم فيهما جميعاً أعني في الموضع والتاريخ. 26 - ومن أخبار أبي الحسن الأخفش وهو سعيد بن مسعدة المجاشعي، مولى بني مجاشع بن دارم، وضع كتباً في النحو، ومات قل استتمامها، ولو بقي وخرج علمه ما تقدمه أحد. وقيل: كان أعلم الناس بالكلام وأحذقهم فيه بالجدل، وكان غلام أبي شمر على مذهبه. قال أبو عثمان المازني: قال لي الأخفش: أتلزم الأصمعي؟ قلت: ما أفارقه. قال: أتتعلم منه النحو؟ قلت: لا، ولكنني أتعلمُ منه المعاني واللغة والشعر. فقال: سلني عن شيء منه! فقلت: عن صعبه أم سهله؟ فقال: سهله. فقلت: مايريد الشاعر بقوله " من الهزج ": أمن زينب ذي النارُ ... قبيل الصبح ماتخبو إذا ما خمدت يلقى ... عليها المندلُ الرَطبُ ولم أعرب البيت ألول كله؟ فقال الأخفش: أمن زينب صاحبة النار؟ فقلت: ليس هذا هكذا عنده، يريد: هذه النار التي تخبو. فقال: هذا أحسن. قال المبرد: مات الأخفش بعد الفراء، ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق " بثلاث سنين ". قال الأخفش: " .... " احتجت أنّ أركب في حاجة لي، فأردت أن أستعير منه دابته، ودابة لاتقع في الشعر لأن فيه حرفين ساكنين ملتقيين أحدهما الألف والآخر الباء المدغمة، فكتبت إليه " من المتقارب ": أردت الركوب إلى حاجتي ... فمرُ لي بفاعلة من دببتُ فكتب إليَّ " من المتقارب ": بُريذيننا يا أخي غامز ... فكن محسناً فاعلاً من عذرتُ وقال أبو حاتم السجستاني: كنت عند أبي الحسن الأخفش وعنده التوزي، فقال لي: ياأبا حاتم، ماصنعت في " كتاب المذكر والمؤنث "؟ قلتُ: قد عملت في ذلك شيئاً. قال: فما تقول في الفردوس؟ قلت: ذَكَر. قال: فإن الله عز وجلّ يقول: (الفرِدوسَ هُم فيهَا خَالِدونَ) . قلت: ذهب إلى الجنة فأنث. قال لي التوزي. ياغافل، أما تسمع الناس يقولون: أسألك الفردوس الأعلى!؟ فقلت: يانائم، الأعلى ههنا أفعل وليس بفعلي! قال الأخفش: حدثنا المجالد بن سعيد عن الشعبي قال: قالت كاهنة أشجع في الجاهلية: الرجالُ أربعة والنساء أربع: فطويل نعنع وقصير مدقع ومن لايضر ولا ينفع وأسك أصمع. وإنما أرادت الذكر فأوقعت اللفظ على الرجال والمعنى للذكر؛ وقولها: مُدقعٌ: لاشيء عنده من آلة الجماع، والأسك: الصغير الكمرة، ومن لايضر ولا ينفع: عنينٌ. والنساءُ أربعٌ: فمنهن الحرحة: وهي المساحقة، والشَّفرة: وهي التي شهوتها بين شفريها، والقعرة: التي شهوتها في أقصاه والعنينة. قال الأخفش: سمعت عيسى بن عمر يقول: الزابن واحد الزبانية، وقال بعضهم: واحدها الزباني والزبنية، والعرب لاتكاد تعرف هذا وتجعله من الجمع الذي لاواحد له مثا أبابيل، وتقول: جاءت إبلي أبابيل أي فرقاً، وهذا يجيءُ في معنى التكثير مثل عبابيد وشعارير. - قال: وكُلّ ماكان من الأسماء الأعجمية تحسن فيه الألف واللام في حال المعرفة فاصرفه مثل راقودٍ وياقوت وطاووس وزن فاعول. - وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: لايدخل الجنة قتات! القتات والقساس: النمام. 27 - ومن أخبار النضر بن شُميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم المازنيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 كنيته أبو الحسن، بصري الأصل، نزل مرورود وهي من بلاد بني مازن؛ وكان راوية عن البصريين، سمع من ابن عونٍ وشعبة بن الحجاج وأشكال هؤلاء، كان ثقة ثبتاً صاحب عربية، وكان يدعو إلى السُنَّة، ومات بمرورود سنة أربع وقيل ثلاث ومائتين. قال النضر: دخلت على المأمون يوماً بمرو وعليَّ أطمار ثيابٍ رثةٍ، فقال: أتدخل على الخليفة في مثل هذه الاطمار؟ فقلت: إن حرَّ مرو لايدفع إلا بمثل هذه الأخلاق. قال: ولكنك متقشف! ثمّ تجارينا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان في ذلك سدادٌ من عوز. وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: يانضر، السداد لحن! قلت: هو في هذا الحديث لحن، وإنما لحنه هشيم لأنه كان لحانةً. فقال: مالفرق بينهما؟ قلت: السداد القصد في الدين والسبيل، والسداد البلغة! - وقال الجوهري والسداد ما يسد به الشء - فقال: فهل تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان حيث يقول " من الوافر ": أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليومِ كريهةٍ وسداد ثغر فأطرق المأمون ملياً وقال: قبح الله من لاأدب له! ثمّ قال: أنشدني، يانضر، أخلب بيت للعرب! قلت: قول ابن بيضٍ، يا أمير المؤمنين " من المنسرح ": تقول لي والعيون هاجعةٌ: ... أقم علينا يوماً فلم أقم أيَّ الوجوه انتجعت، قلت لها: ... لا لي وجهٌ إلا إلى الحكم متى يقل حاجباً سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات إذ حلَّ أعطني سلمي فقال المأمون: لله درُّك! فكأنما شُقَ لك عن قلبي؟ ثمّ أنشدني أقنع بيت قالت العرب! قلت: قول ابن عبدلٍ - وقال الجوهري: قول راعي الإبل - " من المنسرح ": إني امرؤ لم أزل وذاك من ... الله أديباً أعلمُ الأُدبا أقيم بالدار ما أطمأنت بي ... الدارُ وإن كنتُ نازحاً طربا أطلب ما يطلب الكريم من المال بنفسي وأحسن الطلبا وأحلُبُ الثرة الصفيَّ ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبَّته في كريمة رغبا والنذل لايطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا ولم أجد غرة الخلائق ... إلا الدين مهما اختبرت والحسبا قد يرزق الخافض المقيم وما ... شدَّ لعنس رحلا ولا قتبا ويحرم الرزق ذو المطية والرحل ومن لايزال مغتربا فقال: أحسنت أحسنت أحسنت - ثلاثا -، هذه أحسن من الأولى! فعندك ضدُّ هذا؟ قلت: نعم، أحسن منه. قال: هات! فأنشدته " من الوافر ": يدُ المعروف غيمٌ حيث كانت ... تحملها شكور أو كفورُ قال: أحسنت، فأنشدني أنصف بيت قالته العرب! فقلت: هذا ابن أبي عروة - وقال الزبير بن بكار: هذا ابن أبي عروبة - " من الكامل ": إني وإن كان ابن عمي كاشحاً ... لمزاحم من خلفه وورائه ومفيده نصري وإن كان آمرأً ... متزحزحاً في أرضه وسمائه وأكون والى سره فأصوته ... حتى يحين عليَّ وقت أدائه وإذا دعا باسمي ليركب مركبا ... صعباً قعدت له على سيسائه وإذا استجاش رفدته ونصرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه وإذا أتى من وجهه لطريقه ... لم أطلع مما وراء خبائه وإذا رأيت عليه ثوباً ناعماً ... لم يلفني متمنياً لردائه ويروى. واذا ارتدى ثوباً جميلاً لم أقل ... ياليت أنَّ عليَّ حسن ردائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فلم يكلمني عندها بشء وأخذ القرطاس ومدّ يده إلى دواة وجعل يكتب شيئاً لاأدري ماهو، ثمّ قال: يانضر، كيف تأمر إذا أردت أن تترب الكتاب؟ قلت: أتربه! قال: فمن الطين؟ قلت: طنه! قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب مطين. قال: هذه أحسن من الأولى. ثمّ ناول الكتاب خادما، فمضى به إلى الفضل بن سهل، ففتح الكتاب وقال لي: مالسبب الذي وصلك فيه أمير المؤمنين بثلاثين ألفا؟ فأخبرته. فقال: سبحان الله ألحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا، أيها الوزير، وإنما لحنه هشيم لأنه كان لحانه! فقال: حدثني عن الخليل بن أحمد! قلت: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم الناس - وقال ابن مخلد والجوهري: صرت أنا والخليل إلى أبي ربيعة الأعرابي، فإذا هو على سطحٍ، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استتوا! فبقينا متحيرين لم ندر ما قال. فقال أعرابي بحنبه: إنه يقول لكم: ارتفعوا! فاستخرجها الخليل من قول الله عز وجل: (ثُمَّ اسنوى إلى السَّماءِ وَهيَ دُخانٌ) أي ارتفع. فصعدنا فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن خمير وماء نمير؟ فقلنا: لا! فقال: سلاماً! فبقينا أيضاً متحيرين لم ندر ماقال لنا. فقال الأعرابي: إنه سألكم متاركة لاخير بيننا ولاشرَّ! فاستخرجها الخليل من قول الله عز وجل: (وإذا خاطبهمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلاَما) . فقال الفضلُ: هذا أحسن مما حكيت للخليفة! فزادني من عنده عشرين ألفاً، فانصرفت بخمسين ألفاً. ومرض النضر، فدخل الناس إليه يعودونه، فقال له رجل: مسح الله مابك! فقال النضر: لاتقل مسح بك، ولكن مصح! ألم تسمع قول الأعشى " من الرمل ": وإذا ما الخمر فيها أزبدت ... أفل الإزبادُ فيها فمصحْ فقال الرجل: لابأس! السين قد تعاقب الصاد فتقوم مقامها. فقال النضر: إن كان كذا فينبغي أن تقول لمن أسمه سليمان صليمان، وتقول: قال رصول الله! ثمّ قال النضر: لايكون هذا في السين إلا مع أربعة أحرف، الطآء والخآء والقاف والغين، فيبدلون السين بهذه، وربما أبدلوها بزاي، كما قالوا: سراط وصراط وزراط. - قال الصولي: وهذه يقال لها حروف الاستعلاء، تبدل إذا كانت بعد السين، فأما إذا كانت قبل فلا. وقال النضر يوماً: أنشدونا من زهد ابي نواس! فأنشده " من الطويل ": وما الناس إلا هالك وابن هالكٍ ... وذو نسبٍ في الهالكين عريقِ فقال: قاتله الله لكأنه سمع الحسن يقول: إن امرءاً ليس بينه وبين آدم عليه السلام إلا أب ميت لنعرق في الموت. - وحدث حرب بن ميمون قال: رأيت خاتم النبي صلى الله عليه وسلم عند النضر وهو فضة أبيض. ومات النضر رحمه الله سنة أربع ومائتين. 28 - ومن أخبار أبي فيد مؤرِّج بن عمرو السَدُوسيّ كان يقول: اسمي وكنيتي غريبان، اسمي مؤرج، والعرب تقول: أرجت بين القوم وأرشت إذا حرَّشت، وأنا أبو فيد والفيد ورد الزعفران زيقال: فاد الرجل يفيد فيداً إذا مات. وقال: القنديد الكافور وأنشد " من الطويل ": ببابل لم تعصر فجاءت سلافة ... تخالط قنديداً ومسكاً مختما وقال المؤرج " من البسيط ": روُعت بالبين حتى ما أراع به ... وبالمصائب في أهلي وجيراني لم يترك الدهر لي إلفاً أضن به ... إلا اصطفاه بنأي أو بهجران سمع " كتاب الأنواء " لمؤرج بجرجان، وخرج المأمون منه سنة أربع ومائتين، وخرج المؤرج إلى البصرة، فمات فيها. 29 - ومن أخبار أبي زيد الأنصاري وهو سعيد بن أوس بن ثالب " بن بشير بن ثابت بن زيد " بن قيس بن زيد بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج. وشهد ثابت أحداً والمشاهد بعدها، وهو أحد العشرة الذين بعث عمر رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري إلى البصرة وأحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلة الله عليه وسلم، وله عقب بالبصرة. وكان أبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو وكانا بعده يتقاربان. وقال المبرد: أبو زيد صاحب لغة وغريب ونحو وكان أكبر من الأصمعي في النحو، وكان أبو عبيدة أعلم من أبي زيد والأصمعي بالأنساب والأيام والأخبار، وكان الأصمعي بحراً في اللغة لايعرف مثله فيها وفي كثرة الرواية. قال عبَّاس الأزرق: كنت عند شعبة بن الحجاج ذات يوم وقد اجتمع أصحاب الحديث ليحدثهم، فنظر إلى أبي زيد النحوي في أخريات الناس فرفع رأسه ثمّ قال " من البسيط ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 استعجمت دار نعم لاتكلمنا ... والدارُ لو كلمتنا ذات أخبار أدن، يا أبا زيد، ادنه! فما زالا يتناشدان الشعر، فقال بعض أصحاب الحديث: ياأبا بسطام، نقطع إليك ظهور الإبل لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتركنا وتقبل على إنشاد الشعر! فغضب شعبة وقال: ياهذا، أنا أعلم بأمري، أنا والله في هذا أسلم مني في ذاك! - قال أبو زيد: قال لي شعبة: سلني عما شئت من الشعر! قلت له: فما معنى قوله " من الطويل ": بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلَّت فأطرق ثمّ قال: لاأدري. ومعناه: لم يشيموها أي لم يغمدوها إلا وقد كثرت القتلى بها. حضر أعرابي عند أبي زيبد، فقال: أنتم أهل خشونة، ياأهل البادية، ونحن أهل لين وغزل. فقال الأعرابي: كيف تكونون أغزل منا ومنا من يقول " من البسيط ": هيفاءُ مقبلةً عجزاء مدبرةً ... لم تجف طولاً ولا أزرى بها قصر غراء كالقمر المشهور طلعته ... لابل يرى مثلها لما أستوى القمر مالان قلبي لناه عن مودتها ... وهل يلين لقول الواعظ الحجر قال: فكتبنا. قال: وفينا من يقول أيضاً " من البسيط ": هيفاءُ فيها إذا استقبلتها قصف ... عجزاء خامصة الكشخين معطار غراء لم يرها مما يحذرها ... بساحة الدار لابعل ولاجار قال أبو زيد: قلت لأعرابي: أقرأ! فقال: سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسَّوى، والذي منَّ على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، حتى إذا شبَّ واستوى، أدبر وتولى. ذكر عند أبي زيد تفسير الأصمعي لقول الأعشى " من الكامل ": وسيئة مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها وإنه قال: معناه شربتها حمراء وبلتها بيضاء فسلبتها الجريال. فقال أبو زيد: لم يقل أبو سعيد شيئاً، قد نرى الزنجي يفعل ذلك يشربها حمراء ويبولها بيضاء، وإنما أراد: أخذت حمرتها في وجنتي فصار لونها في خدي، وهذا مانراه أبداً عند الامتحان. كان ديسم العنزي لايزال يحفظ أشياء من هجو حماد عجرد وأبي هشام الباهلي في بشار بن برد فبلغه ذلك فقال " من الطويل ": أديسم يا ابن الذئب من نجل زراع ... أتروي هجائي سادراً غير مقصر قال أبو حاتم: فأنشدت أبا زيد هذا البيت وقلت له: ماتقول؟ فقال: لمن الشعر؟ قلت لبشار. قال: قاتله الله، ما أعلمه بكلام العرب! ثمّ قال له: الديسم ولد الذئب من الكلبة، وزارع اسم الكلب ويقال للكلاب: أولاد زارع، والعسبار ولد الضبع من الذئب، والسمع ولد الذئب من الضبع، وزعمت العرب أن السمع لايموت حتف أنفه، وإنه لأسرع من الريح. وقال أبو زيد: مرّ بي رؤبة فاستنشدته، فأنشدني أرجوزته: وقاتم الأعماق خاوي المخترق فاجتمع الناس عليه حتى سدوا الطريق، ومرت به عجوز فلم يمكنها أن تتخطى، فقال " من الرجز ": تنح للعجوز عن طريقها ... إذ اقبلت رائحة من سوقها دعها فما النحوي من صديقها قال أبو زيد: ما سمعت أحداً يقول: فلان من صديقي! قبل رؤبة. - وشهد رؤبة قوماً يلعبون بالنرد وهو لايدري ماهم فيه، ثمّ حضر الطعام فقال " من الرجز ": ياأخوتي جاء الطعام فارفعوا ... خيابة كعابها تقعقع لم أدر ما ثلاثها والأربع وقف أعرابيٌّ على أبي زيد، فظن أنه جاء يسأله عن مسألةٍ في النحو، فقال: سل عما بدا لك! فقال الأعرابي " من الخفيف ": لست للنحو جئتكم ... لا ولا فيه أرغب أنا مالي ولأمري ... أبد الدهر يضرب خل زيداً لشأنه ... حيثما شاء يذهب واستمع قول عاشق ... قد شجاه التطرب همه الدهر طفلة ... فهو فيها يشيب قال أبو زيد: وقفت على قصاب فقلت: بكم البطنان؟ فقال: بمصفعان، يامضرطان! قال: فغطيت رأسي وفررت لئلا يسمع الناس فيضحكوا مني. - وأنشد أبو زيد " من المتقارب ": إذ أنت لم تعف عن صاحب ... أساء وعاقبته إن عثر بقيت بلا صاحب فاحتمل ... وكن ذا وفاءٍ وإن هو غدر ولا تسأل الحرَّ عن عورة ... وإن قام يوماً عليها ستر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قال أبو عبد الرحمان السُلمي: خطبنا الحسن بن علي رضي الله عنهما بعد وفاة عليّ رضي الله عنه، فقال: ياأيها الناس، والله قد فقدتم رجلاً ما سبقه أحد كان قبله، ولا يلحقه أحدٌ يكون بعده، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، ماترك صفراء ولا بيضاء إلا ثماني مائة درهم فضلت عن عطائه، أراد أن يشتري بها خادما. ثمّ بكى وبكى الناس، ثمّ قال: وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مقتول، " فإنا لله وإنا إليه راجعون "، لا معقب لحكمه ولاراد لقضائه! قال المازني: دخلت على أبي زيد في مرضه الذي مات فيه، فقال: أشتكي صدري. فقلت: أمرخه بشمع ودهن! فقال: ليس كذا، إنما هو أمرخه، فتعجبت منه في تلك الحال يعلمني. - ومات أبو زيد رحمه الله سنة خمس عشرة - وقيل: أربع عشرة - ومائتين، وله ثلاث - وقيل: اربع، وقيل: خمس - وتسعون سنة. 30 - ومن أخبار أي عبيدة معمر بن المثنى هو مولى لتيم قريش في قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وقال أبو سعيد السُكري: أبو عبيدة مولى بني سلامة من بني تيم بن مرة، وسلامة هذه أم عبد الرحمان، ومنهم من وهم ويقول: آل سلامة مخففاً يوهمون أنه رجل، وعثمان بن عفان قاضي البصرة خاله، ولد سنة اثنتي عشرة ومائة ومات سنة ثمان ومائتين، بلغ ثلاثا وتسعين سنة. قال ثعلب: من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني. - وهو أولُ من رسم في الجاهليين والإسلاميين من الجوداء والفرسان وغير ذلك كتاباً سماه الناس بالديباج. - كان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة ويصفه ويشنأ الأصمعي ويهجوه، فقيل له: ماتقول في الأصمعي؟ قال: بلبل في قفص. قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ قال: جمع علم الناس وفهمه. قيل: فما تقول في أبي عبيدة؟ قال: ذاك أديم طوي على علم. قال أبو عبيدة: قال لي رجلً من الملحدين: مامعنى قول الله تعالى (قُلْ إنْ كان للرِحمن وَلَدٌ فأنَا أَوَّلُ العَابدين) . فقلت: العابد في قول العرب الآنف، ألم تسمع قول الشاعر " من الوافر ": وأعبد أن أسبَّهم بقومي ... وأترك دارماً وبني رياح أولئك إن سببت وفاءُ قومي ... وأحذر أن أعاقب بالجناح وكذا قولُ الفرزدق " من الطويل ": أولئك أكفائي فجئني بمثلهم ... وأعبدُ أن أهجو عبيداً بدارمِ وقال أبو حاتم: كان أبو عبيدة صفرياً وكان يكتم ذلك فأنشدني لعمران ابن حطان " من البسيط ": أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ماالناس بعدك يامرداسُ بالناس إما تكن ذقت كأساً دار أولها ... على القرون فذاقوا نهلة الكاس فكل من لم يذقها شاربٌ عجل ... منها بأنفاس وردٍ بعد أنفاس قد كنت أبكيك حيناً ثمّ قد يئست ... نفسي فما ردَّ عني عبرتي ياسي قال: وكثيرا ما ينشد أشعارهم ثمّ يتمثل " من الطويل ": أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا قال: والصفرية أصحاب عبد الله بن صفار أحد بني سعد؛ والإباضية أصحاب عبد الله بن إباض أحد بني سعد؛ والأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، وكان صفرياً ثمّ خالفهم في تعذيب الأطفال، فتبرؤا منه واتبعه على رأيه أبو فديك ونجدة بن عامر الحنفي. - قال التوزي: كنت إذا أردت أن أنشط أبا عبيدة سألته عن أخبار الخوارج فأبعج منه ثبج بحرٍ، فجئته يوماً وهو مطرق ينكت في الأرض في صحن المسجد، وقد قربت منه الشمس، فسلمت فلم يُردَّ عليَّ، فتمثلتُ " من الوافر ": وما للمرء خير في حياةٍ ... إذا ما عُدَّ من سقط المتاع فنظر إليَّ وقال: ويحك! أتدري لمن البيت؟ فقلت: لقطري. فقال: أسكت، فضَّ الله فاك إلا قلت: أمير المؤمنين أبو نعامة! ثمّ انتبه فقال: أكتمها عليَّ! فقلت: هي بنت الأرض. قال أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطي: كنت في مجلس المبرد فجرى ذكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام محتجاً لمذهبه في أن الأسم هو المسمى بقول لبيد - وهو مذهب أبي عبيدة - " من الطويل ": إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قال أبو عبيد: " اسم السلام " ههنا هو السلام، كما يقال: هذا وجه الحق، يراد هذا الحق، " فثمَّ وجه الله " أي الله. فقال المبرد: غلط أبو عبيد وأخطأ أبو عبيدة، والذي عندنا أنّ لبيداً أراد بقوله " اسم الله " اسم الله عز وجل، وهذا الذي أختاره ويختاره أصحابنا. فقلت: السلام عندي ههنا هو اللفظ الموضوع لتقضي الأشياء فتختم بها الرسائل والخطب والكتب والكلام الذي يستوفي معناه، فليس لها مسمى غيرها وهي مثلُ حسب وقط وقد الموضوعات لتقضي الأشياء وختم الكلام، فهي اسم لامسمى له غيره. قال: فأعجب ذلك المبرد واستحسنه وقال لي: لاعدمتك، يا أبا عبد اللهه! فما سرني بهذه حمر النعم. وسئل أبو عبيدة عن قوله تعالى: (وحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً) ، فقال: العرب تجعل الواحد في موضع الجمع، قال عباس بن مرداس " من الوافر ": فقلنا: أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإجن الصدور وقال: (ثمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا) ، وقال: (يَنظُرُون مِنْ طَرَفٍ خَفِي) . وقال في قوله: (أكادُ أُخْفيِها) أي أظهرها، قال: وأنشدني أبو الخطاب قول تمرئ القيس بن عابس الكندي " من المتقارب ": فإن تكتموا الداء لانخفه ... وإن تبعثوا الحرب لانقعد وقال في قوله تعالى: (وَالَّذين يكنزون الذَّهبَ وَالفِضَّة وَلاَ يُنْفقونها في سبيل اللهٍ) ولم يقلُ: ينفقونها في سبيل الله، جاء الخبر لواحد كما قال البرجمي " من الطويل ": فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب وقال أبو قيس بن الأسلت " من المنسرح ": نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مشترك وقال آخر " من الخفيف ": إنّ شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنوناً وقال في قوله: (أوَ لَمْ يَرَ الذَّين كَفَرُوا أنَّ السَّمواتِ وَالأرض كانتا رَتْقاً) ولم يقل: رتقين، قال الأسود بن يعفر " من الكامل ": إنَّ المنية والحتوف كلاهما ... يوفي المخارم يرقبان سوادي والرتق الذي ليس فيه ثقب، ففتق الله عز وجل السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات. وقال في قوله: (خلق الإنسان مِنْ عجل) إنما العجل خلق من الإنسان، وفي قوله: (ما إنَّ مفاتحه لتنوءُ بالعصبة) وإنما العصبة تنوء أي تنهض بالمفاتح، والعرب تقول: إنها لتنوء عجيزتها بها، والمعنى: هي تنوء أي تنهض بعجيزتها. قال الجعدي " من الطويل ": تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا وأنشد أبيات المتلمس " من الطويل ": أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لايمس دم دما وقال: هذا أشد بيت قيل في النفي ومنها: وما كنت الا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدما فلما استقاد الكفَّ بالكف لم يكن ... له درك في أن تبينا فأحجما فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً لنابيه الشجاع لصمما قال أبو عبيدة: يريد أنه فيما صنع به أخواله بمنزلة من قطع يده الأخرى فبقي أجذم فأمسك عنهم. قال أبو عبيدة: كان بالبصرة نخاس في سوق الإبل يقال له ثبيت، فنزل به أعرابي، فجعل يصلي إلى الصباح ولم يطعم الأعرابي شيئاً، فقال الأعرابي لما صلى الغداة " من الوافر ": لخبز يا ثبيت عليه لحم ... أحب إليَّ من صوت القرآن تبيت تدهده القرآن حولي ... كأنك عند رأسي عقربان فلو أطعمتني خبزاً ولحما ... حمدنا والطعام له مكان قال أبو عبيدة: فاستفدنا من الأعرابي عقربان، يقال للذكر عقربان وللأنثى عقربة. - قيل له: أيما أشعر أبو نواس أو أبي عيينة؟ قال: لاأحكم بين الشعراء إذا كانوا أحياء. وقال: إنما سمي قصياً لأنه قصا مع أبيه، وسمي المغيرة عبد مناف لأن أمه أخدمته منافا صنما كان لهم في الجاهلية، وكان اسمه ايضا القمر؛ وعمرو هاشما لأنه هشم الثريد، وأول من هشم إسماعيل عليه السلام ثمّ عمرو وعبد المطلب لما زاره مع عمه المطلب حين جاء به من عند أمه؛ وكان المطلب ابن عبد مناف يلقب الفيض. اسم الجارود بشر بن عمرو، وهو من سادات عبد القيس، وإنما سمي الجارود بقوله " من الطويل ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 كما جرد الجارود بكر بن وائل وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشج. وكتب إليه المنذر بن عائذ كتاباً من دارا موضع من البحرين وعرفه بأنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قبل دعوتهم، وأنه عليه السلام أرسل إليهم معه العلاء بن الحضرمي رسولا. فقدم الجارود على النبي صلى الله عليه وسلم مع العلاء ورهط من عبد القيس فبايعوه. وقال: من طرق كثيرة أن أبا هريرة قال: حدا الحادي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأبيات " من الرجز ": طاف الخيالان فهاجا سقما ... خيال تكنى وخيال تكتما قامت تريك خشية أن تصرما ... ساقاً بخنداة وكعباً أدرما وتكلم أبو عبيدة يوماً في باب من العلم، ورجل يكسر عينه حياله يوهم أنه يعلم ما يقول، فقال أبو عبيدة " من الوافر ": يكلمني ويخلج حاجبيه ... لأحسب عنده علماً دفيناً وما يدري قبيلاً من دبير ... إذا قسم الذي يدري الظنونا وكان أبو عبيدة يعشق خرك بن أخي يونس النحوي فقال فيه " من الخفيف ": ليتني ليتني وليت وليتي ... ليتني قد علوت ظهرك خرك فقرأنا حقابه وفككنا ... خاتماً كان قبلنا لم يفكك وقال أبو عبيدة: أعرق العرب في القتل عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد، قتل عمارة وحمزة يوم قديد، قتلهما الإباضية، وقتل محمد مصعب بن الزبير، وقتل الزبير ابن جرموز، وقتلت بنو كنانة العوام، وقتلت خزاعة خويلداً. وقيل لأبي عبيدة: مامعنى قول الأول " من الوافر ": فأوصى جحدر قدماً بنيه ... بإلقاء القراد على البعير قال: هذا اللص أمر ولده أن يأخذ القراد فيطرحه على ذنب البعير وهو بارك، فإذا ثار البعير قاده فانقاد معه، ولو أثاره وهو بارك من غير أن يطرح على ذنبه القراد لرغا. وسئل أبو عبيدة عن قوله تعالى: (اَلَم ذلك الكتابُ) وأين ذلك من هذا؟ فقال: إن العرب تجعل الفعل السمقبل مكان الفعل الماضي، قال الشاعر " من الطويل ": أقول له والرُمحُ يأطِرُ متنه ... تأملْ خفافاُ إنني أنا ذلكا ولم يقل: أنا هذا! ويأطر يطعن. وقال: أعيانا أن نرى زبيرياً سخياً أو مخزومياً متواضعاً أو دارياً أرسح أو بكريا كامل العقل. - وسئل عن قوله تعالى: (طلْعُها كأنه رؤوسُ الشَّياطين) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف. فقال: إنما كلمهم الله على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس " من الطويل ": أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به. قال أبو عبيدة: واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، وعملت كتابي الذي سميته " المجاز ". قال: وقال لي الفضل بن يحيى: من أشعر المولدين؟ فسميت له جماعة. قال: لا، ولكن أشعرهم الذي يقول وهو ابن أبي عيينة المهلبي " من البسيط ": زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لابُدَّ من زورة عن غير ميعاد زره فليس له شبه يقاربه ... من منزلٍ حاضرٍ إن شئت أو باد ترفى قرقيره والعيسُ واقفةٌ ... والنونُ والضَبُّ والملاح والحادي فقلت: أصلحك الله! وماهذا؟ إنما سرقه من خلف بن خليفة، ووصف مدينة ابن هبيرة بواسط فقال " من الكامل ": مُكاؤُها غردٌ يجيبُ الخضر من ورشانها قرنتْ رؤوس ظبائها ... بالزرق من حيتانها فقال: ويحك، أفسدته عليّ! قال أبو عبيدة: تغديت مع الفضل بن يحيى، فجئ بألوان لم أر مثلها، وكان معنا الأصمعي يأكل من كامخ، فقال لي: كلْ من هذا الكامخ فإنه طيبٌ! فقلت: إنما هربتُ من الكامخ إلى ههنا، فما أصنع به؟ دعْ مالا يفوتك وأقبل على ما يفوتك. - كان الأصمعيُّ بخيلاً، وكان أبو عبيدة إذا ذكر الأصمعي أنشد " من الكامل ": عظُمَ الطعامُ بعينه فكأنهُ ... هو نفسه للآكلين طعامُ قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: أنشدت أبا عبيدة قولَ الفرزدق " من الطويل ": جلوسك في الشربِ الكرام بليةٌ ... ورأسك في الإكليل إحدى الكبائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وما نظفت كأسٌ ولاطاب ريحها ... ضربت على حافاتها بالمشافر فقال: ماأعرفهما وأشهد أنهما من شعره. قال أبو عبيدة: كنتُ أقودُ بشاراً، فمررنا بباهلة فسلم على قوم منهم، فلم يردوا عليه، فقال: من فيهم؟ قلت: عمرو الظالميُّ. فنفث - وكان إذا أراد أن يقول الشعر نفث - وقال " من البسيط ": اُرْفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربيُّ من قوارير إن جاز آباؤك الأنذالُ في مضر ... جازت فلوس بخارا في الدنانير قال أبو عبيدة: كان بشارُ عظيم الجسد محدودباً سميناً طويلاً، وكان جاحظ الحدقتين قد تغشاهما لحم أحمر، وكان أقبح الناس عمى، وكان حمَّاد عجردٍ يعيره بالقبح، فلمَّا قال حمَّاد فيه " من السريع ": والله ما الخنزيرُ في نتنه ... بربعه في النتن أو خمسه بل ريحه أطيب من ريحه ... ومسه ألين من مسه ووجهه أحسن من وجهه ... ونفسه أفضل من نفسه وعوده أكرم من عوده ... وجنسه أكرم من جنسه فقال بشار: ويلي على الزنديق! لقد نفث بما في صدره. قيل: وكيف ذاك، يا أبا معاذ؟ قال: ماأراد الزنديق إلا قول الله عز وجل: (لقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ في أحسنِ تَقْويم) فقد أخرج الجحود بها مخرج هجائي. - وكان لبشار أخوان بشر وبشيرٌ وكانا قصَّابين، وكان بشَّار بهما باراً وكانا يستعيران ثيابه فيوسخانها، فيبرز بشَّار للناس في ثياب سخام، فيقال له: ماهذا، ياأبا معاذ؟ فيقول: هذه ثمرة صلة الرحم. - وقال الشعر ولم يبلغ عشر سنين، فبلغ الحُلُم وهو مخشي معرَّة اللسان بالبصرة. وكان لا يزال قومٌ يشكونه إلى أبيه فيضربه حتى رقَّ عليه. وكانت أمُّه تخاصمه، فيقول لها أبوه: قولي له يكف لسانه عن الناس! فلما طال ذلك عليه قال لأبيه: ياأبت، احتج عليهم بقول الله تعالى: (ليسَ عَلَى الأعْمى حَرَجٌ) ! فقال له أبوه حين شكوه إليه هذا القول، فقالوا: فقه بُرد أضر علينا من شعر بشار. وسئل أبو عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهديُّ بشاراً عن ذكر النساء، قال: كان أوّل ذلك اشتهار نساء البصرة وشبانها بشعره حتى قال الفسق من أشعر هذا الأعمى. وكان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلَّما كثُر ذلك وانتهى خبره إلى المهدي وأنشد لأشعاره، نهاه عن ذلك. قال: فقلت: ما أحسب أن شعر كثير وجميل وعروة وقيس بن ذريح وأولئك الطبقة أبلغ في هذا الباب! قال: ليس كلُّ من يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، وبشار يقارب النساء حتى لايخفى عليهن مايقول ومايريد، وأي حُرّةٍ حصان تسمع قول بشار فلا يؤثر في قلبها؟ فكيف الغزلة التي لاهمة لها إلا الرجال! وأنشدني " من المنسرح ": قد لامني في خليلتي عُمَرُ ... واللومُ في غير كنهه قذر قال: أفق! قلت: لا! فقال: بلى ... قد شاع في الناس منكما الخبر قلت: وإن شاع ما اعتذاري ... مما ليس فيه عندهم عذرُ ماذا عليهم وما لهم خرسوا ... لو أنهم في عيوبهم نظروا أعشق وحدي فيؤخذون به ... كالروم تغزو وتهزم الخزرُ يا عجباً للخلاف يا عجباً ... في في الذي لام في الهوى الحجرُ حسبي وحسب الذي كلفت به ... مني ومنها الحديث والنظر أو قبلة في خلال ذاك ومابأس إذا لم تحلل الأزرُ أو عضةٌ في ذراعها ولها ... فوق ذراعي من عضها أثر أو لمسة دون مرطها بيدٍ ... والباب قد حال دونه السُتر والساق براقةٌ خلاخلها ... أو مص ريق وقد علا البهر واسترخت الكف للغزال وقا ... لت: إيه عني والدمع منحدر انهض فما أنت كالذي زعموا ... أنت وربي مغازلٌ أشر قد غابت اليوم عنك حاضنتي ... فالله لي منك فيك ينتصر يارب خذ لي فقد ترى ضرعي ... من فاسق جاء ما له شُكر أهوى إلى معضدي فرَّضضَهُ ... ذو قوّة ما يُطاق مقتدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 يلصق بي لحية له خشنت ... ذات سوادٍ كأنها الإبر حتى علاني وأسرتي غيبٌ ... ويلي عليه لو أنهم حضروا أقسم بالله ما نجوت بها ... فاذهب فأنت المساور الظفر كيف بأمي إذا رأت شفتي ... أم كيف إن شاع منك ذا الأثر قد كنت أخشى الذي ابتليت به ... منك فماذا تقول: ياعبرُ قلت لها: عند ذاك يا سكني ... لابأس إني مجربٌ خبر قولي لها بقَّة لها ظفرُ ... إن كان في البق ما له ظُفُرُ ثم قال لي: مثل هذا الشعر يميل القلوب ويلين صعب! وكان أبو عبيدة يقول: أبو نواس للمحدثين كامرئ القيس للأوائل، وينشد من شعر أبي نواس " من الطويل ": إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفْ ... له عن عدوٍ في ثياب صديق وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسبٍ في الهالكين عريق وكان أبو نواس ربما يشغل أهل مجلسه عن الاستماع بالعبث، فشكوه إلى أبي عبيدة، فقال: اطردوه! فطردوه، فتباعد وكتب رقعة فحذفها في حجره " من الكامل ": أمر الأمير بأخذ أولاد الزنا ... فتغيبوا لاتؤخذوا فتعاقبوا فقال: والله لأقينَّ عرضي منه بأن أردَّه! وكيف أطرد من هذا مقداره؟! فرَّده. وكان يحبه لظرفه وأدبه. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: (أَمَتنا اثنتين وأحْييَتنا اثنتين) هو مثل قوله: (كُنْتُم أمواتاً فأحْيَاكُم ثمَّ يميتكم ثمَّ يحييكم) ههنا موتتان وحياتان. وقال في قوله: لاَيسمَعُون فيها لغواً إلاَّ سَلاما) قد يستثنى الشء ليس من الشيء، فليس السلام من اللغو فكأن فيه ضميراً: لايسمعون فيها لغواً إلا أنهم يسمعون سلاما. وقال أبو جندب الهذلي " من الطويل ": نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدقه ... ولم ينج إلا خفق سيف ومئزرا فاستثناهما منه وهما من غيره. وكان أبو عبيدة يسمي بيتي كعب بن سعد الغنوي درَّة الغائص وهما " من البسيط ": اعص العواذل وارم الليل عن عرض ... بذي سبيب يقاسي ليله خببا حتى تمول مالاً أو يقال فتىً ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا قال: لأن الدرة إذا أصابها الغائص، لم يصب مثلها حتى ينفق في طلبها أضعاف ثمن التي أصيبت. وهذان البيتان قد قتلا خلقاً كثيرا، ينفض أحدهم رأسه ويتمثل بهما، ثمّ يخرج زعم أن يتمول، فيقتل ألف قبل أن يتمول واحد. وأنشد أحمد بن يحيى " من الطويل ": فلو أن مابي باعضى فلق الحصى ... وبالريح لم يسمع لهنَّ هُبوبُ ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب عليَّ ذنوب فزعموا أن الرواية كانت " قلق الحصى " فصحفه أبو عبيدة فقال: " فلق الحصى "، فصار ذلك رواية. وقال أبو عبيدة: الشعراء الذين هجوا ومدحوا ودخلوا على الملوك وأخذوا الجوائز سبعة: ثلاثة إسلاميون وثلاثة جاهليون وواحد مخضرم. فأما الإسلاميون فجرير والفرزدق والأخطل، وأما الجاهليون فزهير بن أبي سُلمى والنابغة من بني ذبيان والأعشى من بني قيس، وأما المخضرم الذي أدرك الجاهلية وقال فيها الشعر وأدرك الإسلام وقال فيه الشعر فالحطيئة. وسئل أبو عبيدة: هل قال الشعر أحدٌ قبل امرئ القيس؟ فقال: قدم علينا أربعةٌ وعشرون رجلاً من بني جعفر بن كلاب من أهل البادية، فكنا نأتيهم فنكتب عنهم، فقالوا: من أبن خذام؟ قلنا: ما سمعنا به! قالوا: والله لقد سمعنا به! ورجونا أن يكون علمه عندكم لأنكم أهل الأمصار وأصحاب الدواوين، ولقد بكى في الدمن قبل امرئ القيس وهو الذي يقول له امرؤ القيس " من الكامل ": عُوجاً على الطلل المحُيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام وهي أبيات، قال: وهم لايعرفون لابن خذام نسباً. وأنشدوا له " من الطويل ": كأني غداة البين لمَّا تحملوا ... لدى سُمرات الحيّ نلقفُ حنظلِ قال أبو عبيدة: لم يقل النابغة الذبياني من الشعر حتى بلغ الخمسين. - وقال: دخل الأعشى بلاد فارس، فأخبر عنه كسرى وقالوا: إنه شاعر العرب! فأُدخل عليه فاستنشده فأنشده " من الطويل ": أرقتُ وماهذا السُهاد المؤرقُ ... ومابي من سقمٍ ولابي معشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فقال كسرى: فسروا لي ما قال! فترجم له، فقال: لئن كان يسهر من غير سقم، ولاعشق إنه لسارق! قال أبو عبيدة: كان كثير أشعر أهل الإسلام، وكان يكذب في حُبه وجميل يصدق. وسئل: من أشعر المولدين؟ قال: السيد! وكان السيد مشتهراً بمدح أهل البيت، وهو الذي يقول " من البسيط ": إني امرؤٌ حميريٌّ حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر وقال من قصيدة " من البسيط ": ثمَّ الولاء الذي أرجو النجاة به ... يوم القيامة للهادي أبي حسنِ قوله في اللغة والعربية، قال أبو عبيدة: الناقراتُ من السهام المصيبات القرطاس، والقاصرات التي لاتبلغ، والغاضرات التي تخرج عن الهدف يمنة ويسرة، والطالعات التي تخرج من فوق الهدف، والحوابي التي تقرب من القرطاس ولا تصيب، والمقرطسات المصيبات. وقال: أهل العالية يقولون: الحرب خدعة، وهي لغة رسول الله صلى الله عليه ولغة نجد: خدعة؛ ورجل خدعة إذا كان يخدع الناس، ورجل هُزأة إذا كان يهزؤ بالناس؛ قال: والمكاشرة أن يضحك إليه وفي صدره عليه غمر. والطم والرم: الرطب واليابس؛ والغارة الشعواء: الكثيرة. قال: وأهل الحجاز يقولون: قد أخلق الثوب، وبنو تميم يقولون: قد خلَّق الثوب، ويقولون أيضاً بالتخفيف خلق وهو كثير في كلامهم، وإنما يخففون في فعل وفعل ولايخففون في فعل. قال أبو عبيدة: أسماءُ الحلب البرم والفطر والضب والمصر والضف والنكع، فالمصر بإصبعين والضف بالكف كلها والنكع أن يجهدها في الحلب، والنكع والنهز ضرب الضرع باليد عند الحلب لتَدُرَّ، وإنما ذلك في الضأن خاصة، فأما المعز فإنما هو المسح، وأما الكسع فإنما هو ردُّ الدرة وحقن اللبن وهو في النوق خاصة، يُرش الضرع بالماء ويضربه بيده ليرتفع، فيكون أقوى للناقة. قال أبو ربيعة النحوي: كانت العرب تقول: من لم يكن عقله من أكمل مافيه كان هلاكه بأكمل ما فيه. فحدثت بهذا الحديث الأصمعي فقال: هذا حسن وعندي آخر يشبهه، كانت العرب تقول: من كانت فيه خصلة هي أكمل من عقله فبالحرى أن تكون سبب منيته. فحدثت بهذين الحديثين أبا عبيدة فقال: هذان حسنان وعندي آخر يشبههما، كانت العرب تقول: من لم يكن أغلب خصال الخير عليه عقله كان في أغلب خصال الخير حتفه. فحدثت بهذه الأحاديث أبا دلف فقال: هذا حسنٌ كلُّه وعندي آخر يشبهها، كانت العرب تقول: كلُّ شيءٍ إذا كثُر رخص إلا العقلُ فإنه إذا كثُر غلا. وقال أبو عبيدة: لم يكن لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان ولا لعلي قاضٍ ولا عمالُ شُرط ولا لابن الزبير بالمدينة، وكان أوَّل قاض في المدينة في خلافة معاوية في إمارة مروان استقضى عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حتى عزل معاوية مروان عن المدينة واستعمل سعيد بن العاص، واستقضى سعيد أبا سلمة بن عبد الرحمان. وقال أبو عبيدة كان رجل من بني هلال يقال له طفيل بن زلال، فكان إذا سمع بقوم عندهم دعوة أتاهم فأكل من طعامهم، فسمي الطفيليُّ طفيلياً به. - وقال وكان الناس لايركبون الحمير حتى تفارقوا أيام المنصور فركبوها، ولبيس في الأرض مركب إلا وهو كلما كان أكبر كان أحسن إلا الحمير فإنها كلما كانت أكبر كان أقبح. وقال آخر لعنها الله! فارهها يتعب وخسيسها يتعب رجليك. كان أبو عبيدة لما كبُر إذا أراد أن يقوم تمثَّل بقول أبي الطمحان القيني " من الوافر ": حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتلٌ يدنو لصيد قريبُ الخطو يحسبُ من رآني ... ولستُ مقيداً أني بقيد وقال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده ونسأله عن سبب علته، فقال: هذا النوشجاني! دخلتُ عليه مسلماً، فجاءني بموزٍ كأنه أيور المساكين، فأكثرتُ منه فكان سبب علتي. ثمّ دخل أبو العتاهية بعد موت أبي عبيدة دار النوشجاني، فوضع بين يديه قنو موز، فقال: ياهذا! أقتلت أبا عبيدة وتريد أن تقتلني؟ لقد استحليت قتل العلماء، والله لاأذوقه! قال الصولي: مات أبو عبيدة سنة تسع ومائتين، وقيل: عشر، وقيل: إحدى عشرة، وقيل: إثنتي عشرة، وله أربع وتسعين سنة. وقيل للأصمعي: مات أبو عبيدى! فقال: اليوم مات الظرف. 31 - ومن أخبار الأصمعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 هو أبو سعيد عبد الله بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر، وقريبُ لقب واسمه عاصم ويكنى أبا بكر الباهلي. قال الأصمعي: الأصمع الأملس المحدد وبه سميت الصومعة. قال: ويقال رجل أصمع إذا كان ذكياً حديد الفؤاد. - قال الأصمعي: لما حضرت جدي عليَّ بن أصمع الوفاة جمع بنيه وقال: يابنيَّ، عاشروا الناس معاشرة حسنة، فإن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم! وقيل لأبي عبيدة: إن الأصمعي ينتمي إلى باهلة، فلو تكلمت فيه أنه يدَّعي إليهم؟ فقال: لا، دعوه يكن منهم! يعني أنه لاشرف له فيهم لأنه لا أثر لهم في الجاهلية ولامناقب، ألا ترى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: على أنك إن قتلت رجلاً من باهلة قتلت به مبالغة في خِسَّة المقتول. وقال الأشعث بن قيس الكندي للنبي صلى الله عليه وسلم: أتتكافأ دماؤنا، يارسول الله؟ قال: نعم، ولو قتلت رجلاً من باهلة لقتلك به. - قال الشعبي: كانت العرب في الجاهلية إذا أسرت أسيراً فدته بأسير، إلا أن يكون باهلياً أو غنوياً زادوا عليه قلوصين. - وأنشد رجل من بني عبد القيس " من المتقارب ": أباهلَ ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب ولو قيل للكلب: ياباهليُّ ... عوى الكلب من لؤم هذا النسب وقال بشَّار " من الوافر ": إذا أنكرت نسبة باهليٍ ... فكشف عنه ناحية الإزار على أستاه ساداتهم كتابٌ ... موالي عامرٍ وسما بنارِ قال أبو هشام لبشار: إن الله قد أعمى عينيك، فما ترى؟ ولكن قل لمن ينظر هل مما ذكرت شيئاً؟! يعني قوله: " على استاه ساداتهم كتاب ". فقال له بشار: أنت من سفلتهم وإنما قلت: على استاه ساداتهم "! قال المرزباني: وأغار أحمد بن أبي طاهر على بشار في بيته وعلى كلام أبي عبيدة الذي تقده فقال وأساء " من المنسرح ": لاتدفع الباهلي عن حسبه ... دعه وما يدعيه من نسبه سلم لدعواه باهليته ... لعله أن يلَّج في كذبه إنك إن تبغه فما أحدٌ ... ألأم من قومه ولا حسبه فإن طغا أو زها عليك بما ... صحَّ له في اللئام من عربه فارفع حواشي إزاره تر ما ... يلوح من وسمه على ذنبه وقال أبو العيناء: رأيت أبا قلابة الجزمي في جنازة الأصمعي وهو يقول " من الخفبف ": لعن الله أعظما حملوها ... نحو دار البلى على خشبات أعظما تبغض النبي وأهل البيت والطيبين والطيبات وقال رجل للأصمعي: لاتنس وعدي! قال: ما أحسن ما قال الأعشى " من الطويل ": وإني إذا ما قلت قولاً فعلته ... ولستُ بمخلاف لقولي مبدل ثمّ أنشد " من الطويل ": وإني لمنجاز لما قلت، إنني ... ارى وصمة أن يخلف الحُرُّ واعده قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما رأيت أحداً قط مثل الأصمعي في العلم بالشعر ولا مقارنا له، ما أنشدته شيئاً قط إلا أنشدني في مثله حتى كأنه أعده لي، فأنشدته للأعشى " من البسيط ": عُلِقتُها عَرضاً وعُلِقت رُجلاً ... غيري وعُلق أخرى غيرها الرجلُ فأنشدني من وقته " من الكامل ": قتلتك أخت بني لؤيٍ إذ رمت ... وأصاب نبلك إذ رميت سواها وأعارها الحدثان منك مودةً ... وأعار غيرك وُدَّها وهواها وقال الأصمعي: ستة لاتخطئهم الكآبة: فقيرٌ حديث عهد بغنى، ومكثرٌ يخاف على ماله التلف، والحسود، والحقود، وطال مرتبة فوق قدره، وخليط أدباء ولا أدب له. وقال: من قعد به نسبه نهض به أدبه. وقال: لاترى أحدب إلا خفيف الروح ولا أعمى إلا ثقيل الروح ولا أحول إلا خبيث الطريقة. وقال: الاستطالة على من أنعمت عليه هدم لصنيعتك وتكدير لمعروفك. وقال: ثلاثة أشياء يذهبن الذهن: كثرة النظر في المرآة وكثرة الضحك ودوام النظر إلى البحر، وثلاث تورث الانقطاع: الإكثار من أكل الباذنجان والزيتون والباقلي. وقال أبو حاتم: كنا عند الأصمعي، فقال رجلٌ: من القائل " من الوافر ": فمن يكُ سائلاً عني فإني ... من الفتيان أيامَ الخنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 مضت مائة لعام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتان وقد أبقت صروف الدهر مني ... كما أبقت من السيف اليماني فقال الأصمعي: يقولها النابغة الجعدي. فقال له: أتعرف من أرخ سنه في شعره غيره؟ فجعل الأصمعي ينشد أشعار من أرخوا سنهم في أشعارهم، فحفظت من ذلك أنه كان عميرة الكعبي الخزاعي يخط لكلّ من مات من أهله قبراً ويسوق عن كلّ من تزوج منهم مهراً وهو القائل " من الطويل ": فنيت وأفناني الزمان وأصبحت ... هنيدةُ قد أنضيت من بعدها عشرا وقد كنتُ مما أهزم الجيش واحدا ... وأعطي فلا منا عطائي ولا نزرا وقد عشت دهراً ما يكون عشيرتي ... لها ميتٌ حتى أُخط له قبرا فأصبحت مثل الفرخ لا أنا ميتٌ ... فأسلي ولا حيُّ فأصدر لي أمرا وقال إسحاق بن إبراهيم: ما ولدت النساء مثل الأصمعي في حفظه وذكائه وفطنته، أنشدته يوماً قولي " من الطويل ": إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع ضيمي خازم وابن خازم عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم فأنشدني لبشار " من المتقارب ": ألا أيها السائل جاهلا ... ليعرفني أنا أنف الكرم نمت في الكرام بني عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم وقال: إذا كانت في العالم خصال أربع وفي المتعلم خصال أربع اتفق أمرهما وتم، وإن نقصت من واحد منهما خصلة منها لم يتم أمرهما. فأما اللواتي في العالم: فالعقل والصبر والرفق والبذل، وأما اللواتي في المتعلم: فالعقل والحرص والفراغ والحفظ، لأن العالم إذا لم يحسن تدبير المتعلم بعقله خلط عليه أمره، وإن لم يبذل له علمه لم ينتفع به. وأما المتعلم فإنه إن لم يكن له عقل لم يفهم، وإن لم يكن له حرص لم يتعلم، وإن لم يفرغ قلبه للعلم لم يعقل عن معلمه، وإذا ساء حفظه كان ما يكون منهما مثل الكتاب على الماء. - وقال: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدّث في خلال حديثك بما لايكون، فإن رأيته قد أصغى إليه فأعلم أنه أحمق وإن أنكره فهو عاقل. وقال الأصمعي: تضرعت في الأسباب على باب الرشيد مؤملا الظفر به والوصول إليه حتى أني صرت لبعض حرسه خدينا، فإني لفي ليلة قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد، إذ خرج خادم فقال: أبالحضرة أحدٌ يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، ربَّ قيدٍ مضيق حلَّه التيسير! فقال لي الخادم: ادخل! فلعلها أن تكون ليلة تعرس في صباحها بالغنى إن فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين. فدخلت فواجهت الرشيد في بهوه والفضل ابن يحيى إلى جانبه، فوقف بي الخادم بحيث يسمع التسليم، فسلمت، فردّ السلام ثمّ قال: ياغلام، أرحه قليلاً، يفرخ روعه إن كان وجد للروع في نفسه حساً! فقلت في نفسي: فرصةٌ يفتك بها الدهر بإدخال شغل على قلبه كرمك، مجيران لمن نظر إليك من أعتراض أذيةٍ! فقال: ادن! فدنوت، محسنا. فقال: تالله ما رأيت أدعى منك! فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عناني، ياأمير المؤمنين! فقال: أنصف القارة من راماها! ثمّ قال: ما المعنى في هذه الكلمة بدياً؟ قلت: فيها قولان، القارة هي الحرة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة للتبابعة، والملك إذ ذاك أبو سهمه في كبد قوسه، فقال: أين رماة العرب؟ فقالت العرب: أنصف القارة من راماها. فقال لي الرشيد: أصبت! ثم قال: أتروي لرؤبة والعجاج شيئاً؟ فقلت: هما مشاهدان لك بالقوافي وإن غُيباً عن بصرك بالأشخاص. فأخرج من بيد فرشه رقعة، ثمّ قال: أنشدني " من الرجز ": أرقني طارقُ همٍ أرقا فمضيت فيها مضيَّ الجواد في سنن ميدانه تهدر بي أشداقي، فلما صرت إلى مديحه لبني أمية، ثنيت لساني إلى امتداحه للمنصور في قوله " من الرجز ": قلتُ لزير لم تصله مريمه - يقال: هو زير نساء وحدث نساء إذا كان يحب محادثتهن - فلما رآني قد عدلت عن أرجوزة إلى غيرها قال: أعن حيرة أم عن عمد تركت؟ قلت: عن عمد، تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. فقال لي الفضل: أحسنت بارك الله عليك! مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس! فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد: أتروي كلمة عديّ بن الرقاع " من الكامل ": عرف الديار توهماً فاعتادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قلت: نعم! قال: هاتها! فمضيت فيها حتى إذا أنا صرت إلى صفته لجمله، قال لي الفضل: ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به السهر في ليلتنا هذه بصفة جملٍ أجرب! فقال له الرشيد: اسكت فالابل هي التي أخرجتك عن دارك، وعزتك في قرارك، فاستلبت تاج ملكك، ثم ماتت، وعملت جلودك سياطاً ضربت بها أنت وقومك! فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب والحمد لله! فقال له الرشيد: أخطأت! الحمد على النعم، لو قلت: وأستعين الله لكنت مصيباً! ثمّ قال لي: امض في أمرك! فأنشدته حتى بلغت إلى قوله " من الكامل ": تزجي أغن كأن إبرة روقه فاستوى جالساً، ثمّ قال لي: اتحفظ فيها ذكرا؟ قلت: نعم، ذكرت الرواة أن الفرزدق قال: كنت في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدته قلت لجرير مسراً إليه: لنسخر من هذا الشامي! فلما ذقنا كلامه يئسنا منه، فلما قال " من الكامل ": تزجي أغن كأن إبرة روقه وعدي كالمستريح، فقال جرير: أما تراه يستلب بها مثلا؟ فقال " من الكامل ": قلم أصاب من الدواة مدادها ثمّ أنشد عدي كذلك، فقلت لجرير: كان سمعك مخبوءاً في صدره. فقال لي: اسكت، شغلني سبك عن جيد الكلام! فلما بلغ إلى قوله " من الكامل ": ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أمةٍ إصلاحها ورشادها قال الأصمعي: فقال لي: ماتراه قال إذ أنشده الشاعر هذا البيت؟ قلت: قال: كذاك أراد الله! فقال الرشيد: ماكان في جلالته ليقول هذا، أحسبه قال: ماشاء الله! قلت: وكذا جاءت الرواية. فلما أتيت على آخرها قال لي: أتدري لذي الرُّمة شيئاً؟ قلت: الأكثر! قال: فما أراد بقوله " من الطويل ": ممرٌّ أمرَّت متنه أسديةٌ ... ذراعيةٌ حلاَّلةٌ بالمصانعِ قلت: ياأمير المؤمنين، وصف حمار وحش أسمنه بقل روضة تواشجت أصوله وتشابكت فروعه من مطر سحابة كانت بنوء الأسد، ثمّ في الذراع من ذلك. فقال الرشيد: أرح، فقد وجدناك ممتعا، وعرفناك محسناً. ثمّ قال: أجد ملالة! ونهض، فأخذ الخادم يصلح عقب النعل في رجله وكانت عربية، فقال الرشيد: عقرتني، ياغلام! فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم! أما أنها لو كانت سندية لما احتجت إلى هذه الكلفة؟! فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي صلوات الله عليهم، كم نعارض فلا نترك من جواب ممض ثمّ قال: ياغلام، يؤمر صالح الخادم بنعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه، ولايحجب في المستأنف! فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره لأمرت لك مثل ما أمر به لك أمير المؤمنين، وقد أمرت لك به إلا الف درهم، فتلقى الخادم صباحا! قال الأصمعي: فما صليت من غد إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم. وقال: أنشدت الرشيد ليلة " من الكامل ": بانت أميمة بالطلاق ... فنجوت من ربق الوثاق بانت فلم يحفل بها ... قلبي ولم تدمع مآقي ودواءُ مالا تشتهيه النفس تعجيلُ الفراقِ فجعل الرشيد يعيد: " ودواءُ ما لاتشتهيه النفس تعجيل الفراق " ثمّ قال: عليَّ برأس هيصم اليماني! فقال لي: يا أصمعي، هذا ماجرَّه الشعر: " ودواء .... "! وأنشد البيت. وقال ابن الأعمش: كنا في مضرب الحسن بن سهل ومعنا الأصمعي، فتحدث فقال: خرجت فاطمة عليها السلام ناشزا - بالزاي معجمة - تطلب ميراثها من أبي بكر .... ! فوثب إليه رجلٌ فخنقه، وارتفع الصوت، وقام المطلب بن فهم وهو حاجب للحسن بن سهل يحجز بينهما، وسمع الحسن الصوت فدعاه وسأله، فقال: وثب فلان على الأصمعي في شيء جرى بينهما فخنقه. فقال: يوثب على ضيفي وجليسي وفي داري؟! ياغلام، السياط! فقال له: يثبت الأصمعي على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتناولها، فيسوغ ذلك له ولايسوغ لمن يثب عليه ويخنقه؟! فقال: فما القصة؟ فأخبر بها، فدعا الأصمعي فعنفه وقال: ماهذا من الحديث الذي يحدث به العوام؟ لاتعودن! وروى الناس هذا الحديث ناشرا - بالراء المهملة - يعنون: نشرت شعرها. فرواه الأصمعي بالزاي: أي مخالفة لعليّ في ذلك. قال الأصمعي: قال لي الرشيد: أنشدني أحسن ماقيل في السفر! فأنشدته قول عمر بن أبي ربيعة " من الطويل ": رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر أخا سفرٍ جوابٍ أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قليلاً على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر قال: أنا والله ذاك وكان يحج عاماً ويغزو عاماً. قال الأصمعي: كنت مع الرشيد منصرفنا من الروم، إذا نحن برجل قد أنحط عليه صدره وعليه برنس وبيده عكاز، فلما حاذى الرشيد قال " من الكامل ": ياأول الخلفاء را ... ح بنفسه وغدا وأسرى حتى أباح حمى العدو ... وحاز ما يحوون قسرا صدرت ركابك بافتتا ... ح الروم قد اوقرن اجرا في الله أشعث أغبرا ... وتقودنا شعثاً وغبرا حلوا إذا يوسرت اباء ... إذا عوسرت مُرَّاً قال: من الرجل؟ قال: عبدك ابن العلاء، يا أمير المؤمنين! فأمر له بكل بيت عشرة آلاف درهم. - وقال الأصمعي: سمعت ابن أبي السعلاء يحدو بالرشيد، فيقول " من الهزج ": أغيثاً تحمل الناقة ... أم تحملُ هارونا أم الشمس أم البدرُ ... أمِ الدُنيا أم الدنيا ألا بل كلما عدد ... تُ قد أصبح مقرونا على مفرق هارون ... فداه الآدميونا وقال الأصمعي: كنتُ بين يدي الرشيد في يوم قُرّ، إذ دخل سعيد بن سلم، فقال: ياسعيد، أنشدني في البرد! فأنشده لمُرة بن محكان السعدي " من البسيط ": وليلةٍ من جمادي ذات أندية ... لايبصرُ الكلبُ من ظلمائها الطنبا لاينبحُ الكلبُ فيها غير واحدةٍ ... حتى يلفَّ على خيشومه الذنبا فقال: غير هذا. فأنشدته أنا " من البسيط ": وليلةٍ يصطلي بالفرثِ جازرها ... يختص بالنقري المثرين داعيها لاينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى الصباح ولاتسري أفاعيها أطعمت فيها على جهد ومسغبة ... كومَ العشار إذا لم يمس راعيها فقال: أريد أبلغ من هذا. فأنشدته " من الطويل ": وليلةٍ قُرٍ يصطلي القوس رَبُها ... وأقدحه اللاتي بها يتنبلُ فقال: ياأصمعي، حسبك ما بعد هذا شيء! ثمّ أنشدني " من المتقارب ": إذا نبح الكلبُ في أهله ... فإن قصاراه أن يكشرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وقال الأصمعي: أتى خادم للرشيد فقال: أجب أمير المؤمنين! قلتُ: فيم يدعوني؟ قال: لاعلم لي، ولكن سمعته ومن عنده من بني هاشم يتذاكرون الرُطب، فاختار كلُّ واحد منهم صنفا. قلت: فأي الأصناف اختار أمير المؤمنين؟ قال: الريثا. قلت: وما أختار عيسى بن جعفر؟ قال: الأزاد. قلت: امض! فلما دخلتُ وسلمت قال: ههنا، يابصري! ثمّ قال: ايُّ الرطب أطيب عندكم؟ قلت: ياأمير المؤمنين، أصف لك جميع أجناسه، ثمّ الاختيار إليك! قال: نعم. قلت: الذي هو عماد المال وأكثر التمران البرني والشهريز، ويعلم أميرُ المؤمنين لم سمي البرني برنياً والشهريز شهريزا؟ قال: لم؟ قلت: لأن كسرى مر بالبرني وهو حامل فقال: اين برنيك! وهو بالفارسية: حملٌ جيدٌ، ومر بالشهريز فقال: اين سُرخ نيز! أي وهذا الأحمر أيضاً، يريد جيد، فعربا برني وشهريز. فقال: لمن كان هذا التفسير؟ وأعجبه. ثمّ قلت: وعندنا صنف يقال له البرشوم يرطب قبل أنَّ يبدو صلاح غيره، وينفذ قبل أن يرطب النخل، فهو لتكبيره وسرعة ذهابه أغلى ثمناً من غيره. وعندنا نخلةٌ يقال لها السُكّر حُلو طيبٌ هش، ورطبها من أطيب الرطب أعظمه لحاء وأرقه سحاء غير أن نواته غليظة، والحموضة إليه سريعة وقلما يصبر كنيزه. وعندنا نخلةٌ يقال لها الأزاد بسرها حُلُوٌ طيبٌ ورطبها ليس بذاك وكنيزها باقٍ صبور وهي تسمى الحُرة. وعندنا نخلة يقال لها الهلباث، نخلها من أحسن النخل منظراً، ورطبها من أطيب الرطب وينتهي في آخره وجميع الرطب يرطبُ معاً. وعندنا نخلة يقال الجيسوان يوكل بلحها وزهوها عدلُ رطب غيرها، فإذا صار إلى حد الإرطاب تغير طعمها، وحالت عن حالها؛ وعندنا نخلةٌ يقال لها الكريثاء، بسرها حلوٌ طيبٌ هش ورُطبها عذبٌ رقيقٌ ونواها ضامر لطيف وكنيزها صبور باقٍ، وبسرها إذا كثُر زهزه يقلى ويطبخ ويدَّخر، ولا يزداد على السنين إلا جودة، ويجلب إلى سائر البلدان. وأعجب من هذا، ياأمير المؤمنين، أنّ صبياننا يلعبون بنوى جميع أنواع التمور ويسمون كلَّ نواة درهما إلا نواة الكريثاء، فإنهم يسمونها ديناراً ويتبايعون بينهم أربعا وعشرين نواةً من نوى الأزاد بنواة من نوى الكريثاء. فقال هارون: أنا أبو جعفر! وكان إذا أصاب الشيء اكتنى بجعفر، وأمر لي بمائة ألف وخمسين ألفا. وقال الأصمعي: مارأيت الرشيدُ يوماً مبتذلاً ولا شارباً ألا يوما واحداً فإني دخلت عليه ووجنتاه حمراوان، ودخل عليه أبو حفص الشطرنجي الأعمى، فقال للرشيد: أيكم سبق إلى بيت من الشعر يوافق ما في نفسي فله ألف دينار! فوقع في نفسي أنه يريد جارية الناطفي وكان يميل إليها، وفطن أبو حفص فبدرني بحدةِ العميان فقال " من الخفيف ": مجلسٌ ينسبُ السُرورُ إليه ... لمحبٍ ريحانه ذكراك فقال له: قد قاربت وأحسنت، لك ألفُ دينار! فبدأت أعمل بيتاً وتهيبته، فسبقني أبو حفص فقال " من الخفيف ": كلما دارت الزجاجةُ ... زادتهُ اشتياقاً وحرقةً فبكاك فقال له: أحسنت ولك ألف دينار! فلما رأيت ذلك قلت " من الخفيف ": لم ينلك الرجاءُ إن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك فقال الرشيد: أحسنت، ياأصمعي، ولك ألف دينار! ثمّ أطرق ورفع رأسه فقال: وقد قلت بيتاً، أنا فيه أشعر منكما " من الخفيف ": فتمنيتُ أن يغشيني اللهُ ... نعاساً لعلّ عيني تراك فقلت: ياأمير المؤمنين، أنت أشعر فخذ جوائزنا! فقال: جوائزكما لكما، فانصرفا! وقال: خرجت مع الرشيد حاجاً، فإني لفي خيمتي إذ أقبل أعرابي ومعه أمة سوداء، فقال لي: ياشيخ، اكتب لي كتاب عتق هذه الجارية! فأردت أسبر عقله فقلت: تملي عليّ وأنا أكتب. قال: اكتب: بسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما أعتق فلان بن فلان أمته ميمونة السوداء، أعتقها لوجه الله تعالى وجواز العقبة. ياميمونة، إنه لاسبيل لي عليك إلا سبيل الولاء، ولا منَّة لي عليك، بل المنة لله عليَّ وعليك! وانصرف وانصرفت، فحدثت الرشيد، فأمر بعتق مائة نسمةٍ على مثل ماأملاه الأعرابي. وقال: أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدي من القصيدة الطويلة " من الطويل ": فتىً تمَّ فيه ما يسرُّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوءُ الأعاديا فتىً كملتْ أعراقه غير أنه ... جوادٌ فما يبقى من المال باقيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أشمُّ طُوالُ الساعدين شمردلٌ ... إذا لم يرح للمجد أصبح غاديا قال الرشيد: ولم لم يروحه في المجد كما أغداه؟! ألا قال: إذا راح للمعروف أصبح غاديا! فقلت: أنت والله، ياأمير المؤمنين، في هذا أعلم منه بالشعر! قال الأصمعي: كنت عند الرشيد فقدم إليه فالوذ، فقال: ياأصمعي، أتعرف قريش هذا؟ فقلت: قومك، ياأمير المؤمنين، يعرفونه. كان ابن جدعان عمله، وفيه يقول الشاعر " من الوافر ": منادٍ فوق دارته يبنادي ... لبابُ البّرُ يلبكُ بالشهاد وأما الأعرابُ فإن مزرداً أخا الشماخ كان نهماً جشعا، وكانت أمه توثر إخوته عليه، وإنها غابت عن بيتها يوماً، فوثب على ما في بيتها فأكله وقال " من الطويل ": ولما غدت أمي تزور بناتها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع خلطتُ بصاعي حنطةٍ صاع عجوة ... إلى صاع سمنٍ فوقه يتريَّعُ ودبَّلتُ أمثال الأثافي كأنها ... رؤوس نقادٍ مزقت لاتجمعُ وقلت لبطني أيسري اليوم إنه ... حمى أمنا مما تفيدُ وتجمع فإن كنتُ مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبعُ فقال: لله درك، هاتوا حتى نأكل ونشبع إن شاء الله! قال: وكنا عند الرشيد فجاؤا بطفشيل فقال: ياأصمعي، أهذا اسمٌ عربيً؟ فقلت له: حدثني الشرقي بن القطامي أن بني اسرائيل كانوا في التيه، فقال حبر لهم يقال له شيلا: سخن لنا أخلاط حبوب! فعمل الطفشيل، وهو بالعبرانية تفشيل، فأعربته العربُ فصيرت التاء طاء، وكذلك أنطاكية بالعبرانية أنتاكية فقالت العرب بالطاء. فوهب لي الرشيد ألف دينار. قال: وقال لي الرشيد: أما ترى قبح أسماء سكك بغداد مثل قطيعة الكلاب ونهر الدجاج وأشباه ذلك؟ فهل للعرب مواضع قبيحة الأسماء؟ قلت: نعم، قد قال الراجز " من الخفيف ": ماترى لمح بارق ... سقيت ماؤه بيه فشروري فقروري ... فحنونا فلحسيه فقال: لله درك! فما رأيت مثلك خلقت لهذا الشأن وحدك. قال: وقال لي الرشيد ذات ليلة: ياأصمعيُّ، ألا ترى الدعيَّ بن الدعيّ اليهودي بن اليهودي عبد بني حنيفة مروان بن أبي حفصة يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد من عبيدي " من الوافر ": أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لانريدُ به زيالا وقلنا: أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النَّوال فما نوالا وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا فجعلني وحشمي عيالاً لمعن، وقال: إن النوال قد ذهب فما يصنع بنا؟ فقلت: ياأمير المؤمنين، عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه وهو بالباب. قال: عليَّ به! فأدخل، فقال: السياط! فأخذ الخدم يضربونه فضرب أكثر من ثلاثمائة سوط وهو يقول: ياأمير المؤمنين، استبقني واذكر قولي فيك وفي أبيك! قال: وماقلت؟ فأنشده قصيدته التي يقول فيها " من الكامل ": هل تطمسون من السماء نجومها ... أو تمحقون من السماء هلالها أم تدفعون مقالةً عن ربكم ... جبريل بلغها النبيّ فقالها شهدت من الأنفال آخر آية ... بتراثهم فأردتم إبطالها فدعوا الأسود خوادارً في غيلها ... لا تولغنَّ دماءكم أشبالها فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلاه. فلما خرج قال لي: ياأصمعي، من هذه؟ قلت: لاأدري. قال: هذه مواسة بنت أمير المؤمنين، قمُ فقبل رأسها! فقلت: أفلت من واحدة ووقعت في أخرى! إن فعلت أدركنه الغيرة فقتلني. فقمت فوضعت كمي على رأسها وفمي على كمي، فقال: والله لو أخطأتها لقتلتك! أعطوه عشرة آلاف درهم! وقال: كنت عند الرشيد، فأُتي بجارية ليبتاعها، فأعجبته، فقال لمولاها: بكم الجارية؟ قال: بمائة ألف درهم! فقال: ادفع المال إليه، ياغلام! فلما وليَّ قال: رُدُّوا الجارية! فرّدت فقال: أبكر أم ثيب؟ قالت: بل ثيب! قال: رُدُّوها على مولاها! ثم أنشأ يقول " من الكامل ": قالوا: أردت صغيرةً فأجبتهم ... أشهى المطي إليَّ ما لم يركب كم بين حبَّة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب فقالت الجارية: ياأمير المؤمنين، أتاّن لي في الجواب؟ قال: نعم. فأنشأت تقول " من الكامل ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إن المطية لايلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركب والحب ليس بنافع أربابه ... ما لم يؤلف في النظام ويثقب فضحك وقال: ياغلام، ادفع ثمنها لمولاها! وأمر لها بمائة ألف درهم في خاصة نفسها. - وقال: حججت سنة حج هارون وكانت سنة قحطة، فرأيت على قارعة الطريق جارية حسنة الوجه قد أخرجت كفا كأنها لسان ظبي وهي تقول " من الخفيف ": طحطحتنا قوارع الأعوام ... وبرانا تقلب الأيام واتيناكم نمد أكفا ... نبتغي بذلكم ونيل الطعام فاطلبوا الأجر والمعونة فينا ... أيها الزائرون بيت الحرام قال: فجئت بها إلى هارون فملأ صحفة لها دنانير وزودها طعاماً. قال: وقال لي الرشيد: أتعرف للعرب اعتذاراً وندما؟ دع أمر النابغة فإنه يحتج ويعتذر. فقلت: ما أعرف إلا بشر بن أبي خازم الأسدي، فإنه هجا أوس بن حارثة بن لام فأسره بعد ذلك وأراد قتله، فقالت له أمه وكانت ذات رأي: اذكر مدحه أباك! فعفا عنه، فقال بشر " من الطويل ": إني على ماكان مني لنادمٌ ... وإني إلى أوس بن لام لتائب وإني إلى أوس ليقبل توبتي ... ويعرف ودي ما حييت لراغب فهب لي حياتي والحياة لقائم ... بشكرك فيها خيرُ ماأنت واهب سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادقٌ ... كتاب هجاه فيك إذ أنا كاذب قال: وكان في البصرة فتى ظريف يغشاه فتيان البصرة يتحدثون عنده، وكان في كوخ من قصب، فشربوا يوما عنده، فقال بعضهم: ألا نبني لك داراً؟ فقال أحدهم: عليّ الآجر! وقال الآخر: علي الجص! وقال الآخر: عليَّ البناء! قال: فصير كوخه قصرا في ساعة بالقول، فلما طال ذلك عليه قال " من الوافر ": لنا كوخ يهدم كل يوم ... ويبنى ثم يصبح جذم خص إذا مادارت الأقداح قالوا ... غدا يبنى بآجر وجص وكيف يشيد البنيان قوم ... يزجون الشتاء بغير قمص قال: فحدثت به الرشيد، فضحك وقال: ولكنا نبني لك قصرا. ثم أمر لي بألفي دينار. وقال: سمعت الرشيد يقول: قلب العاشق عليه مع معشوقه، فقلت: هذا والله، ياأمير المؤمنين، أحسن من قول عروة بن حزام العذري لعفراء " من الطوبل ": أراني تعروني لذكراك روعة ... لها بين جلدي والهظام دبيب وأصرف عن {ايي الذي كنت أرتئي ... ويعزب عني ذكره ويغيب ويضمر قلبي غدرها ويعينها ... عليَّ فما لي في الفؤاد نصيب فقال الرشيد: من قال هذا وهما فإني أقوله علما. ولله درك، يا أصمعي! فإني أجد عندك ما يضل عن العلماء. - قال الصولي: أخذه العباس بن ألحنف بل غيره فقال " من الطويل ": يهيم بحران الجزيبرة قلبه ... وفيها غزال فاتر اللحظ ساحره يؤازره قلبي عليَّ وليس لي ... يدان بمن قلبي عليَّ يؤازره فأخذه سهل بن هارون فقال " من البسيط ": أعان طرفي على جسمي وأعضائي ... بنظرة وقفت جسمي على دائي وكنت غراً بما تجني عليَّ يدي ... لا علم لي أنَّ بعضي بعض أعدائي وقال البحتري " من البسيط ": ولستُ أعجبُ من عصيان قلبك لي ... يوماً إذا كان قلبي فيك يعصيني وأشار ابن الأحنف إلى هذا فقال " من السريع ": قلبي إلى ماضرني داع ... يُكثرُ أحزاني وأوجاعي كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدُوّي بين أضلاعي قال: وكان الرشيد يتمثل بهذين البيتين " من المنسرح ": أكني بغير أسمها وقد علم الله ... خفيات كلّ مكتتم مخافة الكاشح المفتش أن ... يُظهر فينا عوائر الكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قال: وقدمت من سفر على الرشيد، فاستبطأني، فقلت: ماألاقتني أرضٌ حتى رأيت أمير المؤمنين. فلَّما خرج الناس قال: مامعنى أقتني؟ قلت ما الصقتني بها ولا قبلتني. فقال: هذا حسنٌ ولكن لاتكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمهُ حتى أجد جوابه، فإذا خلوت فقل ماشئت، فإني أسألك عمَّا لاأعلمُ، وإنه يقبح بالسلطان أن يسمع ما لايدري، فإما أن يسكت فيعلم الناس أنه مالاقهم، أو يجيب بغير الجواب فيتحقق عندهم ذلك. فقلت: قد والله أفادني أمير المؤمنين من الأدب أكثر مما أفدته. وقال: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت " من البسيط ": ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار قلت: لابن أبي عيينة المهلبي عبد الله. فقال: كلامٌ شريفٌ! ثم قال لي كأنه من قول الشاعر " من الطويل ": وإن بقومٍ سوَّدوك لفاقةً ... إلى سيدٍ لو يظفرون بسيد فقلت: والله جاء به الأمير وعجبتُ من فهمه مع صغر سنه. وقيل: إن تاجراً قدم بغداد بعدل خمر سودٍ فبارت عليه، فقال عبد الله ابن مسلم بن جندب الهذلي " من الكامل ": قلْ للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا صنعت براهبٍ متعبد قد كان شمَّر للصلاة ثيابه ... حتى وقفت له بباب المسجد فلمَّا قالها بضاعته. وقال: لمَّا مات محمد بن سليمان بن علي الهاشمي دخلت على أخيه جعفر بن سليمان، وقد حزن عليه حزناً شديداً ولم يطعم ثلاثاً، فأنشدته لابن أراكة الثقفي " من الطويل ": لعمري لئن أتبعت عينك مامضى ... من الدهر أو ساق الحمام إلى القبر لتستنفذن ماء الشؤون بأسره ... ولو كنت تمريهن من ثبج البحر وقلت لعبد الله إذ حنَّ باكياً ... تعزَّ وماء العين منحدرٌ يجري تبين فإن كان البُكا ردَّ هالكاً ... على أحدٍ فاجهد بكاك على عمرو ولا تبك ميتاً بعد ميتٍ أجنَّه ... عليٌّ وعبَّاسٌ وآل أبي بكر قال: فأمر فجيء بالطعام وأكل من ساعته. وقال: لما أوقع الرشيد بالبرامكة " من المتقارب ": إذا ذُكر الشرك في مجلسٍ ... أضاءت وجوهُ بني بَرْمَكِ وإن تُلْيت عندهمُ سُورةُ ... أتوا بالأحاديث عن مزدك وقال الفضل بن الربيع " من الكامل ": انظر إلى ابن الفاعلين وكبره ... حتى كأن أباه عبدُ مناف لاذنب لي فيه ولكن للذي ... وضع اللئام مواضع الأشراف قال: وسألني الخليل بن أحمد عن قول السمؤل " من الخفيف ": ينفع الطيب القليل من الرز ... قِ ولاينفع الكثير الخبيت ما معنى قوله الخبيث؟ فقلت: اليهود تُبدل الثاء تاء، وإنما أراد الخبيث. قال: فلم لم يقل الكتير؟ فسكت. قال: وأنشدت قاضي المدينة محمد بن عمران الطلحي قول أبي الشمقمق " من السريع ": يا أيها السائلُ عن منزلي ... نزلتُ في الخان على نفسي آكل من مالي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي يغدو عليَّ الخبزُ من خابزٍ ... لايقبل الرهن ولا ينسي فقال: إن هذه الملح إنما تعجب عقلاء الرجال، اكتبها! فقلت: أصلحك الله! إنما يروي هذه الأحداث. فقال: ويحك الأشراف تعجبهم الملاحة! وقال إسحاق بن إبراهيم: قال لي الأصمعي ونحن نريد الرقة مع الرشيد: كم حملت معك من كتبك؟ قلت: خففَّت فحملت ثمانية عشر صندوقا. فقال لي: أو هذا تخفيف؟ هذا نهاية التثقيل! - وأنشد إسحاق بن إبراهيم الأصمعي قوله في غضب المأمون عليه " من البسيط ": يا سرحة الماء قد سُدَّت مواردهُ ... أما إليك طريقٌ غير مسدود لحائم حامٍ حتى لا حيام به ... مُحَلاٍّ عن طريق الماء مطرود فقال الأصمعي: أحسنت في الشعر غير أن هذه الحاءات، لو كانت اجتمعت في آية الكرسي لعابتها! - وأنشد الأصمعي " من الوافر ": وقالوا: يا جميلُ أتى أخوها ... فقلت: أتى الحبيب أخو الحبيب أحبك والقريبُ بنا بعيدٌ ... لأن ناسبت بتنة من قريب وقال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو " من الطويل ": أرى كُلَّ وادٍ أوطنتها وإن خلت ... لها حججٌ يندى بمسك ترابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حلفت بأني لو أرى تبعاً لها ... ذئاب الغضا حُبَّت إليَّ ذئابها وقال إسحاق بن إبراهيم: قرأت على الأصمعي شعر امرئ القيس، فلمَّا بلغت إلى قوله " من الطويل ": أمن أجل أعربيةٍ حَلَّ أهلها ... بروض الشرى عيناك تبتدران فقال لي: أتعرف في هذا البيت خبئاً باطناً غير ظاهر؟ قلتُ: لا. فسكت عني، فقلت: إن كان فيه شيءٌ فأفدنيه! قال: نعم، أما يدلك هذا البيتُ على أنه لفظ ملكٍ مستهين ذي قدرة على مايرد؟ - قال الأصمعي: ليس في وصف الدرّ شيءٌ أحسن من قول رؤبة " من الرجز ": كأن خلفيها إذا ما درَّاً ... جروا هراش حرشاً فهرا قال الأصمعي: أنشد رجلٌ بشاراً وأنا حاضرٌ قول الشاعر " من الطويل ": وقد جعل الأعداء ينتقصوننا ... وتطمع فينا ألسنٌ وعيونُ ألا إنما ليلى عصا خيزرانةٍ ... إذا غمزوها بالأكف تلينُ فقال بشار: والله لو جعلها عصا مخٍ أو عصا زبدٍ، لما كان إلا مخطئاً مع ذكر العصا! ألا قال كما قلتُ " من الوافر ": وحوراء المدامع من معدٍ ... كأن حديثها قطعُ الجنان إذا قامت لسحبتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران ينسيك المنى نظرٌ إليها ... ويصرفُ وجهها وجه الزمان قال: وأنشدنا لنفسه يفخر بالعمى " من الطويل ": عميتُ جنيناً والذكاءُ من العمى ... فجئتُ عجيب الظن للعلم موئلاً وغاض ضياء العين للعقل رافداً ... بقلب إذا ما ضيع الناس حصَّلا وشعر كنور الروض لاءمت بينه ... بقولٍ إذا ما أحزن الشعر أسهلا وكان يقول: الحمد لله الذي ذهب ببصري! فقيل له: لم، يا أبا معاذ؟ فقال: لاأرى من أبغضُ. وقال الأصمعي: كان بخلاء العرب أربعة كلهم شاعر: الحطيئة وحميد الأرقط السعدي وأبو ألسود الدُؤلي وخالد بن صفوان التميمي. فأما الحطيئة فإنه كان يرعى غنماً له وفي يده عصا، فصاح به رجلٌ يستضيفه: ياراعي الغنم! ففطن أنه ضيفٌ فقال: هذه عجراء من سلم! قال: إني ضيف. قال: للضيفان أعددتها. وأما حميد ألرقط فإن ضيفاً دخل إليه ليلاً فقال لامرأته: لك الويل والثبور، قومي إلى المشئوم، فأصلحي له! لإاصلحت له، فجعل الرجل يأكل ويقول: مافعل الحجاج؟ فلما فرغ قال حميد " من الطويل ": يخرُّ على الاطناب من فرحٍ بنا ... هجفٌ لمخزون التحية باذلُ يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... أبن لي ما الحجَّاجُ بالناس فاعلُ فقلت: لعمري ما لهذا طرقتني ... فكلُ ودعِ الأخبار ما أنت آكل تدبّل كفاه ويحدر حلقه ... إلى الصدر ما ضُمَّت إليه الأنامل أتانا ولم يعدله سحبان وائلٍ ... بياناً وعلماً بالدهر هو قائلُ فما زال عنه اللقمُ حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل وأما أبو الأسود فإنه كان له دكان وكان لايسع إلا موضع طبق، فمرَّ به أعربيٌ على فرس، فدعاه إلى طبقه، فدنا، فأكل فقال له: عندنا ما تحب، فتعال إذا شئت! وعمد أبو الأسود إلى شنةٍ يابسة فجعل فيها حصى وجعلها تحت ركبته، فلما مرّ به الأعرابيُّ قال له: ادن! فدنا، فقعقع أبو الأسود الشنة، فنفر الفرس بالأعرابي، فدق ترقوته. وأما خالد بن صفوان فإنه مرض، فوصف له الطبيب فروجاً، فقال: وما الفروج؟! ثمّ ألحّ عليه الطبيب، فاشترى فروجا فأكل بعضه، ودخل عليه رجلٌ من قريش، فخاف أن يأكل معه فقال خالد مبتدئاً: نتغدَّى بنصف هذا الفروج، ونتعشَّى بباقيه، ثمّ قال " من الطويل ": تداري زماناً عارماً بصرُوُفه ... ومن لايداري عيشه ليس يعقلُ فخرج القرشي وهو يقول " من الطويل ": تعلمت ترنيق المعيشة بعدما ... كبرتُ وأعداني على البخل خالد وأنشد للعباس بن الأحنف " من البسيط ": أتأذنون لصبٍ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر لايضمر السُوء إن طال الجلوس به ... عفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظر وتذاكروا عنده شعر العباس بن الأحنف، فتسخَّطه وقال: والله ما يؤتى من جودة المعنى ولكنه سخيف اللفظ، ألا ترى قوله " من السريع ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 اليوم مثلُ الحول حتى أرى ... وجهك والساعات كالشهر إنَّ الذي أضمر عند الذي ... أظهر كالقطرة في البحر لو شقَّ عن قلبي قُري وسطه ... ذكرك والتوحيدُ في سطرِ ثمّ قال " من السريع ": يا من تمادى قلبه في الهوى ... سال بك السيلُ وما تدري أبعد أن قد صرت أحدوثة ... في الناس مثل الحسن البصري لعمري أنّ الحسن البصري مشهورٌ ولكن ليس هذا موضع ذكره! - وأنشد لأبي العتاهية " من الرمل ": أنت ما استغنيت عن صا ... حِبك الدهر أخوه فإذا احتجت إليه ... ساعةً مجكَ فوهُ أهنأ المعروف مالم ... تبتذلْ فيه الوُجوه وقال: ماوصف أحدٌ الثغر إلا احتاج إلى قول بشر بن أبي خازم " من الوافر ": يفلجنَ الشفاه عن أقحوانٍ ... جلاهُ غِبٍ ساريةٍ قطارُ ولا وصف أحد اللون بأحسن من بيتي عمر بن أبي ربيعة المخزومي " من الخفيف ": وهيَ مكنونةٌ تَحيّر منها ... في أديم الخدين ماء الشباب شفَّ منها محققٌ جنديٌّ ... فهيَ كالشمس من خلال السحاب قال: ولاوصف أحدٌ عيني امرأة إلا احتاج إلى قول عدي بن الرقاع " من الكامل ": لولا الحياء وأن رأسي قد بدا ... فيه المشيب لزرتُ أمَّ القاسم وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحورُ من جآذرِ جاسم وسنان أقصدهُ النُعاس فرنقتْ ... في عينه سنةٌ وليس بنائم ولا وصف أحدٌ نجيباً إلا احتاج إلى قول حميد بن ثور " من الطويل ": محلى بأطواق عتاقٍ يبينها ... على الضُرّ راعي الضأن لو يتقوفُ ولا وصف أحد ظليماً إلا أحتاج إلى قول علقمة بن عبدة " من البسيط ": هَيقٌ كأن جناحيه وجؤجوهُ ... بيتٌ أطافت به خرقاءُ مهجومُ ولا أعتذر أحدٌ إلا احتاج إلى قول النابغة " من الطويل ": فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ ولم يبتدئ أحدٌ من الشعراء مرثية أحسن من أبتداء أوس بن حجر " من المنسرح ": أيتها النفس أجملي جزعاً ... إنَّ الذي تحذرين قد وقعا إنَّ الذي جمَّع السماحةَ والنجدة والحزم والتقُى جُمعا الألمعي الذي يظنُّ لك الظَّنَّ كأن قد رأى وقد سمعا وأصدق ما قالته العربُ قولُ الحطيئة " من البسيط ": من يفعل الخير لايعدم جوازيهُ ... لايذهب العرف بين الله والناس قال: وهو بيتٌ أوّله مثلٌ وآخره مثلٌ. وأحسن ماقيل في الكبر قولُ حميد بن ثور " من الطويل ": أرى بصري قد خانني بعد صحةٍ ... وحسبك داءً أن تصحَّ وتسلما وألام بيتٍ قاله رجلٌ ينشد وهو يسمع - وقال هذا لقلة حنينه إلى ألافه " من البسيط ": تلقى بكلُ بلادٍ إن أقمت بها ... أهلاً بأهل وجيراناً بجيران وأحسن ماقيل في صفة امرأة عجزاء خميصة قولُ الأعشى " من البسيط ": صفرُ الوشاحين ملء الدرع بهنكةٌ ... إذا تأتي يكادُ الخصر ينخزل وأحسن من هذا قولُ أبي وجزة السعدي " من الكامل ": أدماءُ في وضح يكادُ رداؤها ... يغري ويصنعُ ما أحبَّ إزارها وأشعر أبيات وصف بها الفرس قولُ النابغة " من المنسرح ": وغارةٍ تسعرُ المقانب قد ... سارعت فيها بصلدم صتم فعمٍ أسيلٍ عراضِ أوظفة الرجلين خاظي البضيعِ ملتئم في مرفقيه تحانف وله ... بركة زورٍ كجبأةِ الخزم وهو طويلُ الجران مدَّ بلحييه ... فلم يأزما على كزم خيط على زفرةٍ فتمَّ ولم ... يرجع إلى دقةٍ ولا هضم وأحسن ما قيل في صفة الدروع " من الطويل ": وبيضٍ من النسج القديم كأنها ... نهاءٌ نقيعٌ ماؤه متدافعُ تصفقها هوجُ الجنوب إذا جرت ... وتعقبها الأمطار فالماء راجع ولا شعر أشبه بالسنة من قول عديّ بن زيد " من الطويل ": عن المرء لاتسأل وسلْ عن قرينهِ ... فإن القرين بالمقارن يقتدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ولم يقل شعر قكٌ مثل هذه الثلاثة المعاني في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قول كعب بن زهير " من البسيط ": تحمله الناقةُ الأدماءُ معتجراً ... بالبرد كالبدر جلَّي ليلةَ الظُلمِ وفي عطافيه أو أثناء ريطته ... ما يعلم الله من دينٍ ومن كرم وأجود بيتٍ في الغيث بيت الهذُليّ " من الطويل ": لتُلقحه ريحُ الجنوب وتقبل ... الشمالُ نتاجاً والصبا حالبٌ يمري قال: وقال الكميت " من المتقارب ": مرته الجنوب فلما ... أكفهرَّ حلَّت عزاليه الشمألُ قال: وأحسن ما قيل في وصف جيشٍ قولُ العجَّاج " من الرجز ": كأنما زهاؤه لمن جهر ... ليلٌ ورزُّ وغره إذا وغر سارٍ سرى من قبل العين فجرّ ... عيطّ السحاب والمرابيعَ الكُبَرْ وأحسن ما قيل في وصف الإبل قولُ عمر بن لجاءٍ " من الرجز ": أنعتها إني من نعاتها ... مندحَّةَ السُراتِ وادقاتها أي عظيمة الجوف منبسطته دانيةٌ من الأرض، مكفوفة الأخفاف محمراتها ... سابغةَ الأذناب ذيَّالاتها يريد: أخفافها ليست بمنكسرة كأنها مكفوفةٌ بكفافٍ، طَوَتْ ليومِ الخمس أسقياتها ... غابر ما فيها على بُلاَّتها أي طَوَتِ البقية على البلات، واطو باقي سقاءك على بلله! أي وفيه بلل لا تطوه على يبسٍ فينكسر وهذا مثلٌ، وافقت الشمسَ بجمجماتها ... تمشي إلى رواءٍ عاطناتها تجبس العانس في ريطاتها ... بالأجرع السهل إلى جاراتها التجبُّس التميدُ والتميس، يقول: تمشي إلى الرواء التي رويت قبلها كما تمشي هذه المرأة العانس، كأنما نُطَّت إلى ضَرَّاتها ... مِن نخر الطلح مجوفاتها قال: ولا أعرف للعرب من صفة القطا كقول المَرذَار " من الطويل ": بلادٌ مروراةٌ يحارُ بها القطا ... ترى الرأل في حافاتها يتحدقُ يظلّ بها فرخُ القطاةِ كأنه ... يتيمُ جفا عنه مواليه مُطرّقُ مروراة كلّ أرض لاتنبت مثل العزاز، والرأل فرخ النعام. - قال: وأجودُ ما قال الشعراء قول القيس في الطيب " من الطويل ": ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدتُ بها طيباً وإن لم تطيَّبِ قال: ولم أسمع وصف الطعنة بمثل هذا " تشهق " و " تهرُّ " كقول أوس بن حجر " من المتقارب ": وفي صدره مثل جيب العرو ... سِ تشهقُ حيناً وحيناً تهرّ " جيب العروس " أراد: الصبغ بالدم، و " تشهق " أراد: إذا ردّ صاحبها نفسه تصعَّد الدمُ، فسمعت لها شهيقاً، وإذا تنفس أسرع الدمُ إلى موضعها فاحتبس على فمِ الجُرح، فسمعت له مثلَ الهرير. وقال: ثمّ بعد ذلك قولُ زياد الأعجم في مرثية المغيرة بن المهلب " من الكامل ": ومُدَّجج كره الكماة نزالهُ ... شاكي السلاح مسايفٍ أو رامح سبقت يداك له الحتوف بطعنة ... شهقتْ لمنفذها أصولُ جوانح قال: وأحسن ما قيل في وصف عمود الصبح قول ذي الرُمَّة " من الطويل ": كأن عمودُ الصبح جيدٌ ولبَّةٌ ... وراء الدُجى من حُرّة اللون حاسِرُ شبَّه بياض الصبح في الحمرة بعنق امرأة ولبتها، وقوله " وراء الدُجى " أي بعد ما ذهب الدجى. - قال: وأحسن ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي: ألا أيها الغائرُ المستشيطُ ... علامَ تغار إذا لم تغرْ فما خير عرس إذا خفتها ... وما خير بيتٍ إذا لم يُزرْ تغارُ على الناس أن ينظروا ... وهل يفتن الصالحات النظرْ فإني سأخلي لها بيتها ... فتحفظ في نفسها أو تذرْ إن الله لم يُعطه زُدَّها ... فلن يعطي الوُدَّ سوطٌ ممر يكاد يقطع أضلاعه ... إذا ما رأى زائراً أو نفر فمن ذا يراعي له عرسه ... إذا ضرَّه والمطيَّ السفر قال: وكان الأصمعي كثيراً يردد هذين البيتين في العشق " من الطويل ": سقى اللهُ أياماً لنا لسنَ رُّجعا ... وسقيا لعصر العامرية من عصر ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمرُّ الليالي والشهورُ ولا أدري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قال: وسأل رجلُ من أشراف البصرة عن معنى قول زهير وقال: أوجزوا التفسير " من الطويل ": ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم فذهبوا في التفسير كلَّ مذهب، فسأل الأصمعي فقال: مثل قولهم: من عصى السوط أطاع السيف. - قال المبرد: كانت العرب إذا جاءت تطلب صلحاً فعلامتهم أن يؤخروا صدور رماحهم فيقدموا زجاجها، فإن لم يقبلوا الصلح قلبوا الأسنة للحرب. - وسئل عن قول امرئ القيس " من الطويل ": وهل ينعمن إلا سعيدٌ مخلَّدٌ ... قليلُ الهموم ما يبيت بأوجال قال: هذا مثل قولهم: استراح من لاعقل له! وقال ابو حاتم: سألت الأصمعي عن قول المتلمس " من الطويل ": لذي الحلم قبل اليوم ما تقرعُ العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما فقال: أراد به: إنما يقبل التذكرة والوعظ ذو العقل، وكان ذلك أن عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب كان قد اضطرب حكمه لطول عمره، فقال لولده: إذا رأيتموني أحكم بصواب فأمسكوا! وإذا رأيتموني قد اضطربت فحركوا عصا في أيديكم! وقال: إلا ترى إلى قول الآخر " من الكامل ": وزعمتم أن لاحلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم قال المازني: سألت الأصمعي عن بيت الأعشى " من البسيط ": وما طلابك شيئاً لست مدركه ... إن كان عنك غراب الجهل قد وقعا وأنشدته أنا لأبي حية النميري " من المتقارب ": زمان عليَّ غرابٌ غدافٌ ... فطيَّره الدهرُ عني فطارا فقال الأصمعي: أراد أن جهل شبابه الذي شعره أسود فيه كريش الغراب، قد طار عنه بشيبه. وأنشدني " من المتقارب ": زمان عليّ غرابٌ غدافٌ ... فطيَّره القدر السابق وصار على وكره عقعق ... من البلق ذو شيبةٍ ناغقُ وسئل عن بيت ابن مقبل " من المتقارب ": لعمر أبيك لقد شاقني ... خيالٌ حزنتُ له إذ حزن فقال: هذا مثلُ قول مزاحم العقيلي " من الطويل ": بكت دراهم من نأيهم فتسرعت ... دموعي فأي الباكيين ألومُ أمستعبراً يبكي على الهون والبلى ... أم اخر يبكي شجوه ويهيم وليس ثمَّ حزن ولا ههنا بكاء. - قال: وأنشد عنده أبيات دعبل " من الكامل ": أين الشبابُ وأيَّةً سلكا ... لا أين يُطلب ضلَّ بلْ هلكا لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ ... ضحك المشيبُ برأسه فبكى قد كان يضحك في شبيبته ... فأتى المشيبُ فقلَّما ضحكا يا سلم ما بالشيبِ منقصةٌ ... لاسوقةً يبقي ولا ملكا قصر الغواية عن هوى قمرٍ ... وجد السبيلَ إليه مشتركا لاتأخذا بظلامتي أحداً ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا فعجب الناسُ من قوله: " ضحك المشيب برأسه فبكى "، فقال: إنما أخذ قوله من قول الحسين بن مطير الأسدي حيث يقول " من الخفيف ": أين أهلُ القباب بالدهناء ... أين جيراننا على الأحساء جاورونا والأرضُ ملبسةٌ نو ... رَ الأقاحي تجادُ بالأنواء كلَّ يومٍ بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء قال: وقد أخذه أيضاً مسلم بن الوليد صريعُ الغواني حيث يقول " من السريع ": مستعبرٌ يبكي على دمنةٍ ... ورأسه يضحكُ فيه المشيب وقال الأصمعي: أولُ الإبل الذود إلى العشرة، فإذا بلغت الخمسة عشر إلى عشرين فهي الصرمة، فإذا بلغت ثلاثين أو أربعين فهي صُبَّة، فإذا بلغت خمسين إلى الستين فهي هجمة، فإذا بلغت سبعين إلى الثمانين فهي العكرة، فإذا بلغت مائة فهي هنيدة بلا ألف ولا لام، فإذا بلغت السبع مائة إلى الأف فهي العرج، والبرك إبل الحيّ. - وقال: إنما سُميّ مُضَرُ مضرَ لشدة بياضه، ومنه المضيرة لبياضها. وقال: في الحمار عشرة أمثال: الجحش لمَّا بذَّك الأعيارُ؛ وأنكحت الفراء فسترى؛ وكلُّ الصيد في جوف الفراء؛ ومن ينك الفراء ينك نياكاً؛ والعير أوقى لدمه؛ وأصبر من عير أبي سيارة، وذلك أنه دفع بالناس أربعين سنة بعرفات؛ وأخرب من جوف حمار؛ والعيرُ يضرط والمكواة في النار؛ وإن ذهب عيرٌ فعيرُ في الرباط. وقال المتلمس في أذلَّ من الحمار والوتد " من البسيط ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ولا يقيم بدار ليس يعرفها ... إلا الأذلاَّنِ عير الأهل والوتدُ وقال الرياشي: ألقى الأصمعي علينا قول بعض الشعراء " من الطويل ": أحِبُّ من النسوان كُلَّ قصيرةٍ ... لها نسبٌ في الصالحين قصيرُ ثمّ قال: سلوا! فسألنا فلم نجد أحداً يقف عليه، فقال: أما قوله: " أحب من النسوان كلَّ قصيرة " فكأنه قال: أُحب أن أتزوج امرأة، إذا سألتُ عنها قيل: حسبك بها فضلاً وديناً وعقلاً وجمالاً، فقد كُفيت أن أسأل عن حالها، فإذا سألتُ عن أبيها قيل: به رجلاً صالحاً ديّناً: وأنشد الأصمعي " من الطويل ": أحبُ من النسوان كلَّ طويلةٍ ... لها نسبٌ في الصالحين طويلُ وقال: هذه المرأة ليست في شهرة تلك الأولى، هذه أحتاج أني أسأل الناس عنها وعن جمالها ودينها وأسأل عن آبائها حتى أعرف من هم مثل معرفتي تلك. قال: وقد جاء في الحديث: نهى عن جداد النخل بالليل أي صرامه قال: والحال الحمأةُ، وفي الحديث: إن جبريل عليه السلام لمَّا دعا فرعون عند الغرق أخذ من حال البحر فأدخله في فيه. وسأل حضري بدوياً: هل عندكم مايرعى؟ فقال البدوي هازئاً به: نعم عندنا مقمل ومدبٌ وباقل وحانط وثامر ووراس! وإنما عني بهذا كله الرمث، وذلك أن الرمث أول ما يتفطر بالنبت يقال: قد أقمل، فإذا زاد على التفطر شيئاً قيل: قد أدبي، ثمّ هو الباقل، ثمّ هو الحانط أي المدرك، وكلُّ مدركٍ يقال له: حانط ويقال: حنط ابنك فزوجه! وهو يحنط حنوطا، والثامر الذي قد خرج ثمره، والوارس الذي قد أصفر وكاد يتحاتُ ويتساقط، وقد أورس الشجر إذا دخلته صفرة. - قال: وكلُّ نبتٌ مالحٍ فهو الحمض نحو الرمث والعضاه والطرفاء والخذراف، فأما الرُغْل والقلام والبرم والطحماء والدرماء والنجيل والسعدان فالخلة، والخلة خبز الإبل والحمض لحمها. وسئل عن قول عليّ عليه السلام: أشكو إليك عجري وبجري، فقال: همومي وأحزاني. - وقال في قوله: دمُ عفراء أفضل من دم سوداء عند الله، العفراء البيضاء وهي المبيضة البطن من الشحم والسمن، والسوداء التي بطنها أسود فليس فيه شحم. قال: وكان شيخٌ من الكتاب يجالسنا عند أبي عمرو بن العلاء فنظر إلى رجلٍ قد جاء خطُّه، فقال: قد ضاع خطُّك وارتفع! أي ظهر وجاد، ومنه قول الشاعر " من الطويل ": تضوَّع مسكاً بطنُ نعمان أن مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطراتِ يُخمرن أطراف البنان من التقى ... ويرقدن جنح الليل معتجرات قال: والعارض في قول جرير " من الوافر ": أتذكر يوم تصقلُ عارضيها ... بعودٍ بشامةٍ سُقي البشام هو السن الذي يلي الناب. قال: ويقالُ لأعمال مكة والمدينة العروض، والأعراض القرى واحدتها عرضٌ؛ والعرض بسكون الراء المال الذي ليس بنقد، وبتحريك الراء المال كله؛ وعلق فلان فلانة عرضاً أي من غير تعمد. - وقال: النهار فرخ الحباري، والبقرة العيال الكثير، يقال: جاء فلان يجرُ بقرة أي عيالاً. - ومرَّ فلان يتساوك أي مرّ يتثنى في عطفيه، ومن ثمَّ سميَّ المسواك مسواكا لتردده في جانبي الفم. - وتقول العرب عند الوجع: حس! معناه: وه! وحسسته قتلته، قال الله تعالى: (إذ تحُسُّونهم بإذنه) . - والتزوير إصلاح الكلام، ومنه قول عمر يوم سقيفة بني ساعدة: كنت زوَّرت في صدري مقالةً أقوم بها بين يدي أبي بكر، فجاء أبو بكر فما ترك شيئاً مما كنتُ زورته إلا تكلم به. - قال: واسم دجلة دغليثا، فأعربوها فقالوا: دجلة. - وعمل العراق من هيت إلى الصين والهند والسند، ثمّ هكذا إلى الريّ وخراسان إلى الديلم والجبال كلها وطبرستان. وقال: إصبهان سُرَّة العراق فتحها أبو موسى؛ والجزيرة ما بين دجلة والفرات والموصل. قال الأصمعي: كان أبو فرعون الساسي سائلا بالبصرة، وكنتُ أسمع أبا عمرو بن العلاء يذكر فصاحته ويقول: إنه أفصح أهل البلد، وكان مياسير أهل البصرة يعرضون عليه الكفاية، فيأبى إلا المسألة. قال الأصمعي: فمكثتُ حولاً أطلبه لاأقدر عليه لشغله مع أهل البصرة بالشراب وغيره، فغدوت يوماً مع الأخفش الأكبر أبي الخطاب، نأتي قوماً من الأعراب اقتحمتهم السنة، فبيننا نحن في بعض سكك البصرة إذا نحن بشيخٍ قصير عظيم الهامة كث اللحية وفي يده زبيل وهو يقول " من الرجز ": لقد غدوتُ خلقَ الثيابِ ... معلقَ الزبيل والجراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 طبَّا يدقُّ حلق الأبواب ... أسمعُ ذات الخدر والحجاب ثمّ أتى باباً فقرع حلقته ثم قال: أنيلونا، نالتكم الشفاعة! فخرجت إليه عجوز شهيرة فقالت: بورك فيك، ياسائل، ارجع، فما لك عندنا نائل! فأنشأ يقول " من الرجز ": ربَّ عجوز خبَّة زبون ... سريعة الرد على المسكين تظن أن بوركا يكفيني ... إذا غدوت باسطاً يميني عدمت كل عجلة تؤذيني قال: فقال الأخفش: ألا تسمع لهذا الشويخ ما أفصحه وأسرع إجابته؟! قال: فقلت: إن كان أبو فرعون حيَّاً فهو ذا! ومانحن يومنا بلاقٍ أحداً من الأعراب أفصح منه ولاأظرف، فصيَّر شُغلنا اليوم به! فقال: ذلك إليك! فأتيتهُ فقلت: ياشيخُ، هل لك في فليسات وطعام؟ فقال: أي بأبي، وأين ذلك؟ قال: قلت: عندي! قال: فصيّر مدرجتك لي وادياً حتى أكون له سبيلاً! فانطلقت به إلى المنزل، فقلت: أسألك عن أشياء. فقال: ياشيخ، ألا أرى سؤالك نقداً وطعامك نسيئةًظ! فقلت: أي جارية، هاتي ماحضر! قال: وهذه رفع حشمة قبل ورود مودةٍ! فجاءت الجارية بخوانٍ وأرغفة، فانثنى على جوانبها فأكلها، فلمَّا نظرت إليه الجارية يلتقم الرُعفان أقبلت بجميع ما في سندانتها من خبز فرمت به بين يديه ثمّ قالت: كل! اصطحبت بارداً! فلمَّا نظر إلى كثرة الرُعفان جثا على ركبتيه ثمّ أنشأ يقول " من الرجز ": إني على ما كان من هزالي ... وخفَّةِ اللحم على أوصالي أثلِم حرفَ القرص من حيالي ... ثلمَ المحاقِ جانب الهلال فأهوت الجارية إلى الخوان فرفعت ثمّ قالت: أي مولاي، إنما أمر اللهُ عزّ وجلّ بالتسمية على الطعام، فأما بالارتجاز فلا! فالتفت إليَّ فقال: ياشيخ، وللمنزل ربٌّ سواك أما إنه قد قيل في الامثال: لاتحمدن أمةً عام اشترائها ولا فتاةً عام هدائها؟! والله لولا أنها عرفتك بديدنك ما سبقتك إلى أمرٍ لا تريده، فها هي هذه قد ملكت خوانها فأين فليساتك التي وعدتنيها؟ قال الأصمعي: فالتفت إليَّ الأخفش فقال: أبا سعيد، أنت كما قال الشاعر " من الكامل ": سقط العشاء به على سرحان والرأي لك إن قبلت النجاء، فأخرجه راشداً لاعليك ولا لك! فقال: لله أنت جربَّةٌ جمعتم والله لو كنتم باهليين مازدتم! أما والله لآتين غداً شيخاً لكم قد وصف بالحذق باللؤم والتعليم له فأمتدحتكم عنده، لعلَّ الله أن ينفعكم بي، إذ ضرَّني بكم. قال الأخفش: فما شككتُ أنه يعني سعيد ابن مسلم! فقلت: ياأعرابيُّ، ومن شيخنا يرحمك الله؟ قال: أصيمعي ههنا ذكر لي، بلغني أنّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب عليه السلام قطع يد جده في شنٍ سرقه، فلذلك سميَّ الأصمعي. فقلت: ياأبا الخطاب، نجني من هذا، ولك الإقرارُ بالتصريف ما عشت! قال الأخفش: فقلت له: ياأعرابيُّ، قُم فقد أغناك الله! فقال: وبمن؟ قلت: بي! قال: كلاّ والله إنَّ لوجهك لحراقيف تُدلُّ على أنك وهذا الشيخ رضيعاً لبان! ثمّ تناول زبيله، فأقبلتُ أقول: اللهمَّ أخرجه عنَّا في عافيةٍ! فخرج وهو يقول " من الرجز ": ياربَّ جبسٍ، قد غدا في شانه ... لا يسقطُ الخردلُ من بنانهِ ولايريمُ الدَهْرَ من مكانه ... أشجع من ليثٍ على دُكانِهِ لايطمعُ السائلُ في رُغفانهِ ... لم يُعطني الفلس على هوانهِ يا ربّ فالَعَنْه بترجمانه وانصرف. قال: وقال خلف بن خليفة الأقطع يمدح يزيد بن عمر بن هبيرة ويصف قصره الذي بناه - وقال الفضل بن الربيع: هو لابن أبي عُيينة المهلبي في قصر عيسى بن جعفر بالخُريبة " من البسيط ": زُرْ وادي القصر نعمَ القصرُ والوادي ... لابُدَّ من زورةٍ عن غير ميعاد زرهُ فليس له شبهٌ يعادله ... من منزل حاضرٍ إن شئت أو بادِ تُرفى قراقيره والعيسُ واقفةٌ ... والنونُ والضَبُّ والملاحُ والحادي قال: أخذه من الذي يقول " من الكامل ": مُكَّاؤُها غَرِدٌ ... يُجيبُ الخضر من ورشانها قرنتْ رؤوسُ ظبائها ... بالزرق من حيتانها وقال: دخلت البادية فإذا أنا بأعرابية على قبرٍ وهي تنشد " من البسيط ": هل أخبر القبر سائليه ... أو قرَّ عيناً بزائريه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أو هل تراه أحاط علماً ... بالجسد المستكن فيه لو يعلم القبر من يراري ... تاه على كلٍ مايليه ياموت لو تقبل افتداءٍ ... لكنتُ بالنفس أفتديه أنعى يزيداً لمعتفيه ... أنعى يزيداً لمعتريه ياجبلاً كان ذا امتناع ... وركن عزٍ لآمليه يانخلة طلعها نضيدٌ ... يقربُ من كفِ مجتنبيه تحلو نعم عنده سماحاً ... ولم تطب قطُّ لابفيه ويا مريضاً على فراشٍ ... تؤذيه أيدي ممرضيه ويا صبوراً على بلاء ... كان به اللهُ يبتليه يا موت ماذا أردت مني ... حققَّت ما كنتُ أتقيه دهري رماني بفقد إلفي ... أذم دهري وأشتكيه آمنك الله كلَّ روعٍ ... وكلَّ ما كنت تتقيه قال: فدنوت منها. فقلت: من صاحب هذا القبر؟ قالت: والله لو علمت مكان أحدٍ ماتكلمتُ! قلت: فإن رأيت أن تعيدي الأبيات؟ قالت: سبحان الله، أوبلغ منك الجهل ما أرى؟ أقول لك: لو علمت مكان أحدٍ ما تكلمت! ثمّ تقول: أعيدي الأبيات!؟ قلت: فإني قد حفظتها، أنشدك؟ قالت: نعم! فأنشدتها، قالت: لعلك الأصمعي الذي يبلغنا خبره؟ فقلت: نعم! ثمّ انصرفت. وقال: دخلتُ على الرشيد في الليل، فتذاكرنا أحوال القمر، فقلت: العربُ تقول إذا كان ابن ليلة: رضاعُ سخيله حِلَّ أهلها برميله. قيل: ماأنت ابن ليلتين؟ قال: حديثُ أمتين بكذب ومين. قيل: ماأنت ابن ثلاث؟ قال: قليلُ اللباث. قيل: فما أنت ابن أربع؟ قال: عتمةُ أمّ ربع غير جائع ولا مرضع. قيل: فابن خمس؟ قال: عشاءُ خلفات قعس - ويقال: حديثٌ وأنس. ويقال: سِر وأمس. قيل: ماأنت ابن ست؟ قال: سِر وبت - وقيل: تحدَّث وبت. قيل: فابن سبع؟ قال: دلجة ضبع - وقيل: أنسُ ذي الجمع. وقيل: حديثُ جمع. وقيل: يضفر في النسع. وقيل: يلتقطُ في الجزع. وقيل: الودع. وقيل: عشيَّة أهل جمع. قيل له: ماأنت ابن ثمان؟ قال قمرٌ إضحيان. قيل: ماأنت ابن تسع؟ قال: يثقبُ فيَّ الجزع ويقطع الشسع. قيل: فما أنت ابن عشر؟ قال: ثلثُ الشهر - وقيل: مخانقُ الفجر. وقيل: أوديك إلى الفجر. وقيل: أبادرُ الفجر. وقيل: ماأنت ابن إحدى عشره؟ قال: أطلع عشاء وأرى بُكره - وقيل: أغيبُ بسحره. قيل: ماأنت ابن إثنتي عشرة؟ قال: مؤنق للبشر بالبدو والحضر. قيل: ماأنت ابن ثلاث عشرة؟ قال: قمرُ باهرٌ لكل ذي ناظر. قيل: ماأنت ابن أربع عشرة؟ قيل: مقتبل الشباب أضيءُ مدجنات السحاب. قيل: ما ابن ست عشرة؟ قال: نقص الخلق بالغرب والشرق. قيل: ماأنت ابن سبع عشرة؟ قال: أمكنتُ المقتفره - قال ثعلبٌ: المقتفرةُ الذي يتبعُ الآثار، ومقفراته موضعه الذي يقصده. قيل: ماأنت ابن ثماني عشرة؟ قال: انبسط أهل العشرة. قيل: ماأنت ابن تسع عشرة؟ قال: بطيءُ الطلوع بين الخشوع. قيل: ماأنت ابن عشرين؟ قال: أطلع بسحره وأنتظر بالبهمه - قال ثعلب: وسط الليل. قيل: ماأنت ابن إحدى وعشرين؟ قال: كالقبس يرى بالغس. قيل: ماأنت ابن اثنتين وعشرين؟ قال: بطيء السُرى إلا ريث ماأرى. قيل: ماأنت ابن ثلاثٍ وعشرين؟ قال: أطلعُ في قتمه ولاأجلو الظلمه في قتمه - أي في غبار. قيل: ما أنت ابن أربع وعشرين؟ قال: لاقمر ولا هلال. قيل: ماأنت ابن خمس وعشرين؟ قال: دنا الأجل وانقطع الأمل. قيل: ماأنت ابن ستٍ وعشرين؟ دنا فلا يرى مني إلا شفا - أي بقية. قيل: ماأنت ابن سبع وعشرين؟ قال: أطلعُ بُكره ولا أرى ظهرا. قيل: ماأنت ابن ثمان وعشرين؟ قال: ضئيل لاصغير فلا يراني إلا البصير. قيل: ماأنت ابن تسع وعشرين؟ قال: أسبق شعاع الشمس. قيل: ماأنت ابن ثلاثين؟ قال: هلالٌ مستبين. وقال: كنتُ بالبادية فنظرت إلى أعرابي في يوم شديد البرد، وقد حفر لنفسه حفرة في الأرض ودفن نفسه فيها وهو يقول " من الطويل ": يا ربُّ هذا القُرُّ أصبح كالحاً ... وأنت بعدمي عالمٌ لاتعلمُ فإن كنت يوماً ما جهنمَّ مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم قال الرياشي: كنا عند الأصمعي فجاءه رجلُ سكران وكان جارٌ له ندافاً، فقال له: امدحني بالجوار! فقال له " من الكامل ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 حيَّاك ربُّك واصطحبت عصيدةً ... وإدامها زبد فزبد واندف فقبَّل رجله وقال: جزاك الله خيراً! قال: ودخلتُ الحمَّام فوجدت رجلاً وسيماً فقلت: مانسبك؟ قال: لاأدري. قلت: ماأسمك؟ قال: عمرويه؟ قلت: فالصنعة؟ قال: حائك. فناولته ليفة وقلت: ادلك بهذا ظهري! وقلت " من الرمل ": إنما أنت لحاك الله ... يا عمرويه جيفه كنتُ أرجوك فعند اليأس ... ناولتك ليفه لو كما تنقص تزدا ... د إذن كنت خليفه وقال: كنتُ أنشد هذا البيت ولا أرى له ثانيا " من الوافر ": أرى للكأس حقاً لاأراه ... لغير الكأس إلا للنديم فسمعت بعض أصحاب الحمَّامات يوقد ويقول " من الوافر ": هو القطبُ الذي دارت عليه ... رحا اللذات في الدهر القديم قال: جاؤنا بقثاء كأنه أُيور المراهقين وموزٍ كأذرع الأبكار. - قال: وقرأ رجلٌ: (إنَّا أرْسَلْنا نُوحا) فأرتج عليه، فقال له نبطيُّ: خلفه إن لم يذهب نوح فأرسل غيره. - وقال: كلُّ ما عمل من الدروع بالعراق فهو الفارسي، وما عمل بالشام فهو السلوقي. - وكان إذا استثقل إنساناً أنشد " من البسيطط: من يشتري ستةً مني بواحدةٍ ... أمَّن يبادلُ جيراناً بجيران وسُئل: لمَ سمَّتَ العرب أولادها كلباً وذئباً وعبيدها ميموناً ومباركاً؟ قال: سمَّت أولادها لأعدائها وسمَّت عبيدها لأنفسها. - وقال: ماعرفتُ معنى قول الله تعالى: (حَصَبُ جَهَنَّمَ) حتى سمعت أعرابية تقول: حصبتُ التنَّور - أي أوقدته. - وقال: دهاة العرب أربعة: معاوية وعمرو ابن العاص والسائب بن ألقرع والمغيرة بن شعبة، وكلُّهم وُلد بالطائف. - وقال: قلتُ لأعرابي: خيرُ الغداء بواكره، فكيف في العشاء؟ قال: سوافره! يعني من قبل مغيب الشمس. وقال: دخلت على الرشيد بعقبٍ علَّة، فقال: كيف أنت؟ فقلت: شفاني الله برؤية أمير المؤمنين، ولقد بتُّ بليلة النابغة! فقال: إنَّا لله، هو والله قوله " من الطويل ": فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ ... من الرقش في أنيابها السُمُّ ناقعُ فعجبت من ذكائه وفطنته. قال الرشيد يوماً: أنشدونا أحسن ماقيل في العقاب! فعذر القومُ ولم يأتوا بشيء، فقال الأصمعي: من أحسنه " من البسيط ": باتت يؤرقها في وكرها سغب ... وناهضٌ يخلسُ الأقواتَ من فيها ثمّ استمرَّ بها عزمٌ فحدَّرها ... كأنما الريحُ هبَّتْ من خوافيها ماكان إلا كرجع الطرف إذ رجعت ... ملأى تمطقُ ممَّا في أسافيها ثمّ قال: وهذا امرؤ القيس يقول " من الطويل ": كأن قلوبَ الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العُنَّابُ والحشفُ البالي فقال الرشيد: لله درك، مامن شيء إلا وجدتُ عندك فيه شيئاً. وقال: دخل العباس بن ألحنف على الرشيد وعنده الأصمعي، فقال: أنشدنا من ملحك الغريبة! فأنشده " من الهزج ": إذا ماشئت أن تصنع ... شيئاً يعجبُ الناسا فصور ههنا فوزاً ... وصور ثمَّ عبَّاسا ودع بينهما شبرا ... وإن زدتَّ فلاباسا فإن لم يدنوا حتى ... ترى رأسيهما راسا فكذبها وكذبة ... بما قاست وما قاسى فلمَّا خرج قال الأصمعي: مسترقٌ من العرب والعجم! فقال لي: ماكان من العرب؟ فقلت: رجلٌ يقال له عمر هوي جارية يقال لها قمر، فقال " من الهزج ": إذا ما شئت أن تصنع ... شيئاً يعجب البشرا فصور ههنا قمراً ... وصور ههنا عُمرا فإن لم يدنو حتى ... ترى بشريهما بشرا فكذبها بما ذكرت ... وكذبه بما ذكرا قال: فما كان من العجم؟ قلت: رجلٌ يقال له فلق هوي جارية يقال لها روق، فقال " من الهزج ": إذا ماشئت أن تصنع ... شيئاً يعجبُ الخلقا فصور ههنا روقاً ... وصور ههنا فلقا فإن لم يدنوا حتى ... ترى خلقيهما خلقا فكذبها بما لاقت ... وكذبه بما يلقَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قال: فبينا نحن كذلك إذ دخل الحاجب، فقال: عبَّاسٌ بالباب! فقال: ايذن له! فدخل، فقال: ياعبَّاسُ، تسرقُ معاني الشعر وتدَّعيه. فقال: ماسبقني إليه أحدٌ. فقال: هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم، ثمّ قال: ياغلام، ادفع الجائزة إلى الأصمعي! فلَّما خرجنا قال العبَّاس: كذبتني وأبطلت جائزتي! فقلت: أتذكر يوم كذا؟ ثمّ أنشأتُ أقول " من البسيط ": إذا وترت أمرءاً فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لايحصدُ به عنبا قال: وكان الأصمعي يكثر من إنشاد " من الطويل ": فإن تجمع الأيام بيني وبينها ... بذي الرمثِ صيفاً مثل صيفي ومربعي شددتُ بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطع وذكر بإسناده عن أبي هلال الراسبي عن النبي صلى الله عليه وسل: سيَّدُ إدام أهل الجنة اللحم وسيّد ريحان أهل الجنة الفاغية. قال الأصمعي: الفاغية نور الحناء. وقال: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه " من الهزج ": لاتصحب أخا الجهل ... وإياكَ وإياهُ فكم من جاهلٍ آذى ... حليماً حين آخاهُ يُقاسُ المرءُ بالمرء ... إذا ماهو ماشاهُ وللشيْ على الشيء ... مقاييسٌ وأشباهُ وقال عليّ عليه السلام على المنبر: ماأصبتُ من دنياكم هذه - أو قال: من فنئكم - غير هذه القارورة - يريد قارورة الغالية - أهداها إليَّ دُهقانٌ - قال: فرفع الدال - من دهاقين الشأم ورمُاَّنا أهدي إليّ من رُمَّان خلوان. قال: ولقي عمر بن الخطاب رجلاً بطرف الحرة فقال له: ما أسمك؟ قال: طارق. قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحرقة. قال: فأين منزلك؟ قال: بحرة النار. قال: بأيّها؟ قال: بذات لظى. قال: أدرك أهلك، فقد أحترقوا! فرجع إلى أهله فوجدهم قد أحترقوا. - وقال: أتيتُ بعض الأعراب وقد مات سيَّدٌ لهم وإذا بعضهم يقول " من الكامل ": فلئن بكيناهُ فحُقَّ له البكا ... ولئن تركناهُ فللكبرِ فلمثله جرت العيون دماً ... ولمثله جمدت فما تجري قال وكان بالبصرة أعرابيّ من بني تميم يُطفل على الناس، فعاتبته على ذلك، فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولاوضع الطعامُ إلا ليؤكل، وما قدمت هدية فأتوقع رسولاً، وما أكره أن أكون ثقيلاً على من أراه شحيحاً بخيلاً وأتقحم عليه مستأنساً وأضحك إن رأيته عابساً وآكل برغمه وأدعه بغمه، فما أعدَّ للَّهوات طعام أطيبُ من طعام لاتنفق عليه درهماً ولا تعني إليه خادماً! ثمّ أنشد " من الخفيف ": كلُّ يومٍ أدورُ في عرصة الحيّ ... أشمُّ القُتارَ شمَّ الذئاب فإذا ما رأيتُ آثار عُرسٍ ... وختانٍ أو مجمع الأصحاب لم أرَوَّعْ دون التقحُّم لا أر ... هبُ دفعاً ونُكرةَ البَوَّاب ًمستهيناً بما هجمتُ عليه غير مستأذنٍ ولاهيَّابِ فتراني ألفُ بالرغم منه ... كُلَّ ما قدَّموه لفَ العقاب ذاك أدنى من التكلف والغر ... م وغيظ البقال والقصاب ولد الأصمعي سنة اثنتين - وقيل: ثلاثٍ - وعشرين ومائة، ومات سنة ثلاث عشرة - وقيل: أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ست عشرة - ومائتين. وقال أبو العالية يرثيه " من البسيط ": لله درُّ بنات الدهر إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا عش مابدا لك في الدنيا ترى ... في الناس منه ولامن علمه خلفا آخر أخبار الأصمعي وبه تمام الجزء الثاني في أبتداء أمر البصرة ونزول المسلمين فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 كان في أول هذا الكتاب سئل قتادة: لمَ سُميت البصرة بها؟ فقال: قالت العرب: أنزلونا أرضاً بَصْرةً! أي غليظة. وفي أخرى أنه قال: أتدرون من مصر البصرة؟ قيل: لا! قال: رجل من بني شيبان يُسمى المثنى بن حارثة وإنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني نزلتُ أرضاً بصرة. فكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فأثبت حتى يأتيك أمري! فبعث عُتبة بن غزوان معلماً وأميراً، فغزا الأبُلَّة، وقال له حين وجهَّه: سِرْ! فإذا بلغت أقصى أرض العرب وأدنى أرض البيضاء. - وقال ابن دريد: الشيحُ والقيصوم أناخ فنزل، وذلك عند البيضاء. - وقال ابن دريد: البيضاء بالبصرة دارُ عبيد الله بن زياد. - وخطَّأ أبو حاتم تعليل قتادة وقال: لو كان كما ذكره لكانت النسبة إليها بصرياً كنمري، وإنما سُميت بها للحجارة البيض التي في المِرْبد. - ووصف عُتبة بن غزوان لعمر رضي الله عنه أرض البصرة فقال: فيها حجارةٌ بيضٌ خُشن. فقال عمر: هي البصرة. قال الأصمعي: يقال إنَّ البصرة من أرض الهند، ويقال لها المؤتفكة والخُريبة وتَدْمُرُ والبصيرة. وقال: سواد البصرة الأهواز وفارس وميسان ودستميسان، وسواد الكوفة كسكر إلى الزاب إلى عمل حُلْوان إلى القادسية. وعن إياس بن معاوية: مثلت الدنيا على طائر، فالبصرة ومصر الجناحان والشأم الرأس والجزيرة الجؤُجؤ واليمن الذنب. بعث أبو موسى وفداً إلى عمر بن الخطاب فيهم الأحنف بن قيس وهو أضغرهم سناً، فقام ذوو الأسنان فتكلموا، فكان عامة كلامهم الثناء على أمرائهم وحوائج أنفسهم. ثمّ قام ألحنف فقال: ياأمير المؤمنين، إن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى في العيون العذاب والجنان الخصبة في مثل عين الجمل الفاسقة، يأتيهم ماأتاهم من ثمارهم غضاً غريضاً لم ينخضد؛ وإن إخواننا من أهل مصر نزلوا منازل الفراعنة والأمم الخالية؛ وإن إخواننا من أهل الشأم نزلوا منازل بني جفنة وقيصر والروم؛ وإنَّا معاشر أهل البصرة نزلنا في سبخة نشاشة زعقة هشاشة لايجف ثراها ولا ينبتُ مرعاها، طرف لها بالفلاة وآخر في البحر الأجاج، يُجرُّ إليها مايجر في مثل مريءٍ النعامة؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يرفع خسيسنا وينعش كيستنا ويزيد في أرزاق عيالنا وأن يصغر درهمنا ويكبر قفيزنا وأن يأمر لنا بنهر يُحفر. ففعل عمر ذلك وقال: ليس فيكم مثل هذا، كلُّ منكم إنما تكلم في حوائج نفسه، وهذا تكلم في أمر الرعية وعامة الناس، فهو سيّد مسوَّدٌ! ثمّ أمر زياداً بحفر نهر الأبُلة، فحفره. فلمَّا بلغ الفتق تيَّمن زياد بمعقل بن يسار لصحبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففتقه معقل فنسب إليه، فسلّم زياد ألف درهم إلى صاحب يدفعها إلى من يشيع أنه نهر زياد، فكلُّ من كلمه فيه لايقول إلا نهر معقل، فردّ الألف. في فضل البصرة، روى أبو ذز قال: أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طبقٌ من تمرٍ أو رطب، فجعل يأكل منه البَرْنيَّ والقريثاء، ثم قال: اللهمَّ إنك تعلم أني أُحبها فأنبتها في أحب البلاد إليك واجعل عندها آية بينة! - قال الحسن: فوالله ما أعلمها في بلدٍ أكثر منهما بالبصرة، وقد جعل الله عندها آية بينة المَدَّ والجزر. وقال محمد بن سلام الجُمَحي: كان بالبصرة أربعة كلُّ واحد منهم عالمُ زمانه، لايعلمُ في الأمصار مثله: الأحنف بن قيس في حلمه وعفافه ومنزلته، والحسن في زهده وفصاحته وسخائه وموقعه من قلوب الناس، والمهلَّب بن أبي صُفرة في شجاعته ونجدته، وسوار بن عبد الله القاضي في عفافه وتحريه للحق. وقال أبو العيناء محمد بن القاسم اليمامي: يقال: لايعرف بلدٌ أقربُ برَّا من بحر وحضرا من بدوٍ وقانصَ وحش وصائد سمك ونجدا من عور من البصرة، واسطة الأرض وفرضة التُجار ومغيض الأمطار ومسكن الأحرار، عجب أولها رُطب وأوسطها قصب وآخرها العطب - والعطب القطن -، لهم الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، الملَّقحات بالفحل، تعلَّةُ الصبي والشبخ وتحفة مريم عليها السلام. - نجز ماكان في أول الكتاب من أخبار البصرة. 32 - ومن أخبار قُطرُب النحوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 هو ابو عليّ محمد بن المستنير، أحد من اختلف إلى سيبويه وتعلم منه، ولم يقرأ كتابه عليه، وكان يدلج إليه، وإذا خرج رآه على بابه غدوةً وعشية، فقال له: ماأنت إلا قُطرب ايل! فلُقب به. - قال ابن دريد: قطرب وقطروب ذكر الغيلان. قال: ولغة أزدية يسمون الكلاب الصغار القطارب. وقال ثعلبٌ: القطرب دويبةٌ كثيرة الحركة وهو الصرار. قال: يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ أحدكم جيفة ليل قطرب نهار! أي لايقوم بالليل لخير ولاصلاة ويتحرك بالنهار كهذه الدويبة. قال: ولقطرب كتب كثيرة في اللغة والنحو والعروض ومعاني الشعر وغريب الحديث وكتاب في القرآن لم يسبقه إلى مثله أحدٌ. وكان لقطرب ابنٌ مع أبي دلف، فحضر يوماً معه بعض الحروب، فجاءه سهم في رأسه، فحمل مغشياً عليه، فجمع له المتطببين وأمرهم بإخراج السهم من رأسه، فقالوا: إن أخرج السهم ولم يخالطه الدماغ عاش، وإن كان قد خالطه لم يعش. ففتح ابن قطرب عينه وقال: انزعةه! فلو كان في رأسي دماغٌ ماحضرتُ هذا الموضع. فقال أبو دلف من قصيدة " من الكامل ": وليشكرن أبو عليٍ قطربٌ ... مني يدا بيضاء غير عُقامِ ردي عليه فتاهُ بعد ثوائه ... رهناً لكل مهنَّدٍ قصام في حيث لاتجدي عليه دفاترٌ ... موسومةٌ برواقش الأقلام لا النحو ينفعه ولا إتقانه ... علم العروض ومذهب النظاَّم ومن شعر قطرب " من البسيط ": إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منك معي ... قلبي يراك إذا ماغبتَ عن بصري فالعينُ تُبصرُ من تهوى وتفقده ... وناظرُ القلبِ لايخلو من الذكر ويروى لقطرب في مرثية محمد بن منصور - وقيل لكُثير في عمر بن عبد العزيز وقيل لبعض الأعراب " من الكامل ": لهفي عليك للهفةٍ من خائفِ ... كنتَ المُجير لها وليس مجير أمَّا القبور فإنهنّ أوانسٌ ... بجوار قبرك والديارُ قبور عَمَّتْ صنائعه فعَمَّ مُصابه ... فالناسُ فيه كلُّهم مأجورُ والناسُ مأتمُهمُ عليه واحدٌ ... في كلّ دارٍ رنَّةٌ وزفيرُ عمّت مصيبنهُ فصارت أسوةً ... للناس كلهم فليس صبور يُثني عليك لسانُ من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير ردَّت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور وقال في أعلام النبي صلى الله عليه وسل " من الطويل ": حمدتُ إلهي وامتدحت نبيَّهُ ... نبيَّ الهُدى الهادي وإياه أحمدُ توحَّد فيه بالصنيعة إنه ... بكلّ جميلٍ بادئٌ متوحدُ إليكَ رسولَ الله منَّا تحيَّةٌ ... وصلى عليك العابدُ المتهجدُ فأنت رسول الله هادٍ ومهتدٍ ... نبيُّ هُدى للأنبياءِ مؤيدُ وقد قال حسّان وفي الشعر شاهدٌ ... تجددهُ الأيامُ يُروى ويُنشدُ أغرُّ عليه للنبوة خاتمٌ ... من الله مشهورٌ يلوحُ ويشهدُ وأعطاه من لفظ اسمه ليُجلَّهُ ... فذو العرٍش محمود وهذا محمَّد فقلتُ شبيهاً بالذي قال إنني ... به مؤمنٌ حقّاً لربي موُحدُ وضمَّ الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذنُ: أشهدُ فلا يُقبل التوحيدُ إلا بذكره ... ليقرنهُ عند النداء المُوحدُ وماجاء يدعونا بغير دلالةٍ ... ولكن بآيات تدلُّ وتشهدُ سمعنا له منها بخمسين آية ... سأذكرُ عنه بعضها وأجددُ فمنها كلامُ الذئب للرجل الذي ... رأى الذئب في أعناقه يتردَّدُ عجبتُ لأخذي منك شاةً رزقتها ... وهذا رسول الله يؤذى ويجحدُ فخلَّى عن الشاة التي كان ضمَّها ... وأقبلَ للإسلام يسعى ويحفدُ دعا شجرا حتى يجامع مثله ... فجاء يشقُ الأرض والأرض فدفَدُ فضمَّهما حتى رأى الناسُ فعله ... وردَّ التي جاءت إلى حيث يعهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ومن ذاك جذعٌ حن شوقاً إلى الرضا ... فما زال ساعات يميلً ويسند وقد سمعوا صوتاً من الجذع بيتنا ... فيا عجباً ممَّن يشكُ ويُلحدُ ومن دون هذا حُجَّةٌ ودلالةٌ ... كأن الذي يعدوهما يتعمدُ ومن ذاك شاةٌ خلوة الضرع مسَّها ... فدرَّت بغزرٍ حافلٍ يتزَّبدُ فقام إليها الحالبان فأترعا ... أوانيها والضرعُ ريَّانُ أبرْدُ يدٌ مسَّت الأطباءُ وبوركت ... مؤيدةً بالله وهو المؤيَّد مطهرةً التركيب من كل آفةٍ ... مباركةَ الأفعال ما مثلها يدُ وسار إلى البيت المُدَّس ليلة ... مسيرةَ شهرٍ واردٌ ليس يُطرد يخبرُ بالعير التي في طريقه ... ليوُقن أهل الشِرك ذاك فيسعد مسيرة شهرٍ من تهامة ذاهباً ... إليه وشهرٍ راجعاً حين يجهد ومنا ذراعٌ مسَّها فتكلمت ... تحذره من أكلها وتؤكد وكانت ذراعاً قُدمت في طعامه ... وقد سمَّها قومٌ لأحمدَ حُسَّدُ وكان الذي قالت له: لاتمسنيَّ ... ففيَّ سُمومٌ حَرُّها ليس يَبْردُ فأمسك عنها والنبيُّ مؤيدٌ ... يُوفقهُ ربٌّ رحيمٌ ويُرشدُ ومن ذاك عينٌ جاد فيها بتفلةٍ ... فأبصر من كانت له حيث يقصدُ وسالت على الخدين منها غشاوةٌ ... فعاد بها في جفنه يتوقدُ وما كان يرجو أن تعود بصيرةً ... وقد ذهبت حيناً وكان يُقَّودُ ولكن رسول الله أصلحها له ... وتصلحُ في الله الأمورُ وتفسدُ وقد رام هذا الفعل من عين أعور ... مسيلمة الكذاب يبغي ويحسدُ فلم تبره العين التي كان يشتكي ... ولم تسلم الأخرى التي كان يحمد فأعماه لمّلأ أن دنا لعلاجه ... ليفرق بين الحق والبُطل أحمدُ وشاءٌ لعبد القيس مرَّ بأذنها ... فلاحت شهابُ منه تبقى وتخلد وصار على أولادها منه ميسم ... يلوحُ على آذائها حين تُولدُ يُخبر عمَّا لم يجيء بمجيئه ... وما قال فيه اليوم جاء به الغد ومضمر أمر قال ما في ضميره ... دلائل منه بالنبوة تشهد ومن ذاك أخبارٌ عن الغيب قالها ... يُعاينُ منه الصدق فيها ويُوجدُ فسودده بالله إذ كان وحيه ... إليه وهل فوق النبوة سُودد وكان يسمي في قريشٍ أمينها ... فلم يأته الأصنام إذ ذاك تعبدُ فأظهر بالإسلام دعوة صادقٍ ... فضَّل له سهمٌ إليها مُسَدّدُ ففاضت عيون البئر من كل جانبٍ ... بماءٍ فراتٍ نابعٍ يتوَّلدُ فأسقتهم حتى رووا وركابهم ... وقد زوَّدوا منه الذي يُتزوَّدُ وكان أراد الشأم في بعض أمره ... فأقبل سيلً ينشرُ الأرض مُزْبدُ فقحَّمَ في سيلٍ بعاقٍ يعُمُّه ... فصار طريقاً يابساً يتخدَّدُ ويسمعُ من أصواتها في طريقه ... تمجدهُ أنّ النبيَّ مُمجَّدُ وليس رأى إلا الحجارة حوله ... ويسمع صوتاً بالسلام يُردَّدُ وفي مزود إحدى وعشرون تمرةً ... به جاءت الآثار تروى وتسند وقد ضمَّها قدَّامه في ردائه ... وأقبل يدعو ربَّه ويمجدُ فزادت ولاتحصى زيادات ربنا ... ولايبلغ الغايات منها المعدد ثلاثة آلافٍ قضوا منه شبعهم ... وما أفضلوا حتى احتشى منه مزود وجهز منه مزنة فوق رأسه ... رآها بحيرا الراهب المتعبدُ تُظلله من كل حر يصبه ... تقيمُ عليه ما أقام فيركدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وإن سار سارت لاتفارق رأسه ... فقال لهم: هذا النبي محمَّدُ حليم رحيمٌ لينُ متواضعٌ ... سَحيّق حييٌّ عابدٌ متزهدُ وكان رسول الله فوق صفانتا ... يُقصرُ فيه من يقولُ فيجهدُ قال يعقوب بن السكيت: كتبت عن قطرب قمطرا، ثمّ تبينت أنه يكذب في اللغة، فلستُ أذكرُ عنه شيئاً. - وقال أبو زيد: قطرب وأبوه معتزليَّان. ومات قُطرب في سنة ست ومائتين. 33 - ومن أخبار يعقوب الحَضْرميّ هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي المُقرئ، ولد سنة عشرين ومائة. - قال محمد بن سعد: يعقوب بن إسحاق الحضرمي ليس عندهم بذاك الثبت، يذكرون أنه حدث عن رجال لقيهم وهو صغير لم يدرك. وأخوه أبو إسحاق أحمد بن إسحاق ثقةٌ أكبر من أخيه يعقوب. قال يعقوب: مات حميد الطويل في جمادي الأولى سنة أربعين ومائة، ومات أبان بن أبي عياش في أول رجب سنة ثمان وثلاثين ومائة، ومات الحسن في رجب سنة عشر ومائة. توفي يعقوب الحضرمي وأبو عامر العقدي يوم الأحد في جمادي الأولى سنة خمس ومائتين. 34 - ومن أخبار كيسان المحوي هو أبو سليمان بن المعرَّف كيسان الهُجيميُّ. قال أبو زيد: كان ثقة. وقال أبو عبيدة: العلمُ يمسخُ على لسان كيسان أربع مرات: يسمع معنا غير مانسمع، ويكتب في ألواحه خلاف مايسمع، وينقل إلى الدفة خلاف مايكتب في لوحه، ويقرأ من الدفتر خلاف مافيه. وقام أبو زيد يوماً من مجلسه وقال: كانت العرب تقول: ليس لحاقن رأيُ. قال كيسان: ولالمنعظ. فقال: ماسمعناه ولكن اكتبوه فإنه حقٌ. وقرأ عليه صبيُّ شعراً مرَّ فيه ببيت فيه ذكر العيس، فقال له: ما العيس؟ فقال: الإبل البيض التي تخلط بياضها حمرة. قال: وما الإبل؟ قال: الجمال. قال: وما الجمال؟ فقام على أربعة ورغا في المسجد. 35 - ومن أخبار خلاد بن يزيد الباهليّ الأرقط كنيته أبو عمرو - وقيل: أبو مخلد - ولقب بالأرقط لجدريّ كان به. قال خلادٌ: كنّا على باب أبي عمرو بن العلاء ومعنا التيميُّ، فتذاكرنا كتاب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم: إني وإياك لدةٌ وإن امرأً سار خمسين حجة إلى منهل لقمن أن يرده. فقلنا: نصنع في هذا المعنى بيتاً. قال: فارتفع بيننا هذا البيت " من الطويل ": وإن امرأً قد سار خمسين حجَّةً ... إلى منهلٍ من ورده لقريبُ فاستلبه التيمي فأدخله في شعره. قال خلاد: وسار فانفردت أنا ببيت وهو " من الطويل ": ومن كان في الدنيا على حال قلعة ... وإن طال فيها عمره لغريب وقال خلادٌ: حضرنا يزيد بن عمر بن هبيرة في يوم مهرجان وهو أمير العراق، فأسندت له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أُتي أحدكم بهدية فجلساؤه شركاؤه فيها! وكان بين يديه صنوفُ مما أهدي إليه من الذهب والفضة والجوهر، فقام خلف بن خليفة الأقطع فقال " من المتقارب ": كأنا شماميسُ في بيعةٍ ... تسبحُ في بعض عيداتها وقد حضرت رسلُ المهرجان ... وصفوا كريمَ هداياتها علوتُ برأسي فوق الرؤوس ... فأشخصته فوق هاماتها لأثكسبَ صاحبتي صحفةً ... تغيظُ بها بعض جاراتها فأمر له بجام ذهبٍ فيه صورة شجرة كرم، فقال " من الرمل ": أصبحتُ صحفة أهلي من ذهب ... وصحافُ الناس حولي من خشب وإذا سببُ لي خيرُ أتى ... إنَّ للصنع وجوهاً وسبب فأصبنا صحفة منقوشةً ... نقشت فيها تصاويرُ العتب زين الجام فلما نلته ... زيَّن الشيطان لي مافي الجُربُ إنَّ شيطاني مريدٌ فاتكٌ ... لو أماليه عليها لوثب قال: فأمر له بجراب ثياب، فقال: حسبي أيها الأمير، قد غنيتني! وأقبل يعطيه شيئاً بعد شيء وهو يقول " من الطويل ": إذا الله سنى أمر شيءٍ تيسرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ثمّ أقبل علينا ابن هبيرة يحدثنا، فقال: إن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ورد على يزيد بن معاوية، فقال له: كم كان أمير المؤمنين يعطيك؟ قال: كان رحمه الله يعطيني ألف ألف. فقال يزيد: قد زدناك لترحمك عليه ألف ألف. قال: بأبي أنت،امي. قال: ولهذه ألف ألف. قال: أما أني لاأقولها لأحد بعدك. قال: ولهذه ألف ألف. قال: مايمنعني من الأطناب في وصفك إلا الإشفاق عليك من جودك. قال: ولهذه ألف ألف. وحمل المال معه، فقيل ليزيد: فرَّغت بيت مال المسلمين على رجلٍ واحدٍ. قال: إنما دفعته إلى أهل المدينة أجمعين. ثمّ وكل به من يعرفه خبره من حيث لايعلم، فلما دخل المدينة فرق المال فيها حتى أحتاج بعد شهرٍ الى القرض. قال: وأقبل ابن هبيرة يفرق الهدايا وينشد شعر الخثعمي " من البسيط ": لاتبخلن بدنيا وهي مقبلةٌ ... فليس يقصها التبذيرُ والسرف فإن توَّلت فأحرى أن تجود بها ... فالشكر منها إذا ماأدبرت خلف وحدّث خلاد بإسناد له عن عروة بن الزبير أنه قال لعائشة: يأماه - أو: ياخالاه - نظرتُ في أمرك، فعجبت من أشياء ولم أعجب من أشياء، رأيتك من أفقه الناس! - فقلت: مايمنعها وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورأيتك من أعلم الناس بالشعر! - فقلت: مايمنعها وهي ابنة أبو بكر الصديق - ورأيتك من أعلم الناس بالطب! قال: فأخذت بثوبي وجرَّتني إليها وقالت: ياأبا عُرَّية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسقاما، فكان أطباء العرب وأطباء العجم ينعتوتن له، فكنا نعالجه. 36 - ... ومن أخبار أبي الحسن المدائني وهو علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف القرشي، مولى عبد الرحمان بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف. قال أبو خيثمة: هو صدوق ثقة. وقال يحيى بن معين: هو صدوق إذا حدث عن الثقات، فأحاديثه مستقيمة. وقال يحيى بن معين: من أراد اخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني. وحدث المدائني بإسناد له عن معاذ بن جبل قال: مات ابن لي، فكتب إليَّ النبي صلى الله علسه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل، أما بعد فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثمّ إن أنفسنا وأموالنا وأهلينا من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة، يمتع بها إلى أجل معدود، ويقبضها لوقتٍ معلوم، جعل عليه الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وقد كان ابنك من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة، متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجرٍ كثير، إن صبرت واحتسبت! فلا يجتمعن عليك، يامعاذ، أن يحبط جزعك أجرك فتندم غدا على ثواب مصيبة، علمت أن المصيبة قد قصرت عنك، وأعلم أنَّ الجزع لايرد ميتا ولايدفع حزنا، فليذهب أسفك ماهو نازلٌ، فكأن قد. وبإسناده عن أنس قال: وضع النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه، وقال: لولا أنه موعدٌ صادقٌ ووعدٌ جامع وأنّ الماضيَ فرطُ الباقي وأنّ الآخر لاحقُ الأول، لجزعنا عليك، ياإبراهيم! ثمّ دمعت عينهُ صلى الله عليه وسلم، فقال: تدمعُ العينُ ويحزنُ القلبُ، ولا نقول إلا مايرضي الرّبَّ وإنَّا بك، ياإبراهيمُ، لمحزونون! - وبه عنه صلى الله عليه وسلم: سُرعة المشي تذهب ببهاء المسلم. وقال المدائني: ليست الفُتَّوةُ الفسقَ والفُجور إنما الفتوةُ طعامٌ موضوعٌ ونائلٌ مبذولٌ وعفافٌ معروفٌ وأذى مكفوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقال المدائني: كان عفّانُ بن أبي العاص مؤنثاً يلعب في الأعراس بالدُفّ، ومثله الحكم بن أبي العاص، وكان شيبة بن ربيعة حلقياً وكان يأتيه منبه بن الحجاج بن سعد بن سهم وكذلك أبو جهل بن هشام، وكان النضر بن الحارث بن علقمة حلقياً ويأتيه صفوان بن أمية بن خلف، وكان خالد بن خويلد بن حزام مؤنثاً ويأتيه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان عنبسة بن أبي أحيحة سعيد بن العاص حلقياً، وكان مصعب بن الزبير مؤنثاً، وكان عبد العزيز بن مروان حلقياً محدوداً في خمر، وكان يزيد بن عبد الملك - وهو ابن عاتكة بنت يزيد بن معاوية - حلقياً، وكان الوليد بن يزيد بن عبد الملك حلقياً مؤنثاً، وكان ألحوص بن محمد مستوهاً، ويزيد بن المهلب وقبيصة بن المهلب حلقياَّن، وكان يزيد بن حاتم مخنثاً حلقياً، وجميل بن محفوظ الأزدي مستوها، وكان خالد بن عبد الله القسري حلقياً مستوها، وكان سفيان بن معاوية بن يزيد ابن المهلب حلقياً مشهوراً بذلك، وكان محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم ابن أبي عقيل مسعود بن عامر بن معتب صاحب السند مستوهاً، وكان أبان بن الحجَّاج بن يوسف مأبوُناً، وكان مالك بن المنذر بن الجارود مستوهاً، قال الفرزدق " من الطويل ": لِكُلِ أُناسٍ مَسجِدٌ يعمرونه ... ومسجدُ عبد القَيس فَقْحَةُ مالك وكان كردم السدوسي حلقياً، والمقداد بن مجزأة بن ثور حلقياً وكان مصقلة ابن رقبة العبدي مستوها. وقال: أول من عمل الصابون سليمان بن داوود عليهما السلام، وأول من عمل القراطيس يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وأول من عمل السويق ذو القرنين، وأول من خبز الرُقاق نمرود بن كنعان، وأول من كتب في القراطيس الحجَّاج بن يوسف، وهو أول من ترجم الديوان بالعربية وهو أول من عمل المحامل وأول من لبس الخفاف الساذجة بالبصرة ولبس الثياب الكتان زياد، وأول من لبس الخز وقور الطرازي عبد الله بن عامر. قال المدائني: ولدت سنة خمس وثلاثين ومائة. قال الحسين: ومات سنة خمس وعشرين ومائتين. وقيل له في مرض موته: ماتشتهي؟ قال: أشتهي أن أعيش! 37 - ومن أخبار ابن سلام الجُمحي وهو أبو عبد الله محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم مولى عثمان بن مظعون الجمحي. قال ابن سلام: أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حمَّاد الراوية، وكان غير موثوق به. وقال ابن سلام: ذاكرت مروان بن أبي حفصة جريراً والفرزدق والأخطل، وسأله غيري، فقال: يرويه كلُّ قوم بأهوائهم ولكني أقيده بشعر. ووقال " من الكامل ": ذهب الفرزدق بالفخار وإنما ... حُلْوُ القصيد ومُرُّه لجرير ولقد هجا فأمضَّ أخطل تغلب ... وحوى اللُهى بمديحه المشهور كلُّ الثلاثة قد أبرَّ فمدحه ... وهجاؤُه قد سار كُلَّ مسير ولقد جريتُ وفقت غير مبلدٍ ... بجراء لانزقٍ ولامبهورِ جراءٌ مصدر جاريته جراءً ومجاراةً أي ماشيته. وقال: كنتُ ببغداد فمررت بأبي نواس في يوم شديد البرد، فقال لي: أين تذهب في هذا اليوم البارد؟ انزل حتى نتغذَّى بغذاء طيب، وأسمعك سماعاً حسنا، ونشربُ بالكبار حتى ننام! ثمّ أنشدني " من المجتث ": اليومُ يومُ الحجار ... ويومُ ايقاد نار ويومُ قصفٍ ولهوٍ ... والخفق بالأوتار ويومُ شُرْبِ مدامٍ ... نديرها بالكبار حتى نغادرّ صرْعى ... من قبل نصف النهار قال: فنزلت، فوفى بما قال، فوالله ما انتصف النهار حتى نمنا جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قال ابن سلام: حدثني أبانُ بن عثمان قال: جاء رجلٌ من جند عبد الملك ابن مروان ومعه ابنه إلى عبد الملك، فقال: ياأمير المؤمنين، إني تزوجتُ امرأة وزوجت باني أُمها، فلو أمرت لنا بأعطياتنا فنرُمَّ من شأننا ونضُمَّ إلينا أهلنا. قال: فإذا ولد لكما غلامان فما قرابة بينهما؟ إن أصبت أعطيتكما. ففكر ساعة ثم قال: ياأمير المؤمنين، هذا صاحب شرطتك قلدته سيفك وما وراء بابك إن أصابها فلا تعطني، وإن لم يصبها فأنا أعذر. فقال: صدقت! فسأله عنها، ففكر طويلاً ثمّ لم يُحر جواباً. فناداه رجلٌ من أقصى الصف من أهل العراق: إن أنا أصبتها تأمر لي بحاجتي؟ قال: نعم! قال: ابن الأب عمُّ ابن الابن، وابن الأبن خالُ ابن الأب. - قال ابن سلام: فسألني عنها شعبة وأنا غلام. ومات ابن سلام ببغداد سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ومات أخوه عبد الرحمان بن سلام بالبصرة في هذه السنة بينهما أيامٌ. 38 - ومن أخبار أبي عبد الرحمن العٌتْبِيّ وهو محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس. قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية عبد الملك بن مروان وعتبة بن أبي سفيان. - قال عتبة بن أبي سفيان لبعض ولده: يابُنّيَّ، بزّهْ سمعك عن سماع الخنى كما تنزه لسانك عن اللفظ به، فإن السامع شريك القائل، وإنما عمد إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو رددت كلمة الجاهل في فيه لسعدت بها كما شقي هو بها. ثم أنشأ يقول " من المتقارب ": تحرَّ من الطرق أوساطها ... وعد عن الجانب المُشتَّبه وسمعك صُنْ عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن اللفظ به فإنك عند استماع القبيح ... شريكٌ لقائله فأنتبه وكم أزعج الحرص من طالب ... فأدركه الموتُ في مطلبه وقال عتبة لمؤدب ولده: ياعبد الصمد، ليكن إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن عيوبهم إليك والحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب اللهِ ولاتُملَّهم فيكرهوه ولاتدعهم منه فيهجروه، وروهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه، ولاتخرجهم من علم إلى علم حتى يُحكموه، فإنَّ ازدحام العلم في الفهم مضلة للفهم، وجنبهم محادثة النساء وأشغلهم بسير الحكماء، وهددهم بي وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الرفيق الذي لايعجل من الدواء حتى يعرف موضع الداء، وقد أتكلت على كفايةٍ منك فلا تتكلن على عّذرٍ مني، واستزدني بزيادتهم أزدك إن شاء الله! واستعمل عتبة رجلاً من آله على الطائف، فظلم رجلاً من الأزد من شنؤة، فأتى الأزدي عتبة فمثل بين يديه فقال " من البسيط ": أمرت من كان مظلوماً ليأتيكم ... فقد أتاك غريبُ الدار مظلوم ثمّ ذكر ظلامته، فقال عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلةٍ. فقال: أرايت إن أنبأتك ذا، أتعجل لي عليك مسئلة؟ قال: نعم. قال الأعرابي " من الرجز ": إن الصلاة أربعٌ وأربعُ ... ثمّ ثلاثٌ بعدهن أربعُ ثمّ صلاة الفجر لاتضَيَّعُ قال: صدقت فسل! قال: كم فقارُ ظهرك؟ قال: لاأدري. قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟! فقال: رُدُّوا عليه غُنيمته! وقال سعد القصر مولى عتبة: احتسبت علينا كُتُب معاوية حتى أرجف أهل مصر بموته، ثمّ قدم كتابه بسلامته، فصعد عتبة بن أبي سفيان المنبر والكتاب بين يديه فقال: ياأهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات السيوف، حتى صرنا شجى في لهاكم ما تسوغها حلوقكم، وأقذاء في عيونكم ماتطرف عنها جفونكم. أفحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدا واسترخت عقد الباطل منكم حلاً!؟ أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين الخلافة وخضتم الحقَّ إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديثٌ؟! فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم! وهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخبر السار والعهد القريب منه، واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيراً وإن أسررتم شرَّاً، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله أتوكل وبه أستعين! ثمّ نزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وكتب معاوية إلى عتبة وهو والي مصر في عقوبات أقوام، وأمره أن لا يراجعه في ذلك، فكتب إليه عتبة: بالله على أداء حقك أستعين وعليه في جميع أمرك أتوكل، أنا مقتدٍ بكتابك ومنتهٍ إلى أمرك ومتخذه إماماً ما أمَّ الحزم، فإذا خالفه فعندها المراجعة لئلا يرجع عليك ضرره، ولم يغب أمير المؤمنين عما شهدت، ولم يرجع إليه ضرر مافعلت؛ وقد علم من قبلي أن ناري ذكيَّة الشعل لمن عاداك، وأن جنابي أحلى من العسل لمن والاك، فليثق بذلك مني لهم وعليهم وأنا أستكفيك الذي استكفاني بك، ولاقوة إلا بالله. فلما ورد كتابه على معاوية قال: كلامٌ موجزٌ وعقلٌ محرزٌ، فليعمل برأيه. وعن أبي عطاء مولى عتبة قال: قدم علينا ابن عباس سنة إحدى وأربعين وهو كالقرحة المنبجسة، قال: فكان عتبة قليل الكلام، فنظر ابن عباس إلى عتبة يُحدُّ النظر إليه ويقل الكلام معه، فقال له: ياأبا الوليد، مالك تحد النظر - إليَّ وتقل الكلام معي، ألعقلةٍ فطالت أم لموجدة فدامت؟ فقال عتبة: ياأبا العباس، أما قلةُ كلامي معك فلقلته مع غيرك، وأما كثرة نظري إليك فلما أرى من أثر سبوغ النعمة عليك، ولئن سلطت الحقَّ على نفسك لتعلمن أنه لايعرض عنك إلا مبغض ولا ينظرُ إليك إلا محبُّ، ولئن كان هذا الكلام شفي منك داءً وأظهر منك مكتوماً ماأحبُ غيره. فقال ابن عباس: أمهيت، ياأبا الوليد! - يقال: أمهيت الحديدة إذا حددتها على المسن، يريد: بلغت الغاية في العذر - ولو كنتُ على يقين مما ظننت بك لكفاني أو لأرضاني دون ما سمعت منك. فتبسم معاوية ثمّ قال " من الرجز ": دعوتُ عركاً إذ دعا عراكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا من ينك العير ينك نياكا لاتدخلوا بين بني عبد منافٍ، فإن الحلم لهم حاجزٌ، والداخل بينهم عاجزٌ، وإن فطنة ابن عباس مقرونة بفطنته، ثم تمثل " من الطويل ": سمينُ قريشٍ مانعٌ منك شحمهُ ... وغثُّ قريش حيث كان سمين قال معاوية، لما مات أخوه عتبة، لولده: رحم الله أباكم وآنس وحشة عمكم وأحسن الخلافة عليكم، هلك أقربُ الناس إليَّ بعد والدي وأحبهم إليَّ بعد يزيد، ولئن كانت المنية أخطأتني لقد أصابتني. - توفي أبو سفيان سنة أربع وثلاثين وصلى عليه عثمان بن عفان، وتوفي ابنه عتبة سنة أربع وأربعين حين صدر معاوية عن الحج. ودخل الرفزدق على عمرو بن عتبة في يوم حار وهو يسلت العرق عن جبينه ويقول " من البسيط ": لولا ابن عتبة عمروٌ والرجاءُ له ... ما كانت البصرة الحمقاء لي وطنا أعطاني المال حتى قلت: يودعني ... أو قلت: يدفع حقَّاً قد آراه لنا فجوده متعبٌ شكري ومنته ... وكلما ازددت شكراً زادني مننا يرمي بهمته أقصى مسافتها ... ولا يريد على معروفه ثمنا فأعطاه عليها مائة دينار، وقيل: ألف دينار. ومن دعاء عمرو بن عتبة: اللهم أعني على الدنيا بالقناعة وعلى الدين بالعصمة. اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة. اللهم لاتجعل قولي فوق عملي، ولاتجعل أسوأ عملي ماولي أجلي. اللهم إني استغفرك ما أملك وأستصفحك لما لاأملك. اللهم لاتجعلني ممن إن مرض ندم وإن أستغنى فتن وإن افتقر حزن. قال الربيع الحاجب. لما مات المنصور قدمت وفود الأمصار على المهدي يعزونه، فما حفظنا عنهم شيئاً نستطرفه إلا كلمات من العتبي البصري فإنه قال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له، فلا مصيبة أعظم من موت والدٍ إمامٍ ولا عقبى أفضل من خلافة الله على أولياء الله، فاقبل يأامير المؤمنين من الله أفضل العطية واحتسب عنده أعظم الرزية! فقال النمهدي: من هذا الرجل؟ فقيل: من بني أمية من ولد عتبة بن أبي سفيان. قال: ماظننت أنه بقي من أعجازهم ماأرى. وأولم محمد بن خالد الثقفي فدعا أبان بن عبد الحميد اللاحقي وسهم بن عبد الحميد الحنفي والحكم بن قنبر وعبيد الله بن عمرو العتبي، فاحتبس عنهم الغداء، فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال: ألكم حاجة؟ يمازحهم بذلك، فقال أبانُ " من السريع ": حاجتنا عَجِلْ علينا بها ... من الحشاوي كُلُّ طردين فقال ابن قنبر " من السريع ": ومن خبيص قد حكت عاشقاً ... صفرته زين بتكوين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فقال عبيد الله " من السريع ": وأتبعوا ذاك بآيينة ... فإنكم أصحاب آيين فقال سهم " من السريع ": دعنا من الشعر وأوصافه ... واعجل علينا بالأخاوين فأحضر الغداء وخلع عليهم ووصلهم. أول شعر قاله العتبي " من الطويل ": بقلبي شيءٌ لستُ أعرفُ قدرهُ ... على أنه ماكان فهو شديد تمرُّ به الأيامُ تسحبُ ذيلها ... فتبلى به الأيامُ وهو جديدُ قال: دخلتُ على المأمون ببغداد، وحين خرجت قلت لأحمد بن أبي خالد: هل أنكرت مني شيئاً؟ قال: بلى، أضحكت أمير المؤمنين في شيء، وكان ضحكك أكثر من ضحكه. وكان ابنه عبيد الله نادرة في الشعر، وكتب إلى أبيه " من السريع ": وعدتني وعداً فأخلفتني ... فثق بأني عنه مستغن غنيتُ من ربي بمثل الذي ... غنيتُ يا هذا به عني أخلفت ظني بك في حاجة ... ما أخلف الله بها ظني صرتَ بها في الناس أحدوثة ... وأضحك الله بها سني ما عجبي من واحدٍ مخلفٍ ... بل عجبي في أملي مني وكتب إلي بعض أهله كتاباً فلم يأته الجواب، فقال " من الوافر ": عمرتُ لك المودةَ بالتلاقي ... فما جازيتني بالقرض قرضا وواصلت الكتاب مع التنائي ... فلم أرَ للجواب إليَّ نهضا إذا كتب الصديقُ إلى صديقٍ ... فقد وجب الجواب عليه فرضا وقال العتبي في جارية كان يحبها اسمها ملك " من البسيط ": لمَّا رأتني مُلْكٌ قاصراً بصري ... عنها وفي الطرف عن أمثالها زورُ قالت: عهدتك مجنوناً، فقلت لها: ... إن الشبابَ جنونٌ بُرْؤهُ الكبرُ وهذا البيت الأخير من الأبيات السائرة والأمثال الطاردة، ومثله لحسَّان " من الخفيف ": إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما ... لم يعاص كان جنونا واكل العتبي قوماً، فجاؤا بفالوذجة حارةٍ، فقصر عنها القوم وأمعن العتبي، فقال بعضهم لبعض: قد غبننا العتبي بأكله وامتناعنا. قال: لأنه ليس معنا صبر آل أبي سفيان على النار. وكتب أبو علي الحرمازي إلى العتبي " من الهزج ": بنفسي أنت قد جاء ... ك ماعندي من كتبك فلا يبعد من الإفضا ... لِ من يرجوه من قربك فما زلت أخا جودٍ ... وإفضالٍ على صحبك وسلْ قلبك عَمَّا لك في قلبي من حُبِكْ فقد أخبرني قلبي عمَّا لي في قلبك وإني لك راضٍ بي ... وإني لي لراضٍ بك وكتب أيضاً إليه الحرمازي " من السريع ": أصبح بخيرٍ وبه أمس ... ما أستخلف اليوم من الأمس أما تكافيني على سرعتي ... برد كراساتك الخمس ومستعيرٌ منك أمثالها ... إذ لم يطل عنك لها حبسي فابعث بما أمكن من نحوها ... تفديك من كلّ الأذى نفسي وقال العتبي: أصابتني نكبة في طريق مكة، فجعلت أمشي وأنا أقول " من الهزج ": أرى الموتَ لمن أمسى ... على الذل له أصلح قال: فهتف بي هاتفٌ " من الهزج ": ألا يا أيها المرءُ الذي ... الهمُّ به برَّحْ إذا ضاق بك الأمرُ ... ففكر في (ألمْ نَشْرَحْ) سرقاته وسرقات من سرق منه، قال العتبي في ابن له مات " من الكامل ": أضحت بخدي للدموع رسومُ ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كُلُومُ والصبر يحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم استرقه حبيبٌ في بيتين أحدهما قوله في إدريس بن بدر " من الطويل ": دموعٌ أجابت داعي الحزن هُمَّعُ ... توصل منا عن قلوب تُقطَّعُ وقد كان يُدعى لابس الصبر حازماً ... فأصبح يُدعى حازماً حين يجزع والآخر قوله " من الكامل ": قالوا: الرحيل! فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا الصبر أحمدُ غير أنَّ تلذذا ... في الحبّ أحرى أن يكون جميلاً وقيل: أخذ العتبي قوله يرثي ابنه " من الطويل ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وكنت به أُكنى فأصبحتُ كُلَّما ... كُنيتُ به فاضت دموعي على نحري من قول الشاعر " من الكامل ": بأبي وأمي من غبار حنوطه ... بيدي وودَّعني بماءِ شبابهِ كيف السُلُو وكيف صبري بعده ... وإذا دّعيتُ فإنما أدعى به قيل للعتبي: من أشعر الناس؟ قال: أشعر الناس في الجاهلية الملك الضليل، وأشعر الناس في الإسلام الذي يقول - يعني أبا نواس - " من الوافر ": فقام إلى العقار فسَدَّ فاها ... فعاد الليل مُسْوَدَّ الإزار يعني بالملك الضليل امرأ القيس. ولمَّا عُزل طاهر بن عليّ عن البصرة قال العتبي " من الكامل ": يا صاحباً متلوناً ... متبايناً فعلي وفعله ما إنْ أُحبُّ له الرَدَى ... بلْ سَرَّني والله عزلهْ لم تعد فيما قلت لي ... وفعلت بي ماأنت أهْلُهُ كم شاغلٍ بك عدوتيهِ ... وفارغٌ من أنت شغْلُهْ وقال " من الطويل ": ولي صاحبٌ سري المُكتم عنده ... محاريقُ نيرانٍ بلبل تحرَّقُ عطفتُ على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمان ما إن تخرَّقُ فمن تكن الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار صدري بالأحاديث تغرقُ فلا تودعن الدهر سرَّك أحمقاً ... فإنك إن أودعته منه أحمق وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً ... من القول ماقال اللبيب الموفق إذا ضاق صدرُ المرءُ عن سر نفسه ... فصدرُ الذي يستودعُ السرَّ أضيقُ وقال في الشيب " من الوافر ": وقائلةٍ تبيضُ والغواني ... نوافرُ عن معالجة القتيرِ عليك الخضب علَّك أن تُدنَّى ... إلى بيضٍ ترائبهن حور فقلت لها: المشيبُ نذيرُ عمري ... ولستُ مسوداً وجه النذير قال المبرد: تبيض أي تدع لحيتك بيضاء، يقال: بيضّ فلانٌ إذا ترك رأسه ولحيته أبيضين، وهذا كقوله تعالى (وَمَنْ أحيَاها) أي تركها حيَّةً. - وقال العتبي " من الرمل ": آذنتك الشعراتُ ... البيضُ بالخطبِ الجليلِ لم تدع في النفس شكاً ... لك من وشك الرحيلِ يوشك المُرسلُ أن يلقاك ... من بعد الرسول مات العتبي سنة ثمان وعشرين ومائتين، وحضر ابن عائشة جنازته وأنشد " من الكامل ": وابيضَّ مني الرأسُ بعد سواده ... ودعا المشيبُ خليلتي لبعادِ واستحصد القرنُ الذي أنا منهمُ ... وكفى بذاك علامةً لحصادي 39 - ومن أخبار العائشي التيميّ قال عمر بن شَبَّة: هو عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي القرشي. وعائشة جدته بنت طلحة. وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: هي بنت عبد الله بن عبيد الله بن معمر التيمي، وأُمها أمّ أبان بنت زياد بن أبي سفيان. وقال عليّ بن هارون عن أبيه: من الشعراء الملقبين عبد الله بن عبيد الله العائشي، وكنيته أبو سعيد، وكانت سمية إحدى جداته وهي أم زياد بن أبيه. قال: كان عبيد الله بن محمد قد أنفق على الإخوان ثلاثمائة ألف دينار، وجاءه وكيله يوماً بثمن ثمارٍ له مائة دينار وثلاثمائة درهم وهو في المسجد، فزافاه سائل، فأدخل يده في كم الوكيل فأخرج منها فدفعه له، فلم يزل السؤال يوافونه وهو يدفع إليهم حتى أفنى الدراهم والدنانير، فقال له وكيله: كم تعطي؟ فقال: أنا كما قال " من الكامل ": وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤالِ وقدم من البصرة إلى بغداد في شعبان سنة تسع عشرة ومائتين، فكتب عنه العلم، وحكي أنه كان يمسك بيمينه شاةً وبيساره شاةً إلى أن يسلخا. 40 - ومن أخبار عبيد الله بن معمر التيميّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 مرّ عبيد الله على راعٍ في ظل حائط ومعه غنمٌ يرعاها، فقال: ياراعي، هل من لبن؟ قال: أنا مملوك وهذه الغنم لمولاي، ولايسعني ماتسألني ولا يحلُّ لي. قال وهو يطعم وإلى جنبه كلبٌ يأكل لقمةً ويلقي إليه لقمةً، فقال عبيد الله: إنك لعجبٌ! قال: وماذاك؟ قال: أراك تقاسم الكلب طعامك. قال: أولاً أستحيي من ذي عينين يراني آكل ولاأطعمه؟! قال له: فلمن هذه الغنم؟ قال: لبني فلان من أهل المدينة. قال: ومملوك من أنت؟ قال: لهم. قال: فلمن هذا الحائط؟ - يعني البستان. قال: لهم. قال: فأتى عبيد الله بن معمر مواليه، فقال: أتبيعوني مملوككم فلاناً؟ قالوا: نعم! قال: والغنم؟ قالوا: نعم! قال: والبستان؟ قالوا: نعم! فاشتراها كلَّها، ثمّ أقبل إلى الراعي فقال له: أنت، ياراعي، حُرٌّ لوجه الله! قال: الحمد لله على ذلك! قال: وقد اشتريتُ الغنم فهي لك! قال: أشهدك، يامولاي، إنها صدقة على المساكين! قال: وقد اشتريت الحائط وهو لك! قال: أشهدك، يامولاي، إنه وقفٌ على فقراء أهل المدينة! فانصرف عبيد الله وهو يقول: مارأيت كاليوم مثل هذا العبد لله درُّه! واشترى عبيد الله جارية بعشرين ألف دينار، كانت تُسمى الكاملة من الغناء وجودة الضرب ومعرفة الألحان والقرآن والشعر والكتابة وفنون الطبيخ والعطر. وكانت عند فتىً قد أدبها لنفسه، وكان يجدُ بها وجداً شديداً، فلم يزل ينفق عليها حتى أملق واحتاج. فقالت له الجارية: والله إني لأرثي لك وأشفق عليك، ولو أنك بعتني نلت غنى الدهر ولعل الله أن يصنع لنا جميلاً. فحملها إلى عبيد الله، فأعجبته، فاشتراها. فلما قبض الفتى المال استعبر كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، فأنشأت تقول " من الطويل ": هنيئاً لك المالُ الذي قد حويته ... ولم يبقَ في كفيَ إلا تفكُّري أقولُ لنفسي وهي في عين كربةٍ ... أقلي فقد بان الحبيبُ وأكثري إذا لم تكن للأمر عندك حيلةٌ ... ولم تجدي شيئاً سوى الصبر فاصبري فقال الفتى " من الطويل ": ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... تفرقنا شيئاً سوى الموتِ فاعذري أبوءُ بحزنٍ من فراقك موجعٍ ... أناجي به قلباً طويلَ التفكرِ عليك سلامٌ لازيارةً بيننا ... ولاوصلَ إلا ان يشاءَ ابنُ معْمَرِ فقال عبيد الله ورقَّ لهما: خذ بيدها وانصرفا راشدين! والمالُ الذي نقدته في ثمنها أنفقه عليها! واللهِ لا أخذتُ منها درهماً. قُتل عبيد الله بن معمر لأربعين سنو برستاق من رساتيق إصطخر في زمن عثمان بن عفان، ومات ابنه عمر لستين سنة بالشأم بموضع يقال له ضمير، فرثاه الفرزدق وقال من أبيات " من البسيط ": يا أيها الناسُ لاتبكوا على أحدٍ ... بعد الذي بضميرٍ وافقَ القَدَرا كانت يداه لكم سيفاً يعاذُ به ... من العدوِ وغيثاً ينبتُ الشجرا فابكي هبلتِ أبا حفصٍ وصاحبه ... أبا معاذٍ إذا المولى به انتصرا 41 - ومن أخبار محمد بن حفصٍ روى عنه ولده عبيد الله بن محمد بن عائشة، وكان جواداً فصيحاً شاعراً. قال يحيى بن معين: العائشي رجل صدقٍ، ليس ممن يكذب إلا أنه سمع صغيراً. ورد أعرابيٌ على محمد يسأله شيئاً، فقيل له: ويحك إن عليه ديناً! إذ طلع محمد، فقال له الأعرابيُّ: يا أبا عبد الرحمان، قد والله أخبروني بعذرك ولكن مثلك ومثلي كما قال من هو قبلي، وقد أنبئت أن عليك ديناً، فزد في رقم دينك واقض ديني! فأمر له ببدرة. رئي ابن عائشة في يومٍ شديد الحر نصف النهار بالبصرة وهو على حمار وبين يديه غلامان، فقيل له: في مثل هذا الوقت؟ فقال: نعم! " من الطويل ": حقوقٌ لأقوامٍ أريدُ قضاءها ... كأني إذا لم أقضهن مريض عُزي محمد بن عائشة في ابن له، فأنشد " من الطويل ": يُعزي المُعزي ساعةً ثمّ تنقضي ... ونفسُ المُعزَّى في أحرَّ من الجمرِ لأن المُزّي إلفهُ في مكانه ... وإلفُ المُعزَّى في ضريح من القبر وقال عبد الله بن شبيب: رايت ابن عائشة وقف على قبر ابنٍ له قد دفن، فزفر زفرةً ثم قال " من الطويل ": إذا ما دعوتُ الصبر بعدك والبُكا ... أجاب البُكا طوعاً ولم يجبِ الصبرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فإن ينقطع منك الرجاءُ فإنه ... سيبقى عليك الحُزن ما بقي الدهرُ قال أبو العيناء: قلتُ لابن عائشة: حدثني هذا الحديث! قال: إي والله وكرامة. ثمّ أنشد " من الطويل ": وأهونُ ما يعطي الخليلُ خليلهُ ... من الهيّن الموجودِ أن يتكلَّما وقال: مارأيتُ قطُّ أحسن استنشاداً عند الحاجات من ابن عائشة! قلتُ له يوماً: كان ابو عمرو المخزومي يقصدك كثيراً، ثمّ قد جفاك. فأنشد " من الطويل ": فإنْ تَنأَ عَنَّا لاتَضُرْنا وإنْ تَعُدْ ... تجدنا على العهد الذي كنت تعلمُ وكان يقول: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك. - قيل له: فلانٌ عليل، أفلا تعوده؟ فقال متمثلاً " من الطويل ": ولستُ بزوارٍ لمن لايزوروني ... ولستُ أرى للمرء مالايرى ليا وكان ينشد " من الكامل ": الحظُّ أنهضُ بالفتى من علمه ... فانهض بجدٍ في الحوادثِ أو ذر وكان يقول: لاتعرف كلمةٌ بعد القرآن وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أخصر لفظاً ولاأكمل وصفاً ولاأعمَّ نفعاً من قول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: قيمةُ كلِ امرئ مايحسن. وكان ينشد " من الخفيف ": قيمةُ المرء مثلُ ما يحسنُ المر ... ءُ قضاءٌ من الوصيّ عليّ قال الصوليّ: زنظمه آخر فقال " من السريع ": قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ ... وَهْوَ الإمامُ العالمُ المتقنُ كلُّ امرئٍ قيمتهُ عندنا ... وعند أهل العقل مايحسنُ قال ابن عائشة: ما رأيت أظرف من أبي نواس، مررت به يوماً في سكة قريش، فإذا هو في عقد باب دار قومٍ وهو يكلم امرأةً، وكان لي صديقاً، فاستخففت به، فلما رجعت قال لي " من الكامل ": يا أيها الرجلُ النبيلُ ... يا من له الرأيُ الأصيلُ أرأيتَ ما أستقبحت من ... أمري هناك هو الجميل أنّ التي أبصرتها ... سحراً تكلمني رسول لبست هي القصد الذي ... يوتى إليه ولا السبيلً أدَّت إلي رسالةً ... كادت لها نفسي تسيلُ من فاتر العينين ينعت خصره ردفٌ ثقيلُ منتصبٌ قوس الصبا ... يرمي وليس له سبيلُ فلو أنّ أذنك عندنا ... فتسمعت ماذا أقول لرأيت ما أستقبحته ... من أمرنا وهو الجميل وعلمت أني في نعيمٍ ... لايحولُ ولايزولُ وقال ابن عائشة: ليعذّبنَّ الله أبا نواسٍ على إساءته في تحسين شرب الخمر للناس وإن كان قد أحسن الوصف وأبدع، أليس الذي يقول " من الوافر ": مضى أيلولُ وانقطع الحرورُ ... وأطفتْ نارها الشِعرى العبورُ فقوما فالقحا خمرا بماءٍ ... فإن نتاج بينهما السُرورُ نتاجٌ لاتدورُ عليه أمٌّ ... وحملٌ لا تُعدُّ له الشهورُ قال ابن عائشة: قصدتُ بغداد أريد السماع على عبد الله بن المبارك، فلما صرتُ بواسط قلت: لو دخلت إلى هذا الشيخ إسحاق بن يوسف الأزرق! فدخلتُ إليه وسلَّمت عليه وهو مريض، فلما رآني أجهش إلي يبكي، فقلت: مايبكيك؟ فقال: ألم ترَ إلى هذا الفاسق!؟ قلتُ: أيُّ الفاسقُ؟ قال: الحسن بن هانئ. قلتُ: ومالك وله؟ قال: كذب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أني حدّثنه بحديث عن عبد الله بن مسعود. واللهِ ما حدثته به ولا تكلمتُ به! قال: قلت: ماهو؟ قال: ياجارية، هاتي القرطاس الذي دفعته إليك بالأمس. فجاءت به، فإذا فيه " من الرمل ": يا حَسَن المُقلتين والجيد ... وقاتلي منه بالمواعيد توعدني الوعد ثمّ تخلفني ... فيا بلائي من خلف موعودِ حدثني الأزرق المحدثُ عن ... عمرو بن شمر عن ابن مسعود لايخلف الوعد غير كافرةٍ ... وكافر في الجحيم مصفود وجاء أعرابيٌّ إلى ابن عائشة من ولد زهير بن جناب الكلبي، فأنشده مدحاً له فيه فأعجب ابن عائشة، فقال له: أنت والله كما قال الشاعر " من الكامل ": لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً علي الأحساب نتكلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعلُ مثل ما فعلوا ولستُ كما قال جدك زهير بن جناب. فقال: وما الذي قاله جدي؟ فداك ابنه! فأنشده ابن عائشة " من الطويل ": ألا رُبَّ ذي فقرٍ وإن كان مثرياً ... يروح عليه شأوه وأباعرهْ وكم مخربٍ مجداً تولى بناءه ... سواه فأودى عزه ومفاخره تحيف منه اللؤم أكناف مجده ... فقد خرب البيت الذي هو عامره وزال عموداه ورثت حباله ... وأصلح أولاه وأفسد آخره فقال الأعرابي: لله درك من منشد مجيد وعالم مفيد، والله ما نعرف هذا الشعر. قال: بلى أنشدنيه أبي عاصم. قال الأصمعي: أتاني أبو الشمقمق، فأنشدني " من المتقارب ": رأيتك في النوم أطمعتني ... قواصر من تمرك البارحه فقلت لصبياننا: أبشروا ... برؤيا رأيت لكم صالحه قواصر تأتيكم باكراً ... وإلا فتأتيكم رائحه فأمُّ العيال وصبيانها ... إلى الباب أعينهم طامحه فقل لي " نعم " إنها حلوةٌ ... ودع عنك " لا " إنها مالحه وصدق بنجحك تعبيرها ... فلا يك تعبيرها نازحه فأنت امرؤ تبتني المكرمات ... سبوقٌ إلى الصفقة الرابحه يداك يدٌ لسهام العدى ... وأخرى لأفواقها مانحه قال: فامرت له بتمر. وقال ابن عائشة: يعجبني من شعر أبي الشمقمق قوله في أهل بغداد " من الخفيف ": ليس فيها مرؤةٌ لشريفٍ ... غير هذا القناع بالطيلسان وبقينا في عصبة من قريشٍ ... يشتهون المديح بالمحان قال: صحب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجيرن أنيس بن مرثد وأبوه مرثد وجده أبو مرثد، ولا يعرف رجلٌ له ولأبيه وجده صحبة غيره. قال: وبلغني أن أبا عروة كان يصيح بالذئب، فيوجد ميتاً قد انفلق قلبه، فقيل له: فكيف لم تمت الشاء؟! قال: لأنها قد ألفته وعلمت أنها ليست مذنبة. وأنشد ابنُ عائشة " من المنسرح ": وقال: لاأعرف في وصف الصديق المكاشر أحسن من قول عبد الله بن معاوية بن جعفر " من البسيط ": لاخير في الود ممن لاتزالُ له ... مستشعراً أبداً من خيفةٍ وجلا إذا تغيبت لم تبرح تُسيْ به ... ظناً وتسأل عما قال أو فعلا يري الصديق بإدخال مكاشرةً ... كيما يصول بها يوماً إذا عقلا فلا عداوته تبدو فيعرفها ... منه ولاوده يوماً إذا اعتدلا دخل خالد بن صفوان مسجد الجامع، فإذا هو بالفرزدق جالساً في الشمس، فقال: ياأبا فراس، والله لو رأينك نسوة يوسف لما أكبرنك وما (قَطَّعنَ ايْديهنَّ) . فقال: أنت والله، يا أبا صفوان، لو رأينك نسوة مدين لما قلن: (استأجره غنَّ خَيْرَ من أستأجرت القَويُّ الأمينُ) . وقال العائشي: أول الفراعنة سنان بن علوان بن عبيد بن عوج بن عمليق يكنى أبا ملك، وهو الأمثل الذي يبست يداه لما مدهما إلى سارة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام، فوهب لها هاجر بنت ثويب أم أسماعيل؛ وفرعون الثاني فرعون يوسف عليه السلام، وهو خير الفراعنة، الريَّان بن الوليد ابن ثروان بن اراشة بن قاران بن عمرو بن عمليق، يقال إنه أسلم على يد يوسف عليه السلام؛ والثالث فرعون موسى عليه السلام، وهو أخبث الفراعنة، وهو الوليد بن مصعب بن معاوية بن عمرو بن قاران بن عمرو بن عمليق؛ والرابع وهو توفيل الذي قتله بخت نصر حين غزا مصر؛ والخامس أليس بن استاذن وكان طوله ألفي ذراع وكان قصيراه جسراً لنيل مصر دهرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقال: بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف، لكل سيفٍ منها حكم، فسيف في العرب، قال الله تعالى: (أُقْتُلُوهمْ حَيْثُ وَجَدتُّموهمْ) ؛ وسيف في أهل الكتاب، قال الله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمِنُونَ باللهِ ولاَ باليَوْمِ الآخرِ) ؛ وسيف في أهل الأوثان من غير العرب، قال الله تعالى: (فإذا لقيتُمُ الَّينَ كَفَروا فضربَ الرِقابِ حَتَّى إذا أثخنتمُوُهمْ فَشُدوا الَوثاقَ) ؛ وسيف في أهل القبلة، قال الله تعالى: (وإن طائِفَتانِ مِنَ الُمؤمِنين اقْتَتَلوا فأصْلِحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تَبغي حَتَّى تَفيءَ إلى أمرِ اللهِ) . فولي رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف العرب وخلفه أبو بكر رضي الله عنه فيه في أهل الردة، ثمَّ ولي عمر رضي الله عنه سيف أهل الكتاب وسيف أهل أوثان، وولي عليُّ رضي الله عنه سيف أهل القبلة. وسئل ابن عائشة عن قول عمر: لو أدركت سالماً مولى أبي حذيفة لوليته. قال: لم يعن أن يوليه الخلافة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأئمة من قريش! ولكن أراد الصلاة بالناس في الأيام التي كانت الشورى مكان صهيب لأن صهيباً كان ألكن، وكان سالم فصيحاً، فصلى بهم صهيب ثلاثة أيام، وهو الذي صلى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الفرزدق " من البسيط ": صلّى صُهيبُ ثلاثاً ثمَّ أرسلها ... إلى ابن عفان مُلكاً غير مقصور وأنشد ابن عائشة للزبير بن بكار " من الطويل ": فلو كان يستغني عن الشكر ماجدٌ ... لعزة قدر أو عُلُوِ مكان لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلانِ قال طاهر بن عليّ بن سليمان بن عليّ لعبيد الله بن عائشة: رأيتُ ابنك على أبواب أصحابنا لايعرفون قدره! - أراد بذلك الغضَّ منه. فقال ابن عائشة: إن عبد الرحمان ابني تأدب وكتب الأخبار وروى الأشعار، فكان فيما روى قولُ ابن عمه عبيد الله بن قيس الرقيات " من الخفيف ": إنَّ شيباً من عامر بن لؤيٍ ... وفتوا منهم رقاق النعال كلما أوجفت إليهم ركابي ... رجعت منهم بأهل ومال فالتمس ذلك عند أهلك فلم يجده، لأنه عبد الرحمان بن عبيد الله بن محمد بن عائشة. 42 - ومن أخبار عبد الرحمان بن عبيد الله ابن محمد بن عائشة، كان شاعراً مجيداًن وكان متصلاً بابن أبي دواد وكان يتسخط عليه ولا يرضى أفعاله، فمن هجائه له " من الكامل ": أنت أمرؤ غثُ الصنيعة رثها ... لاتحسنُ النعمى إلى أمثالي فأسلم لغير صنيعة أسديتها ... إلا لنجبر فاقة الأنذالِ وكتب إليه أبوه يسأله عن حاله مع ابن أبي دواد، فكتب إليه " من الرمل ": أنا في الخان أؤدي ... كلَّ يومٍ درهمين نازلٌ فيه على نفسي على سخنةِ عين 3ف - أراني عن قليلٍ لابساً خُفَّي حُنينِ ثمّ مات عبد الرحمان سنة سبع ومائتين، فخرج أبوه إلى سرَّ من رأى لأخذ ميراثه، فنزل بقرب دار أبي دواد، فكان الناس يقصدون ابن أبي دواد ويجدون ابن عائشة قريباً فيدخلون إليه، فكثر امتناعهم بذلك عليه، فقال عبيد الله " من الطويل ": سأكشفُ من تسليم أهل مودتي ... لهم مكشفاً لايستفيدُ لهم حمدا يفرق ما بين المحبين أنني ... ممرٌ لإخواني وآتيهم قصدا وأقام مديدة فلم يرض أيضاً بفعل ابن أبي دواد، فانصرف إلى البصرة. قال عبد الصمد بن المعذَّل: كنَّا ببغداد في مجلس ابن عائشة، قال: وحضر المجلس صباح بن خاقان ومصعب بن عبد الله الزبيري، فتحدث الشيخ فأحسن، ثمّ أنشد شعراً فيه لفظةُ يجيزها بعض وبعضٌ لايجيزها، فوثبا عليه يريدان نقصه، فقالا: هذا لحنٌ! فاحتج عليهما الشيخ وأعانه ابنه عبد الرحمان، ثمّ انصرف. فلمَّا صار عبد الرحمان إلى منزله ونحن معه فاح إبطاه، فأنشأ يقول " من الخفيف ": من يكن إبطهُ كآباطِ ذا الخلق ... فإبطاي في عداد الفقاح لي إبطان يرميان جلييس ... بشبيه السُلاح وقت السُلاح وكأني ما بين هذا وهذا ... جالسٌ بين مصعب وصباح وله في أحمد بن إسرائيل في أيام الواثق وهو يكتب لابن الزيَّات " من المتقارب ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 يسبحُ لا من تُقى أحمدُ ... يُريدُ التظرفَ بالسبحه ومجرى مخارج أنفاسهِ ... يفتقُ في اللفظ عن سلحه وله " من الرمل ": أنا مذ بنتَ أسيرُ للكمد ... زائد الصبوة منقوص الجلد ذو منى فيك كذوب وعدها ... تخدع النفس بيومٍ وبغد لاترعني بفراقٍ بعد ذا ... أنا راضٍ باجتماع وبصد أنت كلُ الناس عندي فإذا ... غبت عن عيني لم ألق أحد لي عشق فاضلٌ فيك كما ... لك فضلُ الحسن في وجه وقد وكتب إلى صديق له كتاباً في ظهر وكتب فيه يعتذر إليه " من السريع ": كتابنا ياصاح في الظهر ... يخبر أني ظاهرُ الفقرِ فاعذر بنفسي أنت من سيدٍ ... فالعذر أولى بالفتى الحُرِ وأعلم وإن كنت الذي علمه ... يفوق أهل البدو والحضر أن الغنى يصلح دين الفتى ... والفقر مشتق من الكفرِ مات عبيد الله بن محمد بن عائشة بالبصرة في شهر رمضان سنة ثمان وعشرين ومائتين، وصلى عليه جعفر بن القاسم أمير البصرة وهو ابن خمس أو ست وثلاثين سنة. 43 - ومن أخبار أبي عليّ الحسن بن عليّ الحِرْمازيّ قيل له الحرمازي لأنه كان ينزل في بني الحرماز، فنسب إليهم، وهو مولى لنبي هاشم ومن أصحاب أبي عبيدة، وقيل: مولى لآل سليمان بن عليّ، وقالوا: هو أعرابيّ راويةٌ قدم البصرة وأقام بها. وقال المبرد: الحرماز بن مالك بن عمرو بن تميم ومازن بن مالك بن عمرو بن تميم أخوه، وليس في الأرض حرمازي نلقاه فنسأله عن نسبه إلا قال: من بني عمرو بن تميم! ولايذكر الحرمازي لضعة فيهم. وبنوا نُميَّر لما هجاهم جرير صار النميري إذا سئل عن نسبه قال: من بني عامر بن صعصعة! وقد هجا محمد بن مناذر جماعة من ثقيف من أشراف أهل البصرة فقال " من الوافر ": وسوف يزيدهم ضعةً هجائي ... كما وضع الهجاء بني نميرِ قال ابن الأعرابي: الحرماز السيئُ الخُلق. وكان الحرمازي في ناحية عمرو بن مسعدة، وكان عمرو يجري عليه، فلما خرج عمرو إلى الشأم تخلف الحرمازيُّ عنه لنقرس كان به، فأضر ذلك بحاله، فقال " من الطويل ": أقام بأرض الشام فاختل جانبي ... ومطلبه بالشام غير قريب ولاسيما في مفلس حلف نقرسٍ ... أما نقرسٌ في مفلسٍ بعجيبِ كان المأمون أمر يحيى بن أكثم أن يفرض فرضاً، فصيّر يحيى أمر ذلك إلى زيد صاحبه وأمره أن لايفرض إلا لأمرد بارع الجمال، فقال الحرمازي " من السريع ": يازيد ياكاتب فرض الفراش ... أكل هذا طلباً للمعاش مالي أرى فرضك حملانهم ... تكتبُ في الدفتر قبل الكباشِ وعد الحرمازيَّ بعض الهاشميين فأخلف، فكتب إليه " من الوافر ": رأيتُ الناس قد صدقوا ومانوا ... ووعدك كُلُّه خُلفٌ ومينُ وفيتُ فما وفيت لنا بوعدٍ ... وموعود الكريم عليه دينُ ألا ياليتني استبقيتُ وجهي ... فإنّ بقاء وجه الحُرّ زينُ واعتل الحرمازي، فلم يُعده بعض أصدقائه، فكتب إليه " من الوافر ": متى تنفك واجبةُ الحقوقِ ... إذا كان اللقاءُ على الطريقِ إذا ما لم يكن الإسلامُ ... فما يرجو الصديقُ من الصديقِ مرضتُ فلم تعدني عُمْر شهرٍ ... وليس كذاك فعل أخٍ شفيقِ وقال: كنتُ بباب مدينة بغداد فرأيت أعرابياً، فقلت: ممن الرجل؟ فقال: من بني تميم فقلت: أتعرف القائل " من الطويل ": تميمٌ بطُرقِ اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكتْ طُرق المكارم ضلَّتِ ولو أنّ برغوثاً على ظهر قملةٍ ... يَكُرُّ على جنبي تميمٍ لزَلَّتِ تميمٌ كجحش السوء يرضع أمَّه ... ويتبعها دهراً إذا هي ولَّتِ فقال: لا، ولكني أعرف غير هذا. قلتُ: فهاته! فقال " من الوافر ": أعضَّ اللهُ من يهجو تميماً ... ومن يروي ليثلبها هجاءَ ببظر عجوزةِ وبإسكتيها ... وأدخل رأسه من حيث جاءَ قال: فغطيت رأسي مخافة أن يسمعه الناسُ، وانسلكت في غمار الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 44 - ومن أخبار أبي العالية الشاميّ اسمه الحسن بن مالك مولى العمين، نزل البصرة وأقام بها وقدم بغداد، فأدب العباس بن المامون وجالس المأمون، وكان أديباً شاعراً راويةً، سمع من الأصمعي. قال أبو العالية لما مات أحمد بن المعذل " منى السريع ": لو لم يكن جدهم عاثراً ... وحظهم طاح بها طائحُ ما مات منهم أحمد المرتضى ... وعاش عبد الصمد الفاضحُ وقال في تقارب الخطو " من الطويل ": أرى بصري في كل يومٍ وليلةٍ ... يكل وخطوي عن مدى الخطو يقصرُ ومن صاحب الأيام سبعين حجةً ... يغيرنه والدهر لا يتغيرُ لعمري لئن أمسيتُ أمشي مُقيَّداً ... لما كنتُ أمشي مُطلقَ القيَّد أكثرُ قال أيضاً " من الطويل ": ولو أنني أعطيتُ من دهريّ المُنى ... وما كُلُّ من يعطي المُنى بمُسدَّدِ لقلت ل] ام مضين: ألا ارجعي ... إلينا! وأيامٍ أتَيْنَ: ألا ابعِدي وقال " من الطويل ": وما آثرَ التقصيرَ إلا مُذمَّمٌ ... رأى نفسه حلَّت محلَّ المقصرِ وكُلُّ امري يولبك ما هو أهلهُ ... فأهل لمعروف وأهل لمنكرِ 45 - ومن أخبار أبي محلَّم السَعْديّ وهو محمد بن هشام بن عوف التميمي أعرابيُّ. قال مؤرجٌ: أبو مُحلم أحفظ الناس، أخذ مني كتاباً فحبسه ليلةً، ثمّ جاء به وقد حفظه وأنشد لأبي الأسود الدؤلي " من الطويل ": إذا قلتُ: أنصفني ولا تظلمني ... رمى كلَّ حقٍ أدَّعيه بباطلِ فباطلته حتى ارعوى لي كارها ... وقد يرعوي ذو الشغب بعد التجادلِ رأى الواثق بالله في منامه كأنه يسأل الله الجنة وأن يتغمده برحمته ولا يهلكه فيما هو فيه، وأنّ قائلاً قال له: لايُهلك اللهُ إلا من قلبه مَرْتٌ. فأصبح فسأل الجلساء عن ذلك، فلم يعرفوا حقيقته. فوجه إلى أبي محلم فأحضره الباب وسأله عن الرؤيا والمرت، فقال أبو محلم: المرتُ من الأرض القَفْرُ التي لانبت فيها، فالمعنى على هذا: لايهلك على الله إلا من قلبه خالٍ عن الإيمان خُلُو المرت من النبات. فوجه الواثق إليه: أريدُ شاهداً من الشعر. فأفكر أبو محلم طويلاً، فأنشده بعض من حضر بيتاً لبعض بني أسد " من الطويل ": ومرتٍ مروراةٍ يحار بها القطا ... ويُصبحُ ذو علْمٍ بها وهو جاهلُ فوجه بالبيت وضحك، ثمّ قال للذي أنشده: ربما بعدُ الشيء عن الإنسان وهو أقرب إليه مما في كمه، واللهِ لاتبرح حتى أنشدك! فأنشده للعرب مائة بيتٍ معروفٍ لشاعرٍ معروفٍ، في كل بيتٍ منها ذكرُ المرت. فبلغ ذلك الواثق، فأمر له بألف دينار. وأراده لمجالسته، فأبى أبو محلم، وقيل للواثق: إنه حِلْفٌ جافِ! فتركه. وقال في العبَّاس بن الأحنف " من المنسرح ": إني وإن كنتُ لاأراك ولا ... أطمعُ في ذلك آخر الأبدِ لقانع بالسلام يبلغني ... عنك فيشفي حرارة الكبد وأمزج الهمَّ بالسرور اذا ... أيقنتُ أنا جاران في بلدِ وكان يضع من العباس، فلما أنشد هذا قال: وأبيك لقد شكا وقنع، وإن كان له شيءُ مليحٌ فه1ا. - وقال بعض شعراء البصرة فيه " من البسيط ": وخادعتك تميمٌ فانخدعت لها ... أبا المحلم والمخدوع مخدوع لو أن موتى تميمٍ كلها نشروا ... وثبتوك لقال الناسُ: مصنوعُ إنّ الجديد إذا ما زيد في خلقٍ ... تبين الناسُ أنّ الثوب مرقوع قال أبو محلم: لما قدمت مكة لزمت مجلس ابن عيينة، فقال لي يوما: لاأراك تحظى بشء مما تسمع. قلتُ: وكيف؟ قال: لأني لاأراك تكتب. فقلت: أني أحفظ! فاستعاذ مني مجالس، فأعدتها على الوجه. فقال: حدثنا الزهري عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يولد في كل سبعين سنة من يحفز كل شيبء. قال: وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب السبعين. قيل لأبي محلم: مات الضعفاء، في هذا الغلاء، وسلم الأقوياء. فقال: أما سمعت " من البسيط ": رأيتُ جلتها في الجدب باقيةٍ ... تنفي الحواشي عنها حين تزدحمُ إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأ بها السلمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وروي أنّ الشعبي قال: ربما حدثت عبد الملك بن مروان وقد هيأ اللقمة فيمسكها في يده مقبلاً عليَّ، فأقول: أجزها فإن الحديث من ورائها! فيقول: الحديث أشهى إليَّ منها! - أجزها أي أزدردها! وقال ابن الصباح: أنشدت أبا محلم لعمر بن أبي ربيعة " من الطويل ": ومانلتُ منها محرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المضرَّجِ لابسُ فقال لي: ألا أنشدك في هذا النحو ما يسجد هذا له؟! فقلت: إن رأيت، وقيت السوء! فأنشدني لابن ميادة " من الطويل ": وما نلتُ منها محرماً غير أنني ... أُقبل بسَّاماً من الثغر أفلجا وألثمُ فاها تارةً بعد تارةٍ ... وأترك حاجات النفوس تحرجا وإني على سوط الهوى ذو تجلد ... أصابرهُ مالم أجدْ عنه مخرجا ولاعيشَ إلا أن تبيت ملهوجاً ... على نار من تهوى وتصبحُ منضجا وأنشد أبو محلم " من البسيط ": وما يواسيك فيما ناب من حدثٍ ... إلا أخو ثقةٍ فانظر بمن تثقُ فأنشسده أبو محلم للقطامي " من الكامل ": وإذا ينوبك والحوادثُ جمَّةٌ ... حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثقِ توفي أبو محلم سنة خمسٍ - وقيل: ثمانٍ - وأربعين ومائتين. 46 - ومن أخبار أبي قلابة الجَرْميّ اسمه حبيشُ بن عبد الرحمان، وقيل: ابن منقذ، أحد الرواة الفهمة، وكان شاعراً وبينه وبين الأصمعي عداوة. قال الجرمي: تخلفت عن حلقة العتبي أياماً، فكتب إلي: تركتنا ترك رجلٍ أوجده أو أغناه علمٌ، فإن كان من جرم فعن غير إرادةٍ بقلبٍ أو تعتمد بلسان، وإن كان من علم غنيت به فتصدق علينا (إنَّ اللهَ يجزْي المُتصدقينَ) . وقال أبو قلابة " من الكامل ": إلفانِ راحا مدنفينِ كلاهما ... خنسا السلام وسلَّمتْ عيناهما حذرَ الرقيبِ عليهما فتصافحا ... باللحظ إذ أعياهما لفظاهما ووعى ضميرهما العتاب لغير ما ... كانت أبانت لفظةً شفتاهما رزُقا دقائقَ في اللحاظ مبينةً ... لهما ومشكلةً بفهم سواهما فطنُ أرقُّ من الهواء كأنها ... إذ ترجمت لهواهما حسناهما رقا ورقَّ على الهوى معناهما ... فتلاقت الأوهامُ دون هواهما 47 - ومن أخبار أبي عمر الجَرْميّ واسمه صالح بن لإسحاق البجلي، مولى بجيلة بن أنمار بن أراش بن الغوث، وإنما قيل له الجَرْميّ لأنه كان يلقب الكلب وأبا عمر النباح. قال أبو عمر: مابقي شيءٌ عند الأصمعي من العربية والغريب إلا وقد أحكمته. فسمعه الأصمعي فقال: كيف تنشد " من الكامل ": قد كُنّ يخبأنَ الوجوهَ تستّثراً ... فالآنَ حين بدأن للنظَّارِ أو بدين؟ فقال: بدأن. فقال: خطاٌ! فقال: بل، بدين! فقال: خطاُ، إنما هو بدون لأنه من بدا يبدو إذا ظهر. قال المبرد: كان التوزي والحرمازي والجرمي يأخذون عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وهؤلاء الثلاثة أكبر أصحابهم، وكان من دون هؤلاء في السن الزيادي والمازني والرياشي وأبو حاتم، وكان التوزي أطلع القوم في اللغة وأعلمهم بالنحو بعد الجرمي والمازني، وكان المازني أجدَّ من أبي عمر في النحو، وأبو عمر أغوص منه. 48 - ومن أخبار أبي الحسن عليّ بن المغيرة الأثْرم قال: قرأت على مروان بن سليمان بن يحيى بن يزيد أبي حفصة قطعة من شعره. - ومن شعر الأثرم " من الطويل ": كبرت وجاء الشيب والضعف والبلى ... وكلُّ امرئ يبلى إذا عاش ما عشتُ أقولُ وقد جاوزت تسعين حجةً ... كأن لم أكن فيها وليداً وقد كنتُ وأنكرت لما أن مضى جُلُّ قوَّتي ... ويزدادُ ضعفاً قوَّتي كلما زدتُ كأني إذا أسرعتُ في المشي واقفُ ... لقربِ خطى ما مسها قصرٌ وقتُ وصرتُ أخاف الشيء كان يخافني ... أعدُ من الموتى لضعفي وما متُ وأسهرُ في طيب الفراش ولينه ... وإن كنت بين القوم في مجلس نمتُ 49 - ومن أخبار أبي محمد عبد الله بن محمد التوزّيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 هو مولى لقريش، وكنَّا ندعوه أبا محمد القُرشي بالبصرة، وإنما قيل له التوّزيُّ لنزوله في أصحاب التوزيّ بالبصرة. وكان أعلم من المازنيّ والرياشيّ بالشعر خاصّةً، ومنه تعلّم أبو ذكوان الشعر وكان التوّزيّ زوج أُمه. - قال: الكاتب عند العرب العالم، ومنه (أَمْ عِنْدَهُمُ الغّيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُون) . قال المبرد: كنَّا عند التوزي، فأذكره رجلٌ بحاجةٍ له فقال: شُدّ في يدك خيطاً! فأنشد التوزيّ " من الطويل ": إذا لم تكن حاجاتنا في صدورنا ... لإخواننا لم تُغْنِ عنها الرقائمُ وقال التوزيّ: من أجود الأبيات في قساوة لقلب قال الشاعر " من البسيط ": يُبكى علينا ولانبكي على أحدٍ ... إنَّا لأغلَظُ أكبادناً من الإبلِ ومن أجود الأبيات في الاحتفاظ بالمال بيتُ منجوف بن مرة السُلميّ " من الطويل ": وأدفعُ عن مالي الحُقوقَ وإنه ... لَجَمٌّ وإنّ الدهرَ جَمٌّ عجائبه قال المبرد: كنَّا عند التوزيّ، فجاءه عُمارة بن عقيل، فأجلسه إلى جانبه، ثمّ قال لي: اقرأ عليه من شعر أبيه! فقرأتُ قصائدُ منها " من الكامل ": أمَّا الفُؤادُ فلن يَزالَ موكَّلاً ... بهوى جُمانةَ أو بحّبّ العاقرِ قال التوزيّ: ماجمانةُ والعاقرُ؟ قال: مايقول صاحبكم؟ - يعني أبا عبيدة. فقال التوزيّ: قال: هما امرأتان. فضحك وقال: هما والله رمْلَتان عند بيوتنا. وقال التوزيّ: كلّ شيءٍ من أسماءِ التمر فيه الباء فهو نَبطيٌّ نحو بربنا وبارسما، وما فيه ألف ونون فهو فارسيٌّ حركان وجيسوان وبندادجان. - وقال: يقال كتابٌ نزلُ الخط إذا كانت الكتابة كثيرة فيه، ورجلٌ ذو نزل أي ذو خيرٍ كثير، وطعامٌ له نزلٌ أي ريعٌ كثيرٌ، والعامة تقول له نزل، وذلك خطأٌ. قال لبيد " من الطويل ": ولن تعدموا في الحرب ليثاً مُجرَّباً ... وذا نزلٍ عند العطيَّة باذلاً أي ذا عطاء كثير. - قال: ولايقول الفصحاء إلا شهق يشهق. 50 - ومن أخبار أبي عَدْنانَ السُلَميّ هو عبد الرحمان بن عبد الأعلى البصري، مولى بني سُليم. قال: كان جدُّ أبي من السغد، أصابه سباءٌ، سباه عبد الله بن خازم السُلَميّ فمن عليه. - سمع من أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة والأصمعي وأبي مالك ونظرائهم، وكان أحد الرماة المجيدين وكان شاعراً راوية للحديث، وله كتب في الأدب حسان، منها " كتاب قِسيّ العرب "، لم يسبقه أحدٌ إلى تصنيف مثله، وكتاب في " غريب الحديث ". وقال ابو عدنان عن أبي زيد إن امرأة أبي رجاء الكلبي أجابته حيث يقول لها " من الطويل ": تَدُسُّ إلى العطار ميرةَ أهلها ... ولن يصلْحَ العطاَّرُ ما أفسد الدْهرُ ألم تَرَ أن البانَ يُجْلَبُ عُلْبَةً ... ويُتركُ عود لا ضرابٌ ولاظهرُ فقالت " من المتقارب ": عَدِمتُ الشيوخ وأشباههم ... وذلك من بعض أفعاليهْ ترى زوجةَ الشيخِ مُغْبَرةً ... وتمسي بصحبته باليهْ قال: فوثبتُ عليهل، فنادت: يال كلب! وناديتُ: يالَ كلب! فدخل علينا النساء دون الرجال، فضربتني وخنقتني وشققن مدرعتي. وقال محمد بن الجراح: أبو عدنان الأعور السُلَميُّ البصريّ، اسمه ورد بن حكيم، راوية أبي البيداء، وهو شاعر ومن شعره " من الكامل ": أهملتَ نفسك في هواك ولمتني ... لو كنت تنصف لُمْتَ نفسك دُوني ما بال عينك لاترى أقذاءها ... وترى الخفيَّ من الأذى بجفوني وقال أحمد بن سليمان: سألت أبا عدنان عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي أيّوب: " إن طلاق أُم أيّوب لَحُوبٌ " أهو الإثمُ؟ فقال: لو كان كذا لضاق على كلّ مُطلّقٍ الطلاقُ، ولكن الحُوبُ الوَحْش. وأنشد " من الرجز ": إنّ طريقَ مِثْقَبٍ لَحُوبُ أي لوحش، قال: ومثقب طريق الكوفة إلى مكة، وطريق البصرة إلى مكة يدعى فَلْج، وأنشد " من الرجز ": إنّ بني العَنْبَرِ أحموا فَلْجا ... ماء رواءً وطريقاً نهجا ويدعى طريق اليمامة إلى مكة المُنْكدر، وأنشد " من الرجز ": لاتأخذُ العِلْمُ طريق المُنْكَدِر ... ولا تكارى من فقيمي عَسِرْ تسيرُ يومين ويوماً تنتظرْ ... ولا يزال قد أتاك يعتذرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بالإفكِ والزورِ وإياك يَغُرّْ 51 - ومن أخبار الزياديّ أبي إسحاق هو إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمان بن زياد بن أبيه، قرأ على الأصمعي وروى عنه وعن غيره. من شعره " من الرمل ": دَفَعَ الرحمانُ لي عنك فذاك الدَفْعُ عَنّي وأراني فيك من يعذلُني قارعَ سِنيّ إن تكن برزت في الحُسنِ فقد برَّز حُزْني 52 - ومن أخبار أبي عمرو قَعْنَبِ بن المُحْرِز الباهليّ البصريّ وكان أبو هفَّان يكتب عنه ويسمع منه، وكان أبو عليّ البصير ينقم ذلك على أبي هفان، ويرى أنّ موضعه من العلم والأدب يرتفع عنه، وقال فيه " من الطويل ": رأيتُ أبا هِفَّان يسأل قعنباً ... فقلتُ له قولاً أمضَّ من الشتمِ تعلَّمت حتى من كلابٍ عُواءها ... لعمري لقد أسرفت في طلب العلمِ فبلغ ذلك الشعر قعنباً، فقال: ياقوم ومع أبي هِفان من العلم والأدب ما يرتفع به عن السماع مني! فاتصل ذلك بأبي هفَّان. فقال " من المتقارب ": أباهل ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب ولو قيل للكلب: ياباهليُّ ... عوى الكلبُ من لُؤُم هذا النسب 53 - ومن أخبار أبي عثمان المازنيّ قال المبرد: اسمه بكر بن محمد بن عدي بن حبيب من بني مازن ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل. وكان إمامياً، يرى رأي ابن ميثم، وكان يقول بالإرجاء. - قال المبرد: لم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبي عثمان. قال المازني: خرقت سبع عشرة نسخة لكتاب سيبويه من كثرة دراستي له. وكان يسمى الصندوق. وكان الرياشي قرأ سيبويه على المازني: - قال الجَمَّاز يمدحه " من الرمل ": أعلم الناس بنحوٍ وبشعرٍ وغريبْ ... وبأيام جميع الناس بكر بنُ حبيبِ قال المازني: كان سبب طلب الواثق لي أنّ مخارقاً غنَّى في مجلسه " من الكامل ": أظُلَيْمُ إنّ مصابكم رجلاص ... أهدى السلام إليكمُ ظلمُ فتابعه بعضٌ وخالفه آخرون، فسأل الواثق عن من هو من رؤساء النحو، فذكرت له، فأمر بحملي وإزاحة علتي. فلَّما وصلت إليه وسلمت عليه قال لي: ممن الرجل؟ قلتُ: من بني مازن. قال: أمن مازن تميم أم من مازن قيس أم من مازن ربيعة أم من مازن اليمن؟ قلت: من مازن ربيعة. قال لي: باسمك؟ - يريد: مااسمك؟ وهي لغة في قومنا. فقلت على القياس: مكرٌ! - أي بكر. فقال: اجلس واطمئنَّ! فجلست فسألني عن البيت فانشدته " من الكامل ": أظليمُ إنّ مصابكم رجلا فقال لي: أين خبر إنّ؟ قلتُ: " ظُلْمُ " الحرف الذي في آخر البيت. ثمّ قلتُ: أما ترى، يا أمير المؤمنين، أنّ البيت كلَّه مُعلَّقٌ لامعنى له حتى يتَّم بهذا الحرف؟! إذا قال: أظلُيم إنّ مصابكم رجلاً ... أهدى السلام إليكمُ ... فكأنه ما قال شيئاً حتى يقول؟ ظُلْمُ؟. فقال: صدقت! ألك ولدٌ؟ قلت: بنية لاغير. قال: فما قالت حين ودعتها؟ قلتُ " من المتقارب ": تقول ابنتي حين جدّ الرحيلُ ... أرانا سواءً ومن قد يتمْ أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنَّا بخيرٍ إذا لم ترمْ أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نُجفى وتُقْطَع منَّا الرَحِمْ قال: فما قلت لها؟ قلتُ لها ما قال جرير " من الوافر ": ثقي بالله ليس له شريكٌ ... ومن عند الخليفة بالنجاح فقال: ثقْ بالنجاح إن شاء الله! إن ههنا قوماً يختلفون إلا أولادنا، فامتحنتهمْ! فمن كان منهم عالماً ينتفع به ألزمناهم إياه، ومن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم. ثمّ أمر فجمعوا إليَّ فامتحنتهم، فما وجدت طائلاً، وحذروا ناحيتي، فقلت: لابأس على أحد! فلمَّا رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ قلتُ: يفضل بعضهم بعضا في علوم يفضل الباقون في غيرها، وكلٌّ محتاجٌ إليه. قال لي الواثق: إني خاطبت منهم واحداً، فكان في نهاية الجهل في خطابه ونظره. فقلت: ياأمير المؤمنين، أكثر من تقدم منهم بهذه الصفة، ولقد أنشدت فيهم " من الكامل ": إنّ المعلم لايزالُ مضعفاً ... ولو ابتني فوق السماء بناء من علَّم الصبيان صّبَّوا عقله ... حتى بنى الخلفاء والأمراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فقال: لله درُّك يابكر! كيف لي بك؟ فقلت: ياأمير المؤمنين، الغنم والفوز في قربك والنظر إليك، ولكني ألفت الوحدة وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم ويضر بهم ذلك، ومطالبة العادة أشدُّ من مطالبة الطباع. فأمر لي بألف دينار وكسوة وطيب، وانصرفت. - قال الصوليّ: البيت الأول للحارث بن خالد المخزومي. قال عبد الصمد بن المعذَّل يهجوج " من المديد ": وفتىً من مازنٍ سادَ أهل البصره ... أمُّه معرفةٌ وأبوه نكره ومن شعر المازني في الفضل بن إسحاق أمير البصرة " من السريع ": أخطأتُ في مدحك أخطأتُ ... وكُلُّ ما قلت عُضَيهاتُ رمى لساني طمعٌ كاذبٌ ... إليك والسادات أمواتُ والدهرُ ذو صرفٍ وفي صرفه ... أوابدُ تأتي وآفاتُ أولَّها أنت على مصرنا ... مصيبةٌ فيها مصيباتُ وقال يرثى رجلاً " من الوافر ": جسورٌ لايُروَّع عند همٍ ... ولا يثني عزيمته اللقاءُ حليمٌ في شراستهِ إذا ما ... جنى الحلماء أطلقها المراءُ حميدٌ في عشيرته فقيدٌ ... يطيبُ عليه في الملاء الثناءُ فإن تكن المنية أقصدته ... وحُمَّ عليه بالتلف القضاءُ فقد أودى به كرمٌ وخيرٌ ... وعودٌ بالفضائل وابتداءُ سمع المازني من بطن رجلٍ قرقرة فقال: هذه ضرطة مضمرة. - وقال: جاري أبو حفص بن سلمة الغفاري يخفضني منذ أربعين سنة، كلَّ غداة يمرَّ عليَّ فيها يقول لي: يا أبي عثمان، كيف أصبحت؟ توفي المازنيُّ في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين في أيام المتوكل على الله. 54 - ومن أخبار دماذ غُلام ابي عبيدة هو أبو غسان رفيع بن سلمة دماذٌ، وسلمة هو ابن مسلم بن رفيع العبديُّ. قال ابن دريد: دماذ بالفارسية الفسيلة. قال دماذ: قلتُ لأبي العتاهية: أنشدني أحسن ماقلت في غزلك! فأنشدني " من الطويل ": يقولُ أناسٌ: لو نعت لنا الهوى ... ووالله ما أدري لهم كيف أنعتُ سقامٌ على حسمي كبيرٌ موسَّعٌ ... ونومٌ على عيني قليلٌ مقَّوتُ إذا اشتدَّ مابي كان أفضلَ حيلتي ... لها وضعُ كفي فوقَ خدي وأصمتُ وأنضجُ وجه الأرض طوراً بعبرتي ... وأقرعها طوراً بظفري وأنكتُ أما رحمتني يوم ولَّت وأسرعت ... وقد تركتني قائماً أتلَّفتُ أُقلبُ طرفي أن أراها فلا أرى ... وأَحلُبُ عيني ماءها وأصوتُ ولعمر بن أبي ربيعة في معناه " من المنسرح ": لم أنس يومَ الرحيل وقفتها ... ودمعها في جفونها غرقُ وقولها والركابُ سائرةٌ ... تتركنا هكذا وتنطلقُ وقال دماذ " من المتقارب ": تفكرت في النحو حتى مللت ... وأتعبتُ روحي به والبدنْ وأتعبتُ بكراً وأصحابه ... بطول المسائلِ في كلَّ فنّ وكنت عليماً بإضماره ... وكنتُ عليماً بما قد علنْ وكنتُ بظاهره عالماُ ... وكنتُ بباطنه ذا فطن سوى أنّ باباً عليه العفا ... ءُ للفاء يا ليته لم يكنْ وللواو بابٌ إلى جنبه ... من البغض أحسبه قد لُعِنْ إذا قلتُ: هاتوا لماذا يقال ... ل: لستُ بآتيك أو تأتين أبيتوا لما قيل هذا كذا ... على النصب قالوا: لإضمار أنّ وما إن علمتُ لها موضعاً ... يبينُ وأعرفُ إلا بظنّْ فقد كدت يا بكر من طول ما ... أفكرُ في بعض ذا أن أجنّْ قال محمد: وإنما جرى هذا لأن أهل البصرة يزعمون أنه لاينتصب فِعْلٌ إلا بإضمار أن. فإذا قال القائل " من الكامل ": لاتنه عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فتأويله: لايجتمع فيك هذان الأمران أن تنهى عن خلق وأن تأتي مثله، وإذا قال: لستُ بآتيك أو تأتيني، فتأويله: لست بآتيك إلا أن تأتيني. وأما الفاء فقول الله تعالى: (يالَيْتَني كُنْتُ مَعَهُمْ فأفُوزَ فوزاً عظيماً) فتأويله: ياليتني يجمع لي أن أكون معهم فأن أفوز فوزاً عظيماً. وقال دماذٌ في عبَّاد بن الممزق " من البسيط ": عَبَّادُ تمدحُ أيري ثمّ تهجوني ... وليس يفعلُ هذا غير مجنون أليس أيريلحاك اللهمن جسديفكيف بالمدح تحبوه وتهجوني فكفَّ عني فما أصبحتُ من أربي ... نيك الشيوخ ولا رأيي ولا ديني وهل يناك امرؤٌ والشيبُ شاملهُ ... قد لاح في عارضٍ منه وعثنونِ إني لأخسرُ خلقِ اللهِ كُلهم ... إن قُمتُ أنكحُ شيخاً وابن ستين وقال " من المنسرح ": آبائي وجهك المفدَّى ... والوجناتُ الوُردَّاتُ وعارضاك اللذان طابا ... حين بدا فيهما النباتُ 55 - ومن أخبار أبي عمران موسى بن سلمة النحويّ كان من أجل رواة الأصمعي وأملي كتب الأصمعي ببغداد. وكان صديقاً لأبي نواس، وكان أبو نواس يعاتبه ويقول له: ويحك لم تذهب إلى الأصمعي وأنت أعلم منه؟! 56 - ومن أخبار أبي حاتم السجستانيّ واسمه سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم. وكان يؤُمُّ الناس في المسجد الجامع بالبصرة، ويقرأ الكتب على المنبر، وكان حسن الصوت جهيره حافظاً للقرآم عالماً بالقراآت والتفسير، وكان أحسن الناس علماً بالعروض واستخراج المعمى، وكان يعدُّ من الشعراء المتوسطين، وكان راوية عن أبي زيد والأصمعي وعمرو بن كركرة النميري وأبي عبيدة. - وقدم بغداد وما قام له أحدٌ لتصرفه في العلوم، وكان دون المازني في النحو، وكان فيه دعابةٌ شديدة. قال إبراهيم بن أحمد الغفاري القاضي عن أبيه: لأهل البصرة أربعة كتبٍ يفتخرون بها على أهل الأرض العين للخليل والنحو لسيبويه والحيوان للجاحظ والقراآت لأبي حاتم. - وكان الأصمعي يجله من أجل القرآن، ويقوم له ويعانقه. قال أبو حاتم: ولي البصرة وأعمالها رجلٌ من بني هاشم سنةٍ ستٍ وسبعين ومائتين، وكان رجلاً له جلالةٌ وسنٌّ. قال: فدخلت عليه، فقال: من علماؤكم بالبصرة؟ قلت: المازني من أعلم الناس بالنحو، والرياشي من أرواهم لعلم الأصمعي، والزيادي من أعلمهم بأخبار أبي زيد، وهلال الرأي من أعلمهم بالرأي، وابن الكلبي من أكتبهم للشروط، والشاذ كوني من أرواهم للحديث، وأنا فأنسب إلى علم القرآن. قال: فأقبل على حاجبه وقال: إذا كان غداً فاجمعهم عندي! فلما كان الغد جمعهم في مجلسٍ واحدٍ. فقال: أيكم أبو عثمان المازني؟ قال: هاأنا ذا. قال: فما تقول في الظهار، أيجوز فيها عتقُ عبد أعور؟ قال: وما علمي بهذا علم هذا عند هلال الرأي. فأقبل على هلال فقال: ماتقول في قول الله تعالى: (يَا أيها الذينَ آمنُوا عَلَيكمْ أنفُسَكُمْ) لِمَ نسب؟ قال: وماعلمي بهذا علمه عند أبي عثمان المازني. ثمّ أقبل على الزيادي فقال: مالعنجد في كلام العرب؟ قال: وماعلمي بهذا علمه عند الرياشي. فأقبل على الرياشي فقال: كيف تكتب وثيقةً بين رجلٍ وامرأةٍ إذا أختلفت من زوجها بترك صداقها؟ قال: وماعلمي بهذا علمه عند ابن الكلبي. فأقبل على ابن الكلبي وقال: كم رجلاً روى عن ابن عون الحديث؟ قال: وماعلمي بهذا علمه عند ابن الشاذ كوني. فأقبل على ابن الشاذكوني وقال: (ألا إنَّهُمْ يَثنُون صُدُورهم) . فقال: وماعلمي بهذا علمه عند أبي حاتم. فأقبل عليَّ فقال: اكتب لي كتاباً إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل البصرة، ومانالهم من الآفات في نخلهم! قلت: أعزك الله، مالي بلاغةٌ ولاأحسن إنشاء الكتب إلى السلطان. قال: إنما مثلكم مثل الحمار، يبقى أحدكم في المعنى الواحد خمسين سنة ثمّ يقول: أنا عالم، لكن عالمنا بالكوفة، لو سئل عن هذا أجمع لأجاب فيه! - يعني نفسه. قال أبو حاتم: قضى لولايته بذلك وشرفه وموضعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قال أبو حاتم: كنت في المسجد الجامع بالبصرة وأنا إذ ذاك غلامٌ، فدخل أبو نواس فجلس إليَّ وجعل يعبث بي وينشدني، قلت: اللهمَّ خلصني منه! فدخل غلامٌ يقفيّ من أجمل الناس، فلما بصُر به هشَّ وتخلخل عن مكانه وأجلسه بيني وبينه وجعل يحادثه وينشده إلى أن أقيمت الصلاة، فالتفت إليَّ وقال " من السريع ": أُتيحَ لي ياسهلُ مستظرفٌ ... تسحرُ عيني عينهُ الساحره وهي أبياتٌ. ثمّ التفت إلى الغلام وقد قام، فنظر إلى كفله فإذا هو أرسح، فقال " من السريع ": ماشئتَ من دُنياولكنّهُمُنافقٌ ليستْ له آخرهْ قال أبو مالك عون بن محمد: كان هذا قبل التسعين ومائة، وأبو حاتم إذ ذاك غلامٌ يجمع العلم، وما مات حتى قارب التسعين. - وقال: كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس، وأنشد له " من الوافر ": ولو أني استزدتك فوق مابي ... من البلوى لأعوزك المزيدُ ولو عرضتْ على الموتى حياتي ... بعيشٍ مثل عيشي لم يريدوا قال: وكان أبو حاتم يميل إلى الأحداث ميلاً كثيراً ويفرط في ممازحتهم، وربما يضع يده يلمسهم، فعاتبه بعض البصريين وقال: إنك تفعل هذا وتقوم إلى الصلاة. فقال: متني قويٌّ وما أمذي! قال: وكان يحلف أنه لايتجاوز المدح. قال محمد بن زكرياء الغلابي: كنا عند أبي حاتم بين العشاء والعتمة، فخالط عينيه الغمص، فأفلتت منه ضرطة، فقال فيه ابن الضيون " من السريع ": إنَّا سمعنا ضرطةً افلتت ... من أستٍ سهلان أبي حاتمِ فأفزعتْ من كان مستبهاً ... وأيقظت من كان من نائمِ وظلَّ أهل الأرض في رجةٍ ... واعتلق المظلوم بالظالمِ فذكر لأبي حاتم، فقال: ويلك هذه لم تكن ضرطة، هذه كانت نفخة الصور! قال: مرّ رجلٌ براهبٍ فقال له: عظني! قال: أعظكم وفيكم الفرقان ومحمد منكم؟! قال: نعم. قال: فاتعظ ببيت شعرٍ قاله رجلٌ منكم " من الطويل ": تجرَّد من الدنيا فإنك إنما ... خرجت إلى الدنيا وأنت مُجرَّدُ مات أبو حاتم رحمه الله سنة خمسٍ وخمسين ومائتين. 57 - ومن أخبار أبي الفَضْل الرياشيّ واسمه العباس بن الفرج، ورياشٌ مولى عباسة زوجة محمد بن سليمان الهاشمي، وفرج أبوه مولاه. - قال أبو شراعة: رأيت فرجاً أبا عباس الرياشيَّ سندياً أخرم نجاراً، يجيء إلى المسجد فيصيح بابنه: ياأباَّس! فيقوم إليه، فيعطيه الخبر وغير ذلك. - وكان عبَّاس صدوق اللهجة جامعاً للعلوم، وقرأ كتاب سيبويه على المازني. قال ابن دريد: سألت الرياشيَّ عن الفرق بين الوامق والعاشق، فقال: أخبرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: نزل عُقفان بن قيس مكة فنزل على أروى بنت كُريز أم عثمان بن عفان، فأكرمت مثواه، فرحل عنها وأنشأ يقول " من الطويل ": خَلِفْ على أروى السلام فإنما ... جزاء الثويّ أن يعفَّ ويحمدا سأرحلُ عنها وامقاً غير عاشقٍ ... جزى الله خيراً ماأعفَّ وأمجدا قال ابن دريد: ولم يزد على هذا الجواب، فسألت أبا حاتم، فقال: المَّة محبة الوالد لولده وألخ لأخيه والصاحب لصاحبه، والعشق عشقُ الرجل للمرأة ومحبة النكاح. قال الرياشيّ: قال لي الأمير إسحاق بن إبراهيم: أقمْ عندي وأجري عليك في الشهر ألفين وأوليك القضاء. فأبيت وقلت حين أنصرفت من عنده " من الطويل ": يقولون لي: قائضْ بنيك بمنفسٍ ... يكن لك مرأى في الحياة ومسمعُ فكيف وقد نيطت بقلبيَّ منهمُ ... علائقُ مجموعٌ لها الحُبُّ أجمعُ قال عليّ بن المظفر الكاتب: رأيتُ الرياشيَّ عند أبي ومعه ابنٌ له، فقال له: كُلْ واذكر سُوءَ المُتقلب. - قال الرياشيَّ: يقال المرءُ المؤمنُ ولا يقال المرء الكافر، ويقرا: (يَومَ يَنْظُرُ المرءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الكافِرُ يَاليتني كُنْتُ تُراباً) . - ومن شعره " من المديد ": أملٌ من دونه أجلي ... فمتى أُفضي إلى أملي كلّ يوم ينقضي عُمري ... باعتقاب الحُزن والعللِ قُتل الرياشي بالبصرة، قتله الزنج في سنة سبع وخمسين ومائتين، وقتلوه قصداً لأن ملك الزنج كان يتصل به أنه يدعو عليه. 58 - ومن أخبار الجاحظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب مولى لأبي القَلَمَّس عمرو بن قلع الكناني ثمّ الفقمي وهو أحد النسأة. قال: وجدَّ الجاحظ أسود، يقال له فزارة، كان جمَّالاً لعمرو بن قلع. وهو خال أمّ يموت. - قال المازني: أخبرني من رأى الجاحظ: يبيع الخبز والسمك بسيحان. صار الجاحظ إلى منزل بعض إخوانه، فأستأذن عليه، فقال ربُّ الدار لغلامه: انظر من بالباب! قال: يقول: عمرو بن بحر الحدقي. قال ربُّ الدار: لستُ أعرفه، انظر من هو! فقال الغلام: يقول: أنا عمرو بن بحر الحلقي. فسمع الجاحظ فقال: أنا الجاحظ. فقال الغلام: يقول: عمرو بن بحر الجاحد. فصاح ثانياً: الأوّ الأوّ أحبُّ إليَّ! قال الجاحظ: لاأعرف من كلام الشعراء كلاماً هو أرفع ولا أحسن من قول أبي نواس " من السريع ": أيّةَ نارٍ قَدَح القادحُ ... وأي جدٍ بلغَ المازحُ للهٍ درُّ الشيبِ من واعظٍ ... وناصحٍ لو قُبِلَ الناصحُ يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهجُ الحقُ له واضحُ لايجتلي العذراءُ في خدرها ... إلا امرءٌ ميزانه راجحُ فاسمُ بعينيك إلى نسوةٍ ... مهمورهن العمل الصالح من اتقى فذاك الذي ... سيق إليه المتجرُ الرابح فاغدُ فما في الدين أغلوطةٌ ... ورُحْ لما أنت له رائحُ مات الجاحظ سنة خمسٍ وخمسين ومائتين وقد ناطح المائة. 59 - ومن أخبار عُمر بن شَبَّة هو أبو زيد عمر بن شبَّة بن عبيدة بن ريطة، وشبةُ اسمه زيدٌ وكنيته أبو معاذ وسُميَّ شبَّة لأن أمه كانت ترقصه وتقول: يا بأبي وشبا، وعاش حتى دبَّا، شيخاً كبيراً خبَّا. وقال عمر بن شبَّة في موسى بن يحيى بن خالد من قصيدة " من الوافر ": أتيتك زائراً لقضاءِ حقٍ ... فحال السترُ دونك والحجابُ وعندك عُصبةٌ فيهم أخٌ لي ... كأن إخاءه الآلُ السرابُ ولستُ بواقعٍ في قدرِ قومٍ ... إذا كرهوا كما وقع الذبابُ وقال أبو جعفر محمد بن القاسم بن مهرويه قال: خرجت أنا وأبو طاهر ابن عمر بن شبَّة في يوم عيدٍ ونحن ننظر في دفتر والناس يمرون بنا، فقال أبو طاهر " من المتقارب ": نظرتُ فلم أرَ في العسكر ... كشؤمي وشؤمِ أبي جعفرِ غدا الناسُ للعيدِ في زينةٍ ... من النور في منظر أزهر فنقعدُ للشؤم في عزلةٍ ... من الناس ننظرُ في دفترِ مات عمر بن شبة سنة ثلاث وستين ومائتين وقد بلغ تسعين. آخر أخبار البصريين وماانتخب منها، يليها ابتداء أمر الكوفة وأخبار أهلها إن شاء الله تعالى في ابتداء أمر الكوفة ونزول المسلمين فيها لما نزل سعد بن أبي وقاص المدائن حين أخرج كسرى عنها استوبأها، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر: إنّ المسلمين لايصلحون إلا ببلدٍ فيه الإبل. فدعا سعدٌ دهقان الحيرة فسأله، فدله على الكوفة، واتخذوا فيها الأبنية بالقصب، فشكوا إليه الحرَّ واستأذنوه في اللبن، فأذن على كرهٍ. - وقيل: إنّ سعداً بعث سلمان الفارسي مع العبادي ليرتادا موضعا، فأتى به أخصاصاً في موضع الكوفة، فأعجب به سلمان، فصلى فيه ركعتين وقال: اللهمَّ ربَّ السموات السبع وما أظللن، وربَّ الأرضين السبع وما أقللن، أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خيرَ المنزلين. ثم أنصرف إلى سعد فأعلمه، فرحل بالمسلمين فنزلوا على أربع غلوات من الفرات. - كان السائب بن الأقرع وأبو المهاجر الأسدي هما اختطا دار الإمارة بالكوفة والمسجد الجامع، ورميا بأربعة سهام في زواياه، وأمر المسلمين فأختطوا من وراء السهام. - ونزلوها سنة ثمان عشرة لست سنين خلت من خلافة عمر رضي الله عنه. - وسئل الشعبي عن مساحة مسجد الكوفة فقال: تسعة أجربةٍ وستة أقفزة فيما أظنُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قال سفيان: إنما سميت الكوفة بها لأن العرب تُسميَّ كُلَّ أرضٍ سهلة فيها حصباء كويفة. وقال محمد بن القاسم الأنباري: إنما سُميت كوفة لاستدارتها، أخذت من قول العرب: رأيت كوفاناً بضم الكاف وفتحها للرملْة المستديرة، ولاجتماع الناس بها من قولهم: تكوَّف الرجل إذا ركب بعضه بعضاً. وقيل إنها أخذت من الكوفان، يقال: هم في كوفانٍ أي بلاءٍ ةشرٍ " من الوافر ": وما أضحى وما أمسيتُ إلا ... وإني منكمُ في كوَّفانِ ويقال: كوَّفه قطعةً من البلاد، ويقال: أعطيته كيفةً أي قطعة، وكفتُ أكيف كيفاً إذا قطعتُ، وكُوفة فُعلةٌ منه. قال الشعبي: كأن ظهر الكوفة خدُّ العذراء، يُنبت الخُزامي والشيح والأقحوان وشقائق النُعمان كثير العُشب. - ومرّ النعمان بالشقائق، فأعجبته، فقال: من نزع منها فانزعوا كَتِفه! فسميت شقائق النعمان. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الكوفةُ جمجمةُ الإسلام وكنز الإيمان وسيف اللهً ورُمحهُ يضعه حيث يشاء، وأيمُ اللهِ ليُنصرنَّ اللهُ بأهلها في مشارق الأرض ومغاربها كما أنتصر بالحجاز. - وسئل البصريّ عن أهل الكوفة وأهل البصرة: إذا كان الأمر كان أهل الكوفة، بها بيوتات العرب كلّها وليست بالبصرة. وكتب عمر رضي الله عنه: ياأهل الكوفة، أنتم رأس العرب وجمجمتها، وأنتم سهمي الذي أرمي به إذا خشيتُ من ههنا وههنا، وقد بعثُ إليكم عبد الله بن مسعود معلماً - خيرةً على نفسي وقد أثرتكم به على نفسي وهو من أطولنا فُوقاً كُنيف مُلئ علماً - معلماً ووزيراً، وعمَّار بن ياسر أميراً، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما! وقال عليّ عليه السلام: مسجد الكوفة رابعُ أربعة مساجد، ركعتان فيه أحبُّ إليّ من عشرين فيما سواه، ولقد غرقت سفينة نوحٍ عليه السلام في وسطه، وفار التنُّور في زاويته اليُمنى والبركة فيه من أثنى عشر ميلاً، وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم عليه السلام، ووسطه على روض من رياض الجنة، وفيه صلى ألف نبي وألف وصي. قال قطرب ... : نازعني قتادة في الكوفة والبصرة، فقلت: دخل الكوفة سبعون بدرياً وإنما دخل البصرة بدريٌّ واحد. قال قتنادة: دخل الكوفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفٌ وخمسون أظنه. قال: منهم ثلاثون بدريَّا. - وقال ثابتُ البُنانيّ: يقال: فقهُ كوفيٍ وعبادةُ بصريٍ. - ويقال: لاتمار أهل المدينة في المغازي ولا أهل الكوفة في الرأي ولا أهل مكة في المناسك. قال مسروق: شاممتُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتُ علمهم انتهى إلى ستة نفر: عمر وعليّ وعبد الله وأُبيٍّ وأبي الدردراء - وفي رواية: أبي موسى - وزيد بن ثابت، شاممتُ هؤلاء فوجدت علمهم انتهى إلى ثلاثة: عليٍّ وعبد الله وأبي موسى، وكان لأهل الكوفة عليٌّ وعبد الله وأبو موسى. وقال الأحنف بن قيس: نزل أهل الكوفة في زمان كسرى بن هرمز بين الجنان المُلتفة والمياه العذبة والأنهار المطردة، تأتيهم ثمارهم غضَّة لم تخضد. ونزلنا أرضاً هشاشةص طرفٌ في الفلاة وطرفٌ في ملحٍ أجاجٍ في سبخة نشَّاشة، لايجفُ ثراها ولا ينبتُ مرعاها. اللهمَّ إن كان أجلي قد حضرني فاقبضني في هذه البلدة - يعني الكوفة - فإنّ تُربتها كالكافور! - فمات بها ودفن بها رحمه الله تعالى. أسامي من تضمنهم هذا الكتاب من رواة الكوفة وعلمائها وقرائها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 " 60 " قبيصة بن جابر الأسدي، " 61 " عامر بن شراحيل الشعبي، عبد الملك بن عمير اللخمي، عاصم بن أبي النجود، أبان بن تغلب، " 62 " سليمان بن مهران الأعمش، " 63 " محمد بن السائب الكلبي، " 64 " عوانة بن الحكم،؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ " معاذٌ الهرَّاء، " 76 " أبو عمرو الشيباني، " 77 " بزرج العروضي، " 78 " أبو جعفر الرُؤاسيُّ، " 79 " القاسم بن معن، " 80 " أبو بكر بن عياش، " 81 " عليّ بن حمزة الكسائي، " 82 " لقيط بن بكير المحاربي، خالد بن كلثوم، " 83 " هشام بن محمد الكلبي، " 84 " الهيثم بن عدي، " 85 " محمد بن كناسة الأسدي، " 86 " أبو الحسن الأحمر، " 87 " يحيى بن زياد الفراء، " 88 " هشام النحوي، " 89 " محمد بن زياد الأعرابي، الحكم بن موسى السلُولي، ستة وثلاثون نفراً. 60 - من أخبار قبيصة بن جابرٍ الأسدي هو أبو العلاء قبيصة بن جابر بن حبيب بن نجيم بن الحارث بن جابر بن مالك بن عوف بن سعد بن كعب بن عمرو بن أسامة بن نصر بن قعين. وقال الواقدي: هو قبيصة بن جابر بن وهب بن مالك بن عميرة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. روى عن عمر بن الخطاب وعن عبد الرحمان بن عوف، كان ثقة، له أحاديث. - وأمهُ ظاءرت أبا سفيان بن حرب فأرضعت معاوية. قال قتادة: فصحاء العرب أربعة اثنان من أهل الكوفة: عبد الله ابن همَّام السلُوليّ وقبيصة بن جابر الأسدي، واثنان من أهل البصرة: الحسن ابن أبي الحسن وعبد الله بن الأهتم. قال قبيصة: اًابت معاوية النقَّابة، فأسرعت إليه، فقلنا له: الناسُ قد أكثروا وأرجفوا، فلو جلست لهم مرّةً واحدةً؟ فقال: أوسعوا رأسي دهناً واحشوا عيني إثمداً، وليسلموا عليّ قياماً ولا يجلس إليَّ أحدٌ! قال: فأذن للناس، فسلموا قياماً، فلما ولَّوا أتبعهم بصره، ثمّ قال " من الكامل ": وتجلُّدي للشامتين أريهمِ ... أني لريبِ الدهرِ لاأتضعضعُ وإذا المنيَّة أنشبت أظفارها ... ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لاتنفعُ فما أصبح حتى مات. وقال قبيصة لمعاوية: يأامير المؤمنين، أسألك عن قريش؟ فقال: على الخبير سقطت! أمَّا أكرم قريش نفساً وأباً وأماً وجداً وجدةً وعماً وعمةً فالحسين بن علي، وأما سيد قريش غير مدافعٍ فسعيد بن العاص، وأما رجلُ قريش على حدةٍ فيه نزق القارئ لكتاب الله القائم بحدود الله والعالم بسنة رسول الله والفقيه في دين الله فمروان بن الحكم، وأما رجلُ قريش محبةً ونائلاً فعبد الله بن عامر بن كريز، وأما الذي يُردُّ الشريعة مع دواعي السباع ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير. وتوفي قبيصة بن جابر كاتب سعيد بن العاص بالكوفة سنة تسعٍ وستين، وتوفي قبيصة بن ذؤيب كاتب عبد الملك بن مروان سنة ستٍ وثمانين. 61 - ومن أخبار الشعبيّ هو أبو عامر بن شراحيل الشعبيّ من حمير، وعداده في همدان وأمه من سبي جلولاء. قال الشعبي: ولدتُ عام جلولاء. قال قتادة: كان عام جلولاء في تسع عشرة سنة في سبع سنين من خلافة عمر. قال عبد الله بن محمد بن مرة الشعباني: حدثنا أشياخ من الشعبان أنّ مطرا أصاب اليمن، فجحف السيلُ موضعاً فكشف عن أزجٍ عليه باب من حجارةٍ، فكسر الغلق ودخل فإذا بهوٌ عظيم فيه سريرٌ من ذهب وإذا عليع رجلُ، فشبرناه فإذا طوله اثنا عشر شبراً، وإذا عليه جباب من وشيٍ منسوجة من ذهب، وإلى جنبه محجنٌ من ذهب، على رأسه ياقونة حمراء، مرَّجلُ الرأس واللحية، عليه ضفران، وإلى جنبه لوحٌ مكتوب فيه: " باسمك اللُهمَّ ربَّ حمير، أنا حسّان بن عمرو القَيلُ، إذ لاقيل إلا أنا، عشتُ بأملٍ ومتُ بأجل أيَّام وخزهيد، هلك فيه اثنا عشر ألف قيلٍ، فكنتُ آخرهم قيلاً، فأتيتُ جبل ذي شعبين ليجيرني من الموت فأخفرني "، وإلى جنبه سيفٌ مكتوبٌ فيه بالحميرية: " أنا قُبْار بي يُدرك الثار ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قال عبد الله بن محمد بن مرة: هو حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن غوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن الحمير، وحسَّان هو ذو الشعبين. وهو جبلٌ باليمن نزله هو وولده ودفن به ونسب إليه هو وولده، ومن كان منهم بالكوفة قيل شعبيون، منهم عامر الشعبي، ومن كان منهم بالشأم قيل لهم شعبانيون، ومن كان منهم باليمن قيل لهم آلُ ذي شَعْبَين. فبنوا عليّ بن حسَّان بن عمرو رهط عامر ابن شراحيل بن عبد الشعبي، ودخلوا في أُحمور همدان، فعدادهم فيهم، والأحمور خارفٌ والصائديون وآل ذي بارق والسبيع وآل ذي حدان وآل ذي رضوان وآل ذي لعوة وآل ذي مرّان. وأعراب همدان غرر ويامٌ ونهمٌ وشاكر وأرْحبُ. وفي همدان من حمير قبائل كثيرةٌ، منهم آل ذي حوال، وكان على مقدمة تُبَّعٍ، منهم يعفر بن الصبَّاح المتغلب على مخاليف صنعاء اليوم. كان الشعبي مليحاً فصيحاً يصبغ بالحناء، وكان دميماً، سُئل فقال: زوحمتُ في الرحم! وذاك أنه ولد توءماً. كان الشعبي يتحدث فيقول: إن للحديث سكتات وإشارات وموافقات وتعريجات، فمواضع يتوقف فيها ومواضع يطوى فيها طيَّاً، وليس كلّ أحدٍ أعطي ذلك ويحسن ذلك. - وكان يقول له ابن شبرمة: يامُفوّت الحاجات! لما كان يشغل جلساءه بحسن حديثه عن حوائجهم. سأله رجلٌ يوم عيدٍ وعليه مطرف خزٍ: ناترى في لبس الخز؟ فقال: أحمقُ يرى عليّ مطرف خزٍ ويسألني عن لبسها. وكان أكثر ما يلبس الخز الأحمر والرداء الكتان المُوَّرد ولم يُرْخ عمامته. ورُئي جالساً على جلد أسد. قال مجالدٌ: رأيتُ عليه قباء سمُّور. وكان يتختم في يمينه ونقش خاتمه: " الحمد لله الحق المبين "، وقيل: " حسبيَ اللهُ ونعْمَ الوكيل ". قال: وهي أوّلُ كلمة قالها الخليلُ عليه السلان حين أُلقي في النار. وكان لايقوم من مجلسه حتى يقول: أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنّ الدين كما أمر، وأشهد أنّ الإسلام كما وصف، وأشهد أنّ الكتاب كما بلَّغ، وأشهد أنّ القول كما حدث، وأشهد (أنَّ اللهَ هُوَ الحقُّ المُبينُ) ! فإذا ذهب ينهض قال: ذكر الله محمداً منا بالسلام. ولما ولي عمر بن عبد العزيز استعمل على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمان ابن زيد بن الخطاب، فاستقضى عبد الحميد الشعبيَّ بأمر عمر، فقضى سنةً ثمّ استعفاه فأعفاه. وكان موسراً يشتري اللحم في كلّ جمعة بدرهم واحد، وكان يقول: لدرهم أعطيه في النوائب أحبُّ إليَّ من خمسة أتصدق بها. - مرّ على قوم وهم ينالون منه ولايرون، فلما سمع كلامهم قال " من الطويل ": هنيئاً مريئاً غير داء مخامرٍ ... لعزَّةَ من أعراضنا ما أستحلتِ وسمع رجلاً يشتمه فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك! ثمّ تمثلَّ " من الرمل ": ليست الأحلامُ في حال الرضى ... إنما الأحلامُ في حال الغضَبْ وهجاه رجلٌ قضى عليه لزوجته فقال " من الرمل ": فُتنَ الشعبيُّ لمَّا ... رفعَ الطَرْفَ إليها فتنته حين ولَّت ... ثمّ هزَّت منكبيها فتنته بقوامٍ ... وبخطَّي حاجبيها وبنان كالمداري ... وبحسن معصميها من فتاةٍ حين قامت ... رفعت مأمتيها كيف لو أبصر منها ... نحرها أو ساعديها لصبا حتى تراه ... ساجداً بين يديها قال للجلواز: قدمها وأحضر شاهديها فقضى جوراً على الخصم ولم يقض عليها بنتِ عيسى بن جرادٍ ... ظَلَمَ الخصم لديها ما على الشعبي لم يوُ ... فِ الذي كان عليها فلما سمع الشعبي الأبيات ضحك وقال: لا والله ماكان شيءٌ من هذا. قال الشعبي: ماأروي شيئاً أقلَّ من الشعر، ولو شئتُ أن أنشد شهراً ولا أعيد شيئاً لفعلت. - وقال أبو بكر الهُذَلي للشعبي: أتحبّ الشعر؟ قال: نعم! قال: أما إنه يحبه الرجالُ ويكرهه مؤنثوهم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قال أبو بكر الهذلي لابن سيرين: إذا أتيت الكوفة فالزم الشعبيَّ واستكثر من حديث! فلقد رأيته يستفتي وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأحياءٌ. - وسئل عن شيء فقال: لاعلم لي بهذا! فقال: ألا يستحي مثلك يقول هذا؟! فقال: إنّ الملائكة لم تستحي من قولهم: (لاعلم لنا) ، أستحيي أنا!؟ قال ابن شبرمة: كنتُ أمضي مع الشعبي في بعض الطريق، فقال لي: احملني وأحملك! قلت: كيف ذاك!؟ قال: حدثني وأحدثك! - قال الشعبيّ: تغديتُ عند قتيبة بن مسلم بخراسان، فقال: أيُّ الشراب أحبُّ إليك حتى تؤتى به؟ أعزُّ مفقودِ وأهونُ موجود! قال: ياغلام، اسقيه ماءً! وقال: ما من بني عبد المطلب رجلٌ ولا امرأة إلا قال الشعر غير النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: وأغزلُ بيتٍ وأرقه قولهم " من الطويل ": فدقتْ وجلَّتْ واسَكَّرتْ وأُكملتْ ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسنِ جُنَّتِ ودخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: أنشدني أحكم ما قالته العرب وأوجزه! فقال قول امرئ القيس " من االبسيط ": صُبَّتْ عليه وما تنْصَبُّ عن أمَمٍ ... إن الشقاءَ على الأشقَيْنَ مكتوبُ قال زهير " من الطويل ": ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفرهُ ومن لا يتقِ الشتمَ يُشتمِ قال النابغة " من الطويل ": ولستَ بمستبقٍ أخاً لاتلمُّه ... على شعثِ أيُّ الرجال المُهذَّبُ وقال عدي بن زيد " من الطويل ": عنى المرء لاتسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي وقال طرفة بن العبد " من الطويل ": ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّدِ قال عبيد بن الأبرص " من البسيط ": إذا المرُ أسرى ليلةً ظنّ أنه ... قضى عملاً والمرءُ ماعاش عاملُ وقال الأعشى " من الطويل ": ومن يغترب عن قومه لايزل يرى ... مصارعُ مظلومٍ مجراً ومسحباً وقال الحطيئة " من البسيط ": من يفعلِ الخيرَ لايَعْدمْ جوازيهُ ... لايذهبُ العزْفُ بين الله والناسِ وقال الحارث بن عمرو " من الطويل ": فمن يلقَ خيراً يحمدِ الناسُ أمرهُ ... ومن يغوِ لايعدمُ على الغيّ لائما وقال الشمَّاخ " من الطويل ": وكُلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسهِ ... لوصل خليل صارمٌ أو معارزُ فقال عبد الملك: حججتك، ياشعبيُّ، بقول طفيل الغنوي " من البسيط ": ولا أخالسُ جاري في حليلته ... ولا ابن عمي غالتني إذا غُولُ حتى يقال وقد دليتُ في جدثٍ ... أين ابن عوفٍ أبو قرّانَ مجعولُ وقال ابن شبرمة: سألت الشعبيَّ عن معنى هذا البيت " من الرمل ": بدَّلته الشمسُ من منبتهِ ... بَرداَ أبيض مصقول الأُشرْ فلم يكن عنده جوابٌ. وقيل: إنه كان الصبيُّ في الجاهلية إذا أتغر استقبل بسنه عين الشمس، فحذفها وقال: أبدليني خيراً منها. قال: وأغزل بيتٍ قيل في العرب قول الأعشى " منى البسيط ": غرَّاءُ فرعاء مصقولُ عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحلُ قال: وأخبث بيتٍ قالته العربُ قوله " من البسيط ": قالت هُريرةُ لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يارجلُ وأشجع الناسُ من قال " من البسيط ": قالوا: الطراد! فقلنا: تلك عاداتنا ... أو تنزلون فإنا معشرٌ نُزُلُ سئل الشعبي عن رجل لطم عين رجل فأحمرت فشرقت فاغرورقت، فقال: يقضى فيها ببيت الراعي " من الطويل ": لها أمرها حتَّى إذا ما تبوَّأتْ ... بأخفافها مأوى تبوأ مضجعا ومعنى هذا البيت أنّ الراعي إذا أتى بإبله عشيا تركها حتى ترتاد بأخفافها موضعاً تبرك فيه، فإذا ارتادت موضعاً وبركت نزل قبالتها. فالمعنى إن الحكم في هذه العين أن تترك حتى يستقر أمرها على شيء ما، ثمّ يقضى فيها. وسئل عن رجل أوصى لأرامل بني فلان، فقال: الرجالُ والنساءُ سواءُ، أما سمعتم قول الشاعر " من البسيط ": تلك الأرامل قد قضيتُ حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر وقال الشعبي: لايكون الرجل سيداً حتى يكون للبيتين مستعملا، وهما " من الطويل ": وإني للباسٌ على المقْتِ والقلى ... بني العم منهم كاشحٌ وحسودُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أذبُّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالحسنى لهم وأعود ومن فتاويه: سئل عن رفع الصوت بالدعاء، فقال: أما س؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لوا رجلاً لم تكن على كلّ واحد منهم كفارته؟! فظفر عليه الشعبيّ. - وقال: إُيما ثلاثةٍ ركبوا دابةً فأحدهم ملعون! وقال الشعبيّ: كان شُريحٌ يشرب الطلاء على النصف، فشربنا عنده في الفطر والأضحى ما لاأحصيه، ويقول: طبخه غلامي ميسرة. - وقال عمر ابن أبي خليفة عن أبيه قال: كان الشعبي عندنا، فسمعنا صوت غناء فقلنا: أترى بهذا بأسا؟ قال: لا! - وقال: إذا صلى الرجلُ المكتوبة تقدم أمامه خطوة خطوة أو خطوتين ثمّ تطوَّعَ. وقال: ليس في الصلاة على الميت قراءةٌ، ولاشيءٌ موَّقتٌ إلا دعاءٌ واستغفار للميت. وقال: جمع القرآن ستةٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلُّهم من الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُبيُّ بن كعب ومعاذ بن جبلٍ وزيد بن ثابت وأبو زيد وسعد بن عبيد ومجمع بن جارية جمعه إلا سورة أو سورتين. - وقال: القضاة أربعةٌ عمر وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت. والدهاة أربعة معاويبة وعمرو بن العاص ومغيرة بن شعبة وزياد؛ فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة لم يأخذ عقدة إلا حلها، وأمَّا زياد فللصغير والكبير. - وقال: أوّل من وضع العشور عمر بن الخطاب. وقال: وكان عليّ أشجع الناس، تقرُّ له بذلك العرب. قدم الشعبيُّ أيَّام عبد الله بن الزبير البصرة، فجلس إلى أناس في مسجدها فيهم الأحنف بن قيس، فتذاكروا أهل الكوفة وأهل البصرة، ولم يزل بهم الحديث حتى قال قائلٌ من أهل البصرة: وما أهل الكوفة، هل هم إلا خولنا؟ استنقذناهم من عبيدهم! قال الشعبيّ: فعرض في قلبي قولُ أعشى همدان فقلتُ " من الرمل ": أفخَرْتم أن قتلتم أعْبُداً ... وهزمتم مرّةً آلَ عَزَلْ نحن سُقناهم إليكم عنوةً ... وجمعنا أمركم بعد الفشلِ فإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكمُ يومَ الجملْ بين شيخٍ خاضبٍ عثنونه ... وفتىً أبيضَ وضَّاحٍ رفلْ جاءنا يهدرُ في سابغةٍ ... فذبحناهُ ضُحىً ذبح الحملْ وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة اللهِ الأجلْ فضحك الأحنف ثمّ قال: ياأهل البصرة، فخر عليكم الالشعبيُّ، فأحسنوا مجالسته! ثمّ قال: ياجاريةُ، هاتي الصحيفة الصفراء! فرمى بها إلى الشعبي، فإذا فيها من المختار: " من أبي عبيد إلى الأحنف بن قيس مورد قومه سقر، حيثُ لايستطيع لهم الصدر، وإني لاأملك لهم ما خُطَّ في القدر، وقد بلغني أنكم تكذبونني وتكذبون رُسُلي، ولعمري لقد كذبت الأنبياء قبلي وأوذوا، وإن كنتُ لستُ بخيرٍ من نبي منهم، والسلامُ على من اتبع الهدى. " ثمّ أقبل عليَّ فقال: هذا منَّا أو منكم؟! فغلبني وهو ساكت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وقال الشعبيُّ: رأيتُ عجباً، كنَّا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القومُ: ليقمْ كلُّ رجلُ منكم فليأخذ بالرُكن اليماني وليسأل الله حاجته فإنه يُعطى، قمْ، ياعبد الله بن الزبير! فإنك أولُ مولود ولد في الهجرة. فقام فأخذ بالركن اليماني فقال: اللهّمَّ إنك عظيمٌ تُرجى لكلّ عظيم، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك صلى الله عليه وسلم ألا تميتني حتى توليني الحجاز ويُسلَّم عليَّ بالخلافة! وجاء فجلس، وقالوا: قُم، يامصعب! فقام حتى إذا أخذ بالركن اليماني فقال: اللهمَّ إنك ربُّ كلّ شيء، وإليك يصير كلُّ شيء، أسألك بقدرتك على كلّ شيء ألا تميتني حتى توليني العراقين وتزوجني سكينة بنت الحسين! وجاء فجلس، وقالوا: قم، ياعبد الملك! فقام فأخذ الركن وقال: اللهم ربّ السماوات السبع وربَّ العرش العظيم ربَّ الأرض ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وأسألك بحق الطائفين حول بيتك ألا تميتني حتى توليني شرق الأرض وغربها، ولاينازعني أحدٌ ألا أُتيتُ برأسه! ثمّ جاء فجلس، ثمّ قالوا: قم، ياعبد الله بن عمر! فقام حتى أخذ بالركن ثمّ قال: اللهمَّ إنك رحمان رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك إلا تميتني حتى تُوجب لي الجنة! - قال الشعبيّ: فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيتُ كلَّ رجل منهم قد أعطي ماسأل. وبُشر عبد الله بن عمر بالجنة. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: إنه ليس شيءٌ من لذة الدنيا إلا وقد أُصبتُ به ولم يبق لي من لذة الدنيا إلا مناقلة الإخوان للحديث، وقبلك عامرٌ الشعبيُ، فابعث به إليذَ ليُحدثني! فجهزه الحجَّاج وبعث به إليه. قال: فدخلتُ فإذا عبدُ الملك جالسٌ على كرسي وبين يديه رجلٌ أبيضُ الرأس واللحية على كرسيّ، فسلمتُ فردّ السلام، ثمّ أومى إليّ بقضيبه فقعدت على يساره، ثمّ أقبل على الذي بيد يديه فقال: من أشعر الناس؟ قال: أنا! قال الشعبيّ: فأظلم عليَّ مابيني وبين عبد الملك، ولم أصبر أن قلتُ: ومن هذا، ياأمير المؤمنين، الذي يزعم أنه أشعر الناس؟ قال: فعجب عبد الملك من عجلتي، ثمّ قال: هذا الأخطل! قلتُ: ياأخطلُ، أشعر منك الذي يقول " من السريع ": هذا غُلامٌ حَسَنٌ وجههُ ... مُقتبلُ الخيرِ سريعُ التمامْ للحارثِ الأكبر والحارث ال ... أصغر والحارث خير الأنامْ ثمّ لهندٍ ولهندٍ وقد ... أسرعَ في الخيراتِ منه إمامْ ستّةُ أملاكٍ هُمُ ما هُمُ ... هُمْ خيرُ من يشربُ صوب الغمامْ فقال عبد الملك: رُدَّها عليَّ! فرددتها عليه حتى حفظها، فقال الأخطل: من هذا، ياأمير المؤمنين؟ قال: هذا الشعبيُّ! قال: والجِلَّوز، ما أستعذت بالله من شر هذا! صدق والله، النابغة أشعر مني! قال الشعبيّ: ثمّ أقبل عليَّ عبد الملك فقال: كيف أنت؟ قلتُ: بخير، ياأمير المؤمنين! فلا زلتَ به! ثمّ ذهبت لأضع معاذير لي لما من خلافي على الحجاج مع عبد الرحمان ابن محمد بن الأشعث، فقال: مه، فإنا لانحتاج إلى هذا المنطق، ولا تراه منا في قول ولافعل حتى تفارقنا. ثمّ أقبل عليَّ فقال: ماتقول في النابغة؟ قلتُ: ياأمير المؤمنين، قد فضلَّه عمرُ بن الخطاب في غير موطن على جميع الشعراء! خرج عمرُ وببابه وفد غطفان، فقال: يامعشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول " من الطويل ": حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهبُ لئن كُنت قد بُلغتَ عني رسالةً ... لمبلغك الواشي أغشُّ وأكذبُ ولستُ بمستبقٍ أخا لاتلمهُ ... على شعثٍ أيُّ الرجال المُهذَّبُ قالوا: النابغة، ياأمير المؤمنين! قال: فأيكم الذي يقول " من الوافر ": لي ابن مُحرقٍ أعملتُ نفسي ... وراحلتي وقد هدت العُيونُ أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوفٍ تُظنُّ بي الظُنُونُ وألفيتُ الأمانةَ لم تخنها ... كذلك كان نُوحٌ لايخونُ قالوا: النابغة، ياأمير المؤمنين! قال: فأيكم الذي يقول " من الطويل ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خِلْتُ أن المنتأى عنك واسعُ خطاطيفُ حُجْنٌ في حبالٍ متينةٍ ... تَمُدُّ بها أيدٍ إليك نوازعُ قالوا: النابغة، ياأمير المؤمنين! قال: هذا أشعرُ شعرائكم. فأقبل على الأخطل فقال: أتحبُ أنك قلته؟ قال: لا، والله إلا أنني وددتُ أني كنت قلتُ أبياتا قالها رجلٌ منا، كان والله - ماعلمتُ - مغدف القناع قليل السماع قصير الذراع. قال: وماقال؟ فأنشده قصيدته " من البسيط ": إنَّا مُحيّوك فاسلم أيها الطللُ ... وإن بليت وإن طالن بك الطيلُ ليس الجديدُ به تبقى بشاشته ... إلا قليلاً ولا ذو خلةٍ يصلُ والعيشُ لاعيشُ إلا ماتقرُّ به ... عينٌ ولاحال إلا سوف تنتقل إن ترجعي من أبي عثمان منجحةً ... فقد يهون على المستنجح العملُ والناسُ من تلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأمٍ المخطئ الهبلُ قد يُدرك المُتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل قال الشعبيُّ: قلت: والقُطامي قال أفضل من هذا! قال: وماقال؟ قلتُ " من الكامل ": طرقتُ جنوب رحالنا من مطرقٍ ... ماكنتُ أحسبها قريبَ المعنقِ حتى أتيت على آخرها، فقال عبد الملك: ثكلت القطامي أمه! هذا والله ألشعر. قال: فالتفت إليَّ الأخطل فقال: ياشعبيُّ، إنّ لك فنوناً في الأحاديث، وإن لنا فنَّاً واحداً، لاأعرض لك في شء من الشعر أبداً، فأقلني هذه المرة! قال: من يكفل بك؟ قلتُ: أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: هو عليَّ أن لايعرض لك أبداً! ثمّ قال: ياشعبيُّ، أيُّ شعراء نساء الجاهلية كانت أشعر؟ قلت: خنساء! قال: ولم فضلتها؟ قلتُ: لقولها " من الطويل ": وقائلةٍوالنعشُ قد فات خطوهالتدركه: يالهف نفسي على صخرِ ألا ثكلتْ أمُّ الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبرِ فقال عبد الملك: أشعرُ منها واللهِ ليلى الأخيلية حيث تقول " من البسيط ": مهفهفُ الكشح والسربال منخرقٌ ... عنه القميصُ لسيرِ الليل محتقرُ لايأمن الناس ممساه ومصبحه ... في كل فجٍ وإن لم يغزُ ينتظرُ ثمّ قال: ياشعبيّ، لعله شقَّ عليك ماسمعت؟! قلت: إي والله، ياأمير المؤمنين، أشدَّ المشقة! إني إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام، يقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشأم أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق. - ومكثت عنده سنتين، بعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر وكتب إليه: ياأخي، إني قد بعثت إليك بالشعبيّ، فانظر هل رأيت مثله؟! وقيل: لما دخل الشعبي على عبد الملك خطَّأه في مجلس ثلاث مرات، سمع الشعبيُّ منه حديثاً، فقال: اكتبنيه! فقال: نحن معاشر الخلفاء، ما نكتب أحداً! وذكر رجلاُ فكنَّاه، فقال: من هذا، ياأمير المؤمنين؟ فقال: الخلفاء لاتسأل عن جلسائها وهم يسألون! وقال قتادة: كتب عبد الملك إلى الحجاج أن ابعث إليَّ بأجمع رجلٍ عندك! فبعث إليه بالشعبيّ. فلما قدم عليه قال له عبد الملك: علم بني ستَّ خصال، ثمّ شأنك بعد تأديبهم! علمهم صدق الحديث كما تعلمهم القرآن، وعلمهم الشعر ينجدوا ويمجدوا - يعني أنهم يكونوا أسخياء وفرساناً - وجُزَّ شعورهم تشتد رقابهم، وأطعمهم اللحم تصح قلوبهم، وجنبهم الحشم فإنه مفسدة لهم، وجالس بهم علية الرجال يناقضونهم الكلام فإنه خيار الناس! وقال عبد الملك للشعبي: لله در ابن قميئة حيث يقول " من الطويل ": كأني وقد خلفتُ تسعين حجةً ... خلعتُ بها عني عذار لجامي رمتني بنات الدهر من حيث لاأرى ... فكيف بمن يُرمى وليس برامي فلو أنها نبلٌ إذا لاتقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام فقال الشعبي: لقد أحسن لبيدٌ أيضاً حيث يقول: 62 - ومن أخبار سليمان بن مهران الأعمْش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أربعة آلافٍ حديث ومازاد. فقال: والله واللهِ لأحُدثنّك بحديثين يُنسيانك كلَّ حديث رويته في فضائل عليٍ عليه السلام. قلنُ: حدثني، ياامير المؤمنين! قال: كنتُ هارباً من بني أمية أدور في البلاد وأتقرَّبُ إلى الناس بفضائل عليٍّ، فيعطوني ويُكسوني حتى وردتُ بلاد الشام، فدخلتُ مسجداً وأنا أُريد أن أكلم الناس في عشاءٍ. فلمَّا سلّم الإمام دخل غُلامان من باب المسجد، فالتفت إليهما الإمام فقال: ادخُلا، مرحباً بكما وبمن اسمُه من أسمائكما! وكان إلى جنبي شابٌ فقلتُ: ياهذا، من هذا الشيخ من هذين الغلامين؟ فقال: جدُّهما وليس في هذه المدينة احدٌ يُحبُ علياً غيره. فقُمتُ إليه فرحاً وقلت: ياشيخ، هل لك في حديث أُقرُّ به عينك؟! قال: إن أقررت عيني أقررت عينك! قلت: حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: كنَّا ذات يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم جلوساً، إذ أقبلت فاطمةُ عليها السلام زهي تبكي. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مايبكيك؟ قالت: ياأبه، خرج الحسن والحسين ولم يرجعا البارحة. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لاتبكينَّ! فإن الذي خلقهما ألطفُ بهما مني ومنك، وهبط جبريل عليه السلام فقال: يامحمد، الله يُقرئك السلام ويقول: لاتغتمَّ لهما ولاتحزن! فإنهما نائمان في حظيرة بني النجَّار ولقد وكلّ الله بهما ملكاً يحفظهما. قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلّم فرحاً في نفرٍ من أصحابه، وإذا الغلامان نائمان والحسن معانقٌ الحسين عليهما السلام، وإذا ذلك الملك الموكل بهما قد أدخل أحد جناحيه تحتهما والآخر قد جللهما به. قال: فانكبَّ النبي صلى الله عليه وسلّم يقبلهما حتى أنتبها، فحمل جبريل عليه السلام الحسن، وحمل النبيّ صلّى الله عليه وسلم الحسين وخرج من باب الحظيرة وهو يقول: لأشرِفّنّكما اليومَ كما شرفكما الله عز وجل. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يارسول الله، أعطني أحد الغلامين أحمله وأُخفف عنك! فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: نِعْم الحاملان ونعم الراكبان وأبوهما خيرٌ منهما! فقال عمر: أعطني، يارسول الله، أحد الغلامين أحمله وأُخفف عنك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الحاملان ونعم الراكبان وأبوهما خيرٌ منهما! ثمّ التفت إلى بلال فقال: يابلال، هَلُمَّ عليَّ الناس فناد الصلاة جامعةً! فنادى بلالٌ في المدينة الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إلى المسجد، فصعد فخطب الناس خطبةً بليغةً فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناسُ، ألا أدلكم على خير الناس جداً وجدة؟ قالوا: بلى، يارسول الله! قال: عليكم بالحسن والحسين فإن جدَّهما محمّدٌ وجدَّتهما خديجة بنت خويلد سيّدة نساء أهل الجنة. أيها الناس، ألا أدلكم على خير الناس أباً وأماً. قالوا: بلى، يارسول الله! قال: عليكم بالحسن والحسين فإن أباهما يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، وأمهما فاطمة بنت محمد. ثم قال: ياأيها الناس، ألا أدلُكُم على خير الناس عمَّا وعمة؟ قالوا: بلى، يارسول الله! قال: عليكم بالحسن والحسيت فإن عمهما جعفر الطيار وعمتهما أمّ هانئ بنت أبي طالب. ثمّ قال: ياأيها الناس، ألا أدلكم على خير الناس خالاً وخالة؟ قالوا: بلى، يارسول الله! قال: عليكم بالحسن والحسبن فإن خالهما القاسم بن رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله. ثمّ رفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه، ثم قال: اللهمَّ إنك، ياالله، تعلم أنَّ الحين والحسين في الجنة وجدَّهما في الجنة وجدتهما في الجنة وأباهما في الجنة وأمهما في الجنة وعمهما في الجنة وعمتهما في الجنة وخالهما في الجنة وخالتهما في الجنة، اللهمَّ إنك تعلم أن من أحبهما في الجنة ومن أبغضهما في النار. قال: فلمَّا قلتُ ذلك للشيخ قال: من أنت؟ يافتى! قلت: من أهل الكوفة. قال: أعربيٌّ أم مولى؟ قلتُ: عربيٌّ. قال: وأنت تحدث بهذا الحديث وأنت في هذا الكساء!؟ فكساني حُلّةً وحملني على بغلة بعتها في ذلك الزمان بمائة دينار، وقال: قد أقررت عيني وأنا أدُلُّك على شابٍ يُقرُّ عينك. قلت: وأين؟ قال: إذا كان غداً فأت مسجد بني فلان! فإنّ ثمَّ أخوين، أما أحدهما فلم يزل يحب عليَّاً منذ خرج من بطن أمه، والآخر لم يزل مبغضاً لعليّ منذ خرج من بطن أمه، فقد غير الله مامر، فهو اليوم يحب علياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فطالت عليَّ تلك الليلة حتى أصبحت، فأتيتُ المسجد الذي وصف لي، فإذا شابٌ جميلٌ. فلمَّا رآني قال: يافتى، ماكساك فلان حُلَّته ولا حملك على بغلته إلا وأنت تحب الله ورسوله، حدثني في عليّ رضي الله عنه! قلت: حدثني أبي عن جدي عن أبيه قال: كُنَّا ذات يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت فاطمة وهي تبكي. فقال لها: يافاطمة، مايبكيك؟ قالت: عيَّرتني نساء قريش وقلن: إن زوجك مُعدم، لامال له. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يافاطمة، لاتبكينَّ! فوالله ما زوَّجتك إياه حتى زوجك الله إياه من فوق العرش، وشهد ذلك أسرافيل وميكائيل وجبريل عليهم السلام، والله عزّ وجلّ اطلّع على أهل الدنيا فاختار من الخلائق عليَّا، فزوجك إياه. فعليٌّ من أعلم الناس وأقدم الناس إسلاماً وأسمح الناس كفَّاً وأشجع قلباً، فإذا دعيتُ غداً في القيامة دُعي عليٌّ معي، فإذا حُييّت حُيّيَ عليٌّ معي، إذا كان يوم القيامة يكسى أبوك حُلتين وعليٌّ حُلتين، ولواءُ الحمد بيدي فأناوله عليَّاً لكرامته على الله عزّ وجلّ. يافاطمة، عليٌّ يعينني على حمل مفاتيح أبواب الجنة يوم القيامة. فلَّما قلتُ ذلك للفتى قال: من أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: عربيٌّ أم مولىً؟ قلتُ: بل، عربيُّ. فوهب لي عشرة ىلاف درهم وقال: يافتى، إذا كان غداً فأت مسجد بني فلان لعلك ترى أخي المبغض لعليّ. فطالت عليَّ تلك الليلة، فلمَّا أصبحت أتيتُ المسجد، فقمتُ في الصفّ وإلى جنبي شابٌ معتمٌّ، فذهب ليركع، فسقطت العمامة عن رأسه فإذا رأسه رأس خنزير ويده يد خنزير، فوالله ما علمت ما أقول في صلاتي حتى سلّم اٌمام، فالتفت إليه فقلت: ويحك مالك وماحالك؟ قال: لعلك صاحب أخي؟ قلت: نعم. فأخذ بيدي فأتى بي باب داره وقال: ترى هذا الباب؟ ثم أدخلني دهليزه فإذا فيه دكان، فقال لي: ترى هذا الدكاَّن؟ قلت: نعم. قال: كنتُ مؤذناً في هذا المسجد منذ أربعين سنة، وكنتُ ألعنُ عليَّاً فيما بين الأذان والإقامة ألفي مرة، حتى إذا كان يوم الجمعة لعنتهُ أربعة آلاف مرة. فخرجت من المسجد فاتكأت على هذا الدكَّان، فذهب بي النوم فرأيت كأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أقبل وعليٌّ عن يمينه والحسن عن يساره وأصحابه خلفه والحسين بين يديه معه كأسٌ وإبريقٌ، فإذا النبي عليه السلام يقول: ياحسين، اسقني! فسقاه، ثمّ قال: ياحسين، اسقِ عليَّا! فسقاه، ثم قال: اسق الجماعة! فسقاهم، ثمّ قال: اسق المتكئ على الدكَّان! فقال له الحسين: ياجداه! أتأمرني أن أسقيه وهو يلعن والدي منذ أربعين سنة فيما بين الأذان والإقامة ألفي مرة وقد لعن اليوم أربعة آلاف؟! قال: فرأيت النبيّ عليه السلام عقد بيده ثلاثاً وهو يقول: أتلعن عليَّاً وعليٌّ مني؟! عليك لعنة الله! ورأيته قائماً فركلني برجله وتفل في وجهي وقال: قُمْ، غيَّر الله مابك من نعمة! - فانتبهت من منامي ورأسي ويدي كما ترى. قال: وقال أبو جعفر: هذا الحديثان، ياسليمان، كانا عندك؟ قلت: لا، ياأمير المؤمنين. قال: ثمّ قلت: ياأمير المؤمنين، الأمان! قال: لك الأمان! قلتُ: ماتقول فيمن قتل اولادهم؟ قال: في النار، ويلك ياسليمان، الملك عقيمٌ، اخرج فحدّث الناس بما شئت! فخرجتُ من عنده. مات الأعمش سنة ثمان وأربعين ومائة وعمره سبعٌ وثمانون سنة، وافقه هشام بن عروة في السنة ولادةً ووفتةً، ووافقهما عمر بن عبد العزيز في سنة الولادة وهي سنة احدى وستيَّن، ووافق الأولين في سنة الوفاة وفاة جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. آخر الجزء الثالث من نور القبس في أخبار النحاة والحمد لله رب العالمين 63 - ومن أخبار ابن السائب الكَلْبيّ قال هشام بن محمد: كان أبي أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد وُدّ بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن كلب. وكان جده بشر بن عمرو وبنوه السائب وعبيد وعبد الرحمان شهدوا الجمل وصفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل السائب بن بشر مع مصعب بن الزبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقال محمد بن السائب عن أبيه قال: إنما وضعت الشعوب والقبائل والعمائر والبطون واللإخاذ والفصائل والعشائر على خلق الإنسان، تُسمَّى شعوباً وهو الشعب لأن الجسد تشعَّب منه، ثمّ القبائل وهو رأسه من قبائل الرأس وهي الأطباق، ثمّ العمائر وهو الصدر فيه القلب، ثمّ البطون وهو البطن فيه استبطن الكبد والرئة والطحال والأمعاء فصار مسكنهن، ثمّ الأفخاذ فالفخذ أسفل من البطن، ثم الفصائل الركبة لأنها انفصلت من الفخذ، ثمّ العشائر الساقان والقدمان لأنها حملت ما فوقها بالحُبّ وحسن المعاشرة ولم يثقل عليها حمله. قال: وإنما سُميت العرب شعوباً لأنهم قيل لهم ذلك حين تفرقوا من ولد إسماعيل عليه السلام ومن ولد قحطان، وذلك حين تشعبَّوا قال الشاعر " من الوافر ": فبادروا بعد أمتهم وكانوا ... شُعُوباً أشعبتْ من بعد عادِ الأمة النعمة والملك. ثم القبائل حين تقابلوا ونظر بعضهم إلى بعض في حلة واحدة وكانوا كقبائل الرأس، قال الله تعالى: (وجعْلناكُمْ شُعُوباً وقبائل لِتعارفوا إنَّ أكرمَكم عِنْد اللهِ أتقاكُمْ) . وقال صبح بن معبد ابن عدي بن أفلت الطائي للأجئيين " من الوافر ": قبائلُ من شعوبٍ ليس منهم ... كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نجيبُ وقال آخر " من البسيط ": قبيلةٌ من شعوبٍ ضلَّ سعيهمُ ... لاخير فيهم سوى كُثْرٍ من العددِ ثمّ العمائر حين سكنوا الأرض وعمروها، قال رجلٌ من بني عمرو بن عامر بن صعصعة يقال له فزارة " من الطويل ": عمائرُ من دون القبيل أتوهمُ ... نماهم إلينا عامرٌ ومساجمُ ضممناهم ضمَّ الهبلِ بناته ... فنحن لهم سلمٌ وإن لم يُسالموا الهبلُّ الشيخ. ثمّ البطون حين استنبطوا الأودية ونزلوها وبنوا البيوت الشعر ودعموها، فقالت العربُ: بيتُ فلان وبقي من آل فلان بيتان، قال الأزدي " من الرجز ": بُطونُ صدقٍ من ذرى العمائر ... ملْ أزد فانضمَّت إلى بحائر بحائر مُرادٌ. ثمّ الأفخاذ والفخذ أصغر من البطن، قال الأرحبيُّ " من البسيط ": مِقْرى بني أرْحبٍ للضيفِ مُترعَةٌ ... وكلُّ مقرى لكم يانهمث أفخاذُ النهم قبيلة. ثم الفصائل وهي الفصيلة وهم الأحياء حين انفصلوا من الأفخاذ، قال الله عز وجل: (وَفصِيلتهِ التي تؤويه) ، وقال الكنانيُّ " من الرجز ": فصيلةُ بانت من الأفخاذ ... فحالفوا جهلاً بني مُعاذِ ثمّ العشائر حين انضمَّ كلُّ بني أبٍ إلى أبيهم دون عمهم، فحسن تعاشرهم، قال نهيك بن قعنب الطائي لبني ثعلبة بن لأمٍ " من الوافر ": وكنتُ لكم عشيراً من أبيكم ... بلا صفدٍ ولا قولٌ جميلُ فصرتُ لكم عدواً ما بقيتم ... بني المقناب ما جنح الأصيل القنب الغلاف الذي فيه جردان البعير، وليس بعد العشيرة شيءٌ ينسب إليه. فالشعب مثل ربيعة ومضر وإياد وحمير وأنمار وقضاعة والأزد وهمدان وبجيلة وخثعم وكندة ولخم وجذام وعاملة وحضرموت. ثمّ القبائل دون الشعوب مثل قيس عيلان وطابخة ومدركة. ثمّ العمائر دون القبائل مثل كنانة وأسد وهذيل وتميم وضبة والرباب ومزينة. ثمّ البطون مثل فهر بن مالك قريش، ومثل بني بكر بن عبد مناة بن كنانة وبتي الحارث بن عبد مناة وبني عامر بن عبد مناة وبني مدلج بن مرة بن عبد مناة كلُّهم من كنانة. ثمّ الأفخاذ مثل لؤي بن غالب وتيم الأدْرم بن غالب ومحارب والحارص بن فهر. ثمّ الفصائل مثل قُصي بن كلابٍ وزهرة بن كلاب وبني مخزوم وبني تمبم وجمح وسهم وعدي بن كعب. ثمّ العشائر مثل عبد مناف وعلى عبد مناف اقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقال: إن العرب العاربة عاد وعبيل ابنا عوص بن إرم بن سام بن نوح، وثمود وجديس ابنا جاثر بن إرم، وطسم وعمليق وجاسم وأميم بنو بلعم بن عابر بن اسليحا بن لوذ بن سام بن نوح، وحضرموت والسلف والموذ بنو يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وجرهم بن سبأ بن يقطن بن عابر. والعرب كلهم بنو إسماعيل بن الخليل عليهما السلام إلا أربعُ قبائل: السلف والأوزاع وحضرموت وثقيف. - وقال: الحمس قريش يدخلون بيت مدرٍ ولا وبرٍ ولايلبسون إلا ثوباً حرمياً أيام الحج. - قال: وكان كلامُ إسماعيل وإسحاق مثل كلام أبيهما عبرانية. وأول من تكلم بالعربية بعد إبراهيم يعرب بن الهميسع بن بنت إسماعيل. ومرّ به رجل من همدان فقال: كيف تقرأ هذه الآية: (عِظَاماً ناخرة) أو (نخرة) ؟ قال: من جعلها ناخرة جعل الريح تنخر فيها وفيها بقيَّة، ومن قرأها نخرة فهي البالية. قال: أخبرني عن قوله تعالى (إنَّا لَمَرْدُودوُن في الحافِرِة) ! قال: الخلقُ الأول، والعرب تقول: رجع فلان على حافرته، يعني على طريقته الأولى. وقال هشام: قال أبي: كنتُ بالحيرة فوثب إليّ رجلٌ فقال: أنت الكلبيُّ المفسر؟ قلت: نعم! قال: أخبرني عن قول الله تعالى: (وإذا قَرَأت القُرآنَ جَعَلْنا بَيْنَك وَبَيْن الَّذين لايُؤمنون بالآخرةِ حجاباً مَسُورا) ، ماذلك القرآن الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرأه حُجب عن عدوه من الجن والإنس؟! قال: قلتُ: لاأدري. قال: فتُفسر القرآن ولاتعلمه؟! قلت: فأخبرني! قال آيةً في الكهف: (ومن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكر بآيات رَبِه) ، وآيةً في النحل: (أولئك الَّذين طبع اللهُ عَلَى قُلُوبهم) ، وآية في الجاثية: (أفرَأيْتَ من أتَّخذ إلهه هَواهُ) . قال: فالتفت فلم أره، فكأن الأرض ابتلعته. وقال: إن أسماء كنائن نوح إذا كتبن في زوايا برج حمام تمت الفراخ وسلمت من الآفات. قال هشام: وقد جربته فصح، اسم امرأة سام بن نوح مجلت محوّ، واسم امرأة حام بن نوح ادنو نشا، اسم امرأة يافث بن نوح زوقت نيب. - وقال: كلّ نبيّ ذُكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح. ولم يكن في العرب من الأنبياء إلا هودٌ وصالح وإسماعيل بن ذي مهرم ومحمد صلى الله عليهم اجمعين. وقال ابن عبَّاس: لمَّا هرب إبراهيم من كوثي وخرج من النار عبر الفرات ولسانه يومئذ سُريانيٌّ، فلمَّا عبر الفرات من حرّان غُيّر لسانه، فقيل عبرانيٌّ حين عبر الفرات، ثمّ بعث نمرود في أثره فقال: لاتدعوا أحداً يتكلَّم بالسريانية إلا جئتموني به! فلقوا إبراهيم فتلكَّم بالعبرانية فتركوه ولم يعرفوا لغته. وقال: كانت العُزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة. فلمَّا افتتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال: ايت بطن نخلة! فإنك تجد ثلاث سمراتٍ، فاعضد الأولى! فأتاها فعضدها، فلمَّا جاء إليه قال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا! قال: فاعضد الثانية! فأتاها فعضدها، فلمَّا جاء إليه قال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا! قال: فاعضد الثالثة! فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقيها تصرفُ بأنيابها، وخلفها دُبَيَّةُ السُلمي وكان سادنها، فلمَّا نظر إلى خالد قال " من الطويل ": عُزيَّةُ شُدي شدةً لاتكذبي ... على خالد ألقي الحمار وشمري فإنك إلا تقتلي اليومَ خالدا ... تبوءي بذُلٍ عاجلاً وتنُصري فقال خالد " من الرجز ": ياعزَّ كفرانك لاسبحانك ... إني رأيت الله قد أهانكِ ثمّ ضربها ففلق راسها، فإذا هي حممةٌ، ثمّ عضد الشجرة وقتل دُبَيَّةَ السادن. ثمّ أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تلك العزى ولا عُزَّى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد اليوم! - فقال ابو خراش الهذلي في دُبَيَّةَ يرثيه " من البسيط ": ما لدبَيَّةَ منذ اليوم لم أرهُ ... وَسْط الشروب ولم يُلْملم ولم يطف لو كان حيَّاً لغاداهم بمترعةٍ ... من الدواريق من شيزى بني الهطف ضخم الرماد عظيم القدر جفنته ... حين الشتاء كحوض المنهل اللقف الهطف بطن من بني عمرو بن أسد، واللقف الحوض المنكسر الذي يضرب أصله الماءُ فيتثلم، يقال: قد لقفَّ الحوض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وقال ابن عباس: إذا خفت غرقاً فاكتب: بسم الله الرحمان الرحيم، ما شاء الله، لاقوة إلا بالله، وآية الكرسي، (وإنَّ ربَّكمُ اللهُ) في سورة الأعراف، (وَقُلْنا يانارُ كُوني بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إبراهيم) اكتب: اسكن! سكنت بالذي سكن له ما في الليل والنهار وهو السميع العليم، بسم الله الذي لايضر مع اسمه شيء، بسم الله لايُعاز الله شيء، الله أعزُّ من كلّ شيء. وقال ابن عبَّاس: كان مجتمع الناس حين خرجوا من السفينة ببابل، فنزلوا سوق ثمانين بالجزيرة، فابتنى كلُّ رجلٍ منهم بيتاً، وكانوا ثمانين رجلاً فسميَّ سوق ثمانين. ثمّ ضاقت بهم حتى خرجوا، فنزلوا موضع بابل اثني عشر فرسخاً في اثني عشر فرسخاً، وكان سورها عند الفرات وبابها عند موضع دوران، فمكثوا بها حتى كثروا، وملكهم يومئذٍ نمرود بن كنعان بن حام ابن نوح. فلمَّا كفروا بلبل الله ألسنتهم، فتفرقوا على اثنين وسبعين لساناً، وفهم الله العربية عمليق وأميم وطسم بن لوذ بن سام وعاداً وعبيل ابني عُوص ابن إرم بن سام وثمود وجديس ابني جاثر بن إرم بن سام بن نوح وبني يقطن ابن عابر بن شالخ بن أفخشد بن سام. فخرجت عادٌ وعبيل، فنزلت عاد حولها ونزلت عبيل يثرب، وأقبلت العماليق وأميم فنزلت العماليق صنعاء وما حولها ونزلت أميم أُبار - وهو أُبار بن أميم - ومضى بعضهم مع عادٍ، ومضت طَسْمٌ وجديس فنزلت اليمامة، ونزلت ثمودٌ الحجر وما ولاه. فهلكت عادٌ والعماليق بصنعاء، وتحوّلت العماليق فنزلوا بمكة، ثمّ مضى بعضهم إلى يثرب - وهو يثرب بن نابتة بن مهلائيل بن رام بن عوص بن إرم وبه سُميت - فأقبلت العماليق فاجترّت عبيل من يثرب فأنزلوهم موضع الجحفة، فجاءهم سيلٌ فاجتحفهم، فسُميت الجُحفة. فذلك قولُ رجل منهم " من الخفيف ": عَيْنُ جودي على عبيلَ وهل يُر ... جع ما فات فيضها بالسجام عمرّوا يثرباً وليس بها شُفْرٌ ولا صارخٌ ولا ذو سنامِ غرسوا لينها بمجرى معين ... ثُمَّ حَفَّوا النخيلَ بالآجامِ وعن ابن عبَّاس قال: لمَّا هاجر بنو جحش إلى المدينة عبد الله وعبيد الله وعبدٌ - وهو أبو أحمد بن جحش - وثب أبو سفيان على دورهم فباعها وحلف بني جحش إلى حرب بن أمية، فشكا ذلك أبو أحمد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: قل شعراً يشيعُ في العرب غدره! فرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنشده " من الكامل ": أبلغ أبا سفيان قو ... لاً في عواقبه ندامه دارَ ابن عمك بعتها ... تقضي بها عنك الغرامه وحليفكم بالله ... عند البيت مجتهدُ القسامهْ اذهبْ بها اذهب بها ... طُوّقتها طوق الحمامه قال ابن الكلبي: هذه رُخصةٌ من النبي صلى الله عليه وسلم في أنه أمر بقول الشعر في عتاب وهجاء. مات محمد بن السائب الكلبي سنة ستٍ - وقيل ثمان - وأربعين ومائة. 64 - ومن أخبار أبي الحكم الكلبيّ هو أبو الحكم عوانة بن الحكم بن عياض بن وزر بن عبد الحارث الكلبيّ، الضرير من علماء الكوفة بالأخبار خاصة والفتوح مع علمٍ بالشعر. مات أبو الحكم سنة سبع وأربعين ومائة - قال يحيى بن معين: مات هو وأبو جعفر المنصور في ساعة واحدة طسنة ثمان وخمسين ومائة " - وهو والأعمش في شهر واحد رحمهم الله تعالى. 65 - ومن أخبار أبي جنابٍ الكلبيّ واسمه يحيى بن أبي حية. قال: أتيتُ كربلاء فقلتُ لرجلٍ من أشراف العرب بها: بلغنا أنكم تسمعون نوح الجنّ على الحسين بن علي. قال: ما تلقَى حُراً ولاعبداً إلا أخبرك أنه سمع ذلك. قلتُ: فأخبرني ما سمعت أنت! قال: سمعتهم يقولون " من الكامل ": 3مسحَ النبيُّ جبينهُ فلهُ بريقٌ في الخدودِ أبواه من عليا قريشٍ ... جده خير الجدودِ الجنُّ تنعي كهلهم ... لابن السعيدة والسعيدِ وقال عمر بن الخطاب: ابنةُ عشر لذة للناظرين، ابنة عشرين لذّةٌ للعانقين، ابنة ثلاثين تَسمن وتلين، ابنة أربعين أم بنات وبنين، ابنة خمسين عجوزٌ في الغابرين. مات أبو جناب في السنة التي مات فيها الأعمش رحمهما الله تعالى. 66 - ومن أخبار ابن عياش المنتوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 هو أبو الجراح عبد الله بن عيَّاش الهمداني المنتوف، وهو من الرواة النسَّابين، وكان عالماً بالمثالب شاعراً هجاء يتُقى لسانه. وقال المرزباني: هذا وهمٌ لأن ابن عياش هذا لم يرو له بيتٌ واحدٌ فيما أعلم، وإنما الشاعر سلمة بن عياش. قال أبو جعفر المنصور للربيع: قُل لأبن عياش: إنْ كففت عن نتف لحيتك وصلتك. فقال ابن عيَّاش للربيع: قل له: لو ةوجدت لذَّة ذلك لعلمت أنه ألذ من الخلافة، فكيف أدعه من أجل صلتك؟! - قال: أراد محمد بن عليّ أن يتزوج ريطة بنت عبد الله الحارثية، فمنعه من ذلك الوليد ابن عبد الملك ثمّ سليمان بن عبد الملك لما كانوا يرونه من زوال الأمر عنهم على يد رجلٍ من بني العباس يقال له ابن الحارثية. فلمَّا ولي عمر بن عبد العزيز شكا إليه ذلك واستأذنه، فقال له: تزوج بمن أحببت! فتزوجها فولدت أبا العبَّاس السفاح. ودخل معن بن زائدة - وكان دهرياً - على ابن عيَّاش يعوده، فلمَّا خرج من عنده رأى عجوزاً في ناحية الدار وبين يديها قدرٌ صغيرةٌ توقد تحتها، فقال معن متمثلاً طمن الطويل ": وقدرٌ ككفِ القرد لامستعيرها ... يُعارُ ولا من ذاقها يتدسَّمُ فسمعها ابن عيَّاش فقال: ياأبا الوليد، إنها من حلال وإن أهلها موحدون. وقال ابن عياَّش: قال لنا المنصور: أخبروني عن خليفة جبَّار اوّل اسمه عينٌ قتل ثلاثة جبابرة أول أسمائهم عينٌ! قال: فقلتُ له: عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمان بن محمد ابن الأشعث. قال: فخليفة أول اسمه عين فعل ذلك بثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين! فقلت: أنت، ياأمير المؤمنين، عبد الله بن محمد، قتلت أبا مسلم واسمه عبد الرحمان وقتلت عبد الجبار وسقط على عمك عبد الله بن عليّ البيت! فضحك وقال: ويلك فما ذنبي إذا سقط البيت عليه؟! - وإنما أراد ابن عيَّاش أنك قتلت عمك، بنيت له بيتاً في أساس ملح فسقط عليه. فلم يُصرح ولكن عرض به لأن عمه كان خرج عليه. وحضر بباب المنصور جماعة من أهل الكوفة فيهم ابن عيَّاش يطعنون على عاملهم ويتظلمون من أميرهم، فقال للربيع: أخرج وقُل لهم: إنّ أمير المؤمنين يقول لكم: إن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقنَّ رؤسهما ولحاهما ولأضربن ظهورهما، فالزموا منازلكم وابقوا على أنفسكم! فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة، فقال له ابن عيَّاش: يا شبيه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنَّا كما أبلغتنا عنه وقل له: واللهِ مالنا بالضرب طاقةٌ فأما حلق اللحى فإذا شئت! وكان ابن عيَّاش منتوفاً، فأبلغه، فضحك وقال: قاتله الله ما أدهاه! - وكان يطعن على الربيع الحاجب في نسبه فيخدعه بقوله: فيك شبه من عيسى بن مريم! يعني ليس له أبٌ. قال المنصور لابن عياش: لو تركت لحيتك فطالت، أما ترى عبد الله بن الربيع ما أحسنه! فقال: أنا أحسنُ منه! وحلف على ذلك. فقال ابن الربيع: انظر، ياأمير المؤمنين، إلى هذا الشيخ ما أجرأه على الله! فقال ابن عيَّاش: احلق لحيته وأجلسه إلى جنبي وانظر أينا أحسن! وقال ابن عيَّاش: حدثتث المنصور أنه كان بالكوفة رجلٌ يحدثُ عن بني إسرائيل وكان يتهم بالكذب، فقال له الحجَّاج بن خيثمة يوماً: ما اسم بقرة بني إسارئيل؟ فقال: خيثمة. فأسكته. وقال له رجلٌ من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكُتُب وجدت هذا؟ فقال: في كتاب عمرو بن العاص الذي خدع به أبا موسى. فأسكته أيضاً. خطب المنصور بمكة وقد أمل الناس عطاءه، فقال: ياأيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وخازنه في فيئه أعمل فيه بمشيئته وأقسمه بإرادته، وقد جعلني الله قفلاً عليه، إذا شاء أن يفتحني فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني، فارغبوا إلى الله، أيها الناس، في هذا اليوم الذي عرفكم من فضله ما أنزل به كتابه فقال جل اسمه (اليومَ أكملتُ لكُمْ دينَكمْ وأتممتُ عَلْيكم نِعْمتي ورضيتُ لَكُمُ الإسلامُ ديناً) ، وأسألم الله أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم، إنه قريبٌ مجيب. - فقال ابن عياش: أحال أمير المؤمنين على ربه عز وجل. وقيل له: كان ألحنف بن قيس سيداً، قال: لاولكن كان شريفاً، وإنما السيد الباذل للمال. - قال رجلٌ لابن عيَّاش: لي إليك حاجةٌ صغيرة. فقال: اطلب لها صغيراً مثلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقال: أول من بنى المقصورة بالبصرة زيادٌ، وأول من جعل الأذانين يوم الجمعة زياد، وهو أول من جلس الناس بين يديه على الكراسي، وأول من أتخذ السقيف في حوانيت السوق، وأول من رفع الثياب، وأول من لبس الخفاف الساذجة، وأول من دعا النقري، وكانوا يدعون الجفلى. ودخل ابن عياش على سلم بن قتيبة وبين يديه سلة زعفران، فقال: أنشدني بيتاً لايستطيع إنسان أن يقول: كذبت! وهي لك! فأنشده " من الطويل ": وما حملتْ من ناقةٍ فوق رحلها ... أبرَّ وأوفى ذمَّةً من محمدِ فقال: خذها، لابارك الله لك فيها! وقال: وقع الحريق ببعض سكك المدينة فيها دار أم أبان القوَّادة، فلم يُصب منزلها شيء، فغدا الحرفاء عليها بالتهنئة، فقالت: المحسنُ معان. حضر مطيع بن إياس وشراعة بن الزندبوذ ويحيى بن زياد ووالبة بن الحباب وابن عياش المنتوف وحمَّاد عجرد، فتكايدوا عند بعض الأمراء من أهل الكوفة، فغلبهم مطيع بظرفه ثمّ بدههم بهذين البيتين " من البسيط ": وخمسةٍ قد أبانوا لي كيادهم ... وقد تلَّظى لهم مقلىً وطنجيرُ لو يقدرون على لحمي لمزَّقه ... قرْدٌ وكلبٌ وجرواه وخنزيرُ ومات ابن عيَّاش رحمه الله سنة ثمان وخمسين ومائة. 67 - ومن أخبار حُمران بن أعْيَنَ هو أبو عبد الله حُمران بن أعين بن سنبس مولى الطائيين، هو قارئ حسن الصوت نحويٌ شاعرٌ شيعيٌ من شيعة جعفر بن محمد عليهما السلام. وقرأ على حمران حمزة بن حبيب، وقرأ حمران على أبي الأسود، وقرأ أبو الأسود على عليٍّ وعثمان رضي الله عنهما. 68 - ومن أخبار زهير القُرقبيّ هو زهير بن ميمون الهمداني القرقبيّ مولى النخع أو غيرهم، كان من علماء الكوفة، وإنما سُميّ القُرقبي لأنه كان يتجر إلى ناحية قُرقوب فنسب إليها. أخذ النحو من أصحاب أبي الأسود. ومات سنة ست وخمسين ومائة. 69 - ومن أخبار حمزة بن حبيبٍ الزّيات هو مولى بني عجلٍ وقيل مولى تيم الله، ولد سنة سبعين، وكان ثقة صاحب قراءة وفرائض صالحاً صدوقاً. - قال حمزة: القرآن ثلاثً مائة ألف حرف وثلاثة وسبعون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفاً. وقال: خرجت في تجارتي إلى حلوان، فلما كان منصرفي أدركني الليل في موضعه خرابٍ. قال: فسمعت قائلاً يقول: ماوجد هذا موضعاً ينزل فيه إلا ههنا؟ أما والله! وذكر كلمةً، فقلت: (شهد اللهُ أنَّه لا إله إلاَّ هُو والملائكَةُ وألولوا العلم قائماً بالقسط لاإله إلا هوَ العزيز الحكيم، إنَّ الدين عند الله الإسلام) . فسمعت قائلاً يقول: أبعدك الله! احرسه الآن حتى يصبح. قال: وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذين البيتين " من الطويل ": نهارك يامغرور سهوٌ وغفلةٌ ... وليبك نومٌ الردى لك لازمُ وتكدح فيما سوف تكره غبَّة ... كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ وقال: دخل الحارث الأعور على عليٍّ رضي الله عنه فقال: ياأمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد أقبلوا على الحديث وتركوا كتاب الله؟! فقال عليُّ: قد فعلوها؟ قال: نعم! قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتمةٌ. قلت: ياأمير المؤمنين، فكيف المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر مابعدكم وحكمكم بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن أراد الهدى في غيره أضله الله، وهو حبلُ الله المتين والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لاتزيغ به العقول، ولا تلتبس به الألسن، ولايخلق عن رد، ولا تنقضي عجائبه، ولايشبع منه علماؤه، وهو الذي سمتعه الجن حتى قالوا: (إنا سَمْعْنا قُرآناً، يهدي عجباً إلى الرشد) ، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هُدي إلى صراط مستقيم، خذها ياأعور! مات حمزة بحلوان في خلافة أبي جعفر المنصور سنة ست وخمسين ومائة رحمه الله تعالى. 70 - ومن أخبار حماد الراوية هو حماد بن سابور بن عبيد الراوية، وقيل: سابور بن المبارك بن عبيد، وقيل: ابن هرمز، وقيل: حمَّاد بن أبي ليلى، ويكنى أبا القاسم. وأبوه من سبيِ الديلم، سباه ابن لعروةَ بن زيد الطائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قيل: رواة الكوفة أربعة: حماد - ولقبَّه الخرجوني - وجناد وابن الجصاص والمفضَّل، ورواة بغداد أربعة: أبو عمرو الراوية والأثرم وابن الأعرابي والطوسي. تلاحوا في مجلس المنصور من أشعر الناس، فسئل حمَّاد عن ذلك فقال: صناجة العرب! - يعني الأعشى، وسُمي به لقوله " من البسيط ": ومستجيبٍ تخالُ الصنج يسمعهُ ... إذا تُؤجع فيه القينة الفضلُ المستجيب المزمار ههنا، وقيل: العود. وسئل عن عمر بن أبي ربيعة، فقال: ذلك الفستق المقشر. وسئل عن شعر امرئ القيس، فقال: ماأقول؟ مبتدئ ياحسان، والناسُ بعده له تبع لايلحقونه. قيل: فالنابغة الذبياني؟ قال: ذاك كاتبُ الشعراء، أحسنهم نمطاً وأحضرهم احتجاجاً. قيل: فزُهير؟ قال: ذاك حكيمُ العرب، أشدُّهم أسرَ كلامٍ ومبالغة في مدح. قيل: فالأعشى؟ قال: ذاك أجمعهم للمعاني، وأكثرهم شعراً وفنوناً، وما أقيسُ به أحداً. قيل: فجريرٌ؟ قال: جرو خراشٍ ينطبق بملء فيه ويذهب في كُلّ فنّ. قيل: فالفرزدق؟ قال: أكثر العرب شعراً وأبعدهم ذكراً وأوسعهم فكراً وأجودهم فخراً. قيل: فالأخطل؟ قال: ذاك شاعرٌ قد حبب شعره إل] ذَ النصرانية. وقال حماد: لو مات الأخطل مسلماً لشهدتُ له بالجنة بقوله " من الكامل ": وإذا أفتقرت إلى الذخائر لم تجدْ ... ذخراً يكون كصالح الأعمالِ وقال حماَّد: بينا أنا أسيرُ ليلاً إذ أنا برجلٍ على ظهر ظليم وهو يقول ويجئُ ويذهب " من الرجز ": هَلْ يُبْلِغهم إلى الصباح ... هيقٌ كأنّ رأسه جُماحْ - الجُماح السَهْم الذي لانصل له يجعل على رأسه طينٌ يُلعب به لئلا يعقر - قال: فعلمتُ أنه ليس بإنسي، فقلت له: ياهذا من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول " من الطويل ": تَطرُدُ القُرَّ بحرٍ ساخنٍ ... وعكيك القيظ إنْ جاء بَقُرّ قلت: ومن هذا؟ قال: ابن الثماني عشرة طرفة بن العبد. قلت: ثمّ من؟ قال: الذي يقول " من المتقارب ": وتبردُ بَرْدَ رداءٍ العرو ... س في الصيف رقرقت فيه العبيرا وتسخنُ ليلةَ لا يستطيع ... نباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا قلتُ: من يقول هذا؟ قال: أعشى بن قيس بن ثعلبة. ثمّ ذهب به ظليمه. وسئل حمَّاد عن الدنقعي الشاعر وكان يزعم أنه من بني عجل، فقال حمّاد: أنا أضرب لكم مثله: رأى كرْكي مرّةً عقاباً قد أنحط على حمل فأخذه بمخاليبه فمرّ به، فقال الكركيُّ: أنا أعظمُ من هذا وأطول عُنقاً ورجلين، فما يمنعني من الصيد؟! فعلا وانقضّ على حمل فنشب في صوفه فلم يتحرَّك، ورآه الراعي فأخذه وجعله في كسائه وانصرف. فقالوا له: مامعك؟ قال: معي أنا أقول أنه كُركيُّ وهو يقول إنه عقابٌ. ولكن أقول أنّ الدنقعيّ زنجي وهو يزعم أنه عجليٌّ. وقال عبد الله بن جعفر: كان حمّاد يتَّهم في دينه وكان يعاقر الخمر ويستخف بالصلاة، فهجاه بعض الشعراء فقال " من الكامل ": نِعْم الفتى لو كان يعرف رَبَّه ... ويُقيمُ وقتَ صلاته حمّادُ طمستْ محاسنه الشُمول فأنْفهُ ... مِثلُ القَدُوم يَسُنُّها الحدّادُ وابيضَّ من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سوادُ لايعجبنك جسمه ورواؤُه ... إنَّ المجوس تُرى لها أجسادُ حمّادُ يا ضبعاً تُجُرُّ جراءها ... أجنى لها بالقريتين بلادُ وقيل إنها من قصيدة لأبي الغُول النهشلي في حماد الزبرقان. وقال: كانت العرب تقول: يعجبنا أربعة من أربعة: سُرعة بكور الغُراب، وسرعةُ إيابه قبل الليل، والكلبُ تنفع المعرفة عنده، والخنزير إذا احتفر لم يدعه حتى يأتي على أصله، والسَّنور يواظب على الشيء فلا يبرح حتى يأخذه، فمن طلب فليطلب طلب السنَّور. 71 - ومن أخبار جَنّاد بن واصل كنيته أبو محمد أسديُّ من القدماء في قياس حمادٍ الراوية. 72 - ومن اخبار ابن الجصاص هو أبو يعقوب إسحاق بن عمار الجصاص من موالي اليمن، مات في آخر أيام أبي جعفر المنصور. 73 - ومن أخبار المفُضَّل الضَبيّ هو أبو العباس - وقيل: أبو عبد الرحمان - المفضَّل بن محمد بن يعلى بن عامر بن سالم بن أبي الريان من ثعلبة بن السيد بن ضبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقال: قال لي الرشيد: كم أسم في (فَسَيَكْفيكَهُم اللهُ9؟ قلت: ثلاثة أسماء، يا أمير المؤمنين، أولها اسم الله عز وجل، والثاني اسم النبي صلى الله عليه وسلم، والثالث اسم الكفرة، فالياء والكاف والفاء والياء المتصلات بالسين لله عز وجل، والكاف المتصلة بالهاء للنبي صلى الله عليه وسلم، والهاءُ والميم للكفرة. قال: كذا قال الشيخ! وأشار بيده إلى الكسائي. وأنشد المفضل " من الطويل ": لها من عُيونُ العين عينُ مريضةٌ ... ومن خضرة الريحان خضرةُ شاربِ كأن غلاماً حاذقاً خطه لها ... فجاء بنصف الصاد من خط كاتبِ وقال: دخلت على المهدي، فقال: أنشدني أربعة أبيات، لاتزد عليهن قبل أن تجلس! وعنده عبد الله بن مالك الخزاعي، فأنشدته " من الطويل ": وأشعَُ قد قدَّ السفار قميصهُ ... يَجُرُ شواءً بالعصا غير منضجٍ دعوتُ إلى مانابني فأجابني ... كريمٌ من الفتيان غير مزلَّجِ فتىً يملأُ الشيزي ويروي سنانهُ ... ويضربُ في رأس الكمي المدجَّجِ فتىً ليس الراضي بأدنى معيشةٍ ... ولا في بيوت القوم بالمتولجِ فقال المهدي: هذا! وأشار إلى عبد الله بن مالك. - حاشية في الأصل: ومدح بعض الأعراب الرشيد بشعرٍ حسنٍ، فقال له الرشيد: أسمعك مستحسناً وأنكرك متهماً، فإن كنت صاحب هذا الشعر فقل في هذين بيتين! وأشار إلى عبد الله ومحمد، فقال: حملتني على غير الجدد روعةُ الخلافة ونهد البديهة ونفور القول في الرواية لاتتألف لي، فقرأتها إلا بفكرٍ، فليمهلني أمير المؤمنين قليلاً. قال: أمهلك وأجعل لك حسن اعتذارك بدلاً في أمتحانك. قال: يا أمير المؤمني، نفست الخناق وسهلت ميدان السباق. ثمّ قال " من الطويل ": بنيتَ لعبد الله بعد محمد ... ذُرى قُبّةِ الإسلام فاحضر عُودها هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أميرُ المؤمنين عمودها قال: أحسنت! فلا تكن مسألتك دون إحسانك! فقال: الهنيدة، أمير المؤمنين! فأمر له بها. وقال المفضل: قال لي المهدي: أسهرتني البارحة هذه الأبيات " من الطويل ": وقد تعذرُ الدُنيا فيضحي غنيها ... فقيراً ويغني بعد بؤسٍ فقيرها فلا تقرب الأمر الحرامَ فإنه ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها وكم قد رأينا من تغير عيشةٍ ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها فلا تلهك الدنيا عن الحق فاعتملْ ... لآخرة لا بدَّ أن ستصيرها وقال: سايرت الرشيد يوم منصرفه من مكة، فسنح لنا ذئبٌ، فقال الرشيد: ماأحسن ما قيل في الذئب؟ فقلت " من الرجز ": أطْلَسُ يُخفي شخصهُ غُبارهُ ... في فمهِ شفرته وناره فقال: أحسن الشاعر ولكن أحفظ ماهو أحسن من هذا، فإنْ جئت به ولك خاتمي! فقلت: لعلَّ أمير المؤمنين يريد " من الطويل ": ينامُ بإحدى مقلتيه ويتَّقي ... المنايا بأخرى فهو يقظان هاجعُ فقال: ماطرح هذا على لسانك إلا لذهاب خاتمي! ورمى به إليّ. وقال المفضل: أحسن ما قيل في القَسَم قولُ الأشتر " من الكامل ": بقيَّتُ وفري وانحرفتُ عن العلا ... ولقيتُ أضيافي بوجه عبُوسِ لإنْ لم أُشُنَّ على ابن هند غارةً ... لم تخل يوماً من نهاب نفوسِ خيلاً كأمثال السعالي شُرباً ... تعدو ببيضٍ في الكريهة شوسِ حمي الحديدُ عليهمُ فكأنهُ ... لمعانُ برقٍ أو شعاعُ شُمُوسِ وقال: كان في خثعم رجلُ كان يقول " من الكامل ": لو كنتُ أنهضُ في المكارم صاعداً ... مثل انحداري كنتُ سيّدَ خثعم قال: فضرب الدهر من ضربه وتفانى القوم، فاحتاجوا إلى أن سوَّدوه عليهم، فكان يقول " من الكامل ": خلتِ الديارُ فسدت غير مسوَّدِ ... ومن الشقاء تفرُّدي بالسُوددِ 74 - ومن أخبار الشرْقيّ بن القطاميّ هو أبو المثنى الوليد بن الحصين بن جمال بن حبيب بن جابر بن مران - وهو مالك بن عمرو - النسابة، وكان أعور، كلبيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قال: أوّلُ قتيل قتل في الإسلام الحارث بن أبي هالة الأُسيدي، وكانت أمه خديجة، وولدت الحارث وهندا ابني هالة. وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أمر أن يصدع بما يؤمر قام في المسجد الحرام وقال: قولوا: لاإله إلا الله، تُفلحوا! فوثبت إليه قريشٌ، فأتى الصريخ أهله، فكان أول من أتاه الحارث بن أبي هالة، فضرب في القوم فصرفهم عنه، وعطفوا عليه فضربوه حتى قتلوه رحمه الله. وذُكر عن أبن عبَّاس أن قابيل لمَّا قنتل هابيل رثاه أبوه آدم عليه السلام فقال " من الوافر ": تغيَّرت البلادُ ومن عليها ... فلون الأرض مُغْبَرٌّ قبيحُ تغيَّر كُلُّ ذي طعمٍ ولونٍ ... وقَلَّ بشاشةَ الوجه المليحُ على هابيل لمَّا ان تولَّى ... وولت بهمه هملاً تسيحُ فلم يلبث قابيل بعده يسيراً حتى هلك، فأنشأ إبليس يقول " من الوافر ": دع الشكوى فقد هلكا جميعاً ... بهلكٍ ليس بالبيعِ الربيحِ فما يغني البكاءُ ولا البواكي ... إذا ما المرءُ غودر في الضريحُ فبك النفس منك ودع سواها ... فلست مخلَّداً بعد الذبيحُ قال: وكان الأصل: " وقلَّ بشاشة الوجه "، فترك التنوين وأعمله، ومثله قولُ عبيد الله بن قيس الرُذيَّات " من الخفيف ": كيف نومي على الفراش ولمَّا ... تشمل الشأمَ غارةٌ شعواءُ تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء أراد: " عن خدام العقيلة العذراء "، والخدام الخلخال؛ ومثله لأبي الأسود " من المتقارب ": فألفيته غير مستعتبٍ ... ولاذاكر الله إلا قليلا 75 - ومن أخبار معاذٍ الهَرّاءِ هو أبو عليّ - وقيل: أبو مسلم - معاذ بن مسلم من موالي محمّد بن كعب القُرظي، كان يبيع الهروي بالكوفة، وكان تاجراً نحوياً أستاذ الكسائي شيعياً، ولد في أيام عبد الملك. وممَّا هُجي به " من المنسرح ": إنَّ مُعاذ بن مسلم رجلٌ ... قد ضجَّ من طول عُمره الأبدُ يانسر لقمان كم تعيش وكم ... تأكلُ طُولَ الحياة يا لبدُ فهذه دارُ آدم خربت ... وأنت فيها كأنك الوتدُ تسأل غربانها إذا نعبتْ ... كيف يكون الصُداعُ والرمدُ ومات معاذ في تلك السنين، وأدرك أولاد أولاده رجالاً وماتوا كلُّهم قبله، وفي ذلك يقول " من المنسرح ": ما يرتجى بالعيش من قد طوى ... من عمره الذاهبُ تسعينا أفنى بنيه وبنيهم فقد ... جرَّعه الدهرُ الأمَرَّينا لابُدَّ أن يشرب من حوضهم ... وإن تراخى عمره حينا قال عثمان بن أبي شيبة: رأيت معاذ بن مسلم وقد شدَّ أسنانه بالذهب. - ومات سنة تسعين ومائة ببغداد رحمه الله تعالى. 76 - ومن أخبار أبي عمرو الشيبانيّ قال الجاحظ: كان أبو عمر إسحاق بن مرار الشيباني مولى وليس من بني شيبان ولكنه كان مؤدباً لأولاد بعضهم، فنسب إليهم كاليزيدي. هو راويةُ أهل بغداد، واسعُ العلم باللغة والشعر، ثقةٌ في الحديث، كثير السماع. له كتبٌ كثيرة في اللغة جيادٌ، منها " النوادر " ومنها " كتاب الحروف " الذي لقبه بالجيم، ومصنَّفات في خلق الإنسان والخيل والإبل وسائر فنون اللغة؛ وأُخذت عنه دواوين أشعار القبائل كلّها. وله بنون وبنو بنين يروون عنه كتبه، وكان ممن يلزم مجلسه ويكتب عنه الحديث أحمد بن محمَّد ابن حنبل. وقال: الضيون السَّنور، وأنشد " من الطويل ": خليليَّ عُوجاً من صدور الكوادنِ ... يُمالُ علينا من ثريدِ الحواقنِ ثَريدُ كأنَّ السَمْنَ في حجراتهِ ... نجومٌ الثريا أو عيونُ الضياونِ وقال ابن الأعرابيّ: هو دويبة تشبه السنَّور. قال عكرمةُ: قلتُ لابن عبَّاس: أرأيت ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت آمن شعره وكفر قلبه؟! قال: هو حقٌ، وما أنكرتم من ذلك؟ قلتُ: أنكرنا قوله " والشمس " " من الكامل ": والشمسُ تطلعُ كُلَّ آخر ليلةٍ ... حمراء تُصبحُ لونها يتوَّردُ ليستْ بطالعةٍ لهم في رسلها ... إلا معذبةً وإلا تُجلدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 مابال الشمس تجلد؟ قال: والذي نفسي بيده ما طلعت الشمسُ قطُّ حتى ينخسها سبعون ألف ملكٍ يقولون لها: اطلعي اطلعي! وتقول: لاأطلع على قوم يعبدونني من دون الله عز وجل! فيأتيها ملكٌ فيستفل لضياء بني آدم، فيأتيها شيطانٌ يريد أن يصَّدها عن الطلوع، فتطلع بين قرنيه، فيحرقه اللهُ تعالى تحتها. وما غربت قطُّ إلا خرت ساجدة لله عزّ وجل، فيأتيها شيطانٌ يريد أن يصدَّها عن السجود، فتغرب بين قرنيه، فيحرقه الله تعالى تحتها. وذلك قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملطلعت الشمس إلا بين قرني شيطانٍ ولا غربت إلا بين قرني شيطان. مات أبو عمرو الشيباني وأبو العتاهية الشاعر وإبراهيم الموصلي المغني والد إسحاق ببغداد في يوم واحد سنة ثلاث عشرة ومائتين رحمهم الله. قال ابن السكيت: مات أبو عمرو الشيباني وله مائةٌ وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات. 77 - ومن أخبار بُزُرخ العَروُضيّ هو أبو محمد بُزرخ بن محمد مولى بجيلة، وقيل: مولى كندة، كثير الحفظ وليس بصدوق. 78 - ومن أخبار أبي جعفر الرؤاسيّ هو أبو جعفر النيلي ابن أخي معاذ الهراء، وهم موالي محمد بن كعب القُرظي، وسُميّ الرؤاسي لكبر رأسه، وينزل النيل، فقيل: نيليٌّ، وكان أستاذ الكسائي والفراء، وكان رجلاً صالحاً. قال: بعث إليَّ الخليل فطلب كتابي، فبعث به إليه، ووضع كتاب العين. وإذا قال سيبويه في كتابه: قال الكوفي كذا، فإنما يعني به الرؤاسي. وهو أولُ من وضع النحو من الكوفيين، وعُمر إلى زمن الرشيد. وسئل الكسائي وابن إدريس عن الصمد فقالا: الذي تصمد الأمور إليه. وأنشد الكسائي في ذلك " من الطويل ": ألا بكَّرَ الناعي بخيري بني أسدْ ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد وسئل الرؤاسي فقال مثل ذلك، فقيل له: كيف جمعه؟ قال: جلَّ من سألت عن اسمه، لايثنى ولا يجمع. فقيل: إذا سُميَّ به مخلوقٌ؟ فقال: أصمادٌ وصمدان. وسئل عن قوله تعالى (وأنَّهُ تعالى جَدُّ ربنا) ، فقال: حكاه الله عن قيل جهلة الجن. 79 - ومن أخبار القاسم بن مَعْن هو أبو عبد الله القاسم بن معن بن عبد الرحمان المسعودي الهّذليُّ من فقهاء الكوفة، ولي القضاء عالماً بالشعر والأخبار والفقه والأنساب؛ وجدُّه عبد الرحمان هو ابن عبد الله بن مسعود صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله في اللغة " كتاب النوادر "، وأخذ عنه الليث بن المظفر صاحب الخليل النحو واللغة، وكان الفراء كثير الرواية عنه، وكان ثقة، وهو من أصحاب أبي حنيفة في الفقه، وكان عثمانياً. ومن شعره " من الكامل ": الرفقُ يبلغُ بالرفيق ولا ... ينفكُّ يُتعبُ أهله الخُرُقُ والكيس أبلغُ في الأمور ولا ... يبرأ لو داويته الحمق ما صِحةٌ أبداً بنافعةٍ ... حتى يصحَّ اللين والخُلُقُ قيل لعمر بن الخطاب: إن نساء بني مخزوم قد اجتمعن ونتخوَّف أن يؤذينك بأصواتهن. قال: لاعليهن أن يهرقن من دمعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقعٌ أو لقلقةٌ! قال القاسم: هو أبو سليمان خالد بن الوليد المخزومي والنقع الشق واللقلقة الصوت. قال القاسم: كانت أم سعيد بنت سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه عند هشام بن عبد الملك وطلقها، فتزوجها العبَّاس بن الوليد بن عبد الملك ثمّ طلقها وندم، فتزوجها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فدسَّ العبَّاس إليها أشعب بأبيات قالها وجعل له ألف دينار إن أنشدها إياها، فأنشدها، فقالت، له: دسَّك العبَّاس وجعل لك ألف دينار، فلك مثلها على أن تخبره بما أقول! ثمّ استنشدته، فلَّما قال " من الوافر ": أسعدهةُ هل إليكِ لنا سبيلٌ ... وهَلْ حتى القيامة من تلاق قالت: لا، إن شاء الله! فلمَّا أنشدها " من الوافر ": بلى ولعلَّ داركِ أن تؤاتي ... بموتٍ من حليلكِ أو فراقِ قالت: بفيك الحجر! فلمَّا أنشدها " من الوافر ": فأرجع شاكتاً وتقرَّ عيني ... ويشعبَ صدعنا بعد انشقاقِ قالت: بل يشمتِ اللهُ بك ويجمع شملنا! وقال ابن حبيبات الكوفي للقاسم بن معن القاضي " من المنسرح ": ياأيها العادلُ الموفَّقُ والقاسمُ بين ألراملِ الصدقةْ ماذا ترى في عجائز رزحٍ ... أمسينَ يشكون قلَّة النفقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ما إن لهنَّ الغداة من نشبٍ ... يُعرفُ إلا قطيفةٌ خلقة بناتُ تسعين قد خرقن فما ... يفصلن بين الشواء والمرقة فهنَّ لولا انتظارهنّ دنا ... نيرك قطعن بعد في السرقة فقال القاسم: العجب أنه يوجب علينا الدنانير ولا يوجب الدراهم. وأعطاه ثلاثة دنانير. عرض عبد الملك بن مروان الإسلام على الأخطل، فقال له الأخطل: إني امرؤ مشغوفٌ بالخمر، أفرأيت إن سلمت ثمّ شربتها؟ أتقرني وذلك؟! فقال له عبد الملك: لاأُحلُّ ما حرَّمه الله! فقال الأخطل: لاحاجة لي في دينك. فقال له عبد الملك: انعت لي مبلغ الطرب منك في الخمر ومبلغ لذّتك في شهواتك! فقال " من الطويل ": إذا مانديمي علَّني ثمّ علَّني ... ثلاث زجاجاتٍ لُهنَّ هديرُ خرجتُ أُجرُّ الذيلَ مني كأنني ... عليك أميرٍ المؤمنين أميرُ فقال عبد الملك: فإنا لانكرهك على دين الله. فقال الأخطل " من الوافر ": ولستُ بصائمٍ رمضانَ طوعاً ... ولستُ بآكل لحمَ الأضاحي ولستُ بقائمٍ كالعير أدعو ... إلى الصلوات: حيَّ على الفلاحِ ولستُ بزاجرٍ عيساً بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاحِ ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد عند منبلج الصباحِ خرج القاسم بن معن مع بعض أسباب الرشيد إلى الرقة، فمات برأس عين سنة خمس وسبعين ومائة. 80 - ومن أخبار أبي بكر بن عيَّاشٍ قيل: اسمه شُعبة، وقيل: عبد الله، وقيل: محمد، وقيل: مطرفٌ، وقيل: سالم، وقيل: عنترة، وقيل: لايعرف له اسم؛ وهو مولى واصل ابن حيَّان الأحدر الأسدي، ولد في زمن سليمان بن عبد الملك سنة سبع وتسعين. وقال: أنا أكبر من الثوري بسنتين. وكان ثقةً صدوقاً عالماً عارفاً بالحديث والعلم إلا أنه كان كثير الغلط، وهو من العبَّاد أحدُ قراه أهل الكوفة المشهورين، وكان يقدم عثمان على عليّ، ولايقول إلا خيراً. قال حفص بن عبيد: كنت عند عبد الله بن المبارك حين ماتت امرأته، فسألته: مالرضا؟ قال: إلا يتمنى خلاف حاله. قال: فجاء أبو بكر بن عيَّاش فعزَّى عبد الله، فقال لي عبد الله: سله عمَّا كُنَّا فيه! فسألته، فقال: من لم يتكلم بغير الرضا فهو راض. وقال: كنتُ إذا حزنت أمنع نفسي من البكاء حتى سمعتُ ذا الرمة ينشد بالكناسة " من الطويل ": خليليَّ عوجاً من صدور الرواحلِ ... بأكنافِ حزوى وابكيا في المنازلِ لعلَّ انحدار الدمع يعقب راحةٍ ... من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابلِ مثل هذا قول ابن كناسة وهي قصيدة طويلةٌ يرثى بها إسحاق بن القاسم بن محمد بن الأشث، أولها " من الكامل ": هل للنفوس من الحوادث من واقٍ ... أنَّى وليس على المنية باق منها: إنَّ السماحة والنزاهة والنهى ... كفنَّ في خرق عليك رقاقِ وإذا برزت به برزت بمرتدٍ ... منآزرٍ بمكارم الأخلاقِ ومنها: وإذا غشيتُ ديارهُ خنقتني ... حتى أحلل بالبكاء خناقي قال أبو بكر: فأصابتني بعد ذلك مصائب، فكنتُ أبكي فأستريح. ومات قبل موت الرشيد بشهر سنة ثلاث وتسعين ومائة، وفيها مات غندر وعبد الله بم إدريس، فكان عمرُ ابن عيَّاش ستَّاً وتسعين سنةً وقد كُفَّ بصره. ولمَّا حضرته الوفاة نظر إلى أخته تبكي، فقال لها: ممَّ تبكين؟ قالت لفراقك! قال: انظري إلى تلك الزاوية! فإن أخاك ختم فيها القرآن ثمان عشرة ألف ختمة. 81 - ومن أخبار الكسائيّ هو أبو الحسن عليّ بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز مولى بني أسد. قيل له: لم سُميت الكسائيَّ؟ قال: لأني أحرمت في كساء. وهو إمام أهل الكوفة في النحو والقراءة، أستاذ الفراء وعليّ بن المبارك الأحمر، ورد بغداد وأدب محمّد بن الرشيد. قال الجاحظ: تعلّم الكسائي النحو بعد الكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 جاء أعرابيٌ إلى الكسائي فقال: ما (كوكبٌ دُرّيٌّ) ودريّ ودريُّ؟ قال: دُرّيٌّ يشبه الدُرَّ ودَرّيٌّ يلتمع ودرّي جادٍ. قال: أنت أعلم الناس! ومضى. - قيل لأبي عمر الدوري: لم صحبتم الكسائي؟ وفيه من المجانة والخلاعة والمجاهرة بشرب النبيذ ومداعبة الغلمان ومخالطتهم، مافيه؟! قال: لضبطه القراءة وعلمه بالعربية وصدقه الحديث. قال الكسائي: أحضرني الرشيدُ في سنة اثنتين وثمانين ومائة - وهي السنة الثالثة عشرة من خلافته، فأخرج إليَّ محمَّداً الأمين وعبد الله المأمون كأنهما بدران، فقال: امتحنهما بشء! فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، فقال لي: كيف تراهما، ياعليُّ؟ فقلتُ " من الطويل ": أرى قمري أفقٌ وفلاعي بشامةٍ ... يزينها عرق كريمٌ ومحتدُ يسدانِ آفاق السماءِ بهمةٍ ... يؤيدها حزمٌ ورأيٌ مُسدَّدُ سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريثِ ما أبقى النبيُّ محمَّدُ حياةٌ وخصبٌ للوليِّ ورحمةٌ ... وجدبٌ لأعداء وعضبٌ مهنَّدُ هذان، ياأمير المؤمنين، فرع رسا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت فروعه، وعذبت مشاربه، وأورق غصنه، وأينع ثمره، وزكا فرعه، أداهما ملك أغر نافذ الأمر واسع العلم عظيم الحلم، أعلاهما فعلوا، وسما بهما فسموا، فهما متطولان بطوله، ومستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، فأمتع اللهُ أمير المؤمنين بهما وبلغه الأمل فيهما! فقال الرشيد: تعهدهما! قال الكسائي: فكنتُ أختلفُ إليهما. وكتب الكسائي إلى الرشيد وهو يؤدب محمداً " من الكامل ": قُلْ للخليفة ما تقولُ لمن ... أمسى إليك بحرمةٍ يُدلي مازلتُ مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي وعلى فراشي من ينبهني ... من نومتي بقيامه قبلي أسعى برجلٍ منه ثالثةٍ ... نقصت زيادنها من الرجل فامنن عليَّ بما يسكنه ... عني وأهد الغمد للنصل فضحك الرشيد وأمر له ببرذون بسرجه ولجامه وجارية حسناء بآلتها وخادم وعشرة آلاف درهم. وقال الكسلئي للرشيد: ليس أحدٌ يلحن في الدنيا ولاشيء من كلام الناس إلا وله وجه صحيحٌ، لايعلمون ما يعنون. ثمّ إنه كان يوماً مع الرشيد في موكبه، فسمع الرشيد صاحب باقليّ يقول: المقلي المقلي! فدعا الكسائي فقال له: زعمت أنه ليس أحدٌ يلحن، فما معنى هذا المقلي؟ وإنما يريد: مَقُلَّوا! وقال: ياأمير المؤمنين، إنما يعني هذا أنّ الناس قد قلوه من القلى وهجروه ولكنه لايعلم. دخل أبو يوسف الفقيه على الرشيد وعنده الكسائي يحدثه، فقال: ياأمير المؤمنين، قد سعد هذا الكوفيّ بك وشغلك. فقال الرشيد: النحو أستعين به على القرآن والشعر. فقال الكسائي: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له بجوابي عن مسألة من الفقه؟ فضحك الرشيد وقال: أبلغت - ياكسائي - إلى هذا، قل! فقال الكسائي: ماتقول في رجلٍ قال لامرأته: أنتٍ طالقٌ أن دخلت الدار؟ قال أبو يوسف: إذا دخلت طلقت. فقال الكسائي: أخطأت! إذا فتحت " ان " فقد وجب الأمر لأن " أن " بالفتح لما قد كان، وإذا كسرت فلم يقع بعد. فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو. وقال: اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: وماالنحو؟ فأردت أن أعلمه فضل النحو فقلت: ما تقول في رجلٍ قال لرجل: أنا قاتلُ غلامك! وقال آخر: أنا قاتلٌ غلامك! أيهما كنت تأخذ به؟ آخذهمت جميعاً! فقال الرشيد: أخطأت - وكان له علمٌ بالعربية - فاستحيي وقال: كيف ذلك؟ فقال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامك بالإضافة لأنه فعلٌ ماضس، وأما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامك بالنصب فلا يؤخذ لأنه مستقبل لم يكن بعد، كما قال الله عزّ وجل: (لاتقولنَّ لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غَداً إلا أنْ يشاءَ اللهُ) ، ولولا أن المنون مستقبل ماجاز فيه غداً. فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح النحو والعربية. سأل الرشيد عن بيت الراعي وفي المجلس الأصمعي والكسائي " من الكامل ": قتلوا ابنَ عفّان الخليفة مُحرماً ... ودعا فلم أرَ مثله مخذولاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 مامعنى محرما؟ فقال الكسائي: أحرم بالحج. وقال الأصمعي: ماكان أحرم بالحج ولاأراد الشاعر أنه أيضاً في شهر حرام، فيقال: أحرم الرجلُ إذا دخل فيه كما يقال: أشهر إذا دخل في الشهر وأعام إذا دخل في العام. فقال الكسائي: ماهو غيرُ هذا وماأراد ذلك؟! فقال الأصمعي: ماأراد عديُّ ابن زيد بقوله " من الرمل ": قتلوا كسرى بليلٍ محرماً ... فتولَّى لم يُمتَّعْ بكفنْ أإحرام لكسرى؟! فقال الرشيد: فما المعنى؟ قال: كلُّ من لم يأت شيئاً يوجب عليه عقوبة فهو محرم، لايحلُّ منه شيءٌ. فقال الرشيد؟ ما تطاق في الشعر، ياأصمعي! وقال الكسائي: كنتُ داخلاً إلى الرشيد، فقام أهرابيٌّ فقال: أبا الحسن، أبلغ أمير المؤمنين ماأنشدك. قلت: هات! فأنشدني " من الطويل ": ونحنُ أناسٌ لادراهمَ عندنا ... وللناس أخبازٌ وليس لنا خبزُ فجمع الخبز وهو جنس، ونحن أثافي القدر والأكل ستةٌ ... جراضمةٌ جُوفُ وأكلتنا اللبرُ يريد أنهم في العدد ثلاثةٌ، وأكله أكل ستةٍ، والجراضمة الذين يأكلون جميع ماعلى المائدة، والجوف الذين لايشبعون أبداً، والبز القفر من الأرض، لنا أعْنُزٌ لبنٌ ثلاثٌ فبعضها ... لأولادنا ثنتنا وفي بيننا عنزُ فحذف النون من ثنتا وأراد ثنتان، وخفض بيننا لأنه أدخل صفة على صفة، وقوله: (قُلْ كلٌّ مِن عند اللهِ) حجةٌ في إدخال صفة على صفة. قال الكسائي: فاستفدت في هذه الأبيات عدة مسائل. لما دخل الكسائي البصرة جلس في حلقة يونس ينتظر خروجه، فسأله ابن أبي عيينة عن أولقٍ: هل ينصرف؟ فقال: أولق أفعلُ لاينصرف. فقال له ابن أبي عيينة: خطأٌ، والله! وخرج يونس فسئل عنه فقال: هو فَوْعَل وليس بأفعل لأن الهمزة فاءُ الفعْل، لأنك تقول: س أُلقَ الرجلُ فهو مألوق، فتثبتُ الهمزة وكذلك أرنب ينصرف فَعْلَلُ لأنك تقول: أرضُ مُؤَرْنَبةٌ، فتثبتُ الهمزة. وقال: المألوق المجنون. قال الأمصعي: كان الكسائي يأخذ اللغة عن أعراب الحطمة كانوا ينزلون قُطْرُبُّل وغيرها من سواد قرى بغداد. قال: فلمَّا ناظر الكسائي سيبويه استشهد بكلامهم واحتج بهم وبلغتهم على سيبويه. فقال اليزيدي في ذلك " من السريع ": كُنَّا نقيسُ النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأولُ فجاءما قوم يقيسونه ... على لُغى أشياخ قُطْرُبُّلِ فكُلُهم يعملً في نقض ما ... به يصاب الحقُ لا يأتلي إنّ الكسائي وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفلِ ولأبي نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي " من الرمل ": أفسد النحو الكسائي ... وثنى ابن غزاله وأرى الأحمر تيساً ... فاعلفوا التيس النخاله قال أبو زبد: قدم سيبويه على البرامكة، فجمع يحيى بينه وبين الكسائي، فلمّأ حضر أقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ قال: لابل سلني أنت! فقال له الكسائي: قد كنتُ أُظنُّ أنّ العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي! ولايجوز النصب! فقال له الكسائي: لحنت! ثمّ سأله مسائل من هذا النوع، قال: خرجت فإذا عبد الله القائمَ أو القائمُ؟ فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع دون النصب. فقال الكسائي: ليس هذا كلام العرب. فقال لهما يحيى: قد أختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال الكسائي: هذه العرب ببابك، قد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين. فأمر بإحضارهم وفيهم أبو فقعس وأبو دثار وأبو الجراح وأبو ثروان، فسئلوا عن المسائل، فتابعوا الكسائيَّ وقالوا بقوله. ثمّ قال الكسائيّ ليحيى: أصلح اللهُ الوزير وفد عليك من بلده مؤملا، فإن رأيت أن لاترده خائباً؟ فأمر له بعشرة آلاف درهم. فخرج وصير وجهه إلى فارس ولم يعد إلى البصرة. - قال ثعلب: إنما أدخل سيبويه العماد في قوله: فإذا هو إياها لأن " فإذا " مفاجأة، أي فوجدته ورأيته، ووجدت ورأيت ينصب لشيئين ويكون معه خبر، فلذلك نصبت العرب. قال الكسائي: غطيت الشء وغطيته، وأنشد " من الخفيف ": رُبَّ حِلمٍ أضاعه عدم الما ... ل وجهلٍ غطى عليه النعيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وقال الكسائي: الأطعمة التي يدعها إليها: الوليمة وهي في العرس، والمأدبة وهي في العرس وغيره، والإعذار وهي طعام الختان خاصة، والخرس الطعام على ودلاة المرأة خاصة يدعى إليها الرجال، والتوكير طعام يجعله المرء إذا فرغ من بناء داره أو بيته، قالوا: وكر لنا! والخرسة ما يصنع للمرأة عند ولادتها نصيبها من الحلبة، والحشيشة مخلوطة بتمر فتحساه المرأة في نفاسها، والنقيعة إذا قدم الرجل من سفر، قالوا: أنقع لنا! فينحر لهم، وهي تسمى نقيعة القُدام من الأسفار قال فيها مهلهل " من الكامل ": إنا لنضربُ بالسيوفِ رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام وقال أبو الجراح يمدح الكسائي " من الطويل ": ضحوك إذا زُفَّ الخوان وزروه ... يُحيَّى بأهلاً مرحباً ثمّ يجلس أبا حسنٍ ما جئتكم قطُّ مطفئاً ... لظى الشوق إلا والزجاجة تقلس قال يعقوب: يريد تمتلئ حتى تفيض. وحكي عنه أنه أقام غلاماً ممن عنده في الكتَّاب وقام إليه يفسق به، فجاء بعض الكتَّاب ليسلم عليه، فرآه الكسائي ولم يره الغلام، فجلس الكسائي في مكانه وبقي الغلام قائماً، فقال الرجل: مابالُ هذا الغلام قائماً؟ فقال الكسائي: وقع الفعل عليه فأنتصب. قال الكسائيُ: حكى لي أبو إسحاق الفزاري أنّ أسماء بن خارجة الفزاريَّ دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: ياأسماء، إنه ليبلغني أشياء حسانٌ فأخبرني بهن! فقال: ياأمير المؤمنين، يخبرك بذلك غيري فهو أحسن! قال: أقسمت عليك لتجيرني! قال: ماقدمت رجلي بين يدي جليس قطُّ مخافة الاستطالة عليه ولا دعوت أحداً إلى طعام فأجابني إلا رأبت له الفضل عليَّ ماعاش وعشت، وماأتاني أحدٌ في حاجةِ فرأيت شيئاً من عرض الدنيا له مكافأة ببذل وجهه إليَّ. فقال عبد الملك: والله ما ألوم قومك حيث يسودونك. قال سليمان بن عبد الملك: يا امير المؤمنين، هل بلغك ما صنع؟! ال: وما صنع؟ فقال: اتاه الفرزدق في دية، فأعطاه اياها، ثم اقسم على بنيه أن يعطوه كما اعطاه، فخرج الفرزدق من عنده بخمس ديات، قال فهل قال فيه شيئاً. قال: نعم. قال: وما قال قال: قال: إاذا فقد ابن خارجة بن حصن ... فلا مطرت على الار السماء ولا قدم البشير بغنم وفد ... ولا حملت على الطهر النساء فيوم منك خير من رجال ... كثير عندهم نعم وشاء فبورك في بنيك وفي ابيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء قال الكسائي: رأيت أعرابياً يتوضأ للصلاة في غداة باردة، فلما أتموضوءه قلت له: إن هذا لا يجزيك! فقال لي: إن المطالب كريم! ثم صلى قاعداً وقال: اليك اعتذاري من صلاتي قاعداً ... على غير طهر مؤمنا نحو قبلتي فوجهي لا يقوى على الماء بكرة ... ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي ولكنني احصيه يا رب جاهداً ... واقضيكه إن عشت في وجه صيفتي توفي الكسائي بالري بقرية منها، يقال لها: رنبويه، هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد، وصلى عليهما الرشيد وقال: دفنت اليوم الفقه والنحو بالري. وذلك في سنة تسع وثمانين ومائة. ورثاهما اليزيدي بقصيدته التي اولها: أسيت على قاضي القضاة محمد ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد فقال له الرشيد: يا يزيدي، لئن كنت تسئ بالكسائي في حياته لقد أحسنت بعد موته. ومن اخبار ابي هلال المحاربي واسمه لقيط بن بكير من رواة الكوفة، له كتاب مصنف في الاحخبار مبوب في كل فن، وله اشعار في المهدي والرشيد. وقال: قال خالد بن كلثوم: أحسن ما قيل في وصف مشي المرأة قول قيس بن الخطيم: تمشي كمشي المبهور في دهس الرمل الى السهل دونه الجرف قلب: وسألت عن ذلك ابن سهل رواية الكميت، قال: بل قول الكميت: يمشين مشي قطا البطاح تأوداقب البطون رواجح الأكفاليرمين بالحدق القلوب فما ترىإلا صريع هوى بغير قتال 83 - ومن اخبار ابي المنذر هشام بن محمد الكلبي كان يحيى بن معين يحسن الثناء عليه، وكان أحمد بن حنبل يكرهه، طلب ابو نؤاس عن هشام أنساب مذحج وسعد العشيرة، فوعده فلواه وأبطأ عنه، فكتب اليه ابو نؤاس: أبا منذر ما بال أنساب مذحج ... محجبة دوني وأنت صديق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فأن تأتني تربح ومدحتي ... وان تأب لا يسدد علي طريق قال يعقوب بن السكيت: قال ابن الكلبي: بيوت العرب ستة: قبة من ادم ومظلة من شعر وخباء من صوف وبجاد من وبر وخيمة من شجر واقنة من حجر. وكان يقول: قنة، فقلت له في ذلك، فعاد إلى أقنة. وقال الجمال في الانف والملاحة في الفم. وقال: لما ثقل الامر على معاوية بن ابي سفيان ويزيد غائب فأقبل وجدعثمان بن محمد بن ابي سفيان بالباب جالسا، فأخذ بيده، فدخلا على معاوية، فأذا هويجود بنفسه، فكلمه فلم يكلمه، فبكى يزيد ثم قال: لو مات شئ يرى لفات ابو ... حيان لا عاجز ولا وكل الحول القلب الاريب وهل ... يدفع ريب المنية الحيل قال: فتضور معاوية وقال: أي شئ قلت بني؟ قال: لا شئ، كلمت عثمان بن محمد! قال: فأغمي عليه ثم افاق ثم تمثل بالبيتين كأنه قد سمعها، ثم قال لي: يا بني، إن اعظم ما أخاف الله فيه ما كنت أصنع بك، يا بني. اني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكان إذا قضي الحاجة وتوضأ أنا الذي كنت اسن عليه الماء، فنظر الى قميصي وقد تخرق من عاتقه، فقال: الا اكسوك، يا معاوية؟؟! قلت: بلى يا رسول اللهّ فكساني قميصاً، لم البسه ألا لبسة واحدة وهو عندي، واجتز ذات يوم ونقلم، فأخذت شعره واظافره وهما عندي، فأذا مت فضعه على عيني ومنخري وفمي، ثم اجعل قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم شعاراً لي، ثم كفنني إن نفع شئ، نفع هذا! قال: وكان يجود بنفسه يوقول: إن تناقش يكن نقاشك يا رب ... عذاباً لا طوق لي بالعذاب او تجاوز فأنت رب رحيم ... عن مسئ ذنوبه كالتراب 84 - ومن اخبار الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن الطائي كنيته ابو عبد الرحمن، كان من علماء الناس بالشعر رواية قال: حدثني ابو جعفر المنصور قال: حدثني ابو جعفر المنصور قال: حدثني ابي محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال: حججنا زمن عبد الملك بن مروان ومعنا رجل من كلب ومعه بنت عم له جزلة عاقلة. قال: رآها عمر بن ابي ربيعة فجلس اليها في الطريق فقال: يا هذه غنه قد خامر قلبي منك شر! فسكتت، فعاد فسكتت، فعاد فقالت: يا هذا إن الحر لا يصنع ما صتنع! أتحب ان ينال هذا من اختك او امراتك؟! فقال لمولى له: اما إذ تكلمت فقد ظفرت بها. فقالت لابن عمها: أحب ان اروح معك الى المسجد. قال ولم؟ قالت: اتوكأ عليك فقد شق علي المشي. قال: فخرج وخرجت معه متوكئة عليه. قال: وعمر جالس في الطريق، فلما رآها وثب وولى، فقالت: ايها الرجل على رسلك مكانك وانشدت: تغدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتثقي مربض المستأسد الحامي قال الهيثم: قال لي يوماً المهدي: ويحك إن الناس يخبرون عن الاعراب بسخاء ولوم، وقد اختلفوا في ذلك، فما عندك؟ فقلت: على الخبير سقطت! أخبرني ابي قال: خرجت اريد ديار قرابة لي، ومعي بعير عليه زادي وناقة اركبها، فبينا انا اسير إذ ند البعير فذهب، فجعلت اتبه اثره حتى امسيت، فنظرت فأذا خيمة اعرابي، فأتيتها، فقالت ربة الخباء، من انت؟ قلت: ضيف. قالت: وما يصنع الضيف عندنا؟ ان الصحراء لواسعة! قال: ثمقامت الى بر فطحنته، ثم اعتجنت وخبزت، ثم قعدت وأكلت، ولم البث ان جاء زوجها معه لبن فسلم، ثم قال: من الرجل؟ فقلت: ضيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 قال: حياك الله! ثم قال: يا فلانة اطعمت ضيفك شيئاً؟ قالت: نعم. فدخل الخباء فملأ قعباً من لبن، ثم اتاني به وقال: اشرب! فشربت شرباًهنيئاً، فقال: ما اراك اكلت شيئاً وما اراها اطعمتك. فقلت لا والله. فدخل اليها مغضباً فقال: ويلك أكلت وتركت ضيفك! فقالت: وما اصنعبه، اطعمه طعامي؟! وجاراها في الكلام حتى شجها، ثم اخذ شفؤة وخرج الى ناقتي فنحرها، فقلت: وما صنعت؟ عافاك الله! قال: والله لا يبيت ضيفي جائعا. ثم جمع حطباً وأجج نارا واقبل يكبب ويطعمني ويأكل ويلقي إليها ويقول: كلي لا اطعمك الله حتى اصبح. ذهب وتركني، فقعدت مغموماً، فلما تعالى النهار أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر إن ينظر اليه، فقال لي: هذا مكان ناقتك! ثم زودني من ذلك اللحم ومما حضره، وخرجت من عنده. فضمني الليل الى خباء، فسلمت، فردت صاحبة الخباء. وقالت: من الرجل: فقلت: ضيف. فقالت: مرحباً بك، حياك الله، انزل، عافاك الله! فنزلت، فعمدت الى بر فطحنته ثم اعتجنت ثم خبزت خبزة روتها بالزبد واللن، ثم وضعتها بين يدي وقالت: كل واعذر! فلم البث ان اقبل اعرابي كريه الوجه فسلم، فرددت. فقال: من الرجل؟ فقلت: ضيف. فقال: ما يصنع الضيف عندنا؟ ثم دخل الى اهله فقال: اين طعامي.؟!. فقالت اطعمته الضيف. فقال: اتطعمين طعامي الضياف؟! فتجاريا الكلام، فرفع عصاه فضرب بها رأسها فشجها. قال: فجعلت اضحك، فقال: ما يضحكك؟ فقلت: خبر. فقال: شد لتخبرني! فأخبرته بقصة المرأة والرجل اللذين نزلت عليهما قبله، فأقبل علي وقال: إن التي عندي والله اخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده اختي، فبت متعجباً، ثمانصرفت. دخل مروان بن ابي حفصة على ابي يوسف القاضي وعنده الهيثم بن عدي وعاصم الغساني، فسأل حاجة، فلم يقضها له، فخرج وهو يقول: " من الرجز ": هذا لعمري مجلسٌ دنيءُّ ... ثلاثةٌ كُلُهمُ دعيُّ فبلغ ذلك الهيثم فقال " من الرجز ": مروانُ عِلجٌ ليس بالقويِّ ... ولا بمرضيٍ ولا زكيِّ وقال أبو الهول الحميري فيه، وقيل: لبي نواس " من البسيط ": الحمدُ للهِ هذا أعجبُ العجبِ ... الهيثمُ بن عديِ بُحترٌ عربي إن كان من طلب الأنسابَ من كُتُبٍ ... حتى تُحوله نبعاً عن الغربِ فهؤلاءِ الكيميائيون ما لهم ... ممَّا يقلاقون طول الدهرِ في تعبِ هيهات هيهات قد طال العناءُ بهم ... لم يخلقوا ذهباً إلا من الذهب والهيثم بن عُديِ من تنقلَهِ ... في كل يوم له رَحْلٌ على قتب فما يزال أخا حلٍ ومرتحلٍ ... إلى الموالي وأحياناً إلى العرب منها: للهِ أنت فما قُربى تَهُمُّ بها ... إلا اجليت لها الأنسابَ من كثبِ وحضر أبو نواس مجلسه، فقصر في حقه لم يحتشمه، فقال " من الوافر ": أتيتُ الهيثمّ بن عديِّ أرجو العلومَ وكنتُ أمحضهُ الصفاء فأعرض هيثمٌ لمَّا رآني ... كأني قد هجوت الأدعياءَ وقال الهيثم: لمَّا ولي عبد الله بن شبرمة القضاء ركب لحاجة، فلمَّا أراد النزول عن البغلة وثبت فرمت به، فدخلنا عليه نعوده، وجاء رجلٌ يُكنى أبا المثنى سليطيٌّ، فلمَّا رآه ابن شبرمة قال: مرحباً ارتفع! فرفعه معه على السرير، فأنشأ أبو المثنى يقول " من المتقارب ": أقولُ غداة أتاني الخبرث ... فدسَّ أحاديثه هيثمهُ لك الويلُ من مخبرِ ماتقول ... أبن لي وعدٍ عن الجمجمه فقال: خرجت وقاضي القضا ... ة منفكةٌ رجله مؤلمهُ فغزوان حُرّق وأُمُّ الوليدِ ... إن اللهُ عافى أبا شُبرمَهْ جزاء لمعروفه عندنا ... وما عتقُ عبدٍ له أو أَمَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 قال الهيثم: فما زلتُ من غزوان وأُمّ الوليد في عجبٍ وهو جاري جارُ الجنب، فما أعرف له عبداً ولاأمة، فلمَّا خرج أخذت بيده فقلت: ياأبا المثنَّى، من غزوان وأم الوليد؟ فواللهِ ما عرفتها لك قبل ساعتيّ فقال: استر عليَّ، هما سنَّوران في بيتي! قال الهيثم: قال لي: اشعب، ياأبا عبد الرحمان! لقد أحرزت في يدي اثني عشر ألف دينار. قلتُ: فأتقِ اللهَ ولا تسأل الناس! فقال: ويحك إني قد أحكمت المسألة إحكاماً، أكره أن أُضيعها فقد حذقتها. وقال: أولُ من ضرب الدراهم المدوَّرة عبد الله بن الزبير، وكتب على أحد الوجهين: " محمدٌ رسول الله "، وعلى الوجه الآخر: " أمر اللهُ بالعدل والوفاء ". فلمَّا قتله الحجَّاج أمر بدراهمه فقطعت، وكتب إلى الأمصار أن اضربوا هذه الدراهم التي عليها " هو هو اللهُ أحد ". وكان على بيت المال رجلٌ من طيء يقال له سُميرٌ، فأمره وأعطى الناس، فجعلوا يقولون: دراهمُ سُميريّةٌ! فلذلك سُميت. وقيل للهيثم: لم كره الناس البناء في شوال؟ فقال: مات فيه في الطاعون الجارف بضعة عشر ألف عروسٍ، فتطيَّر الناسُ منه. توفيَ الهيثم بن عدي بفمٍ الصلح غُرة المحرَّم سنة سبع ومائتين. 85 - ومن أخبار ابن كناسةً هو أبو يحيى محمد بن عبد الأعلى بن كناسة الأسدي من بني نصر بن قُعين، من شعراء الكوفة وعلمائهم الرواة للحديث والأخبار والشعر، وقيل: هو أبو يحيى محمَّد بن عبد الله بن كُناسة بن عبد الأعلى بن عبد الله ابن خليفة بن زهير بن نضلة بن أنيف بن مازن بن كعب بن رويبة بن أسامة بن نصر بن قعين، كذا هو في هذا النسب والصحيح أن كناسة هو عبد اللهُ أبو محمد كُناسة. - ويقال إنَّ أُمَّه رأت وهي حامل به كأنها وجدت في كناسة سواراً، ويقال: كان آخر أولادها كأنه كناسة بطنها. مات له ولدٌ اسمه يحيى، فقال فيه " من الطويل ": تفاءلتُ لو يغني التفاؤلُ باسمهِ ... وما خلت فألاً قبل ذاك يفيلُ فسميَّته يحيى ليحيى ولم يكن ... إلى قدر الرحمان فيه سبيلُ قال محمد بن سعد: ابنُ كُناسة الأسدي من أنفسهم، وهو ابن أخت إبراهيم بن أدهم الزاهد. روى عن الأعمش وهشام بن عروة، وكان عالماً بالعربية وأيامِ الناس والشعر. - قال يحيى بن معين: هو ثقةٌ. - وقال ابن المديني: هو ثقة صدوق. مرّ ابنُ كناسة وبيده بطنُ شاةٍ يحمله، فقال له رجلٌ: ياأبا يحيى، إليَّ أحمل عنك! فقال: لا " من الرجز ": ما نقصَ الكاملَ من كمالهِ ... ما جَرَّ من نفعٍ إلى عيالهِ قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: كنتُ عند ابن كناسة يوماً في شهر رمضان، فاشتد الحرُ والعطش، فشكوت إليه ذلك، فأنشد " من البسيط ": بين العشاء وبين العصر منزلةٌ ... يكادُ يذبحُ فيها الصائمَ العطشُ قال يحيى بن معين: سمعتُ محمّد بن كناسة ينشد لنفسه " من المنسرح ": فيَّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ... جالستُ أهلَ الوفاء والكرمِ أرسلتُ نفسي على سجيتها ... وقلت: ماشئت غير مُحتشمِ قال: قدم إبراهيم بن أدهم الكوفة، فبعثتني أمي إليه بهديَّة، فقبلها ولمَّا مات رثاه محمد فقال " من الطويل ": رأيتك لايكفيك مادونه الغنى ... وقد كان يكفي دون ذاك ابن أدهْما تخلَّى من الدنيا وكان بمنظرٍ ... ومسمتعٍ منها أنيقٍ وأنعما وكان يرى الدنيا صغيراً كبيرها ... وكان لحق الله فيها معظما وللحلم سلطانٌ على الجهل عنده ... فما يستطيع الجهلُ أن يترمرما وأكثر ما يُلقى على القوم صامتا ... فإن قال بذَّ القائلين وأحكما يُرى مستكيناً خاشعاً متواضعاً ... وليثاً إذا لاقى الكريهةَ ضيغما وقال الموصليُّ: أنشد ابن كناسة " من المنسرح ": أبعطت من يومك الفرار فما ... جاوزت حتى انتهى بك القدرُ أبعطت بمعنى أبعدت، أراد: أسرفت في التباعد، لو كان ينجي من الردى حذرٌ ... نجَّاك ممَّا أصابك الحذَرُ يرحمك اللهُ من أخي ثقةٍ ... لم يك في صفو ودهِ كدرُ فهكذا يفسدُ الزمانُ ويفنى ... العلمُ منهُ ويدرسُ الأثرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أخذ هذا المعنى من كلام عبد الله بن العباَّس وقد دُلي زيد بن ثابتٍ في قبره، قال: من سرَّه أن يرى كيف ذهاب العلم فكذا ذهابه. وقيل: إنه في 'سماعيل بن زيد بن حماد. وقال: كانت العرب تُسمي ليالي الشهر عشرة أسماء، لكلّ ثلاثٍ منها اسمٌ، فالثلاثُ الأولُ الغُرر وذلك أن أول كلّ شيءٍ غُرته، ثمّ النفلُ ومعنى النُفل أنّ العرب كانت تصوم الغرر كأنها وظيفة عليها والنفل شبه النافلة، ثمّ الدرع ومعنى الدرع أنّ الأرض قد لبسها القَمَرُ، ثمّ العُشر لقولك عشرة إحدى عشرة اثنتي عشرة، ثمّ البيض فإنها من أول الليل إلى آخره قَمَرٌ، ثمّ الظُلّم، ثمّ الحندس أشدُ ظلمةً من الظُلم، والدآدي والمُحاق، فادآدئ كأنه وقع في القمر الداءُ فهو يذهب، والمُحاق آخر الشهر إذا وقع فيه المحاق، والعاشرة - أي تمام الثلاثين - الفلتة ومعناها أن ليس كلُّ شهر يتمُّ فإذا أتمّ سمَّوه الفلتة. وقال محمّد بن كناسة " من الطويل ": تعلمْ فليس المرءُ يُخلقُ عالماً ... وليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ وإنّ كبير القوم لاعلمَ عنده ... صغيرٌ إذا ألتفَّتْ عليه المحافلُ وقال رحمه الله تعالى " من الطويل ": وما أنا فيما أُخرجتُ داخلٌ ... ولا أنا عمَّا حيزَ دوني بسائلِ إذا المرءُ يوماً أغلق الباب مُرتجاً ... ليستر أمراً كنتُ كالمتغافلِ وأُعرضُ حتى يحسبَ المرءُ أننيّ ... جهلتُ الذي يأتي ولستُ بجاهلِ وإني لأغضي عن أمورٍ كثيرةٍ ... وفي دونها قطعُ الحبيبِ المواصلِ حفاظاً وضناً بالإخاء وعقدةً ... إذا ضيَّع الإخوان عقد الحبائلِ وقال " من الكامل ": أسدٌ على أعدائه ... ما إن يلينُ ولايهونُ فإذا تمكنَّ منهمُ ... فهناكَ أحلمُ ما يكون وقال: العسبار ولدُ الضبع من الذئب والسمع ولدُ الذئب من الضبع. - ومن بارع شعره " من الطويل ": على حين أن شابت لداتي ولم أشبْ ... فمنها لحىً مبيضةٌ وقرونُ وناصيتُ رأس الأربعين فأقبلت ... قساوةُ جِنيِّ الشبابِ تلينُ إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له: كُن! قولةً فيكونُ ويعني الفتى بالأمر ما لم يكن ... من الله في الدنيا عليه مُعينُ وقال " من الرمل ": حسدوا النعمةَ لمَّا ظهرتْ ... فرموها بأباطيلِ الكَلِمْ وإذا ما اللهُ أسدى نعمةً ... لم يضرْها قولُ حُسَّاد النعمْ وقال " من الوافر ": ومن قرأ الكتاب فأدبته ... من الفرقان آي محكماتُ وجالس عليه العلماء حتى ... وعى ماثور قولهم فماتوا وطالبَ سائر الآداب حتى ... تقصر عن مبالغة الصفاتِ روى فوعى وقال فساعدته ... ينابيعُ الكلامِ المعجباتُ فإن يك بعدُ مثقياً تكاملْ ... له المتخيَّرات الصالحات وإلا فهو مأفونٌ شقيٌّ ... بما سعدت به قبل النجاةُ وقال ابن عبَّاس في قوله: (وإذ ابْتلَى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فأتمَّهُنَّ) ، قال: خمسٌ في الرأس وخمس في الجسد، فأما اللواتي في الرأس فالمضمضمة والاستنشاق وقصُّ الشارب والفرْق والسواك، وأما اللواتي في الجسد فالختان والاستنجاء والاستحداد ونتف الإبط وقص الاظافر. توفيّ ابن كناسة رحمه الله في شوال من سنة سبع ومائتين وهو ابن أربع وثمانين سنة. 86 - ومن أخبار الأحْمر غُلام الكسائي هو أبو الحسن عليّ بن المبارك، كان مؤدب محمّد بن زبيدة بعد الكسائي لأن الكسائي كان قد أصابه وضحٌ، فقالت له أمّ جعفر: أجلس بعض أصحابك مع ابني للعلَّة التي كانت به لئلا يُعديه! فأجلس معه الأحمر. - وقال: جَمْعُ المقصور ممدوداٌ أبداً، مثلُ (والملكُ عَلَى أرجائها) ، فالواحد منه رجاً، وهي الناحية. توفي الأحمر سنة أربع وتسعين ومائة. 87 - ومن أخبار أبي زكرياء الفرّاء واسمه يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي مولى بني عبس، وكان يميل إلى الاعتزال. وقال الفراء: أموتُ وفي نفسي من " حتى " شيءٌ لأنها تخفض وترفع وتنصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وتوفيّ الفرّاء رحمه الله سنة سبع ومائتين وله سبع وستين سنة. 88 - ومن أخبار هشام النحويّ هو هشام بن معاوية الضرير النحويّ الكوفيّ، كان يؤدب ولد فرج الرخجيّ. مات رحمه الله سنة تسع ومائتين. 89 - ومن أخبار ابن الأعرابيّ هو أبو عبد الله محمّد بن زياد الأعرابيّ، وكان زيادٌ أبوه عبداً سندياً مملوكاً لسليمان بن مجالد، وكان سليمان من أهل بلخ، وقيل: مولى العبَّاس بن محمد. وكان أحول أعرج، وكان مؤدباً ناسباً عالماً بالشعر واللغة نحويَّاً كثير السماع من المفضّل راوية لشعر القبائل. وكان المفضل الضبيَّ زوج أمّ ابن الأعرابيّ. قال ابن الأعرابيّ: ولدتُ ليلةُ توفي أبو حنيفة لإحدى عشرة ليلةً خلت من جمادى الأولى سنة خمسين ومائة. ومات لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان عمره إحدى وثمانين سنةً وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وغُنّي الأخطل في مجلس الواثق " من البسيط ": وشاربٍ مُربْحٍ بالكأسِ نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسَّوارِ فقيل: سأ ار. فوجه إلى الأعرابي، فقالك بسَّوار! يريد: بوثاب يثبُ على ندمائه، وسأ ارٌ أي لايفضل في القدح سُؤراً، وقد رويا جميعاً. فأمر له بعشرة آلاف درهم. وقال: أمَّا أشعار هؤلاء المحدثين - مثل أبي نواس وغيره - بمنزلةِ الريحان يُشم يوماً ويذوي فيرى على المزبلة، وأشعار القدماء مثلُ المسك والعبير كلما حركته ازداد طيباً. س وقال: بيتُ عبدةَ بن الطبيب ما له ثانٍ في جاهلية ولا إسلام، قائمٌ بنفسه، وهو " من الطويل ": فما كان قيسٌ هُلْكهُ هُلْك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدَّما وقال: أحسنُ ما قيل في صفة المشي قولُ ابن مُقبل " من الطويل ": مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ غصونٌ تسفهَّت ... أعاليها مَرُّ الرياحِ النواسيمِ قال: وأحسن ما وصفت به الرماح " من الكامل ": وبكلَّ عرّاص المهزَّةِ مارنٍ ... فيه سنانٌ مثلُ ضوء الفرقدِ سُمْرُ موران من رماح درينةٍ ... زرقُ الظباتِ يقين سُمَّ الأسودِ قال: وأهجأ بيت قالته العرب " من الطويل ": وقد علمتْ عرساك أنك آئبٌ ... تُخبرهم عن جيشهم كُلَّ مربعِ أخبر أنّ من عاداته أن ينهزم فيتحدَّث بخبر جيشه. - وقال: أشعرُ ما قيل في شدة الحر قولُ القُطامي " من البسيط ": فهُنَّ مُعترضاتٌ والحصى رمضٌ ... والريحُ ساكنةٌ والظلُ معتدلُ حتى وَردْنَ ركيَّاِ الغويرِ وقد ... كاد المُلاء من الكتان يشتعلُ وبيتُ جرير بن الخطفى " من الطويل ": أنِخْنَ لتغويرٍ وقدْ وقَدَ الحصى ... وذابَ لُعابُ الشمس فوق الجماجمِ وقال أبو عمرو بن العلاء: أحسن الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها لايقبح، مثلُ قول بن حجر " من الطويل ": إذا ناقةٌ شُدَّتْ برحلٍ وتمرقٍ ... إلى حَكم يُعدي فضَلَّ ضلالها كأني حلوت الشعر حين مدحته ... صفا صخرةٍ صمَّاء صلدٍ بلالها قال ابن ألعرابيّ: يعجبني من الهجاء قولُ جرير " من الكامل ": وَلَوَ أنَّ تغلب جمعَّتْ أحسابها ... يومَ التفاضلِ لم تزنْ مثقالا عرض رجلٌ على ابن ألعرابي قول جرير " من الكامل ": إنّ الذين غدوا بلبلك غادروا ... وشلا بعينك ما يزالُ معينا غيَّضْن من عبراتهنَّ وقلنَّ لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا ولقد تسقطني الوشاةُ فصادفوا ... حصراً بسرك ياأمامَ ضنينا فقال ابن الأعرابيّ: هذا نسيبٌ يستحقُّ أن تشقَّ له الجُيوبُ. - قال: وهذا من طُرز الشعر، وأنشد " من الطويل ": أُحِبُّكمُ، ياميَّ، حُبَّين منهما ... قديمٌ وحُبذُ حين شبَّتْ شبائبُه إذا اجتمعا قال القديمُ: غلبته ... وقال الذي من بعده: أنا غالبهْ فإن أستطعْ أغلبْ وإن يغلبِ الهوى ... فمثلُ الذي لاقيتُ يُغلبُ صاحبهْ قال: وكان يتعجب من قول بَشَّار في الليل " من الطويل ": خَليليَّ ما بالُ الدُجى لاتزحزحُ ... وما بالُ ضوءِ الصُبح لا يتوضَّحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أضلَّ الصباحُ المستنيرُ طريقهُ ... أم الدَهْرُ ليلٌ كُلُه ليس يبرحُ أُظنُّ الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليلَ هَمٌّ مُبرحُ وكان ابن الأعرابي يستملح هذين البيتين وقال: هذا وإن لم يكن من جيد الشعر ولا في طريقته فقد ذهب به صاحبه مذهباً مليحاً! وهو في خلال روايته يستملحه " من السريع ": تحرَّك الهجرُ فقال الهوى ... ما هذه الضوضاء في عسكري فجيءَ بالهجر يُجرونه ... فلم يزل يصفعُ حتى خري قال: وأحسن ما قيل في الخمر قولُ أبي نواس " من المنسرح ": لاينزلُ الليلُ حيثُ حلَّتْ ... فدهرُ شرابها نهارُ فهيَ إذا استودعتْ سراراً ... لم يخف في ضوئها السرار وقوله " من الطويل ": إذا ما حساها شاربُ القومِ خلته ... يُقبلُ في داجٍ من الليلِ كوكباً وقال: أنشدوني بيتاً لأبي نواس أوله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي وآخره ابن ماسويه في الطب! قالوا: مانعرفه. قال: قوله " من البسيط ": دَعْ عنك لومي فإن اللوم إغراءُ ... ودواني بالتي كانت هي الداءُ ولكن هذا معنى قول الأعشى " من المتقارب ": وكأسٍ شربتُ على لذةٍ ... وأُخرى تداويتُ منها بها قيل: إن السبب في طعن ابن الأعرابيّ على الأصمعي وقدحه ونسبته إلى الكذب أن الأصمعي دخل على سعيد بن سلم وابن الأعرابي يؤدب ولده، فقال لبعضهم: أنشد أبا سعيد! فأنشد لرجلٍ من بني كلاب شعراً رواه إياه ابن الأعرابي وهو " من الطويل ": رأت نضو أسفارٍ أميمةُ قاعداًس ... على نضوٍ أسفارٍ فجُنَّ جُنونها فقالت: من أي الناس أنت ومن تكن ... فإنك راعي صرمة لاتزينها فقلت لها: ليس الشحوب على الفتى ... بعارٍ ولا خيرُ الرجال سمينها عليك براعي ثلَّةٍ مسلحبةٍ ... يروح عليه محضها وحقينها سمينُ الضواحي لم تؤرقه ليلةٌ ... وأنْعَمَ أبكارُ الهمومِ وعونها ورفع " ليلة " فقال له الأصمعي: من روّاك هذا؟ قال: مؤدبي. وأحضره واستنشده البيت، فأنشده ورفع " ليلة "، فأخذ ذلك عليه وفسر البيت فقال: إنما أراد: " لم تؤرقه ليلةً أبكارُ الهُموم وعُونها " - جمع عوانٍ، " وأنعم " أي زاد على هذه الصفة، " سمين الضواحي " يريد: ماظهر منها وبدا سمينٌ، " ليلةً " ينصب على الظرف، " وانعم " أي بولغ له في ذلك كما جاء في الحديث: زإنّ أبا بكر وعمر منهم وأنعما! أي زادا وبولغ في ذلك لهما، من قولهم: دققتُ الشيء دقاً نعماً ودقاً ناعماً. ثمَ قال الأصمعي لابن سلمٍ: من لم يحسن هذا المقدار فليس موضعاً لتأديب ولدك، فنحه! وقدم عليه قادمٌ من سُرَّ من رأى، فأخبره بنكبة سليمان بن وهب وأحمد ابن الخصيب في أيام الواثق فأنشده " من الرمل ": رُبَّ قومٍ رفعوا في نعمةٍ ... زمناً والعيشُ ريَّانُ غدقْ سكتَ الدهرُ زماناً عنهمُ ... ثمَّ أبكاهم دماً حين نطقْ وقال لابن الربعة الكلبي دليل آل المُهلَّب حيث هربوا من الحجَّاج إلى الشأم إلى سليمان بن عبد الملك " من الطويل ": وقمٌ هُمْ كانوا الملوك هديتهم ... بظلماء لايسري بها ضوءُ كوكبِ ولا قَمرٌ إلا صغيراً كأنه ... سوارٌ حناه صانعُ السور مذهبِ نفرُّ فرار الشمس ممَّنْ وراءنا ... وننجو بجلباب من الليل غيهبِ فإلاَّ تُصبحْ بعد خمس ركابُنا ... سليمان من بعد الملا تتأوبِ قوله " نفر فرار الشمس " يقول: نذهب إلى المغرب حيث تغيب الشمس. آخر أخبار الكوفيين، الحمد لله وحده وصواته على محمد وآله وصحبه في ابتداء أمر مدينة السلام واختطاط أبي جعفر المنصور إياها ونزولها وابتنائها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قال البغويون الذي كانوا مع أبي مسلمٍ: مكثنا مع أبي جعفر المنصور هنة نغدو من قطربل إلى الموضع الذي فيه المدينة نرتاد موضعاً، فبينا نحن إذ وقف على قائم - في باب الشأم - وفيه راهبٌ، فأشرف عليه، فقال: أراك منذ شهور تدور وتكثر الترداد. فقال: أريد أن أبني في هذا الموضع مدينة. فقال له الراهب: لست صاحبها، إنَّا نجد أن صاحبها يقال له مقلاصٌ! فقال أبو جعفر المنصور: أنا والله صاحبها، كنتُ أُدعى وأنا صبيٌّ في الكتَّاب بمقلاص! فأمر حينئذ أن تُصور له المدينة. ووضع المنصور أول لبنة بيده وقال: بسم الله والحمد لله (يُورثها مَنْ يشاء من عبادهِ والعاقبةُ للمُتَّقين) ، ابنوا على بركة الله! - ووليَّ أبا حنيفة الفقيه القيام ببناء المدينة وبضرب اللبن وعدده حتى فرغ من استتمام بناء المدينة مما يلي الخندق، وذلك في سنة تسع وأربعين ومائة. وخرج الأمر بأن يعمل على المدينة ثمانية أبوابٍ حديد ممَّا يلي كلُّ ربع - بابين باباً على الخندق وباباً على السور. قال: فمن الثمانية خمسةٌ مما كان على مدينة الزندورد، وهي مدينة كانت في ظهر واسد من عمل الشياطين لسليمان ان داود، فنقلها الحجَّاج إلى واسط حين بناها، وهي الأربعة الأبواب الداخلة من كل باب، والخامس بابُ البصرة الخارج؛ وأمَّا الباب السادس الخارج من باب خراسان من عمل الشأم فهو من عمل الفراعنة، وباب الخارج من باب الكوفة جيء به من الكوفة عمله خالد بن عبد الله القسري، وباب الشأم الخراج عمله المنصور وهو أضعفها. ولمَّا تمّ بناء المدينة وأراد المنصور النقلة إلى قصره بباب الذهب وقف على باب القصر يتأمله، فإذا على الحائط مكتوب: ادخل القصر " من الخفيف ": ادخُلِ القَصْر لاتخافُ زوالا ... بعد ستين من سنيك رحيل فوقف ملياً، فتغرغرت عينه، ثمّ قال: بقية لعاقل وفسحة لجاهل! كأنه حسب ما بقي من السنين. - ومات أبو جعفر المنصور ببئر ميمون لست من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وهو ابن أربع وستين سنة، فعاش بعد بناء المدينة اثنتي عشرة سنة، وفد عليه بطريق من بطارقة الروم، فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة وما حولها. فلمَّا انصرف قال: كيف رأيتها.؟ قال: حسنا إلا أنّ أعداءك معك. قال: ومن هم؟ قال: السوقى. قال: فلمَّا خرج البطريق أمر بإخراجهم من المدينة، ثمّ أمر ببناء القصر الجديد الذي يُسمَّى الخُلد، وكان ينهي عن تسميته بهذا الاسم. ومن أخبار العلماء والنحاة والرواة من أهل بغداد ومن طرأ عليها من الامصار منهم ابن يسارٍ القُرشيّ المَدَني هو 90 - محمّد بن إسحاق بن يسارٍ أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر، ويسارٌ مولى عبد الله بن قيس بن مخرمة وهو أول سبيٍ دخل المدينة من العراق. سمع من ابن شهابٍ والأعمْش، وهو أوّلُ من جمع مغزي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفيّ ببغداد سنة أربع وخمسين ومائة. وقال عنه سُفيان: هو أمير المؤمنين في الحديث لحفظه، وكان يتشيع يقدم عليَّاً على عثمان. 91 - ومن أخبار ابن دَأبٍ كان أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب من رواة الأخبار والأشعار وحُفَّاظهم، وكان من الحجاز، وجدَّهُ دأب بن كرز بن عبد الله بن أحمر. وعد المَهدي ابن دأبٍ جاريةً، ثمّ وهبها له، فأنشد عبد الله بن مصعب الزُبيري قول مُضرسّ الأسدي " من الطويل ": فلا تيأسَنْ من صالحٍ أن تناله ... وإن كان قدماً بين أيْدٍ تُبادرهْ فضحك المهدي وقال: ادفعوا إلى عبد الله فُلانة لجاريةٍ أخرى! فقال عبد الله " من الرجز ": أنْجز خيرُ الناس قَبْل وعده ... أراح من مطل وطولٍ كَدّهِ فقال أبن دأب: ماقلت شيئاً؟ هلاَّ قلت " من الرجز ": حلاوةث الفْضلِ بوعدٍ يُنجزُ ... لا خيرَ في العُرف كَنْهبٍ يُنهزُ وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: أملي عليَّ محمّد بن مناذر " من الوافر ": ومَن يَبْغ الوصاة فإنّ عندي ... وصاةً للكُهُول وللشبابِ خُذوا عن مالكٍ وعن ابن عونٍ ... ولا ترزووا أحاديث ابن دأبِ ترى الغاوينَ يتَّبعون منها ... ملاهي من أحاديث الكذابِ إذا طُلبت منافعها اضمحلتْ ... كما يرفضُّ رقراقُ السرابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقال ابن دأب: سألت بطون بني عامر بطناً بطناً عن مجنون بني عامر فما وجدتُ أحداً يعرفه. 92 - ومن أخبار الواقديّ هو أبو عبد الله محمّد بن عمر الواقدي مولى بني سهْم من الأسلميين، تحوّل من المدينة فنزل بغداد وولي القضاء للمأمون بعسكر المهديّ أربع سنين، وكان عالماً بالمغازي والسير والفتوح وباختلاف الناس في الحديث. ولد سنة ثلاثين ومائة، ويختلف في ثقته. ورفع الواقديّ رقعة إلى المأمون يشكو فيها غلبة الدين عليه، فوقع عليها بخطه: فيك خلتان: السخاء والحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق يدك بما ملكت، وأمّا الحياء فهو الذي حملك على أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرنا لك بضعف ماذكرت، فإن كنَّا قصرنا عن بلوغ حاجتك فجنايتك على نفسك، وإن كنَّا بلغنا بغيتك فزد في بسط يدك! فإن خزائن الله مفتوحة ويده بكلٍ مبسوطة. وسئل الواقديّ عن النار التي توقد بالمزدلفة على قُزح، فقالك كانت الجاهلية توقدها، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام. مات الواقديّ ومحمّد بن كناسة الأسدي ويحيى بن زياد الفراء وطاهر بن الحسين وجعفر بن عون ووهب بن جرير وعبد الصمد بن عبد الوارث في سنة سبع ومائتين، ومات بعدهم بمُديدة أبو عبادة روح بن عبادة القَيسيّ. 93 - ومن أخبار أبي البَخْتَريّ القاضي واسمه وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العُزَّى بن قصيّ القُرشيّ، وأُمه عبدة بنت عليّ بن يزيد بن رُكانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وأُمها ابنة علي بن أبي طالب. ولاه الرشيد القضاء بعسكر المهدي، ثمّ ولاه قضاء المدينة وإمارتها بعد أبي يوسف القاضي. قال أحمد بن كامل: أبو البخْتري مُتَّهماً بوضع الأحاديث لايحتج به. - وقال فيه بعض الشعراء " من المتقارب ": هلاَّ فعلتهداك الإلهُفينا كفعْل أبي البَخْتري تذكر إخوانه في البلاد ... فأغنى المُقِلَّ عن المُكثرِ قال المرزباني: أبو البختري يضع الأحاديث الباطلة وينحرف عن آل الرسول، وكان هو السبب في قتل عبد الله بن حسن بن حسن رضي الله عنه. قال يحيى بن معين: أبو البختري كذابٌ خبيث. وقال عبد الباقي بن قانع: مات أبو البختري في سنة مائتين، وهو مدنيٌّ متروك الحديث. 94 - ومن أخبار أبي المُنذرِ العَروضيّ واسمه يعلى بن عقيل بن زياد بن سليمان بن هند بن عبد الله بن ربيعة بن إلياس بن ربيعة بن يعلى بن محمد بن زيد بن مُعَلَّى بن عبد الله العنزيّ من العلماء الرواة للعلم. 95 - ومن أخبار أبي مِسْحَلٍ الأعرابيّ واسمهُ الحجَّاج بن زين من بني ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر، حضر بغداد مع أبيه بعد مالا بنيت وجاز المائة. قال أبو مسحلً: سألني الحسن بن سهل الشري: هل في مدة حيلة؟ قلتُ: نعم، يُمَدّ ويقصر. فسأل الأصمعيَّ، فقال: مقصور لايمدّ. فجمع بيننا، فقال الأصمعيُّ: ياأنوك! أنَّى وجدتَّ الشرى يُمدُّ؟ فقلت: أشهر مثل للعرب: لاتحمدنَّ أمةً عام شرائها ولا عروساً عام هدائها. قال: فسكت. - وأنشد أبو مسحل " من الرجز ": المالُ ما أمسكته فليس لكْ ... وكُلمَّا أنفقته فالمالُ لكْ 96 - ومن أخبار ابن قادمٍكان يؤدب أولاد سعيد بن سلم بن قتيبة، وكان الأصمعي يغشاهم، وكان ابن قادم يسأله عن معاني الشعر واللغة، فقيل له إنّ هذا رجلٌ متقدم لا تزاحمه فإنه يغلبك! فلم يزل حتى سأله الأصمعيُّ يوماً عن قول الشاعر " من السريع " واحدةٌ أعضلكم شأنها ... فكيف لو قمت على أربعِ وأشار الأصمعي إلى القيام على أربع بيديه ورجليه، فأجابه بجوابِ خطاءٍ، فاخجله الأصمعيُّ وأضحك منه من حضر، فقيل لابن قادم: قد نصحناك فلم تقبل. 97 - ومن أخبار أبي عُبيد القاسم بن سَلاّم كان يخضب بالحنَّاء. قال إبراهيم الحربيّ: كان أبو عبيد كأنه جبلٌ نُفخ فيه الروح لم يُعيه إلا إتقان الحديث. كان يؤدب ولد ثابت ابن نصر بن مالك الخُزاعي، فولي ثابت طرسوس ثماني عشرة سنة، فولي أبو عبيد القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة. وكتب في حداثته عن هُشيم وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وانصرف أبو عبيد يوماً من الصلاة فمرّ بدار إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فقالوا له: ياأبا عبيد، صاحبُ هذه الدار يقول: إنّ في كتابك " غريب المصنَّف " ألف حرفٍ خطأٌ. فقال أبو عبيد: كتابٌ فيه أكثر من مائة ألف حرفٍ يقع فيه ألف حرفٍ خطأ ليس بكثير، فلعلّ إسحاق عنده رواية وعندنا رواية ولم يعلم فخطأنا والروايتان صواب، ولعله أخطأ حروفاً وأخطأنا في حروف فيبقى الخطأ شيءٌ يسير! - وقال أبو عمرو: فيه خمسةُ وأربعون حديثاً لاأصل لها، أُتي فيها أبو عبيد عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، منها: إنّ أهل قاهٍ أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب لهم كتاباً. وما علمتُ في الدنيا أهل قاهٍ ولا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب لهم. وعنه: إذا شبعتن بطرتن، وإذا جُعتن دقعتنّ. قال: والذي عندي أنّ أبا عبيد أُتي من قبل أبي عبيدة. قال أحمد بن كامل: كان أبو عبيد فاضلاً في علمه ودينه ربانيَّاً مفتياً في أصناف علوم الإسلام صحيح النقل، لاأعلم أحداً طعن عليه في شيء من أمره ودينه. - وكان مؤدباً لأولاد الهراثمة، وصار في ناحية عبد الله بن طاهر. روى عن أبي زيد الأنصاريّ وأبي عبيدة والأصمعي واليزيدي وغيرهم من البصريين، وروى عن ابن الأعرابيّ وأبي زياد الكلابيّ والأُموي وأبي عمرو الشيباني والكسائي والأحمر والفراء. وروى الناسُ من كتبه المصنَّفة بضعةً وعشرين كتاباً في الفقه والقرآن وغريب الحديث والغريب المصنَّف والأمثال ومعاني الشعر، وله كتب لم تُرْو. قال أبو عبيد: ربانيو العلم أربعة: فأعلمهم بالحلال والحرام أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقةً للحديث وأداءً له عليّ بن المدينيّ، وأحسنهم وضعاً لكتابٍ ابن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث وسقيمه يحيى بن معين. حجّ أبو عبيد، فتوفي بمكة ثلاث وعشرين ومائتين. ورثاه عبد الله ابن طاهر " من البسيط ": ياطالبَ العلم قد أودى ابن سَلاّم ... قد كان فارسَ علمٍ غير محجام أودى الذي كان فينا رُبع أربعةٍ ... لم يُلف مثلهمُ إستارُ أحكامِ خير البَريَّة عبد اللهُ عالمها ... وعامرٌ ولنعم المرءُ يا عامِ هما أنافا بعلمٍ في زمانها ... والقاسمان: ابن معنٍ وابنُ سَلاَّمِ 98 - ومن أخبار النضر بن حديد كنيته أبو صالح، وكان صديقاً للمعتصم أيام الحسن بن سهل وهو إذ ذاك كأحد بني هاشم. فلمَّا علا أمره في أيام المأمون جفاه وحجبه، فقال النضر " من الطويل ": تصغَّرْ أبا إسحاق في الإذن إنني ... رأيتك تجفوني وأنت كبيرُ قد اغنى إله الناسُ طُرَّاً بفضله ... فتركك لي خطبٌ عليَّ يسيرُ إذا ما أتيتُ البابَ لم أر آذناً ... ضحوكاً ولا من بالسلام يُشيرُ فبلغت أبياته المعتصم، فدعاه ووصله واعتذر إليه وأمر ألا تحجب عنه. 99 - ومن أخبار أبي محمّد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ كان أحد العلماء باللغة والغريب وأخبار الشعر وأيَّام الناس، وكان شاعرا مجيداً، وقد روى من العلم والأخبار قطعة حسنة. روى عنه مصعب بن عبد الله الزبيري والزبير بن بكار وغيرهما. وله مع أبي عبيدة والأصمعي وغيرهما من أهل العلم أخبار قد بينُت في " كتاب المستنير ". قال إسحاق: نحنُ فُرسٌ من أهل أرَّجان وموالينا قوم من الحنظليين. - وكان سبب قولهم الموصلي أنه سافر إلى الموصل في طلب الغناء، فلمَّا رجع بعد سنة قال إخوانه من الفتيان: مرحباً بالفتى الموصليّ! فلجَّت عليه. وهو من أهل بيت شرف وفخر وقد في العجم، ثمّ إنه نبت به الدار، فخرج ماهان بأم إبراهيم وهي حاملٌ به حتى نزل الكوفة في بني دارم، ولهج إبراهيم بالغناء، فطلبه عربيةً وعجميةً عند كلّ من لقي من أهله من الرجال والنساء، وشخص فيه إلى البلدان حتى خرج إلى الري، وكان أول ما شهر من غنائه ما غني بالري، وصادق الأشراف، فأحبوه، وكان كثير الإخوان. ولد في آخر أيام المنصور. - قال ثعلب: رأيتُ لإسحاق ألف جزء من لغات العرب سماعه، وما رأيت اللغة في منزل أحدٍ قطٌّ أكثر منها في منزل إسحاق ثمّ في منزل ابن الأعرابيّ. - وكان إسحاق ثقةً صدوقاًعالماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قال أحمد بن أبي خيثمة: كان أبي ويحيى بن معين وغيرهما يجلسون بالعشيات إلى مصعب الزُبيريّ وكنتُ أحضرُ، فمر بنا رجلٌ على حمارٍ فاره فسلم ووقف، فقالوا: إلى أين، ياأبا الحسن؟ فقال: إلى من يملأ أسماعنا علماً وأكمامنا دنانير. فقال له يحيى: من هو؟ قال: إسحاق الموصليّ. قال يحيى: والله ذاك أصح الناس سماعاً وأصدقهم لهجة. فسألت عن الرجل، فإذا هو المدائني. قال إسحاق: أنشدت الرشيد شعراً لي، فلمَّا بلغتُ قولي " من الطويل ": وآمرةٍ بالبخل قلتُ لها: اقصري ... فذلك شيءٌ ما إليه سبيلُ وكيف أخافُ الفقر أو أُحرمُ الغنى ... ورأيُ أمير المؤمنين جميلُ فقال: لله درُّ أبيات تأتينا بها، ما أحسن فصولها وأحكم أصولها! فقلت: كلامُ أمير المؤمنين أحسن من شعري! فقال: أحسنت والله، أعطه مائة ألف درهم! - ومنها " من الطويل ": أرى الناس خُلاّن الجواد ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليلُ ومن خير حالات الفتى ... إذا نال خيراً أن يكون ينيلُد وإني رأيتُ البخلَ يُرزي بأهله ... ويُحقر يوماً أن يقال بخيلُ ويروى: رأيت قليل البخل يُزرى بأهله ... وأكرمت نفسي أن يقال بخيل عطاآئي عطآء المكثرين تكرُّماً ... ومالي كما قد تعلمين قليلُ وفضائل إسحاق ومحاسنه ومناقبه كثيرة جدَّاً، وجالس الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق، وبقي إلى صدر أيَّام المتوكل ومدحه. - توفي أسحاق سنة ست وثلاثين ومائتين. 100 - ومن أخبار مُصْعب الزُبيريّ وهو مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، أمه أمة الجبَّار بنت إبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير. قال: أدخلني أبي إلى الرشيد وأنا صبيٌّ، فدعوت له، فاستملح كلامي، فقال له أبي: إنه قد مدح أمير المؤمنين بشعر ولكنه يستحي أن ينشده لهيبة أمير المؤمنين. فقال: هات ماقلت! فأنشدته شعراً، منه " من الوافر ": كأنك جئت محتكماً عليهم ... تخيَّرُ في الأبوة من تشاءُ لك الفضل المُبرُّ على قريشٍ ... كما فضل الظلام لنا الضياءُ فقال: زعمتُ أنّ هذا يستحي؟! هذا أوقح الناس! ووهب لي ألفي دينار. - وقال: وجّه صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي إلى سعيد بن سلم بجوذابة إوَزَّةٍ وليست الإوزة معها، فكتب إليه سعيد " من المتقارب ": بعثتَ إلينا بجوذابةٍ ... فأين التي كان جوذابها فقال صالحٌ لابنه موسى: أجبه عنيّ! فقال " من المتقارب ": بعثنا إليك بجوذابةٍ ... وحاز الإوزةَ أربابها وذلك حظ الفتى الباهلي ... فلا يَعْنينَّك تطلابهاس 101 - ومن أخبار أبي جعفر الجُرجاني محمّد بن عمر أحد رواة الكوفة، أنشد " من البسيط ": إنيّ لأُعرضُ عن أشياء تؤلمني ... حتى يُظنَّ رجالٌ أنّ بي حُمقا أخشى جواب سفيهٍ لاحياء له ... فسلٍ يظنُّ رجالُ أنه صدقا 102 - ومن أخبار ابن السكِّيت قال عبد الله بن جعفر: من علماء بغداد أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت، مؤدباً لولد المتوكل، وكان عالماً بنحو الكوفييّن وعلم القرآن واللغة والشعر رواية ثقة، وهو صحيحُ السماع، وله كتب في علم النحو واللغة جيادٌ وفي معاني الشعر، وفسر من دواوين الشعر شيئاً كثيراً. قال أبو العينآء: قال لي أبن السكيت يوماً بيد يدي المتوكل - وقد تجاورا شيئاً من الأدب -: أتراك أحطت من هذا بما لم أحط به؟ فقلتُ: وما أنكرت؟! فوالله لقد قال الهدهد وهو أخس طائر لسليمان: (أَحَطتُ بما لَمْ تُحْط بهِ) . وكان يعقوب يؤدب المؤيد، وكان بينه وبين رجل من اهل الادب مقارضة، فقال هذه الابيات وبعث بها الى المتوكل: قل للإمام الذي ترجى فواضله ... إن المؤيد مقرون إلى ذيب معلم يختل الصبيان غفلتهم ... ويجعل الضرب منه باب تأديب وإن خلا خلوة بالظبي ساوره ... بمسغد طويل الشخص يعبوب وللمؤيد نفس غير خاضعة ... فأطلب له بدلاً من قرب يعقوب والمهر يمكن بعد الرمح رائضة ... حتى تلين له بعد تصعيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فأقرن ولاة عهود المسلمين يمن ... ترضى خلائقه واطرد أخا الحوب كان المتوكل ألزم يعقوب ليردب المعتز بالله، فلما جلس عنده قال له: بأي شئ يحب الامير ان نبدأ من العلوم؟ قال له: بالانصراف! قال: فأقوم. أنا اخاف نهوضاً منك! فقام المعتز واستعجل فعثر بسراويله وسقط فالتفت إلى ابن السكيت كالخجل، فأنشد ابن السكيت: يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته في القول تذهب رأسه ... وعثرته في الرجل تبرأ في مهل توفي ابن السكيت سنة ست واربعين ومائتين، ويقال: إن المتوكل ناله بشئ حتى قتل. 103 - ومن أخبار أبي محمد سلمة بن عاصم النحوي قال: قال ابن حبيب: إذا قلت للرجل: أيش صناعتك؟ فقال: معلم! فأصفع وانشد: إن المعلم لا يزال معلماً ... لو كان علم آدم الاسماء من علم الصبيان صبوا عقله ... حتى بني الخلفاء والامراء 104 - ومن اخبار الزبير بن بكار قال: هو الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام. قال: عادلت المتوكل على الله من الجوسق الى المحمدية، فلما سرنا قال: يا زبير، من افضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخفت أن اقول علي، فيقول: قدمته على ابي بكر، مع ما اعرف من رأيه، وخشيت ان اقول ابو بكر، فيقول فضلت على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرهم. قال: فسكتت، فأقتضاني الجواب، فسكتت، فقال: ما لك لا تجيب؟ فقلت: سمعت الناس بالمدينة يقولون: ابو بكر خير الصحابة وعلي خير القرابة. قال: فأرضاه ذلك وكف. وقال: أتيت الفتح بن خاقان أسأله أن يستأذن لي المتوكل في الحج، فوعدني، فأنشدته: ما انت بالسبب الضعيف وانما ... نجح الاكور بقوة الاسباب فاليوم حاجتنا إليك وغنما ... يدعي الطبيب لساعة الاوصاب فأستأذن لي على المتوكل، فودعته ثم خرجت، وخرج الفتح بن خاقان فقال: جائزتك تلحقك وكتاب عهدك بلاقضاء على مكة لاحق بك! فلما صرت الى منزلي إذا خادم معه ثلاثون الف درهم، فخرجت، فلما وافيت مكة إذا رسوله ومعه عهدي، فدخلتها واليا عليها. قال الزبير بن بكار: كان العباس بن الاحنف أطرف الناس في قوله: اقول اسرارا واعلانا ... النب إن كنت غضبانا ما شامني غيري ولا عذر لي ... عن كان ما كان كما كانا يا أمس في سائر عسالة ... ما كان أحلاك وأحلانا إذ كاسنا معملة بيننا ... مزاجها التقبيل أحيانا وقال: العباس هو اشعر الناس في قوله: تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن توفي بمكة سنة ست وخمسين ومائتين وهو ابن اربع وثمانين سنة. 105 - ومن اخبار حماد بن اسحاق بن ابراهيم الموصلي كنيته ابو الفضل، كان اديباً راوية، شارك اباه في كثير سماعه، وسمع عن ابي عبيدة والاصمعي، وألف كتباً واخذ اكثر علم ابيه. 106 - ومن اخبار ابي العيناء هو ابو عبد الله محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان، وابو العيناء لقب غلب عليه. ولد سنة إحدى وتسعين ومائة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. قيل: كم تعد؟ قال: قبضة! يعني ثلاثاً وتسعين. وكان فصيحاً سريع الجواب. وقال له بعض الكتاب وقد رآه ضعيفاً من الكبر: كيف اصبحت؟ فقال: في الداء الذي يتمناه الناس. ولأبي علي البصير فيه: قد كنت خفت يد الوما ... ن عليك إذ ذهب البصر لم ادر أنك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر قال له المتوكل يوماً: كم تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما احسنوا وأساوا وهذا ادب الله، إذا رضي عن عبد قال: (نعم العبد انه اواب) ، واذا غضب على ىخر قال " هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد اثيم، عتل بعد ذلك زنيم) . وقال خطب رجل الى قوم، فبينما هو في ذلك إذا انعظ، فضرب ذكره بيده وقال: إليك يساق الحديث. قيل له: إن ابراهيم بن نوح النصراني عليك عاتب! فقال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وقال: قلت لرجل من ولد بشر بن داود: إن اباك كان سيف السلطان. قال: وظانا جعبته. قلت: فكان ينيك وانت تناك. قال: اقضي دينه. قال ابو هفان لابي العيناء: هذا اشد حراً من مكانك في لظى. فقال: بردهل بشعرك! وقال احمد بن ابي طاهر في ابي العيناء: سجع ابي العيناء من رجعه ... فلعنه الله على سجعه كأن من يسمع الفاظه ... يقذف صم الصخر سمعه قد طبع الله على قلبه ... فالكفر مستول على طبعه لا تكثروا فيه فلابد لي ... أساء أو احسن من صفعه وكتب ابو العيناء، ألى ابن مكرم: قد اصبت لك غلاما من بني ناعط، ثم: من بني ناشرة، ثم: من بني نهد. فكت اليه ابن مكرم: " فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ". قال لابن مكرم: ألست عفيفاً؟ قال: بلى إنك عفيف الفرج زاني الحرم. قال انما صار ذلك منذ تزوجت بأمك. وقال الجماز في ابي العيناء: كذبوا ليس ابي العيناء في الكفر دعياً ظلموا البائس ما زا ... ل من الله برياً وبذا نعرفه مذ ... كان لا كان طبياً فأخبروه تجدوه ... بالذي قلت ملياً وما اخبار ًالمبرد قال الصولي: هو ابو العباس محمد بن يزيد بن عبد الاكبر بن عمير بن حسان بن سليمان بن سعد بن عبد الله بن زيد بن مالك بن الحارث بن عامر بن عبد الله بن بلال بن عوف بن اسلم - وهو ثمالة - بن احجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الازد بن الغوث. وكان سبب تلقيبه بالمبرد ان اب حاتم سهل بن محمد جعله في غلاف مزملة فارغ، حين طلبه صاحب الشرطة لمنادمة الامير. فدخل بيته وفتشه فلم يجده. فلما خرج جعل ابو حاتم يصفق وينادي: المبرد المبرد! وتسامع الناس فلهجوا بذلك ولقبوه به. ولد في سنة ست ومائتين. قال المبرد: النحو عبارة الاشياء. وحلي الالسن وجلاء الاسماع. وقال: حضرت يوماً مجلس المتوكل، وبين يديه البحتري وهو ينشد قصيدة يمدح لها المتوكل، وبالقرب من البحتري ابو العنبس الصميري، فأنشد البحتري قصيدته: يا باني المجد الذي ... قد كان قوض فأنهدم اسلم لدين محمد ... فإذا سلمت فقد سلم نلنا الهدى بعد العمى ... بك والغنى بعد العدم فلما اتمها مشى القهقري للانصراف، فوثب أبو العنبس الصميري فقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت ان ترده؟ فرد! فقال له ابو العنبس: قد عارضتكفي قصيدتك وكنيتك بحضرة امير المؤمنين. ثم اندفع ينشد يوقول: في أي سلح ترتطم ... و [أي كف تلتقم أدخلت رأس البحتري ... ابي عبادة في الرحم فضحك المتوكل وقال: ادفعوا إلى ابي العنبس عشرة الاف درهم! فقال الفتح: فالبحتري الذي هجي واسمع المركوه ينصرف خائباً؟ فقال: ويدفع اليه عشرة الاف درهم. قال ابن المعتز: جائني المبرد، فجرى ذكر أبي تمام الطائي، فلم يوفه حقه، فقال له رجل من الكتاب كان في المجلس ما رأيت احداً أحفظ لعر ابي تمام منه: يا ابا العباس، ايحسن احد ان يقول مثل ما قال ابو تمام لابي المغيث موسى بت ابراهيم الرافقي يعتذر اليه: لعمري لقد اقوت مغانيكم بعدي ... ومحت كما محت وشائع من برد وانجدتكم من بعد إتهام داركم ... فيا دمع انجدني على ساكني نجد ثم قال في الاعتذار: اتاني مع الركبان ظن ظنته ... لففت له رأسي حياء من المجد اسربل هجر القول من لو هجرته ... اذا لهجاني عنه معروف عندي كريم متى امدحه امدحه والورى ... معي ومتى ما لمته وحدي فقال ابو العباس: ما سمعت احسن من هذا قط. وقال: ما اهتظم الرجل حقه إلا احد رجلين: أما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام واما عالم لم يتبخر هـ ولم يسمعه. وكتب البحتري الى المبرد يسأله ان يصير اليه. يوم سبت وعندنا ما كفى الحر ... طلابا والورد منا قريب ولنا مجلس على النهر فيا ... ح فسيح ترتاح فيه القلوب وروام المادم يدنيك ممن ... كنت تهوى وإن جفاك الحبيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فأتنا يا محمد بن يزيد ... في استتار كيلا يراك الرقيب نطرد الهم باصطباح ثلاث ... مترعات تنفي بهن الكروب إن في الراح راحة من جوى الحب ... وقلبي إلى الاديب طروب لا يرعك المشيب مني فأني ... ما ثناني عن التصابي المشيب وكتب اليه ابو العباس في يوم مطير، فكتب اليه البحتري: ان التزاور فيما بيننا خطر ... والارض من وطاة البرذون تنخسف إذا اجتمعنا على يوم الشتاء فلي ... هم بما لاق حين انصرف ومدحه ابن الرومي وهجاه. ولابي حاتم السجستاني في المبرد: ماذا لقيت اليوم من ... متمجن خنث الكلام وقف الجمال بوجهه ... فسمت له حزق الانام وكأنما وجناته ... غرض تكلل بالسهام كالبدر إلا انه ... يختال في زي الغلام فأرحم اخاك فإنه ... نزر الكرى بادي السقام وأنله من دون الحرا ... م فليس يقصد للحرام وقال المبرد: كتب الي احمد بن علي المادرائي الكاتب: كم ذا القعود مع المدابر ... والعرض في هي الدفاتر لو شئت قمت الى العقا ... ر وطيب اصوات المزاهر ثم اقترحت على الفتى ... قف بالديار وقوف زائر هذاك احرى بأختيا ... لا مسامر للدهر خابر وقال ابو الحسن بن كيسان التحوي: انصرفت من عند ابي العباس أحمد بن يحيى ثعلب إلى المبرد، فقال لي: اين كنت؟ فقلت: عند افضل اهل زمانه. فقال: تعني احمد بن يحيى؟ قلت: نعم. فأنشأ يقول: اقسم بالمبتسم العذب ... ومشتكى الصب الى الصب لو كتب النحو عن الرب ... ما زاده إلا عمى قلب فحفظتهما وعدت الى تغلب، فقال لي: لم رجعت؟ فقلت: طنت عند المبرد. فقال: كني به وقد ثلبني. فقلت: قد صانك الله منه! فأقسم علي والح، فذكرت له الابيات، فأمسك ساعة ثم انشدني: شاتمني كلب بني مسمع ... فصنت عنه النفس ولم اجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب اذا عضا ودخل عليه رجل، فأراد القيام له، فقال: انشدك الله، ابا العباس، إن قمت! فقال: فلمن أخبأ قيامي؟ وانشد: اذا ما بصرنا به مقبلا ... حللنا الحبى وابتدرنا القياما فلا تنكرن قيامي له ... فإن الكريم يحل الكراما وله: اتعجب ان اقوم إذا بدا لي ... لاكرمه واعظمه هشام فلا تعجب لاسراعي اليه ... فإن لمثله ذخر القيام وفي مثله: لئن قمت في ذاك منها غضاضة ... علي وأني للكريم مذلل على انها مني لغيرك هجنة ... ولكنها بيني وبينك تحل وقال المبرد: هي المقادير تجري في أعنتها ... فأصبر فليس لها صبر على حال يوم تريش خسيس الحال ترفعه ... نحو السماء ويوم تخفض العالي وقال: لله درك من ذي نعمة كملت موصولة بجميل الجد واللعب للدين منه نصيب لا يخل به ... وحظه وافر في اللهو والطرب وقف أحمد بن الطيب يوماً على المبرد مسلماً، فقال له المبرد: انت والله كما قال البحتري: ففعلك إن سئلت لنا مطيع ... وقولك إن سألت لنا مطاع خصال النبل في أهل المعاني ... مفرقة وانت لها جماع وكان يباكر الغداء ثم يخرج الى احابه ويقول: اذا تغديت وطابت نفسيه ... فليس في الحي غلام مثليه الا غلام قد تغدى قبليه ثم يقول هاتوا ما معكم! قال له الجاحظ يوماً: اتعرف مثل قول إسماعيل بن القاسم: ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على النائبات الدهر حين تنوب فقال: نعم، قول كثير عزة: فقلت لها: يا عو، كل مصيبة إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت قال رجل للمبرد: تأخرت عنك لان برذوني اعتل. فأنشد: اذا اعتل برذون الفتى وهو واحد ... فصاحبه حتى يصح عليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 قال الصولي: كنا عند المبرد، فجاءه رجل فسلم عليه واستجفى نفسه في لقائه، فأنشد المبرد: ان الزمان وإن شطت مشاهده ... مني ومنك فأن القلب مقترب لن ينقص النأي ودي ما حييت لكم ... ولا يميل به جد ولا لعب ذكر المعتصم عند المبرد، فقال: هو كما قال الاخطل: تسمو العيون إلى امام عادل ... معطى المهابة نافع ضرار وترى عليه إذا العيون رمقنه ... سمة الحليم وهيبة الجبار اشترى المبرد نبقاً وجعله بين يديه مخافة ان يبعث به الى النساء فيؤكل، ابنه فجلس الى جنبه كأنه يسمع ما يمر في المجلس وجعل يتناول من النبق ويلقيه الى فيه، فألتفت ابو العباس فرآه فأنشد: الناس في غفلاتهم ... ورحى المنية تطحن فخجل ابنه فقام ودخل وانشد يرد قول سعيد بن جميد في صديق له يستنجزه وعدا: سبقت الى عدة بالنوال ... جعلت الوفاء بها لي ضمينا فلا تعذرن فإن الحلال ... يجلك عن خلق الغادرينا تعلمت بعدي طول المطال ... وعلمتني ذلة الصابرينا فما اسمج الغدر بعد الوفاء ... وما اقبح البخل بالقادرينا وقال: دخلت يوماً الى موضع المجانين فمررت برجل تلوح صلعته وتبرق جبهته وهو جالس على حصير نظيف وهو متوجه الى القبلة كأنه يصلي، فجاوزته إلى غيره، فناداني: سبحان الله! اين السلام؟ من المجنون، انا ام انت؟! فأستحييت منه فقلت: السلام عليكم! فقال: لو كنت ابتدأت لاوجبت علينا حسن الرد عليك على انا نصرف سوء ادبك الى احسن الجهاتمن العذر لانه يقال: إن للداخل على القوم دهشة. اجلس، اعزك الله عندنا! وأومى إلى حصير وجعل ينفضه كأنه يوسع لي، فعزمت على الدنو منه، فناداني ابن ابي حميضة القيم: عليهم إياك إياك! فأحجمت في ذلك ووقفت ناحية أستجلب مخاطبته، فقال لي وقد رأى معي محبرة: يا هذا، ارى معك آلة رجلين ارجو ان لا تكون احدهما، أتجالس اصحاب الحديث الاغثاثاام الادباء اهل النحو والشعر؟ قلت: الادباء! قال: اتعرف ابا عثمان المازني؟ قلت نعم. قال: أفتعرف الذي يقول فيه: وفتى من مازن ساد اهل البصرة ... أمه معرفة وابوه نكرة قلت: لا قال: افتعرف غلاماً له قد نبغ في هذا العصر له ذهن وحفظ يعرف بالمبرد؟ قلت: انا والله عين الخبير له! قال: فهل انشدك شيئاً من مخبثات اشعاره؟ قلت: لا احسبه يحسن قول الشعر. قال: سبحان الله، اليس هو الذي يقول: حبذا ماء العناقيد بريق الغانيات ... بهما ينبت لحمي ودمي أي انبات ايها الطالب اشهى من لذيذ الشهواتكل بماء المزن تفاح خدود الناعمات قلت: قد سمعته ينشد هزله مجلس انس. قال: سبحان الله، اوستحي ان ينشد مثل هذا حول الكعبة؟! أما سمعت ما يقول الناس في نسبه؟! قلت يقولون هو من ازد شنوة ثم من ثمالة. قال: قاتله الله، ما ابعد غوره، اتعرف من قال: سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثمالة فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهالة فقال لي المبرد: خل قومي ... فقومي معشر فيهم نذالة قلت: اعرف هذه الابيات لعبد الصمد بن المعذل. قال: كذب من ادعاها غير المبرد، هذا كلام رجل لا نسب له! يريد ان يثبت بهذا الشعر له نسباً. قلت: انت اعلم! قال: يا هذا، قد غلبت بخفة روحك على قلبي وتمكنت بفصاحتك من استحساني، وقد ارت ما كان يجب ان اقدمه، ما الكنية؟ اصلحك الله! قلت: ابو العباس. قال: فما الاسم؟ قلت: محمد. قال: فألاب؟ قلت: يزيد. قال: قبحك الله، احوجتني الى الاعتذار اليك مما قدمت ذكره! ثم وثب باسطاً يديه لمصافحتي، فرأيت القيد في رجله قد شد إلى خشبة في الارض؟، فأمنت عند ذلك غائلته، فقال لي: يا ابا العباس، صن نفسك عن الدخول الى هذه المواضع! فقبلت قوله ولم اعاود الدخول الى مخيس. وقال بعض اصحاب ثعلب: اسم المبرد من معناه مسترق ... حقا كما اقتد داجي الليل من نسبه وقلما ابصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فتشت في لقبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وذكر قول الحسن: أن امرأ لا يعد بينه وبين ادم أبا حيا لمعرق في الموت. فذا قول اخذا من قول لبيد: فأنت لم ينفعك علمك فأنتسب ... لعلك تسليك القرون الاوائل فأن لم تجد من دون عدنان والداً ... ودون معد فلتزعك العواذل وكلام الحسن أخصر وكلام لبيد اوزان، واول هذا قول أمرئ القيس: فكفى اللوم عاذلتي فإني ... ستكفيني التجارب وانتسابي إلى عرق الثرى وشجت عرقوي ... وهذا الموت يسلبني شبابي " عرق الثرى " ادم عليه السلام، وقوله " ستكفيني.. انتسابي " أي انتسب فأجد آبائي واجدادي موتى، فأعلم اني ميت لا محالة، فهذا كلام عربي محض. وقال لبيد بن ربيعة: كانت قناني لا تلين لغامز ... فألانها الاصباح والامساء ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء يقول: تقربني من اجلي. ومثله للنمر بن تولب: يسر الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول السلامة تفعل ترد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل وقوله عليه السلام: كفى بالسلامة داء. وقال جرير. حملت عليك حماة قيس خيلها ... شعثاً عوابس تحمل الابطالا ما زلت تحسب كل شئ بعدهم ... حيلا تكر عليكم ورجالا اخذه من قوه تعالى (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذروهم) . وقالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي ... على اخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل اخي ولكن ... اعزي النفس عنه بالتآسي قال تعالى (ولن ينفعك اليوم اذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) أي ما نزل بكم أجل من أن يقع معه التآسي ونظر بعضهم إلى بعض. مات المبرد والبحتري بمنبج في سنة اربع وقيل خمس، وقيل: ست وثمانين ومائتين، ودفن في مقابر باب الكوفة في دار اشتريت له، وله تسع وسبعون سنة. ورثاه محمد بن علي بن يسار العلاق الضرير: ذهب المبرد وانقضت ايامه ... وليمصين مع المبرد ثعلب بيت من الاداب اصبح نصفه ... خرباً وباقي نصفه فسيخرب فتزودوا من ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قليل يشرب واستجلبوا الفاظه وكأنكم ... بسريره وعليه جمع مجلب ورأى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الانفاس مما تكتب فليحلقن بمن مضى متخلف ... من بعده وليذهبن ويذهب 108 - ومن اخبار ثعلب قي الصولي: ولد ابو العباس احمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب واسماعيل ابن اسحاق القاضي وابو مسلم الكجي والمغيرة بن محمد المهلبي وميمون بن هارون الكاتب وعلي بن يحيى المنجم في سنة مائتين. ذكر ابو الفرج محمد بن اسحاق الوراق المعروف بأبن ابي يعقوب النديم البغدادي صاحب كتاب الفهرست له في ترجمة ثعلب قال: نقلت من خط أبي عبد الله بن مقلة: قال ابو العباس احمد بن يحيى: رأيت المأمون لما قدم من خراسان، وذلك في سنة اربع ومئتين، وقد خرج من باب الحديد وهو يريد قصر الرصافة والناس صفان الى المصلى، قال: وكان ابي حملني على يده، فلما مر المأمون رفعني على يده وقال لي: هذا المامون وهذه سنة اربع! فحفظت ذلك عنه إلى الساعة، وكانت سني يومئذ اربع سنين. وكان ثعلب والمبرد علمتين ختم تأريخ الادباء بهما. وكانا كما قال عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي صاحب التأريخ: ايا طالب النحو لا تجهلن ... وعذ بالمبرد او ثعلب تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الاجرب علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب وكان ثعلب يؤدب اولاد محمد بن عبد الله بن طاهر. وقال: سألني ابن الاعرابي: كم لك من الولد؟ فقلت: ابنه. وانشدته: لولا اميمة لم اجزع من العدم ... ولم اجب في الليالي حندس الظلم تهوى حياتي واهوى موتها شفقاً ... والموت اكرم نزال على الحرم فأنشد ابن الاعرابي: عميمة تهوى عمر شيخ يسره ... لها الموت قبل الليل لو انها تدري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 يخاف عليها جفوة الناس بعده ... ولا ختن يرجى اود من القبر وانشد فيه رجل: تبقى على الارض البسيطة واحد ... ساد الانام وانت ذاك الوحيد قال رجل لابي العباس: المسجد هذا المعروف، فما المسجد؟ قال: مصدر السجود! قال: فعرفني ما لا يجوز من ذا! فقال: لا يجوز مسجد ولا مسجد! وضحك وقال: هذا يطول ان وصفنا ما لا يجوز، ومثلك مثل ابن ماسويه وصف لانسان دواء، ثم قال: كل الفروج وشيئاً من الفاكهة! فقال: اريد ان تخبرني بالذي لا آكل. فقال: لا تأكلني ولا حماري ولا غلامي، وهئ القراطيس وبكر الي، فإن هذا يكثر إن وصفته لك!. وسأله رجل عن قول الله تعالى (انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) ، فقال: كل من احب ان يعبدمن دون الله، فهو ومن يعبده في النار. فقال له الرجل: فقد عبد المسيح وعبدت الملائكة!؟ فقال ثعلب: تجيئني بهذا العقل الضغير تسألني عن هذه المسئلة الكبيرة، أليس قد قلت لك: كل من احب ان يعبد من دون الله!؟ أفترى المسيح والملائكة أحبوا ان يعبدوا من دون الله!. وسأله ابو موسى عن قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليماً) ما اراد بقوله (تكليماً) في الكلام؟ فقال: إن المصدر إذا أكد به الفعل لم يكن الفعل لغواً كما قال بعض من يدعي ذلك! ألا ترى ان العرب تقول: قمت فضربت زيداً، فقمت كاللغو، ولا يقولون: قمت قياماً فضربت زيداً، ولو قال قائل: كلمت زيداً، لجاز أن يكون كلمه برسالة وكتاب وشفاها، فإذا اكده بالمصدر كان شفاها، فلم يكن غير ذلك (وكلم الله موسى تكليماً) تولى ذلك بنفسه. وسئل عن معنى قوله: ما منكم من أحد إلا سيخلوا به ربه ليس بينه وبينه ترجمان فيسأله! فقال: كفاحا، ليس بينهما رسول ولا ترجمان. قال الصولي: كنا يوماً عند ابي العباس ثعلب، فغضب على المدائني في شئ، فأفرط ثم سكن فقال: حدثني من رأى العتابي يخاصم وقد زادفي القول واظطرب، فعوتب على ذلك، فقال: اذا تشاجرت الخصوم طاشت الحلوم ونسيت العلوم. استعار بعض اهل العلم من ثعلب كتاباً لينسخ ويسمع، فدفع إليه فرعاً من فروعه. فسقط عنه، فرجه فأخبره بسقوط الكتاب منه وذهب يعتذر، فدخل ثعلبٌ إلى منزله وأخرج الأصل ثمّ أنشد " من الطويل ": إذا كان لي شيئانِ يا أُمَّ مالكٍ ... فإنّ لجاري منهما ما تخيَّرا وفي واحدٍ إن لم يَكُنْ غَيَرَ واحدٍ ... أراه له أهلاً وإن كنتُ مًعسرا جاء رجلٌ إلى ثعلب مودعاً، فلمَّا فرغ من وداعه قال: أعزَّك الله، تزودني بيتين!؟ اكتب " من البسيط ": أضسْتودعُ اللهَ جيراناً لنا شسعوا ... خلَّوا ديارهم للجدْبِ وانتجعوا من ذا يخبرهم عن ريفِ أرضهم ... من ماء عيني له البشرى إذا رجعوا قال أبو الحسن الأسديّ: تركتُ النبيذ وأخبرتُ أبا العباس بتركي إياه، ثمّ لقيتُ محمّد بن عبد الله بن طاهر، فسقاني، فمررتُ على ثعلب وهو جالسٌ على باب منزله، فلمَّا رآني علم أنيّ شاربٌ، فقام ليدخل منزله، ثمّ وقف على بابه، فلمَّا أن حاذيتهُ أنشأ يقول " من المنسرح ": قد كنتَ من بعدما نسكتَ وصا ... حبتَ ابن سهلان صاحب السقطِ إنْ كنتَ أحدثت زلَّةً غلطا ... فاللهُ يَعْفو عن زَلَّةِ الغلطِ وتركني ودخل منزله. ثمّ سألته بعد ذلك: من ابن سهلان؟ فقال: أهلُ الطائف يُسمون الخمار صاحب السَقَط. تُوفي ثعلبٌ في إحدى وتسعين ومائتين، ودفن في صبيحة يومه ذلك بمقابر باب الشأم. وكان سبب وفاته أنه خرج من مسجد الجامع بعد صلاة العصر يريد منزله وبيده دفترٌ ينظُرُ فيه، وثقلَ سمعهُ، فصدمه دابةٌ، فسقط على رأسه فو هوَّةٍ، فحُمل إلى بيته، فما زال يتأوَّهُ من رأسه حتى مات رحمه الله تعالى. 109 - ومن أخبار أبي العباس محمّد بن الحسن الأحْوَل قال إسماعيل بن نُوبْخت: مررنا بخرابة الحسن بن سهل، فشممتُ من بيوتها رائحة المسك، فأخبرتُ بذلك أبا العباس الأحول، فقال: إنّ الديار القديمة تطيب روائحها إذا اجتنبها ما يقذرها. ثمّ أنشدني " من المنسرح ": غّدَتْ بهم عنك نيَّةٌ قذفٌ ... غادرت الشعب غير ملتمئمِ واستودعتْ نشرها الديارَ فما ... تزدادُ إلا طيباً على القدِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 110 - ومن أخبار ابن عُليَل العَنَزيّ هو أبو عليّ الحسن بن عُليل بن الحسين بن عليّ بن حبيش بن سعد العنزي، أحدُ الرواة الثقات، مقيماً بسُر من رأى لم سنتقل عنها إلى أن تُوفيَ. روى عن أبيه عن جده الحسين بن عليّ. قال: تقدم أعرابيٌّ من بني العنبر إلى سوار بن عبد الله في خصومة، فحكم عليه، فأقبل الأعرابيّ على سوار فقال: واللهِ لقد رأيتُ رؤيا، ما أخطأت الرؤيا " من السريع ": رأيتُ رُؤيا فعبَّرْتها ... وكنتُ للأحلام عبَّارا رأيتني أخنُقُ في رَقدْتي ... ضَبَّا فكان الضَبُّ سَوّارا ثمّ برك على سوّار يخنقهُ، وتصايح الناسُ وأقاموه. فكان سوّار بعد ذلك لا يقعدُ للُحكم إلاّ وعلى رأسه رجُلان قائمان. 111 - ومن أخبار ابن مَهْديّ الكِسْرَويّ هو أبو الحسن عليّ بن مهديّ الإصبهانيّ، كتب إليه عبد الله بن المعتز " من الكامل ": يا باخلاً بكتابهِ ورسولهٍ ... أأردتَ تَجعَلُ في الفراق فراقا إنَّ العُهُود تموتُ إن لم تُحيّها ... والنأيُ يُحدثُ للفتى أخلاقا فكتب إليه عليّ بن مهديّ " من البسيط ": لا والذي أنتَ أسْنى من أُمجّدهُ ... عندي وأوفاهمُ عَهْداً وميثاقا ما حلتُ عن خيرِ ما قد كُنتَ تعْهدُه ... ولا تبدَّلتُ بعد النأْي أخلاقا لكنَّ عَجْزي عن نُعماك أفحمني ... فانقدتُ للعجزِ مغلوباً ومُشتاقا 112 - ومن أخبار المُفضَّل بن سَلَمَة بن عاصم كُنيته أبو طالب. هجاه أحمد بن أبي طاهر بقصيدة أولها " من الكامل ": إنّ المُفضَّل نقصُه في نفسه ... وفعالهِ قد حَطَّ فَضْلَ أبيه وكأن نكهته روائحُ عرضه ... فجليسهُ بالنتنِ في مكروهِ ولعليّ بن العبَّاس الروُميّ فيه " من الخفيف ": لو تلففّت في كساء الكسائي ... وتلبَّستَ فرْوةَ الفراء وتخللَّت بالخليلِ وأضْحى ... سيبويه لديك رَهْنَ سِباءِ وتكونتَ من سواد أبي الأسود شخصاً يُكنى أبا السوداءِ لأبي اللهُ أن يعُدَّك أهلَ العلمِ ... إلاّ من جملة الأغبياءِ 113 - ومن أخبار يحيىَ بن عليّ المُنجِّم وكُنيتهُ أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى بن أبي منصور المنجّم، حَسَن العلمِ بالعربية مفنناً في الآداب شاعراً مُفلِقاً، جالس الموَّفق بالله ومن بعده من الخلفاء، وخُصَّ بالمعتضد بالله. وُلد في سنة إحدى وأربعين ومائتين، وتُوفي فجأةً سنة ثلاثمائة. قال يحيى: قال لي أبو العبَّاس بن المعتز في يوم جعلت مُقامي فيه عنده وداعاً له وقد عزمت على الشخوص عن سُرّ من رأى " من السريع ": وكَلت بي الهَمَّ فسر راشداً ... بصحبةِ الله وشَرطِ الرُجوعِ خلَّيتني بعدك ذا حَسرةٍ ... بمقلةٍ عبرى وقلبٍ صديعِ فقلت مجيباً له " من السريع ": لايبكيك اللهُ ولا زلت في ... عيشٍ رغيدٍ وجنابٍ مريعِ فالدهرُ قد يجمع بعد النوى ... أجَلْ كما فرَّق بعد الجميعِ 114 - ومن أخبار أبي الحسن أحمد بن سعيد الدمشقيّ قال: كنتُ مؤدب أولاد المُعز، فتحمَّل أحمد بن يحيى بن جابر الفلاذُريّ على قبيحةَ أُمِّ المعتز بقوم سألوها أن تأذن له في أن يدخُل إلى ابن المعتز وقتاً من النهار، فأجابت. واتصل الخبر بي، فجلستُ في منزلي غضبان، فكتب إليّ أبو العباس عبد الله بن المعتز وله إذ ذاك ثلاث عشرة سنة " من البسيط ": أصبحتُ ياأبن سعيدٍ حُزْت مَكْرمةً ... عنها يُقصر من يحفى ونتعلُ سربلتني حكمة قد هذبت شيمي ... وأجَّجت غرب ذهني فهو مُشتعلُ أكونُ إن شِئت قُسَّاً في خطابته ... أو حارثاً وهو يوم الفخْرِ مُرْتجِلُ وإنْ أشأ فكزيدٍ في فرائضهِ ... أو مثل نُعمان لمَّا ضاقت الحِيلُ أو الخليلَ عَروُضيَّا أخا فِطنٍ ... أو الكسائي نحوياً له عِللُ تغلي بُداهة ذهني في مُركَّبها ... كمثلِ ما عُرِفتْ آبائي الأُولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وفي فمي صارمٌ ما سلَّه أحدٌ ... من غمدهِ فدرى مالعيشُ والجذلُ عُقْباكَ شُكرٌ طويلٌ لا نفاد له ... تبقى معالمه ما أطَّتِ الإبلُ 115 - ومن أخبار أبي الحسن عليّ بن سليمان بن الفضْل الأخْفش قال المرزبانيّ: لم يكن متسعاً في الرواية للأخبار والعلم. شهدتهُ يوماً وصار إليه رجلٌ من حُلْوان، فحين رآه قال " من الكامل ": حَيَّاك ربُّك أُيها الحُلواني ... وكفاك ما يأتي من الأزمانِ ثمّ التفت إلينا وقال: ما نحسنُ من الشعر إلا هذا وما جرى مجراه. - وقال: أنشدنا المُبّرد " من الكامل ": لا تَكْرهَنْ لَقباً شُهرتَ بهِ ... فلرُبَّ محظوظٍ من اللقبِ قد كان لُقبَ مرَّةً رَجُلٌ ... بالوائليّش فجازَ في العَرَبِ وقال ابن الروميّ فيه " من المنسرح ": قُولا لنحويّنا أبي حسنٍ ... إنّ حُسامي متى ضربتُ مضى وإنّ نبلي متى هممتُ بأنْ ... أرميَ بسلّتها بجمرِ غضا لا تحسبَنَّ الهجاء يحفلُ بالرّفع ولا خفضِ خافضٍ خفضا ومدحه أيضاً. - ومات الأخفش سنة خمس عشرة وثلاثمائة. 116 - ومن أخبار أبي إسحاق إبراهيم بن السّريّ الزَجّاج هو أقدم أصحاب المبّرد، وقد صنف " معاني القرآن " و " الاشتقاقط و " العروض " وكتباً في النحو واللغة. 117 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن السَريّ السَرّاج من أحدث غلمان المبّرد سِنَّاً مع ذكاء فطنة، وكان يميل إليه المبّرد ويقربه. 118 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزْديّ ولُد بالبصرة وتأدب بها، وعلم اللغة والأشعار والأنساب، وقرأ على علماء البصرة. وهو محمّد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن حَنْتم بن حسن بن حماميّ - وهو منسوب إلى قرية من نواحي عمان يقال لها حمامي - بن جروْ بن واسع بن وهب بن سلَمة بن جُشم بن حاضر بن جشم بن ظالم بن حاضر ابن أسد بن عدي بن عمرو بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عُدثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. روى عن أبي حاتم. وقال ابن ديد: خرجتُ أريد زهران بعد دخول البصرة، فمررت بدارٍ قد خربت، وكتبت على حائطها " من الرمل ": أصبحوا بعد جميعِ فرقاً ... وكذا كُلُّ جميعٍ مُفترقْ ومضيتُ، فلمَّا رجعتُ فإذا تحته مكتوبٌ " من الرمل ":س ضحكوا والدهرُ عنهمُ صامتٌ ... ثمّ أبكاهم دماً حين نطقْ قال ابن دريد: سقطتُ من منزلي بفارسٍ، فانكسرت توقوتي وسهرت ليلتي، فلمّا كان في آخر الليل حملتني عيناي، فرأيت في نومي رجلاً ظريفاً أصفر الوجه كوسجاً دخل عليَّ فقال: أنشدني أحسن ماقلت في الخمر! فقلت: ماترك أبو نواس لأحدٍ شيئاً! فقال: أنا أشعر منه! قلتُ: ومن أنت؟ قال: أبو زاجية الشامي. وأنشدني " من الطويل ": وحمراءَ قَبْلَ المَزْج صفراءَ بعده ... بدت بين ثَوبي نرجسٍ وشقائقِ حكت وجنةَ المعشوقِ صرفاً فسلَّطوا ... عليها مزاجاً فاكتست لونْ عاشقٍ قال أبو بكر: قلتُ له: أسأت! قال: ولمّ؟ قلتُ: لأنك قلت " حمراء " فقدمت الحُمرة، ثمّ قلت " بدت بين ثَوْبي نرجسٍ وشقائقِ " فقدمتَ الصُفرة، فألاّ قدمتها على الأخرى كما قدَّمتها على الأولى؟! فقال: وما هذا الاستقصاء في مثل هذا الوقت، يابغيضُ؟! - وقال ابن دريد " من البسيط ": عانقتُ منه وقد مال النُعاسُ به ... والكأسُ تقسمُ سُكراً بين جُلاَّسي ريحانةً ضمخت بالمسك ناضرةً ... تَمُجُّ بَرْد الندى في حرِّ أنفاسي وقال يرثي عبد الله بن عمارة " من الطويل ": بنفسي ثرى ضاجعت في ثنبه البلى ... لقد ضمَّ منك الغيثَ والليثَ والبَدْرا فلو أنّ حَيَّا كان قبراً لميّتٍ ... لصيَّرت أحشائي لأعظمه قبرا وما خلت قبراً وهو أربعُ أذْرُعٍ ... يَضُمُّ ثقال المُزن والطود وتلبحرا وقال من قصيدة انتظم في بيتٍ اسم رجلٍ ونسبه " من الطويل ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لَنْعْم فَتى الجُلَّى ومستنبطُ الندى ... وملجأُ محرومٍ ومفزعُ لاهثِ عياذ بن عمرو بن الجليس بن جابر بن زيد بن منظور بن زيد بن وارث. 119 - ومن أخبار ابن عَرَفة المُهلَّبيّ هو ابو عبد الله ابراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن عبد الله بن عبيد الله ابن قبيصة بن المهلب بن ابي صفرة، كان ثقة فقيهاً على مذهب داود الاصبهاني. انشد لنفسه: لنا صديق غير عالي الهمم ... يحصي على القوم سقاط الكلم ما استمتع الناس بشئ كما ... يستمتع الناس بطرح الحشم وقال: كم قد ظفرت بمن اهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر كم قد خلوت بمن اهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر اهوى الملاح واهوى ان اجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر كذلك الحب لا إتيان فاحشة ... لا خير في لذة من بعدها سقر وقال: تشكو الفراق وانت تزمع رحلة هلاَّ أقمت ولو على جَمْر الغضا 3فالآن عُذْ بالصبر أو متْ حسرةً فعسى تَرُدُّ لك النوى ما قد مضى وقال في مدح الشيب " من الكامل ": لاتجزَعنَّ من المشيبِ فإنّه ... فيه كماُ المرِْ والتعميرُ ودعِ السّواد فإنما أيَّامه ... في عَدِ أيَّام البياض يسيرُ وقال " من الكامل ": أتخالُني من زلَّةٍ أتعتبُ ... قَلبي عليكَ أرقُّ ممّا تحسبُ قلبي وروحي في يديك وإنما ... أنت الحياةُ فأين عنك المذهبُ 120 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن القاسم بن محمّد الأنباريّ كان ثقةً صدوقاً ديّناً، وأبوه أبو محمّد أحدُ الرواة الثقات من أهل سُرَّ من راى، وكان أبو بكر مُتقن الحفظ للقرآن والنحو واللغة والشعر، وله تصنيفات في علم القرى، وغيره. مات في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. 121 - ومن أخبار الصُوليّ هو أبو بكر محمّد بن يحيى بن عبد الله بن العبَّاس بن محمد بن صُول ملك جُرجان، كان عزيزُ الرواية كثير العلم حسن المّذاكرة حافظاً للأخبار والأشعار والملح والنوادر رأسا في تصنيف الأخبار وجمع الكتب، وجالس المُكتفي بالله واخُتصَّ بالرارضي بالله في حياة أبيه وعند تقلُّده الخلافة. توفي في سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة. ذكر النسابين 122 - منهم دَغْفل بن حَنْظَلةَ قال أبو حاتم: سمعتُ الأصمعيَّ يذكر نسّابُ العرب، فذكر دغفلا من بكر بن وائل والنخَّار العُذري وابن القريَّة وصُبيحاً وأبا ضَمْضَم البكريّ وكيساً النمري، وقال: هؤلاء كلُّهم أُميون. وقيل: إنّ دغفلاً سدوسيٌّ أدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً، ووفد على معاوية، فضمه إلى يزيد مؤدباً. - سئل عن نسب النمل، فقال: إنها ثلاثة أبطن: ذَرٌّ وهي الصغار الصفر، وفازرٌ وهي التي رأسها كبير ومؤخرها صغير، وعقفان وهي الطوال القوائم. قال له معاوية: من أين ضبطت هذا؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول. وقال: أيُّ بيت قالته العرب أندى وأفخر؟ قال " من الطويل ": له هممٌ لا منتهى لكبارها ... وهمَّتهُ الدُنيا أجلُّ من الدهرِ له راحةٌ لو أن معشارَ جُودها ... على البَرّ كان البَرُّ أندى من البحرِ وقال دغفل: يا معشر العرب، فاخروا العجم بثلاث خصال! فإنكم إن فاخرتموهم بغيرهن غلبوكم، فاخروهم بأنكم حفظتم أنسابكم ونسوها، وبأنكم عففتم عن الحرم وأتوهنّ، وبأنكم أحسنُ الناس شعراً. 123 - ومن النسلبين أبو ضَنْضَم البَكْري وهو أحد بني عمرو بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. قال الأصمعيّ عن عمه قال: تذاكرنا عند أبي ضمضم البكري من يسمى من الشعراء عمراً، فأنشدنا لسبعين أو ثمانين شاعراً كلُّهم اسمه عمروٌ. قال الأصمعيّ: فعددتُ أنا وخلف الاحمر، فلم نقدر على أكثر من ثلاثين. 124 - ومنهم النخّار العُذْريّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وهو أحد بني الحارث بن سعد بن هذيم. قال ابن الأعرابيّ: دخل النخَّار ابن أوس العُذري على معاوية وعليه عباءة فكلمه، فأعرض عنه، فقال: يا معاوية، إنّ العباءة لاتكلمك، إنما يكلمك من فيها. فأقبل عليه، ثمّ تكلم فملأ سمعه ثمّ نهض ولم يسأله، فقال معاوية: مارأيت رجلاً أحقر أولاّ ولاأجلَّ آخراً منه. 125 - ومن أخبار وَهْب بن مُنَبِّهٍ كنيته أبو عبد الله، ومنبه بن كامل بن سيج - وقيل: شمخ - من الفرس الذين بعثهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لقتال الحبشة. وكان وهب من القراء الفقهاء العلماء بالكتب السالفة. وكتب وهبٌ إلى عمر بن عبد العزيز وكان على بيت المال: أمَّا بعدُ، فإني افتقدتُ مالا من بيت المال ولا أدري كيف ضاع، فاكتب إليّ كيف رأيك في ذلك. فكتب إليه عمر: أمَّا بعدُ، فإني لستُ أتهمُ دينك ولا أمانتك، ولكنيّ أتهمُ تفريطك وتضييعك، فأنا حجيجُ المسلمين في أموالهم، وإنما لأشحهم عليك يمينٌ، فاحلف، والسلام! وقال وهبٌ في قوله تعالى: (فلنُحْييَنَّهُ حَيَاةً طيّبَةً) ، قال: القناعة. - وقالك كاد كلُّ شيء يكون سبعا: الطواف ورمي الجمار والأيام والأرضون والسموات والبحار وأبواب جهنم وأوديتها، ومابين كلّ سمائين منها مقدار سبعمائة عام، وما بين طرفي الأرض مقدار سبعة آلاف سنة، والبقرَّات سبعٌ، ومكث يوسف عليه السلام في السجن سبعاً، والسنابل الخضر سبع، واليابسة سبع، والحطمة التي حطموا سبع ورزقوا سبعاً، والبلاء الذي أصاب أيُّوب عليه السلام سبع، وأم القرآن سبع، والبلاء الذي خرج فيه نخت نصَّر سبع، وما شقّ الله عزّ وجل في وجه الإنسان سبعة: فمه وعينيه ومنخريه وأُذنيه، ويقع على سبعة إذا سجد: على وجهه ويديه ورجليه ورُكبتيه، وخلق الله الإنسان من سبعة، فقال تعالى: (ولقد خلَقْنا الإنْسَانَ مِنْ سُلالةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطفةً في قرارٍ مكين، ثُمَّ خَلَقْنا النُطفةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقةَ مُضْغةَ فخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاماً فَكَسْونا العِظامَ لَحْماً ثُمَّ أنِشأناهُ خَلْقاً آخر فَتَبَاركَ اللهُ أحسَنُ الخالقين) . وقال: الدّنيا ثُلُثُ بَرٌّ وثلث بحر وثلُث دابّة تُسمى بهوت، والخلق بنو آدم وبنو إبليس: بنو آدم الثلث وبنو إبليس الثلثان، والثلثان من بني آدم ياجوج ومأجوج، فمن الثلث الباقي ثلاثةُ أثلاثٍ: ثلثُ أندلس وثلثٌ الحبشة وثلث سائر الناس من العرب والعجم والروم والفرس. قال رجلٌ لوهب: إن فلاناً شتمك. فقال: أما وجد الشيطان بريداً غيرك؟! - وقال: قال لقمان لابنه: يابنيّ، اعلم أنّ أشدَّ العدم عدم العقل وأعظم المصائب مصيبة الدين وأبين المرازي مرزئة الحلم وأنفع الغنى غنى النفس، فتثَّبت في ذلك والزم القناعة والرضا! - وقال: يتشعبُ من العقل عشرة أخلاق صالحة: التفُّهُم والتفقه والتعلم والتفكر والحيلة والإربة والاعتبار والتدبر والازدجار والتنزه. وقال: ولد لهودٍ أربعة وهم العرب كلّهم قحطان بن هود ومقحط بن هود وقاحط بن هود وفالغ بن هود وهو مضر وقحطان أبو اليمن، والباقون ليس لهم نسل، وأبو هودٍ أول من تكلم بالعربية وهو شالخ بن أرفخشذ ابن سام بن نوح. وقال: يحشر الخلق يوم القيامة يتكلمون بالسريانية، فمن دخل منهم الجنة تكلم بالعربية. وقال: إذا في الصبي خلقان طُمع في رشده - الحياء والرهبة. وقال: اجتمعت الأطباء على أن رأس الطب الحمية، واجتمعت الحكماء أنّ رأس الحكمة الصمت. - وقال: وجدتُ في التوراة أربعة أسطر متوالياتٍ: من قرأ كتاب الله فظن أن لن يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله، والثاني: من شكا مصيبته فإنما شكا ربَّه عزّ وجلّ، والثالث: من حزن على ما في يديّ غيره فقد سخط قضاء ربه، والرابع: من تضعضع ذهب ثلثا دينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقال: بنى مدينة حمص رجلٌ يقال له صوري من ولد كنعان بن حام ابن نوح من بعد الغرق. ودمشق بناها العادي غلام إبراهيم عليه السلام، وكان حبشياً، وهبه له نمرود حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسم الغلام قبل ذلك دمشق، فسماها على اسمه. وبيت المقدس بناه أربون النبطي من ولد كنعان بعد الغرق. وحرّان بناها هاران أبو لوط وهو أخو إبراهيم. ومصر بناها مصرايم بن حام بن نوح وهو أبو القبط بعد الغرق. وإفريقية بناها كامن بن يافث بن نوح. والإسكندرية بناها الإسكندر، وكانت مدينته التي ولد فيها مقدونية. والجزيرة بناها سام بن نوح. والموصل بناها أشون بن سام بن نوح إلى خراسان. والأهواز بناها عالم بن سام بن نوح وهو الذي بنى السوس. وسمرقند بناها شمر يرغش وهو في " الجمهرة " من ملوك اليمن. ومدينة بُصرى بناها بُصر بن إسحاقز وهمذان بناها مادى بن يافث بن نوح. وإرمينية بناها ياوان بن يافث بن نوح. مات وهب في سنة أربع عشرة ومائة، ثمّ بعده أخوه معقل ثمّ أخوه غيلان ثمّ أخوه همام. آخر المختصر المسَّمى بنور القبس المختصر من المقتبس في أخبار النحاة والأدباء والشعراء والعلماء تأليف الحافظ أبي عبيد الله محمّد بن عمران بن موسى المرزباني رحمه الله تعالى والحمد لله وحده وصلواته على خيرته من خلقه محمّد نبيّه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً وحسبنا الله ونعم الوكيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128