الكتاب: الفصول في الأصول المؤلف: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (المتوفى: 370هـ) الناشر: وزارة الأوقاف الكويتية الطبعة: الثانية، 1414هـ - 1994م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الفصول في الأصول الجصاص الكتاب: الفصول في الأصول المؤلف: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (المتوفى: 370هـ) الناشر: وزارة الأوقاف الكويتية الطبعة: الثانية، 1414هـ - 1994م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذِهِ " فُصُولٌ وَأَبْوَابٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ". تَشْمَلُ عَلَى مَعْرِفَةِ طُرُقِ اسْتِنْبَاطِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِهِ، وَأَحْكَامِ أَلْفَاظِهِ، وَمَا تَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ أَنْحَاءُ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْأَسْمَاءُ اللُّغَوِيَّةُ، وَالْعِبَارَاتُ الشَّرْعِيَّةُ، وَاَللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِمَا يُقَرِّبُنَا إلَيْهِ، وَيُزْلِفُنَا لَدَيْهِ، إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ [بَابُ الْعَامِّ] [فَصْلٌ فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا] بَابُ الْعَامِّ وَفِيهِ فُصُولٌ: فَصْلٌ فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا مِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا: مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الْأَرْضِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» ، فَسُئِلَ عَنْ حُكْمِ النَّجَاسَاتِ، فَأَجَابَ عَنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ بِجَوَابٍ مُطْلَقٍ، فَدَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفَصَّلَ حُكْمَهُ فِي الْجَوَابِ. فَهَذَا، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، هُوَ مِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي إيجَابِ الْأَحْكَامِ بِهَا. وَمِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا: أَنْ يَرِدَ لَفْظُ عُمُومٍ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَفْسِهِ إذَا أُفْرِدَ عَمَّا قَبْلَهُ. فَالْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ بِمَا قَبْلَهُ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةُ النَّظِيرِ بِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] إلَى قَوْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ مَا تَقَدَّمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَمَّا تَقَدَّمَهُ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى وُرُودِ بَيَانٍ فِيهِ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْصُرَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ مِنْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ الْعِدَدِ وَارِدٌ فِي بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ دُونَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرِ مُفْتَقِرٍ إلَى غَيْرِهِ مَتَى حَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَصَرْنَا حُكْمَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ خَصَّصْنَاهُ. وَالتَّخْصِيصُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مُقْتَضَاهُ مُنْفَرِدًا عَمَّا قَبْلَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وقَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ ظَاهِرِهِ إذْ لَيْسَ الْأَجَلُ مُخْتَصًّا بِالْعِدَدِ دُونَ غَيْرِهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا وَلَمْ يَكُونُوا مُفْتَقِرِينَ عِنْدَ سَمَاعِهَا فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا إلَى بَيَانٍ يَرِدُ مِنْ غَيْرِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ «أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ لَمَّا أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ عَنْ الِانْتِقَالِ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا فِي عِدَّتِهَا - وَكَانَ قَدْ قُتِلَ عَنْهَا - قَالَ لَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فَلَمْ تَحْتَجْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مَعَ سَمَاعِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهَا جَاهِلَةً بِالْحُكْمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مُكْتَفِيًا فِي إلْزَامِهَا السُّكُونَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً لَمَا اقْتَصَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّهُ تِبْيَانٌ يَزُولُ مَعَهُ الْإِشْكَالُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا جَاءَتْ مُسْتَفْتِيَةً لَهُ جَاهِلَةً الْحُكْمَ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ (مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ بِعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا أَنَّهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ. فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ عُمُومَ هَذَا اللَّفْظِ كَافٍ فِي اعْتِبَارِ الْحَمْلِ لِسَائِرِ الْمُعْتَدَّاتِ. فَبَانَ بِذَلِكَ صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ اعْتِبَارِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِنَفْسِهِ دُونَ تَضْمِينِهِ بِمَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مَتَى اكْتَفَى بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ لَوْ اُبْتُدِئَ الْخِطَابُ بِهِ صَحَّ مَعْنَاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُضَمَّنًا لِبَيَانِ السَّرِقَةِ. فَنَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْقَطْعِ بِالتَّوْبَةِ، وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُحَارِبِينَ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى رَاجِعٌ إلَى الْمَذْكُورَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ كِنَايَةً لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَظْهَرٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَلِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ إلَّا بِتَضْمِينِهِ بِمَا قَبْلَهُ. وَكُلُّ لَفْظٍ مَعْطُوفٍ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إلَّا بِتَضْمِينِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَتَضْمِينُهُ بِهِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ، هَذَا خِطَابٌ لَوْ اُبْتُدِئَ لَمْ يُفِدْ مَعْنًى، فَصَحَّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ، وَأَنَّ النِّكَاحَ الْمَبْدُوءَ بِذِكْرِهِ مُضْمَرٌ فِيهِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَانْكِحُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ الْمُضْمَرُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ هُوَ النِّكَاحَ الْمَبْدُوءَ بِذِكْرِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ إضْمَارَهُ بِعَيْنِهِ. وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَطْءِ فَإِنَّمَا أَضْمَرَ فِيهِ مَعْنًى لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ وَتَرَكَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِيهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 [فَصْل تَنَاوَلَ اللَّفْظ مَعْنَيَيْنِ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا مَجَاز وَفِي الْآخَرِ حَقِيقَة] فَصْلٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَتَى تَنَاوَلَ اللَّفْظُ مَعْنَيَيْنِ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ وَفِي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يُعْقَلُ مِنْهُ الْعُدُولُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَالْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اللُّغَةِ. وَالْمَجَازُ هُوَ الْمَعْدُولُ بِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ جِهَتِهِ وَمَوْضِعِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ كَوْنَ اللَّفْظِ حَقِيقَةً مَجَازًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُحَالٌ أَوْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ وَمَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وَذَلِكَ نَحْوُ الْقُرْءِ إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ مَجَازٌ فِي الطُّهْرِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وَاسْمُ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ لِلْعَقْدِ. فَالْوَاجِبُ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِمَا وَصَفْنَا. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي اللَّفْظِ إذَا تَنَاوَلَ مَعْنَيَيْنِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَحَدِهِمَا كِنَايَةٌ عَنْ الْآخَرِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ كَوْنَ اللَّفْظِ صَرِيحًا كِنَايَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا مُحَالٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَحَدَهُمَا فَكَأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْآخَرِ. وَمَتَى وَرَدَ مُطْلَقًا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الصَّرِيحِ دُونَ الْكِنَايَةِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْكِنَايَةُ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . فَاللَّمْسُ حَقِيقَةٌ بِالْيَدِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي مُرَادِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الْمُرَادَ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ نَفَى الْمَعْنَى الْآخَرَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، وَذَلِكَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا الْمُرَادُ الْجِمَاعُ، وَكَانَ عِنْدَهُمَا أَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 غَيْرُ مُرَادٍ، وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا الْمُرَادُ اللَّمْسُ بِالْيَدِ دُونَ الْجِمَاعِ، فَكَانَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا يَرَيَانِ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتَيَمَّمَ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ انْتِفَاءُ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُجِيزُونَ إرَادَةَ الْمَعْنَيَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. [فَصْل الظَّوَاهِر الَّتِي يَقْضِي عَلَيْهَا دَلَالَةُ الْحَالِ فَيَنْقُلُ حُكْمه إلَى ضِدِّ مُوجَبِ لَفْظِهِ] فَصْلٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ الظَّوَاهِرِ مَا يَقْضِي عَلَيْهِ دَلَالَةُ الْحَالِ فَيَنْقُلُ حُكْمَهُ إلَى ضِدِّ مُوجَبِ لَفْظِهِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَلَوْ وَرَدَ هَذَا الْخِطَابُ مُبْتَدِئًا عَارِيًّا عَنْ دَلَالَةِ الْحَالِ لَكَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَعِيدٌ وَزَجْرٌ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَارِي عَنْ دَلَالَةِ الْحَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْلُ النَّجَاشِيِّ إذَا اللَّهُ عَادَى أَهْلَ لُؤْمٍ وَرِقَّةٍ ... فَعَادَى بَنِي الْعَجْلَانِ رَهْطَ ابْنِ مُقْبِلِ قَبِيلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَمَدَّحُونَ بِنَفْيِ الْغَدْرِ وَالظُّلْمِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ذَمٌّ وَهِجَاءٌ فَخَرَجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَ الْهِجَاءِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوثَقَ لَهُمْ بِذِمَّةٍ يَغْدِرُونَ بِهَا، وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَظْلِمُوا أَحَدًا فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ نَاقِلَةً لِحُكْمِ اللَّفْظِ إلَى ضِدِّ مُقْتَضَاهُ وَمُوجَبِهِ لَوْ كَانَ وُرُودُهُ مُطْلَقًا. وَمِمَّا اعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ قَوْلُهُمْ: مَنْ قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ فَقَالَ لَهَا: إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهَا إنْ قَعَدَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ: تَغَدَّ عِنْدِي الْيَوْمَ، فَقَالَ: إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ، أَنَّ هَذَا عَلَى ذَلِكَ الْغَدَاءِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ تَغَدَّى عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: (وَاَللَّهِ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَعَبْدِي حُرٌّ) فَصَارَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْيَوْمِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِمَّا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ مِنْ مُغَالَطَاتِ الْخُصُومِ فِي هَذَا الْبَابِ: احْتِجَاجُهُمْ فِي زَعْمِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بِعُمُومِ أَلْفَاظٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَتَى حَصَلَتْ عَلَيْهِمْ وَكُشِفَ عَنْ حَقِيقَتِهَا لَمْ يَتَحَصَّلْ مِنْهَا شَيْءٌ نَحْوُ احْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ فِي أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وَالْكَافِرُ خَبِيثٌ وَلَا يَجُوزُ زَعْمٌ بِالظَّاهِرِ، وَنَحْنُ مَتَى سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْإِنْفَاقِ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا قَالُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ كُفْرُ الْكَافِرِ لَا عَيْنُ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُذَمَّ مِنْ أَجْلِهَا. وَاَلَّذِي أَنْفَقَهُ الْمُعْتِقُ بِعِتْقِهِ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرَ وَإِنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ، وَالْعِتْقُ لَيْسَ بِخَبِيثٍ وَكَيْفَ يَكُونُ خَبِيثًا وَهُوَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَحْصُلْ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَنَظِيرُهُ احْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ مِنْهُمْ بِسُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِ صَدَقَةِ السَّائِمَةِ، إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أَعْطَاهَا رَبُّ الْمَالِ الْمَسَاكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] . فَيَسْتَدِلُّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا مَتَى أَخْرَجَهَا رَبُّ الْمَالِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ وَأَخْفَاهَا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْخُذُهَا مِنْهُ ثَانِيًا. وَمَوْضِعُ دَلَالَةِ الْآيَةِ لَا يَتَنَافَى لِأَنَّا نَقُولُ: إخْفَاؤُهَا خَيْرٌ لَهُ، وَلِلْإِمَامِ مَعَ ذَلِكَ أَخْذُهَا، فَإِذَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ، بَلْ دَلَالَتُهَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ، لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ خَيْرٌ لَهُ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَحْصُلُ لَهُ الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ فَيَكُونُ خَيْرًا لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِنْ نَظَائِرِ احْتِجَاجِهِمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا فِي الْوُضُوءِ» قَالُوا: فَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى " الْمَسْحَ مَرَّةً وَاحِدَةً " لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ وَخَبَرُ الزَّائِدِ أَوْلَى وَمَتَى حَمَلْت عَلَيْهِمْ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ وَقَابَلْته بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ لِأَنَّا لَمْ نَخْتَلِفْ فِيهِ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ مَسْحَةٍ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْمَعْنَى ذِكْرٌ فِي الْخَبَرِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُغَالَطَةِ. وَنَحْوُهُ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَمِ الْحَيْضِ «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 عَلَى أَنَّ غَسْلَ النَّجَاسَاتِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْمَاءِ وَهَذَا غَلَطٌ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ الَّذِي تَضْمَنَّهُ الْخَبَرُ الْأَمْرُ بِغَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ بِالْمَاءِ، وَمَتَى أُزِيلَ الدَّمُ بِخَلٍّ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ دَمٌ تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، فَإِذَنْ لَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْخَبَرِ بِمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ. وَمِثْلُهُ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَاءِ بِمَوْتِ (الذُّبَابِ فِيهِ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَالْآيَةُ إنَّمَا أَوْجَبَتْ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ، وَالْمَاءُ الَّذِي فِيهِ مَيْتَةٌ لَا يُسَمَّى مَيْتَةً فَكَيْفَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ عُمُومِ لَفْظٍ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَاءَ بِحَالٍ. وَنَظِيرُهُ اسْتِدْلَالُ مَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ وَالسَّرِقَةِ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» . وَالْخَبَرُ إنَّمَا أَوْجَبَ رَدَّ الْمَأْخُوذِ بِعَيْنِهِ، وَالْقِيمَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْمُخَالِفُ تَضْمِينَهَا إيَّاهُ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْخَبَرِ فَاعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ سَاقِطٌ. وَمِمَّا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ بَيْنَ الْمُنَاظِرِينَ حَدِيثُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» وَيُرْوَى: «مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنَّا فَهُوَ رَدٌّ» وَهَذَا اللَّفْظُ مِمَّا لَا يَصِحُّ (لِأَحَدٍ) الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةٍ فِي فَسَادِ الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ مَا رَامَ إثْبَاتِهِ إلَى دَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ، إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا حَصَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَانَ مَرْدُودًا. نَظِيرُ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. إذَا احْتَجَّ مُبْطِلُوهَا بِهَذَا الْخَبَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 قِيلَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْحَالِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ، إذْ لَيْسَ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَكُونُ جَوَازُهَا وَسُقُوطُ الْفَرْضِ بِهَا مِنْ أَمْرِهِ، وَهَذَا مَوْضِعُ خِلَافٍ، فَيَحْتَاجُ الْمُحْتَجُّ بِالْخَبَرِ إلَى أَنْ يُقِيمَ دَلَالَةً مِنْ غَيْرِ الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ جَوَازَهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال بِهِ وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ احْتِجَاجِ الْمُخَالِفِينَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا لِنُنَبِّهَ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ، وَلِئَلَّا يَحْسُنَ الظَّنَّ بِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ ظَاهِرًا حَتَّى يُوَافِقَ عَلَى تَصْحِيحِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ، فَإِنَّ أَكْثَرَ احْتِجَاجَاتِهِمْ تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَمَتَى طُولِبَ بِتَحْقِيقِهِ اضْمَحَلَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 [بَابٌ فِي صِفَةِ النَّصّ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: النَّصُّ: (كُلُّ) مَا يَتَنَاوَلُ عَيْنًا مَخْصُوصَةً بِحُكْمٍ ظَاهِرِ الْمَعْنَى بَيِّنِ الْمُرَادِ فَهُوَ نَصٌّ وَمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ فَهُوَ نَصٌّ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ إذَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ حُكْمِهِ وَبَيْنَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ. إذْ كَانَ الْعُمُومُ اسْمًا لِجَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ وَانْطَوَى تَحْتَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَأَنَّ قَطْعَ السَّارِقِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَكَذَلِكَ جَلْدُ الزَّانِي، وَإِيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ. وَكُلٌّ إنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمِهِ بِعُمُومِ لَفْظٍ يَنْتَظِمُ مَا شَمَلَهُ الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَى عَيْنٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلَيْسَ جَوَازُ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى لَفْظِ الْعُمُومِ وَجَوَازُ تَخْصِيصِهِ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَصًّا إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ. كَمَا أَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعَشَرَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَشَرَةِ مَعَ جَوَازِ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ إدْخَالُ الشَّرْطِ عَلَيْهِ وَتَعْلِيقُهُ بِحَالٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا إذَا عَرِيَ مِنْ شَرْطٍ أَوْ ذِكْرِ حَالٍ. وَالنَّصُّ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي إظْهَارِ الشَّيْءِ وَإِبَانَتِهِ. فَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَصَصْت الْحَدِيثَ إلَى فُلَانٍ، بِمَعْنَى أَنِّي أَظَهَرْتُ أَصْلَهُ. وَمَخْرَجَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَنُصُّ الْحَدِيثَ إلَى أَهْلِهِ ... فَإِنَّ الْأَمَانَةَ فِي نَصِّهِ وَمِنْهُ نَصَصْت الدَّابَّةُ فِي السَّيْرِ إذَا أَظْهَرْت أَقْصَى مَا عِنْدَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قَالَ الشَّاعِر: تَقْطَعُ الْخَرْقَ بِسَيْرِ نَصٍّ ، وَمِنْهُ الْمِنَصَّةُ، وَهُوَ الْفَرْشُ الَّذِي يُرْفَعُ لِيَقْعُدَ عَلَيْهِ الْعَرُوسُ (لِيَكُونَ ظَاهِرًا) لِلْحَاضِرَيْنِ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي مَعْنَى النَّصِّ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا. وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِضُرُوبٍ (مِنْ) التَّأْوِيلِ أَنَّ مَا قَامَتْ لَهُ الدَّلَالَةُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَانِي أَنَّهُ (هُوَ) الْمُرَادُ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ (إنَّ) هَذَا نَصٌّ عِنْدِي، وَكَذَلِكَ إذَا رَوَى ذَلِكَ التَّأْوِيلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ نَصُّ الْكِتَابِ لِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] يَحْتَمِلُ السُّلْطَانُ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ. فَإِذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ (بِهِ) الْقَوَدُ جَازَ أَنْ يَقُولَ قَدْ نَصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إيجَابِ الْقَوَدِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 [بَابٌ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ] [فَصْل الْمُجْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ] فَصْلٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمُجْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَارِبُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْعُمُومِ (لِأَنَّ الْعُمُومَ) لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جُمْلَةٍ إذَا كَانَ يَقْتَضِي جَمْعًا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَكُلُّ جَمْعٍ فَهُوَ جُمْلَةٌ. فَمَعْنَى الْعَامِّ وَالْمُجْمَلِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَذَا الْوَجْهِ. فَجَائِزٌ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْمُجْمَلِ عَنْ الْعَامِّ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَامَّ فِي مَوَاضِعَ فَسَمَّاهُ مُجْمَلًا، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِهِ مُضَايَقَةٌ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَالُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ مَجْهُولٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ عُمُومًا وَلَا عِبَارَةَ عَنْهُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] ، (وَنَحْوُ قَوْلِ) الْقَائِلِ أَعْطِ زَيْدًا (حَقَّهُ) وَهُوَ مَا أُبَيِّنُهُ لَك بَعْدَ هَذَا، فَهَذَا مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْعُمُومِ فَالْمَعْقُولُ عِنْدَهُمْ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْعُمُومِ: أَنَّهُ اللَّفْظُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ قَدْ عُلِّقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بِهِ حُكْمٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَأَمَّا الْمُجْمَلُ: فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ إجْمَالُهُ فِي نَفْسِ اللَّفْظِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُبْهَمًا غَيْرَ مَعْلُومٍ الْمُرَادُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. وَالْقِسْمُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ لَوْ خَلَّيْنَا وَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ بِمَا يَقْتَرِنُ إلَيْهِ مِمَّا يُوجِبُ إجْمَالَهُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ دَلَالَةٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» . وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُؤْتَمَنُ فِيهِ الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهِ الْأَمِينُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ . قَالَ: سَفِيهُ الْقَوْمِ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» وَقَدْ كَانَ السَّامِعُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَاهُ حَتَّى بَيَّنَهُ لَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ إيَّاهُ. وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ أَعْطِ زَيْدًا حَقَّهُ فَهَذَا هُوَ الْمُجْمَلُ الَّذِي إجْمَالُهُ فِي نَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ الْمَوْضُوعَةِ فِيهِ لِمَعَانٍ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لَهَا فِي اللُّغَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 نَحْوُ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ يُقَالُ: أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالرَّابِيَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَا يَلِيهَا. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لَمَعَانٍ أُخَرَ غَيْرَ مَا كَانَ اسْمًا لَهُ فِي اللُّغَةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ " يَعْنِي (فِي) الْحَيَوَانِ. وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا " إنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ آخَرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ (مِنْ) قَبْلِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ فِيمَا (كَانَ) طَرِيقُ مَعْرِفَةِ اسْتِدْرَاكِهِ اللُّغَةَ، وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ إذْ كَانَ لَفْظًا شَرْعِيًّا قَدْ أُرِيدُ بِهِ مَا لَا يَنْتَظِمُهُ الِاسْمُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ. وَالزَّكَاةُ هِيَ النَّمَاءُ، يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ إذَا نَمَا. وَالصَّوْمُ: الْإِمْسَاكُ وَالْكَفُّ عَنْ الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] يَعْنِي صَمْتًا. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَدَعْهَا وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْك بِجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارَ وَهَجَّرَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَقَالَ النَّابِغَةُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا وَالصَّلَاةُ الدُّعَاءُ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعَانِي لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا (لَهَا) فِي اللُّغَةِ، فَمَتَى وَرَدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهَا إشَارَةً إلَى مَعْهُودٍ فَهُوَ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَيَانِ. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَرَّةً فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] إنَّهُ (مِنْ الْمُجْمَلِ) لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فِيهِ بِمَعَانٍ لَا يَنْتَظِمُهَا الِاسْمُ وَلَيْسَ هُوَ عِبَارَةً عَنْهَا، مِنْ نَحْوِ الْمِقْدَارِ وَالْحِرْزِ فَصَارَ كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ فِيهَا بِمَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا عِنْدِي يُوجِبُ إجْمَالَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ قَدْ صَارَ مُجْمَلًا عِنْدِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرَ هَذَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ (مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ) . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْآخَرُ مِنْهُ: فَهُوَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ عُمُومٍ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَا انْتَظَمَهُ مَعْنَاهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ. فَتَعَلُّقُهُ بِمَعْنًى يُوجِبُ إجْمَالَهُ وَوُقُوعَهُ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] فَصَارَ اللَّفْظُ (بِهِ) مُجْمَلًا إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] (مِمَّا) قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ الْآنَ وَأُبَيِّنُهُ لَكُمْ فِي الثَّانِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وَذَلِكَ لِأَنَّهُ (قَدْ يَجُوزُ أَنْ) يُرِيدَ بِقَوْلِهِ {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] إلَّا مَا يَتَبَيَّنُ لَكُمْ مِمَّا قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ الْآنَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ إلَّا مَا سَنُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ لَمْ يَصِرْ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ بِهِ مُجْمَلًا، (وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُجْمَلًا) إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ. وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فَلَوْ خَلَّيْنَا وَظَاهِرَهُ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عُمُومِهِ فَلَمَّا قَرَنَ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَجْعَلَ كَوْنَهُ عَلَى صِفَةِ الْأَفْعَالِ شَرْطًا لِلْإِبَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَاللَّفْظُ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ حُصُولِ الْإِحْصَانِ بِالنِّكَاحِ وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَصَارَتْ الْإِبَاحَةُ مُجْمَلَةً مُفْتَقِرَةً إلَى الْبَيَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ الْإِحْصَانِ بِالنِّكَاحِ فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ عَقْدُ النِّكَاحِ شَرْطًا لِحُصُولِ الْإِحْصَانِ وَلَا يَكُونُ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ مُجْمَلًا، وَ (مِنْ) نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ} [البقرة: 222] . فَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَمِمَّا يُضَاهِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا تَحْتَ الِاسْمِ مَعْلُومَ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ مُرَادَ الْمُخَاطِبِ فِيهِ الْبَعْضُ مِنْهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي اللَّفْظِ يُعْلَمُ ذَلِكَ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ لِاسْتِحَالَةِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ، فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] لَيْسَ يَخْلُو قَوْلُهُ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْوُجُوبَ أَوْ النَّدْبَ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ (بِهِ) الْوُجُوبَ اسْتَحَالَ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ امْتِنَاعُ اسْتِيعَابِ جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَيْرٍ وَاجِبًا، وَيَسْتَحِيلُ أَيْضًا مِنْهُ فِعْلُ كُلِّ مَا يُسَمَّى خَيْرًا لِأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ فِعْلُهُ. فَصَارَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ افْعَلُوا بَعْضَ الْخَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنْ اللَّفْظِ فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صُومُوا لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِمْسَاكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ امْسِكُوا عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ. فَاللَّفْظُ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ الْإِيجَابَ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] النَّدْبَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ كُلَّهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ افْعَلُوا مِنْ الْخَيْرِ مَا شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ مَنْدُوبُونَ إلَيْهِ وَمُثَابُونَ عَلَيْهِ. وَكَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] فِي إيجَابِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ سَاقِطٌ. وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي مُسَاوَاةِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ فِي الْقِصَاصِ وَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فِيهِمَا لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَيْثُ هُمَا جِسْمَانِ وَمُحْدَثَانِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي تَكْلِيفِ الْإِيمَانِ وَالْفَرَائِضِ وَمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَسَاوَيَا فِيهَا. فَصَارَ تَقْدِيرُ اللَّفْظِ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ (الْبَعْضُ) مِنْ أَنْ يُحَصِّلَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ، وَدَلَالَةُ الْحَالِ الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِ الْمَعْنَى مَعْلُومًا ظَاهِرَةٌ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] . فَإِنَّمَا نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر: 19] مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُسَاوَاةَ فِي مَعْنَى الْبَصَرِ (وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ بِهِ فَشَبَّهَ الْكَافِرَ بِالْأَعْمَى وَالْمُؤْمِنَ بِالْبَصِيرِ) فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخَالِفِينَ الَّذِينَ لَا يَرْجِعُونَ إلَى تَحْصِيلٍ فِيمَا يَقُولُونَ (يَحْتَجُّونَ) بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ، إمَّا جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَوَاضِعِ الِاحْتِجَاجِ، وَإِمَّا قِلَّةَ دِينٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] مِنْ خَبَرِ الْمُجْمَلِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا لِأَنَّهُ قَرَنَ إلَيْهِ مَا أَوْجَبَ إجْمَالَهُ بِقَوْلِهِ {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ عِنْدَنَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا مُجْمَلًا أَوْ عُمُومًا. فَإِنْ كَانَ عُمُومًا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَصِيرَ لَفْظُ الْبَيْعِ مُتَعَلِّقًا بِعُمُومِهِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبًا كَمَا لَوْ قَالَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَك لَمْ يُوجِبْ عَلَيْك إجْمَالَ لَفْظِ إبَاحَةِ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الرِّبَا مُجَمِّلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ الَّذِي يَقَعُ الْإِجْمَالُ فِيهِ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ مَا شَكَكْنَا فِيهِ أَنَّهُ رِبًا أَوْ لَيْسَ بِرِبًا. فَأَمَّا الْبَيْعُ الَّذِي قَدْ عُلِمَ (أَنَّهُ) لَيْسَ بِرِبًا فَاعْتِبَارُ عُمُومِ لَفْظِ الْبَيْعِ شَائِعٌ فِي إبَاحَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] وَلَا مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] لِأَنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْنَا لَيْسَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ نَوْعٍ، وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ قَدْ عُلِّقَتْ الْإِبَاحَةُ بِهِ فَبَطَلَتْ دَلَالَةُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 [فَصْل الِاحْتِجَاج بِعُمُومِ اللَّفْظ الْمُجْمَل] فَصْلٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكُلُّ لَفْظٍ مُجْمَلٍ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنًى قَدْ أُرِيدَ بِهِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ الْمَعْنَى الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] . إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ (قَدْ أُرِيدَ) الْعُشْرُ أَوْ زَكَاةُ الْمَالِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي إيجَابِ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ (بِهِ) فِي (إيجَاب الْقَوَدِ) عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ ظُلْمًا. وَقَدْ يَنْتَظِمُ آيَةً وَاحِدَةً الْعُمُومُ وَالْمُجْمَلُ مَعًا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَمْنَعُ مَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ مَا هُوَ (عَامٌّ فِيهَا) مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي حُكْمٍ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] . هُوَ مُجْمَلٌ فِي الصَّدَقَةِ عُمُومٌ فِي الْأَمْوَالِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 هُوَ عُمُومٌ فِيمَا كَسَبَ وَفِيمَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ. فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْمُوجِبِ فِيهِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومِ. وَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْوَاجِبِ احْتَجْنَا إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ (بِالْآيَةِ) فِي دُخُولِهِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء: 33] عُمُومٌ فِي الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا فَدَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ. وَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْوَاجِبِ بِالْقَتْلِ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ {سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي رَامَ الْخَصْمُ إثْبَاتَهُ مُرَادٌ، فَيَصِحُّ (حِينَئِذٍ الِاحْتِجَاجُ) بِعُمُومِهِ فِي الْحُكْمِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 [فَصْلٌ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ] فَصْلٌ: وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً فَهِيَ مُجْمَلَةٌ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهَا. مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] وَالسُّلْطَانُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي (هَذَا) الِاسْمِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تُسَمَّى سُلْطَانًا. وَالسُّلْطَانُ الَّذِي يَمْلِكُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ وَجَدْت يَكُونُ مِنْ الْمَوْجِدَةِ وَهِيَ الْغَضَبُ، وَمِنْ الْمَحَبَّةِ، وَمِنْ وُجْدَانِ الشَّيْءِ. وَكَقَوْلِهِ رَأَيْت عَيْنًا وَذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الدَّنَانِيرِ، وَعَلَى عَيْنِ الْحَيَوَانِ، وَعَيْنِ الْمَاءِ، وَعَيْنِ الرُّكْبَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَمِثْلُ قَوْلِهِ) {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] . قِيلَ إنَّهُ الْفَارِغُ وَقِيلَ إنَّهُ الْمَلْآنِ. فَمَتَى وَرَدَ مِثْلُهُ مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ عُمُومٌ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا شَمَلَهُ الِاسْمُ بَلْ يَكُونُ مَوْقُوفُ الْمَعْنَى عَلَى الْبَيَانِ. وَ (كَذَا) كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ (الْكَرْخِيُّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ (بِهِ) وَسَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْنَى الْآخَرَ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْأُخُوَّةِ وَالْإِنْسَانِ فِي إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالْأَخَ مِنْ الْأُمِّ وَالْأَخَ مِنْ الْأَبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سُمِّيَ الْجَمِيعُ إخْوَةٌ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنْ أَجْلِهِ سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخًا وَكُلُّ وَاحِدٍ إنْسَانًا. فَذَلِكَ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَدَّمْنَا وَنَظَائِرُهَا فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ جَمِيعُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوْلًى أَعْلَى وَمَوْلًى أَسْفَلُ، إنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْتَجُّ لِذَلِكَ بِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الْحَقِيقَةِ وَأَحَدُهُمَا مُنْعِمٌ وَالْآخَرُ مُنْعَمٌ (عَلَيْهِ) ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِاللَّفْظِ. وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى (أَنَّ) الِاسْمَ الْوَاحِدَ إذَا تَنَاوَلَ ضِدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَا (جَمِيعًا) بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فِيمَنْ قَالَ إنْ شَرِبْت مِنْ الْفُرَاتِ فَعَبْدِي حُرٌّ إنَّ هَذَا عَلَى الْكَرْعِ وَلَا يَحْنَثُ إنْ اسْتَقَى بِكُوزٍ أَوْ غَيْرِهِ فَشَرِبَ لِأَنَّ (الْحَقِيقَةَ) قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مُرَادُهُ، وَأَنَّهُ يَحْنَثُ بِهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ فَانْتَفَى الْمَجَازُ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ شَيْئًا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى عَيْنِ الْحِنْطَةِ أَنْ يَقْضِمَهَا وَلَا يَحْنَثُ إنْ أَكَلَهَا خُبْزًا لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تَنَاوَلَهَا الْيَمِينُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الْمَجَازُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ كَرَعَ أَوْ شَرِبَ بِكُوزٍ حَنِثَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَيَحْنَثُ إنْ أَكَلَ الْخُبْزَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ صَارَ عِنْدَهُمَا اللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 [بَابٌ مَعَانِي حُرُوفِ الْعَطْفِ وَغَيْرِهَا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الْبَابُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ فِي تَعْرِيفِ حُكْمِ الْأَلْفَاظِ الْمَعْطُوفِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَدَوَاتُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فَائِدَةُ الْكَلَامِ بِدُخُولِهَا عَلَيْهِ. الْوَاوُ فِي اللُّغَةِ لِلْجَمْعِ. وَذَلِكَ حَقِيقَتُهَا وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوَاوُ بَابُهَا الْجَمْعُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الِاسْتِئْنَافِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَعَلَى هَذَا بَنَى مَسَائِلَ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الْأَيْمَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] . مَنْ جَعَلَهَا لِلْجَمْعِ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] فَيُفِيدُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لَهُمْ خَبَرًا آخَرَ فَقَالَ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] (وَمَعْنَاهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) . وَمَنْ جَعَلَهَا لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَجَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِلرَّاسِخَيْنِ آخَرَ فَقَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] فَهَذِهِ الْوَاوُ تَحْتَمِلُ الْجَمْعَ وَتَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ وقَوْله تَعَالَى {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْك كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] . هَذِهِ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ لِأَنَّهَا أَدْخَلَتْ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ هَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ، فَدَخَلَتْ الثَّانِيَةُ فِي خَبَرِ الْأُولَى وَحُكْمِهَا لِأَجْلِ دُخُولِ الْوَاوِ عَلَيْهَا. وَلَوْ قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا (أَوْ قَالَ وَهَذِهِ طَالِقٌ، وَهَذِهِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ) كَانَتْ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَتَطْلُقُ الْأُولَى وَاحِدَةً، وَالثَّانِيَةُ ثَلَاثًا أَوْ بِالشَّرْطِ إذَا عَلَّقَهُ بِهِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ حُجَّةٌ (فِيمَا يَحْكِيهِ فِي اللُّغَةِ، قَدْ احْتَجَّ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، مِنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " وَغَيْرُهُ. وَحَكَى لَنَا ثَعْلَبٌ أَنَّهُ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. وَحَكَى (لِي) أَبُو عَلِيٍّ النَّحْوِيُّ) الْفَارِسِيُّ عَنْ ابْنِ السِّرَاجِ النَّحْوِيِّ أَنَّ الْمُبَرَّدَ سُئِلَ عَنْ الْغَزَالَةِ مَا هِيَ، فَقَالَ: الشَّمْسُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَكَانَ فَصِيحًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لِغُلَامِهِ: (اُنْظُرْ) هَلْ دَلَكَتْ غَزَالَةُ فَخَرَجَ وَرَجَعَ فَقَالَ: لَمْ أَرَ غَزَالَةً. وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ هَلْ زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَنْشَدَ الْمُبَرَّدُ: يُوضِحْنَ فِي قَرْنِ الْغَزَالَةِ بَعْدَمَا ... تَرَشَّفْنَ ذُرَابَ الْغَمَامِ الرَّكَائِكِ وَقَالَ الْمُبَرَّدُ: الْوَاوُ لِلْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ لِأَنَّك إذَا قُلْت: رَأَيْت زَيْدًا وَعَمْرًا لَمْ يُعْقَلْ مِنْ اللَّفْظِ رُؤْيَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ إذْ جَازَ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا مَعًا أَوْ رَأَى عَمْرًا قَبْلَ زَيْدٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَالَ لِي أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ الْوَاوُ عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ (عِنْدَهُمْ فِيهَا) عَلَى التَّرْتِيبِ. وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» . فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ أَنْ تَقُولَهَا بِالْوَاوِ كَمَا لَمْ يُمْنَعْ أَنْ تَقُولَهَا بِثُمَّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مُوسَى وَهَارُونُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَبَدَأَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 بَعْضِهَا بِمُوسَى (وَفِي) بَعْضِهَا بِهَارُونَ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَامْتَنَعَ وُجُودُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ (مَعًا) فِيهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك فِي الْجَمْعِ مِثْلُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ يُوجِبُ كَوْنَهُمَا مَعًا. قِيلَ لَهُ: لَمْ نُرِدْ بِقَوْلِنَا هِيَ لِلْجَمْعِ وُجُودَهُمَا مَعًا، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنَّهَا تَجْمَعُ الِاسْمَيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَا مَجْمُوعَيْنِ فِي الْحُكْمِ وَيَكُونُ التَّالِي مُقَدَّمًا عَلَى الْأَوَّلِ فِي اللَّفْظِ تَارَةً، وَالْأَوَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى التَّالِي تَارَةً أُخْرَى. وَإِنَّمَا مَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَرْتِيبِ الْحُكْمِ. فَأَمَّا التَّرْتِيبُ فِي اللَّفْظِ فَمَوْجُودٌ فِيمَا ذَكَرْنَا صَحِيحٌ لَا يَقْدَحُ فِيهِ مَا ذَكَرْت. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، صَعِدَ الصَّفَا وَقَالَ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» . فَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ لَمَا احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ اللُّغَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وَقَدْ تَجِيءُ الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " فَتَكُونُ لِأَحَدِ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ نَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَالْمَعْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، وقَوْله تَعَالَى {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] . وَأَمَّا " بَلْ " فَلِلِاسْتِدْرَاكِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَدْءًا بِالتَّالِي تَقُولُ رَأَيْت زَيْدًا بَلْ عَمْرًا، وَهَذِهِ طَالِقٌ بَلَى هَذِهِ. فَهِيَ تُشَاكِلُ الْوَاوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا " الْفَاءُ " فَإِنَّهَا لِلْجَمْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ مَعَ ذَلِكَ بِلَا مُهْلَةٍ وَلَا تَرَاخٍ، لِأَنَّك إذَا قُلْت رَأَيْت زَيْدًا فَعَمْرًا عُقِلَ مِنْهُ رُؤْيَةُ عَمْرٍو بَعْدَ زَيْدٍ بِلَا تَرَاخٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَأَمَّا " أَوْ " فَإِنْ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هِيَ لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَأَصْلُهَا أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ أَحَدَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ لَا جَمِيعَهُ، وَهَذَا حَقِيقَتُهَا وَبَابُهَا. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وَقَوْلُهُ {مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَاتِ لَا جَمِيعَهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا حُكْمُهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ. وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى حِيَالِهِ. نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] . وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] . قَدْ نَفَى بِهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى حِيَالِهِ لَا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: فِيمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَنَّهُ أَيَّهُمَا كَلَّمَ حَنِثَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا فِي الْمَعْنَى غَيْرُ مُخَالِفٍ لِحُكْمِهِ فِي الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهَا حِينَ دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ نَفَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَلَى حِدَةٍ، لَا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ. كَمَا أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَثْبَتَتْ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا فُعِلَ عَلَى الِانْفِرَادِ كَانَ فَاعِلًا بِمُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ لَا (عَلَى) مَعْنَى الْجَمْعِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَقَدْ تَجِيءُ " أَوْ " بِمَعْنَى " الْوَاوِ ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] مَعْنَاهُ وَيَزِيدُونَ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ، وَمَعْنَاهُ وَأَشَدُّ قَسْوَةً. وَأَنْشَدَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ (ثَعْلَبٍ عَنْ) ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: إنَّ بِهَا أَكَتَلَ أَوْ رِزَامَا ... (خُوَيْرِبَانِ يُنْفِقَانِ) الْهَامَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَأَنْشَدَنَا أَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا ... بَكَيْت عَلَى زِيَادٍ أَوْ عَنَاقٍ عَلَى الْمَرْأَيْنِ إذْ مَضَيَا جَمِيعًا ... لِشَأْنِهِمَا بِحُزْنٍ وَاحْتِرَاقٍ فَقَالَ زِيَادٌ أَوْ عَنَاقٍ ثُمَّ قَالَ: عَلَى الْمَرْأَيْنِ، فَدَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ الْجَمْعَ. . وَأَمَّا " ثُمَّ " فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّرَاخِي، تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ كَذَا حُكْمُهَا فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] . مَعْنَاهُ وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا. وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] ، يَعْنِي وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَعْنَى (فِيهِ) أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى خِطَابِ الْمُتَكَلِّمِ صِلَةً لِكَلَامِهِ لَا عَلَى حُكْمِ (الْكَلَامِ) الْمُتَقَدِّمِ، كَأَنَّ تَقْدِيرَهُ ثُمَّ بَعْدَمَا وَصَفْنَا أَذْكُرُ لَكُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا (هُوَ لِمَنْ) كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَبَعْدَمَا ذَكَرْت (لَكُمْ) أَعْلَمْتُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ. وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] وَمَعْنَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَاَللَّهُ شَهِيدٌ (عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) . وقَوْله تَعَالَى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] . الْمَعْنَى وَقَدْ اهْتَدَى. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11] . فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ خَلَقْنَاكُمْ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ فَقَوْلُهُ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ {اُسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11] بِمَعْنَى وَقُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ آدَمَ كَقَوْلِهِ {وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [فاطر: 11] فَإِنَّ قَوْلَهُ {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا} [الأعراف: 11] مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ. . وَبَعْدُ لِلتَّرْتِيبِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56] وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى مَعَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] يَعْنِي مَعَ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ (إنَّهَا) رَجَعَتْ إلَى جُمْلَةِ الْخِطَابِ كَأَنَّهُ قَالَ عُتُلٍّ وَأَقُولُ لَكُمْ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرِي لَهُ إنَّهُ زَنِيمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ، وَ " مَعَ " لِلْمُقَارَنَةِ، وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى بَعْدُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] . وَإِلَى لِلْغَايَةِ " بِمَعْنَى حَتَّى، وَقَدْ تَدْخُلُ تَارَةً فِي الْحُكْمِ وَلَا تَدْخُلُ أُخْرَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَاللَّيْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَالْمَرَافِقُ دَاخِلَةٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فَالِاغْتِسَالُ شَرْطٌ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْغَايَةَ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِإِسْقَاطِ بَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَالْيَدُ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْعُضْوَ إلَى الْمَنْكِبِ فَدَخَلَتْ الْغَايَةُ لِإِسْقَاطِ مَا عَدَا الْمَرْفِقِ فَكَانَتْ الْمَرَافِقُ دَاخِلَةً فِيهِ. وَالْآخَرُ: أَنْ لَا يَنْتَظِمَ الِاسْمُ الْغَايَةَ وَمَا بَعْدَهَا فَتَصِيرُ الْغَايَةُ حِينَئِذٍ مَشْكُوكًا فِيهَا فَلَا نَثْبُتُهَا بِالشَّكِّ. وَقَدْ تَجِيءُ " إلَى " بِمَعْنَى " مَعَ ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَمَنْ " قَالُوا إنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ وَلِبُدُوِّ الْغَايَةِ وَلِلتَّمْيِيزِ وَلِلْإِلْغَاءِ. فَالتَّبْعِيضُ خُذْ مِنْ مَالِي وَأَعْتِقْ مِنْ عَبِيدِي. وَالِابْتِدَاءُ خَرَجْت مِنْ الْكُوفَةِ، وَأَخَذْتُ مِنْ فُلَانٍ مَالِيَ، وَالتَّمْيِيزُ ثَوْبٌ مِنْ قُطْنٍ وَبَابٌ مِنْ حَدِيدٍ. وَالْإِلْغَاءُ قَوْله تَعَالَى {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] وَ {مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] ، وَالْمَعْنَى يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَا لَكُمْ إلَهٌ غَيْرُهُ. وَأَمَّا الْبَاءُ: فَإِنَّ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ كَقَوْلِهِ كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَمَسَحْت بِرَأْسِي. وَقَالَ غَيْرُهُمْ هِيَ مَعَ ذَلِكَ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ مَسَحْت بِرَأْسِ الْيَتِيمِ وَمَسَحْت رَأْسَهُ، وَيَقُولُ مَسَحْت يَدِي بِالْحَائِطِ، وَمَسَحْت الْحَائِطَ. فَلَمَّا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ ظَاهِرًا مَعْقُولًا فِي اللُّغَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِهَا فَائِدَةٌ وَهِيَ التَّبْعِيضُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْإِلْغَاءِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ مَوْضُوعَةٌ لِلْفَائِدَةِ كَقَوْلِنَا مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ تَدْخُلُ لِلْإِلْغَاءِ وَلَا نَجْعَلُهَا لِلْإِلْغَاءِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. . وَأَمَّا " فِي " فَلِلظَّرْفِ كَقَوْلِك ثَوْبٌ فِي مِنْدِيلٍ، وَتَمْرٌ فِي صُرَّةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا (فِيمَنْ قَالَ) : غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ إنَّهُ إقْرَارٌ بِالْمِنْدِيلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ ظَرْفًا لَهُ فِي حَالِ الْغَصْبِ وَصَارَ مَغْصُوبًا مَعَهُ. وَقَدْ تَجِيءُ " فِي " بِمَعْنَى " مِنْ ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] يَعْنِي مِنْهَا. وَتَجِيءُ أَيْضًا بِمَعْنَى مَعَ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 30] مَعْنَاهُ مَعَ عِبَادِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ فِي جُمْلَةِ عِبَادِي وَفِي جَمَاعَتِهِمْ. وَالنَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ إنَّ أَكْثَرَ حُرُوفِ الصِّفَاتِ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ. وَأَمَّا " كُلُّ " فَإِنَّهَا تَدْخُلُ لِجَمْعِ الْأَسْمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وَقَوْلِ (الْقَائِلِ) كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَدْخُلُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ وَيَكُونُ فِيهَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ إذَا عُلِّقَتْ بِالْجَوَابِ، وَلَا تَتَنَاوَلُ الْأَفْعَالَ لِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ دُخُولُهَا عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّك لَا تَقُولُ كُلٌّ يَدْخُلُ الدَّارَ، وَإِنَّمَا تَقُولُ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي تَدْخُلُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ. وَلِذَلِكَ قَالُوا إنَّهَا إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ وَطَلُقَتْ ثُمَّ دَخَلَتْهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ، لِأَنَّهَا لِمَا لَمْ تَتَنَاوَلْ الْأَفْعَالَ، وَإِنَّمَا تَنَاوَلَتْ الْأَسْمَاءَ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ وَاسْتَحَالَ أَنْ تَجْمَعَ إلَى نَفْسِهَا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ امْرَأَةٌ أُخْرَى طَلُقَتْ أَيْضًا لِأَنَّهَا غَيْرُ الْأُولَى. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَأَمَّا " كُلَّمَا " فَإِنَّهَا لِجَمْعِ الْأَفْعَالِ وَفِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ وَلَا يَصِحُّ دُخُولُهَا عَلَى الِاسْمِ لِأَنَّك لَا تَقُولُ: كُلَّمَا امْرَأَةٌ إنَّمَا تَقُولُ: كُلَّمَا دَخَلَتْ امْرَأَةٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] اقْتَضَى كُلَّ مَرَّةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 [بَابٌ فِي إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْعَامِّ الظَّاهِرِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ. فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْحُكْمُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ جَمِيعًا فَلَا يُصْرَفُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَى الْخُصُوصِ وَلَا يَتَوَقَّفُ فِيهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَبَتْ طَائِفَةٌ هَذَا الْقَوْلَ، وَاخْتَلَفَتْ فِيمَا بَيْنَهَا. فَقَالَ: (مِنْهُمْ) قَائِلُونَ بِالْخُصُوصِ فِي الْأَوَامِرِ وَالْأَخْبَارِ جَمِيعًا وَحَكَمُوا فِيهَا بِأَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْكُلِّ. وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ كَذَلِكَ بِالْخُصُوصِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْعُمُومِ وَيُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُمُومُ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ لِأَنَّ الْمُحْتَمِلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَلَا يُعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أَنَّهُ مُرَادٌ بِاللَّفْظِ، وَالْخُصُوصُ مُتَيَقَّنٌ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْعُمُومِ. وَقَالَ مِنْهُمْ آخَرُونَ: بِالْوَقْفِ فِيهِمَا جَمِيعًا. لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَهُمْ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ كَاحْتِمَالِهِ لِلْآخَرِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ. وَفَرَّقَتْ طَائِفَةٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ (فَوَقَفَتْ فِي الْأَخْبَارِ وَحَكَمَتْ بِالْعُمُومِ فِي الْأَوَامِرِ، وَطَائِفَةٌ وَقَفَتْ فِي عُمُومِ الْأَوَامِرِ) وَقَالَتْ بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا: الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ جَمِيعًا وَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ (الْكَرْخِيُّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا، وَجَمِيعُ مِنْ شَاهَدْنَاهُمْ مِنْ شُيُوخِنَا وَاحْتِجَاجُهُمْ لِمَسَائِلِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مُجَرَّدَةٌ مِنْ دَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ إلَيْهِ فِي إيجَابِ الْعُمُومِ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَذَاهِبَهُمْ. (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : وَحَكَى لَنَا أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إنِّي أَقِفُ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَأَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَقُلْت لِأَبِي الطَّيِّبِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ مَذْهَبَهُ كَانَ الْوَقْفَ فِي وَعِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ. فَقَالَ لِي: هَكَذَا كَانَ مَذْهَبُهُ. وَحَكَى لِي أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ يَقِفُ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَفِي الْأَخْبَارِ جَمِيعًا. وَأَبُو الطَّيِّبِ هَذَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ عِنْدِي فِيمَا يَحْكِيهِ، وَقَدْ جَالَسَ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ وَشُيُوخَنَا الْمُتَقَدِّمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَا أَبَا الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَقُولُ بِالْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهَا بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي الْوَعِيدِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ بِالْوَقْفِ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ. وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْآيَ الْمُوجِبَةَ لِلْوَعِيدِ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ إنَّمَا عَنَى بِهَا الْكُفَّارَ لِآيَاتٍ أَوْجَبَتْ خُصُوصَهَا فِيهِمْ. نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وقَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] . وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4] {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5] (وَقَوْلِهِ {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقَوْله تَعَالَى {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} [الليل: 15] {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 16] وَإِنَّمَا جَعَلَ التَّخْلِيدَ فِي النَّارِ مَقْصُورًا عَلَى الْكُفَّارِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ (أَبُو مُوسَى) عِيسَى بْنُ أَبَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَخْبَارِ. وَقَالَ إنَّا إنَّمَا وَقَفْنَا فِي وَعِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ لِأَنَّ آيَ الْوَعِيدِ بِإِزَائِهَا. هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْتهَا مِمَّا يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا دُخُولَ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِيهَا فَجَوَّزْنَا لَهُمْ الْغُفْرَانَ بِهَا وَجَوَّزْنَا التَّعْذِيبَ بِالْآيِ الْأُخَرِ وَأَرْجَيْنَا أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ نَقْطَعْ فِيهِمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ بِالْقَوْلِ بِعُمُومِ الْأَخْبَارِ أَيْضًا. وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلَافُ ذَلِكَ. فَدَلَّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا. . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (وَمَذْهَبُ) كُلِّ مَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ مِمَّنْ لَا يَرَى جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ الْمُخْرَجَ حَقِيقَتُهُ الْعُمُومُ لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِلْخُصُوصِ إلَّا بِدَلَالَةٍ تُقْرَنُ إلَيْهِ. فَأَمَّا اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ فَلَا احْتِمَالَ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصَ كَانَ اللَّفْظُ مَجَازًا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ مِنْهُمْ إطْلَاقَ لَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَالْقَوْلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا لَمْ تَصْحَبْهُ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ وَأَصْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 اللُّغَةِ، هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَابَعَهُمْ مُتَوَارَثٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالْفِعْلِ الْمُسْتَفِيضِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ مُحَاجَّةُ الصَّحَابَةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي تَنَازَعُوا فِيهَا بِأَلْفَاظِ عُمُومٍ مُجَرَّدَةٍ مِنْ دَلَالَةٍ غَيْرِهَا. مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ خَالَفَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَطْءِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَ " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 يَعْنِي بِآيَةِ التَّحْلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وَبِآيَةِ التَّحْرِيمِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] . وَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْلِيلُ أَوْلَى ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الْوَقْفُ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ فَاحْتَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعُمُومِ لَفْظِ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ مَعَهُ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ كَانَ الْعُمُومَانِ عِنْدَهُمَا مُتَعَارِضَيْنِ مَتَى خَلَّيْنَا وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ فِيهِمَا بِقَوْلِهِمَا: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهَا آيَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ الِاسْمِ. ثُمَّ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] (وَأَنَّ قَوْلَهُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] قَاضٍ عَلَيْهِ. وَكَانَ عِنْدَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ قَوْلَهُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] . مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ {إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] مَخْصُوصٌ، وَأَنَّ آيَةَ الْإِبَاحَةِ قَاضِيَةٌ عَلَى آيَةِ الْحَظْرِ. وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 زَوْجُهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عُمُومَ الْآيَتَيْنِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وقَوْله تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ " أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّهَا قَاضِيَةٌ عَلَيْهَا مُخَصِّصَةٌ لَهَا فَاعْتَبَرَا جَمِيعًا عُمُومَ اللَّفْظِ وَلَمْ يَفْزَعَا إلَى تَأْيِيدِهِ بِغَيْرِهِ. وَأَرَادَ عُثْمَانُ رَجْمَ امْرَأَةٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (أَمَا إنَّهَا إنْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَصَمْتُكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فَحَصَلَ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فَاحْتَجَّ بِالْعُمُومِ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ (فِيهِ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْجِنْسِ فَهُوَ مُسْتَوْعِبٌ لِلْكُلِّ وَقَبِلَهُ مِنْهُ عُثْمَانُ وَعَرَفَ صِحَّةَ اسْتِدْلَالِهِ فَرَجَعَ إلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ فِي أُمِّ الْمَرْأَةِ إنَّهَا تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ دُخُولٌ، وَقَالُوا إنَّهَا مُبْهَمَةٌ وَلَمْ يَرْجِعُوا فِيهَا إلَّا إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى ". وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ فَقَالَ قَضَاءُ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَاحْتَجَّ عُمَرُ عَلَى الزُّبَيْرِ وَبِلَالٍ وَمَنْ سَأَلَهُ قِسْمَةَ السَّوَادِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى " {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إلَى قَوْلِهِ {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] . قَالَ عُمَرُ " فَقَدْ جَعَلَ الْحَقَّ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ وَلَوْ قَسَمْته بَيْنَكُمْ لَبَقِيَ النَّاسُ لَا شَيْءَ لَهُمْ، وَلَصَارَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ". فَحَاجَّهُمْ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَتَبَيَّنُوا الرُّشْدَ فِي قَوْلِهِ، وَوَضَحَ لَهُمْ طَرِيقُ الْحَقِّ (فِيهِ) فَرَجَعُوا إلَى مَقَالَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَجِدْ اللَّهَ ذَكَرَ جَدًّا وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا أَبًا احْتِجَاجًا لِيَكُونَ الْجَدُّ أَبًا. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ مُسْتَفِيضَةٌ لَوْ اسْتَقْصَيْنَاهُ لَطَالَ بِهِ الْكِتَابُ وَبِمِثْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 هَذَا يُوقَفُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَوْمِ وَمَقَالَاتِهِمْ. فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ مَفْهُومِ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ السَّلَفِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَمَا خَالَفَ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. إلَى أَنْ نَشَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ ضَاقَ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ فِي الْقَوْلِ بِالْإِرْجَاءِ فَلَجَأَتْ إلَى دَفْعِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ رَأْسًا لِئَلَّا يَلْزَمَهَا لِخُصُومِهَا الْقَوْلُ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ بِظَوَاهِرِ الْآيِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، فَقَدْ صَنَّفَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى نُفَاةِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ كُتُبًا وَاسْتَقْصَوْا الْكَلَامَ (عَلَيْهِمْ فِيهَا) وَفِي اسْتِقْصَاءِ الْقَوْلِ فِيهِ ضَرْبٌ (مِنْ الْإِطَالَةِ) وَشَأْنُنَا الِاخْتِصَارُ، وَذِكْرُ الْجُمَلِ مَا اسْتَغْنَيْنَا فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ بِهَا عَنْ الْإِطَالَةِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ. دَلِيلٌ آخَرُ: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : فَنَقُولُ إنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو حُكْمُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَمِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِكُلِّ مَا اسْتَوْفَاهُ الِاسْمُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا أَوْ الْوَقْفُ فِيهِ حَتَّى يَرِدَ بَيَانُ مُرَادِ الْكُلِّ، أَوْ الْبَعْضِ عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ وَالْحُكْمُ (فِيهِ) بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْكُلِّ. فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الْحُكْمَ بِالْأَقَلِّ لَمْ يَخْلُ وُجُوبُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ أَوْ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُهُ. فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِالْأَوَّلِ إنَّمَا يُعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ، وَلَيْسَ هَذَا حُكْمٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَعَلَى أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى اللَّفْظِ، وَاللَّفْظُ لَا حُكْمَ لَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ تِلْكَ الدَّلَالَةِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْأَقَلِّ. مُتَعَلِّقًا (بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْأَقَلِّ مُتَعَلِّقًا) بِاللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ انْتَظَمَهُ وَصَارَ عِبَارَةً عَنْهُ. فَالْحُكْمُ بِاسْتِيعَابِ الْكُلِّ وَاجِبٌ لِوُجُودِ اللَّفْظِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى جَمِيعِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَخْتَصَّ بِكَوْنِهِ عِبَارَةً عَنْ الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ إذْ كَانَ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لَا يَخْتَصُّ بِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ، فَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ الْحُكْمُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْجَمِيعِ لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إنَّمَا حَكَمْت بِالْأَقَلِّ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وَمَا زَادَ فَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ إلَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمُخَالِفُوك الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ يَقُولُونَ فِي الْأَقَلِّ كَقَوْلِك أَنْتَ فِي الْأَكْثَرِ، فَهَلْ لَهُمْ دَلَالَةٌ غَيْرُ اللَّفْظِ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِالْأَقَلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا وَعِنْدَك وُجُوبُ الْحُكْمِ بِأَقَلَّ، وَكَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ، وَاللَّفْظُ مَوْجُودٌ فِي الْأَكْثَرِ كَهُوَ فِي الْأَقَلِّ، فَهَلَّا حَكَمْت لَهُ بِمِثْلِ حُكْمِهِ فَبَطَلَ بِمَا وَصَفْنَا قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْخُصُوصِ. ثُمَّ نَقُولُ لِأَصْحَابِ الْوَقْفِ: أَتُثْبِتُونَ لِلْخِطَابِ فَائِدَةً عِنْدَ وُرُودِهِ مُطْلَقًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِدَلَالَةِ الْخُصُوصِ أَوْ الِاحْتِمَالِ أَوْ تَزْعُمُونَ أَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ. فَإِنْ قَالُوا لَهُ فَائِدَةٌ، وَلِلْمُخَاطَبِ فِيهِ غَرَضٌ مَحْمُودٌ إذَا كَانَ حُكْمًا وَهُوَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ حُكْمًا قَدْ لَزِمَنَا يُرِيدُ بَيَانَهُ فِي التَّالِي. قِيلَ لَهُ: فَالْبَيَانُ الْوَارِدُ فِي التَّالِي (لَا) يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا أَوْ دَلَالَةً مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ لَفْظًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ يَجِبُ الْوَقْفُ (فِيهِ) . وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً مِنْ لَفْظٍ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ. فَإِنْ قَالَ: يَكُونُ بَيَانُهُ مَوْقُوفًا عَلَى وُرُودِ الْإِجْمَاعِ بِهِ، فَمَهْمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ عَلِمْنَا أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ. قِيلَ لَهُ: فَالْإِجْمَاعُ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ سَمْعٍ أَوْ عَنْ دَلَالَةٍ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ عَنْ سَمْعٍ فَذَلِكَ السَّمْعُ حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى بَيَانٍ ثَانٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ عَنْ مِثْلِهِ. وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً عَنْ (غَيْرِ) سَمْعٍ فَهِيَ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهَا إجْمَاعٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَحُكْمُ السَّمْعِ غَيْرُ ثَابِتٍ، عَلَى أَنَّ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَنْ طَرِيقِ السَّمْعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّمْعُ دَالًّا بِنَفْسِهِ، وَكَانَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَثْبُتُ حُجَّةً إلَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، فَقَدْ صَارَتْ حُجَّةُ السَّمْعِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَحُجَّةُ الْإِجْمَاعِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى السَّمْعِ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا لِلْآخَرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ فَرْعًا لِصَاحِبِهِ، وَهَذَا غَايَةُ الِاسْتِحَالَةِ، فَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِالْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ اللَّفْظِ رَأْسًا وَإِخْلَاءِ جَمِيعِ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِطَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَائِدَةٍ، وَهَذَا قَوْلٌ يُؤَدِّي بِقَائِلِهِ إلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ الدِّينِ. فَلَمَّا بَطَلَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْخُصُوصِ وَبِالْوَقْفِ لِمَا بَيَّنَّا لَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُ أَصْحَابِ الْعُمُومِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وقَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] . وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْجِنْسِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وَالنَّاسُ وَالْحَيَوَانُ تُفِيدُ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فِي نَفْسِهَا جَمِيعَ مَا تَحْتَ الْجِنْسِ، وَفِيهَا أَلْفَاظٌ تَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَأَلْفَاظٌ تَعُمُّ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ مِثْلُ مَنْ وَمَا فِي النَّكِرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْتَفْهَمُ عَنْ جِنْسِ الْعُقَلَاءِ بِ " مَنْ " وَيَصِحُّ الْجَوَابُ عَنْهَا بِ " مَنْ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 شَاءَ مِنْهُمْ، فَيَقُولُ مَنْ فِي الدَّارِ فَيُجِيبُهُ بِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَكُونُ جَوَابُهُ صَحِيحًا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ فِي الدَّارِ حِمَارٌ أَوْ ثَوْرٌ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْمُجَازَاةِ كَقَوْلِهِ مَنْ يُعْطِنِي أُعْطِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [النساء: 13] وَيَقُولُ: مَا فِي الدَّارِ فَتَقُولُ حِمَارٌ أَوْ جَمَلٌ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ رَجُلٌ وَتَقُولُ فِي الْمُجَازَاةِ مَا تَأْكُلُ آكُلُ وَمَا تَحْمِلُ أَحْمِلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعُقَلَاءِ وَتَعُمُّ الْجَمِيعَ فِيهِ، فَإِذَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي خِطَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَوْضُوعِهِ فِي (أَصْلِ) اللُّغَةِ. كَمَا أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْيَانِ وَالْأَجْنَاسِ مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى مَا هِيَ اسْمٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فَمِنْ حَيْثُ عُقِلَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مُسَمَّيَاتُهَا لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعَةٌ لَهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ الْمَيْتَةُ (الْمَذْكُورَةُ) فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَيْتَةَ الْمَعْقُولَةَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَانَ الْمَعْقُولُ أَيْضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ. وَيَدُلُّ (عَلَيْهِ) أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] فَمَا خَاطَبَنَا بِهِ مِمَّا هُوَ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] . دَلِيلٌ آخَرُ: وَقَدْ احْتَجُّوا لِلْقَوْلِ بِالْعُمُومِ أَيْضًا: بِأَنَّ لِلْعُمُومِ فِي اللُّغَةِ صِيغَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا مِنْ الْخُصُوصِ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ مَخْرَجُ الْكَلَامِ مَخْرَجُ الْعُمُومِ كَمَا أَنَّ لِلْوَاحِدِ صِيغَةً يَبِينُ بِهَا مِنْ الْجَمِيعِ، وَكَمَا أَنَّ لِلْخَبَرِ صِيغَةً يَنْفَصِلُ بِهَا مِنْ الْأَمْرِ وَلِلِاسْتِخْبَارِ صُورَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا مِنْ الْإِخْبَارِ فَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُولُ صِيغَةَ الْأَمْرِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا مَعْنَى هُوَ مَوْضُوعُهُ فِي اللُّغَةِ. وَكَذَلِكَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَعُقِلَ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَلَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ وَجَبَ أَلَّا يُصْرَفَ الصِّيغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْعُمُومِ إلَى الْخُصُوصِ كَمَا لَا يُصْرَفُ لَفْظُ الْجَمْعِ إلَى الْوَاحِدِ، وَلَفْظُ الْأَمْرِ إلَى الِاسْتِخْبَارِ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ إلَى الْأَمْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ اللَّفْظِ، قِيلَ لَهُ: لَوْ جَازَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا عُمُومٌ مَجَازًا قِيلَ لَهُ: إنَّ كُلَّ مَجَازٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ عَنْ حَقِيقَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ حَتَّى يُسْتَعَارَ مِنْهُ الْمَجَازُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا عَامٌّ حَقِيقَةً إذْ لَيْسَ يَرْجِعُ مِنْهُ إلَى أَصْلٍ غَيْرِهِ هُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْهُ. وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ لَفْظُ الْعُمُومِ وَلَفْظُ الْخُصُوصِ بِأَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ حَتَّى يُعَبَّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَعْنَى الْآخَرِ لَمَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْعَامِّ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْخَاصِّ فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْعَامِّ مَوْضُوعٌ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ لِلْعُمُومِ، وَاَلَّذِي مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْخَاصِّ مَوْضُوعٌ فِي حَقِيقَتِهِ لِلْخُصُوصِ. وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ خَصْمُنَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا بِهِ الْعُمُومَ تَأْكِيدَ الْخُصُوصِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، فَكَانَ إذَا قَالَ ضَرَبْت غِلْمَانِي كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ حَتَّى لَمْ أُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا إنَّهُ يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِتَخْصِيصِهِ وَدَالًّا بِهِ عَلَى أَنَّهُ ضَرَبَ الْبَعْضَ وَلَكَانَ يَجُوزُ مَا يُؤَكَّدُ بِهِ الْخُصُوصُ تَأْكِيدَ الْعُمُومِ حَتَّى قَالَ: ضَرَبْت غُلَامِي وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مُؤَكِّدًا بِهِ الْعُمُومَ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ، فَإِذَا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْخُصُوصِ لَا يَكُونُ لِلْعُمُومِ، وَمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْعُمُومِ لَا يَكُونُ لِلْخُصُوصِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ لِأَهْلِ كُلِّ لُغَةٍ إلَى أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهَا أَلْفَاظٌ لِلْعُمُومِ كَحَاجَتِهِمْ إلَى أَسْمَاءِ سَائِرِ الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاسْمٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُمْ بِهَا يَتَوَصَّلُونَ إلَى أَفْهَامِهِمْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَالْإِنَابَةِ عَنْ مَقَاصِدِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ، إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مَتَى أَرَادَ الْعِبَارَةَ عَنْ الْجِنْسِ كُلِّهِ أَنْ يَذْكُرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِهِ أَوْ يُشِيرَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَفُوقُ الْإِحْصَارَ وَالْعَدَدَ وَيَمْتَنِعُ فِيهِ الْإِشَارَةُ وَالتَّعْيِينُ، فَاحْتَاجُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى أَلْفَاظٍ مَوْضُوعَةٍ لِلْجِنْسِ وَلِلْجَمْعِ يُوجِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ كُلِّهِ وَيَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ جَمِيعِ مَا الِاسْمُ مَوْضُوعٌ لَهُ عَلَى حَسَبِ مَا سَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْعُمُومِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْعُمُومِ مَتَى وَرَدَ مُطْلَقًا مَحْمُولًا عَلَى بَابِهِ وَمُخْتَصًّا بِمَا وُضِعَ لَهُ مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَاسْتِيعَابِ كُلِّ مَا لَحِقَهُ الِاسْمُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ كَمَا وَجَبَ إذَا خُوطِبَ بِذِكْرِ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَرَجُلٍ وَفَرَسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، صَرْفُهَا إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهَا فِي مَوْضِعِ اللُّغَةِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا نَأْبَى. أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْجِنْسِ وَلِلْجَمْعِ تَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ مَا تَحْتَهَا. وَتَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَلْحَقُهُ الِاسْمُ مِنْهَا إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِأَعْيَانِهَا لَمَّا كَانَتْ تَصِحُّ لِلْكُلِّ وَلِلْبَعْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ} [آل عمران: 173] وقَوْله تَعَالَى {وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ} [آل عمران: 42] وَقَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي بَنُو تَمِيمٍ. فَسَاغَ إطْلَاقُهَا مَعَ إرَادَتِهِ الْبَعْضَ دُونَ الْجَمْعِ وَقَفَتْ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهَا عَلَى الْكُلِّ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ وُجُوبِ الْحُكْمِ فِيهِ بِالْأَقَلِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا مُنْتَظِمٌ لَهُ أَوْ الْوَقْفُ فِيهِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمُرَادِ. قِيلَ لَهُ: فَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي مَخْرَجُهُ الْعَامُّ مُحْتَمِلٌ لِلْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ دَعْوَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا. وَلَيْسَ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَعْتَبِرَهُ عَنْ الْخُصُوصِ صَارَ مُحْتَمِلًا لَهُ وَلِلْعُمُومِ، (وَذَلِكَ لِأَنَّ) لَفْظَ الْجَمْعِ حَقِيقَةُ الثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقَهَا فَمَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ (فَلَمْ يُعْتَبَرْ) الِاقْتِصَارُ بِ (بِهِ) عَلَيْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَقِيلَ لَهُ كَوْنُ الثَّلَاثَةِ جَمْعًا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَيْهَا إذْ كَانَ عُمُومُ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَهَا كَمَا يَتَنَاوَلُهَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَةٍ مَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ اسْتِعْمَالِهِ فِي حَقِيقَةٍ أُخْرَى. فَإِذَا كَانَ الْجَمْعُ حَقِيقَةً (فِيمَا) فَوْقَ الثَّلَاثَةِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ كَمَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الثَّلَاثَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَعْلُومٌ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَبَيْنَ قَوْلِ قَائِلٍ اقْطَعُوا سُرَّاقًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ اقْطَعُوا السُّرَّاقَ. فَإِنَّ قَوْلَهُ مُشْرِكِينَ وَسُرَّاقًا لَا يَقْتَضِي جَمِيعَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مَعَ كَوْنِهِ لَفْظَ جَمْعٍ. قِيلَ لَهُ: وَإِنْ كَانَ لَفْظَ جَمْعٍ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ نَكِرَةً لَمْ يُوجِبْ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ كُلِّهِ، وَلَوْ وَجَبَ اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ صَارَ مَعْرِفَةً لِدُخُولِ مَا تَحْتَ الْجِنْسِ فِيهِ وَكَانَ يَصِيرُ كَقَوْلِهِ اقْطَعُوا السُّرَّاقَ وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي مِثْلِهِ يَدْخُلَانِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ وَخُرُوجُهَا سَوَاءً مَعْلُومٌ فَسَادُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَلَيْسَ فِي هَذَا نَقْضٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَةَ فَمَا فَوْقَهَا حَقِيقَةً وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّا إنَّمَا صَرَفْنَاهُ إلَى الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِدَلَالَةٍ وَهُوَ خُرُوجُ اللَّفْظِ مَخْرَجَ النَّكِرَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بَعْضًا مَجْهُولًا مِنْ جُمْلَةِ مُحْكَمِ اللَّفْظِ مَاضٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُ وَقَصَرْنَاهُ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِدَلَالَةٍ. وَجَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ إلَّا أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ أَعْيَانٍ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّفْظِ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ أَوْ يَكُونُ الْمُخَاطَبُ مُخْبِرًا فِي قَطْعِ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت نِسَاءً أَوْ اشْتَرَيْت عَبِيدًا فَعَبْدِي (حُرٌّ) إنَّ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا يُوجِبُ لَفْظُ الْجَمْعِ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ بِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] هَذَا عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظٍ مُتَكَرِّرٍ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مِمَّا خَلَقَ مِنْهُمَا وَمِنْ صُلْبِهِمَا دُونَ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا فَيَصِيرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 مَذْكُورِينَ بِالْإِضَافَةِ إلَى جُمْلَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ - فَكَيْفَمَا جَرَتْ الْحَالُ فَقَدْ جَازَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يُسَلِّمُهُ لَك جَمِيعُ أَصْحَابِ الْعُمُومِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَا يَكُونُ لِلْخُصُوصِ أَبَدًا، وَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ (لَفْظَ) عُمُومٍ لِأَنَّ مَا صَحِبَهُ مِنْ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ يَجْرِي عِنْدَهُمْ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ، فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا مَنْ سَلَّمَ (وُرُودَ) لَفْظِ عُمُومٍ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ إطْلَاقَ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَالْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْعُمُومِ وَلَيْسَ (فِي) أَنَّ اللَّفْظَ عُدِلَ بِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فِي حَالِ مَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَهُ عُدَّ وُرُودُهُ مُطْلَقًا عَلَى الْحَقِيقَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ قَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] وَيَرِدُ لَفْظُ الْأَمْرِ وَالْمُرَادُ الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] . وَلَمْ يُمْنَعْ جَوَازُ وُرُودِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ لَهُ مِنْ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ (مَتَى وَرَدَ) مُطْلَقًا عَلَى حَقِيقَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ لَفْظُ الْعُمُومِ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ جَمِيعِ مَا تَحْتَ الِاسْمِ لَصَارَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهُ كَالْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ جَوَازَ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت زَيْدًا إلَّا زَيْدًا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدْفَعُ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ اسْمًا لِهَذَا الْعَدَدِ يَقْتَضِي إطْلَاقُهُ اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِ ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ جَوَازُ وُرُودِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُبْطِلْ ذَلِكَ شُمُولَ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِجَمِيعِهِ. وَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا فِي الْعُمُومِ وَجَوَازُ وُرُودِ الْخُصُوصِ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَانِعٍ كَوْنَ اللَّفْظِ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ صِفَةَ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلشُّمُولِ وَالِاسْتِيعَابِ هِيَ مَا يَصْحَبُهُ حَرْفُ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ الْكُلُّ وَالْجَمِيعُ، وَيَقْبُحُ مَعَهُ اسْتِفْهَامُ الْمُرَادِ وَمَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ بِأَوْلَى بِحُكْمِ اللَّفْظِ مِنْ الْآخَرِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا كَانَ لِلتَّأْكِيدِ وَالِاسْتِفْهَامِ مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ. قِيلَ لَهُ: لَفْظُ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ إذَا دَخَلَا عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنَّمَا يُؤَكِّدَانِ بِهِ مَا قَدْ حَصَلَ وَاسْتَقَرَّ مِنْ الْمَعْنَى وَلَا يُوجِبَانِ زِيَادَةَ حُكْمٍ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْعُمُومُ (الْعَارِي) مِنْ التَّأْكِيدِ، وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ بِلَفْظِ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ كَمَا يُؤَكَّدُ بِالتَّكْرَارِ، وَلَيْسَ يُفِيدُ التَّكْرَارُ زِيَادَةَ حُكْمٍ عَلَى مَا حَصَلَ بِالْعُمُومِ. كَقَوْلِ اللَّهِ {أَوْلَى لَك فَأَوْلَى} [القيامة: 34] (ثُمَّ {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 35] وَالثَّانِي) تَأْكِيدٌ فِي تَقْرِيرِ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ بَدْءًا. وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ» ، وَكَقَوْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فِي الصَّدَقَةِ " فَإِنْ (لَمْ) تَكُنْ تَجِدُ ابْنَةَ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ ". وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: هَلَّا سَأَلْت جُمُوعَ كِنْدَةَ يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنًا وَكَالْقَسْمِ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ عَلَى جِهَةِ تَقْدِيرِ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ بِالْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْأَعْدَادِ الَّتِي لَا إشْكَالَ عَلَى أَحَدٍ فِي حُصُولِ الْمُرَادِ بِهِ قَبْلَ التَّأْكِيدِ. نَحْوُ قَوْلِك: أَخَذْتُ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا وَقَبَضْتُهَا بِأَسْرِهَا وَلَمْ يُفِدْ زِيَادَةَ عَدَدٍ (عَلَى) مَا عَقَلْنَاهُ مِنْ اللَّفْظِ قَبْلَ دُخُولِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِك رَأَيْت زَيْدًا نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ مَعْنًى فِي وُجُوبِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّأْكِيدُ يُفِيدُ زِيَادَةَ مَعْنًى عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ لَمَا كَانَ تَأْكِيدًا، وَلَكَانَ حِينَئِذٍ كَلَامًا مُسْتَقْبَلًا مُفِيدًا بِنَفْسِهِ كَقَوْلِك: عَشَرَةٌ وَعَشَرَةٌ أُخْرَى فَلَمَّا صَحَّ أَنَّ لَفْظَ الْكُلِّ (وَ) الْجَمِيعِ إذَا اتَّصَلَا بِلَفْظِ الْعُمُومِ إنَّمَا يَصْحَبَانِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَنَاهُ لَفْظُ الْعُمُومِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ لَفْظُ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ إذَا دَخَلَا عَلَى الْعُمُومِ لَا يُفِيدَانِ زِيَادَةَ حُكْمٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي دُخُولِهِمَا. قِيلَ لَهُ: بَلْ فِيهِمَا أَكْبَرُ الْفَائِدَةِ، هُوَ تَأْكِيدُهُ وَتَقْرِيرُهُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ كَمَا أَنَّ أَنْفُسَنَا وَجَمِيعَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى دَلَائِلُ عَلَيْهِ وَمَوْصُولٌ إلَى الْعِلْمِ بِهِ. وَالْمُعْجِزَةُ الْوَاحِدَةُ وَالسُّورَةُ الْوَاحِدَةُ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ (نُبُوَّةِ) النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا كَانَتْ مُوَصِّلَةً إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ جَعَلَ مَعَ ذَلِكَ كُلَّ سُورَةٍ دَلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَجَمِيعُ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَلَائِلُ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَحِكْمَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وَقَدْ قِيلَ: إنَّ فَائِدَةَ دُخُولِ حَرْفِ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ أَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْصِيصَ وَيَنْفِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ كُلَّ مَا حَسُنَ مَعَهُ الِاسْتِفْهَامُ فَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِيهِ لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إذَا صَدَرَ (عَنْ) الْحَكِيمِ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا لَمْ يَحْسُنْ اسْتِفْهَامُهُ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ فِيمَنْ يُظَنُّ بِهِ الْغَلَطُ وَوَضْعُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: أَحَقًّا مَا تَقُولُ؟ أَنْتَ صَدُوقٌ فِي ذَلِكَ؟ وَنَحْوُ هَذَا مِنْ الْقَوْلِ. فَأَمَّا الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا فَلَا يَجُوزُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِهِ وَيَقْبُحُ اسْتِفْهَامُهُ، وَقَدْ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُجَوِّزَ السَّامِعُ عَلَى نَفْسِهِ الْغَلَطَ فِيمَا سَبَقَ إلَى سَمْعِهِ فَيَسْتَفْهِمُ الْمُخَاطَبَ لَهُ لِيَعْلَمَ (أَنَّ) مَا سَبَقَ إلَى سَمْعِهِ كَانَ صَحِيحًا عَلَى مَا سَمِعَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَدْ يَحْسُنُ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي الْأَعْدَادِ الْمَعْلُومَةِ الَّتِي لَا تُشْكِلُ مَقَادِيرُهَا عَلَى سَامِعِهَا، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ، فَيَقُولَ أَتُعْطِينِي الْأَلْفَ كُلَّهَا. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ حَكِيمًا وَالسَّامِعُ وَاعِيًا لِمَا خُوطِبَ بِهِ وَاللَّفْظُ ظَاهِرَ الْمَعْنَى فَالِاسْتِفْهَامُ غَيْرُ سَائِغٍ فِي مِثْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْلَا جَوَازُ الِاسْتِفْهَامِ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ لَمَا سَاغَ لِقَوْمِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِ بَقَرَةٍ فَقَالُوا {اُدْعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْوُقُوفِ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ وَحُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قِيلَ لَهُ: (أَوْ) قَدْ صَارَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً فِي ذَلِكَ وَمَنْ بَرَاهُمْ مِنْ الْخَطَأِ فِي اسْتِفْهَامِهِمْ مَعَ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ اللَّائِمَةِ فِي مُرَاجَعَتِهِمْ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ " لَوْ ذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ". وَعَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَفْهَمُوا ذَلِكَ هُمْ الَّذِينَ قَالُوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] ، فَمَنْ خَاطَبَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه بِمِثْلِ ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ مِنْ الْخَطَأِ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُرَاجَعَةِ، وَعَلَى أَنَّ سُؤَالَهُمْ قَدْ صَارَ سَبَبًا لِلتَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَالَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ أَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا اللَّوْمَ عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الَّذِي قَدْ (كَانَ) يُمْكِنُهُمْ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ تَغْلِيظِ الْمِحْنَةِ لِأَجْلِ مُرَاجَعَتِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ إذَا أُكِّدَ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْكِيدِ يَقَعُ مَعَهُ لِلسَّائِلِ عِلْمُ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِ الْمُخَاطَبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قِيلَ لَهُ: لَيْسَ وُقُوعُ عِلْمِ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِ الْقَائِلِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّأْكِيدِ إذْ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّأْكِيدِ تَارَةً وَمَعَ عَدَمِهِ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَقَدْ لَا يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ مَعَ وُجُودِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِاللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ مُلْغِزًا فِي كَلَامِهِ. وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِمُرَادِ الْمُخَاطَبِ مَقْصُورًا عَلَى مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ لَمَا جَازَ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ مِنْ الْمُطْلِقِينَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَعْلَمُ (كَلَامَ) اللَّهِ تَعَالَى اضْطِرَارًا وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ بِاسْتِدْلَالٍ وَاكْتِسَابٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ وُقُوعُ (الْعِلْمِ) بِمُرَادِهِ فِي خِطَابِهِ مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا كَثِيرًا مِنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الضَّرُورَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَخْلُو وُقُوعُ الْعِلْمِ بِالْعُمُومِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْمَعْنَى أَوْ بِمُعَيَّنٍ يُقَارِنُ اللَّفْظَ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ مَعْنَى غَيْرِ اللَّفْظِ أَوْ بِهِمَا فَقَدْ خَرَجَ اللَّفْظُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَالًّا بِنَفْسِهِ، وَفِي ذَلِكَ بُطْلَانُ أَصْلِكُمْ إنْ كَانَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، وَاللَّفْظُ مَسْمُوعٌ مَحْسُوسٌ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ السَّامِعُونَ لَهُ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْمَحْسُوسَاتِ لَا يَقَعُ فِيهَا خِلَافٌ كَالْمَلْمُوسِ وَالْمَذُوقِ وَالْمَشْمُومِ وَالْمَرْئِيِّ فَلَمَّا وَجَدْنَا كَثِيرًا مِنْ سَامِعِي اللَّفْظِ نَافِينَ لِلْقَوْلِ بِالْعُمُومِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ مِنْ اللَّفْظِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الصَّوْتُ فَهُوَ مَسْمُوعٌ مَحْسُوسٌ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الْخُصُوصُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى مُوَاضَعَاتِ " أَهْلِ اللُّغَةِ وَاصْطِلَاحِهِمْ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شُبْهَةٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَوْ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَلَا يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِمَوْضُوعِهِ وَمُوجَبِ حُكْمِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ رَجُلٌ وَفَرَسٌ مَحْسُوسٌ مَسْمُوعٌ يَشْتَرِكُ السَّامِعُونَ (كُلُّهُمْ) فِي الْعِلْمِ (بِوُجُودِهِ) وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ عَرَفَ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْأَجْسَامَ مَحْسُوسَةٌ، وَهِيَ دَلَائِلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَحَسَّهَا وَشَاهَدَهَا عَرَفَ وَجْهَ دَلَالَتِهَا إذَا لَمْ يُسْتَدَلَّ (بِهَا) . كَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَقَدْ يَجُوزُ خَفَاءُ حُكْمِهِ عَلَى بَعْضِ السَّامِعِينَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَخْبِرْنِي عَمَّنْ سَمِعَ آيَةً أَوْ سُنَّةً ظَاهِرُهُمَا عُمُومٌ هَلْ يَلْزَمُهُ إمْضَاؤُهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِمَا وَعُمُومِهِمَا أَوْ يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا حَتَّى يَعْلَمَ (أَهُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ) وَمَنْسُوخٌ أَوْ نَاسِخٌ. فَإِنْ قُلْت إنَّهُ يُمْضِيهِمَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ خَاصًّا وَعَامًّا وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا فَقَدْ حَكَمْت بِعُمُومِهِمَا مَعَ الشَّكِّ فِيهِ. وَإِنْ قُلْت إنَّهُ يَقِفُ فِيهِمَا حَتَّى يَسْتَقْرِئَ سَائِرَ الْأُصُولِ وَالدَّلَائِلِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْهَا يُخَصِّصُهَا قَضَى فِيهِمَا بِالْعُمُومِ فَقَدْ تَرَكْت الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ وَصِرْت إلَى (مَذْهَبِ) أَصْحَابِ الْوَقْفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قِيلَ (لَهُ) : الَّذِي نَقُولُ فِي ذَلِكَ: إنَّ هَذَا السَّامِعَ إنْ كَانَ سَأَلَ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ حَادِثَةٍ حَدَثَتْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا قُرْآنًا أَوْ أَجَابَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا بِجَوَابٍ فَعَلَيْهِ إمْضَاءُ الْحُكْمِ عَلَى ظَاهِرِ مَا سَمِعَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِهِ فِي خُصُوصِهِ أَوْ عُمُومِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَاصًّا (لَمَا) تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانَهُ فِي الْحَالِ الَّتِي أَلْزَمَ فِيهَا تَنْفِيذَ الْحُكْمِ مَعَ جَهْلِ السَّائِلِ. وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ حُكْمًا مُبْتَدَأً مُعَلَّقًا بِعُمُومِ لَفْظٍ مِنْ غَيْرِ حَادِثَةٍ سُئِلَ عَنْ حُكْمِهَا أَوْ سَمِعَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ مُبْتَدَأَةً وَالسَّامِعُ لِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فَكَانَ مُخَاطَبًا بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهَا. فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَيْسَ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِظَاهِرِهَا حَتَّى يَسْتَقْرِئَ الْأُصُولَ وَدَلَائِلَهَا، هَلْ فِيهَا مَا يَخُصُّهَا، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ أَمْضَاهَا عَلَى عُمُومِهَا، وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِ حَادِثَةٍ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ فَأُجِيبَ فِيهَا بِجَوَابٍ مُطْلَقٍ أَمْضَاهُ عَلَى مَا سَمِعَهُ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا تَرْكُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَلَا مُوَافَقَةٌ لِأَصْحَابِ الْوَقْفِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّا إنَّمَا نَظَرْنَا مَعَ سَمَاعِ اللَّفْظِ فِي دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فَمَتَى عَدِمْنَاهَا كَانَ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ هُوَ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَلَمْ نَحْتَجْ مَعَ اللَّفْظِ (إلَى) دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إيجَابِ الْحُكْمِ وَشُمُولِهِ فِيمَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ أَنَّهُمْ يَقِفُونَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ حَتَّى يَجِدُوا دَلِيلًا مِنْ غَيْرِهِ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهِ. وَنَحْنُ نَقِفُ لِنَنْظُرَ هَلْ فِي الْأُصُولِ مَا يَخُصُّهُ أَمْ لَا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِحُكْمِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ يُخَلِّيهِ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ مِنْ إيرَادِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمَنُوطِ بِالْجُمْلَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْحُكْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ (لَمْ) يَسْمَعْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا. وَقَدْ تَعَسَّفَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يُفَصِّلْ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ هَذَا التَّفْصِيلَ، وَقَالَ أُمْضِي اللَّفْظَ عَلَى الْعُمُومِ، وَهَذَا خَبْطٌ وَجَهْلٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَامًّا وَخَاصًّا وَنَاسِخًا وَمَنْسُوحًا فَاعْتَقَدَ الْعُمُومَ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ (عَامًّا أَوْ خَاصًّا) فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى اعْتِقَادِ مَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (مَعَ ذَلِكَ) إقَامَةَ دَلَالَةِ تَخْصِيصٍ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْزَمَهُ اعْتِقَادَ خِلَافِ مُرَادِهِ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فَاسِدٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمْ أَجِدْ آيَةً وَخَبَرًا إلَّا خَاصًّا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ الْخُصُوصُ وَإِنَّهُ إنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْعُمُومِ بِدَلَالَةٍ. قِيلَ (لَهُ) : وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ مَا قُلْت لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْت وَمَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ الْعُمُومَ وَإِنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْخُصُوصِ بِدَلَالَةٍ، وَكُلُّ آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ وَجَدْته خَاصًّا فَلَمْ يَخْلُ مِنْ مُقَارَنَتِهِ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ خُصُوصَهُ وَإِزَالَتَهُ عَنْ الْعُمُومِ، وَعَلَى أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْآيِ (الْعَامَّةِ) الْمُسْتَوْجِبَةِ لِمَا تَحْتَ الِاسْمِ مِنْ أَنْ يَحْصُرَهُ هَذَا الْبَابُ، نَحْوُ قَوْلِهِ {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] وقَوْله تَعَالَى {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] وقَوْله تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44] ، وَ {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْض إلَّا عَلَى اللَّه رِزْقُهَا} [هود: 6] و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا. فَإِنْ قَالَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْعُمُومِ لَازِمًا لِمَنْ شَاهَدَ الْمُخَاطَبَةَ (بِهِ) لِاقْتِضَاءِ حَالِ الْخِطَابِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ مَعَهَا الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ مِنْ إشَارَاتٍ وَتَقْدِيرٍ، وَالْحَالُ الْمُقْتَضِيَةُ لِذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ نَقْلُهَا فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ لِمَعَانِي الْخِطَابِ لِمَنْ نُقِلَ إلَيْهِ اللَّفْظُ حَسَبَ وُقُوعِهِ لِمَنْ شَاهَدَهُ. فَلَمْ يَلْزَمْ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا مَنْ نُقِلَ إلَيْهِ لَفْظُ عُمُومِ الْحُكْمِ بِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ قِيلَ لَهُ: إنَّ الْمُخَاطَبَةَ تَكُونُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا يُرِيدُ بِهِ إفْهَامَ السَّامِعِ دُونَ غَيْرِهِ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي مِثْلِهِ مِنْ إشَارَاتِ الِانْحِصَارِ وَمَخْرَجُ الْكَلَامِ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَقَعُ لِلْمُخَاطَبِ الْعِلْمُ بِمُرَادِهِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يُرِيدَ بِخِطَابِهِ الْمَشَاهِدَ لَهُ وَغَيْرَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَعْقُولًا مِنْ لَفْظِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ مَعَهُ إلَى دَلَالَةِ الْحَالِ حَتَّى يَسْتَوِيَ النَّاقِلُ وَالْمَنْقُولُ إلَيْهِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّفْظِ وَهُوَ الْعُمُومُ الْمُنْتَظِمُ لِمَا تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ. وَعَلَى أَنَّ قَوْلَ هَذَا الْقَائِلِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ شَاهَدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَبِّدِينَ بِأَحْكَامِ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِلُونَ مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ بِالْمُشَاهَدَةِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْقِلْهُ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَوْضُوعِك، وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِمَّنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ: فَقَالَ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّا مُتَعَبَّدُونَ بِتَنْفِيذِهِ وَلَوْ سَاغَ الْوَقْفُ فِيهِ لَجَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ (أَنْ يَقُولَ) لَعَلِّي لَمْ أُعْنَ بِهَذَا الْأَمْرِ فَيَتَخَلَّفَ بِذَلِكَ عَنْ أَدَائِهِ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ الْغَرَضِ عَنْ الْجُمْلَةِ فَتَبْطُلَ فَائِدَةُ الْكَلَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَبَرُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَهُوَ عَلَى الْخُصُوصِ أَوْ الْعُمُومِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إسْقَاطُ فَائِدَتِهِ، وَلِأَنَّا غَيْرُ مُتَقَيِّدِينَ فِيهِ بِتَنْفِيذِ شَيْءٍ. قِيلَ (لَهُ) : (لَسْت تَخْلُو) مِنْ أَنْ تَكُونَ حَكَمْت فِي الْأَمْرِ بِالْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ (مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمُوجِبِهِ وَلِأَنَّ الصِّيغَةَ تُوجِبُ الْعُمُومَ أَوْ حَكَمْت فِيهَا بِالْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ) دَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ وَالصِّيغَةِ. فَإِنْ كُنْت حَكَمْت فِيهَا بِالْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقَدْ أَعْطَيْت أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْعُمُومِ فَوَاجِبٌ حِينَئِذٍ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ أَحْكَامُهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ وَمَوَاضِعِهِ كَمَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُفْرَدَةَ الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْأَعْيَانِ وَالْأَشْخَاصِ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا فِي دَلَالَاتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الدَّلَالَةُ (بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ) وَالْأَحْوَالِ فَلَا يَجُوزُ (حِينَئِذٍ أَنْ يَخْتَلِفَ) حُكْمُ الْخَبَرِ، وَالْأَمْرُ فِي اعْتِبَارِ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صُورَةُ الْعُمُومِ. وَإِنْ كُنْت تَأْبَى أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الْحُكْمِ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فِي الْأَصْلِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ الرُّجُوعُ إلَى حُكْمِ اللَّفْظِ فِي مُقْتَضَى اللُّغَةِ فَإِنْ أَوْجَبَ الْعُمُومَ قُضِيَ بِهِ وَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا مَعَ وُجُودِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَارِي مِمَّا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. وَعَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لِلْإِعْلَامِ فَإِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا لَزِمَنَا اعْتِمَادُ مُخْبِرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُهُ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَعَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَأْتِي بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ وُقُوعُ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْجُمْلَةِ نَحْوُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى مَوْضُوعِكُمْ أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ (مِنْ الصَّلَاةِ) وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (مِنْ وُجُودِهِ) مِنْ بَعْضِ جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ إسْقَاطُ فَرْضِ الْأَمْرِ فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 هَذَا الْوَجْهِ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا نَجْعَلَ فَرْضَ الصَّلَاةِ (وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ) عَامًّا عَلَى كَافَّةِ النَّاسِ. (فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمْ أَحْكُمْ بِلُزُومِ هَذِهِ الْفُرُوضِ كَافَّةَ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ) بَلْ قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَزِمَ بِالْأَمْرِ مِنْ الْفَرْضِ بَعْضَ النَّاسِ وَمَا زَادَ لَمْ يَلْزَمْ بِالْأَمْرِ وَإِنَّمَا لَزِمَ بِالْإِجْمَاعِ، (وَيَلْزَمُهُ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ لُزُومُهُ لِذَلِكَ الْبَعْضِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا لَزِمَ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا لَفْظَ الْأَمْرِ يَرِدُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] فَلَا يَكُونُ حَمْلُهُ (عَلَى) هَذَا الْوَجْهِ مُبْطِلًا لِفَائِدَتِهِ. فَإِنْ ارْتَكَبَ هَذَا فَقَدْ نَقَضَ مَا أَعْطَى بَدْءًا مِنْ إيجَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذُكِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِاللَّفْظِ دُونَ دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَنَا بِخَبَرٍ مُخْبِرُهُ مَجْهُولٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [القصص: 58] وَقَوْلِهِ: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] ثُمَّ لَا يُبَيِّنُهُ أَبَدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَرِدْ بَيَانُهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ مَوْقُوفٍ عَلَى الْبَيَانِ ثُمَّ لَا يَرِدُ بَيَانُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اُقْتُلُوا الْمُنَافِقِينَ إذَا عَرَّفْتُكُمْ إيَّاهُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ إذَا بَيَّنْتهَا لَكُمْ ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَبَدًا فَلَا يَكُونُ مُوجِبُ هَذَا الْأَمْرِ اعْتِقَادَ صِحَّةِ تَنْزِيلِهِ وَكَوْنِهِ حِكْمَةً وَصَوَابًا كَمَا يُخْبِرُنَا بِخَبَرٍ لَا نَتَبَيَّنُ حَالَ مُخْبِرِهِ وَكَيْفِيَّاتِهِ وَأَوْصَافَهُ فَلَا يَلْزَمُنَا فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَكَوْنِهِ حَقًّا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ أَنَّ الْأَمْرَ يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَلَا يَجُوزُ فِي الْخَبَرِ. قِيلَ لَهُ: جَوَازُ النَّسْخِ فِي أَحَدِهِمَا وَامْتِنَاعُهُ فِي الْآخَرِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ فِيهِمَا. وَلَوْ جُعِلَ هَذَا الْمَعْنَى فَاصِلًا بَيْنَهُمَا فِي إيجَابِ عُمُومِ الْخَبَرِ (دُونَ الْأَمْرِ كَانَ أَقْرَبَ لِأَنَّ لِخَصْمِك أَنْ يَقُولَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ النَّسْخُ فِي الْخَبَرِ) وَلَمْ يَجُزْ فِي مُخْبِرِهِ التَّبْدِيلُ (وَالتَّغْيِيرُ) وَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ، وَلَمَّا جَازَ نَسْخُ الْأَوَامِرِ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ إذْ جَازَ وُقُوعُهُ تَارَةً مَحْظُورًا وَتَارَةً مُبَاحًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ هَذَا السُّؤَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمُخْرَجِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْعَامُّ وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] وَقَوْلِهِ {إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44] وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا} [الكهف: 49] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْخَاصُّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] وَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك} [المائدة: 67] وقَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وَنَظَائِرِهِ. وَقَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْخَاصُّ وَالْمُرَادُ (الْعُمُومُ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْعُمُومَ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ فِي الْأَحْكَامِ مَعَ عَدَمِ اللَّفْظِ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 [الْبَابُ السَّادِسُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمُخْرَجِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ] وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] وَالْمُرَادُ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ وُرُودِ اللَّفْظِ الْعَامِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ هَذَا لَا يَمْتَنِعُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ النَّاسِ فِي اللَّفْظَيْنِ وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُمْ. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1] لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَكَانَ (شَيْخُنَا) أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِمَّنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: إنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِهِ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ وُرُودُ لَفْظِ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ (بِهِ) الْخُصُوصُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَلْفِ (سَنَةٍ) كَامِلَةٍ. كَذَلِكَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ الْخُصُوصِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ خَاصًّا، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَفْظَ عُمُومٍ قَطُّ. وَلَيْسَ وُجُودُ اللَّفْظِ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْعُمُومِ بِمُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا بَلْ هُوَ (لَفْظٌ) خَاصٌّ صُورَتُهُ غَيْرُ صُورَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ كَمَا أَنَّ وُجُودَ لَفْظِ (الْأَلْفِ مِنْ) قَوْلِهِ {أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] لَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّيغَةُ هِيَ صِيغَةَ الْأَلْفِ الْمُطْلَقَةِ الْعَارِيَّةِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ الصِّيغَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ كَذَلِكَ اقْتِرَانُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ إلَى اللَّفْظِ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْعُمُومِ يُغَيِّرُ صِيغَةِ اللَّفْظِ وَيَمْنَعُ كَوْنَهُ عَامًّا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَيْسَ أَنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ مَعَ اللَّفْظِ بِمَانِعِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ الَّذِي قَدْ أُرِيدَ بِهِ فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِهِ قَدْ اُقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ وَجَوَازُهُ فِيهِ بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُرَادًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر: 65] فَلَمْ يَسْتَثْنِ امْرَأَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {فَأَسْرِ بِأَهْلِك بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتَك} [هود: 81] فَأَظْهَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ اللَّفْظَيْنِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَذْكُورَةٍ فِي الْآخَرِ. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا (أَجْمَعِينَ) فَأَنْزَلَ الْآيَةَ مُطْلَقَةً اكْتِفَاءً بِالدَّلَالَةِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمَا (فِي الْآخِرَةِ) ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ، فَلَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا الْمَسِيحُ وَالْعُزَيْرُ قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ اللَّفْظِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَهَا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيهِمَا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي مَوْضِعِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظِ عُمُومٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الْقَوْلُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَعَهُ وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى {إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 خَمْرًا} [يوسف: 36] (بِمَنْزِلَةِ إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ مَا يَصِيرُ خَمْرًا) وقَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] بِمَنْزِلِهِ: إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ {وَجَاءَ رَبُّك} [الفجر: 22] كَقَوْلِهِ جَاءَ أَمْرُ رَبِّك ". فَتَصِيرُ الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِ اللَّفْظِ مَجَازًا هِيَ الْمُوجِبَةَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَلْزَمْ (مِثْلُهُ فِي) الدَّلَائِلِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِمَا ذَكَرْت إلَى إبْطَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ لَجَازَ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِهِ إلَى أَنْ تَجْعَلَ اللَّفْظَ الْمُسْتَثْنَى مَجَازًا كَمَا قُلْت فِي دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ سَوَاءً. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ: إنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْكَلَامِ لَا يَجْعَلُهُ مَجَازًا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ أَهْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِحَالٍ، وَالْخَمْرَ لَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْعَصِيرِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَلْفَاظِ الْمَجَازِ (يَجُوزُ أَنْ) لَا يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْمُرَادِ بِهَا (حَقِيقَةً) . وَقَوْلُهُ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، كَانَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُمْ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَمُرَادُهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ لِدَلَائِلَ قَامَتْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ اللَّفْظُ مَجَازًا بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ (فِيهِمْ) فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مَا ذَكَرْت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] هُوَ عُمُومٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إبَاحَةَ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَلَمَّا قَالَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا دَلَّ عَلَى (أَنَّ) الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] مَنْ عَدَا الْمَذْكُورَاتِ بِالتَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْعُمُومَ كَانَتْ الْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، فَلَمَّا قَالَ فِي الْإِمَاءِ {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] خَصَّهُنَّ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى الْحَرَائِرُ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَكُونُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ. لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَمَّا كَانَ بَيَانًا لِلْمُرَادِ بِاللَّفْظِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّ هَذَا فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 [الْبَابُ السَّابِعُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّخْصِيصُ] ُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ وُرُودَ التَّخْصِيصِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ الِاسْمُ. فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ} [النساء: 3] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أَلَا تَرَى: (أَنَّ) مَا كَانَ مِنْهُ ظَاهِرَ الْمَعْنَى غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَخْصِيصَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فَلَيْسَ بَيَانُهُ مَوْكُولًا إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَأَيْضًا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44] لِتُبَلِّغَهُ إيَّاهُمْ وَتُظْهِرَهُ وَلَا تَكْتُمَهُ. وَأَيْضًا: فَقَدْ وَكَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمَّةَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا وَرَدَ بِهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَمَا «قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْكَلَالَةِ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» وَفِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ الرِّبَا وَغَيْرِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّخْصِيصُ بَيَانًا فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِبَيَانِهِ تَارَةً وَتَارَةً يَأْمُرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ. وَمِنْ حَيْثُ جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ جَازَ تَخْصِيصُهُ (بِهِ) لِأَنَّ النَّسْخَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانٌ (لِمُدَّةِ) الْفَرْضِ الْأَوَّلِ وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ مَا شَمِلَهُ الِاسْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَقَالَ تَعَالَى {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج: 5] وَقَالَ تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] فَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ بَيَانِ الْكِتَابِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ. وَيَكُونُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» وَقَالَ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] وَقَالَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» وَنَظَائِرُ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ثُمَّ خَصَّ الْإِمَاءَ بِجَلْدِ الْخَمْسِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَبْدَ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ (عَلَى) أَنَّ الْعَبْدَ يُجْلَدُ خَمْسِينَ، فَخَصَّصْنَا الْآيَةَ بِالْإِجْمَاعِ. وَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1] وَفِي عُقُولِنَا أَنَّ مُخَاطَبَةَ الْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ بِذَلِكَ سَفَهٌ. فَصَارَتْ الْآيَةُ مَخْصُوصَةً بِالْعَقْلِ لِأَنَّهُ حُجَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى تُبَيِّنُ مُرَادَهُ بِالْآيَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَخْصِيصِهِ بِقُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ. فَإِنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْعَقْلِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ إذَا كَانَ مَعْنَاهُ بَيَانَ الْمُرَادِ فَغَيْرُ جَائِزٍ حُصُولُ الْبَيَانِ قَبْلَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ وُجُودُ الِاسْتِثْنَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَقُولَ بِنَفْيِهَا. فَإِنْ كُنْت مِمَّنْ يَنْفِي دَلَائِلَ الْعُقُولِ فَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فِي إثْبَاتِ دَلَائِلِ الْعُقُولِ وَأَنَّهَا تُفْضِي بِنَا إلَى حَقِيقَةِ الْعُلُومِ الَّتِي طَرِيقُهَا الْعَقْلُ. وَإِنْ كُنْت مِمَّنْ يُقِرُّ بِحُجَجِ الْعُقُولِ إلَّا أَنَّك مَنَعَتْ اسْتِعْمَالَهُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ خَاصَّةً، فَإِنَّ هَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ لَا يَجُوزُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ مَدْلُولِهَا، وَلَا يَجُوزُ وُرُودُ السَّمْعِ بِنَقْضِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فَإِذَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1] وَقَدْ أَقَامَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي عُقُولِنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ خِطَابُ الْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ، فَقَدْ صَارَتْ دَلَائِلُ الْعَقْلِ قَاضِيَةً لِحُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ دُونَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ كَمَا تَنْقُلُ دَلَالَةُ الْعَقْلِ حُكْمَ اللَّفْظِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] فَجَعَلَهُ زَجْرًا وَنَهْيًا وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا عَلِمْت خُصُوصَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ. قِيلَ لَهُ: فَقَدْ كُنْت تُجَوِّزُ قَبْلَ وُرُودِ الْآيَةِ وَحُصُولِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَعْنَاهَا مُخَاطَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَجَانِينَ وَالْأَطْفَالَ وَأَمْرَهُ إيَّاهُمْ بِالتَّقْوَى وَوَعِيدَهُمْ عَلَى تَرْكِهَا. فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ فَقَدْ أَحَالَ فِي قَوْلِهِ، وَيَلْزَمُهُ إجَازَةُ خِطَابِ (اللَّهِ تَعَالَى) الْجَمَادَاتِ وَتَكْلِيفِهَا الْعِبَادَاتِ، وَكَفَى بِهَذَا خِزْيًا لِمَنْ بَلَغَهُ. فَإِذَا (صَحَّ جَوَازُ) تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَالِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ قَبْلَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ انْفَرَدَ قَبْلَ ذِكْرِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَدَلَالَةُ الْعَقْلِ بِانْفِرَادِهَا مُوجِبَةٌ لِأَحْكَامِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 أَنْ يَنْعَدِمَ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِسَمْعٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا قَبْلَ وُرُودِ اللَّفْظِ الْمَخْصُوصِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبِيدِهِ إذَا أَمَرْتُكُمْ بِسَقْيِ الْمَاءِ فَاسْقُونِي إلَّا فُلَانًا، فَيَكُونُ فُلَانٌ خَارِجًا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَخْصُوصًا مِنْهُ بِقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْأَمْرِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُ الِاسْتِثْنَاءِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً إلَّا فُلَانًا، وَلَوْ قَالَهُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُعْتَدِلًا وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ شَيْءٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْعَقْلِ لَجَازَ نَسْخُهُ بِهِ لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِحُكْمِ اللَّفْظِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ فَهِمْت مَا أَلْزَمْتنَا لَكَفَيْتنَا مُؤْنَتَك وَقَضَيْت لَنَا عَلَى نَفْسِك وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ تَوْقِيتِ مُدَّةِ الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: مِنْهَا مَا فِيهِ إيجَابُهُ نَحْوُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَاعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - (وَمِنْهَا مَا فِيهِ حَظْرُهُ نَحْوُ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) . وَهَذَانِ الْبَابَانِ يَجْرِيَانِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّغْيِيرُ (وَالِانْقِلَابُ فِي بَابِ الْإِيجَابِ أَوْ الِامْتِنَاعَ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ فِي الْعَقْلِ، وَأَحْوَالُهُ ثَلَاثَةٌ: يَجُوزُ حَظْرُهُ تَارَةً وَإِبَاحَتُهُ تَارَةً أُخْرَى وَإِيجَابُهُ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ حُسْنٍ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قُبْحٍ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ حُكْمُهُ بِالسَّمْعِ مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَبِمَا يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، ثُمَّ لَا يَخْلُو السَّمْعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا بِالْبَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا الِانْقِلَابُ وَالتَّغَيُّرُ) فَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ بِوَجْهٍ، وَلَا وُرُودُ السَّمْعِ بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ حَاكِمًا بِحَظْرِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ أَوْ إيجَابِهِ، وَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ وُرُودُهُ فَهُوَ مِمَّا جَوَّزَهُ الْعَقْلُ وَحَسَّنَهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ الْعَقْلُ بِزَوَالِهِ وَارْتِفَاعِهِ. وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَإِنَّمَا حَظُّ الْعَقْلِ فِيهِ تَجْوِيزُ وُرُودِ السَّمْعِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ فِيهِ بِخِلَافِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّسْخَ إنَّمَا هُوَ تَوْقِيتُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي تَقْدِيرِنَا وَتَوَهُّمِنَا بَقَاؤُهُ وَلَا حَظَّ لِلْعَقْلِ فِي تَوْقِيتِ مُدَّةِ الْفَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِعِلَلِ الْمَصَالِحِ، (وَعِلَلُ الْمَصَالِحِ) لَا تُعْلَمُ أَعْيَانُهَا مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ. وَأَيْضًا: فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِيهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ بَدْءًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ النَّاسِخِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فِيهِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي ذَلِكَ فَامْتَنَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَوَازُ نَسْخِ السَّمْعِ بِالْعَقْلِ. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَقْلِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْصِيصِ هِيَ مَا كَانَ وَاقِعًا مِنْهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ يَجْرِيَانِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ الِاسْمُ. وَلِذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْأَلْفَاظِ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي دَلَالَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْعَقْلِ لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّخْصِيصُ وَكَذَلِكَ صَارَ الْعَقْلُ قَاضِيًا عَلَى السَّمْعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ عَلَى الْعَقْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَمْتَنِعُ جَوَازُ النَّسْخِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ مَا يَمْنَعُ الْعَقْلَ فَيَدُلُّ (الْعَقْلُ) عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِثْلُ مَا كَانَ يَلْزَمُ قَبْلَ ذَلِكَ، كَالسَّمْعِ إذَا وَرَدَ بِمِثْلِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ وَلَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَوْ وُجِدَ فِي السَّمْعِ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا نَسْخًا لَكَانَتْ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا مَنْسُوخَةً لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَتَعَذُّرِ النَّقْلِ وَكُلُّ حُكْمٍ كَانَ مُتَعَلِّقًا عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَى وَقْتٍ أَوْ شَرْطٍ وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ حَالِهِ بِسَمْعٍ أَوْ عَقْلٍ فَإِنْ مَضَى الْوَقْتُ وَعُدِمَ الشَّرْطُ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا. أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُرُوضِ مَعْقُودَةٌ بِأَوْقَاتٍ وَشُرُوطٍ مَتَى فَاتَتْ (أَوْقَاتُهَا) أَوْ عُدِمَتْ شَرَائِطُهَا سَقَطَ فِعْلُهَا نَحْوَ الْجُمُعَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ فِي الْأُمُورِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ مِمَّا كَانَ فِي تَقْدِيرِنَا وَتَوَهُّمِنَا بَقَاؤُهُ فَأَمَّا مَا كَانَ مُوَقَّتًا أَوْ مَشْرُوطًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالِهِ مَعْلُومًا مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: اجْلِدْ الْيَوْمَ (هَذَا) الزَّانِيَ مِائَةً وَلَا تَجْلِدْهُ غَدًا، أَوْ قَالَ: صَلِّ الْيَوْمَ وَلَا تُصَلِّ غَدًا أَنَّ فَوَاتَ الْوَقْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا يُوجِبُ نَسْخًا، وَلَوْ قَالَ: اضْرِبْهُ مِائَةً أَوْ صَلِّ ثُمَّ قَالَ: غَدًا لَا تَضْرِبْهُ أَوْ لَا تُصَلِّ، كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِأَنَّا (قَدْ) كُنَّا نَتَوَهَّمُ وَنُقَدِّرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بَقَاءَ الْفَرْضِ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ: دَلَالَةُ الْعَقْلِ عَلَى زَوَالِ الْفَرْضِ فِي حَالِ الْعَجْزِ، وَتَعَذُّرِ النَّقْلِ فِي مَعْنَى النَّسْخِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ نَسْخًا لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ إذَا كَانَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ، وَقَدْ أَخَذَ الْعَقْلُ بِقِسْطِهِ فِي إيجَابِ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى النَّسْخِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ بِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُبَيَّنُ بِهِ مُدَّةُ الْحُكْمِ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا فِي (مَعْنَى النَّسْخِ) ، لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: صُمْ سَائِرَ الْأَيَّامِ إلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا وَلَا فِي (مَعْنَى النَّسْخِ) ، لِأَنَّ النَّسْخَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَهُ شَرِيطَةٌ مَتَى عُدِمَتْ زَالَ الْمَعْنَى. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي التَّقْدِيرِ بَقَاءُ الْحُكْمِ فَيَرِدُ بَعْدَهُ مَا يُبَيِّنُ آخِرَ مُدَّتِهِ فَأَمَّا مَا كَانَ مَعْلُومًا مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي وَقْتٍ إمَّا بِسَمْعٍ أَوْ بِعَقْلٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ فِي شَيْءٍ. وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ إنَّ الْعِبَادَاتِ وَنَسْخَهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَصَالِحِ كَالْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْغِنَى وَسَائِرِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ لِلنَّسْخِ مَعْنًى قَدْ اخْتَصَّ بِهِ وَشَرَائِطَ قَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا مَتَى عَدِمَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا. وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي مَعْنَى النَّسْخِ لَكَانَ التَّخْصِيصُ أَيْضًا فِي مَعْنَى النَّسْخِ لِأَنَّهُ قَدْ قَصَدَ بِهِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ مِمَّنْ شَمِلَهُ الِاسْمُ كَمَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْمُطْلَقِ حَالٌ دُونَ حَالٍ، وَهِيَ حَالُ الْإِمْكَانِ دُونَ حَالِ الْعَجْزِ، وَلَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرُوضُ الْمُبْتَدَأَةُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى النَّسْخِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَصَالِحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 [بَاب تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ] بَابٌ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَمَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرَ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ. وَمَا كَانَ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ قَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أَوْ كَانَ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ لِلْمَعَانِي أَوْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَاهُ، وَسَوَّغُوا الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَتُرِكَ الظَّاهِرُ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ كَانَ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي تَخْصِيصِهِ وَالْمُرَادِ بِهِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ بِالْقِيَاسِ وَهَذَا عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا. وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ وَمَسَائِلُهُمْ. وَقَدْ قَالَ (أَبُو مُوسَى) عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (كِتَابِهِ) الْحُجَجِ الصَّغِيرِ لَا يُقْبَلُ خَبَرٌ خَاصٌّ فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ظَاهِرَ الْمَعْنَى أَنْ يَصِيرَ خَاصًّا أَوْ مَنْسُوخًا حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ مَجِيئًا ظَاهِرًا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَيَعْلَمُونَ بِهِ مِثْلُ مَا جَاءَ عَنْ (النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَنْ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» «وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» . فَإِذَا جَاءَ هَذَا الْمَجِيءَ فَهُوَ مَقْبُولٌ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ وَهْمًا. وَأَمَّا إذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ خَاصٌّ وَكَانَ ظَاهِرُ مَعْنَاهُ بَيَانَ (السُّنَنِ) وَالْأَحْكَامِ أَوْ كَانَ يَنْقُضُ سُنَّةً مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَوْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَكَانَ لِلْحَدِيثِ وَجْهٌ وَمَعْنًى يُحْمَلُ عَلَيْهِ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ حُمِلَ مَعْنَاهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ وَأَشْبَهِهِ بِالسُّنَنِ وَأَوْفَقِهِ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنًى يَحْمِلُ ذَلِكَ فَهُوَ شَاذٌّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قَالَ عِيسَى: وَكُلُّ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ كَانَتْ خَاصَّةً فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَالْأَخْبَارُ مَقْبُولَةٌ فِيمَنْ عَنَى بِهَا وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ بِأَحْسَنِ مَا يَأْتِيهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَأَشْبَهِهَا بِالسُّنَنِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] هِيَ خَاصَّةٌ فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِبَعْضِ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ فَالْأَخْبَارُ مَقْبُولَةٌ فِيمَنْ عَنَى بِهَا مِنْهُمْ. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ جَمِيعًا لِأَنَّ الصَّغِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَعْقِلَا لَمْ يَدْخُلَا فِي قَوْلِ أَحَدِ الْعُلَمَاءِ فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ قُبِلَ الْخَبَرِ الْخَاصِّ فِيمَنْ عَنَى بِهَا، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا. وَقَالَ (عِيسَى) فِي الْحُجَجِ الْكَبِيرِ: كُلُّ أَمْرٍ مَنْصُوصٍ فِي الْقُرْآنِ فَجَاءَ خَبَرٌ يَرُدُّهُ أَوْ يَجْعَلُهُ خَاصًّا وَهُوَ عَامٌّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى لَا يَحْتَمِلُ (تَفْسِيرَ الْمَعَانِي) فَإِنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ إنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا قَدْ عَرَفَهُ النَّاسُ وَعَلِمُوا بِهِ حَتَّى لَا يَشِذَّ مِنْهُمْ إلَّا الشَّاذُّ فَهُوَ مَتْرُوكٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ مِمَّا ثَبَتَ خُصُوصُهُ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَنَصَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يُخَصُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا. قَدْ رُوِيَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَنْكَرُوا عَلَى «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رِوَايَتَهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِ امْرَأَةٍ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَدِيثَ " ابْنِ عُمَرَ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ يُعَذَّبُ لِأَجْلِ فِعْلِ غَيْرِهِ. وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِيهِ أَنَّ عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ إنَّمَا جَوَّزَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبُحُ مِثْلُهُ، وَلَا تَكُونُ عَائِشَةُ مُخَالِفَةً لَهُمَا فِي مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْبُكَاءَ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ التَّعْدِيدُ، وَكَانُوا يُعَدِّدُونَ عَلَى مَوْتَاهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَا كَانُوا يَتَبَارَوْنَ بِهِ مِنْ الْغَارَاتِ وَالسِّبَاءِ وَالْقَتْلِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ يُعَدِّدُ بِمِثْلِهِ إنَّهُ يُعَذَّبُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَكَانَ قَبُولُ عُمَرَ وَابْنِهِ لَهُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَرَدُّ عَائِشَةُ لَهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ فِعْلِ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: (إنَّهُ) وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يَرُدُّهُ مَتَى حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَحَدُ مَا يُرَدُّ بِهِ وَيَمْنَعُ قَبُولَهُ (وَقَدْ) رُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ " إنَّكُمْ تُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثَ تَخْتَلِفُونَ فِيهَا فَمَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلَافًا فَمَنْ جَاءَكُمْ يَسْأَلُكُمْ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا عِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ " فَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنَعَ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى (عَلَيْهِ) دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الْعَادِلُ عَنْهُ مُصِيبًا بَلْ مُخْطِئًا تَارِكًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَالثَّانِي: مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَغَالِبُ الظَّنِّ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ (بِالْمَطْلُوبِ) وَهَذَا الَّذِي يَقُولُ فِيهِ أَصْحَابُنَا إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ (وَاحِدًا عِنْدَهُمْ) فَنَقُولُ: عَلَى هَذَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. (وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ مَا تَحْتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ) بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَخْبَرِهِ، وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 قَبِلُوهُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي، فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ رَفْعُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ (النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ) فَهُوَ مِثْلُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ تَخْصِيصُهُ بِهِمَا. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُك إنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ الْعُمُومِ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ فَإِنْ كُنْت أَرَدْت بِهِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ السَّلَفِ (مِنْ) الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ (مِنْ) بَعْدِهِمْ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي صَدْرِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ دَلَائِلُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ تُوجِبُ صِحَّةَ الْقَوْلِ (بِهِ) مَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ طَرِيقُ إثْبَاتِ الْعُمُومِ الِاجْتِهَادَ وَغَالِبَ الظَّنِّ وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهِ الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ. وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ بِمَخْبَرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَقْبُولٌ اجْتِهَادًا عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ مُوجَبِ الْعُمُومِ مِنْ الْحُكْمِ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ جَازَ تَرْكُ مَا كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ كَانَ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهُوَ دَلَائِلُ الْعَقْلِ الَّتِي هِيَ آكَدُ فِي بَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ثُبُوتِهَا مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُطْلَقُ وَلَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَلَا يَجُوزُ وُجُودُ دَلِيلِ الْعَقْلِ عَارِيًّا مِنْ مَدْلُولِهِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا مَا كَانَ مَحْظُورًا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِحَالٍ. وَالْآخَرُ: يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ تَارَةً وَحَظْرُهُ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السَّمْعُ. فَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِحَالٍ، فَنَحْوُ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ. وَأَمَّا مَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ اسْتِبَاحَتَهُ تَارَةً وَحَظْرَهُ أُخْرَى (عَلَى حَسَبِ) وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ مِنْ جِهَةِ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِمَصَالِحِ الْكُلِّ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ جَوَابَ أَصْحَابِنَا فِي حُكْمِ هَذَا الْقِسْمِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فِي إبَاحَتِهِ أَوْ حَظْرِهِ، وَالنَّاسُ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْظُرُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُبِيحُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ يُطْلِقَ فِيهِ حَظْرًا أَوْ إبَاحَةً. وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ بِمَا لَيْسَ فِي الْعَقْلِ إيجَابُهُ وَلَا حَظْرُهُ وَقَدْ قَامَتْ لَهُ أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى إبَاحَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّا مَتَى أَشَرْنَا إلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا يَقَعُ الْقَضَاءُ بِإِبَاحَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ بِمُوَاقَعَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ النَّفْعِ الَّذِي يَرْجُوهُ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّا إنَّمَا نُبِيحُ لَهُ تَنَاوُلَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ مَا لَمْ يَغْلِبْ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ يُؤَدِّيهِ إلَى ضَرَرٍ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ لَمَا جَازَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 تَنَاوُلُهُ. وَنُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ وَالسَّفَرَ لِلتِّجَارَاتِ وَنَحْوِهَا مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ضَرَرٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ (لِأَنَّهُ) لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ سَبُعًا أَوْ لُصُوصًا تُهْلِكُهُ لَمَا جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ السَّلَامَةُ جَازَ لَهُ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اسْتِبَاحَةَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا بِعَيْنِهِ إنَّمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ فَجَائِزٌ تَرْكُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَسَقَطَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّا قَدْ تَرَكْنَا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إبَاحَتِهِ وَحَظْرِهِ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ تَقْضِي بِإِبَاحَتِهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجاثية: 13] وقَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك: 15] وقَوْله تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] وَنَظَائِرُهُ مِنْ الْآيَاتِ. لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ خَاصَّةٌ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَقَدْ كَانَ حُكْمُ ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فِي (إبَاحَتِهِ أَوْ حَظْرِهِ) . ثُمَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِي إبَاحَتِهِ سَمْعٌ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذْ كَانَ تَجْوِيزُ الِاجْتِهَادِ قَائِمًا فِي إبَاحَتِهِ أَوْ حَظْرِهِ فَجَازَ قَبُولُ (خَبَرِ) الْوَاحِدِ فِيهِ. وَعَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِلَالَ بِعَيْنِهِ يُوجِبُ عَلَى قَائِلِهِ جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 حَيْثُ جَوَّزَ بِهِ حَظْرَ الْمُبَاحِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُجِيزَ تَرْكَ حُكْمِ الْقُرْآنِ رَأْسًا وَالِانْتِقَالَ عَنْهُ إلَى ضِدِّهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا جَازَ تَرْكُ مَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إلَى ضِدِّهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. فَإِنْ قَالَ (قَائِلٌ) : فَإِنَّ الصَّحَابَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ، وَقَدْ اسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُمْ كَاسْتِفَاضَةِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ، وَقَدْ قَامَتْ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِهِمَا أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ (لَيْسَ طَرِيقُهَا) الِاجْتِهَادَ وَغَالِبَ الظَّنِّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعُمُومِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهَلَّا جَوَّزْت تَخْصِيصَهُ بِهِمَا. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْت الِاعْتِرَاضَ بِهِمَا عَلَى عُمُومِ الْقُرْآنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ كُلَّ عُمُومٍ فِي الْقُرْآنِ شَأْنُهُ مَا وَصَفْنَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجَبِهِ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَلَا غَالِبِ الظَّنِّ. وَالْحُكْمُ (بِمُوجَبِ) خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ جِهَةِ غَالِبِ الظَّنِّ لَا مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهُمَا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ. كَمَا نَقُولُ إنَّ (قَبُولَ) شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ثُمَّ إذَا عَيَّنَا الشَّهَادَةَ فِي رَجُلَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا كَانَ طَرِيقُ قَبُولِهِمَا الِاجْتِهَادَ وَغَالِبَ الظَّنِّ لَا حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِمَا شَهِدَا بِهِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ (فِيهِ) عَلَى مَا وَصَفْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَأَيْضًا فَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكَانَ فِي إثْبَاتِ تَخْصِيصِهِ رَفْعُ الْعِلْمِ بِمُوجَبِ الْعُمُومِ رَأْسًا لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْصُلُ مَجَازًا ثُمَّ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ لَا مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ. وَلَا جَائِزًا رَفْعُ مُوجَبِ حُكْمِ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ فِي مَعْنَى النَّسْخِ وَهَذَا سَدِيدٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ سَقَطَتْ مَعَهُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ وَاحْتِيجَ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجِبْ إسْقَاطُ (حُكْمِ اللَّفْظِ) بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا قَوْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ إنَّ الْعُمُومَ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ يَجُوزُ (قَبُولُ) خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي تَخْصِيصِهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ (إنَّمَا) قَالَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصِ بِهِ عَلَى مَا كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَإِنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فَلَا إشْكَالَ مَعَ هَذَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي إخْرَاجِ بَعْضِ مَا شَمِلَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ مِنْ حُكْمِهِ لِسُقُوطِ حُكْمِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَوْ عَرِيَ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْقَوْلَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصِ. إلَّا أَنَّهُ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْبَاقِي مَعَ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ فَالِاجْتِهَادُ شَائِعٌ فِي تَرْكِ حُكْمِ اللَّفْظَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ فَصَارَ مُوجَبُ حُكْمِ الْعُمُومِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 هَذِهِ الْحَالِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ حَصَلَ مَجَازًا، وَالْمَجَازُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ جَازَ تَرْكُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. (وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ تَسْتَمِرُّ مَسَائِلُهُمْ عَلَيْهِ) وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ (نَسْخِ الْقُرْآنِ) بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، إذَا كَانَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ يُفْضِي (بِنَا) إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ فَكَذَلِكَ التَّخْصِيصُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ أَهْلَ قُبَاءَ (قَدْ) كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ ثُبُوتُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ (مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ) الْعِلْمَ فَلَمَّا أَتَاهُمْ آتٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ اسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ فَتَرَكُوا مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِيَقِينٍ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَكَذَلِكَ عِلْمُ الْأَنْصَارِ بِإِبَاحَةِ الْخَمْرِ (كَانَ يَقِينًا) فَلَمَّا أَتَاهُمْ آتٍ وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ أَرَاقُوهَا وَكَسَرُوا الْأَوَانِيَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ سُئِلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ نَفْسُهُ هَذَا السُّؤَالَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَقَاءِ الْحُكْمِ لِجَوَازِ وُرُودِ النَّسْخِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَبِيلُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَمَا (ثَبَتَ) مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ بِمَا لَا يُوجِبُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا أَنْكَرْت أَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا (فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ) وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. قِيلَ لَهُ: أَفَلَيْسَ قَدْ اتَّفَقَا عِنْدَك فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَلَمْ يُوجِبْ اتِّفَاقُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اتِّفَاقَهُمَا فِي جَوَازِ نَسْخِ مَا يُوجِبُ الْعَمَلَ (بِمَا لَا يُوجِبُهُ فَهَلَّا قُلْت فِي التَّخْصِيصِ مِثْلَهُ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَك قَدْ اتَّفَقَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ) بِهِمَا خَطَأٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُسَاوٍ لِوُجُوبِهِ بِالْقُرْآنِ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ سُنَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوَاتُرِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى مَرَاتِبَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وُجُوبًا حَقِيقِيًّا لَا يَسَعُ الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ (وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَسَعُ الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ) . أَلَا تَرَى أَنَّ تَارِكَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ لَيْسَ مَأْثَمُهُ كَمَأْثَمِ تَارِكِ عُمُومِ الْقُرْآنِ مَعَ اعْتِقَادِ الْقَوْلِ بِهِ. فَإِنْ قَالَ (قَائِلٌ) : الْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ أَنَّ فِي النَّسْخِ رَفْعَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ الْمُرَادِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يَدْرِي مَا النَّسْخُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ إلَّا أَنَّ النَّسْخَ فِيهِ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَرْفَعَهُ (لِأَنَّ) هَذَا بَدَاءٌ، وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: لَا يَلْزَمُنِي عَلَى التَّخْصِيصِ جَوَازُ النَّسْخِ لِأَنِّي لَا أَنْسَخُ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قِيلَ لَهُ: فَلِمَ تَخُصُّهُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ جَوَّزْت تَخْصِيصَهُ بِالسُّنَّةِ فَأَجِزْ نَسْخَهُ بِهَا. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إلْزَامُنَا إيَّاكَ النَّسْخَ قَائِمٌ عَلَيْك (عَلَى عِلَّتِك) لِأَنَّك قُلْت: إنَّمَا خَصَصْت الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِلُزُومِ الْعَمَلِ بِهِمَا فَجَوِّزْ النَّسْخَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا. فَإِنْ قَالَ: إذَا خَصَصْت فَقَدْ أَبْقَيْت مِنْ الْحُكْمِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. قِيلَ لَهُ: وَإِذَا نَسَخْت فَقَدْ أَثْبَتَّ مِنْ الْحُكْمِ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِيهَا إلَى وَقْتِ النَّسْخِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. عَلَى أَنَّ سُؤَالَنَا قَائِمٌ عَلَيْك فِي نَسْخِ السُّنَّةِ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا جَوَّزْت تَخْصِيصَهُ إذَا كَانَ مِنْ أَصْلِك جَوَازُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ. فَإِنْ قَالَ: إذَا خَصَصْت الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ اسْتَعْمَلْنَاهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّسْخُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْنَا الْآنَ. قِيلَ لَهُ: لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرِ إلَّا بِرَفْعِ بَعْضِ مُوجَبِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي رَفَعْت حُكْمَهُ (فِيمَا بَقِيَ) لِأَنَّ مَا بَقِيَ لَمْ أَسْتَعْمِلْهُ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فَلَمَّا جَازَ لَك (تَرْكُ) ذَلِكَ الْبَعْضِ (بِخَبَرِ) الْوَاحِدِ فَهَلَّا جَوَّزْت نَسْخَهُ كَمَا جَوَّزْت تَرْكَهُ إذَا دَخَلَ فِي عُمُومِ لَفْظٍ، فَكَيْفَ صَارَ اسْتِعْمَالُ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ مَا قَابَلَهُ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ. وَهَلَّا بَقَّيْت حُكْمَ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ دُونَ الْخَبَرِ. فَإِنْ قُلْت: لَا يَلْزَمُنَا مِنْ حَيْثُ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّ نُجَوِّزَ نَسْخَهُ كَمَا لَمْ يَلْزَمْك نَسْخُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ (تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ) ، قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَجِبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ تَجْوِيزِ نَسْخِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي مُوجَبِ حُكْمِهَا. وَإِنَّمَا نُجَوِّزُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ لَا فِيمَا وَرَدَ بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا فِيمَا لَمْ يَرِدْ (بِخِلَافِهِ) ، فَإِنَّمَا مَنَعْنَا النَّسْخَ بِالْقِيَاسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيرَ مُدَّةِ الْفَرْضِ، وَهَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ بِهِ وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَجَائِزٌ إثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ بِهِ فَمِنْ (حَيْثُ) جُوِّزَ التَّخْصِيصُ بِهِ لَزِمَ تَجْوِيزُ النَّسْخِ بِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِحَضْرَةِ الْوَاحِدِ (فَإِنْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 جَازَ ذَلِكَ فَهَلَّا قَبِلْت قَوْلَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي تَخْصِيصِهِ. قِيلَ لَهُ: إنْ خَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِحَضْرَةِ الْوَاحِدِ كَانَ عَلَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ اعْتِقَادُ تَخْصِيصِهِ (عَلَى حَسَبِ) مَا عَلِمَهُ لِأَنَّهُ كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ تَخْصِيصُهُ بِمِثْلِهَا. وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْوَاحِدُ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ تَخْصِيصُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِالْخُصُوصِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. ثُمَّ يُقَالُ (لَهُ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمًا ثَابِتًا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ بِحَضْرَةِ الْوَاحِدِ فَإِنْ قَالَ لَا: قِيلَ لَهُ: فِي التَّخْصِيصِ مِثْلُهُ. فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ: قِيلَ لَهُ: فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ نُقِلَ إلَيْهِ ذَلِكَ النَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ نَسْخِ مَا عَلِمَ بِثُبُوتِهِ يَقِينًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ. (فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ لَهُ: فَجَوِّزْ) (نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَتَرْكَ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ) . وَإِنْ قَالَ: لَا. قِيلَ لَهُ: فِي التَّخْصِيصِ مِثْلُهُ. فَإِنْ قَالَ قَدْ أَجَزْتُمْ تَخْصِيصَ الظَّاهِرِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي تَلَقَّاهَا النَّاسُ بِالْقَبُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رِوَايَةِ الْأَفْرَادِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» ، وَ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَهَلَّا جَرَيْتُمْ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ مَا تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَهُوَ عِنْدَنَا يَجْرِي مَجْرَى التَّوَاتُرِ، وَهُوَ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَجَازَ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِهِ فَإِنْ قَالَ: وَلِمَ زَعَمْت أَنَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ الْعِلْمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 (قِيلَ لَهُ) : فَقَدْ تَرَكْت مَسْأَلَتَك وَانْتَقَلْت عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا، عَلَى أَنَّا نُجِيبُك عَنْ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ بِحَقِّ النَّظَرِ فَنَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ فِي السَّلَفِ اسْتِعْمَالُهُ وَالْقَوْلُ بِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي شَرَائِطِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا فَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا صِحَّتَهُ وَاسْتِقَامَتَهُ لَمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا وَجْهٌ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ النَّقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مِثْلَهُمْ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ كَانَ شَاذًّا لَا يَقْدَحُ خِلَافُهُ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يُلْتَفَتُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى خِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ تَخْصِيصُ الظَّاهِرِ بِمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَنْ الْخَبَرِ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ (ذَلِكَ) كَذَلِكَ لَكَانَ الْإِجْمَاعُ تَابِعًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ (أَقْوَى مِنْهُ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ) وَهُوَ فَرْعٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِجْمَاعِ بَلْ الْإِجْمَاعُ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُرَدُّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُرَدُّ الْإِجْمَاعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فَلْيَتَوَضَّأْ» وَأَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُذْكَرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» . وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِهِ فَقَضَى إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَبَرِ وَكَانَ أَوْلَى مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وَكَمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ» وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ. وَكَمَا رَوَى سَلَمَةَ بْنُ الْمُحَبِّقِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا وَهِيَ لَهُ وَإِنْ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا» . وَنَظَائِرُهَا مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَضَى الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِيهِ، وَيَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا وَافَقَ خَبَرَ الْوَاحِدِ كَانَ هُوَ الْمُوجِبَ لِلْعَمَلِ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ لَا الْخَبَرُ بِانْفِرَادِهِ، وَيَصِيرُ الْإِجْمَاعُ قَاضِيًا بِاسْتِقَامَتِهِ وَصِحَّةِ مَخْرَجِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَسَعُ الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَلَا يَسَعُ الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ فَرْعًا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّأْيَ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَسَعُ خِلَافُهُ بِرَأْيٍ مِثْلِهِ ثُمَّ إذَا (حَصَلَ مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ وَالرَّأْيِ) لَمْ يَسَعْ خِلَافُهُ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ رَأْيٌ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، فَالْإِجْمَاعُ يُصَحِّحُ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَيَمْنَعُ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، كَمَا يُصَحِّحُ الرَّأْيَ وَيَمْنَعُ مُخَالَفَتَهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا جَازَ تَخْصِيصُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِخَبَرٍ قَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ، وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ وَلَا يَلْزَمُنَا عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا عَرِيَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَا. فَإِنْ قَالَ: قَدْ خَالَفَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَوُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ لِأَنَّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخَصِّصَةٌ، قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَ (قَدْ) تَلَقَّاهُ السَّلَفُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الْمُتَوَاتِرِ وَبِمِثْلِهِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا لِاسْتِفَاضَتِهِ فِي الْأُمَّةِ وَاسْتِعْمَالِ النَّاسِ لِحُكْمِهِ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ لَيْسَ بِخِلَافٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ. وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْخَوَارِجُ، (أَيْضًا) وَلَكِنَّهُمْ شُذُوذٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ. وَعَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] لَيْسَ بِعُمُومٍ بَلْ هُوَ مُجْمَلٌ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِيهِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ الْإِحْصَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ قَوْلِهِ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَتَخْصِيصِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» كَانَ الْجَوَابُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا، وَلِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ قِيلَ: خَصَصْتُمْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ بِخَبَرِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ فِي «النَّهْيِ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» . وَبِخَبَرِ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ فِي «تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» (وَقَدْ خَالَفَكُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُبِيحَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ) وَذَا النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَيَحْتَجَّانِ فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتَا إلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قِيلَ لَهُ: أَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ تَخْصِيصُ الْآيَةِ. لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا، وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ لَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ حَظْرَهُ وَلَا إبَاحَتَهُ، فَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِهِ تَخْصِيصُ الْآيَةِ. وَجِهَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ السَّابِيَةِ وَالْوَصِيلَةِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] يَعْنِي مِمَّا يُحَرِّمُونَ {إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. (فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا إذْ) كَانَ نُزُولُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى إبَاحَةِ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِيهَا. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عُمُومًا فِي إبَاحَةِ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِيهَا لَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ جَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ الْخَمْرُ وَلَحْمُ الْقُرُودِ وَنَحْوُهَا فَصَارَتْ الْآيَةُ خَاصَّةً بِالِاتِّفَاقِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَلُحُومِ الْخَيْلِ، وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الِاجْتِهَادَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَمَتَى اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي تَخْصِيصِ آيَةِ سَوَّغَتْ الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِ حُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيهَا، جَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي تَخْصِيصِهَا. فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إحْلَالَهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا طَلَّقَهَا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ دُخُولٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرِطْ فِيهِ دُخُولًا ثُمَّ جَعَلْتُمْ الدُّخُولَ شَرْطًا فِيهِ بِخَبَرِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَجَاءَتْ تَشْكُو (إلَيْهِ) أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» . فَخَصَصْتُمْ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ وَالْخِلَافُ قَائِمٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ، لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ ارْتِفَاعُ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ بِنِكَاحِ الثَّانِي، بَلْ ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بِالْوَطْءِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ مُنْتَظِمٌ لِلْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ عِنْدَنَا وَذِكْرُ الزَّوْجِيَّةِ يُفِيدُ الْعَقْدَ فَقَدْ اشْتَمَلَ ظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَجَعَلَهُمَا شَرْطًا فِي وُقُوعِ تَحْرِيمٍ فَاتَّبَعْنَاهُ، وَلَمْ نُخَالِفْهُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا خَصَصْنَاهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بَيْنَنَا فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّوَاتُرِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِهِ، وَهَذَا صِفَةُ هَذَا الْخَبَرِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلَتْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وَلَيْسَ مَعْنَى تَلَقِّي النَّاسِ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ أَنْ لَا يُوجَدَ (لَهُ) مُخَالِفٌ، وَإِنَّمَا صِفَتُهُ أَنْ يَعْرِفَهُ عُظْمُ السَّلَفِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَى قَائِلِهِ، ثُمَّ إنْ خَالَفَ بَعْدَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ كَانَ شَاذًّا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ الزَّوَاجَ الثَّانِيَ لَا يَرْفَعُ تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ لَوْ سَمِعَهُ لَصَارَ إلَيْهِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ صَارَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَى حُكْمِ هَذَا الْخَبَرِ فَسَقَطَ الْخِلَافُ فِيهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. فَجَازَ تَخْصِيصُ الظَّاهِرِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ إجْمَاعٍ يَقَعُ بَعْدَ خِلَافٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ مُتَقَدِّمٍ وَبَيْنَ إجْمَاعٍ يَحْصُلُ عَنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي ثُبُوتِ حُجَّتِهِمَا وَلُزُومِ الْمَصِيرِ إلَيْهِمَا. فَإِنْ قَالَ: خَصَصْتُمْ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] بِخَبَرِ الْمِجَنِّ وَفِي النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ فَهِمْت عَنَّا مَا قَدَّمْنَا فِي عَقْدِ الْمَذْهَبِ لَكَفَيْت نَفْسَك مُؤْنَةَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الْفَارِغَةِ. لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] خَاصٌّ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ (لَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 خِلَافَ (فِيهِ بَيْنَهُمْ) وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ، عَشَرَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَمْسَةٌ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: أَرْبَعَةٌ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: ثَلَاثَةٌ، فَحَصَلَ حُكْمُ اللَّفْظِ خَاصًّا بِاتِّفَاقِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَوَّغَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ (لِغَيْرِهِ الِاجْتِهَادَ) فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي قَدَّرَهُ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى خُصُوصِهِ. وَالْآخَرُ: تَسْوِيغُهُمْ الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِ ظَاهِرِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لَا يُعَدُّ خِلَافًا فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ هُوَ شُذُوذٌ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. ثُمَّ يَصِيرُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا السَّائِلِ فِي صِفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا فِي شَيْءٍ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ عَنَّا فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِمَّا نَقُولُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ فِي حَدِّ مَنْ يَتَشَاغَلُ بِهِ أَيْضًا، (وَلَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا يَكُونُ فِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُبْتَدِئِ عَلَى مَوْضِعِ عَوَارِهِ وَفَسَادِ مَا احْتَجَّ بِهِ) . ذَكَرَ أَخْبَارًا زَعَمَ أَنَّا قَبِلْنَاهَا فَتَرَكْنَا لَهَا الْأَصْلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ (يَتَعَلَّقُ قَبُولُهَا فِيمَا) نَحْنُ فِيهِ (بِشَيْءٍ) وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَجَدَهَا لِبَعْضِ سَلَفِهِ فَنَقَلَهَا إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِحَقِيقَةِ مَوْضِعِهَا، قَدْ ذَكَرْنَاهَا وَبَيَّنَّا ذَهَابَهُ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 لِئَلَّا يَمُرَّ عَلَى بَعْضِ الْمُبْتَدَئِينَ فَيَظُنَّهَا شُبَهًا (لِأَنَّ مَنْ بِهِ) أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ فَهْمٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فَسَادُهَا. مِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي فَزَارَةَ فِي الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ، وَقَالَ: كَانَ أَبُو فَزَارَةَ نَبَّاذًا فَتَرَكُوا حُكْمَ الْقُرْآنِ - زَعَمَ - فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فَقَالَ مَعْنَاهُ مَاءً أَوْ نَبِيذَ التَّمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ أَبَا فَزَارَةَ كَانَ نَبَّاذًا فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَتَرَخُّصٌ عَلَى أَبِي فَزَارَةَ، لِأَنَّ أَبَا فَزَارَةَ كَانَ مِنْ الزُّهَّادِ وَحَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ فِي كِتَابِهِ (الْمَشْهُورِ) الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الطَّبَقَاتِ، وَلَهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ قَدْ نَقَلَهَا عَنْهُ الْأَئِمَّةُ مِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ (وَإِسْرَائِيلَ وَشَرِيكٍ) فِي نُظَرَائِهِمْ، وَلَوْ كَانَ نَبَّاذًا مَا نَقَلُوا عَنْهُ آثَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ هَذَا الْقَائِلِ وَقِلَّةِ دِينِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خِلَافُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ مَاءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ {مَاءً} [المائدة: 6] لَفْظٌ مَنْكُورٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ عَلَى الِانْفِرَادِ سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ أَوْ مُخَالِطًا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ مَاءٌ فَجَاءَ الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الظَّاهِرِ غَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ تَخْصِيصٌ لِعُمُومٍ وَلَا ظَاهِرٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَلَمْ يَقُلْ بِمَاذَا وَالْحَالُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ (وَنَبِيذُ التَّمْرِ) غَيْرُ مَذْكُورٍ بِلَفْظِ عُمُومٍ، فَإِنَّمَا وَرَدَ الْخَبَرُ فِي تَبْقِيَةِ حُكْمِ الْمَاءِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ. وَذَكَرَ حَدِيثَ الْقَهْقَهَةِ (فَقَالَ: وَقَدْ قَالَ) اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فَأَبْطَلَ طَهَارَتَهُ بِحَدِيثِ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، وَحَدِيثُهُ - زَعَمَ - كَالرِّيَاحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَبَاوَتِهِ وَجَهْلِهِ بِهَذَا الْبَابِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَلَالَةِ مَحَلِّ أَبِي الْعَالِيَةِ وَصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ مَوْصُولًا مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ، وَرَوَاهُ مُرْسَلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَإِبْرَاهِيمُ وَالزُّهْرِيُّ. وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبُولُ هَذَا الْخَبَرِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ (فِي شَيْءٍ) لِأَنَّا لَمْ نَخُصَّ بِهِ ظَاهِرًا وَلَا عُمُومًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ظَاهِرُهُ نَهْيُ الْإِنْسَانِ عَنْ أَنْ يُبْطِلَ عَمَلَهُ، وَنَحْنُ (لَمْ) نُبْطِلْ عَمَلَهُ بِالْقَهْقَهَةِ وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ اللَّهُ الَّذِي حَكَمَ بِبُطْلَانِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى إبْطَالِ عَمَلِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ عَمَلَهُ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قَدْ عَمِلَهُ مُنْتَقِضٌ مَعْدُومٌ لَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْ إبْطَالِهِ، فَإِذَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْمَعَاصِي مَا يُبْطِلُ ثَوَابَ عَمَلِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَلَا مَذْكُورٍ فِي لَفْظِ الْآيَةِ. فَكَيْفَ يَكُونُ قَبُولُ حَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ تَخْصِيصًا لِظَاهِرٍ. وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ الظَّاهِرُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَنَا عَلَى مَا زَعَمْت وَخَصَّصْنَاهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ مُسْتَقِيمًا عَلَى أَصْلِنَا لِأَنَّ الْعَامَّ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ بَعْضُ مَا انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. ثُمَّ خَلَّطَ تَخْلِيطًا آخَرَ فَقَالَ: وَقَبِلُوا شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا. وَأَيُّ ظَاهِرٍ يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي الْوِلَادَةِ حَتَّى يُذْكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَاتِ فِي الْمُدَايَنَاتِ وَالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَالرَّجْعَةِ وَالزِّنَا. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ فَلَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ فَنَكُونَ بِقَبُولِنَا شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ مُخَصِّصِينَ لَهَا. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَزَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَا لَا نَقْبَلُ خَبَرَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينَ وَقَدْ رَوَاهُ - زَعَمَ بِضْعَةُ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ كَيْفَ نَتَوَثَّقُ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ قَضَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا قَوْلُهُ قَدْ رَوَاهُ بِضْعَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ اجْتَهَدَ فِي أَنْ يَجِدَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ حَدِيثًا وَاحِدًا صَحِيحًا فَلَمْ يَجِدْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ عِلَلَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي عَصْرِهِ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَضَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بِهِ مُعَاوِيَةُ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَةُ لَمَا لَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ الْقُرْآنَ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» فَهَذِهِ حِكَايَةُ قَضِيَّةٍ مِنْهُ (- عَلَيْهِ السَّلَامُ -) لَا يُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهَا وَلَا مَعْنَاهَا، وَقَدْ نَقْضِي نَحْنُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي وُجُوهٍ. فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ سَاقِطٌ إذْ لَيْسَ هُوَ عُمُومَ لَفْظٍ (مِنْهُ) فَيُعْتَبَرَ مَا انْتَظَمَهُ اسْمُهُ. وَلَيْسَ الْخَصْمُ بِأَوْلَى بِدَعْوَاهُ فِي صَرْفِهِ إلَى مَذْهَبِهِ دُونَ أَنْ أَحْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ مَذْهَبِي فَكَيْفَ بِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ فِي حُكْمِ الْكِتَابِ إذَا حَمَلَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ فَقَدْ صَدَقَ لِأَنَّ الْخَبَرَ حُمِلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي (يَجِبُ) حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْ ظَاهِرِهِ مَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الْمُخَالِفِ فِيهِ خِلَافُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ حَالَ الْمُدَايَنَةِ أَوْحَالَ الْحُكْمِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا. وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ التَّوَثُّقَ بِهِمَا فِي حَالِ الْمُدَايَنَةِ فَإِنَّمَا الْمَقْصِدُ فِيهِ حَالُ الْحُكْمِ عِنْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 التَّجَاحُدِ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ قَدْ أَفَادَ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَمَنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ (شَاهِدٍ) وَاحِدٍ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ وَيَمِينُ الطَّالِبِ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْآيَةِ فَوُجُودُهَا وَعَدَمُهَا وَاحِدٌ فَلَمْ يَنْفَكَّ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مِنْ مُخَالَفَةِ حُكْمِ الْقُرْآنِ. وَكَمَا أَنَّ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَدُّ الزَّانِي أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ تَارِكًا لِحُكْمِهِ فَكَذَلِكَ مَنْ اقْتَصَرَ فِي الْمُدَايَنَةِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الشُّهُودِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَهَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّخْصِيصِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عُمُومُ لَفْظٍ يَنْتَظِمُ مُسَمَّيَاتٍ فَيَخُصُّهُ بِالْخَبَرِ. فَإِنْ قِيلَ: خَصَّ بِهِ حَالًا دُونَ حَالٍ. قِيلَ لَهُ: الْحَالُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ فَيَخُصَّهَا بِالْخَبَرِ فَلَيْسَ فِيهِ إذَنْ أَكْثَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْآيَةِ لَمْ يَسْتَحِلْ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ كَانَ صَحِيحًا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كُلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُ إلَى مَا قَبْلَهُ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ يَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ كَانَ (لَا) يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ صَلُّوا إنْ شِئْتُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِنْ شِئْتُمْ إلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ جَوَازُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَنْسُوخَةً بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ. وَكَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ إنْ شِئْتُمْ فَاجْلِدُوا الزَّانِيَ مِائَةً وَإِنْ شِئْتُمْ تِسْعِينَ فَكَانَ يَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 مِقْدَارُ الضَّرْبِ مَوْكُولًا إلَى مَشِيئَةِ الْإِمَامِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ مَنْ قَالَ إنَّ حَدَّ الزَّانِي تِسْعُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ. وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ رَجُلٌ إنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ وَلَا يُخْرِجُ جَوَازُ ذَلِكَ قَائِلَهُ الْآنَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ وَهَذَا لَا يُخْفِي وَجْهَ فَسَادِ الْقَوْلِ بِهِ عَلَى أَيِّ فَهْمٍ. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَةُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ خِلَافُ الْكِتَابِ وَهَذَا أَبْعَدُ فِي الْجَوَازِ مِنْ تَخْصِيصِ الظَّاهِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ بِوَجْهٍ وَإِنَّمَا فِيهِ النَّسْخُ لَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (لِمَا بَيَّنَّاهُ) . وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَهِيَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، وَالْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الْخَصْمِ تَارِيخُ الْحُكْمِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَوْ قَبْلَهَا وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَالْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَهُوَ الْآيَةُ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ فَهُوَ مَتْرُوكٌ بِالْآيَةِ (إذْ لَمْ) يَثْبُتْ أَنَّهُ نَاسِخٌ لَهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَجُوزُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَارِدٌ مَعَ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ نَاسِخًا (لَهَا) قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِحُكْمِ الْآيَةِ مِنْ الزِّيَادَةِ إلَّا بِمَا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ النَّسْخُ لِأَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُهُ فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَيْهَا لِمَا بَيَّنَّا. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَارِدًا مَعَ الْآيَةِ لَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانَهُ وَذَكَرَهُ عَقِيبَ الْآيَةِ، وَلَكَانَ يَكُونُ فِيهِ عُمُومُ لَفْظٍ يُوجِبُ إلْحَاقَهُ بِالْآيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ قَضِيَّةً مِنْهُ فَلَوْ كَانَ مُرَادًا مَعَ الْآيَةِ لَمَا أَخَّرَ بَيَانَهُ إلَى أَنْ يُخْتَصَمَ إلَيْهِ فَيَقْضِيَ. فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُقَرٌّ عَلَى مَا وَرَدَ وَأَنَّ خَبَرَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إنْ كَانَ (مَعْنَاهُ) مَا ادَّعَاهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْآيَةِ أَوْ بَعْدَهَا. فَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِهَا. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي خَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ حِكَايَةُ فِعْلٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَضِيَّةٍ مَجْهُولَةٍ لَا نَدْرِي كَيْفَ كَانَتْ وَمِثْلُهَا لَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَقَعُ بِمِثْلِهِ لِأَنَّ الْبَيَانَ إنَّمَا يَقَعُ بِلَفْظٍ مَعْلُومِ الْمَعْنَى ظَاهِرِ الْمُرَادِ وَلَا يَجُوزُ (أَنْ يَكُونَ) مُوَكَّلًا إلَى قَضِيَّةٍ إذَا نُقِلَتْ عَنْهُ كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَهُمْ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: (أَنَّهُ يَكُونُ) زِيَادَةً فِي حُكْمِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَعَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (النَّاسَ) إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (لَمْ) يَقْتَصِرْ بِحُكْمِ الْبَيَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ دُونَ مَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ وَإِثْبَاتِ حُكْمِهِ مَعَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْآيَةِ أَوْ بَعْدَهَا. فَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَهُوَ نَاسِخٌ لَهَا وَنَسْخُ الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ جَائِزٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وَعَلَى أَنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ بِزِيَادَةٍ فَهُوَ نَسْخٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَلْزَمُنَا عِنْدَ وُرُودِ الْآيَةِ اعْتِقَادُ وُجُوبِ الْحُكْمِ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِيهَا أَوْ امْتِنَاعُ جَوَازِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا إشْكَالَ عَلَى أَيِّ عَقْلٍ سَمِعَ الْآيَةَ (إلَّا وَ) إنَّهَا تَمْنَعُ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ (وَاحِدٍ) وَبِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَتَى وَرَدَ خَبَرٌ أَجَازَ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَدْ دَفَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي لَزِمَ (مَعَ وُرُودِ) الْآيَةِ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ نَسْخًا لِأَنَّ الْعُمُومَ قَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ لُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ وَوُرُودُهُ مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ يَرْفَعُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ. وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَك تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ فَلَزِمَك عَلَى هَذَا تَجْوِيزُ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ. قِيلَ لَهُ: مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ دَلَالَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ فَلَمْ يَلْزَمْنَا مَعَ وُجُودِ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ (اعْتِقَادُ الْعُمُومِ قَطُّ وَتَكُونُ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ) بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَلِّي أَحَدًا مَحْجُوجًا بِحُكْمِ آيَةٍ ظَاهِرُهَا ظَاهِرُ الْعُمُومِ وَمُرَادُهُ الْخُصُوصُ مِنْ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْخُصُوصِ عَقِيبَ كَوْنِهِ مَحْجُوجًا بِالْعُمُومِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ بَيَانُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْزَمَهُ اعْتِقَادَ الْعُمُومِ فِيمَا أَرَادَ بِهِ الْخُصُوصَ فَكَأَنَّهُ أَمَرَ بِاعْتِقَادِ خِلَافِ مَا أَرَادَ وَمَا هُوَ حُكْمُهُ جَلَّ (وَعَزَّ) (عَنْ) ذَلِكَ وَتَعَالَى. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ مُقْتَرِنَةً بِلَفْظِ الْعُمُومِ كَاقْتِرَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ وَرَدَتْ فِي صِيَامِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ شَرْطُ التَّتَابُعِ (وَ) وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لِمَا رُوِيَ (أَنَّهُ) فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] مُتَتَابِعَاتٍ فَمَنَعْت بِهِ إطْلَاقَ مَا فِي الْآيَةِ وَهَذَا (يَجْرِي عِنْدَك) مَجْرَى النَّسْخِ وَمَا عَدَّ مُخَالِفُك فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالنَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ مَا أَجَزْتَهُ فِي ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَكُنْ حَرْفُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَهُمْ وَارِدًا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِحَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا يَقْرَءُونَ بِحَرْفِ زَيْدٍ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يُعَلِّمُونَا وَنَحْنُ فِي الْكُتَّابِ حَرْفَ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا يُعَلِّمُونَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 حَرْفَ (زَيْدٍ) . وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُصَلِّي بِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَيَقْرَأُ لَيْلَةً بِحَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَيْلَةً بِحَرْفِ زَيْدٍ فَإِنَّمَا أَثْبَتُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِحَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ لِاسْتِفَاضَتِهِ وَشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا نُقِلَ إلَيْنَا الْآنَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لِأَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ (بِهِ) وَاقْتَصَرُوا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا عَلَى أُصُولِ الْقَوْمِ وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا مِقْدَارَ مَا يُوقَفُ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمُومِ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ وَجْهَ قَبُولِنَا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ الَّذِي ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ الْآنَ سَائِرَ الْوُجُوهِ الَّتِي جَوَّزْنَا تَخْصِيصَهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فَنَقُولُ: إنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي فَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الِاحْتِمَالَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِالْمُرَادِ وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ فَاحْتَجْنَا إنْ نَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَيُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهَا وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فِيهِ احْتِمَالٌ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَكَانَ مَقْبُولًا لِأَنَّهُ بَيَّنَ مُرَادَ الْآيَةِ (الْمُفْتَقِرَةِ إلَى) الْبَيَانِ وَبِمِثْلِ هَذَا قَبِلْنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْبَيَانِ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَاهُ وَسَوَّغُوا الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَتَرْكَ الظَّاهِرِ بِالِاجْتِهَادِ فَإِنَّا قَبِلْنَا فِيهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَسَوَّغْنَا الْقِيَاسَ أَيْضًا فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ السَّلَفَ لَمَّا كَانُوا الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَلَا يَسُوغُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ مِمَّا هُوَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ وَيَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ بِمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لَفْظٍ ظَاهِرُهُ يَتَنَاوَلُ فِي اللُّغَةِ مَعْنًى مَعْقُولًا فَعَدَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ظَاهِرِهِ (ثُمَّ عَلِمَ) بِهِ الْآخَرُونَ فَلَمْ (يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ) دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْقِيفٌ لَهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِهِ إمَّا بِقَوْلٍ مِنْهُ وَإِمَّا بِحَالٍ شَاهِدُوهَا اسْتَجَازُوا بِهَا الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَتَرْكَ الظَّاهِرِ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] وَحَقِيقَةُ الْمُلَامَسَةِ (هِيَ) عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْبَدَنِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ. ثُمَّ وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ هُوَ عَلَى الْجِمَاعِ وَقَالَ (عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ وَلَمْ يُنْكِرَا عَلَى مَنْ قَالَ هُوَ (عَلَى) الْجِمَاعِ عُدُولَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَصَرِيحِهِ إلَى الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَسَوَّغُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ فَصَارَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْمُرَادِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ ثُمَّ رَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ» جَازَ الْحُكْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَبُولِهِ دَفْعٌ لِمَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] حَقِيقَتُهُ عَلَى (أَنَّ) اللَّمْسَ بِالْيَدِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِهِ. فَقَالَ (عَلِيٌّ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) فِي عَامَّةِ الصَّحَابَةِ إنَّ الْمُرَادَ الْخَلْوَةُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ (ابْنُ مَسْعُودٍ) وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (إنَّ) الْمُرَادَ الْجِمَاعُ فَسَوَّغَ الْجَمِيعُ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ الْمَعْنَى فَجَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ» فَجَازَ إثْبَاتُ الْمُرَادِ بِمِثْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وَيَجُوزُ أَيْضًا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْمُرَادِ فِي مِثْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ صَارَ مُسْتَدْرَكًا كُلُّهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَسَاغَ (قَبُولُ) خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي إدْرَاكِ مَعْنَاهُ. وَمِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا ظَاهِرُ الْكِتَابِ خَبَرُ الْقَسَامَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَقَالَ اللَّهُ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَلَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ الْإِجْمَاعُ وَاقِعٌ (فِي) أَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْغَيْرِ بِحَقٍّ لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ وَثُبُوتَهُ فَكَيْفَ بِمَنْ يَشْهَدُ بِمَا هُوَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ وَلَمْ يَشْهَدْهُ ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَيْهِ. وَنَحْوُ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ إذَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 كَانَ (خِلَافَ) ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَاةً بِصَاعِ تَمْرٍ فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً أَنْ يَرُدَّهَا وَيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حِصَّةَ اللَّبَنِ أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وَمِنْهُ حَدِيثُ الْقُرْعَةِ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ فِيهِ خِلَافُ الْكِتَابِ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ مُخَالِفُونَا مِنْ الْمَيْسِرِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِآخَرَ قَارَعْتُك عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ فَهُوَ عَبْدٌ أَوْ فَلَهُ كَذَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ كَانَ (مَالِكًا لِجَمِيعِ) مَالِهِ فِي الْمَرَضِ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إلَى أَنْ يَرِدَ الْمَوْتُ فَثَبَتَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الثُّلُثَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِي الثُّلُثِ لَا فِي (حَالِ) الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا أَعْتَقَهُمْ فِي الْمَرَضِ، فَلَمَّا أَعْتَقَهُمْ وَلَا مَالَ لَهُ (غَيْرُهُمْ) نَفَذَ عِتْقُهُ فِي ثُلُثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ (لَا مَحَالَةَ إذْ) لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَإِذَا أَخْرَجْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ الْعِتْقِ رَأْسًا وَجَعَلْنَاهَا لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا كُلَّهَا بَدْءًا بِالْقُرْعَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ تَقَارَعَا وَهُمَا حُرَّانِ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ مِنْهُمَا فَهُوَ عَبْدٌ، وَهَذَا أَفْحَشُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ اللَّذَيْنِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَعْمِلُونَهَا فَلِذَلِكَ صَارَ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا رَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» وَهَذَا إنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إجْرَاؤُهُ عَلَى مَعْنًى يُخَالِفُ الْقُرْآنَ عِنْدَ الْجَمِيعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَنَظِيرُهُ: مَا رَوَى فُضَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنًا وَلَا وَلَدُهُ» وَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَفْرَادِ مِمَّا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ فَأَمَّا مَتَى أَمْكَنَّا اسْتِعْمَالُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ اسْتَعْمَلْنَاهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَلَمْ نُلْغِهَا، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . إنْ مَعْنَاهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِيَهُودِيٍّ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ إنَّهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ» وَخَبَرُ الْمُصَرَّاةِ وَخَبَرُ الْقُرْعَةِ جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَانِ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُخَالِفُ بِهِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي وَلَدِ الزِّنَا أَنَّهُ شَرُّ الثَّلَاثَةِ وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ (وَلَا وَلَدُهُ) فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ أَشَارَ (بِهِ) إلَى أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَحَكَمَ فِيهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ لِعِلْمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَحْوَالِهِمْ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا ذَلِكَ وَقَدْ رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي (هُوَ أَهْنَا وَاَلَّذِي هُوَ أَنْقَى) . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ " إذَا حَدَّثْتُكُمْ بِحَدِيثِ أَتَيْتُكُمْ بِمِصْدَاقِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْخَبَرِ الْمُخَالِفِ فِي ظَاهِرِهِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 [بَاب الْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (كُلُّ مَا) لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. فَمَا لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ فَبِالْقِيَاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يُخَصَّ وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا. قَالَ مُحَمَّدُ (بْنُ الْحَسَنِ) فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَذَكَرَ قَوْلَ عَطَاءٍ فِي الْمُحْصَرِ إذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا أَنَّهُ يَصُومُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَيَحِلُّ قِيَاسًا عَلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ فِي قِيَامِ (صَوْمِ) عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يُجْزِيهِ غَيْرُ الْهَدْيِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ صَوْمًا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنَحْنُ نُبْهِمُ مَا أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّوْمَ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلَا يَسْتَقِيمُ الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ فِي التَّنْزِيلِ، إنَّمَا يُقَاسُ عَلَى التَّنْزِيلِ فَأَمَّا التَّنْزِيلُ بِعَيْنِهِ فَلَا يُقَاسُ. قَاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْأُمَّ عَلَى الْبِنْتِ فِي الدُّخُولِ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ عُمَرُ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: (قَدْ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] مُبْهَمَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى ". فَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا (الْفَصْلِ) مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنْصُوصَاتِ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقَدْ دَلَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّ بِقِيَاسٍ فَلَا بُدَّ (مِنْ) أَنْ يَكُونَ قِيَاسُهُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَقَدْ مَنَعَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ. فَالْأَصْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ وَجْهٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ إلَّا بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ فَعُمُومُ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْقِيَاسِ إذْ لَا يَقْضِي بِنَا الْقِيَاسُ إلَى الْعِلْمِ (بِحَقِيقَةِ مَا يُؤَدِّينَا) إلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ خُصُوصُ اللَّفْظِ بِالِاتِّفَاقِ جَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْضَ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ حَصَلَ اللَّفْظُ مَجَازًا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي تَرْكِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَصَارَ حُكْمُ الْعُمُومِ فِي هَذَا ثَابِتًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَجَازَ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي تَخْصِيصِهِ بِخُرُوجِ لَفْظِ الْعُمُومِ مِنْ إيجَابِ الْعِلْمِ بِمَا انْطَوَى تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ، لِأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ وَحَقِيقَةِ الْعِلْمِ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ جَازَ تَخْصِيصُهُ بِمَا كَانَ طَرِيقُهُ غَالِبَ الظَّنِّ مِنْ خَبَرِ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسٍ. وَأَمَّا مَا كَانَ وُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ فَإِنْ تَخْصِيصَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا بِالْقِيَاسِ مِنْ قِبَلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أَنَّ طَرِيقَ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ اجْتِهَادٌ لَا يُفْضِي بِنَا إلَى حَقِيقَةِ عِلْمٍ وَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي تَخْصِيصِهِ كَمَا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهِ رَأْسًا. أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْأَصْلِ اجْتِهَادًا عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي وَأَنَّهُ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ فِي تَخْصِيصِهِ أَوْلَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلَّا خَصَصْت عُمُومَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ بِالْقِيَاسِ إذْ كَانَ حُكْمُ الْعُمُومِ لَازِمًا وَالْقَوْلُ بِالِاعْتِبَارِ وَاجِبًا أَيْضًا فَهَلَّا اسْتَعْمَلْتَهُمَا جَمِيعًا وَلَمْ تُسْقِطْ أَحَدَهُمَا بِالْآخِرِ كَالْآيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا خَاصَّةٌ وَالْأُخْرَى عَامَّةٌ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِيمَا يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَإِنَّهُ عَمَلٌ بِغَالِبِ الظَّنِّ لَا يُفْضِي بِنَا إلَى حَقِيقَةٍ لِأَنَّا نُجَوِّزُ الْخَطَأَ عَلَى أَنْفُسِنَا فِيمَا طَرِيقُهُ الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُفِيدُنَا الْعِلْمَ بِمُوجِبِهِ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَأَمَّا الْآيَتَانِ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا خَاصَّةً فَإِنَّ لَنَا شَرَائِطَ فِي اسْتِعْمَالِ حُكْمِهَا لَيْسَ هَذَا مَوْضُوعَ ذِكْرِهَا. وَمَتَى جَمَعْنَا بَيْنَ حُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا فَإِنَّمَا خَصَّصْنَا إحْدَاهُمَا بِمِثْلِهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُقْتَضَاهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْعُمُومِ مِنْ الِاعْتِبَارِ فَلِمَ جَعَلْت اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ. فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قِيلَ لَهُ: وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلِمَ جَعَلْت الْقِيَاسَ أَوْلَى مِنْهُ مَعَ شُمُولِ اللَّفْظِ؟ . وَأَيْضًا: فَإِنَّ الَّذِي أَمَرَنَا بِالِاعْتِبَارِ هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِالْعُمُومِ فَلِمَ جَعَلْت الِاعْتِبَارَ أَوْلَى مِنْ حُكْمِ الْعُمُومِ؟ . فَإِنْ قَالَ: اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ مَعَ الْعُمُومِ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْقِيَاسِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُك اسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ الْمُوجِبِ لِتَخْصِيصِهِ وَلَسْت تَنْفَكُّ مَعَهُ مِنْ تَرْكِ الْعُمُومِ. فَإِنْ قَالَ: لِأَنِّي أَسْتَعْمِلُ بَعْضَ مَا شَمَلَهُ اللَّفْظُ مَعَ الْقِيَاسِ. قِيلَ لَهُ: فَقَدْ تَرَكْت بَعْضَهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فِيمَا تَرَكْت مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ لَا فِيمَا اسْتَعْمَلْت لِأَنَّ اسْتِعْمَالَك لِمَا اسْتَعْمَلْته مِنْهُ غَيْرُ مُخْرِجِك (مِنْ تَرْكِ مَا) تَرَكْتَهُ مِنْهُ وَعَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِعِلْمِنَا مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ بِامْتِنَاعِ (جَوَازِ) اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَصَارَ مَجْرَاهُ مَجْرَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِمَا نَحْوُ قَوْلِهِ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» وقَوْله تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي صِفَةِ الْمُجْمَلِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي مَوْضِعٍ يُخَالِفُك فِيهِ خَصْمُك. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْعُمُومِ آكَدُ مِنْ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا بُدَّ مِنْ (أَنْ) يَنُصَّ لُزُومُ اسْتِعْمَالِهِ إمَّا فِي الْجَمِيعِ وَإِمَّا فِي الْبَعْضِ، وَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ جَائِزًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لِأَنَّ مِنْ الْأُصُولِ مَا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْعُمُومِ لَا يُسْتَعْمَلُ حُكْمُهُ بِحَالٍ فَصَارَ حُكْمُ الْعُمُومِ آكَدَ مِنْ حُكْمِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ بِهِ. وَعَلَى أَنَّ مُخَالِفَنَا فِي ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ تَرْكِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عِنْدَهُ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَلِ جَرْيُهَا فِي مَعْلُولِهَا وَأَنْ لَا يَرُدَّهَا أَصْلٌ، وَالْعُمُومُ أَصْلٌ يَرُدُّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ وَتَرْكَ الْعُمُومِ بِهَا، فَهَلَّا كَانَ الْقِيَاسُ مُمْتَنِعًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاعْتِرَاضِ هَذَا الْأَصْلِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ أَوْلَى مِنْهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعُمُومَ يَحْصُلُ مُخَصِّصًا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ (لِلَّهِ تَعَالَى) عَلَى وُجُوبِ تَخْصِيصِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ الْعِلَّةُ بِقَوْلِهِ هَذِهِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ دُونَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا دَلِيلًا مِنْ غَيْرِهَا، وَجَرْيُهَا فِي مَعْلُولِهَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى صِحَّتِهَا لِأَنَّهُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ أَيْضًا فَجَعَلَ دَلِيلَهُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ دَعْوَى أُخْرَى أَضَافَهَا إلَيْهِ وَمِنْ شَرْطِهَا (أَيْضًا عِنْدَهُ) أَنْ لَا يَرُدَّهَا أَصْلٌ فَلَمْ يَعْتَبِرْ فَسَادَهَا بِرَدِّ الْعُمُومِ إيَّاهَا وَهُوَ أَصْلٌ فَحَصَلَ الْعُمُومُ إذَا خُصَّ بِالْقِيَاسِ مَخْصُوصًا بِقَوْلِهِ لَا بِدَلِيلٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خُصُوصِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ اسْتَعْمَلَتْ الْأُمَّةُ الْقِيَاسَ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] إلَى قَوْلِهِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَجَعَلَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مِيرَاثَ الْوَلَدِ وَسَائِرِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مِيرَاثَ الْوَلَدِ بَدْءًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِهِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] لِأَنَّهُ قَالَ: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] يَعْنِي الْبِنْتَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] فَسِيَاقُهُ الْخِطَابُ بَعْدُ فِي حُكْمِ الْوَلَدِ وَالْأَبَوَيْنِ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ الْأَبَوَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَقَالَ {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} [النساء: 11] فَلَمْ يَنْقَضِ ذِكْرُ الْوَلَدِ حَتَّى شَرَطَ تَقْدِيمَ الدَّيْنِ عَلَى الْمِيرَاثِ ثُمَّ ذَكَرَ مِيرَاثَ الزَّوْجَيْنِ وَعَقَّبَهُ بِذِكْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَحَكَمَ فِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَيْنَ مَوْضِعُ الْقِيَاسِ فِي تَقْدِيمِ الدَّيْنِ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ مَعَ سَائِرِ الْمَوَارِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؟ . وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا وَمَا حَصَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ فَاعْتِبَارُ الْقِيَاسِ فِيهِ خَطَأٌ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ. قِيلَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَعَلَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ إنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِيفٍ أَوْ قَدْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ تَارَةً عَنْ تَوْقِيفٍ وَتَارَةً عَنْ رَأْيٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فَإِنْ قَالَ: لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي ذَلِكَ لَجَازَ فِي كُلِّ إجْمَاعٍ. قِيلَ لَهُ: (كُلُّ مَا أَجْمَعَ) عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّ إجْمَاعَهُمْ حَصَلَ عَنْ تَوْقِيفٍ مَا لَمْ يُخْبِرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى رَأْيٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ خَاصَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا تَخْصِيصُ مَا هَذَا سَبِيلُهُ مِنْ الظَّاهِرِ بِالْقِيَاسِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ الْوَاقِعَ عَنْ رَأْيٍ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الرَّأْيِ لَوْ انْفَرَدَ، لِأَنَّ الرَّأْيَ إذَا انْفَرَدَ عَنْ الْإِجْمَاعِ سَاغَ تَرْكُهُ بِرَأْيٍ مِثْلِهِ، وَمَتَى انْضَافَ إلَيْهِ الْإِجْمَاعُ سَقَطَ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي خِلَافِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِقِيَاسٍ يُسَاعِدُهُ الْإِجْمَاعُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِهِ (بِقِيَاسٍ) مُفْرَدٍ عَنْ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: الْعُمُومُ ظَاهِرٌ وَالْقِيَاسُ بَاطِنٌ وَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ الْبَاطِنُ قَاضِيًا عَلَى الظَّاهِرِ كَرَجُلَيْنِ شَهِدَا بِعَدَالَةِ رَجُلٍ وَآخَرَانِ بِجَرْحِهِ فَيَكُونُ شَهَادَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَخْبَرَا عَنْ بَاطِنٍ. وَهَذَا كَلَامٌ فَارِغٌ لَيْسَ تَحْتَهُ مَعْنًى وَتَشْبِيهٌ بَعِيدٌ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ إلَّا غِرٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ إنَّمَا سَمَّى مُوجِبَ الْقِيَاسِ بَاطِنًا لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَسَمَّى الْعُمُومَ ظَاهِرًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَذْكُورٌ (بِاسْمِهِ) فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ فِي هَذَا تَجْوِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ فِي زَعْمِهِ، وَالْمَذْكُورُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرُ وَيَجِبُ عَلَى قَضِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسَاتِ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَاطِنًا لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِنَظَرٍ (لَا يَجُوزُ) قِيَامُ دَلِيلٍ عَلَى نَفْيِ الْمَحْسُوسِ لِأَنَّ هَذَا بَاطِنٌ، وَالْمَحْسُوسُ ظَاهِرٌ. فَإِنْ قَالَ: مَا يَقْضِي عَلَى الْحِسِّ لَا يَكُونُ دَلِيلًا لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِصِحَّتِهِ وَبَيَانِهِ. قِيلَ لَهُ: وَمَا يَقْضِي عَلَى الْعُمُومِ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا لِأَنَّ دَلَائِلَ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّمْعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ قَاضِيًا عَلَى الْأَصْلِ. فَإِنْ قَالَ: لِأَنِّي أَقِيسُهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. قِيلَ لَهُ: كَيْفَ صَارَ قِيَاسُهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ فَرْعٌ لَهُ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ أَصْلٍ آخَرَ غَيْرِهِ، وَهَلْ يُخْرِجُك هَذَا مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ جَعَلْت الْفَرْعَ آكَدَ مِنْ الْأَصْلِ وَجَعَلْت الْمُسْتَنْبَطَ أَوْلَى مِنْ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَ مِنْ (أَمْرِ) الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فَإِنَّ شَاهِدَيْ الْجَرْحِ قَدْ ذَكَرَا الْجَرْحَ وَنَصَّا عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ شَاهِدَا التَّعْدِيلِ وَنَصَّا عَلَيْهِ وَأَيُّ بَاطِنٍ هَاهُنَا. وَإِنَّمَا قَضَيْت بِأَحَدِ الْمَسْمُوعِينَ عَلَى الْآخَرِ. فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِالْجَرْحِ يُخْبِرُ عَنْ بَاطِنٍ عَلِمَهُ وَالْمُخْبِرُ بِالتَّعْدِيلِ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرٍ يَجُوزُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ بِخِلَافِهِ. قِيلَ لَهُ: وَكَذَا فَقُلْ فِي الْعُمُومِ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِلَفْظِ عُمُومٍ يَكُونُ بَاطِنُهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ كَمَا قُلْت فِي الْمُخْبِرِ (عَنْ الْعَدَالَةِ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ لَزِمَهُ أَنْ يُجَوِّزَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ أَمَرَ بِهِ) إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ قِيَاسٌ وَلَا لَفْظٌ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ خِلَافَ ظَاهِرِهِ كَمَا جَازَ أَنْ يُخْبِرَ شَاهِدَا التَّعْدِيلِ عَنْ عَدَالَةٍ ظَاهِرَةٍ بَاطِنُهَا خِلَافُ ظَاهِرِهَا. فَإِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ انْسَلَخَ عَنْ الْمِلَّةِ وَوَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَصِفُهُ بِهِ مُسْلِمٌ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنَّ الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَمْرِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ شَاهِدٌ لَنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا لَوْ جَعَلْنَاهُ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا كَانَ أَوْلَى، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْعَدَالَةِ لَمَّا كَانَ مَرْجِعُهُ إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ وَلَا حَقِيقَةِ عِلْمٍ بِحَالِهِ وَكَانَ الْإِخْبَارُ بِالْجَرْحِ إنَّمَا (هُوَ) إخْبَارٌ عَنْ حَقِيقَةٍ مُشَاهَدَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْفِسْقِ كَانَ الْجَرْحُ أَوْلَى مِنْ التَّعْدِيلِ. كَذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. فَإِنْ قَالَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. قِيلَ لَهُ: هَذَا صَحِيحٌ، عَلَى مَا أَصَّلْنَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ لَمَّا كَانَ مُفْضِيًا بِنَا إلَى الْعِلْمِ (بِصِحَّةِ مَا أَدَّانَا إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ وَكَانَ الْحُكْمُ) بِمُوجَبِ الْعُمُومِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ إذَا أَطْلَقَ كَانَ الْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ قَاضِيًا عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِمُوجِبَاتِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَالْعُمُومُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجِبَاتِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ إذْ جَائِزٌ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ وَغَالِبُ ظَنٍّ لَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ، وَقَدْ يُوجِبُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِيهِ التَّخْصِيصَ وَكَانَ الْحُكْمُ بِالْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِقِيَاسٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ أُصُولِ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْبَابِ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهَا. فَإِنْ قَالَ: لَيْسَ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ فِي الشَّرِيعَةِ مَقْصُورًا عَلَى مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ فِيمَا يُؤَدِّي بِنَا إلَيْهِ يَكُونُ مُطَّرَحًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّ الْقِيَاسَ مُطَّرَحٌ فِي الْأَصْلِ وَلَا أَنَّ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ غَيْرُ مَحْكُومٍ (بِهِ) وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعُمُومِ بِهِ لِأَنَّ الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْهُ وَلَمْ أَذْكُرْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ لِشُبْهَةٍ مِنْهَا عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ وَلَكِنِّي خَشِيت أَنْ تَمُرَّ بِبَعْضِ الْمُبْتَدَئِينَ مِنْ كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ يَظُنُّهَا شُبْهَةً فَكَشَفْنَا عَنْ حَقِيقَتِهَا وَأَنْبَأْنَا عَنْ فَسَادِهَا لِيُعْتَبَرَ بِهِ سَائِرُ حِجَاجِهِمْ وَيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَذْكُرُونَهُ كَلَامٌ مَارِقٌ يَجْرِي مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِ تَحْصِيلٍ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى إفْسَادِهِ إلَى أَكْبَرِ مِنْ الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ. . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ رَقَبَةِ الظِّهَارِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمُ الْكَلَامِ وَحُكْمُ اللَّفْظِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَهُ قِيَاسًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا عِنْدَنَا فَاسِدَانِ لَا يَخِيلُ وَجْهُ الْفَسَادِ فِيهِمَا عَلَى مُتَأَمِّلٍ نَصَحَ نَفْسَهُ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَفَسَادُهُ وَسُقُوطُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ عَاقِلٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَائِلَهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى لُغَةٍ وَلَا شَرِيعَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا ذَكَرَ شَيْئًا عُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ وَعُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْآخَرِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرُوضُ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى كُلُّهَا شُرُوطًا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ مُرَتَّبًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذِكْرَ الْكَفَّارَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَبَيْنَ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ فَتَصِيرُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا فَرْضٌ وَاحِدٌ مُتَعَلِّقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي فَرْضٍ وَاحِدٍ إذَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ مُقَيَّدٍ ثُمَّ ذُكِرَ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَيَّدِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْت فِي الْفَرْضِ الْوَاحِدِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ فَلِمَ قُلْت إنَّ الْفَرْضَيْنِ إذَا ذُكِرَ أَحَدُهُمَا مُقَيَّدًا بِحُكْمٍ وَالْآخَرُ مُطْلَقًا أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَإِنَّمَا كَلَامُنَا مَعَك فِي فَرْضَيْنِ وَكَفَّارَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ الْأُخْرَى بِهِ. وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ وَهَلْ (يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ) كَفَّارَةَ الْقَتْلِ فَرْضٌ غَيْرُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَأَنَّ (كُلَّ) وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ الْأُخْرَى بِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّهُمَا قَدْ جَمَعَهُمَا اسْمُ الْكَفَّارَةِ فَكَانَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ أَحَدِهِمَا شَرْطًا فِي الْأُخْرَى. قِيلَ لَهُ: فَإِذَا جَمَعَهُمَا اسْمُ الْكَفَّارَةِ وَجَبَ عِنْدَك حَمْلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى قِيَاسًا أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِيهِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: وَعَنْ مَنْ حَكَيْت هَذَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ إذَا جَمَعَهُمَا اسْمُ الْكَفَّارَةِ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مَحْمُولَةً عَلَى الْأُخْرَى فِي الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ لِإِحْدَاهُمَا. وَلَوْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا شُرِطَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَشْرُوطًا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَكُلُّ مَا شُرِطَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَشْرُوطًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا شُرِطَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعًا إلَى هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَك مِنْ حَيْثُ جَمَعَهُمَا (اسْمُ الْكَفَّارَةِ) كَالْمَعْطُوفِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَالصِّفَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي بَعْضِهِ مَشْرُوطَةٌ فِي جَمِيعِهِ فَيَكُونُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا مَشْرُوطًا فِي الْقَتْلِ وَمَشْرُوطًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فِي الْيَمِينِ وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَ (فِي) كُلِّ كَفَّارَةٍ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قَالَ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي الْبَعْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ الْجَمِيعُ كَأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَصِيرُ تَقْدِيرُهَا {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] أَوْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَيَصِيرُ قَوْلُهُ فِي الظِّهَارِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ فِي الْقَتْلِ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الظِّهَارِ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الظِّهَارِ فَمَشْرُوطٌ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمَا ذُكِرَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَمَشْرُوطٌ فِي الظِّهَارِ. فَإِنْ اجْمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي كَفَّارَةٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَك قَدْ وَرَدَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا بَعْضُهَا مَنْسُوخٌ بِبَعْضٍ وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَهَذَيَانٌ لَيْسَ يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَى عَاقِلٍ. وَيُقَالُ لَهُ: هَلَّا دَلَّك حُصُولُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ شَرَائِطَ كُلِّ كَفَّارَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ فِي الْأُخْرَى أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ شَرْطًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَإِذَا لَمْ تَلْجَأْ فِيمَا ادَّعَيْتَ مِنْ ذَلِكَ إلَى لُغَةٍ وَلَا دَلَالَةٍ مِنْ شَرْعٍ وَلَا إجْمَاعٍ بَلْ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتَ بِذَلِكَ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَانْحِلَالِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى بِأَصْلِ الْمُخَالِفِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهَا الْإِيمَانُ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَإِذَا خَصَّ رَقَبَةَ الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ تَخْصِيصُهُ (لَهَا) بِذَلِكَ عَلَى (أَنَّ) مَا عَدَاهُمَا فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: بِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَبِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى {عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] (وَالْمَعْنَى وَالْحَافِظَاتِ فُرُوجَهُنَّ وَالذَّاكِرَاتِ اللَّهَ، وَعَنْ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) . فَيُقَالُ لَهُ: وَلِمَ أَوْجَبْت أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا فِي الثَّانِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْكَفَّارَاتِ. أَقُلْتَهُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ. وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ مَتَى طُولِبَ بِالدَّلَالَةِ (عَلَيْهِ) مِنْ لُغَةٍ أَوْ شَرْعٍ وَإِنَّمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إضْمَارٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا يُسْتَعْمَلُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى ضَمِيرٍ فِي إثْبَاتِ فَائِدَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الضَّمِيرِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا إذْ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ " وَالْحَافِظَاتُ وَالذَّاكِرَاتُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَمَّا افْتَقَرَ إلَى ضَمِيرٍ وَخَبَرٍ كَانَ ضَمِيرُهُ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا (فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ) ، وَهَذَا مَعْقُولٌ مِنْ اللُّغَةِ وَخِطَابِ النَّاسِ لَا يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ اسْتَأْنَفَ (لِلثَّانِي) خَبَرًا لَمَا كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ وَالْحَافِظَاتُ أَمْوَالَهُنَّ لَمَا كَانَ الْفُرُوجُ الْمَذْكُورَةُ بَدْءًا فِي ذِكْرِ الْأَزْوَاجِ مُضْمَرَةً فِيهِنَّ وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَالذَّاكِرَاتُ آبَاءَهُنَّ أَوْ أَبْنَاءَهُنَّ لَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى مُضْمَرًا لَهُنَّ، هَذَا مَعَ كَوْنِ بَعْضِهِ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ مُضْمَرًا فِيهِ وَهِيَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى وَحُكْمٌ آخَرُ وَارِدٌ فِي سَبَبٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] لَوْ انْفَرَدَ (قَوْلُهُ) عَنْ الْيَمِينِ عَنْ ضَمِيرٍ لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ (فِيهِ) فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا تَأَخَّرَ ذِكْرُهُ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنِّي أَجْعَلُ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ قِيَاسًا عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ وَأَخُصُّ (بِهِ) رَقَبَةَ الظِّهَارِ. فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا وَفِي أَمْثَالِهِ مِنْ نَحْوِ شَرْطِ (النِّيَّةِ) بِالْمَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ إثْبَاتِ زِيَادَةٍ لَا يُنَبِّئُ عَنْهَا اللَّفْظُ وَلَا يَنْتَظِمُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ وَكَذَا كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ، وَ (فِي) نَظَائِرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمَنْصُوصَاتِ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ عَلَى مَا قَدْ حَكَيْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يُفِيدُ جَوَازَ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَمَتَى شَرَطْنَاهُ فِيهَا فَقَدْ حَظَرْنَا مَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ مِنْ جَوَازِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ (وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ مِثْلِهِ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ) . فَإِنْ قَالَ (قَائِلٌ) : لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ نَسْخَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ كُلِّ فَرْضٍ يُوجِبُ نَسْخَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُرُوضِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ قَبْلَ حُدُوثِهِ أَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَدَثَ فَرْضٌ آخَرُ فَقَدْ زَالَ الِاعْتِقَادُ الْأَوَّلُ. قِيلَ لَهُ: لَوْ فَهِمْت عَنَّا مَا ذَكَرْنَاهُ لَكَفَيْتَ نَفْسَك هَذَا السُّؤَالَ. وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا إنَّ وُرُودَ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ (ذِكْرِ) الزِّيَادَةِ يُوجِبُ جَوَازَهُ عَنْ الْوَاجِبِ وَوُرُودُ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَوَّلِ وَكَوْنَهُ فَرْضًا (وَهَذَا نَسْخٌ) وَلَيْسَ وُرُودُ فَرْضٍ ثَانٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْأَوَّلِ بِمُؤَثِّرٍ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُبْقًى فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُهُ بِفِعْلِ الثَّانِي. أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَتَرْكُ الزَّكَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَوَازِ فِعْلِ الصِّيَامِ فَلَمْ يَكُنْ وُرُودُ بَعْضِ هَذِهِ الْفُرُوضِ بَعْدَ الْأَوَّلِ مُغَيِّرًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ وَكَوْنُ الْإِيمَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 شَرْطًا فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِهَا مُطْلَقَةً عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ، فَلِذَلِكَ كَانَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِيهَا مُوجِبًا لِنَسْخِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَهُ لَوْ وَرَدَ نَصًّا كَانَ نَسْخًا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اعْتِقُوا رَقَبَةً فِي الظِّهَارِ إنْ شِئْتُمْ كَافِرَةً (وَإِنْ شِئْتُمْ) مُؤْمِنَةً ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَعْتِقُوا فِيهِ رَقَبَةً كَافِرَةً كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا. وَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا كَانَ نَسْخًا. وَأَمَّا قَوْلُك إنَّ وُرُودَ فَرْضٍ ثَانٍ يُغَيِّرُ حُكْمَ الِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْأَوَّلَ حُكْمُهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وُرُودُ فَرْضٍ ثَانٍ لَزِمَهُ اعْتِقَادٌ ثَانٍ مِنْ (غَيْرِ تَأْثِيرٍ مِنْهُ) فِي اعْتِقَادِ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ كُنَّا نَعْتَقِدُ قَبْلَ وُرُودِ الْفَرْضِ الثَّانِي أَنْ لَا فَرْضَ إلَّا الْأَوَّلُ وَلَزِمَ بَعْدَ وُرُودِ الْفَرْضِ الثَّانِي أَنْ يُنَزَّلَ الِاعْتِقَادُ بِأَنْ لَا فَرْضَ غَيْرُهُ. قِيلَ لَهُ: اعْتِقَادُنَا بِأَنْ لَا فَرْضَ إلَّا الْأَوَّلُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْفَرْضِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ رَأْسًا لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا فَرْضَ فَلَيْسَ اعْتِقَادُنَا أَنْ لَا فَرْضَ مُتَعَلِّقًا بِفَرْضٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ وُرُودَ فَرْضٍ ثَانٍ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الْأَوَّلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَنْ تَجْعَلَ رَقَبَةَ الظِّهَارِ مَنْسُوخَةً بِامْتِنَاعِك عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 تَجْوِيزِهَا عَمْيَاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَهَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْت. قِيلَ لَهُ: لَا يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْت لِأَنَّ الرَّقَبَةَ اسْمٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَعْضَائِهَا فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ رَقَبَةً تَامَّةً وَإِنَّمَا شَرَطْنَا ذَلِكَ فِيهَا بِمَا يَقْتَضِيهِ (مُوجِبُ اللَّفْظِ وَلَيْسَتْ الرَّقَبَةُ اسْمًا لِلْإِيمَانِ وَلَا يَقْتَضِيهَا) بِحَالٍ فَزِيَادَةُ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا مُوجِبَةٌ لِلنَّسْخِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت (أَنْ يَكُونَ) شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِ الرِّقَابِ دُونَ بَعْضٍ لَا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ كَمَا أَنَّ شَرْطَ الْحِرْزِ وَالْمِقْدَارِ فِي السَّرِقَةِ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ لَا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ وَلَا الْكُفْرَ (وَلَا) يُنْبِئُ عَنْهُمَا فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْإِيمَانِ (فِيهَا) إلَّا عَلَى جِهَةِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ بِمَا لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الِاسْمُ وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْحِرْزِ وَالْمِقْدَارِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّ آيَةَ السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ بِدَلَائِلَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَازَ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي بَيَانِ بَعْضِ مَا دَخَلَ فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّقَبَةُ الْعَمْيَاءُ وَالْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُهَا بِأَعْضَائِهَا فَلَمْ يَكُنْ امْتِنَاعُ جَوَازِ الْعَمْيَاءِ مِنْ جِهَةِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ إذْ كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهَا صَحِيحَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا يَكُونُ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ زِيَادَةً فِيهَا وَنَسْخًا لَهَا لَوْ وَرَدَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مُطْلَقَةً فَأَمَّا إذَا جُعِلَتْ فِي الْأَصْلِ كَأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ إلَّا مُقَيَّدَةً بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَلَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِوُجُوبِهَا فِي الْأَصْلِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ الْمُلْحَقَةِ بِهَا إذَا كَانَ ثُبُوتُ الشَّرْطِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي يَجُوزُ بِمِثْلِهَا النَّسْخُ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ نَسْخِ الْقُرْآنِ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ (بِالْقِيَاسِ وَلَا) بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّا إنَّمَا نَحْتَاجُ أَنْ نَعْتَبِرَ ذَلِكَ (فِيمَا وَرَدَ) مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ فَيُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى (غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا) . وَلِامْتِنَاعِ جَوَازِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ كُلَّ مَا خَرَجَ (مَخْرَجَ) الْجَوَابِ لِسَائِلٍ سَأَلَ عَنْهُ مِنْ آيَةٍ نَزَلَتْ فِيهِ أَوْ قَوْلٍ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (مَعَ لُزُومِ) تَنْفِيذِ، هَذَا الْحُكْمِ وَعِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَهْلِ السَّائِلِ بِهِ فَإِنَّ مَا نَزَلَ بِهِ إطْلَاقُ الْآيَةِ أَوْ قَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ (عَلَى) إطْلَاقِهِ، وَمَهْمَا أَلْحَقْنَا بِهِ مِنْ شَرْطٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ شَرْطٌ آخَرُ أَوْ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ إطْلَاقِ الْجَوَابِ لَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانَهُ لِلسَّائِلِ مَعَ إلْزَامِهِ إيَّاهُ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ وَعِلْمِهِ بِجَهْلِ السَّائِلِ، فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 كَانَ) هَذَا وَصْفَهُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ، وَرَقَبَةُ الظِّهَارِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ «أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ تَسْأَلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الظِّهَارِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً قَالَتْ لَا يَجِدُ. . . إلَى أَنْ ذَكَرَ الصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِيمَانِ، وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا كَذَلِكَ» . وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِيمَانُ (لَبَيَّنَهُ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مَوْكُولًا إلَى اسْتِدْلَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَنَظَرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّائِلَ كَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فَيَكُونُ حُكْمُ الرَّقَبَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اعْتِبَارِهِ بِالْأُصُولِ. وَرُوِيَ أَيْضًا «أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِتْقِ رَقَبَةٍ» وَكَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَوْ قَيَّدْنَاهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا نَسْخًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَدَلَّ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ مِنْ الرَّقَبَةِ هُوَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَأَنَّا مَتَى قَيَّدْنَاهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ نَسْخِ مُوجَبِ الْآيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا عَلَى رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ، وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ أَبْعَدُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ مُطْلَقَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَرَقَبَةَ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا أَيْضًا وَالْمَنْصُوصَاتُ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ قَدْ اسْتَغْنَى بِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّصِّ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهِ إذْ كَانَ الْقِيَاسُ إنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَهُوَ مِثْلُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى (عَلَيْهِ) فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ مِنْ الْحَدَثِ عَلَى غَسْلِ أَرْبَعَةِ أَعْضَاءَ، وَنَصَّ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى مَسْحِ عُضْوَيْنِ، وَنَصَّ عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَعَلَى قَطْعِ يَدِ الْمُحَارِبِ وَرِجْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ قِيَاسُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْوُضُوءِ (فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي أَعْضَاءِ فِي الْوُضُوء) وَلَا قِيَاسُ السَّارِقِ عَلَى الْمُحَارِبِ فِي قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَى حُكْمِهِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ فِيهِ. وَنَظِيرُهُ: مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ مَعَ الدِّيَةِ، وَنَصَّ فِي الْعَمْدِ عَلَى الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ كَفَّارَةٍ فَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ إلْحَاقِ الْعَمْدِ بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتْلَيْنِ مَذْكُورٌ بِاسْمِهِ مَنْصُوصٌ عَلَى حُكْمِهِ وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ (الْمَنْصُوصِ بَعْضِهِ) عَلَى بَعْضٍ، وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ قَدْ اعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا وَمَنَعُوا الْقِيَاسَ فِي مِثْلِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَاسُ عَلَى التَّنْزِيلِ فَأَمَّا التَّنْزِيلُ (بِعَيْنِهِ فَلَا يُقَاسُ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَوْضِعُ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَعَدَمُ الْإِيمَانِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 رَقَبَةِ الظِّهَارِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَمَتَى قِسْنَا رَقَبَةَ الظِّهَارِ عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ فِي تَقْيِيدِهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَإِنَّمَا قِسْنَا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ (عَلَى الْمَنْصُوصِ) . وَكَذَلِكَ قِيَاسُ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى الْخَطَأِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فَكُلُّ مَا تَنَاوَلَهُ هَذَا الِاسْمُ فَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ دَاخِلٌ تَحْتَهُ فَمَتَى أَلْحَقْنَاهَا بِرَقَبَةِ الْقَتْلِ فَقَدْ قِسْنَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ قَتْلِ الْعَمْدِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَمَتَى قِسْنَاهُ عَلَى الْخَطَأِ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ فَقَدْ قِسْنَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ لَجَازَ قِيَاسُ الْأُمِّ عَلَى الِابْنَةِ (فِي شَرْطِ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ) لَيْسَ فِيهَا شَرْطُ دُخُولٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَجَازَ قِيَاسُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي أَرْبَعَةِ أَعْضَاءٍ لِأَنَّ الْعُضْوَيْنِ الْآخَرَيْنِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِمَا فِي التَّيَمُّمِ وَلَجَازَ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ وَرِجْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحَارِبِ لِأَنَّ الرِّجْلَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا فِي السَّرِقَةِ. فَلَمَّا امْتَنَعَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ عَلِمْت أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْقِيَاسِ خَطَأٌ لَا يَسُوغُ فِيهِ، وَ (لَا) فِي نَظَائِرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قِسْت جَزَاءَ الصَّيْدِ فِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَمْدِ وَالنَّصُّ وَارِدٌ فِي الْعَمْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] . قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ الْخَطَأَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الصَّيْدِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمْدُ فَجَازَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 اعْتِبَارُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ (عَلَيْهِ) بِالْمَنْصُوصِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ جَمِيعًا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ ذِكْرُ قَتْلِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْصُوصٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ لَا تُقَاسُ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي بَابِ إيجَابِ الْإِطْعَامِ فِيهَا عِنْدَ عَدَمِ الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ الْإِطْعَامُ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا لَمْ نَقِسْ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الظِّهَارِ فِي جَوَازِ الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ لَمَّا عَظُمَ أَمْرُهَا بِشَرْطِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَخْفِيفُ حُكْمِهَا بِجَوَازِ الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ قِيَاسًا عَلَى الظِّهَارِ لِأَنَّ فِيهِ وَصْفَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ إيجَابُهَا فِي الْأَصْلِ. قِيلَ لَهُ: فَامْتَنَعَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ قِيَاسُ رَقَبَةِ الظِّهَارِ عَلَى الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لَمَّا وَرَدَتْ مَوْرِدَ التَّخْفِيفِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إلَى الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَالْعَجْزِ عَنْ الصِّيَامِ لَمْ يَجُزْ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَغْلِيظَهَا عَلَى مَا أَجَازَتْهُ الْآيَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّغْلِيظِ بِتَقْيِيدِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا ذَكَرْت مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مُسَلَّمٌ لَك فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصِّفَةِ لَا فِي إثْبَاتِ زِيَادَةِ مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيهَا فَتُقَاسُ رَقَبَةُ الظِّهَارِ عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ فِي بَابِ إثْبَاتِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا وَهِيَ صِفَةٌ كَمَا قِسْنَا جَمِيعًا التَّيَمُّمَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الصِّفَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ لَا فِي إثْبَاتِ عُضْوٍ آخَرَ. قِيلَ لَهُ: (هَذَا) خَطَأٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ إذَا كَانَتْ نَسْخًا عَلَى مَا بَيَّنَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةَ أَوْ إثْبَاتَ مَعْنًى غَيْرَهَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْك عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ لَا تُثْبِتَ النَّفْيَ مَعَ الْجَلْدِ حَدًّا، وَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ، وَلَا يَلْزَمُ قَاتِلَ الْعَمْدِ كَفَّارَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ صِفَةٍ، وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَإِنَّا لَمْ نُثْبِتْهُ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ مِنْ قِبَلَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] يَقْتَضِي الْيَدَ إلَى الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ فَأَسْقَطْنَا مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِلَّا فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ وَأَبْقَيْنَا حُكْمَ اللَّفْظِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ. . وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ (لَمَّا) لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اسْمُ الرَّقَبَةِ وَلَمْ تُنْبِئْ عَنْهُ كَانَ زِيَادَةً فِيهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ، قَدْ اعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ أَيْضًا. قَالَ مُحَمَّدُ (بْنُ الْحَسَنِ) فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ إنْ اغْتَسَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْتُ أَوْ شَرِبْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ عَنَيْتُ غُسْلًا مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ قَالَ عَنِيتُ طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ أَوْ شَرَابًا دُونَ شَرَابٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ وَعَنَى إنْ دَخَلَهَا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ لَمْ تَعْمَلْ نِيَّتُهُ لِأَنَّ لَفْظَ الْيَمِينِ لَا يُنْبِئُ (عَلَى مَا عَنَاهُ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا) نَوَى تَخْصِيصَ غَيْرِ اللَّفْظِ (الْمَلْفُوظِ بِهِ) فَفِي اللَّفْظِ عُمُومٌ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ النِّيَّةُ وَصَارَتْ النِّيَّةُ لَغْوًا. وَلَوْ كَانَ قَالَ: إنْ اغْتَسَلْت غُسْلًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْغُسْلَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ الَّذِي نَوَى تَخْصِيصَهَا مَذْكُورَةٌ فِي لَفْظِهِ فَصَلَحَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهَا. وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَمَّا (لَمْ) يَتَنَاوَلْ اسْمُ الرَّقَبَةِ الْإِيمَانَ لَمْ (يَصِحَّ) تَخْصِيصُهَا (بِهِ وَكَانَ مَتَى شُرِطَ فِيهَا الْإِيمَانُ كَانَ زِيَادَةً فِيهَا لَا تَخْصِيصًا) وَهَذَا مَعْنًى يُبَيِّنُ الْفَصْلَ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ. وَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي امْتِنَاعِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ الْقَوْلُ فِي شَرْطِ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ مَعَ الْجِلْدِ لِلزَّانِي لِأَنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ جَلْدَ الْمِائَةِ حَدًّا كَامِلًا فَمَتَى أَلْحَقْنَا بِهِ النَّفْيَ وَالرَّجْمَ مَعَهُ صَارَ جَلْدُ الْمِائَةِ غَيْرَ حَدٍّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْضَ الْحَدِّ وَلَمْ يَقَعْ الْجَلْدُ بِانْفِرَادِهِ مَوْقِعَ الْجَوَازِ فَكَانَ إيجَابُ النَّفْيِ أَوْ الرَّجْمِ مَعَهُ نَسْخًا فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ. وَكَذَلِكَ شَرْطُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَكَوْنِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَرْضًا فِي الْوُضُوءِ وَنَظَائِرُهُ يَجْرِي عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا كَانَ يَكُونُ مَا ذَكَرْتَ نَسْخًا لَوْ وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْآيَةِ وَأَمَّا إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ وُرُودَهُ كَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْآيَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ بَلْ الْوَاجِبُ الْحُكْمُ بِوُرُودِهِمَا مَعًا فَنَسْتَعْمِلهُمَا وَلَا نَجْعَلُ أَحَدَهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو الْخَبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا مَعَ الْآيَةِ أَوْ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا. فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَهُوَ نَاسِخٌ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا. إنْ كَانَ قَبْلَهَا فَالْآيَةُ نَاسِخَةٌ لَهُ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ مُطْلَقَةً مُوجِبَةً لِكَوْنِ الْجَلْدِ حَدًّا كَامِلًا. وَإِنْ كَانَ مَعَهَا، وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِيبَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ فَالْوَاجِبُ وُرُودُهُ، وَنَقْلُهُ فِي وَزْنِ نَقْلِ الْآيَةِ وَوُرُودِهَا، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرِدَ عَنْ الصَّحَابَةِ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْجَلْدِ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِلْجَلْدِ. فَلَمَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مِثْلَ (عُمَرَ وَعَلِيٍّ) وَغَيْرِهِمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - قَدْ عَرَفُوا النَّفْيَ وَلَمْ يَرَوْهُ حَدًّا وَإِنَّمَا رَأَوْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَمَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وُرُودُهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بَعْضُ الْحَدِّ مَعَ الْجَلْدِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَارِدٌ قَبْلَ الْآيَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15]- وَكَانَ هَذَا حَدَّ الزَّانِيَةِ مَعَ الْأَذَى - وَبَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَاسِطَةٌ حُكِمَ فِي الزِّيَادَةِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَارَ نَاسِخًا لَهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا إنَّ الرَّجْمَ لَيْسَ بِحَدٍّ مَعَ الْجَلْدِ، وَإِنَّ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا حَدًّا مُسْتَحَقًّا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مُطْلَقَةً بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ سَبِيلُ خَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَعَ الْآيَةِ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ عَلَيْنَا اعْتِبَارَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فِيهَا وَالْخَبَرُ يُجِيزُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دُونَهُ وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِيهِ تَرْكُ بَعْضِ مُوجَبِ الْآيَةِ وَخَبَرُ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ مَعَ الْجَلْدِ زِيَادَةٌ فِيهِ، وَأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا تَرْكَ بَعْضِ مَا فِي الْآيَةِ، وَفِي الْآخَرِ زِيَادَةٌ فِيهَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي إيجَابِ نَسْخِهِمَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا وَلَا يَكُونُ نَسْخًا وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الِاقْتِصَارِ فِي كَوْنِ الْجَلْدِ حَدًّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نَفْيٌ، وَالْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي حَالٍ وَبِالشَّاهِدَيْنِ وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي حَالٍ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّ شَرْطَ النِّيَّةِ فِيهَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَعْضِ الْغُسْلِ طَهَارَةً وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْآيَةِ لَا نَسْخَ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ عَرَفْت مَعْنَى التَّخْصِيصِ لَمْ تَسْأَلْ عَنْ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ (التَّخْصِيصَ لِلَّفْظِ) إنَّمَا يَكُونُ فِي اللَّفْظِ الْمُنْتَظِمِ لِمُسَمَّيَاتٍ فَيَخْرُجُ بَعْضُ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ مِنْ الْحُكْمِ فَقَوْلُك فِي الْجَلْدِ أَنَّهُ صَارَ حَدًّا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهِيَ (حَالُ) وُجُودِ النَّفْيِ مَعَهُ غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَحْوَالَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ فَيُخَصُّ بَعْضُهَا بِمَا ذَكَرْت وَمَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ فِيهِ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وَالثَّانِي: أَنَّك لَمْ تَجْعَلْ الْجَلْدَ حَدًّا بِحَالٍ كَانَ مَعَهُ نَفْيٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَعَهُ نَفْيٌ فَهُوَ وَالنَّفْيُ (جَمِيعًا) حَدٌّ وَاحِدٌ. وَإِذَا كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ حَدًّا فَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ حَدًّا بَلْ هُوَ بَعْضُ الْحَدِّ كَمَا أَنَّ جَلْدَ تِسْعِينَ لَيْسَ بِحَدٍّ عِنْدَ أَحَدٍ وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْ النَّفْيِ فَهُوَ أَيْضًا (لَيْسَ بِحَدٍّ عِنْدَك) فَلَيْسَ هَاهُنَا تَخْصِيصٌ بِوَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ نَسْخٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَأَمَّا خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَك مَقْبُولٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَمَا الَّذِي خَصَّصْت مِنْ الْآيَةِ بِخَبَرِ (الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ) فَقَدْ بَانَ لَك أَنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَخَبَرَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَا يَقْتَضِيَانِ تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُمَا لَوْ بُنِيَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ (الْمُخَالِفُ لَاعْتَرَضَا) عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَيَكُونُ مَا تَعَلَّقَ بِخَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مِنْ نَسْخِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَاهِدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ. وَالْآخَرُ: إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، فَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا (خَيَّرَ فِي الْآيَةِ) بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ هَذَا نَسْخًا لِأَنَّ الْخَبَرَ كَأَنَّهُ وَرَدَ هُوَ وَالْآيَةُ مَعًا عَقِيبَهَا بِلَا فَصْلٍ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ. وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْآيَةِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ إلَّا مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَاسْتَعْمَلَهُ النَّاسُ مَعَهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ ثَابِتًا فِي الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ وَمَا أَلْحَقَ بِهِ زِيَادَةً عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا لِمَا وَصَفْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهِ فَقَدْ زَادَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ إذْ لَيْسَ (هَاهُنَا) تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ لَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ تَحْتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الْعُمُومَ شَرْطُهُ أَنْ يَنْتَظِمَ جَمْعًا، وَالْجَمْعُ الَّذِي فِي اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَأْمُورِينَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الطَّهَارَةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَيَكُونُ شَرْطُ النِّيَّةِ مُخَصِّصًا لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ وَلِأَنَّ أَحْوَالَ الطَّهَارَةِ وَأَوْقَاتَهَا مَذْكُورَةٌ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَتَكُونُ النِّيَّةُ مُخَصَّصَةً لِجَوَازِهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَفِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرْطَ النِّيَّةِ لَا يُوجِبُ بَعْضَ الْغَاسِلِينَ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْغَاسِلِينَ أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْأَمْرِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الْغُسْلُ. وَإِنَّمَا خَصَّ عَلَى قَوْلِهِمْ بَعْضَ الطِّهَارَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَبَعْضَ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَتْ الطَّهَارَةُ مَذْكُورَةً فِي عُمُومِ لَفْظٍ (حَتَّى يَقَعَ) (فِيهِ) التَّخْصِيصُ بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِشَرْطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَجْهٌ إلَّا نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ إيجَابُ ضَمَانِ السَّارِقِ مَعَ الْقَطْعِ (مَعَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ} [المائدة: 38] فَجَعَلَ الْقَطْعَ) جَزَاءً وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ فَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الضَّمَانَ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَطْعِ صَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ فَهَذَا نَظِيرُ إيجَابِ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ عَلَى الزَّانِي عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَاعْتَبِرْ نَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 [بَاب الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ] ٌ مَا حُكْمُ الْبَاقِي؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي الْعَامِّ إذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ وَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا (عَلَى) دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ. وَكَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ إذَا أَوْجَبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 التَّخْصِيصَ فَيَقُولُ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مَانِعٍ بَقَاءَ (حُكْمِ) اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا وَلَا يُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ. (وَدَلَالَةُ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ اللَّفْظِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا وَتُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ) ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْعُمُومُ. وَكَانَ يَقُولُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ هَذَا مَذْهَبِي (وَلَا يُمْكِنُنِي) أَنْ أَعْزِيَهُ إلَى أَصْحَابِنَا. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ أَيْضًا وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. قَالَ (الشَّيْخُ الْإِمَامُ) أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاَلَّذِي عِنْدِي مِنْ (مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا) فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ (بِهِ) فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ وَاحْتِجَاجُهُمْ لِلْمَسَائِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أَلَا تَرَى: أَنَّهُمْ قَدْ احْتَجُّوا فِي إيجَابِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» وَهَذَا خَاصٌّ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْجَارَ الَّذِي لَيْسَ بِمُلَاصِقٍ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ أَيْضًا وَلَا شُفْعَةَ (لَهُ) بِالِاتِّفَاقِ. وَاحْتَجُّوا فِي مَنْعِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْحَجِّ إلَّا بِمَحْرَمٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ» وَهَذَا خَاصٌّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِمَّا احْتَجُّوا فِيهِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَقَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهَا بِالِاتِّفَاقِ نَحْوُ «نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك وَعَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» قَدْ احْتَجُّوا بِعُمُومِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ (عِنْدَنَا وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي احْتَجُّوا فِيهَا بِالْعَامِّ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ فَكَانَ يَقُولُ: إنَّمَا هَذَا شَيْءٌ أَعْتَقِدُهُ أَنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَعْزِيهِ إلَى أَصْحَابِنَا) . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ قِيَامَ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي الْبَاقِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فِي بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مَعَهُ فِيمَا عَدَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّفْظَ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْمٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً فِي إيجَابِ الْحُكْمِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ أَظْهَرُ دَلَالَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجُمْلَةِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ عِبَارَةً عَنْهُ بِحَالٍ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ تِسْعَةٍ، وَالْمُشْرِكُونَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا حَقِيقَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ وُجُودَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ لَا يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ لِلْبَاقِي لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ اللَّفْظِ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ فَصَارَتْ التِّسْعَةُ لَهَا اسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: تِسْعَةٌ، وَالْآخَرُ: عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا وَالِاسْمَانِ جَمِيعًا حَقِيقَةٌ لَهَا لِأَنَّ الصِّيغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ، وَكَمَا أَنَّ قَوْلَنَا وَاحِدٌ وَوَاحِدٌ، وَقَوْلَنَا اثْنَانِ سَوَاءٌ وَاللَّفْظَانِ جَمِيعًا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مَعْقُولٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ. وَأَمَّا قِيَامُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقْتَرِنَ إلَى اللَّفْظِ حَتَّى تَصِيرَ الصِّيغَةُ الْمَسْمُوعَةُ مَعَ الدَّلَالَةِ عِبَارَةً عَنْ الْبَاقِي، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُغَيِّرُ صِيغَةَ اللَّفْظِ فَصَارَتْ الصِّيغَةُ إذَا أُطْلِقَتْ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ مَجَازًا لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا اسْتِيعَابُ جَمِيعِ مَا تَحْتَهَا فَمَتَى أُطْلِقَتْ وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَصَارَ اللَّفْظُ مَجَازًا، وَالْمَجَازُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ (تَقُومُ الدَّلَالَةُ) عَلَيْهِ. كَذَلِكَ الْعُمُومُ مَتَى أُطْلِقَ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي اعْتِبَارِ عُمُومِهِ فِي الْبَاقِي، وَكَانَ أُلْزِمَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إبْطَالَ فَائِدَةِ اللَّفْظِ رَأْسًا لِافْتِقَارِهِ إلَى دَلَالَةٍ (مِنْ) غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ فَكَانَ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ فَائِدَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّ وُرُودَهُ (قَدْ) أَفَادَنَا حُدُوثَ حُكْمٍ يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ، فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ كَانَ الْحُكْمُ مُوجَبًا بِاللَّفْظِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] مَتَى بُيِّنَ الْحَقُّ كَانَ مُوجَبًا بِاللَّفْظِ. كَذَلِكَ فِيمَا وَصَفْنَا مَتَى قَامَتْ دَلَالَةُ الْمُرَادِ كَانَ مُوجَبًا بِاللَّفْظِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا السُّؤَالُ لَازِمًا (لَهُ) عَلَى حَسَبِ مَا أَرَادَ السَّائِلُ إلْزَامَهُ وَحَاوَلَ بِهِ إفْسَادَ مَذْهَبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ فِي أَنَّ دَلَالَةَ الْخُصُوصِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا وَلَا يَصِيرُ مَجَازًا بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ وُرُودَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يَكُونُ أَبَدًا عِبَارَةً عَنْ أَقَلَّ مِنْهَا فَإِذَا قَالَ {أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] (فَإِنَّمَا) أَطْلَقَ اسْمَ الْأَلْفِ وَمُرَادُهُ أَقَلَّ مِنْهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَجَازًا وَاخْتِلَافُهُمَا مَرْجِعُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَفْظٌ مُتَّصِلٌ بِالْجُمْلَةِ وَدَلَالَةُ الْخُصُوصِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ مُتَّصِلٍ بِهَا وَلَا يُوجَبُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ، لِأَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ إذَا جَازَ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَلِفِ أَقَلَّ مِنْهَا لِمَا صَحِبَهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَمْ يَمْنَعْ (ذَلِكَ مِنْ) بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَكَذَلِكَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعُمُومِ مَعَ إرَادَةِ الْخُصُوصِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ. وَأَمَّا مَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مَجَازًا فَإِنَّهُمْ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَقُولُ فِي دَلَالَةِ الْخُصُوصِ كَمَا يَقُولُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ، وَيَجْعَلُ اللَّفْظَ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي، وَيَأْبَى أَنْ يَكُونَ قِيَامُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا، وَيَقُولُ إنَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ عُمُومًا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَحَكَيْنَاهُ عَنْ قَائِلِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْخُصُوصِ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا كَانَ اسْمًا لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَمَا فَوْقَهَا ثُمَّ قَالَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُقْتَلُونَ فَمَنْ بَقِيَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِمْ لَا مَجَازًا فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فَمَنْ كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فِي ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْجَوَابُ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ، وَيَصِيرُ حِينَئِذٍ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ قِيَامَ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حُصُولَ اللَّفْظِ مَجَازًا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِ دَلَالَتِهِ لِأَنَّ الْمَجَازَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ كَاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ بَاقِيَةً فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 [بَاب الْقَوْلُ فِي حُكْمِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إذَا عُلِّقَا بِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَنَاوَلَاهُ فِي الْحَقِيقَةِ] ِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِأَفْعَالِ الْمَأْمُورِينَ وَالْمَنْهِيِّينَ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَا بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا يُنْهَى عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ (ذَلِكَ) كَذَلِكَ ثُمَّ وَرَدَ لَفْظُ (التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ) مُعَلَّقًا فِي ظَاهِرِ الْخِطَابِ بِمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِنَا عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِعْلُنَا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقَوْله تَعَالَى {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْأُمِّ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا وَغَيْرُ الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا التَّحْرِيمُ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَالٌ أَنْ يَنْهَانَا عَنْ فِعْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَبَثٌ وَسَفَهٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَيَسْتَحِيلُ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَعْيَانٌ مَوْجُودَةٌ فَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهَا، وَ (لَا) الْأَمْرُ بِهَا لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْجُودُ وَالْأَمْرُ بِهَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْجُودُ وَهَذَا مُحَالٌ فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ فِيهَا عَلِمْنَا أَنَّ (التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ) يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِنَا فِيهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ لَمَّا تَنَاوَلَ فِعْلَنَا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فِعْلُكُمْ فِي الْأُمَّهَاتِ وَفِي الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فَيَسُوغُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمَّا كَانَ حُكْمُهُ فِيمَا وَصَفْنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُضَمَّنَةِ بِأَغْيَارِهَا فَيُفِيدُ إطْلَاقَهَا مَا ضُمِّنَتْ بِهِ كَقَوْلِنَا ضَرَبَ يَقْتَضِي ضَارِبًا وَمَضْرُوبًا وَجَذَبَ يَقْتَضِي مَجْذُوبًا وَأَبٌ يَقْتَضِي ابْنًا وَابْنٌ يَقْتَضِي أَبًا وَشَرِيكٌ يَقْتَضِي شَرِيكًا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ التَّحْرِيمُ مُضَمَّنًا بِأَفْعَالِنَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَارِيًّا مِنْهَا وَصَارَ إطْلَاقُهُ مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْفِعْلِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فِعْلُكُمْ فِي الْمَيْتَةِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ هُنَاكَ عَادَةٌ لِقَوْمٍ فِي اسْتِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا عَلَيْهِ الْمَجُوسُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ. وَقَوْمٌ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِالْمَيْتَةِ عَلَى حَسَبِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْمُذَكَّى كَانَ مَخْرَجُ الْكَلَامِ تَحْرِيمَ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَبِيحُونَهُ فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى (مُتَعَلِّقًا مَعْقُولًا بِوُرُودِ) اللَّفْظِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ (حَرَّمْت عَلَيْكُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ) . وَحَرَّمْت عَلَيْكُمْ الِانْتِفَاعَ بِالْمَيْتَةِ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ الْمُعْتَادَ مَتَى خَرَجَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ صَارَ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ فِيهِ فَيَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ وُرُودُ اللَّفْظِ هَذَا الْمَوْرِدَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا لِأَنَّهُ عَلَّقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 التَّحْرِيمَ بِأَعْيَانٍ فَأَرَادَ (بِهِ) غَيْرَهَا وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا حَصَّلَ مَجَازًا احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ (أُخْرَى) مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ وَإِنْ عُلِّقَ بِمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الَّتِي هِيَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ قَدْ عَقَلَ بِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ مَا يَعْقِلُ بِالْمَذْكُورِ مِنْ أَفْعَالِنَا لَوْ عَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمَ بَلْ هُوَ آكَدُ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ فِيهِ لَوْ ذَكَرَ فِعْلَنَا فِيهَا لِأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ ضَرْبٌ مِنْ الْفِعْلِ وَعُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِهِ كَانَ (حُكْمُهُ) مَقْصُورًا عَلَيْهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ. وَإِذَا عُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِالْعَيْنِ تَنَاوَلَ سَائِرَ وُجُوهِ الْفِعْلِ فِي الْعَيْنِ، وَهَذَا (عَلَى مَعْنًى) رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» فَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ تَحْرِيمُهُ بِالْعَيْنِ تَنَاوَلَ سَائِرَ وُجُوهِهِ وَمَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْعَيْنِ قَصَرَ حُكْمَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوْعِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ وَإِنْ عُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِالْعَيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ إذَا قِيلَ لَهُ أُمُّك مُحَرَّمَةٌ عَلَيْك أَوْ قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْك الْخَمْرُ وَالْمَيْتَةُ عَقَلَ مِنْ خِطَابِهِ بِنَفْسِ وُرُودِهِ مَا يَعْقِلُهُ مِنْهُ لَوْ (قِيلَ لَهُ) الِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ مُحَرَّمٌ عَلَيْك وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْأُمِّ مَحْظُورٌ عَلَيْك وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ لَيْسَ يَتَنَاوَلُهُ الْفِعْلُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ قَبِيحًا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ ضَرْبًا مِنْ الْعِقَابِ، وَلَفْظُ التَّحْلِيلِ أَيْضًا لَا يَتَنَاوَلُهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ فِي مُوَاقَعَتِهِ إيَّاهُ. فَلَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِالْفِعْلِ مَقْصُورًا عَلَى مَا بَيَّنَّا صَحَّ اعْتِبَارُ عُمُومِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي أَفْعَالِنَا الْمُضْمَرَةِ فِي الْخِطَابِ. وَأَمَّا النِّيَّةُ فَإِنْ تَعَلُّقَهَا بِالْفِعْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ فَضِيلَةِ الْعَمَلِ وَالْآخَرُ إثْبَاتُ حُكْمِهِ حَتَّى إذَا فُقِدَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ أَصْلًا وَمَتَى تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلَى وَجْهِ إثْبَاتِ فَضِيلَتِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ عَدَمُهَا فِي الْحُكْمِ نَحْوُ غَسْلِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ (وَالْوُضُوءِ) مَتَى نَوَى بِذَلِكَ طَهَارَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ نِيَّتُهُ مُثْبِتَةً لَهُ فَضِيلَةً، وَكَانَ مُسْتَحِقًّا بِهَا عَلَيْهِ الثَّوَابَ وَفَقْدُهُمَا لَا يَضُرُّهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَاقِعَةٌ فِي حَالِ وُجُودِ النِّيَّةِ وَعَدَمِهَا وَمَتَى تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلَى جِهَةِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ كَانَ عَدَمُهَا (مَانِعًا مِنْ) وُقُوعِ حُكْمِ الْفِعْلِ رَأْسًا. نَحْوُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ الْمَقْصُودَةِ لِأَعْيَانِهَا مَتَى عَرِيَتْ مِنْ النِّيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا وَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ، فَلَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ (يَكُنْ) بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى مِنْهَا بِالْآخَرِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَجْهَانِ جَمِيعًا مَعَ ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِهِ بِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ الْمُرَادِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ ادَّعَى فِي قَوْلِهِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ إثْبَاتَ حُكْمِ الْأَعْمَالِ بِأَوْلَى مِمَّنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ادَّعَى فَضِيلَةَ الْعَمَلِ. أَلَا (تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ بِمِثْلِهِ لَفْظُ عُمُومٍ لَمَا سَاغَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَمَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ مِمَّا يَقْتَضِيهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَصْلُحَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ فِيهِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» هُوَ (فِي) مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي» تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ عَنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَفْعُ الْحُكْمِ رَأْسًا. وَالْآخَرُ: رَفْعُ الْمَأْثَمِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ إذَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الضَّمِيرِ مُخْتَلِفًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْأُمِّ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَبِالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي أَنْ يَبَرَّهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا وَيُكْرِمَهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَيْتَةِ فِي أَنْ يَحْمِلَهَا فَيَرْمِيَ بِهَا وَفِي الْخَمْرِ بِأَنْ يُرِيقَهَا ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ جَوَازُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مِنْ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِيهِ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا سُؤَالُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا إنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ التَّحْلِيلُ ثُمَّ خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ مَعْنَى التَّحْرِيمِ فَمَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَقَوْلُهُ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ» فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ مُخْتَلِفٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ (فِيهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 [بَاب الْقَوْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَلَفْظِ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَا بِالْخِطَابِ مَا حُكْمُهُمَا] ؟ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا صَحِبَ خِطَابًا مَعْطُوفًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 يَرْجِعَ إلَى مَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَكَذَلِكَ كَانَ (شَيْخُنَا) أَبُو الْحَسَنِ (الْكَرْخِيُّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - (يَقُولُ فِي ذَلِكَ) فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى فِي الْقَاذِفِ {فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَكَانَ الِاسْتِثْنَاء إنَّمَا عَمِلَ فِي إزَالَةِ سِمَةِ الْفِسْقِ عَنْ الْقَاذِفِ بِالتَّوْبَةِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ وَلَا فِي زَوَالِ الْحَدِّ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَ بِالْجُمْلَةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فَقَوْلُهُ {مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الرَّبَائِبِ دُونَ بَعْضٍ فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِنَّ غَيْرُ رَاجِعٍ إلَى أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ عُمَرُ " وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مُبْهَمَةٌ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ " أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى " فَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُكْمَ التَّخْصِيصِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ حُكِيَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ هَذَا حَقُّ الْكَلَامِ وَمُقْتَضَاهُ. وَمِنْ الدَّلِيلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ قَوْله تَعَالَى {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] فَكَانَتْ (الْمَرْأَةُ) مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْمُنَجِّينَ لَاحِقَةً بِالْمُهْلَكِينَ لِاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُنَجِّينَ وَنَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ عَلَيَّ (لِفُلَانٍ) عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمَيْنِ أَنَّ عَلَيْهِ تِسْعَةَ (دَرَاهِمَ) لِأَنَّ الدِّرْهَمَيْنِ مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالثَّلَاثَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْعَشَرَةِ (فَبَقِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَكَانَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَشَرَةِ) وَهَذَا مَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ خِلَافٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ فَحُكْمُهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ هُوَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَالِاسْتِثْنَاءَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْعُمُومِ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَا جَائِزٌ تَخْصِيصُ شَيْءٍ فِيهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَإِذَا اتَّصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِخِطَابٍ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ فَحُكْمُهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعَ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ بِالِاحْتِمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ وَقَدْ وَفَّيْنَا حَظَّهُ بِإِعْمَالِهِ فِيمَا يَلِيهِ فَاحْتَاجَ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ لَفْظِ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَ بِكَلَامٍ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ هُوَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا صَلُحَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَمَّا صَلُحَ لِجَمِيعِ مَا هُوَ (اسْمٌ) لَهُ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ مَا انْتَظَمَهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ. قِيلَ لَهُ: إنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا انْطَوَى تَحْتَهُ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صَلُحَ لَهُ فَحَسْبُ وَلَوْ كَانَ تَنَاوُلُهُ لِلْكُلِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَجَازَ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لَهُ وَلَوْ عَلَّقَ (الْحُكْمَ) بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ يُسَمَّى زَيْدًا لَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ (اسْمُهُ زَيْدٌ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لَهُ وَلَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ فِيهِ شَرْطًا غَيْرَ مَذْكُورٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَذْكُرَهُ وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَلَيْسَ فِي مَضْمُونِهِ وَلَا فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ إذْ قَدْ صَحَّ حُكْمُهُ فِيهِ، وَمَنْ ادَّعَى رُجُوعَهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ كَانَ مُدَّعِيًا لِتَخْصِيصِ عُمُومٍ بِلَا دَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَدْخَلَ شَرْطًا وَصَلَهُ بِاللَّفْظِ كَانَ جَمِيعُ الْخِطَابِ مُتَعَلِّقًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ. قِيلَ لَهُ: يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عِنْدَنَا، مِنْهُ مَا يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيهِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ وَفِي تَفْصِيلِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْإِطَالَةِ وَلَيْسَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى يُجْعَلَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُخْرِجُ مِنْهَا بَعْضَ مَا انْتَظَمَتْهُ بَعْدَ (صِحَّةِ) الْكَلَامِ وَحُصُولِ الْفَرَاغِ مِنْهُ. وَأَمَّا الشَّرْطُ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْجُمْلَةِ كُلِّهَا حَتَّى يَتَعَلَّقَ حُكْمُهَا بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ لِلَّفْظِ حُكْمٌ فَلِذَلِكَ جَازَ تَعَلُّقُ جَمِيعِ الْمَذْكُورِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ ذَلِكَ مِنْهَا وَلَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] . إلَى قَوْله تَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ثُمَّ عَقَّبَهُ بَعْدَ ذِكْرِ وَعِيدِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فَكَانَ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُور (وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوعُهُ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قِيلَ لَهُ: لَوْلَا مَا فِي اللَّفْظِ مِنْ دَلَالَةِ رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ لَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَوَالَ عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ لَا يَتَعَلَّقُ ثُبُوتُهُ قَبْلَ قُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ التَّوْبَةَ إذَا صَحَّتْ زَالَتْ عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ فِي أَيِّ حَالٍ وُجِدَتْ فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ الْمَشْرُوطَةَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ إنَّمَا هِيَ لِزَوَالِ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ رُجُوعُهُ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لِدَلَالَةٍ تَقُومُ لِأَنَّ حَقَّ الْكَلَامِ أَنْ لَا يُزَالَ تَرْتِيبُهُ وَنِظَامُهُ وَلَا يُجْعَلُ الْمُقَدَّمُ مِنْهُ مُؤَخَّرًا وَلَا الْمُؤَخَّرُ (مِنْهُ) مُقَدَّمًا إلَّا بِدَلَالَةٍ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ إرَادَةُ تَقْدِيمِ الْمُؤَخَّرِ وَتَأْخِيرِ الْمُقَدَّمِ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129] وَالْمَعْنَى وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْأَجَلُ مَضْمُومًا (بِعَطْفِهِ) عَلَى الْكَلِمَةِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1] {قَيِّمًا} [الكهف: 2] وَالْمَعْنَى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ مَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ الْخِطَابِ لَمَا أَزَلْنَاهُ عَنْ نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ ثُمَّ جَازَ وُرُودُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعَ زَوَالِ تَرْتِيبِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ حُكْمُهُ لَنْ يَعْمَلَ فِيمَا يَلِيهِ وَلَا يَعْمَلُ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّرِقَةِ {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] فَكَانَ حُكْمُ التَّخْصِيصِ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِهِ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَكَالًا وَإِنَّمَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مَقْطُوعًا عَلَى وَجْهِ الْمِحْنَةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَلِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ عَلَى وَجْهِ الْفِتْنَةِ وَالتَّعْرِيضِ لِلثَّوَابِ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا لِأَنَّ التَّائِبَ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ (وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] كَلَامًا مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِهِ) . وَمِنْ أَلْفَاظِ التَّخْصِيصِ مَا يَعْرِضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَ التَّخْصِيصُ فِيهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى تَتَوَسَّطُهَا فِي نَسَقِ الْخِطَابِ فَلَا يَمْنَعُ مَا عَرَضَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ إعْمَالِ لَفْظِ التَّخْصِيصِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ} [المائدة: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3] يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مَا تَوَسَّطَهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3] وَمَا بَعْدَهُ رُجُوعَ حُكْمِ التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ إلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ خِطَابٌ وَاحِدٌ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ وقَوْله تَعَالَى {فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] لَا يَصِحُّ أَنْ يُضْمَرَ فِيهِ وَيُعْطَفَ عَلَيْهِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُهُ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ وَقَدْ جَاءَ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ مَا لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِنْ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] فَلَا يَدُلُّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا حُجَّةً وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، (وَيَحْتَمِلُ وَلَكِنْ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً} [النساء: 92] وَالْمَعْنَى لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَحُكْمُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ لِأَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ النَّهْيُ فَيَخْرُجَ مِنْ الْجُمْلَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ مَعْنَاهُ وَلَا خَطَأً وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْخَطَأِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَطْفِهِ عَلَى النَّهْيِ وَقَتْلُ الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ النَّهْيُ عَنْهُ وَلَا الْأَمْرُ بِهِ فَدَلَّ أَنَّ الْمَعْنَى مَا وَصَفْنَا وَمِنْ هَذَا النَّحْوِ قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وَمَعْنَاهُ لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ مَا أَكَلَ السَّبُعُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ يَقُولُ الْعَرَبُ هَذَا أَكِيلَةُ السَّبُعِ إذَا قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس: 98] مَعْنَاهُ لَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقَوْله تَعَالَى {طه} [طه: 1] {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3] مَعْنَاهُ لَكِنَّ تَذْكِرَةً (لِمَنْ يَخْشَى) وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَالْمَعْنَى لَكِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يَسْجُدْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ (بِهِ) حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ وَكَانَ إبْلِيسُ مِمَّنْ يَصِحُّ أَمْرُهُ بِالسُّجُودِ اسْتَثْنَاهُ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا وَجْهٌ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارٌ. أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ (عَلَيَّ) يَتَنَاوَلُ مَا (يَثْبُتُ فِي) الذِّمَّةِ (وَالدِّينَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الدِّرْهَمِ فَإِنَّهُ مِمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ) فَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] مِنْ النَّوْعِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَأَنَّهُ بِمَعْنَى لَكِنْ تَكُونُ {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدِي لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ التِّجَارَةُ عَنْ تَرَاضٍ وَعَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ التِّجَارَاتِ الْوَاقِعَةِ عَنْ تَرَاضٍ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ النَّفْيِ وَهِيَ أَنْ يَقَعَ عَلَى فَسَادٍ وَعَلَى وُجُوهٍ مَحْظُورَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُقَدَّرًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمُخْرِجًا لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا وَمِنْ الْجُمَلِ مَا يَنْتَظِمُ مُسَمَّيَاتٍ ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهَا بِكِنَايَةٍ فَحُكْمُ الْكِنَايَةِ فِي مِثْل ذَلِكَ رُجُوعُهَا إلَى مَا يَلِيهَا دُونَ مَا بَعُدَ مِنْهَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] فَهَذِهِ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الرَّبَائِبِ اللَّاتِي يَلِينَ الْكِنَايَةَ، وَهَذَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَفْظِ التَّخْصِيصِ وَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ. وَمِنْهَا مَا يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ بَعْضِ الْمَذْكُورِ مِمَّا يَلِي الْكِنَايَةَ وَيَشْتَرِكَانِ جَمِيعًا فِي حُكْمِهَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا} [الجمعة: 11] وَاَلَّذِي يَلِي الْكِنَايَةَ هُوَ اللَّهْوُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ مُؤَنَّثٍ وَهِيَ التِّجَارَةُ وَلَيْسَ اللَّهْوُ مُؤَنَّثًا فَتَكُونَ الْكِنَايَةُ عَنْهُ وَقَدْ اشْتَرَكَا جَمِيعًا فِي الْخَبَرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّك مَتَى أَفْرَدْت اللَّهْوَ عَنْ الْخَبَرِ الْعَائِدِ إلَى التِّجَارَةِ سَقَطَتْ فَائِدَتُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى وَإِذَا رَأَوْا اللَّهْوَ وَهَذَا كَلَامٌ مُفْتَقِرٌ إلَى خَبَرٍ وَلَا شَيْءَ هَاهُنَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ إلَّا مَا جَعَلَهُ خَبَرًا (عَنْ التِّجَارَةِ) وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا خَصَّ التِّجَارَةَ بِعَطْفِ الْكِنَايَةِ عَلَيْهَا دُونَ اللَّهْوِ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ عَنْ الذِّكْرِ وَالْخُطْبَةِ إلَى التِّجَارَةِ أَكْثَرُ فِي الْعَادَةِ فِي مَقَاصِدِ النَّاسِ مِنْهُ إلَى اللَّهْوِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إلَيْهَا كِنَايَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لَهُمَا وَمِمَّا عَادَتْ الْكِنَايَةُ فِيهِ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] فَظَاهِرُ الْكِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى الْفِضَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَعَادَهَا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَلِيهَا وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مُشْتَرِكَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَبَرٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " خَبَرًا لَهُمَا جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] خَبَرًا لَهُمَا جَمِيعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " وَلَا يُنْفِقُونَهَا " حُكْمًا مَقْصُورًا عَلَى الْفِضَّةِ الَّتِي عَادَتْ الْكِنَايَةُ إلَيْهَا وَيَكُونُ قَوْلُهُ {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] خَبَرًا عَنْ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ. قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْوَعِيدَ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الزَّجْرِ عَنْ كَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إلَّا عَلَى شَرِيطَةِ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وَعِيدًا لِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 مُوجِبَةً) لِحَظْرِ كَنْزِ الذَّهَبِ (عَلَى الْإِطْلَاقِ) وَحَظْرُ كَنْزِ الْفِضَّةِ عَلَى شَرْطِ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهَا وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ. وَأَيْضًا فَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] إلَى قَوْله تَعَالَى {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 35] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحْمَى عَلَيْهَا لِمَنْ كَنَزَهَا وَالذَّهَبُ (قَدْ) شَارَكَ الْفِضَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَدَلَّ (عَلَى) أَنَّ تَرْكَ الْإِنْفَاقِ رَاجِعٌ إلَيْهَا وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] فَعَطَفَ بِالْكِنَايَةِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرِّضَى (الْمَشْرُوطُ) مَشْرُوطٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى " وَرَسُولُهُ " مَتَى أَخْلَيْته مِنْ حُكْمِ هَذَا الْخَبَرِ افْتَقَرَ إلَى خَبَرٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ (خَبَرٌ) غَيْرُ الرِّضَى فَعَلِمْنَا أَنَّ رِضَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشْرُوطٌ (فِي ذَلِكَ) . وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا اقْتَصَرَ بِالْكِنَايَةِ عَنْ اللَّهِ دُونَ الرَّسُولِ لِأَنَّ رِضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى رِضَاءُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَ (قَدْ) قِيلَ فِيهِ أَيْضًا: إنَّمَا أَفْرَدَ الْكِنَايَةَ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمَ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي كِنَايَةٍ فَيُقَالُ يُرْضُوهُمَا، وَأَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ (ذِكْرُ) اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْوَاجِبُ التَّبْدِئَةُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ غَيْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ (مَا رُوِيَ) «أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مِنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» يَعْنِي بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَعْصِهِمَا لِأَنَّهُ جَمَعَ (بِقَوْلِهِ اسْمَ) اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمَ (الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِي كِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ الْكِنَايَاتِ مَا يَتَقَدَّمُهُ مَذْكُورَانِ فَيَرْجِعُ إلَى أَحَدِهِمَا تَارَةً ثُمَّ تَعْلُقُ بِهِ صِفَةٌ أُخْرَى أَوْ حُكْمٌ آخَرُ فَيَرْجِعُ إلَى الْآخَرِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] فَقَوْلُهُ تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَقَوْلُهُ) وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ مَا يَنْتَظِمُ مُسَمَّيَاتٍ بِحُكْمٍ مَذْكُورٍ لَهَا ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهَا بَعْضَ مَنْ شَمَلَهُ الِاسْمُ بِحُكْمٍ يَخُصُّهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ مَخْصُوصٌ فِيمَنْ عَطَفَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ اسْتَوْفَاهُ الِاسْمُ وَاقْتَضَاهُ الْعُمُومُ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَهَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ ثَلَاثًا فَمَا دُونَهَا وَفِي الْعَاقِلَةِ وَالْمَجْنُونَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ثُمَّ قَوْلُهُ) فِي سِيَاقِ الْآيَةِ {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِهِ الْعَاقِلَةُ دُونَ الْمَجْنُونَةِ وقَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ اعْتِبَارَ عُمُومِ أَوَّلِ الْخِطَابِ فِي سَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَهُنَّ وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالَ (فِي) قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَنَّهُ فِي الثَّلَاثِ وَفِيمَا دُونَهَا وقَوْله تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] وقَوْله تَعَالَى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] هُوَ عَامٌّ فِي الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ وَقَوْلُهُ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] فِي الرَّجْعِيِّ وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] عَائِدٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيَقْتَضِي ذَلِكَ صِحَّةَ وُقُوعِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْبَيْنُونَةِ وَالرَّجْعِيُّ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] عَامٌّ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وقَوْله تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] وَهَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] وَذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْ كَوْنُ أَوَّلِ الْخِطَابِ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ إذَا حَصَلَا عَلَى مَعْنًى يُوَاطِئُ حُكْمًا مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ] ِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ كُلُّ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُكْمٍ مَنُوطٍ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَعْضِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ وَرَدَتْ (السُّنَّةُ بِهِ) (فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ) مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْمِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] لَمَّا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْجِمَاعَ وَاللَّمْسَ بِالْيَدِ ثُمَّ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ الْجُنُبَ بِالتَّيَمُّمِ» فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَطَعَ السَّارِقَ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ هَذَا حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّارِقِ بَلْ قَالَ الْجَمِيعُ إنَّهُ حَكَمَ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ لَمَّا صَلَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ الْأُمَّةِ مَعْقُولَةً عَنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهِ (مَا) يَنْتَظِمُ ذَلِكَ وَيُوجِبُهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] {صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 53] فَكُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُ فَيَكُونُ عِبَارَةً عَنْهُ فَذَلِكَ حُكْمُ الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ بِهِ وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ حُكْمٌ لِبَعْضِ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا فَالْوَاجِبُ بِأَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِالْآيَةِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] (لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ) كَانَ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 22] لَمَّا احْتَمَلَ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ (ثُمَّ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَحْرُمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الْعَقْدُ انْتَفَى الْوَطْءُ) لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُرَادَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. قِيلَ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ حَقِيقَةً حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ وَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَيْهِ فَإِنَّمَا مَنَعَنَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُرَادًا. وَإِنْ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ. فَإِنْ قَالَ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] حَقِيقَةٌ فِي اللَّمْسِ بِالْيَدِ فَاحْمِلُوهُ عَلَيْهِ وَاجْعَلُوا الْجِمَاعَ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ كَمَا جَعَلْتُمْ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 22] عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْوَطْءُ وَلَمْ تَجْعَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعَقْدِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ بِوَجْهٍ وَكَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهَا مُتَعَلِّقًا بِهِ بِحَالٍ وَثَبَتَ أَنَّ الْجِمَاعَ مُرَادٌ بِهَا لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُنُبَ بِالتَّيَمُّمِ فَأَثْبَتْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ اللَّمْسِ بِالْيَدِ لِعَدَمِ السُّنَّةِ وَالِاتِّفَاقِ فِيهِ بَلْ قَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِخِلَافِهِ؛ وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ» فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] فَإِنَّ حَقِيقَةَ لَفْظِهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَطْءِ وَالِاتِّفَاقُ مَوْجُودٌ فِيهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يَحْرُمُ بِلَا خِلَافٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَطْءُ وَأَثْبَتْنَا تَحْرِيمَ الْعَقْدِ بِالِاتِّفَاقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ وَحُكْمِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ خِطَابٍ وَرَدَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَيْرُ خَالٍ مِنْ فَائِدَةٍ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 مَعْنَاهُ مَعْقُولًا (مِنْ لَفْظِهِ) وَمِنْهُ مَا يُفِيدُ حُكْمًا وَمَعْنًى يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي. وَمِمَّا يَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْقُولًا مِنْ لَفْظِهِ مَا يُفِيدُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ مَعْنًى لَيْسَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] قَدْ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بِعَيْنِهِ. وَأَفَادَ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ النَّهْيَ عَمَّا فَوْقَهُ مِنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77] {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124] فِيهِ نَصٌّ عَلَى نَفْيِ الظُّلْمِ فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] (وَقَوْلُهُ {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ} [آل عمران: 75] {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] نَصَّ عَلَى ذِكْرِ غَدٍ وَأَفَادَ الْأَمْرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ذَكَرَ السَّبْعِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كَثْرَةَ عَدَدِ الِاسْتِغْفَارِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وَنَحْوُ قَوْلِهِ {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] نَصٌّ مِنْهُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَالْمُرَادُ التَّضْعِيفُ لَا هَذِهِ الْأَعْدَادُ بِأَعْيَانِهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا وَهَذَا الضَّرْبُ (كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ) وَالسُّنَّةِ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ وَمُخَاطَبَاتِهِمْ وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ الْخِطَابِ الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ ذَا وَصْفَيْنِ فَخُصَّ أَحَدُهُمَا بِالذِّكْرِ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا خُصَّ بَعْضُ أَوْصَافِهِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ ذَا أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ فَقَوْلٌ ظَاهِرُ الِانْحِلَالِ وَالْفَسَادِ لَا يَرْجِعُ قَائِلُهُ فِي إثْبَاتِهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ لُغَةٍ وَلَا شَرْعٍ بَلْ اللُّغَةُ عَلَى خِلَافِهِ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ حُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا وَصْفَيْنِ فَخُصَّ أَحَدُهُمَا بِالذَّكَرِ أَوْ كَانَ ذَا أَوْصَافٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 كَثِيرَةٍ فَخُصَّ بَعْضُهَا بِالذِّكْرِ ثُمَّ عُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ وَيُعْزِي ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا وَكَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ أَوْصَافِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّهُ قَالَ إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} [الأحزاب: 50] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ مَعَهُ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ (وَكَانَ حَكَى أَبُو الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أَيْضًا) فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} [النور: 8] إنَّمَا فِيهِ النَّصُّ عَلَى دَرْءِ الْعَذَابِ عَنْهَا إذَا شَهِدَتْ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا إذَا لَمْ تَشْهَدْ لَا يُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 مَطْلَبٌ: وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. قَالَ: إذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ أَمِّنُونِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ إلَيْكُمْ عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ السَّبْيِ فِي قَرْيَةِ (كَذَا) فَأَمَّنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَنَزَلَ ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنْ لَمْ أَدُلَّكُمْ فَلَا أَمَانَ لِي فَلَمْ يَجْعَلْ مُحَمَّدٌ وُقُوعَ الْأَمَانِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ فَلَا أَمَانَ لَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ مَذْهَبِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ أَوْ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ عِنْدِي بَيْنَ أَصْحَابِنَا خِلَافٌ فِي جُمْلَةِ الْمَذْهَبِ وَقَدْ كُنْت أَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ شُيُوخِنَا يَقُولُ فِي الْمَخْصُوصِ بِعَدَدٍ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ. كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 مَا عَدَاهُنَّ وَكَقَوْلِهِ «أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُبَاحٍ. وَأَحْسَبُ مُحَمَّدَ بْنَ شُجَاعٍ الثَّلْجِيَّ قَدْ احْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا. وَلَسْت أَعْرِفُ جَوَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِذِكْرِ الْعَدَدِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِعَدَدٍ نَحْوِ قَوْلِهِ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . وَذِكْرُهُ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ مِثْلَهُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُرْهَا بِعَدَدٍ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ الرِّبَا فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ كَمَا قَالَ «خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ» . (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عَدَدٍ فِي أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ (فِيهِ) عَلَى حُكْمِ مَا عَدَاهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ دَلِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحْكَامِهِ ثُمَّ يُوجَدُ عَارِيًّا مِنْ مَدْلُولِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمِ دَلَالَتِهِ بِوَجْهٍ. وَهَذَا هُوَ وَصْفُ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّا وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَصَّ أَشْيَاءَ فَذَكَرَ بَعْضَ أَوْصَافِهَا ثُمَّ عَلَّقَ بِهَا أَحْكَامًا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُهُ إيَّاهَا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ بِخِلَافِهَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] . فَخَصَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ لِحَالِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ (حُكْمُ) النَّهْيِ فِي الْحَالَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . فَخَصَّ النَّهْيَ عَنْ الظُّلْمِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ وَمَعْلُومٌ صِحَّةُ النَّهْيِ عَنْهُ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَكْلُهَا بِحَالٍ وَإِنْ خَصَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 حَالَ الْإِسْرَافِ وَالْمُبَادَرَةِ لِبُلُوغِهِمْ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَذِيرٌ لِلْبَشَرِ وقَوْله تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ بِحَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَقَدْ وَافَقَنَا مُخَالِفُنَا عَلَى أَنَّ الْمُخْطِئَ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ. وَقَالَ (تَعَالَى) {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وَلَمْ يَنْتِفْ (بِهِ) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَائِدِ مَعَ ذِكْرِهِ الِانْتِقَامَ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَوَافَقَنَا الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُنَّ وَإِنْ لَمْ يُحْصَنَ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. فَلَمَّا وَجَدْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي شَرْطُهَا عِنْدَ مُخَالِفِنَا إيجَابُ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهَا بِخِلَافِ حُكْمِهَا ثُمَّ وَجَدْنَاهَا وَمَا عَدَاهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ التَّخْصِيصِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُهُ عَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ دَلِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَلِيلًا لَمَا وُجِدَتْ فِي حَالٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ مَدْلُولِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا كَقَوْلِكُمْ فِي الْعُمُومِ وَفِي الْعِلَلِ إنَّهَا مُوجِبَةٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الْأَحْكَامِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ وَقِيَامُ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ دَلَالَتِهِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ وَيُوجِبُهُ (فِيمَا لَا تَقُومُ) فِيهِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ رَضِينَا بِمَا اسْتَشْهَدْت بِهِ حُكْمًا فَإِنَّهُ مِنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَةً عَلَى فَسَادِ أَصْلِك. خَبِّرْنَا عَنْ لَفْظِ الْعُمُومِ هَلْ يَجُوزُ وُجُودُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمٍ أَصْلًا وَهَلْ يَصِحُّ وُجُودُ عِلَّةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ رَأْسًا. فَإِنْ قَالَ: لَا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ قِيَامِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ مِنْ أَنْ يَبْقَى مِنْ أَحْكَامِ الْعُمُومِ وَالْعِلَّةِ مَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ. قِيلَ (لَهُ) : أَفَلَيْسَ قَدْ وَجَدْت هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا إيجَابُ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِيهَا بِخِلَافِهِ فَهَلَّا اسْتَدْلَلْت بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ دَلِيلًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يُوجَدَ عُمُومٌ أَوْ عِلَّةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ رَأْسًا لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَا دَلَالَةً عَلَى الْحُكْمِ بِأَنْفُسِهِمَا. فَإِنْ قَالَ: دَلَالَةُ اللَّفْظِ قَائِمَةٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ فِيمَا عَدَاهُ الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَخْتَلِفْ فِي أَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْحُكْمِ مِمَّا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفْنَا فِي كَوْنِهِ دَالًّا عَلَى أَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ وَقَدْ جَازَ وُجُودُهُ غَيْرَ دَالٍّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَهَذَا الَّذِي تَبْطُلُ بِهِ قَاعِدَتُك. أَلَا تَرَى: أَنَّ اللَّفْظَ نَفْسَهُ لَمَّا كَانَ دَلَالَةً عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ وُجُودُهُ مُطْلَقًا عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى حُكْمِهِ. وَلَوْ قَدْ جَازَ وُجُودُهُ حَقِيقَةً فِي مَوْضِعِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ لِمَا وُضِعَ لَهُ لَمَا كَانَ (ذَلِكَ) دَلِيلًا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الْمَعْنَى وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ الْمُخَالِفِ لَنَا وَفِي ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ حَقِّ اللَّفْظِ إفَادَةُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْحُكْمِ وَدَلَالَةٌ عَلَى نَظَائِرِهِ وَإِلْحَاقُهَا بِحُكْمِهِ فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى خِلَافِ حُكْمِهِ فَهَذَا عَكْسُ الْمَعْنَى وَقَلْبُ الْوَاجِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مِنْ الْوَعِيدِ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَوْدُهُ عَلَى الْمُخْطِئِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وَهَذَا إغْفَالٌ مِنْهُ لِحُكْمِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ عَمَّ الْجَمِيعَ بِالْحُكْمِ فَقَالَ " وَمَنْ قَتَلَهُ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ (مِنْ النَّعَمِ) " لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ لِلْوَعِيدِ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مَانِعًا مِنْ عَوْدِهِ إلَى الْعَامِدِ دُونَ الْمُخْطِئِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ حُكْمُ عُمُومِ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَالْكَافِرَيْنِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاك لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8] . وَهَذَا فِي بَعْضِ مَا شَمَلَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ فَعَلِمْت أَنَّ ذِكْرَ الْوَعِيدِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ (غَيْرُ) مَانِعٍ إطْلَاقَ عُمُومِ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ فَدَلَّ مُوَافَقَةُ مُخَالِفِنَا عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ مَعَ تَخْصِيصِهِ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ، عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ أَوْصَافِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ يُحْكَمُ بِخِلَافِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ وُجِدَ لَفْظُ الْأَمْرِ مَوْضُوعًا لِلْإِيجَابِ ثُمَّ قَدْ يَرِدُ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ النَّدْبُ وَيَرِدُ أُخْرَى وَيُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ ثُمَّ قَدْ يَرِدُ وَلَا يُرَادُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الزَّجْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وَالْوَعِيدِ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 189] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] وَنَحْوَ ذَلِكَ لِلْإِيجَابِ وقَوْله تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] لِلنَّدْبِ وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] لِلْإِبَاحَةِ وقَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] زَجْرٌ وَتَهْدِيدٌ. ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ وُرُودُهُ عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ الْإِيجَابِ مِنْ (اقْتِضَائِهِ لِلْوُجُوبِ مَتَى خَلَا مِنْ دَلِيلٍ يَنْقُلُهُ مِنْ) حُكْمِهِ. كَذَلِكَ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ عَلَى حُكْمِ مَا عَدَاهُ عَلَى الْوَجْهِ قَوْلَةٌ صَحِيحَةٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ تُزِيلُهَا عَنْ مُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا. قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ افْعَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ تَارَةً عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ وَأُخْرَى عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ أَوْ الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ بَابُهَا وَحَقِيقَتُهَا الْوُجُوبَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ثُمَّ لَمْ يَخْلُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ جِهَةِ الْإِيجَابِ مِنْ أَنْ (يَكُونَ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا اللَّفْظُ (كَمَا يَبْقَى) حُكْمُ الْعُمُومِ بَعْدَ قِيَامِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ وَيَبْقَى حُكْمُ الْعِلَّةِ إذَا قَامَتْ دَلَالَةُ تَخْصِيصِهَا فِيمَا لَمْ يُخَصَّ مِنْهَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ افْعَلْ لِلْإِيجَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَالْإِيجَابُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ وَالنَّدْبُ مُعَلَّقٌ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَمِّ تَارِكِهِ وَالْإِبَاحَةُ مُعَلَّقٌ بِهَا وُقُوعُ الْفِعْلِ لَا عَلَى جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِفِعْلِهِ وَلَا الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ فَعَلَى أَيِّ حَالٍ تَصَرَّفَتْ صِيغَةُ (حَقِيقَةِ) الْأَمْرِ فَإِنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ مَتَى لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيجَابَ كَانَ مَجَازًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ فَجَازَ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى مَعْنَاهُ حَقِيقَةً وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ اعْتِبَارَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ الْمَجَازِ وَأَمَّا سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَتْ (فِيهَا) الْأَلْفَاظُ الْعَارِيَّةُ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى حُكْمِ اعْتِبَارِهَا بِخِلَافِ مُوجَبِ حُكْمِهَا فَإِنَّهَا حَقَائِقُ فِيهَا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] حَقِيقَةٌ فِي مَوْضِعِهِ لَيْسَ بِمَجَازٍ، ثُمَّ قَدْ وُجِدَ عَارِيًّا مِنْ حُكْمِهِ مُنْفَرِدًا عَنْ مَدْلُولِهِ عَلَى قَضِيَّتِك فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وَ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] (وَنَحْوَهَا فَإِنَّهُ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ضَرْبٌ مِنْ (التَّعَلُّقِ عَلَى وَجْهٍ وَهُوَ) (الزَّجْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعِيدُ) . (وَأَيْضًا) فَإِنَّهُ مَجَازٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي أَنْكَرْنَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً غَيْرَ دَالٍّ بِوَجْهِهِ عَلَى مَا جُعِلَ دَلِيلًا عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ دَالًّا عَلَى مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ (دَلِيلًا) عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا وَأَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّصِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِمَا وَأَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّصِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا فَمُبَاحٌ، وَكُلُّ مَا تَنُصُّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَهَذَا يُوجِبُ مَنْعَ الْقِيَاسِ لِأَنَّ وُرُودَ النَّصِّ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ إذَا كَانَ مُوجِبًا (لِإِبَاحَةِ التَّفَاضُلِ) فِيمَا عَدَاهَا وَكَانَ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِأَقَاوِيلِهِمْ أَنَّ هَذَا النَّصَّ قَدْ أَوْجَبَ الْحُكْمَ فِي نَظَائِرِهَا بِمِثْلِ مُوجَبِ حُكْمِهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ نَظَائِرَهَا مِمَّا عَدَاهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُهَا وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالِاسْتِحَالَةِ. ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ تَخْصِيصُ بَعْضِ أَوْصَافِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ (بِهِ) دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَتَى نَصَّ لَنَا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا أَنْ يَصِيرَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ نَاسِخًا لِحُكْمِ آخَرَ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فَوَجَبَ هَذَا عَلَى أَصْلِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ إبَاحَةُ الرِّبَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ثُمَّ قَوْلُهُ {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] مُطْلَقًا نَاسِخًا لِدَلَالَةِ الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] (وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى) {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقَوْله تَعَالَى {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19] لِأَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ الْأُولَى تَقْتَضِي إبَاحَةَ الظُّلْمِ فِيمَا عَدَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى تَحْظُرُ الظُّلْمَ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ لِأَنَّ إحْدَى الْآيَتَيْنِ فِي هَذَا تَرْفَعُ دَلَالَةَ الْأُخْرَى رَأْسًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا (عَلَى) وَجْهِ النَّسْخِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ نَسْخٌ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْأَصْلِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ وِجْهَتُهُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَتَنَاظَرُوا فِيهَا وَحَاجَّ فِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَارَةً بِالْعُمُومِ وَتَارَةً بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَتَارَةً بِالنَّظَرِ وَالْمُقَايَسَةِ وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَاجَّ صَاحِبَهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْحِجَاجِ أَوْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ فَكَيْفَ أَغْفَلُوا ذَلِكَ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُهُ، وَهُوَ مَعْنًى مَعْقُولٌ مِنْ لُغَتِهِمْ وَمَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ خِطَابِهِمْ فِي زَعْمِ الْمُخَالِفِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ فَقَالَ عُظْمُ الصَّحَابَةُ لَهَا النَّفَقَةُ وَأَبَى ذَلِكَ آخَرُونَ (مِنْهُمْ) فَكَيْفَ لَمْ يَحْتَجَّ نَافُوهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِ مَعْقُولٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ لَمْ يَسْتَدِلَّ الْمُوجِبُونَ لَهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِهَا وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِوَايَةَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إبْطَالِ (النَّفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ) وَقَالَ لَا نَدَعُ كِتَابَ (اللَّهِ) رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا (- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا أُنْسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا) فَكَيْفَ تَكُونُ (عِنْدَهُ) رِوَايَتُهَا لِذَلِكَ خِلَافَ الْكِتَابِ، وَدَلِيلُ الْكِتَابِ الْمَعْقُولُ مِنْ ظَاهِرِهِ يَنْفِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ، تُوجِبُونَهَا لِغَيْرِ الْحَامِلِ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ قَالَتْ ذَلِكَ وَلَمْ تَسْتَدِلَّ مِنْ اللَّفْظِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلَمْ نَقُلْ إنَّ تَخْصِيصَهُ الْحَامِلَ بِالذِّكْرِ يَنْفِي وُجُوبَهَا لِغَيْرِ الْحَامِلِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ادَّعَاهُ مُخَالِفُنَا لَكَانَ (لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ) يُوجَدَ عَنْ بَعْضِهِمْ (فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الِاسْتِدْلَال بِمِثْلِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِهِمْ) الِاسْتِدْلَال بِمِثْلِهِ لَمَا ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ وَلَا لَزِمَ الْقَوْلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ نَفَوْهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ كَانُوا أَيْضًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ اللِّسَانِ لَمَا خَفِيَ مَوْضِعُهُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ كَمَا لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ سَائِرُ وُجُوهِ دَلَالَاتِ الْكَلَامِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ خِطَابِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: (قَدْ «قَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا، فَقَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَصَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ بِحَالِ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَعَقَلَ عُمَرُ وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ دَلِيلِ الْآيَةِ نَفْيَ الْقَصْرِ فِي حَالِ الْأَمْنِ. (قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا إنَّ الْآيَةَ مَنَعَتْ الْقَصْرَ فِي حَالِ الْأَمْنِ) وَإِنَّمَا قَالَا: كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الْأَمْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] وقَوْله تَعَالَى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103] وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ ثُمَّ لَمَّا خَصَّ حَالَ الْخَوْفِ بِذِكْرِ الْقَصْرِ كَانَ (النَّصُّ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ الْقَصْرَ، فَكَيْفَ نَقْصُرُ وَهَلَّا كَانَ الْإِتْمَامُ وَاجِبًا بِسَائِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لَهُ. هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا سَأَلَا عَنْهُ (عِنْدَنَا) ، فَلَمَّا سَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ أَعْلَمَهُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ فِي الْحَالَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَالُ الْأَمْنِ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ بَلْ مِنْ جِهَةِ وَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ (قَدْ) قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَهُ - زَعَمَ - أَبُو عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ وَأَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ «بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» (قَالَ) فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يُرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 شِعْرًا» لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي هَجَى بِهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ أَبَاحَ الْقَلِيلَ قَالَ وَقَوْلُهُ «لَيُّ الْوَاجِدُ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ (لَيَّ) غَيْرِ الْوَاجِدِ بِخِلَافِ الْوَاجِدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ إنَّ الشَّافِعِيَّ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنَّهُ (قَدْ) قَالَ ذَلِكَ فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَإِنْ مَنْ يَلْجَأُ إلَى مِثْلِهِ فِي الْحِجَاجِ عَلَى مُخَالِفِيهِ فَمَا بَقِيَ غَايَةٌ فِي إفْلَاسِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: وَمَنْ قَالَ لَك إنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمَنْ حَكَى عَنْهُ مِنْهَا حَرْفًا يُحْتَجُّ بِهِ. فَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ لِأَنَّكُمْ ادَّعَيْتُمْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ ادَّعَاهُ هُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَعُوزُ أَحَدًا أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِأَصْحَابِهِ وَيَحْتَجَّ بِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الرَّجُلُ بِضَرْبٍ مِنْ الْعُلُومِ وَيُوصَفُ بِهِ بِحِكَايَةِ أَهْلِهِ عَنْهُ وَقَبُولِهِمْ قَوْلَهُ فِيهِ، كَمَا حَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا فِيمَا سَلَفَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وَإِنْ كَانَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ حُكْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مَأْخُوذًا مِنْ (أَهْلِ) اللُّغَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْ أَهْلِهَا غَيْرَ مُدَافَعٍ وَهُوَ غَيْرُ قَائِلٍ (بِمَا ذَكَرْتُمْ) وَلَمْ يَعْقِلْ مِنْهَا مَا وَصَفْتُمْ وَإِنَّمَا حِكَايَةُ (هَذَا) الْحَاكِي عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ فَإِنَّهَا حِكَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا وَالْحَاكِي لَهَا ذَلِكَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ. ، وَ (أَمَّا) مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَةِ (ذَلِكَ) أَبُو عُبَيْدٍ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ أَهْلُ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِمُسَمَّيَاتِهَا بِأَنْ (يَقُولُوا) إنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْ كَذَا بِكَذَا. فَأَمَّا الْمَعَانِي وَدَلَالَاتُ الْكَلَامِ فَلَيْسَ يَخْتَصُّ (أَهْلُ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَتِهَا) دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ذَلِكَ الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ أَهْلُ سَائِرِ اللُّغَاتِ فِي لُغَاتِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَبِيئَتِهَا وَلَا يَخْتَصُّ بِلُغَةِ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهَا كَسَائِرِ ضُرُوبِ الْكَلَامِ إذَا نُظِمَتْ ضَرْبًا مِنْ النَّظْمِ وَرُتِّبَتْ ضَرْبًا مِنْ التَّرْتِيبِ ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى لُغَةٍ أُخْرَى عَلَى نِظَامِهَا وَتَرْتِيبِهَا؛ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ أَهْلِ اللُّغَةِ الْمَنْقُولَةِ إلَيْهَا وَالْمَنْقُولَةِ عَنْهَا فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَاتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ اللُّغَةِ الْأُولَى فَإِذًا لَا اخْتِصَاصَ لِأَهْلِ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَقَوْلُهُمْ قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَاقِطٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ هُمْ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَعْقِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ حُكْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ أَيْضًا. وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ «فِي قَوْله تَعَالَى {إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَفِي تَجْوِيزِهِ انْسِلَاخٌ مِنْ الدَّيْنِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى (أَنْ) تَوَفَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ دَعَا النَّاسَ إلَى اعْتِقَادِ تَخْلِيدِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ وَأَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ قَطُّ غُفْرَانَ الْكُفْرِ فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَازَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ. وَقَدْ أَخْبَرَ (اللَّهُ تَعَالَى) عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ مَا قَالَ أَنَّهُمْ مَاتُوا (كُفَّارًا) بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80] فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ " هَذَا مَا لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَهُ وَلَا يُجَوِّزَهُ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَجُوزُ. وَإِنَّمَا الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ إذَا زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ لَزِدْتُ» وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ السَّبْعِينَ وَمَا فَوْقَهَا سَوَاءٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَبَدًا بَعْدَ مَوْتِهِمْ كُفَّارًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ {وَاغْفِرْ لِأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] فَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يُجِيزُ ذَلِكَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِيدَ الْكُفَّارِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَ اسْتِغْفَارِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] وَرُوِيَ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ كَانَ أَظْهَرَ لَهُ الْإِيمَانَ (فَاسْتَغْفَرَ لَهُ) فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَيْسَتْ لَهُ عَقِيدَةُ الْإِيمَانِ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا وَعِيدُ الْكَافِرِ بِالنَّارِ خَالِدًا مُخَلَّدًا (فِيهِ) فَقَدْ كَانَ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ مَا بُعِثَ فَيَسْتَحِيلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُجِيزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغُفْرَانَ لَهُمْ بِزِيَادَةِ الِاسْتِغْفَارِ عَلَى السَّبْعِينَ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مَا فَوْقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 السَّبْعِينَ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلَالَةِ فِي الْغُفْرَانِ أَوْ غَيْرِهِ. وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي السَّبْعِينَ لَا مَحَالَةَ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ بِأَنْ يَكُونَ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ أَنَّ حُكْمَ الْمَذْكُورِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ ثَابِتٌ وَمَا عَدَاهُ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الدَّلَالَةِ. وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ (عَلَى) الْمَذْكُورِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَذِكْرُ السَّبْعِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى جِهَةِ تَكْثِيرِ الْعَدَدِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] وَمَا دُونَهَا، وَ (مَا) فَوْقَهَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ وَفِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فَاقْتَضَى عِنْدَ الْجَمِيعِ كَوْنَ الْإِيمَانِ شَرْطًا فِيهَا وَعُقِلَ بِهَا أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنَةِ لَا تُجْزِئُ (وَقَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَدَلَّ عِنْدَ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُ لَا يُقْبَلُ) وَقَالَ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَأَوْجَبَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فَسَادَ نِكَاحِ مَا عَدَا الْأَرْبَعَ، وَقَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَمَا دُونَهَا لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَقَالَ تَعَالَى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَقَالَ تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَمَا دُونَهَا لَيْسَ بِحَدٍّ وَقَالَ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَادِيرِ الْمَحْصُورَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] تَخْصِيصٌ فِي الْحُكْمِ لَا الْمَحْكُومِ فِيهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَلَامُنَا فِي تَخْصِيصِ الْمَحْكُومِ فِيهِ بِالذِّكْرِ إذَا نُصِبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَحْكُومِ فِيهَا حُكْمُهُ بِخِلَافِ حُكْمِهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَخَصَّ الْمَحْكُومَ فِيهِنَّ ثُمَّ نَصَبَ عَلَيْهِنَّ الْحُكْمَ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» ، فَذَكَرَ الْحُكْمَ فِيهِ ثُمَّ نَصَبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فَخَصَّ حَالَ الْعَمْدِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فَإِنَّمَا فِيهِ تَخْصِيصُ الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَصَارَتْ صِفَةُ الْإِيمَانِ لِلرَّقَبَةِ مُوجَبَةَ الْأَمْرِ فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ وقَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (أَيْضًا لِأَنَّهُ) تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِصِفَةٍ قَدْ تَضَمَّنَهَا لَفْظُ الْإِيجَابِ فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ لِأَنَّ فِي تَجْوِيزِ أَقَلِّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إسْقَاطُ الْوُجُوبِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا} [النساء: 15] وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَإِنَّهُ أَعْلَمَنَا بَدْءًا جَمِيعَ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ النِّسَاءِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ تَفْسِيرًا لِجَمِيعِهِ فَلَمْ يَبْقَ مِمَّا أَحَلَّ (اللَّهُ تَعَالَى) شَيْئًا لَمْ يَذْكُرْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُجَاوَزَتُهُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ (حُكْمَهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ) فِي سِيَاقِ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] فَلَا يَجُوزُ بَقَاءُ حُكْمِ الْمُدَّةِ مَعَ حُصُولِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الْفَيْءَ وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي الْمُدَّةِ يُسْقِطُ التَّرَبُّصَ إذْ لَا يَمِينَ هُنَاكَ بَعْدَ الْحِنْثِ وَتَرْكُهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ هُوَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ وَالتَّرَبُّصُ مَعَهُ سَاقِطٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ عَزِيمَةً، فَصَارَ حُكْمُ مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ بِخِلَافِهِ فِي الْمُدَّةِ لِلدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا بِتَحْدِيدِ الْمُدَّةِ فَحَسْبُ. وقَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ عِدَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْمَقَادِيرِ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ (فَلَمَّا) لَمْ يَرِدْ التَّوْقِيفُ إلَّا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ (عَلَيْهَا) ، فَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ وَسَائِرِ الْمَقَادِيرِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فِي الْحُدُودِ أَنَّ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي يَرِدُ بِهِ التَّوْقِيفُ أَوْ يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْت مِنْ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ وَصِفَتِهِ فَهُوَ (وَاجِبٌ) لَازِمٌ وَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ حَدٌّ يَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ فَلَمْ يَجُزْ الزِّيَادَةُ فِيهَا إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا فِيهِ لِمَا عَدَا الْمَذْكُورَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورَ قَبْلَ وُرُودِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَلَمَّا وَرَدَ التَّوْقِيفُ فِي الْمَذْكُورِ بِالْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ (فِيهِ) أَخْرَجْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَتَرَكْنَا الْبَاقِيَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ وُرُودِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ. وَإِمَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورَ (بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ) . فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ فِيمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَمَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَجْعَلُوهُ مَوْقُوفًا وَعِنْدَكُمْ (أَنَّ) الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ نَسْخَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ تَقُولُوا حُكْمُهُ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى تَكُونَ الزِّيَادَةُ نَسْخًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ نَسْخًا وَقَدْ كَانَ حُكْمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ وُرُودِ الزِّيَادَةِ أَوْ نَفْيِهَا. قِيلَ لَهُ: لَوْ عَقَلْت مَا قَدَّمْنَا لَمْ تَسْأَلْ عَنْ هَذَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِنَا فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيصِ الْمَحْكُومِ فِيهِ بِبَعْضِ أَوْصَافِهِ إذَا نُصِبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي مِثْلِ حُكْمِهِ أَوْ بِخِلَافِهِ. فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ فَإِنَّمَا هِيَ كَلَامٌ فِي الْحُكْمِ نَفْسِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ كُلَّ حُكْمٍ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ وَلَا يَجْرِي عَلَى الْمَذْكُورِ الْوَاجِبِ غَيْرُ الْمَذْكُورِ مِمَّا لَيْسَ فِي صِفَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ نَحْوُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] (هُوَ تَخْصِيصٌ لِلْحُكْمِ وَمُقَيَّدٌ) بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَهَذَا عَلَى الْوُجُوبِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى غَيْرِ مُؤْمِنَةٍ، وَ (كَذَلِكَ) قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] إلَى قَوْله تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَقَوْلُهُ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] كُلُّ هَذَا تَقْيِيدٌ لِلْحُكْمِ بِصِفَةٍ وَقَدْ تَضَمَّنَهَا لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ وَلَا جَائِزٌ إسْقَاطُ الْعَدَدِ وَلَا إسْقَاطُ الصِّفَةِ بِحَالٍ لِمَا وَصَفْنَا. (وَنَحْوُ) قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (تَخْصِيصٌ لِلْحُكْمِ بِالْمِقْدَارِ) الْمَذْكُورِ (لَهُ) وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْحَدُّ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْحَدِّ غَيْرَ وَاقِعٍ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ وَهَذَا نَسْخٌ وَقَوْلُهُ {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] الْآيَةَ، مَتَى زِدْنَا فِيهِ النِّيَّةَ كَانَ زِيَادَةً فِي الْحُكْمِ الْوَاجِبِ الَّذِي اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِهِ وَهُوَ نَسْخٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ (النُّقْصَانُ أَوْ الزِّيَادَةُ) لَاحِقًا بِالْحُكْمِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ جَوَازَهُ فَهُوَ نَسْخٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْحُكْمِ، وَالتَّخْصِيصُ وَاقِعٌ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 نَسْخٌ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا الْمَخْصُوصَ قَدْ كَانَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] ، فَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْمَحْكُومِ فِيهِ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَلَى حُكْمِ غَيْرِ الْحَامِلِ لَا بِالْإِيجَابِ وَلَا بِالنَّفْيِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فِيهِ تَخْصِيصُ الْمَحْكُومِ فِيهِنَّ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَخْصِيصِ الْحُكْمِ، وَلَا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُنَّ لَيْسَ فِي حُكْمِهِنَّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] إنَّمَا فِيهِ تَخْصِيصُ الْقَاتِلِينَ بِالذِّكْرِ لَا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فَاسْتَدْلَلْتُمْ (بِهِ) عَلَى إسْقَاطِ الدِّيَةِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ وَخَصَصْتُمْ (بِهِ) عُمُومَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ فِي الْمَقْتُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وَفِي الْمَقْتُولِ مِنْ أَهْلِ (دَارِ) الْحَرْبِ إذَا كَانَ مُسْلِمًا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ (فِيهِ) عَلَى مَا ظَنَنْت لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَيْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] وَلَوْ كَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ الْأَوَّلُ لَمَا اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ لَمْ يَخُصَّهُ بِحُكْمٍ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً لِأَنَّ ذِكْرَ الرَّقَبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا لَهُ وَهُوَ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ بَدْءًا وَيَسْتَأْنِفُ لَهُ ذِكْرًا يَنْقُضُ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِعَيْنِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] لَمْ يَتَنَاوَلْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ} [النساء: 92] شَرْطٌ وَمُحَالٌ أَنْ يَذْكُرَ الْأَوَّلَ مُكَرَّرًا وَيَجْعَلَهُ نَفْسَهُ شَرْطًا مَعَ دُخُولِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ خِطَابِ الْآيَةِ ثُمَّ (وَجَبَ فِيهِ رَقَبَةٌ) عَلَى قَاتِلِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إيجَابُ شَيْءٍ غَيْرِهَا لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً فِي حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ (عَلَى) مَا تَقَدَّمَ (مِنَّا بَيَانُهُ) فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْلُومٌ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ وَتَعَارُفِهِمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا إنَّمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدِّرْهَمِ بِالدُّخُولِ فَإِنَّهُ (إنْ) لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 قِيلَ لَهُ: هَذَا عَلَيْك لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ عَقَلَ (مِنْهُ) أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ إعْطَاءِ الدِّرْهَمِ إذَا لَمْ يَدْخُلْهَا وَأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ الدُّخُولَ شَرْطًا لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الدِّرْهَمِ (وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطِيَهُ دِرْهَمًا مُتَبَرَّعًا بِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا إنَّ الدُّخُولَ شَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الدِّرْهَمِ) ، بِعَيْنِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِالدُّخُولِ لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ مَنَعَ الِاسْتِحْقَاقَ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ) لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ عَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ فَحُكْمُهُ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ فِي جَوَازِ الْإِعْطَاءِ أَوْ تَرْكِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» وَهَلْ هَذَا عِنْدَكُمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا صَدَقَةَ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ فَأَوْجِبُوا الصَّدَقَةَ فِي الْعَوَامِلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرٍ آخَرَ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» إذْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِشَرْطِ السَّوْمِ. قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَائِرِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالذِّكْرِ إذَا عُلِّقَ بِهَا حُكْمٌ وَأَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا صَدَقَةَ فِيهَا وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا صَدَقَةَ (غَيْرِ) السَّائِمَةِ بِدَلَائِلَ أُخَرَ وَإِلَّا فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا ذِكْرُ السَّوْمِ وَفِي الْآخَرِ إسْقَاطُهُ لَأَوْجَبْنَا الصَّدَقَةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الِاعْتِبَارُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ مُحَدَّدَةٌ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قِيلَ لَهُ: فَقَدْ تَرَكْت دَعْوَاك الْأُولَى فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَانْتَقَلْت إلَى أَنَّ افْتِقَارَ ذِكْرِ التَّخْصِيصِ إلَى الْفَائِدَةِ هُوَ الْمُوجِبُ لِمَا ذَكَرْت فَنَقُولُ لَك الْآنَ خَبَرْنَا عَنْك أَتَقُولُ إنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ التَّخْصِيصِ إلَّا دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ. فَإِنْ قَالَ: كَذَلِكَ أَقُولُ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْت هَذَا، وَ (مَا) أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَوَائِدُ أُخَرُ غَيْرُ مَا ادَّعَيْت. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَزْدَرِيَهُ وَيَضْرِبَهُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذَا اللَّفْظِ بِالذِّكْرِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] عَلَى أَنَّ لَنَا قَتْلَهُمْ إذَا لَمْ نَخْشَ الْإِمْلَاقَ. وَيَدُلُّ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي غَيْرِهِنَّ إذْ لَا فَائِدَةَ لِلتَّخْصِيصِ (بِالذِّكْرِ) إلَّا هَذَا، وَمَتَى أَخْلَيْنَا اللَّفْظَ مِنْ هَذِهِ الْفَائِدَةِ حَصَلَ ذِكْرُ التَّخْصِيصِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ (فِي) كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يُفِيدُ، فَإِذًا قَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ مَا ذَكَرَهُ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا جَعَلْنَا مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِدَلَالَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ. قِيلَ لَهُ: فَيَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَرِدَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَلَامٌ فِيهِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ ثُمَّ تَقُومُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَرْتَكِبُهُ مُسْلِمٌ وَيُقَالُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ التَّخْصِيصِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ إذَا قَدْ جَوَّزْت أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا بِالذِّكْرِ، وَلَا يَكُونُ فِي تَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِهِ فَائِدَةٌ. فَإِنْ قَالَ: لِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى، هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا. قِيلَ لَهُ: فَمَا أَنْكَرْت إلَّا أَنْ يَدُلَّ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَتَكُونُ فَائِدَتُهُ قَائِمَةً مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ (بِالتَّحْرِيمِ) وَهَاهُنَا أَشْيَاءُ أُخَرُ مُحَرَّمَةٌ غَيْرُهَا. وَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ وَهَذَا مَا هُوَ فِي حُكْمِهَا (مِمَّا) لَمْ يَذْكُرْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ فَوَائِدَ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا، وَ (عِنْدَنَا) أَنَّ جَمِيعَ مَا خُصَّ بِالذِّكْرِ وَنُصِبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ فَفِي تَخْصِيصِهِ أَجَلُّ الْفَوَائِدِ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا الْمَخْصُوصِ مَعْقُولًا مِنْ النَّصِّ وَمَا عَدَاهُ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِنَا وَأَلْزَمَنَا (بَعْدَ) ذَلِكَ طَلَبَ الدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمٍ غَيْرِهِ هَلْ هُوَ فِي مِثْلِ حُكْمِهِ أَوْ بِخِلَافِهِ لِيَظْهَرَ بِذَلِكَ فَضِيلَةُ الْمُسْتَنْبِطِينَ (وَمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْجَمِيعِ لَقَصَرَ بِنَا عَنْ رُتْبَةِ الْمُسْتَنْبِطِينَ) وَحُرِمْنَا بِهِ بُلُوغَ مَنْزِلَةِ النَّاظِرِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّهُمْ يَخُصُّونَ الْعُمُومَ بِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى مُخَالَفَةِ حُكْمِ مَا عَدَاهُ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْخِطَابِ فِي زَعْمِهِ كَمَا أَنَّ الْمُفَسَّرَ يَخُصُّ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ يَخُصُّ الظَّاهِرَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلَّا أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ (بَيَانَ) فَسَادِ هَذَا الْفَرْعِ إذَا سُلِّمَ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ فِي الْأَصْلِ. فَنَقُولُ لَهُمْ: لِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الدَّلِيلِ يَخُصُّ الظَّاهِرَ. فَإِنْ قَالَ: كَمَا أَخُصُّهُ بِلَفْظٍ غَيْرِهِ وَكَمَا أَخُصُّهُ بِالْقِيَاسِ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْت إنَّ هَذَا مِثْلُ الْقِيَاسِ وَمِثْلُ لَفْظٍ آخَرَ (هُوَ) أَخَصُّ مِنْهُ فَلَا مَلْجَأَ فِي ذَلِكَ (إلَّا) إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَلَيْسَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الدَّلِيلِ يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ عِنْدَك كَمَا يَجُوزُ فِي الْعُمُومِ فَلِمَ جَعَلْت الدَّلِيلَ حَاكِمًا عَلَى الْعُمُومِ دُونَ أَنْ تَجْعَلَ الْعُمُومَ حَاكِمًا عَلَيْهِ وَهَلَّا جَعَلْت أَقَلَّ أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَتَسَاوَيَا فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْضِيَ بِالْآخِرِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ عِنْدَك مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ قِيَاسٍ لَا يُوجِبُ حُكْمًا رَأْسًا وَيَجُوزُ وُجُودُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الدَّلِيلِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمِهِ عَلَى (نَحْوِ مَا مَرَّ) . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ هَلَّا جَعَلْت الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ عُمُومٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فِي شَيْءٍ (مِمَّا وَرَدَ بِهِ) وَقَدْ جَازَ وُجُودُ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهُ رَأْسًا فَهَلَّا جَعَلْت الْعُمُومَ قَاضِيًا عَلَيْهِ لِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ كَدَلِيلِك هَذَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعُمُومَ أَصْلٌ وَهَذَا فَرْعٌ عَلَيْهِ فَلِمَ تَرَكْت الْأَصْلَ بِهِ وَجَعَلْته أَوْلَى مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ كَمَا يَخُصُّ الْمُفَسَّرُ الْمُجْمَلَ فَإِنَّ الْمُفَسَّرَ مَذْكُورٌ وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقْضَى بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَعَلَى أَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا ذَلِكَ فَقَالُوا إنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ لَا يُحَرِّمُ حَتَّى تَكُونَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهُ كَانَ لَا يُحَرِّمُ إلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ مِمَّا يُتْلَى» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ» وَدَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ مَا زَادَ عَلَى الرَّضْعَتَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْخَمْسُ رَضَعَاتٍ وَيُجْعَلَ الْخَمْسُ فِي الْكَثِيرِ الَّذِي كَانَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ ثُمَّ نُسِخَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: خَبِّرْنَا عَنْ دَلِيلِك هَذَا إذَا عَارَضَهُ الْقِيَاسُ أَيُّهُمَا يَكُونُ أَوْلَى؟ . فَإِنْ قَالَ: هُوَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْت هَذَا وَهَلَّا جَعَلْت الْقِيَاسَ أَوْلَى مِنْهُ إذْ كَانَ (دَلِيلُك هَذَا) يَجُوزُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 التَّخْصِيصُ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ عِنْدَك فِي الْقِيَاسِ وَهَلَّا جَعَلْتهمَا مُتَسَاوِيَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فَيَسْقُطُ حُكْمُهُمَا جَمِيعًا. وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ هَذَا (الضَّرْبَ) مِنْ الدَّلِيلِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى الْمُخْطِئِ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَيُوجِبُ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ كَفَّارَةً قِيَاسًا وَدَلِيلُهُ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَخَصَّ الْمُخْطِئَ بِالذَّكَرِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَك يَنْفِي مُوجَبَ الْقِيَاسِ ثُمَّ جَعَلْت الْقِيَاسِ أَوْلَى مِنْهُ. فَإِنْ سَأَلَنَا سَائِلٌ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» هَلْ (دَلَّ) هَذَا الْقَوْلُ (مِنْهُ) عَلَى أَنَّ مَا لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 يَكُنْ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَبِخِلَافِ حُكْمِهِ. قُلْنَا لَهُ نَعَمْ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ (الْوَلَاءُ) اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يُشِرْ بِهِ إلَى مَعْهُودٍ فَيَتَنَاوَلُهُ دُونَ غَيْرِهِ. فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ انْتَظَمَ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ لِلْمُعْتِقِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» اسْمٌ لِلْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ بَيِّنَةٍ صَارَتْ عَلَى الْمُدَّعِي فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ تَكُونُ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعِي. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» يَتَنَاوَلُ جِنْسَ الْيَمِينِ الْوَاجِبَةِ (بِالدَّعَاوَى) فَصَارَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ يَمِينٌ تَكُونُ عَلَى الْمُدَّعِي وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فَتَنَاوَلَ كُلَّ صَدَقَةٍ فَمَا مِنْ صَدَقَةٍ إلَّا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي اللَّفْظِ مُوجَبَةٌ بِشَرْطِ الْغِنَى وَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الصَّدَقَاتِ لَا تَجِبُ (إلَّا) عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَنَّ الْفَقِيرَ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ صَدَقَةٌ لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا اللَّفْظُ فَتَكُونُ مَوْقُوفَةً فِي كَوْنِهَا عَلَى غَنِيٍّ أَوْ (عَلَى) فَقِيرٍ (فَمِنْ هَذِهِ) الْجِهَةِ تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ نَفْيَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَهَا عَمَّا عَدَاهَا لَا مِنْ جِهَةِ تَخْصِيصِهِ لَهَا بِالذِّكْرِ وَهَذَا وَاضِحٌ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْمُجْمَلِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ صِفَةَ الْمُجْمَلِ وَنُبَيِّنُ الْآنَ بِعَوْنِ اللَّهِ حُكْمَهُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ. فَنَقُولُ إنَّ الْمُجْمَلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهُ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] «وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 تُنْبِئُ عَنْ الْمَعَانِي الْمُرَادِ بِهَا فَيَكُونُ حُكْمُ مَا (كَانَ) هَذَا وَصْفَهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ. وَالضَّرْبُ الْآخَرُ مِنْهُ: مَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ فِي أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ فَيَنْتَظِمَ الْجُمْلَةَ حِينَئِذٍ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: لُزُومُ اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ فِي أَقَلِّهِ. وَالْآخَرُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَقَلِّ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْبَيَانِ، فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ بِمِقْدَارٍ أَكْثَرَ مِمَّا تَضَمَّنَ اللَّفْظُ وُجُوبَهُ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلُّوا وَصُومُوا وَحُجُّوا وَنَظَائِرِهِ. وَقَدْ عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ فَأَقَلُّ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ إيجَابَهُ صَلَاةً وَاحِدَةً وَصَوْمًا وَاحِدًا وَحَجًّا وَاحِدًا. وَلَا يَلْزَمُنَا فِي أَكْثَرَ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا مِقْدَارَ مَعْلُومٌ بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَاحْتَاجَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى الْبَيَانِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَعْطِ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ رِجَالًا بَعْدَ سَنَةٍ أَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَمَا زَادَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ تَنْفِيذِ الْأَمْرِ (هُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 عَشَرَةٌ) لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بَلْ بَيَانًا أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كَانُوا مُرَادِينَ بِهِ كَذَلِكَ إذَا وَرَدَ الْبَيَانُ بَعْدَ قَوْلِهِ صَلُّوا بِمَقَادِيرِ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ كَانَ فِي أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَيَقُولُ إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي مِثْلِهِ وُرُودُ الْبَيَانِ بِإِرَادَةِ الْأَكْثَرِ إنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِاسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَإِنَّمَا يَرِدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةً فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ صَلُّوا وَفِي عَدَدِ الرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ أَعْطِ رِجَالًا أَنَّهُ يَكُونُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ. قَالَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ تَنَاوَلَ صَلَاةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا تَنَاوَلَ رِجَالًا ثَلَاثَةً بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الْبَيَانِ فِيهِ بِإِرَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَلَا أَنَّهُ أَرَادَ رِجَالًا بِأَعْيَانِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِالْأَمْرِ فَلَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُ الْأَمْرِ إلَّا مَعَ اسْتِقْرَارِ الْعَدَدِ وَصِفَتِهِ. (فَأَمَّا إذَا) أَطْلَقَهُ وَلَمْ يَعْقُبْهُ بَيَانُ عَدَدِ الرِّجَالِ وَصِفَتُهُمْ وَأَعْدَادُ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرُهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْبَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلُّوا أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَتَى وَرَدَ بَعْدَهُ ذِكْرُ عَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَحُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ وَلَمْ يُوجِبْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ عَلَى حَسَبِ مَا نَقُولُهُ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ. قَالَ: لِأَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا إنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ الصَّلَوَاتِ كَمَا يَصْلُحُ لِمَا فَوْقَهَا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدَةُ لَا مَحَالَةَ فَلِمَ أَوْجَبْت بِهِ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى التَّعْلِيقِ بِالْبَيَانِ فَمَا أَنْكَرْت أَلَّا يَجِبَ بِهِ مَجِيءُ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمَوْقُوفِ (عَلَى الْبَيَانِ) لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ وَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى أَنْ يَرِدَ التَّفْسِيرُ وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَفْهُومًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 يَأْتِي بَعْدَهُ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ لِأَهْلِ الْخُصُوصِ وَالْوَقْفِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعُمُومَ كُلَّهُ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ إلَى تَفْسِيرٍ وَإِنَّ صُورَتَهُ صُورَةٌ تُوجِبُ التَّعْلِيقَ بِمَا، يَرِدُ مِنْ الْبَيَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاَلَّذِي حَصَلَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهٍ فَلَا إجْمَالَ فِيهِ أَصْلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ فِيهِ إنْ كَانَ مُرَادُهُ أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَضَى اللَّفْظُ وُجُوبَهُ وَاسْتِعْمَالَ حُكْمِهِ، وَأَنَّ الْمُجْمَلَ عِنْدَهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عَلَى وَجْهٍ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ الزَّوْجُ أَرَدْت ذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَالَ الزَّوْجُ كَذَلِكَ أَرَدْت وَقَعَتْ وَاحِدَةً فَجَعَلُوا لَفْظَ الْأَمْرِ مُخْتَصًّا بِأَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ وَجَعَلُوهُ مَعَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا لِلثَّلَاثِ لَوْلَا ذَلِكَ مَا عَمِلَتْ النِّيَّةُ فِي إرَادَتِهَا لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إيقَاعِ طَلَاقٍ لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا أَيْضًا فِيمَنْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التَّزْوِيجِ: أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي (تَزْوِيجَ) امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا أَكْثَرَ مِنْهَا فَإِنْ زَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدٍ (وَاحِدٍ) لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَمْرَ تَنَاوَلَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْأُخْرَى فَتَحْصُلُ الْمَنْكُوحَةُ الْمَأْذُونُ فِي نِكَاحِهَا مَجْهُولَةً وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَقَالُوا: فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى عَنَيْت امْرَأَتَيْنِ جَازَ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا فَقَدْ جَعَلُوا لَفْظَ الْأَمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 يَصْلُحُ لِمَا فَوْقَ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ إنَّمَا اقْتَضَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا قَدْ يَتَنَاوَلُ صَلَاةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا. فَلَمَّا كَانَ لِلِاحْتِمَالِ مَسَاغٌ فِي ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ الَّذِي يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ. وَمَتَى وَرَدَ فِيهِ الْبَيَانُ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ وَلَيْسَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ وَيَقَعُ عَلَيْهِ بِمَانِعٍ (مِنْ) أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَيَيْنِ مَعْنَى حُكْمٍ مَعْلُومٍ مَفْهُومِ الْمِقْدَارِ وَمَعْنَى الْإِجْمَالِ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَعْطِ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ رِجَالًا بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ حَيْثُ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْ الثَّلَاثَةِ وَعَمَّا فَوْقَهَا فَقَدْ عَقَلْنَا مِنْ اللَّفْظِ ثَلَاثَةً وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا زَادَ (مَوْقُوفًا) عَلَى بَيَانٍ يَرِدُ فِيهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ. فَإِنْ قَالَ (قَائِلٌ) : قَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا بَعْدَ سَنَةٍ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَهَلَّا اسْتَعْمَلْته فِيهِمْ وَمَنَعْت الْإِجْمَالَ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ الْإِجْمَالَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ قَدْ أَرَدْت بِالْإِعْطَاءِ ثَلَاثَةً وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَمَوْقُوفٌ الْحُكْمُ عَلَى الْبَيَانِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَقِيت رِجَالًا فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ اعْتِقَادُ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ وَيَجُوزُ وُرُودُ بَيَانٍ فِي الثَّانِي بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ عُمُومٍ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ بِاسْمٍ يَنْتَظِمُ جَمَاعَةً مِنْهُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ الْفِعْلُ فَحَسْبُ وَالْمَفْعُولُ غَيْرُ مَذْكُورٍ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَقَلَّ مَا أُرِيدَ بِهِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ. وَفِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ لِإِرَادَةِ أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا نِهَايَةَ لِلْأَكْثَرِ فَكَانَ مُجْمَلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وَأَمَّا لَفْظُ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا انْطَوَى تَحْتَهُ لَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ بِأَوْلَى (بِهِ) مِنْ بَعْضٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إجْمَالٌ إذْ لَا إجْمَالَ (فِيهِ) . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَ سَنَةٍ فَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ الْمُرَادِ ثَلَاثَةٌ وَمَا عَدَاهُمْ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ رِجَالَ الدُّنْيَا كُلَّهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ (بِهِ) بَعْضَهُمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ إجْمَالٌ لِمَا فَوْقَ الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ، وَلَوْ قَالَ أَعْطِ هَذَا رِجَالًا وَلَمْ يُوَقِّتْ لَهُ وَقْتًا وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ فِي الْحَالِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ. فَمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَفِي تَرْكِهِ الْبَيَانَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ إعْطَاءُ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الْحَالِ وَلَا يُمْكِنُهُ إنْفَاذُهَا فِي الْحَالِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. فَالثَّلَاثَةُ لَا مَحَالَةَ مُرَادَةٌ وَمَا زَادَ فَهُوَ (فِيهِ) بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ مِنْهَا وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ كَمَا أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعَيِّنَهَا فِيمَنْ شَاءَ مِنْ الْمُعْطَيْنَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ التَّعْيِينَ. وَمِمَّا يُشَاكِلُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] قَدْ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ كَوْنِهِمْ ثَلَاثَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْهَا وَيَحْتَمِلُ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَهَا ثَلَاثَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهُمْ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مُتَيَقَّنَةٌ وَالزِّيَادَةُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مُرَادَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك أَيَّامًا أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَعَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ أَعْطِ هَذَا رِجَالًا قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] لَمَّا أَلْزَمَهُ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ فِي الْعَشَرَةِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى بَيَانِ عَشَرَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِأَوْصَافٍ يَخُصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ بَلْ هُوَ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ. وَمَتَى وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَفْظٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْإِطْعَامِ فِي عَشَرَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ عَشَرَةٍ مَخْصُوصِينَ بِأَوْصَافٍ دُونَ غَيْرِهِمْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي حُكْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا تَرَاخَى عَنْ حَالِ لُزُومِ الْفَرْضِ وَإِمْكَانِ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالٌ بَلْ (هُوَ) مُوجِبٌ لِإِعْطَاءِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَيَّ مَسَاكِينَ كَانُوا فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 عَلَى مَا وَصَفْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا عَلَى حَسَبِ دَلَالَةِ الْحَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] لَا يَخْلُو (مِنْ) أَنْ يُرِيدَ بِهِ صَلَاةً مَعْهُودَةً قَدْ عَرَفُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَانْصَرَفَ الْأَمْرُ إلَيْهَا فَتَنَاوَلَ جَمِيعَ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ (عَلَى شَرَائِطِهَا وَأَوْصَافِهَا الْمَعْهُودَةِ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ إشَارَةً إلَى مَعْهُودٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ) فَهُوَ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ إذْ كَانَ قَدْ أُرِيدَ بِهَا (فِي) الشَّرِيعَةِ مَعَانٍ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُجْمَلٌ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ. وَأَمَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ أَلْفَاظِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَارَفَةِ الْمَعْهُودَةِ لَهَا فَإِنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا اسْتَقَرَّتْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ مِنَّا إذَا قَالَ لِآخَرَ صَلِّ الظُّهْرَ وَصُمْ رَمَضَانَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ مُرَادُ الْقَائِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 [بَاب حُكْمُ الْكَلَامِ الْخَارِجِ عَنْ سَبَبٍ] ٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ كَلَامِ خَرَجَ عَنْ سَبَبٍ فَالْحُكْمُ لَهُ لَا لِلسَّبَبِ فَإِذَا كَانَ أَعَمَّ مِنْ السَّبَبِ وَجَبَ اعْتِبَارُ حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ سَبَبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ السَّبَبَ وَيَجْعَلُ حُكْمَ السَّبَبِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عُمُومًا فِي نَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا خَطَأٌ إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى السَّبَبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إزَالَتِهِ عَنْ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ خَارِجًا عَلَى سَبَبٍ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ وَالِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهِ عَلَى سَبَبِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِنْزَالِهِ الْحُكْمَ بَيَانَ حُكْمِ السَّبَبِ وَحُكْمَ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ هَذَا السَّبَبِ كَمَا يَنْزِلُ حُكْمًا عَامًّا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ تَقَدَّمَ. فَإِذًا لَيْسَ فِي نُزُولِهِ عَلَى سَبَبٍ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى السَّبَبِ فَإِنَّمَا خَصَّ اللَّفْظَ وَأَزَالَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وَقَدْ اعْتَبَرَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِأَقَاوِيلِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ عَلَى أَسْبَابٍ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ. وَالْحُكْمُ عَامٌّ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْمِلَّةِ. وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَوْمًا مُرْتَدِّينَ مُحَارِبِينَ وَمِنْهُ آيَةُ الظِّهَارِ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَكَانَ عُمُومًا فِي سَائِرِ النَّاسِ وَكَانَ سَبَبُ آيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الْقَذْفِ الْقَوْمُ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَحَكَمَ بِكَذِبِهِمْ إنْ لَمْ يُقِيمُوا بَيِّنَةً عَلَى (صِدْقِ) مَقَالَتِهِمْ وَقَذْفِهِمْ وَهُوَ حُكْمٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْقَاذِفِينَ. وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا ذُكِرَ مَعَهُ السَّبَبُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ أَنْ يُفْطِرُوا بَعْدَ النَّوْمِ لَيْلًا فَنَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ ثُمَّ أَفْطَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَسَاقَ فِيهَا الْقِصَّةَ وَالسَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَزَلَتْ ثُمَّ قَالَ {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] إلَى قَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ عَامَّةٌ فِيمَنْ اخْتَانَ نَفْسَهُ، وَ (فِي) غَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] إلَى قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فَذَكَرَ قِصَّتَهُمْ وَسَبَبَ نُزُولِ (هَذِهِ) الْآيَةِ ثُمَّ كَانَ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ عَامًّا عَلَى مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فَذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي أَبَاحَ تَرْكَ قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ الْمَرَضِ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَالْحُكْمُ عَامٌّ فِيمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَفِي غَيْرِهِمْ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلِاسْمِ لَا لِلسَّبَبِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: خُرُوجُ الْكَلَامِ عَلَى سَبَبٍ كَخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْجَوَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَا صَارَ جَوَابًا عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ بَلْ (هُوَ) عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْهُ مَا يَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ لَفْظَ عُمُومٍ يَنْتَظِمُ مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ وَغَيْرَهُ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ جَارٍ عَلَى اللَّفْظِ إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ. وَالثَّانِي: هُوَ مَا (لَا) يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَاقْتَصَرَ إلَى تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ فَهَذَا حُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْجَوَابِ. نَظِيرُ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وقَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُكْتَفِيَةِ بِنَفْسِهَا عَنْ تَضْمِينِهَا بِغَيْرِهَا مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا هِيَ جَوَابٌ عَنْهُ. وَعَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى الْجَوَابِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ قَوْله تَعَالَى {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] (فَقَوْلُهُمْ نَعَمْ) ، لَا يُفِيدُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْجَوَابِ فَصَارَ مَعْنَاهُ مُطَابِقًا لِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ لَا زَائِدًا وَلَا نَاقِصًا وَصَارَ الْجَوَابُ مُضْمَرًا فِيهِ وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إنَّهُ عُمُومٌ فِي كُلِّ مَا تُرِكَتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِ عَامِدًا وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْمَيْتَةِ حِينَ جَادَلَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا لَهُمْ تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا قَتَلَهُ اللَّهُ فَلَمْ نَعْتَبِرْ السَّبَبَ وَأَجْرَيْنَا الْحُكْمَ عَلَى اللَّفْظِ وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ إنِّي أَرَى الشَّيْءَ فِي السُّوقِ ثُمَّ يَطْلُبُهُ مِنِّي طَالِبٌ فَأَبِيعَهُ ثُمَّ أَشْتَرِيهِ فَأُسْلِمَهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» فَهَذَا عُمُومٌ فِي كُلِّ بَيْعٍ لِمَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا تَرَكْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وَقَدْ يَجِيءُ مِنْ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ كَمَا يَخُصُّ سَائِرَ الْعُمُومِ بِالدَّلَائِلِ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] عُمُومُهُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ (هُنَاكَ) شَيْءٌ مُحَرَّمٌ غَيْرُ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِيمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَهُ مِنْ السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ صَارَ تَقْدِيرُهُ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] مِمَّا يُحَرِّمُونَهُ إلَّا كَيْتَ وَكَيْتَ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَاهُنَا أَشْيَاءَ أُخَرَ مُحَرَّمَةٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَنَحْوِهَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَا يُطْرَحُ فِيهَا مِنْ الْمَحَايِضِ وَلُحُومِ الْكِلَابِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا كَانَ حَالُهُ حَالَ هَذَا الْبِئْرِ فَهَذَا حُكْمُهُ. لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ عُمُومَ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ لُحُومُ الْكِلَابِ وَالْمَحَايِضُ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْبِئْرَ كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا ذَلِكَ ثُمَّ نُظِّفَتْ فَأُخْرِجَ مَا فِيهَا «فَسُئِلَ عَنْ الْمَاءِ الْحَادِثِ بَعْدَ النَّزْحِ وَالتَّطْهِيرِ فَقَالَ أَنَّهُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» وَهُوَ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجِنْسَيْنِ مُتَفَاضِلًا فَقَالَ إنَّمَا الرِّبَا فِي مِثْلِهِ فِي النَّسِيئَةِ» . وَمَتَى كَانَ الْجَوَابُ أَخَصَّ مِنْ السُّؤَالِ فَالْحُكْمُ لَهُ لَا لِلسُّؤَالِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] فَقَوْلُهُ مَاذَا أُحِلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 لَهُمْ سُؤَالٌ أَعَمُّ مِنْ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الْجَوَابَ وَغَيْرَهُ وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْحَلَالَ الَّذِي قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، وَذَلِكَ أَخَصُّ مِنْ السُّؤَالِ. وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ «عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الْحَائِضِ فَقَالَ لَك مِنْهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ» فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ اعْتِبَارُ عُمُومٍ مِنْ السُّؤَالِ فِي الْإِبَاحَةِ بَلْ يَجِبُ اعْتِبَارُ لَفْظِ الْجَوَابِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِمَثَابَتِهِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 [الْبَابُ السَّابِعَ عَشَرَ فِي حَرْفِ النَّفْيِ إذَا دَخَلَ عَلَى الْكَلَامِ] بَابٌ حَرْفُ النَّفْيِ مَا حُكْمُهُ إذَا دَخَلَ عَلَى الْكَلَامِ؟ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَرْفُ النَّفْيِ قَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ وَيُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْأَصْلِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] وقَوْله تَعَالَى {فَالْيَوْمُ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] ، وَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» وَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» ، وَ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] فَنَفَاهَا بَدْءًا ثُمَّ أَثْبَتَهَا ثَانِيًا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ يَعْنِي لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَافِيَةً يَفُونَ بِهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، وَ «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» ، وَ «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَ «لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» . وَنَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: لَوْ كُنْتَ مِنْ أَحَدٍ يُهْجَى هَجَوْتُكُمْ ... يَا بْنَ الرِّقَاعِ وَلَكِنْ لَسْتَ مِنْ أَحَدِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَوَدَّ نَفْيَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَّسِمًا بِذَلِكَ وَمَعْدُودًا مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ وَأَنَّهُ أَحَدُهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ لَسْتَ مِنْ أَحَدٍ يُؤْبَهُ لَهُ وَيُعْتَدُّ بِهِ. فَقَدْ ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ قَدْ يُنْفَى بِهِ الْأَصْلُ تَارَةً وَالْكَمَالُ أُخْرَى مَعَ ثَبَاتِ الْأَصْلِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ نَفْيَ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ وَمَتَى أَرَادَ إيجَابَ النَّقْصِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ فَقَدْ دَلَّ لَا مَحَالَةَ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْهُ قَدْ ثَبَتَ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ كَامِلٍ وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ. لِأَنَّا مَتَى قُلْنَا إنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ نَاقِصَةٌ فَقَدْ أَثْبَتْنَا مِنْهَا شَيْئًا نَاقِصًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالنُّقْصَانِ إذْ كَانَ النُّقْصَانُ هُوَ فَوَاتَ الْبَعْضِ مَعَ ثَبَاتِ الْأَصْلِ. فَثَبَتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا مِنْ نَفْيِ الْأَصْلِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ مَا بَعْدَ هَذَا مِنْ حُكْمِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. فَقَالَ قَائِلُونَ: اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْآخَرِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا فَغَيْرُ جَائِزٍ الْحُكْمُ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْتَظِمَهَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ نَحْوُ الْقُرْءِ الْمُحْتَمِلِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَنَظَائِرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِنَفْيِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْهُ بِنَفْيِ الْكَمَالِ وَإِنَّمَا الْحَمْلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ بِدَلَالَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 قَالُوا لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ نَفْيُ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيَنْفِي جَمِيعُهُ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْبَعْضِ بِدَلَالَةٍ. وَ (قَدْ) قَالَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» إنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ لَمْ يَخْلُ الْحَدِيثُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ وَهْمًا أَوْ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ شَرْطِ الْوُضُوءِ لَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ كَنَقْلِهَا الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَلَأَمَرُوا مَنْ لَمْ يُسَمِّ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَدَلَّ قَوْلُهُ أَنَّ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ الظَّاهِرِ (إذْ) الَّذِي (يَقْتَضِيهِ) ظَاهِرُ اللَّفْظِ هُوَ نَفْيُ الْأَصْلِ، وَ (أَنَّهُ) إنَّمَا صَارَ إلَى نَفْيِ الْكَمَالِ بِدَلَالَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ الْفِعْلِ يَقْتَضِي نَفْيَهُ رَأْسًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35] وقَوْله تَعَالَى {َلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 162] وَهَذَا ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ مِنْ اللَّفْظِ فِي دُخُولِهِ عَلَى الِاسْمِ أَيْضًا كَقَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ (وَلَا حَوْلَ) وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وقَوْله تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ، وَ {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] ، وَ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61] قَدْ اقْتَضَى نَفْيَ جَمِيعِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 مِنْهُ وَلَا يَحْتَاجُ السَّامِعُ فِي الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِوُقُوعِ نَفْيِ الْأَصْلِ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ. وَكَذَلِكَ عُقِلَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ وَلَيْسَ عِنْدَ فُلَانٍ مَالٌ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ اقْتَضَى نَفْيَ الْجَمِيعِ وَلَا يَحْتَاجُ السَّامِعُ (لَهُ) إلَى اسْتِفْهَامِ الْقَائِلِ فِي إرَادَةِ نَفْيِ الْكَمَالِ أَوْ الْأَصْلِ بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْهُ نَفْيُ الْأَصْلِ. وَأَيْضًا: فَلَمَّا كَانَتْ حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ وَمَوْضُوعُهُ النَّفْيَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْجَمِيعِ أَوْلَى بِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ نَفْيِ الْبَعْضِ كَلَفْظِ الْعُمُومِ وَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمَعَانِي تَقْتَضِي إفَادَةَ جَمِيعِ مَا وُضِعَ لَهُ وَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْهُ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 [الْبَابُ الثَّامِنَ عَشَرَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ. فَالْحَقِيقَةُ مَا سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَمَوْضُوعِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وَالْمَجَازُ (هُوَ) مَا يَجُوزُ بِهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَسُمِّيَ بِهِ مَا لَيْسَ الِاسْمُ لَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحُدُّ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا لَا يَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهِ بِحَالٍ. وَالْمَجَازُ مَا يَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهِ بِحَالٍ. نَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّا إذَا سَمَّيْنَا الْجَدَّ أَبًا وَالْأَبَ الْأَدْنَى أَبًا فَإِنَّ اسْمَ الْأَبِ قَدْ يَنْتَفِي عَنْ الْجَدِّ بِحَالٍ بِأَنْ نَقُولَ لَيْسَ هَذَا بِأَبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ عَنْ الْأَبِ الْأَدْنَى. وَالْمَجَازُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا: إطْلَاقُ اللَّفْظِ مَعَ حَذْفِ كَلِمَةٍ يُرِيدُهَا وَلَمْ يَلْفِظْ بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وَمَعْنَاهُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَحَذَفَ الْأَوْلِيَاءَ وَهُوَ يُرِيدُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الْمَنَافِعُ، وَ (لَا) الْمَضَارُّ وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وَمَعْنَاهُ (وَ) اسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَكَانَتْ الْقَرْيَةُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ، وَمُحَالٌ مَسْأَلَةُ الْجُدْرَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ يُسَمَّوْنَ قَرْيَةً إذَا كَانُوا فِيهَا. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ مَتَى أَشَرْنَا إلَى رِجَالٍ فِي الْقَرْيَةِ أَنْ نَقُولَ هَؤُلَاءِ قَرْيَةٌ نُرِيدُ بِهِ الرِّجَالَ دُونَ الْبُنْيَانِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ إطْلَاقًا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ (وَلَكَانَ جَائِزًا) أَنْ يُسَمَّى هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْقَرْيَةِ فَنَقُولُ إنَّهُمْ قَرْيَةٌ لِأَنَّ الِاسْمَ لَهُمْ حَقِيقَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْفِي الْمَجَازَ وَأَنْ لَا يَمْنَعَ خُرُوجُهُمْ مِنْهَا إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ قَرْيَةٌ كَمَا لَا يَمْنَعُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ رِجَالٌ حَيْثُ كَانُوا فَدَلَّ امْتِنَاعُ إطْلَاقِ اسْمِ الْقَرْيَةِ عَلَى جَمَاعَةِ رِجَالٍ أَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَكُونُ اسْمًا لِلرِّجَالِ بِحَالٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] اقْتَضَى إضْمَارَ أَهْلِهَا وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ (حَرْفِ لَيْسَ) مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَمُرَادُهُ لَيْسَ مِثْلُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عَنْ مِثْلِهِ إذْ هُوَ (تَعَالَى) لَا مِثْلَ لَهُ فَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهُ رَأْسًا وَأَنَّ مَعْنَاهُ (أَنْ) لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ كَنِصْفِ الْجَفْنَةِ وَالْكَافُ زَائِدَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِوَضْعِ (لَفْظٍ) مَكَانَ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { [039 056] أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ يُعَبَّرُ عَنْ الْأَمْرِ بِالْجَنْبِ، وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إبْرَاهِيمَ (خَلِيلِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه) {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وَأَرَادَ بِهِ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فَعَبَّرَ عَنْ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ يَكُونُ مِنْ الْعِبَادِ وَقَالَ تَعَالَى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] يَعْنِي لُغَةً لِأَنَّ اللُّغَةَ بِاللِّسَانِ تَظْهَرُ. «وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ خَطَبَنِي أَبُو الْجَهْمِ فِي جُمْلَةِ مَنْ خَطَبَهَا فَقَالَ أَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَإِنَّهُ رَجُلٌ لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ» يَعْنِي أَنَّهُ يَضْرِبُ النِّسَاءَ فَجَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ عِبَارَةً عَنْ الضَّرْبِ وَقَدْ عُقِلَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِضَرْبِ النِّسَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] يَعْنِي عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ مَنْ عَنِيَ أَمْرًا عَظِيمًا شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ. وَمِنْهُ مَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فَيُحْذَفُ حَرْفُ التَّشْبِيهِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بِالْمُرَادِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا وَأَبْصَرُوا وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَإِنَّك شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ ... إذَا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ يَعْنِي أَنَّك كَالشَّمْسِ. وَقَالَ آخَرُ: وَكُنَّا حَسَبْنَا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً ... لَيَالِيَ لَاقَيْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ ... بِبَعْضٍ أَبَتْ عِيدَانُهُ أَنْ تَكَسَّرَا سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهِ ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا فَقَالَ كُنَّا حَسَبْنَا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً فَهُمْ مَا حَسِبُوا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً قَطُّ. وَالْمَعْنَى مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ مُرَادَهُ وَكُنَّا كَمَنْ حَسِبَ كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً فِي إقْدَامِنَا عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ (وَ) طَمِعْنَا فِيهِمْ وَاسْتِهَانَتُنَا بِأَمْرِهِمْ ثُمَّ قَالَ قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْرَعُوا النَّبْعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ ذَلِكَ قَطُّ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّا لَمَّا قَارَعْنَاهُمْ وَجَالَدْنَاهُمْ ثَبَتُوا لَنَا تَشْبِيهًا بَعِيدَانِ النَّبْعِ إذَا قُرِعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَا تَنْكَسِرُ لِصَلَابَتِهَا ثُمَّ قَالَ سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهِ وَمَا كَانَ هُنَاكَ كَأْسٌ وَلَا سَقْيٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ قَتَلْنَا مِنْهُمْ وَقَتَلُوا مِنَّا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا يَعْنِي أَجْرَأَ مِنَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] يَعْنِي فَمَا أَجْرَأَهُمْ لِأَنَّهُ لَا صَبْرَ لِأَحَدٍ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَكَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الشَّاعِرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَهِيَ مَجَازٌ وَهِيَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَجَيِّدِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الْحَقِيقَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْهُ أَنْ يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُجَازَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمَهُ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ إذَا وَقَعَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] . وَلَيْسَ (ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ اسْتِهْزَاءً) فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ حِينَ أَخْبَرَ عَنْ جَزَاءِ الِاسْتِهْزَاءِ سَمَّاهُ بِاسْمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَالْجَزَاءُ لَيْسَ تَشْبِيهًا وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ فِي مُقَابَلَتِهَا وَمُسْتَحَقَّةً مِنْ أَجَلِهَا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ الْجَزَاءُ بِالْجَزَاءِ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِجَزَاءٍ فَسَمَّاهُ بِاسْمِ مَا يُقَابِلُهُ. وَمِمَّا يُسَمَّى بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلْمُجَاوَرَةِ أَوْ لِأَنَّهُ (مِنْهُ) بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ لِلْمَزَادَةِ (وَ) السِّقَاءِ رَاوِيَةٌ وَالرَّاوِيَةُ اسْمٌ لِلْجَمَلِ الَّذِي يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ: تَمْشِي مِنْ الرِّدَّةِ مَشْيَ الْجَفْلِ ... مَشْيَ الرَّوَايَا بِالْمَزَادِ الْأَثْقَلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 سُمِّيَتْ بِاسْمِ الْجَمَلِ لِلْمُجَاوَرَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلشَّاهِ الَّتِي تُذْبَحُ عِنْدَ حَلْقِ رَأْسِ الصَّبِيِّ عَقِيقَةٌ. وَالْعَقِيقَةُ اسْمٌ لِلشَّعْرِ نَفْسِهِ فَسُمِّيَتْ الشَّاةُ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ (هُوَ) سَبَبَهَا. وَمِنْهُ الْغَائِطُ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنْ الْأَرْضِ وَكَانُوا يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ فِي مِثْلِهِ فَسُمِّيَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِهِ لِقُرْبِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى جِهَةِ الْكِنَايَةِ. وَمِنْهُ الْجِمَاعُ كُنِّيَ عَنْهُ بِاللَّمْسِ (وَ) بِالدُّخُولِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] فَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فِي اللُّغَةِ وَرُبَّمَا كَانَ الْمَجَازُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغَ وَأَحْسَنَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ فِيهِ وَهَذَا مَا لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِشَيْءٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ وَقَدْ وَضَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ كُتُبًا فِي الْمَجَازِ وَقَالُوا هَذَا (اللَّفْظُ) مَجَازٌ وَهَذَا حَقِيقَةٌ مَشْهُورٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ (مُتَعَارَفٌ) مُتَعَالَمٌ بَيْنَهُمْ. وَرُبَّمَا سُمِّيَ الشَّيْءُ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لَهُ بِحَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَعْتَبِرُ الْمُخَاطَبُ بِهِ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ كَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَانْظُرْ إلَى إلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] يَعْنِي الَّذِي فِي زَعْمِك أَنَّهُ إلَهُك وقَوْله تَعَالَى {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ} [هود: 101] يَعْنِي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ بِأَنَّهُمْ آلِهَتَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {ذُقْ إنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] يَعْنِي إنَّك كُنْت فِي زَعْمِك كَذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَقَدْ أَبَى بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي (ذَلِكَ) بِغَيْرِ دِرَايَةٍ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي اللُّغَةِ اسْتِعَارَةٌ وَأَجَازَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَمَنَعَ لَفْظَ الِاسْتِعَارَةِ وَأَعْطَى الْمَعْنَى وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ هُوَ الْآخِذُ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. فَيُقَالُ لَهُ: فَقَدْ أَعْطَيْتنَا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا أُطْلِقَ (عَلَى) جِهَةِ التَّشْبِيهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ التَّحْقِيقُ فَكَأَنَّك إنَّمَا خَالَفْتنَا فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَعْنَى وَالْمُضَايَقَةُ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ الْمُدَافَعَةِ عَلَى الْمَعْنَى لَا وَجْهَ لِلِاشْتِغَالِ بِهَا. وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي ذَلِكَ إنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الِاسْتِعَارَةِ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا لَفْظَةً حَقِيقَةً فِي مَوْضِعٍ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ سَمَّوْهُ مَجَازًا تَارَةً وَاتِّسَاعًا أُخْرَى (وَاسْتِعَارَةً أُخْرَى) لِيُفِيدُوا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ إطْلَاقُهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ إفْهَامًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَسَمَّوْهُ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ لِغَيْرِهِ فِي الْأَصْلِ وَسُمِّيَ هَذَا بِاسْمِهِ وَلَنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَعَارَ شَيْئًا لِأَنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ النَّاسَ اللُّغَاتِ (وَهَدَاهُمْ إلَيْهَا) . وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] . وَقَالَ {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وَكَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَاتِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ خَاطَبَنَا بِمَا فِي لُغَتِهَا مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ سَمَّوْا ذَلِكَ اسْتِعَارَةً بِوَاجِبٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ اسْتَعَارَ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ خَاطَبَنَا بِمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ فِي اللُّغَةِ وَمَجَازٌ وَاتِّسَاعٌ فِيهَا لَا عَلَى حَقِيقَةِ مَوْضُوعِهَا فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ فِي أَلْفَاظِ الْمَجَازِ أَنَّ طَرِيقَهَا السَّمْعُ وَمَا وَرَدَ مِنْهَا فِي اللُّغَةِ، وَلَيْسَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى بِهَا مَوَاضِعَهَا الَّتِي تَكَلَّمَتْ الْعَرَبُ بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ اللَّهَ وَيَقْتُلُونَ اللَّهَ وَيُرِيدُ (بِهِ) يَضْرِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ أَوْلِيَاءَهُ لِأَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] وَمُرَادُهُ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ (اللَّهِ) فَلَا يُسْتَعْمَلُ الْمَجَازُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَحُكْمُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ أَبَدًا حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ. وَالْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِمَا سَمَّيْته مَجَازًا وَبِالْحَقِيقَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهَا فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ مَا سَمَّيْته حَقِيقَةً إنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكَلَّمَتْ بِهِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَكُنْ الْحَقِيقَةُ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْعَرَبَ إنْ تَكَلَّمَتْ بِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ تَكَلَّمَتْ بِهِ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ثُمَّ تَجَاوَزَتْ ذَلِكَ فَسَمَّتْ بِهِ مَا لَيْسَ الِاسْمُ لَهُ فِي الْأَصْلِ تَشْبِيهًا بِهِ وَاتِّسَاعًا فِي لُغَتِهَا (وَ) اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ فَلَمْ تُسَمِّ ذَلِكَ حَقِيقَةً. فَأَفَدْنَا بِقَوْلِنَا حَقِيقَةً أَنَّهُ اسْمٌ لَهُ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَسُمِّيَ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَيُفِيدُ بِقَوْلِنَا مَجَازًا أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ غَيْرِهِ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ لَا (نَتَعَدَّى بِهَا) مَوَاضِعَهَا وَلَا يَجْرِي عَلَى غَيْرِهَا وَإِنْ شَارَكَتْ الْأَوَّلَ فِي مَعَانِيهِ فَإِنْ كُنْت إنَّمَا أَنْكَرْت اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى فَإِنَّا لَا نُضَايِقُك فِي اللَّفْظِ سَمِّهِ أَنْتَ بِمَا شِئْت بَعْدَ أَنْ تُوَافِقَ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كُنْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 إنَّمَا خَالَفْت (بِهِ) فِي الْمَعْنَى رَدَدْنَاك إلَى اللُّغَةِ وَأَرَيْنَاك صِحَّةَ مَا ادَّعَيْنَاهُ فِيهَا بِمَا لَا يُمْكِنُك دَفْعُهُ مَتَى أَنْصَفْت نَفْسَك وَحَكَّمْت عَقْلَك وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا وَذِكْرُ جَمِيعِهِ يَعْجِزُ عَنْهُ الْكِتَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ يَكُونُ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَتَنَاوَلُ ضِدَّيْنِ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمَا وَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ. وَقَدْ ذَكَرَ قُطْرُبٌ النَّحْوِيُّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا نَحْوُ الْجَوْنِ أَنَّهُ اسْمٌ (لِلْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ) وَالْمَسْجُورُ اسْمٌ لِلْفَارِغِ وَالْمَلْآنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. (وَ) مِمَّا يَكُونُ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ نَحْوُ الْقُرْءِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لِلْحَيْضِ مَجَازٌ لِلطُّهْرِ وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ لِلْعَقْدِ وَقَدْ أَبَى بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْهَذَيَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 مِنْ أَنْ يُمْكِنَ أَحَدًا دَفْعُهُ وَإِنَّمَا تَنَاوَلَ هَذَا الرَّادُّ عَلَى قُطْرُبٍ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَعَانٍ بَعِيدَةٍ مُتَعَسِّفَةٍ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ (الْكَرْخِيُّ) يَقُولُ فِي اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي أَضْعَافِ مَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَبَيَّنَّا قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَمَتَى وَرَدَ لَفْظٌ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا احْتَجْنَا إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا وَلَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ بِأَوْلَى (بِهِ) مِنْ الْآخَرِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ كَانَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُحْكَمُ (مَا) لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ مَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وَسَبِيلُ الْمُتَشَابِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ وَيُرَدَّ إلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْفِقْهِ كَثِيرٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّشْدِيدِ.، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَقْدَ الْيَمِينِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ بِأَنْ يَكُونَ قَاصِدًا إلَى الْيَمِينِ فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ لِمَا قَصَدْتُمُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ. وَتَقْدِيرُ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ، هِيَ الَّتِي تُعْقَدُ عَلَى حَالٍ مُسْتَقْبَلَةٍ فَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ. فَوَجَبَ حَمْلُ مَا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فَجَعَلَ الْمُحْكَمَ أُمًّا لِلْمُتَشَابِهِ وَأُمُّ الشَّيْءِ هِيَ مِنْهَا ابْتِدَاؤُهُ وَإِلَيْهَا مَرْجِعُهُ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا ... فِيهَا مَقَابِرُنَا وَفِيهَا نُوأَدُ فَسَمَّاهَا أُمًّا لَنَا مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنْهَا ابْتِدَاءُ خَلْقِنَا وَإِلَيْهَا مَرْجِعُنَا. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ انْقِطَاعَ الدَّمِ لَا يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ غَيْرَهُ وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِانْقِطَاعِ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ وَتَطَهَّرَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَاحْتَمَلَ أَيْضًا الِاغْتِسَالَ فَلَمَّا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ انْقِطَاعُ الدَّمِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] إنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا عَطْفَهَا عَلَى الْغَسْلِ وَقِرَاءَةَ الْخَفْضِ تَحْتَمِلُ عَطْفَهَا عَلَى الْغَسْلِ وَتَكُونُ مَخْفُوضَةً بِالْمُجَاوَرَةِ وَيُحْتَمَلُ (عَطْفُهَا) عَلَى الْمَسْحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فَلَمَّا احْتَمَلَتْ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ وَجْهَيْنِ وَلَمْ تَحْتَمِلْ قِرَاءَةُ النَّصْبِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ مَعْنَى الْخَفْضِ مَحْمُولَةً عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فَتَكُونُ الرِّجْلُ مَغْسُولَةً. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ذَكَرْت أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ وَالْمُحْكَمَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] فَسَمَّى الْجَمِيعَ مُتَشَابِهًا وَلَيْسَ الْجَمِيعُ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُوهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ بَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فَجَعَلَ الْبَعْضَ مُتَشَابِهًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] أَنَّ بَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ كَمَا قَالَ مَثَانِيَ وَإِنَّمَا بَعْضُهُ مَثَانِي لَا جَمِيعُهُ وَهِيَ سُوَرٌ مَعْدُودَةٌ. وَقِيلَ إنَّهُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُك} [الأنعام: 66] وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» وَإِنَّمَا أَرَادَ كُفَّارَ مُضَرَ دُونَ مُؤْمِنِيهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وَأَيْضًا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ مُتَشَابِهًا أَيْ مُتَمَاثِلًا غَيْرَ مُخْتَلِفِ الْمَعْنَى اخْتِلَافَ تَضَادٍّ وَإِنْ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] يَعْنِي اخْتِلَافَ التَّضَادِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ بَلْ كُلُّهُ مُتَّفِقُ الْمَعْنَى فِي الْإِتْقَانِ. وَالْحِكْمَةُ وُجْهَةُ الدَّلَالَةِ وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] (مَعْنَاهُ) مُتَشَابِهَاتٌ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُحْكَمَ مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهُ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ (فَيَجِبُ) حِينَئِذٍ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ الْمَعْنَى وَيُشْبِهُهُ دُونَ مَا يُخَالِفُهُ وَكَذَلِكَ يَجِبُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي كُلِّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي ذِكْرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَكَذَلِكَ مَا احْتَمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُجَوِّزُهُ الْعَقْلُ، وَالثَّانِي لَا يُجَوِّزُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ (دُونَ مَا لَا يَجُوزُ) لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ بِهِ اعْتِبَارُ مَا يَجُوزُ مِمَّا لَا يَجُوزُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 [بَاب الْقَوْلُ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا وَرَدَتْ آيَةٌ عَامَّةٌ تُوجِبُ حُكْمًا وَوَرَدَتْ آيَةٌ خَاصَّةٌ تُوجِبُ حُكْمًا بِضِدِّ مُوجَبِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 أَمَّا أَنْ يُعْلَمَ وُرُودُ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ (حُكْمِ الْعَامَّةِ) وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ يُعْلَمَ نُزُولُ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا ثُمَّ نُزُولِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَهَا. أَوْ يَعْلَمُ وُرُودُهُمَا مَعًا مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ. أَوْ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُ نُزُولِهَا. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مُتَقَدِّمًا وَيَرِدَ الْخُصُوصُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ لِبَعْضِ مَا اقْتَضَاهُ بِقَدْرِ مَا قَابَلَهُ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَصَّ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ الْآيَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَقِرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَرِدُ لَفْظُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 التَّخْصِيصِ " (الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ) بِضِدِّهِ (إلَّا) عَلَى وَجْهِ نَسْخِ ذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ بِدَلَالَةِ أَنَّ «هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ» فِي الْمُسْلِمِينَ. «وَقَالَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ اللِّعَانِ» فَنُسِخَ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ نَسْخٌ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى قَدْ أُرِيدَ بِهَا عُمُومُ الْحُكْمِ وَقْتَ وُرُودِهَا فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 الْمُسَمَّيَاتِ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ (فِيهِ) إلَّا مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْعُمُومِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُقْتَضَى لَفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ (بِهِ) لِجَهْلِهِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَ لَفْظُ الْخُصُوصِ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ ثُمَّ وَرَدَ الْعُمُومُ بِضِدِّ مُوجَبِ حُكْمِ الْخُصُوصِ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا يُوجِبُ نَسْخَ مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْخُصُوصِ مِنْ الْحُكْمِ مَتَى لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخُصُوصِ (وَكَذَا) كَانَ يَحْكِي شَيْخُنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى " فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً " مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ. وَقَالَ مُخَالِفُنَا بِتَرْتِيبِ الْعُمُومِ وَبِنَائِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: إنَّ الْعُمُومَ حُكْمُهُ فِيمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ وَهُوَ فِيمَا وَصَفْنَا مُوجِبٌ لِنَفْيِ حُكْمِ الْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُهُ فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْخُصُوصِ (وَذِكْرُ غَيْرِهِ مَعَهُ لَا يَنْفِي أَنْ) يَكُونَ (مَا قَابَلَ) الْخُصُوصَ مِنْهُ مَذْكُورًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْخُصُوصِ نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217] . وقَوْله تَعَالَى {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ وَهُوَ خَاصٌّ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ مِنْ وَقْتٍ فَأَوْجَبَتْ نَسْخَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِاشْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَى قَتْلِهِمْ عَامَّةً مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ مِنْهُ فِيهِ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَظْرِهِ فِيهِ مَنْسُوخًا بِهِ. فَإِذَا وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِعُمُومِ لَفْظٍ تَنَاوَلَ إبَاحَتُهُ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُ مُرَتَّبًا عَلَى الْخُصُوصِ بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَيْهِ نَاسِخًا (لَهُ) كَمَا يَنْسَخُهُ لَوْ أَبَاحَهُ مُنْفَرِدًا بِذِكْرِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَيْضًا: فَمِنْ حَيْثُ كَانَ وُرُودُ الْخُصُوصِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْعُمُومِ نَاسِخًا لِمَا قَابَلَهُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ الْوَارِدُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخُصُوصِ نَاسِخًا لَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا يَسُوغُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيمَا ذَكَرْت إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ لَفْظُ خُصُوصٍ بِخِلَافِ حُكْمِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمًا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ؟ لِأَنَّ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْخُصُوصِ لَا يَجُوزُ نَسْخُهٌ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا (وَبَيْنَك) فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ لَوْ أُفْرِدَ بِهِ، فَقُلْنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ إفْرَادِهِ بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْحُكْمِ يُوجِبُ نَسْخَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ نَسْخِهِ بِلَفْظِ عُمُومٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. وَإِذْ جَازَ نَسْخُهُ فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ اعْتِبَارَ الْعُمُومِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ بِإِيجَابِ نَسْخِهِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ بَعْدَ الْخُصُوصِ لَفْظٌ يُقَابِلُ الْخُصُوصَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ عُمُومٍ يَنْتَظِمُ الْخُصُوصَ وَغَيْرَهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا أَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي عَلَى مِقْدَارِ مَا يُقَابِلُ الْخُصُوصَ الْمُتَقَدِّمَ كَانَ نَاسِخًا لَهُ فَهَلَّا لَزِمْت هَذَا الِاعْتِبَارَ فِي إيجَابِ نَسْخِهِ إذَا ذُكِرَ مَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ (وَيَزِيدُ) عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ الْحُكْمَ الْخَاصَّ مُتَيَقَّنٌ بِثُبُوتِهِ، وَنَسْخُهُ بِالْعَامِّ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بِالشَّكِّ. قِيلَ (لَهُ: مَا) مَعْنَى قَوْلِك إنَّ الْحُكْمَ الْخَاصَّ مُتَيَقَّنٌ ثُبُوتُهُ أَعَنَيْت بِهِ أَنْ كَانَ مُتَيَقَّنًا قَبْلَ وُرُودِ الْعَامِّ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بِخِلَافِهِ أَوْ أَرَدْت أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بَعْدَ وُرُودِ الْعَامِّ؟ . فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت أَنَّهُ كَانَ مُتَيَقَّنًا قَبْلَ وُرُودِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا مَا (لَا) يُخَالِفُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ مَوْضُوعَ الْمُنَازَعَةِ فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 انْتِفَاءِ نَسْخِهِ بِالْعُمُومِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَرَدْت أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بَعْدَ وُرُودِ الْعُمُومِ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فَكَأَنَّك إنَّمَا ذَكَرْت صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي مِنْهَا الْخِلَافُ وَجَعَلْتهَا دَلَالَةً عَلَى نَفْسِهَا. فَإِنْ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ مُتَيَقَّنًا وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهُ. قِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ مَا قُلْت وَالْأَوَّلُ إنَّمَا كَانَ (مُتَيَقَّنًا مُتَّفَقًا) عَلَى ثُبُوتِهِ قَبْلَ وُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِ بَعْدَ وُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ بِخِلَافِهِ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ (عَلَيْهِ) إذَا حَقَّقْت عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ إلَّا إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ. ثُمَّ يُقَالُ (لَهُ) : مَا أَنْكَرْت أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعُمُومِ لَمَّا كَانَ مُتَيَقَّنًا أَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ بِمَا تَقَدَّمَ لَفْظُ الْخُصُوصِ بِالشَّكِّ. فَإِنْ قَالَ: لَا يَكُونُ مُوجَبُ حُكْمِ الْعُمُومِ مُتَقَدِّمًا مَعَ تَقَدُّمِ لَفْظِ الْخُصُوصِ. قِيلَ لَهُ: وَلَا يَكُونُ بَقَاءُ حُكْمِ الْخُصُوصِ مُتَيَقَّنًا مَعَ وُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بِخِلَافِهِ. فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ الْخُصُوصَ مَعَ الْعُمُومِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَةِ ثَابِتَ الْحُكْمِ مَعَهُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الْخُصُوصِ بَعْدَ وُرُودِ الْعُمُومِ بِخِلَافِهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ؟ . فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي إثْبَاتِ النَّسْخِ إسْقَاطَ أَحَدِهِمَا، وَاسْتِعْمَالُهُمَا جَمِيعًا أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 قِيلَ لَهُ: وَفِي بِنَاءِ الْعُمُومِ عَلَيْهِ إسْقَاطُ حُكْمِ الْعُمُومِ (فِيمَا قَابَلَ الْخُصُوصَ مِنْهُ فَلِمَ جَعَلْت إسْقَاطَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ حُكْمِ الْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ) . ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَ حُكْمِ الْعُمُومِ فِيمَا لَمْ يُقَابِلْ الْخُصُوصَ عَنْهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِاسْتِعْمَالِ الْخُصُوصِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ (الِاسْتِعْمَالُ فِيمَا) تَعَارَضَ فِيهِ لَفْظُ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِك إنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّك لَمْ تَسْتَعْمِلْ مِمَّا قَابَلَ الْخُصُوصَ مِنْ لَفْظِ الْعُمُومِ شَيْئًا (قَطُّ) فَصَارَ مَا قَابَلَ الْعُمُومَ مِنْ لَفْظِ الْخُصُوصِ كَخَبَرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْآخَرِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْآخِرِ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَنْسُوخًا بِهِ وَكُلُّ مَا اعْتَلَّ بِهِ خَصْمُنَا (فِيهِ لِإِثْبَاتِ) الْخُصُوصِ عُورِضَ بِهِ بِمِثْلِهِ فِي إثْبَاتِ مَا قَابَلَهُ مِنْ الْعُمُومِ ثُمَّ يَكُونُ لِقَوْلِنَا مَزِيَّةٌ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْعُمُومِ لَيْسَتْ لَهُ فِي إثْبَاتِ الْخُصُوصِ وَهِيَ وُرُودُهُ بَعْدَهُ وَأَلَّا يَقْضِي عَلَى الْأَوَّلِ وَيَنْسَخُهُ، وَالْأَوَّلُ (لَا) يَقْضِي عَلَى الْآخَرِ فَصَارَ الْعُمُومُ أَوْلَى. ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ بِنَاءَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ يَنْقُلُ لَفْظَ الْعُمُومِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ وَيَجْعَلُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِمُوجَبِهِ فِيمَا عَدَا الْخُصُوصَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُوجِبًا (لِلْعِلْمِ بِمُقْتَضَاهُ) وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُهُ وَفِي وُجُوبِ حَمْلِ لَفْظِ الْعُمُومِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَامْتِنَاعِ صَرْفِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 إلَى الْمَجَازِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا احْتَمَلَ الْعَامُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَامِّ وَجَبَ حَمْلُ مَا فِيهِ احْتِمَالٌ عَلَى مَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: (إنَّ) قَوْلَك إنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ غَلَطٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ حُكْمُهُ فَلَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الِاحْتِمَالُ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يَصْلُحُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ وَيَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا بِهِ جَمِيعًا مِثْلُ الْقُرْءِ الْمُحْتَمِلِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ. ، وَأَمَّا الْعُمُومُ فَمُنْتَظِمٌ لِجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ فَلَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْعُمُومُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا قُلْت إنَّ الْخُصُوصَ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْعُمُومِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ الِاحْتِمَالِ وَانْفَصَلْنَا نَحْنُ مِنْكُمْ بِوُرُودِ الْعُمُومِ بَعْدَ الْخُصُوصِ وَكَوْنُهُ نَاسِخًا لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. ، وَذَكَرَ بَعْضُ مِنْ احْتَجَّ عَلَى عِيسَى بْنِ أَبَانَ فِي هَذَا الْبَابِ أَلْفَاظًا مِنْ الْعُمُومِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخُصُوصِ رَامَ بِهَا دَفْعَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَمِنْهَا مَا فَسَادُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَشْفِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِيهِ يَسْقُطُ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ نَحْنُ نَذْكُرُهُ ثُمَّ نَشْرَعُ فِي بَيَانِ خَطَئِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَتَى بِهِ عَلَى حِيَالِهِ وَتَوْضِيحِ أَنَّ أَكْثَرَهُ مَوْضُوعٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَنَقُولُ: إنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الرَّجُلُ لَوْ سُلِّمَ (لَهُ) عَلَى حَسْبِ مَا ادَّعَاهُ لَمْ يَكُنْ (فِيهِ) دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا (لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ) بِنَاءَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فَنَسْتَعْمِلُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فِي حَالٍ إذَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَنَقْضِي بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فِي حَالٍ أُخْرَى فَنُوجِبُ نَسْخَهُ (بِهِ) فَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيمَا ذَكَرَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرَ لَوْ قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ (بِحَالٍ) فَهَذَا يَسْقُطُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ إلَّا أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ الْإِبَانَةَ عَنْ خَطَئِهِ فِيمَا أَوْرَدَهُ. فَمِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا الرَّجُلُ قَوْله تَعَالَى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] قَالَ فَهَذَا عَامٌّ وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وَهَذَا خَاصٌّ قَضَى عَلَى الْعَامِّ، فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَا لَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا نَقْضِي بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ وَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا فَإِنَّا قَدْ نَبْنِي الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ إذَا قَامَتْ (دَلَالَتُهُ) . ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يُوجِبُ خُصُوصَهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141] وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْإِسْرَافِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصِهَا بِغَيْرِهَا. وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] (قَالَ) فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ عَفْوِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَنَسِيَ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا تَخْصِيصٌ كَانَ بِدَلَالَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» وَأَنَّهُ لَمْ يَنْسَخْهُ قَوْلُهُ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَوْقُوفُ الْمَعْنَى عَلَى الدَّلَالَةِ فَقَوْلُهُ فَلْيُصَلِّهَا (إذَا ذَكَرَهَا) مَعْنَاهُ مَا تَكُونُ صَلَاةٌ فِي الشَّرْعِ وَمَنْ فَعَلَهَا بِغَيْرِ طَهُورٍ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ» بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ مَا هِيَ إلَّا تَخْصِيصٌ (فِيهِ) . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا أَمْرٌ بِقَضَاءِ (الْفَائِتَةِ) ، وَالْفَائِتَةُ إنَّمَا كَانَتْ صَلَاةً بِطَهَارَةٍ وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً قَبْلَ فَوَاتِهَا إلَّا بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا لَمْ تَكُنْ صَلَاةً إلَّا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَسَائِرُ شَرَائِطِهَا فَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ الْفَوَاتُ فَأَيُّ تَخْصِيصٍ فِي ذَلِكَ إذَا جَمَعْنَا إلَى ذَلِكَ شَرْطَ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 قَالَ هَذَا الرَّجُلُ: وَبِالذَّهَابِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ خَاصَمَتْ قُرَيْشٌ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] حَتَّى وَرَدَ {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ فِي جِهَةِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] لَمْ يَتَنَاوَلْ قَطُّ غَيْرَ الْأَصْنَامِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّ " مَا " فِي اللُّغَةِ لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ " وَمَنْ " لِلْعُقَلَاءِ فَمَنْ اعْتَرَضَ (عَلَيْهِ) بِعِبَادَةِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَقَدْ تَعَسَّفَ وَذَهَبَ عَنْ (مَعْنَى) الْآيَةِ. ، وَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ (هَذَا) اللَّفْظَ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْأَصْنَامِ وَلَكِنَّهَا اعْتَرَضَتْ بِمَا ذَكَرَتْ مِنْ عِبَادَةِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ مُتَعَنِّتِينَ لَهُ فَقَالَتْ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ (اللَّهِ) فَقَدْ يَجِبُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ لِأَنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إنَّ الْأَصْنَامَ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ (وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ) تَعْيِيرًا لِلْكُفَّارِ وَإِظْهَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وَلَيْسَ يَجِبُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَصْنَامَ مَعَ عَبَدَتِهَا فِي النَّارِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ (الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ) (لِأَنَّهُمْ) مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ لَمْ يَدَعْهُمْ وَمَا اعْتَرَضُوا بِهِ حَتَّى أَنْزَلَ {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] وَعَلَى أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ الْجَنَّةَ خَبَرٌ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ فِي مَخْبَرِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] خَبَرٌ وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ عُمُومٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ كَمَا يَكُونُ الْعُمُومُ مُرَتَّبًا عَلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ. ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ تَرْتِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ عَقَدْنَا فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ جَوَازَ ذَلِكَ بِدَلَالَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] لَمْ يَرِدْ إلَّا مُرَتَّبًا عَلَى مَا فِي الْعَقْلِ مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ تَعْذِيبِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي الْآخِرَةِ. وَذَكَرَ أَيْضًا «قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] حِينَ دَعَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : وَهَذَا عَلَيْهِ دَلَالَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] قَاضٍ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ خَاصٌّ فَأَعْلَمَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الْعَامَّ قَاضٍ عَلَى الْخَاصِّ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا هَذَا الرَّجُلُ إنَّمَا يَطُولُ بِهَا الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلٍ وَلَا فَائِدَةٍ. لِأَنَّ النُّكْتَةَ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْبَابِ أَنَّ الْعَامَّ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَاصِّ بِدَلَالَةٍ وَقَدْ يُقْضَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ (التَّرْتِيبِ) وَكُلُّ مَوْضِعٍ بُنِيَ فِيهِ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ دَلَالَةٍ أَوْجَبَتْهُ. ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي نَحْوِ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وَوقَوْله تَعَالَى {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكِتَابِيَّاتِ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 سَلَفَ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُمُومًا لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا إنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا عِلْمُ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّا إنَّمَا رَتَّبْنَا الْعَامَّ عَلَيْهِ لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُ نُزُولِهِمَا. ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وقَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلَى آخِرِهِ وقَوْله تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وقَوْله تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] . ، وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا وَجَبَ فِيهِ التَّرْتِيبُ لِدَلَائِلَ أَوْجَبَتْهُ، وَاعْتِرَاضُ مُخَالِفِنَا عَلَيْنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ كَاعْتِرَاضِ نُفَاةِ الْعُمُومِ بِالْآيِ الَّتِي ظَوَاهِرُهَا الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَى نَفْيِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فَقُلْنَا لَهُمْ إنَّ الْأَصْلَ الْعُمُومُ وَصِرْنَا إلَى الْخُصُوصِ بِدَلَالَةٍ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلِمَةِ الْحَقِيقَةُ (وَلَا تُصْرَفُ) إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. كَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَا (قَدْ) ذَكَرْنَا أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ الْمَقَالَةِ بِمَا وَصَفْنَا. ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَرَيْتُمُونَا فِيهِ التَّرْتِيبَ فَإِنَّمَا رَتَّبْنَاهُ بِدَلَالَةٍ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْمَقَالَةِ كَمَا لَا يَقْدَحُ وُجُودُ لَفْظٍ مُرَادُهُ الْخُصُوصُ فِي أَصْلِ الْقَوْلِ فِي الْعُمُومِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عُمُومًا قَضَى عَلَى الْخُصُوصِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] إلَى آخِرِهَا وقَوْله تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] عُمُومٌ نُسِخَ بِهِ حَظْرُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ قَدْ خَالَفَنَا فِيهِ جَمِيعًا وَزَعَمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءِ بْنِ رَبَاحٍ. ، وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» عَامٌّ نُسِخَ بِهِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَقَوْلُهُ {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} [البقرة: 240] وَجَمِيعُ ذَلِكَ خَاصٌّ نَسَخَهُ الْعَامُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء: 11] اقْتَضَى وَصِيَّةً مَنْكُورَةً لِمَنْ كَانَتْ مِنْ النَّاسِ، وَجَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ وقَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] وَقَوْلُهُ {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة: 240] اقْتَضَى وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ وَهُوَ خَاصٌّ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَهُوَ عَامٌّ لِأَنَّهُ اقْتَضَى جَوَازَ وَصِيَّةٍ لِمَنْ كَانَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 النَّاسِ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ فَلَا يَبْقَى لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَلَا لِلزَّوْجَةِ وَصِيَّةٌ فَقَدْ دَلَّ (هَذَا) عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ نَسْخَ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ الْمُسْتَعِيرَةَ» وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَّهُ) قَالَ «لَا قَطْعَ عَلَى حَائِزٍ» فَقَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْخَاصِّ، وَقَامَرَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُشْرِكِينَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] ثُمَّ نَسَخَهَا عُمُومُ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ. قَالَ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا مُجْمَلٌ نَسَخَ كُلَّ رِبًا كَانَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ يَقْضِي عَلَى الْخَاصِّ إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ «قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى فِي بَيْتِهَا رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ وَقَدْ كُنْتَ نَهَيْتَ عَنْهُمَا؟ فَقَالَ رَكْعَتَانِ كُنْت أُصَلِّيهَا فَشَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ» . وَلَمْ يَقُلْ لَهَا إنَّ اعْتِبَارَك هَذَا (لَا يَجُوزُ) بَلْ بَيَّنَ لَهَا جِهَةَ الْخُصُوصِ وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ (أَوَنَقْضِيهِمَا) إذَا فَاتَتَا؟ قَالَ: " لَا " فَيُقَالُ لِهَذَا الرَّجُلِ إذَا كُنْت قَدْ وَجَدْت عَامًّا قَضَى عَلَى خَاصٍّ (وَنَسَخَهُ وَعَامًّا مُرَتَّبًا عَلَى خَاصٍّ) فَلِمَ جَعَلْت مَا وَجَدْت مِنْ نَسْخٍ فِيهِمَا قَاضِيًا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي كُلِّ حَالٍ دُونَ أَنْ تَجْعَلَ مَا وَجَدْت مِنْ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ مُوجِبًا لِكَوْنِ الْخَاصِّ مَنْسُوخًا بِالْعَامِّ أَبَدًا حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ التَّرْتِيبِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانَ أَكْثَرُ حِجَاجِهِ فِي الْبَابِ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وُجِدَ مِنْ التَّرَتُّبِ وَالِاسْتِدْلَالَ (بِهِ) عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَعَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ خَالَفَ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي رَامَ هَذَا الرَّجُلُ نُصْرَتَهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ نَسْخِ الْخَاصِّ (بِالْعَامِّ) . ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (أَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] خَاصٌّ وَرَدَ فِي شَأْنِ الرَّجْعَةِ. وقَوْله تَعَالَى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] خَاصٌّ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَكَيْفَ تَعْتَرِضُ إحْدَى الْآيَتَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَارِدَةٌ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَتْ فِيهِ الْأُخْرَى؟ وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} [البقرة: 282] إلَى قَوْلِهِ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَقَدْ يَكُونُ حِينَ الْوَصِيَّةِ عُقُودُ الْمُدَايَنَاتِ وَإِمْلَاءُ الْحَقِّ الَّذِي عَلَى الْمَدِينِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنْتَظِمَةٌ لِحَالِ الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَصَارَتْ نَاسِخَةً لِقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ. (وَإِذَا ثَبَتَ) بِهَذِهِ الْآيَةِ بُطْلَانُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى إمْلَاءِ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ بُطْلَانُهَا فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْوَصَايَا لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فَهَذَا عَامٌّ قَدْ نَسَخَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ حُكْمًا خَاصًّا فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَرَى حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي جَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى وَصِيَّةٍ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ (كَمُجَاهِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدَ بْنِ الْمُسَيِّبِ) وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ «قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُنَيْسٍ وَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قَاضِيًا عَلَى قِصَّةِ مَاعِزٍ فِي اعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقِصَّةُ مَاعِزٍ خَاصَّةٌ مُفَسَّرَةٌ وَقِصَّةُ أُنَيْسٍ عَامَّةٌ، هَذَا مَعَ احْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمُوَافَقَةِ قِصَّةِ مَاعِزٍ لِأَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِ مَرَّاتٍ (مِنْ الْإِقْرَارِ) يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اعْتِرَافًا فِي الْحُكْمِ وَمَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ فِي تَرْكِهِ عَدَدَ الْإِقْرَارِ عَلَى عِلْمِ أُنَيْسٍ بِأَنَّ الِاعْتِرَافَ الْمُوجِبَ لِلرَّجْمِ هُوَ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» مَنْسُوخٌ «بِأَكْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُبْزًا وَلَحْمًا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فَنُسِخَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عُمُومٌ فِي الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَرْكُهُ الْوُضُوءَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ خُصُوصٌ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِمَّنْ يَنْسَخُ الْعَامَّ بِالْخَاصِّ مَعَ امْتِنَاعِ وُقُوعِ النَّسْخِ فِي مِثْلِهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ إيجَابِ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. ، وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَوْجَبْتُمْ أَنْتُمْ نَسْخَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ بِتَرْكِهِ الْوُضُوءَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت، وَذَلِكَ أَنَّ لَنَا أَصْلًا فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَشَرَائِطَ نَعْتَبِرُهَا فِيهِ مَتَى خَرَجَ الْخَبَرُ عَنْهَا لَمْ نَقْبَلْهُ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ. فَلَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامَّةً وَلَمْ يُرِدْ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْهُ (إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لَمْ يَثْبُتْ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْهُ) . وَحَمَلْنَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ دُونَ وُضُوءِ الصَّلَاةِ. ، وَ (قَدْ) قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ وَزِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ» وَهَذَا عَامٌّ نَسَخَ بِهِ خَاصًّا مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي قَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ (لِأَنَّ الْحَسَنَ رَوَى) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ " ائْتُونِي بِمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَإِنِّي أَقْتُلُهُ " وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مَوْجُودٌ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مُسْتَفِيضٌ مِنْ مَذْهَبِهِمْ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ رُوِيَ عَنْهُ الْمَذْهَبُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُخَالِفُونَا فِي هَذَا الْبَابِ وَمِمَّا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَة وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْلَى فَقَضَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى " {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] عَلَى مِلْكِ الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُتَرَتِّبًا عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّحْلِيلَ أَوْلَى فَقَضَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِيهِ إلَى قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَهُوَ عُمُومٌ وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ خَاصٌّ وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ (الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة) قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَعْلَمُ مِنْ الشِّرْكِ (شَيْئًا) أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ عِيسَى أَوْ عَبْدٌ مِنْ الْعِبَادِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاحْتَجَّ (بِعُمُومِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 قَوْله تَعَالَى) {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] فَجَعَلَهُ قَاضِيًا عَلَى قَوْلِهِ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . ، وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ " لَا يُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " فَقَالَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ اللَّهُ {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَعَارَضَتْ عَائِشَةُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ثُمَّ قَالَ إنَّهُمْ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ فَقَالَتْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {" فَإِنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: 52] وَهَلْ ابْنُ عُمَرَ إنَّمَا قَالَ إنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْت أَقُولُ لَهُمْ الْحَقُّ» وَرَدَّتْ حَدِيثَ «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَرُدَّانِ (حَدِيثَ) «النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] وَجَعَلَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ (بْنُ مَسْعُودٍ) وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] قَاضِيًا عَلَى قَوْله تَعَالَى. {يَتَرَبَّصْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَهَذَا خَاصٌّ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَمِلَ ذِكْرَهَا هَذَا الْكِتَابُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يُوَضِّحُ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِيهِ. وَأَمَّا إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فِي (خِطَابٍ) وَاحِدٍ فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا لِأَنَّ لَفْظَ التَّخْصِيصِ إذَا وَرَدَ مَعَ الْعَامِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ (خِطَابِ الْآيَةِ) {فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] فَخَصَّ حَالَ الِاضْطِرَارِ مِنْ الْجُمْلَةِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَ (ذَلِكَ) نَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَخَصَّ الرِّبَا بِالتَّحْرِيمِ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحَلَّهُ مِنْ الْبَيْعِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ وَلَوْ لَمْ يَخُصَّهُ لَكَانَتْ الْإِبَاحَةُ عَامَّةً فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ رِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَنَحْوُهُ فِي الْإِخْبَارِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97] (فَلَوْلَا التَّخْصِيصُ) لَعَمَّ سَائِرَهُمْ فَلَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ (الْخِطَابِ) {وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] صَارَ أَوَّلُ الْخِطَابِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فَأَمَّا إذَا وَرَدَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَلَمْ يُعْلَمُ تَارِيخُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ ذَكَرَ حُكْمَ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا بِهَذَا الْوَصْفِ فَقَسَّمَهُمَا أَقْسَامًا أَرْبَعَةً فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 إمَّا أَنْ يَعْمَلَ النَّاسُ بِهِمَا جَمِيعًا فَيُسْتَعْمَلَانِ وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ «كَنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرُخْصَتُهُ فِي السَّلَمِ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» أَوْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَالْعَمَلُ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ (وَالْآخَرُ) مَنْسُوخٌ. أَوْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ بَعْضُ النَّاسِ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَالْعَامَّةُ تُخَالِفُهُ وَتَعِيبُ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ فَالْعَمَلُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَنَعْنِي بِالْعَامَّةِ عَامَّةَ فُقَهَاءِ السَّلَفِ نَحْوُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» . وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَّهُ قَالَ) «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَالْأَمْرُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ لَا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ وَحَدِيثُ أُسَامَةَ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ مَحْمُولًا عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِ فِي الْجِنْسَيْنِ. وَقَالَ عِيسَى (أَيْضًا) فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَاَلَّذِي يَعْمَلُ بِالْآخِرِ شَاذٌّ خَامِلٌ. وَيُسَوِّغُ الْأَوَّلُونَ الِاجْتِهَادَ لِهَؤُلَاءِ وَكَانَ سَبِيلُهُ الِاجْتِهَادَ لِأَنَّهُمْ قَدْ سَوَّغُوهُ وَإِنْ عَابُوهُ عَلَيْهِمْ فَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يُعْمَلُ بِالْآخِرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ (عَلَى) أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَعَمَلُ (بَعْضِ) النَّاسِ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَالْعَامَّةُ تُخَالِفُهُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ وَاحِدٌ شَاذٌّ لَا (يُعْتَرَضُ) بِمِثْلِهِ عَلَى خِلَافِ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ عِيسَى: وَإِنْ وَجَدْنَا النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ يُدْخِلُ بَعْضُهُمْ الْخَاصَّ فِي الْعَامِّ وَيُخْرِجُهُ بَعْضُهُمْ (مِنْهُ) وَسَوَّغَ كُلُّ فَرِيقٍ لِصَاحِبِهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ (فِيهِ) كَانَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ (عِنْدَنَا) نَاسِخًا لِصَاحِبِهِ فَلَمْ نَعْرِفْ النَّاسِخَ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ وَسَوَّغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ. ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَنْقُضُ الْآخَرَ لَمْ يَجُزْ لِلنَّاسِ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا (وَيَعْمَلُوا بِهِمَا) جَمِيعًا كَمَا عَمِلُوا بِالسَّلَمِ (وَبِكَرَاهَةِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ) قَالَ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ يُصَلِّي فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 مَعَهُ الْغَدَاةَ فَقَالَ إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا وَجِئْتُمَا فَصَلِّيَا فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ فَقَالَ نَاسٌ: النَّهْيُ نَاسِخٌ لِلْإِبَاحَةِ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَخْصُوصٌ كَالسَّلَمِ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا وَوَجَدْنَا رُوَاةَ النَّهْيِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّوَافِ فَلَوْ كَانَ مَخْصُوصًا كَانُوا أَعْلَمَ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الَّذِي) حَصَلَ مِنْ قَوْلِ عِيسَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إذَا وَرَدَا وَعَرِيَا مِنْ دَلَالَةِ النَّسْخِ أَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا عَلَى التَّرْتِيبِ وَأَنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُ النَّسْخِ لَكَانَ بَابُهُمَا التَّرْتِيبَ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ اتِّفَاقَ السَّلَفِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ. فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ اتِّفَاقُهُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ الْقَضَاءِ بِالْعَامِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 عَلَى الْخَاصِّ فَهُوَ صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ وَإِنْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا إلَّا وَاحِدًا شَذَّ عَنْهُمْ وَعَابُوا عَلَى الْوَاحِدِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَالْعَمَلُ عَلَى مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ قَوْلِهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ الشَّاذُّ خِلَافًا عَلَى الْجُمْهُورِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، وَإِنَّ شَرْطَ الْإِجْمَاعِ عِنْدَهُ اتِّفَاقُ مِثْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَأَنَّ مَنْ انْفَرَدَ عَنْهُمْ كَانَ شَاذًّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَعُدُّ الْوَاحِدَ، وَ (لَا) الِاثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ خِلَافًا عَلَى عُظْمِ الْفُقَهَاءِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِخِلَافِ هَذَا الْوَاحِدِ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ الَّتِي لَا أَثَرَ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَ اجْتِمَاعَ الْجُمْهُورِ عَلَى حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَإِظْهَارِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ مُقَوِّيًا لِخَبَرِهِمْ وَدَالًّا عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا نَسْخَ الْخَبَرِ الْآخَرِ بِخَبَرِهِمْ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَاغَ لَهُمْ النَّكِيرُ عَلَى مُخَالِفِهِمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَدَلَّ إظْهَارُهُمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ وَفِي اعْتِصَامِهِ بِالْخَبَرِ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا نَسْخَهُ بِمَا عَلِمُوا مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ، (وَ) لِأَنَّ مَا عَمِلُوا بِهِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَنْسُوخَ لَكَانُوا هُمْ أَوْلَى بِعِلْمِهِ مِنْ الْمُنْفَرِدِ الشَّاذِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 فَجَعَلَ مَا وَصَفْنَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا اتَّفَقَتْ (عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ) وَهُوَ النَّاسِخُ وَأَنَّ الْآخَرَ مَنْسُوخٌ بِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي وَأَوْلَاهُمَا بِمُرَادِهِ فِيمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إنَّمَا جَعَلَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ (أَوْلَى) لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ لِمَا اخْتَلَفَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ ذَلِكَ الْمُنْفَرِدِ فِي حَالِ ظُهُورِ النَّكِيرِ مِنْ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ أَوْ تَرَكَهُ النَّكِيرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي ظُهُورِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ مِمَّنْ خَالَفَ (عَلَيْهِ) أَوْ تَرَكَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ. ، وَقَدْ سَوَّغَ عِيسَى (بْنُ أَبَانَ) اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ وَالْمَصِيرُ إلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ الشَّاذِّ دُونَ الْجَمَاعَةِ إذَا لَمْ تَعِبْ الْجَمَاعَةُ عَلَى الْوَاحِدِ مَا ذَهَبَ (إلَيْهِ) مِنْ ذَلِكَ. فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ إذَا ظَهَرَ نَكِيرُ الْجَمَاعَةِ (عَلَيْهِ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعُدَّهُ خِلَافًا وَأَنَّهُ إنَّمَا اُعْتُبِرَ مَا صَارَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ) مِنْ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ عِنْدَهُمْ وَمِنْ أَجْلِهِ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ. ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ لَا يَجُوزُ ظُهُورُ النَّكِيرِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيهِ فَإِذَا وَجَدْنَا النَّكِيرَ ظَاهِرًا مِنْ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَمْ يَلْجَئُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ إلَّا إلَى الْخَبَرِ الَّذِي اعْتَصَمُوا بِهِ. وَقَدْ سَمِعُوا مَعَ ذَلِكَ خَبَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ هُوَ النَّاسِخَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ التَّوَاتُرِ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى التَّوَاتُرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الْوَاحِدَ يَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ. قِيلَ لَهُ لَمْ يَذْكُرْ عِيسَى أَنَّ الْوَاحِدَ أَنْكَرَ عَلَى الْجَمَاعَةِ مَصِيرَهَا إلَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَتْهُ كَمَا ذَكَرَ إنْكَارَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَا يَدْرِي مَا جَوَابُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّا نَلْتَزِمُهُ مَعَ ذَلِكَ وَنَقُولُ: إنَّهُ لَوْ ظَهَرَ (مَعَ ذَلِكَ) فِي النَّكِيرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسِخَ سَبِيلُهُ أَنْ يَظْهَرَ كَظُهُورِ الْخَبَرِ الْمَنْسُوخِ فَلَوْ كَانَ مَا صَارَ إلَيْهِ الْوَاحِدُ هُوَ النَّاسِخَ لَظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْجَمَاعَةِ كَظُهُورِ الْأَصْلِ وَلَعَرَفَتْهُ وَمَا خَفِيَ عَلَيْهَا. فَلَمَّا لَمْ تَعْرِفْ الْجَمَاعَةُ ذَلِكَ نَاسِخًا وَعَرَفَتْ (مَا صَارَتْ إلَيْهِ) مِنْهُمَا نَاسِخًا كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَيْسَ يُمْنَعُ أَنْ يَخْفَى حُكْمُ النَّسْخِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَيَتَمَسَّكُ مِنْ أَجْلِ خَفَائِهِ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَهُ بَدْءًا لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نَسَخَ حُكْمًا قَدْ حَكَمَ بِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِي عَيْنِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إظْهَارُهُ فِي الْجَمَاعَةِ. وَإِنْ خَفِيَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصِيرَا فِيهِ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ كَانَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا بِمَنْزِلَةِ الْجَمَاعَةِ إذَا رَوَتْ النَّسْخَ وَخَالَفَهُمْ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ (فَتَصِيرُ رِوَايَةُ) الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْمُنْفَرِدِ فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 مَا صَارَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ. ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَقَضَى (بَعْضُهُمْ) بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَقَضَى بَعْضُهُمْ فِيهِمَا بِالتَّرْتِيبِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ النَّكِيرُ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا صَارُوا إلَيْهِ. فَإِنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِالْأُصُولِ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ حُكْمِهِمَا مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ كَانَ قَاضِيًا عَلَيْهِ (وَ) نَاسِخًا لَهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا وَاحْتَمَلَ فِيمَا وَصَفْنَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ وَارِدًا بَعْدَ الْعَامِّ فَيَجِبُ التَّرْتِيبُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا وَرَدَا مَعًا فَيَجِبُ التَّرْتِيبُ أَيْضًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ فَيَكُونُ نَاسِخًا (لَهُ) لَمْ يَجُزْ لَنَا الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ هَذِهِ الْوُجُوهُ دُونَ الْآخَرِ لِاحْتِمَالِهِمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا وَلَيْسَ بَعْضُ الْمَعَانِي لِلَّذِي يَحْتَمِلُ بِأَوْلَى (بِهِ) مِنْ بَعْضٍ فَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلَالَةٍ غَيْرِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ وُرُودَ الْعَامِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ يُوجِبُ نَسْخَهُ، فَمَنْ سَلَّمَ هَذَا الْأَصْلَ ثُمَّ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنِّي أُرَتِّبُ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ مَعَ عَدَمِ التَّارِيخِ وَوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ السَّلَفِ وَتَسْوِيغِهِمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ بِتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مُخَالِفِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ يَرْجِعُ إلَيْهَا فِي إيجَابِ التَّرْتِيبِ كَانَ مُتَعَسِّفًا قَائِلًا لِمَا لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْخِلَافَ إذَا حَصَلَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي التَّرْتِيبِ وَالنَّسْخِ عَلَى مَا وَصَفْنَا صَارَ حُكْمُ اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهَا إلَى رَدِّهَا إلَى الْأُصُولِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِهَا عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ نُجِزْ الْإِقْدَامَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِشْهَادِ بِالْأُصُولِ فَمَا شَهِدَ لَهُ (الْأُصُولُ) مِنْهُمَا كَانَ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالْآخَرُ مَنْسُوخٌ (بِهِ) . ، وَأَيْضًا (لَمَّا لَمْ) نَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا صَارَا كَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا فَيَكُونُ سَبِيلُهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا بِالنَّظَائِرِ وَالْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُ الْخَاصِّ فِي وَقْتٍ وَثُبُوتُ الْعَامِّ أَيْضًا، وَاسْتِعْمَالهمَا مُمْكِنٌ فَلَا نَرْفَعُ مَا تَيَقَّنَّا ثُبُوتَهُ بِالشَّكِّ. قِيلَ لَهُ: إنَّا وَإِنْ كُنَّا (قَدْ) تَيَقَّنَّا ثُبُوتَهُمَا فَلَمْ نَتَيَقَّنْ بَقَاءَهُمَا لِأَنَّ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَنَا. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَنَا يَقِينٌ بِبَقَاءِ حُكْمِ الْخَاصِّ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِالشَّكِّ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الدَّلَائِلِ فِي بَقَاءِ حُكْمِهِ أَوْ نَفْيِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا احْتَمَلَ الْعَامُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَامِّ صَارَ الْعَامُّ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ (الْمُحْتَمِلِ لِلْمَعَانِي فَحُمِلَ) عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا يُحْمَلُ الْمُتَشَابِهُ عَلَى الْمُحْكَمِ. قِيلَ لَهُ: مَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُ مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الْخَاصَّ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ (مَنْسُوخًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لَهُ وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ) نَاسِخًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا. فَلَمَّا كَانَ الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِي كُلِّ (وَاحِدٍ) مِنْهُمَا سَقَطَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ الْعَامَّ فِيهِ احْتِمَالٌ وَلَا احْتِمَالَ فِي الْخَاصِّ. ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ (الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَقُولُ إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّهُ مَتَى اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرِ كَانَ مَا اُتُّفِقَ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ مِنْهُمَا قَاضِيًا عَلَى مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَقَدْ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى لِعِيسَى (بْنِ أَبَانَ أَيْضًا) وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» فَهَذَا خَبَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَكَانَ خَبَرُ إيجَابِ الْعُشْرِ مُطْلَقًا قَاضِيًا عَلَيْهِ نَاسِخًا لَهُ. وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ «النَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ» هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي النَّفْلِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا رُوِيَ (عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) «أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ» «وَأَنَّهُ رَأَى قَيْسًا يُصَلِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 صَلَاةً بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ» . «وَقَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ الْفَجْرَ: إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا الْمَسْجِدَ فَصَلِّيَا مَعَ الْإِمَامِ» كُلُّ هَذِهِ أَخْبَارٌ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ قَاضِيًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ «نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ، وَحَدِيثُ أَبِي (ذَرٍّ) «إلَّا بِمَكَّةَ» مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي " قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا " وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَظْرِ الْكَلَامِ فِيهَا فَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى خَبَرِ جَوَازِ الْبِنَاءِ مَعَ الْكَلَامِ لِأَنَّ خَبَرَ حَظْرِ الْكَلَامِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَالْبِنَاءُ بَعْدَ الْكَلَامِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ نَاسِخًا لِسَائِرِ مَا رُوِيَ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ مَعَ الْكَلَامِ، وَمِثْلُهُ «نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، وَ «نَهْيُهُ عَنْ الْمُزَابَنَةِ» . فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا، وَخَبَرَا الْعَرَايَا وَالْخَرْصِ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهِمَا فَكَانَ النَّهْيُ قَاضِيًا عَلَى الْإِبَاحَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ. ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّوَاتُرِ عِنْدَنَا وَيُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ، وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي نَسْخِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ الِاعْتِرَاضِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ. ، وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الْخَاصُّ ثَابِتًا كَثُبُوتِ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْرِفَهُ الْجَمِيعُ كَمَا عَرَفُوا الْعَامَّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ النَّاسِخَ كَمَا بَيَّنَ الْمَنْسُوخَ قَبْلَ وُرُودِ نَسْخِهِ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يَعْرِفَهُ عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ قَدْ عَرَفُوا الْعَامَّ (وَاسْتَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَعْرِفْ الْجَمِيعُ بَقَاءَ حُكْمِ الْخَاصِّ كَمَا عَرَفُوا الْعَامَّ) عَلِمْنَا أَنَّ الْعَامَّ نَاسِخٌ لَهُ (وَ) قَاضٍ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي التَّخْصِيصِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجْهُهُ النَّسْخَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ التَّخْصِيصِ إذَا كَانَ الْعَامُّ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ مَنْ عَرَفَ الْعَامَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْرِفَ الْجَمِيعُ الْخَاصَّ وَنَسْخَهُ كَمَا عَرَفُوا الْعَامَّ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ (نَسْخُ) الْخَاصِّ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَثُبُوتِ الْعَامِّ. عَلِمْنَا أَنَّ الْخَاصَّ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْرِفُوا الْمَنْسُوخَ وَمَا قَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ وَلَا عَلَيْهِمْ نَقْلُهُ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنَسْخِهِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ مَنْسُوخًا وَلَا تَنْقُلُهُ الْكَافَّةُ وَيَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 نَسْخُهُ فَيَتَعَلَّقَ بِهِ، وَنَقْلُهُمْ لِلْعَامِّ وَاسْتِعْمَالُهُمْ إيَّاهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ الْحُكْمُ، وَأَنَّ الْخَاصَّ مَنْسُوخٌ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا لَنَا إنَّهُ مَنْسُوخٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَ) ذَكَرَ عِيسَى (بْنُ أَبَانَ) مَا قَدَّمْنَا حِكَايَتَهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا خَاصَّةً وَالْأُخْرَى عَامَّةً إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 [بَابُ الْقَوْلِ فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ] َ) . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ أَنْ يُعْتَبَرَ السَّبَبُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَنُخْبِرُ عَنْ سَبَبِهِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْآخَرِ مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ غَيْرَ مُخَصَّصٍ لِصَاحِبِهِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ فِيهِمَا (عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ) فَيُصَارُ إلَيْهَا، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا» فَهَذَا وَارِدٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَوْقَاتِ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» . وَهَذَا وَارِدٌ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى تَارِكِهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى خَبَرِ بَيَانِ حُكْمِ الْأَوْقَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا طَائِفًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» إنَّمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ مَنْعِ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى بَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» فَهَذَا أَمْرٌ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي (يَجُوزُ فِيهِ أَوْ لَا يَجُوزُ، وَخَبَرُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي) لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وقَوْله تَعَالَى {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وقَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] هَذِهِ الْآيَاتُ وَارِدَةٌ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ تَفْصِيلِ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا. ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ» فَلَمْ يَعْتَرِضْ الْأَمْرُ بِفِعْلِ الصِّيَامِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الْأَيَّامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُطْلَقًا عَلَى حُكْمِ الْوَقْتِ بَلْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الصِّيَامِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ جَارِيًا عَلَى بَابِهِ وَمَحْمُولًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ، وَالْأَمْرُ بِوُجُوبِ صِيَامِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ الْحَجِّ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ مَحْمُولًا عَلَى بَابِهِ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] فِيهِ بَيَانُ حَظْرِ الْجَمْعِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي بَابِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي إبَاحَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالسَّبْيِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ (لِجِهَةِ الْجَمْعِ) فَلَا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَيْهِ وَلَوْلَا اجْتِمَاعُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ الْآخَرِ إجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ ظَاهِرُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ بِإِزَائِهِ خَبَرٌ هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ فِي بَابِهِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِدًا عَلَى وَجْهٍ وَسَبَبٍ غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْآخَرُ أَجْرَيْنَا كُلًّا مِنْهُمَا وَحَمَلْنَاهُ عَلَى سَبَبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 [بَابُ صِفَةِ الْبَيَانِ] الْبَابُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ فِي صِفَةِ الْبَيَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 بَابُ صِفَةِ الْبَيَانِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْبَيَانُ إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ لِلْمُخَاطَبِ مُنْفَصِلًا مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ وَيَشْتَبِهُ مِنْ أَجْلِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْقَطْعِ وَالْفَصْلِ يُقَالُ بَانَ مِنْهُ إذَا انْقَطَعَ قَالَ، النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا بَانَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ» ، وَبَانَ إذَا فَارَقَ. قَالَ جَرِيرٌ: وَبَانَ الْخَلِيطُ وَلَوْ طَوَّعْت مَا بَانَا وَبَانَ الْأَمْرُ إذَا ظَهَرَ، وَبَانَتْ الْمَرْأَةُ بَيْنُونَةً إذَا فَارَقَتْ زَوْجَهَا، ثُمَّ قَالُوا بَانَ الْأَمْرُ وَوَضَحَ بَيَانًا وَبَانَ مِنْ الْفِرَاقِ بَيْنًا وَمِنْ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ بَيْنُونَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ وَهُوَ الِانْقِطَاعُ فَسُمِّيَ الْفِرَاقُ بَيْنًا لِانْقِطَاعِ الْمُفَارِقِ عَنْ صَاحِبِهِ. وَسُمِّيَ إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ بَيَانًا لِانْفِصَالِهِ عَمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي فَيُشْكَلُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 أَجْلِهِ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا بَيْنَ أَبْنِيَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِإِفَادَةِ أَحْوَالِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا كَمَا قَالُوا: عَدْلٌ وَعَدِيلٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ مَا يُعْدَلُ بِهِ الْمَتَاعُ عَدْلًا وَمَا يُعْدَلُ بِهِ الرَّجُلُ عَدِيلًا لِيُفِيدُوا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُمْ إلَى ذِكْرِ غَيْرِهِ، وَقَالُوا امْرَأَةٌ حَصَانٌ، وَبِنَاءٌ حَصِينٌ، وَامْرَأَةٌ رَزَانٌ، وَحَجَرٌ رَزِينٌ. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ وَالْأَصْلُ فِي اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا لِيُفِيدُوا بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَنْ وُصِفَ بِهِ. وَالْبَيَانُ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً مَا وَصَفْنَا فَإِنَّهُ سُمِّيَ مَا يُوصَلُ إلَى (عِلْمِهِ بِالِاجْتِهَادِ) وَغَالِبُ الظَّنِّ بَيَانًا فِي الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِهِ، وَنَصَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَفْهَمَنَا قَصْدَهُ وَمُرَادَهُ بِأَنَّهُ ذُو بَيَانٍ. قِيلَ لَهُ: كُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبَانَ عَنْ مُرَادِهِ وَأَتَى بِبَيَانِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى لِذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ غَلَبَ عَلَى كَلَامِهِ الْإِيضَاحُ وَانْتَفَى عَنْهُ الْعِيُّ وَالتَّعْقِيدُ كَمَا أَنَّ الْفَصَاحَةَ وَالْبَلَاغَةَ أَصْلُهَا إفْصَاحُ اللِّسَانِ بِمُرَادِهِ وَبُلُوغُهُ حَاجَتَهُ فِيمَا يُرِيدُ الْإِبَانَةَ عَنْهُ. وَلَا يُسَمَّى كُلُّ مَنْ أَفْصَحَ عَنْ نَفْسِهِ فَصِيحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَكَمَا أَنَّ قَوْلَنَا عَالِمٌ وَفَقِيهٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَلَا يُسَمَّى كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا عَالِمًا وَلَا مَنْ فَقِهَ مَسْأَلَةً فَقِيهًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فُلَانٌ ذُو بَيَانٍ وَبَيِّنُ اللِّسَانِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى مَنْ كَانَ الْغَالِبُ (عَلَى كَلَامِهِ) الْإِبَانَةَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِيِّ وَالتَّعْقِيدِ عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلَّا قُلْت إنَّ الْبَيَانَ هُوَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ كَمَا أَنَّ التَّحْرِيكَ هُوَ مَا يَتَحَرَّك بِهِ (الشَّيْءُ) وَالتَّسْوِيدُ (وَهُوَ) مَا يُسَوَّدُ بِهِ الشَّيْءُ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيَانَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ الْمُبِينِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ الْمُخَاطَبُ وَقَدْ حَصَلَ الْبَيَانُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ رَسُولِهِ لِلْمُكَلَّفِينَ فِيمَا تَهُمُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَلَمْ يَتَبَيَّنْهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْكُفْرِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فَقْدَ التَّبْيِينِ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الْمُخَاطَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْبَيَانِ مِنْ الْمُبِينِ، وَأَمَّا التَّحْرِيكُ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ أَبَدًا إلَّا وَيَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيكُ، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا وَيُسَوَّدُ بِهِ الشَّيْءُ، فَهَذَا غَيْرُ مُشْبِهٍ لِلْبَيَانِ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْبَيَانَ وَوَصَفَهُ فَقَالَ: الْبَيَانُ: اسْمٌ جَامِعٌ لَمَعَانٍ مُجْتَمِعَةِ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةِ الْفُرُوعِ، فَأَقَلُّ مَا فِي تِلْكَ الْمَعَانِي الْمُتَشَعِّبَةِ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَنْ خُوطِبَ بِهِ فِيمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَشَدَّ تَأْكِيدَ بَيَانٍ مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ جَعَلَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 خَلَلٌ (مِنْ) وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ مَا حُدَّ بِهِ الْبَيَانُ وَقُصِدَ بِهِ إلَى صِفَتِهِ لَمْ يُبَيَّنْ بِهِ مَاهِيَّةُ الْبَيَانِ وَلَا صِفَتُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَةً مَجْهُولَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ الْبَيَانُ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مَا هِيَ. فَاَلَّذِي وُصِفَ بِهِ الْبَيَانُ هُوَ بِالْإِلْبَاسِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمَعَانِيَ الْمُجْتَمِعَةَ الْأُصُولِ الْمُتَشَعِّبَةَ الْفُرُوعِ مَا هِيَ وَمَا حَدُّهَا وَصِفَتُهَا، وَاَلَّذِي اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ أَنْ يَقُولَ " (وَ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الْمَعَانِي الْمُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ " كَذَا " وَالْمُتَشَعِّبَةُ الْفُرُوعِ " كَذَا حَتَّى يَكُونَ (قَدْ) أَفَادَنَا شَيْئًا. وَاسْمُ الْبَيَانِ إذَا أُطْلِقَ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ عِنْدَ السَّامِعِينَ مِمَّا وَصَفَهُ (بِهِ) وَقُصِدَ بِهِ إلَى بَيَانِ تَحْدِيدِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحْدِيدًا (لِلْبَيَانِ) وَلَا وَصْفًا لَهُ بِوَجْهٍ، لِأَنَّهُ يُشْرِكُ فِيهِ مَا لَيْسَ بِبَيَانٍ وَلَا مِنْ جِنْسِهِ، إذْ كَانَ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ شَارَكَهُ فِي أَنَّهَا مُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةُ الْفُرُوعِ، إذْ لَيْسَ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ مُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةُ الْفُرُوعِ إلَّا أَنَّهُ يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ ثُمَّ تَنْقَسِمُ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ حِينَ قَسَّمَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، وَالْأَقْسَامُ هِيَ الْفُرُوعُ الْمُتَشَعِّبَةُ وَالْمُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ (إلَّا) أَنَّهَا يَجْمَعُهَا كُلَّهَا مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ الْقَصْدُ إلَى إعْلَامِ الْمُخَاطَبِينَ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقُلْ هُوَ ذَلِكَ وَإِنْ سَلَّمْنَا لَك كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ صَحِيحًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ (مَا انْقَسَمَ) أَقْسَامًا يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا حَتَّى نَقُولَ إنَّ الْجِسْمَ بَيَانُهُ لِأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى حَيَوَانٍ وَنَامٍ وَجَمَادٍ (وَ) يَقُولُ إنَّ الْحَيَوَانَ بَيَانٌ لِأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى إنْسَانٍ وَبَهِيمَةٍ وَطَائِرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَقُولُ إنَّ الشَّيْءَ بَيَانٌ لِأَنَّهُ يَنْقَسِمُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهَذَا هُوَ الْفَسَادُ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجْعَلُ الْبَيَانَ اسْمًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ يَقْضِي هَذَا التَّحْدِيدُ بِالتَّفْسِيرِ حِينَ سَمَّى كُلَّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا بَيَانًا. فَقَالَ: الْبَيَانُ أَوَّلُ كَذَا وَالثَّانِي كَذَا فَاقْتَضَتْ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَدَّمَهَا فِي وَصْفِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ (الْأَقْسَامِ) بَيَانًا وَتَكُونُ اسْمًا لَمَعَانٍ مُجْتَمِعَةِ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةِ الْفُرُوعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ بِهَذَا الْوَصْفِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ بَيَانًا مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ، لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» إذْ كَانَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَعَانٍ مُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةُ الْفُرُوعِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ بَيَانٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَلْزَمُهُ مَا ذَكَرْت لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ أَقْسَامِ الْبَيَانِ لَا جَمِيعُهُ. قِيلَ لَهُ: أَوْ لَيْسَ هُوَ بَيَانًا فِي نَفْسِهِ مَعَ ذَلِكَ وَمَا حَدُّهُ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذُكِرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ شَرْطًا لِجَمِيعِ مَا سُمِّيَ بَيَانًا فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنْ يُحَدَّ الْبَيَانُ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ، لِأَنَّ التَّحْدِيدَ يَقْتَضِي أَلَا يَخْرُجَ عَنْ الْحَدِّ مَا هُوَ مِنْهُ كَمَا (لَا يَدْخُلُ) فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَإِذَا وَجَدْنَا بَيَانًا صَحِيحًا لَا يَحْصُرُهُ (الْحَدُّ) الَّذِي ذَكَرَهُ لِلْبَيَانِ فَقَدْ وَضَحَ بُطْلَانُ تَحْدِيدِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرَّجُلَ أَخْبَرَ عَنْ الْبَيَانِ مَا هُوَ، وَالْبَيَانُ: اسْمُ جِنْسٍ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِ فَوَاجِبٌ عَلَى قَضِيَّتِهِ أَنْ لَا بَيَانَ إلَّا مَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ ، (وَقَدْ نَقَضَ هُوَ ذَلِكَ بِكُلِّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِلْبَيَانِ لِأَنَّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْهَا لَيْسَ بِهَذَا الْوَصْفِ) . وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ سَمَّى قَوْله تَعَالَى {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] وَهَذَا لَا يُسَمِّيهِ أَحَدٌ بَيَانًا فِي شَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ لِأَنَّ الْبَيَانَ هُوَ إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ مُنْفَصِلًا مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ تَقْدِيمِ ذِكْرِ الثَّلَاثِينَ وَالْعَشْرِ إظْهَارُ شَيْءٍ، وَ (لَا) إيضَاحٌ لِمَا أُشْكِلَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى كَذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا كَمَا يُؤَكَّدُ بِتَكْرَارِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] وقَوْله تَعَالَى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34] {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 35] وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ بِنْتَ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ» وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ. وَجَعَلَ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ وَمَا سَمَّى (أَحَدٌ هَذَا) بَيَانًا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ إنَّهَا عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فِي قِيَامِهَا مَقَامَ الْهَدْيِ وَمَا يُسْتَحَقُّ بِهَا مِنْ الثَّوَابِ. [أَقْسَامِ الْبَيَانِ] ثُمَّ قَسَّمَ الْبَيَانَ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ وَمَا سَبَقَهُ إلَى هَذَا التَّقْسِيمِ أَحَدٌ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ لُغَةٍ أَوْ (عَنْ) شَرْعٍ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِهَتَيْنِ، وَلَا نَدْرِي (عَمَّنْ) أَخَذَهُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْتَدَأَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يُعَضِّدْهُ بِدَلَالَةٍ فَحَصَلَ عَلَى الدَّعْوَى. ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ: قَوْله تَعَالَى {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وَنَحْوَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبَيَانٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ الْعَشَرَةِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَنَا بِذَلِكَ الْحِسَابَ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ يَكْفِي فِي الْإِبَانَةِ عَنْ جَهْلِ قَائِلِهِ وَغَبَاوَةِ حِكَايَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 قَوْلِهِ. وَجَعَلَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ: قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وقَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَتَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ أَصْحَابُهُ إنَّمَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ هَذَا بَيَانًا ثَانِيًا لِأَنَّهُ كَافٍ بِنَفْسِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَيَانِ الْأَوَّلِ هُوَ مُسْتَغْنٍ (مُسْتَقِلٌّ) بِنَفْسِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ مِقْدَارِ الْعَدَدِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . فَإِنْ كَانَ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ إنَّمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبَيَانِ الثَّانِي لِأَنَّهُ كَافٍ بِنَفْسِهِ، (فَيَجِبُ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ مَا قُدِّمَ ذِكْرُهُ فِي الْبَيَانِ الْأَوَّلِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَيُوجِبُ هَذَا أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مِنْ قِسْمٍ وَاحِدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي أَوْ يَكُونَ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا قِسْمَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ (بِهِ) أَحَدُهُمَا مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَجَعَلَ الْبَيَانَ الثَّالِثَ: بَيَانَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفُرُوضِ الْمُجْمَلَةِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وَجَعَلَ الْبَيَانَ الرَّابِعَ: مَا ابْتَدَأَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ السُّنَنِ فِي حَيِّزِ مَا ابْتَدَأَهُ اللَّهُ مِنْ الْفُرُوضِ وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا قِسْمًا وَاحِدًا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فِي جِهَةِ الْبَيَانِ وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ الْبَيَانُ بِالْقَائِلِينَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ. فَإِذَا بَانَ مَا سَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْتَدَأَهُ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا ابْتَدَأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْفُرُوضِ فِي وُقُوعِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى فَهُمَا مِنْ قِسْمٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ قِسْمًا (آخَرَ) مِنْ الْبَيَانِ لَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ فَرْضٍ عَلَى حِدَةٍ قِسْمًا آخَرَ مِنْ الْبَيَانِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَقْسَامِ الْبَيَانِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَجَعَلَ الْبَيَانَ الْخَامِسَ: الِاجْتِهَادَ، وَالِاجْتِهَادُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا (قَدْ) قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ فَإِنَّ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ إنَّمَا (هُوَ) غَلَبَةُ ظَنٍّ لَيْسَ بِيَقِينٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَقَعُ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي الْحَقِيقَةِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَذَكَرَ الْمَنْصُوصَ وَوَصَفَهُ بِالْبَيَانِ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فِي حَيِّزِ مَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ سَمَّى الِاجْتِهَادَ بَيَانًا مِنْ حَيْثُ أُمِرْنَا بِهِ لَمْ يَسُقْ الْعِبَارَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِجْمَاعَ فِي أَقْسَامِ الْبَيَانِ، وَكَانَ الْإِجْمَاعُ أَوْلَى بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَأَمَّا قَوْلُهُ (عَقِيبَ ذِكْرِهِ الْبَيَانَ: فَأَقَلُّ) مَا فِي تِلْكَ الْمَعَانِي الْمُجْتَمِعَةِ الْمُتَشَعِّبَةِ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَنْ خُوطِبَ (بِهِ) مِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ الْبَيَانِ لِمَنْ يَكُونُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَعْنَى الْبَيَانِ بِوَجْهٍ. وَفِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَخْتَصُّ بِلُغَةٍ دُونَ غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَتْ لُغَةُ الْعَرَبِ أَبْيَنَ وَأَفْصَحَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ، لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ لُغَةٍ لَهُمْ ضَرْبٌ مِنْ الْبَيَانِ فِي لُغَتِهِمْ. وَمَوْضُوعُ اللُّغَاتِ فِي الْأَصْلِ لِلْبَيَانِ لَا غَيْرُ، وَالرَّجُلُ إنَّمَا ابْتَدَأَ الْقَوْلَ بِذِكْرِ الْبَيَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَقُلْ الْبَيَانُ الْوَارِدُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ بَيَانًا لِمَنْ ذُكِرَ مِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ (وَعَلَى أَنَّ اقْتِصَارَهُ بِالْبَيَانِ أَنَّهُ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ) غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ بَيَانٌ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ النَّاسِ مَنْ عَرَفَ لُغَةَ الْعَرَبِ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَا يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهُ بِلُغَتِهِ وَيُنْقَلَ إلَى لِسَانِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وقَوْله تَعَالَى {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وَقَالَ تَعَالَى {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27] وَقَالَ فِي صِفَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 36] فَكُلُّ مَنْ تُرْجِمَ لَهُ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ اللُّغَاتِ فَهُمْ مُنْذَرُونَ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ خَطَأٌ. ثُمَّ لَمْ يَرْضَ أَصْحَابُهُ بِتَحْدِيدِ الْبَيَانِ عَلَى مَا ذَكَرَ فَقَالُوا: الْبَيَانُ اسْمٌ لِإِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي فَخَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ قَوْله تَعَالَى {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وَقَوْلُهُ {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] بَيَانًا وَلَيْسَ فِيهِ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُشْكِلًا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] لَمْ يَشْكُلْ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ عَشَرَةٌ فَلَمْ يُخْرِجْ بِذِكْرِهِ الْأَرْبَعِينَ وَالْعَشَرَةَ شَيْئًا مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ مِنْ الْحَوَادِثِ لَا يَخْرُجُ بِهِ الشَّيْءُ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي (لِأَنَّهُ) لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ مَا عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ قَائِمَةٌ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ كَالتَّوْحِيدِ وَسَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَالَفَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادًا (مُخَالِفًا) لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَرْدُودَ الْحُكْمِ إذَا حُكِمَ بِهِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا (كَانَ طَرِيقُهُ) الِاجْتِهَادَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي. وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَحَدَ (أَقْسَامِ الْبَيَانِ) مَعَ خُرُوجِهِ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ (أَصْحَابُهُ لِلْبَيَانِ) . وَعَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ أَيْضًا (ظَاهِرُ الِانْحِلَالِ) ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إنَّمَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَهُوَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ (الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ) وَالْخِطَابُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الْمُبْتَدَأُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ سَائِرِ (الْمُخَاطَبِينَ إذَا كَانَ ظَاهِرَ) الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ فَهُوَ بَيَانٌ صَحِيحٌ لَا يَدْفَعُ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا (فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَعَ) ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْبَيَانُ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وقَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي حَيِّزِ الْإِشْكَالِ فَأَخْرَجَ بِهَذَا الْبَيَانَ إلَى التَّجَلِّي، إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إشْكَالٌ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْغُسْلَ وَاجِبٌ أَوْ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ أَوْ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ وَقَدْ أَطْلَقَ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ لِكَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ يَقْتَضِي سَائِرَ مَا يُسَمَّى بَيَانًا ثُمَّ اقْتَصَرَ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى بَعْضِ أَقْسَامِ الْبَيَانِ دُونَ جَمِيعِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 [بَابُ الْقَوْلِ فِي وُجُوهِ الْبَيَانِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْبَيَانُ فِي الشَّرْعِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْأَحْكَامُ الْمُبْتَدَأَةُ، وَمِنْهَا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِ مَا يَنْتَظِمُهُ الِاسْمُ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضُ. وَمِنْهَا صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ وَصَرْفُ الْأَمْرِ إلَى النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ وَصَرْفُ الْخَبَرِ إلَى الْأَمْرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ غَيْرُ حَقِيقَتِهِ، وَمِنْهَا بَيَانُ الْجُمْلَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْ الْبَيَانِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ، وَهَذَا الْبَيَانُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ (وَلَكِنَّهُ) تَفْسِيرٌ لِلْمُرَادِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُرَادَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ وَالْحَقُّ نَفْسُهُ هُوَ الْعُشْرُ فَلَا تَخْصِيصَ فِي ذَلِكَ وَلَا صَرْفَ لِلْكَلَامِ عَنْ الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهَا النَّسْخُ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي وَهْمِنَا وَتَقْدِيرِنَا بَقَاؤُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 [بَابٌ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ لَفْظٍ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ إلَيْهِ مَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ حُكْمِهِ عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهِ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الْبَيَانِ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمُخَاطَبُ بَعْضَ مَا انْتَظَمَهُ، أَوْ كَانَ مُرَادُهُ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ (فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمُرَادِ بِهِ وَكُلُّ لَفْظٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمُهُ إمَّا لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ فِي نَفْسِهِ) أَوْ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ إلَيْهِ مَا جَعَلَهُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِي (صِفَةِ الْمُجْمَلِ) وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] هَذِهِ أَلْفَاظٌ مَعَانِيهَا مَعْقُولَةٌ ظَا (هِرَةٌ) فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ بِنَفْسِ وُرُودِهَا، وَالثَّانِي (نَحْوُ) قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» (وَنَحْوُ) قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَ (نَحْوُ) قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لِأَنَّهُ قَدْ اقْتَرَنَ إلَيْهِمَا مَا أَوْجَبَ كَوْنَهُمَا مَوْقُوفَيْنِ (عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ بِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 [بَابُ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيَانُ] ُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَيَانُ الشَّرْعِ يَقَعُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّ الْبَيَانَ يَقَعُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: بِالْقَوْلِ وَالْخَطِّ وَالْإِشَارَةِ وَالْعَقْدِ وَهُوَ يَعْنِي عَقْدَ الْحِسَابِ وَبِالنِّسْبَةِ الدَّالَّةِ. فَنَقُولُ عَلَى هَذَا: إنَّ الْبَيَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَقَعُ بِالْقَوْلِ وَبِالْكِتَابَةِ، وَالْبَيَانُ بِالْقَوْلِ: نَحْوُ سَائِرِ الْفُرُوضِ الْمُبْتَدَأَةِ الْمَعْقُولِ مَعَانِيهَا مِنْ ظَاهِرِ الْخِطَابِ. وَيَقَعُ بِالْكِتَابِ أَيْضًا: لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَكِتَابُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي غَيْرِهِ، فَيَكُونُ مِنْهُ (بَيَانُ الْأَحْكَامِ الْمُبْتَدَأَةِ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَيَكُونُ مِنْهُ) بِهِمَا أَيْضًا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَخَصَّ مِنْهُ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَنَحْوُ بَيَانِ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا بَيَانُ مُدَّةِ الْفَرْضِ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ النَّسْخُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِك فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] ثُمَّ قَالَ (تَعَالَى) {فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} [البقرة: 240] ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وَكَانَ حَدُّ الزَّانِينَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] إلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَنَسَخَ بِهِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ. [الْبَيَانُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالنِّسْبَةِ الدَّالَّةِ] وَيَكُونُ مِنْهُ تَعَالَى الْبَيَانُ بِالنِّسْبَةِ الدَّالَّةِ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْعَقْلِيَّاتُ وَدَلَائِلُهَا، وَالْبَيَانُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ وَصَرْفُهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ، وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الِانْقِلَابُ وَالتَّخْصِيصُ فَهِيَ آكَدُ مِنْ اللَّفْظِ فِي هَذَا الْبَابِ فَكَانَ الْبَيَانُ وَاقِعًا بِهَا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ بَيْنَ فُرُوعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى مَا يُؤَدِّينَا إلَيْهِ بَيَانًا وَإِنْ (كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 عَنْ) غَالِبِ ظَنٍّ. [الْبَيَانُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ] وَيَكُونُ الْبَيَانُ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَوْلِ: نَحْوُ سَائِرِ السُّنَنِ الْمُبْتَدَأَةِ وَنَحْوُ تَخْصِيصِهِ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ " كَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ "، وَ " بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ "، وَ " أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ " وَنَحْوُ قَوْلِهِ " خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ " خَصَّ بِهِ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . [الْبَيَانُ مِنْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابَةِ] وَيَكُونُ الْبَيَانُ مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ أَيْضًا: كَنَحْوِ " كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الصَّدَقَاتِ وَالدِّيَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ "، وَ " كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي الصَّدَقَاتِ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمٍ، وَرَدَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرَيْنِ «أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وَقَالَ (الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ) الْكِلَابِيُّ «كَتَبَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» فَثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَةَ يَقَعُ بِهَا الْبَيَانُ كَوُقُوعِهِ بِالْقَوْلِ وَيَكُونُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانُ الْمُجْمَلِ فِي الْكِتَابِ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، نَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» ، وَ «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ، وَبَيَانُهُ لِفُرُوضِ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي بِالْقَوْلِ وَالْكِتَابَةِ، كُلّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقَوْله تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 [الْبَيَانُ مِنْ الرَّسُولِ بِالْفِعْلِ] وَيَكُونُ (الْبَيَانُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ أَيْضًا كَفِعْلِهِ) لِأَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَوْصَافِهَا وَقَعَ بِهِ بَيَانُ الْمُجْمَلِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] وَنَحْوُ فِعْلِهِ فِي الْمَنَاسِكِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلُهُ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» نَبَّهَهُمْ بِهِ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْبَيَانِ بِفِعْلِهِ عَمَّا أُجْمِلَ فِي الْكِتَابِ (ذَكَرَهُ) وَلَيْسَ كُلُّ فِعْلِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ الصَّدَقَةِ بَيَانًا لِلْجُمْلَةِ (الَّتِي) فِي الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى لِنَفْسِهِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] وَلَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ مَا يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ أَوْ عُقِلَ (مِنْ) فَعْلِهِ أَنَّهُ فَعَلَهَا عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ، فَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ بِالْكِتَابِ فَصَارَ بَيَانًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] مُوجِبٌ لِفَرْضِهِمَا وَمَا فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَعَلَهُ فَرْضًا فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ بَيَانًا. [بَيَانُ مُدَّةِ الْفَرْضِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ] وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا بَيَانُ (مُدَّةِ الْفَرْضِ) الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» قَدْ قِيلَ: إنَّهُ نَسَخَ بِهِ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَقَوْلُهُ فِي الرَّجْمِ نُسِخَ بِهِ الْحَبْسُ وَالْأَذَى عَنْ الْمُحْصَنِ، وَفِي السُّنَّةِ نَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» ، وَ «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا» . [الْبَيَانُ بِالْإِشَارَةِ] وَيَكُونُ الْبَيَانُ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ» فَأَفَادَ بِأَنَّهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا. ثُمَّ قَالَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ» فَأَفَادَ أَنَّهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {آيَتُك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وَعَشِيًّا} [مريم: 11] يَعْنِي أَشَارَ إلَيْهِمْ فَقَامَتْ إشَارَتُهُ مُقَامَ الْقَوْلِ فِي بُلُوغِ الْمُرَادِ. وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَرْيَمَ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهَا) {فَأَشَارَتْ إلَيْهِ} [مريم: 29] فَبَيَّنَتْ لَهُمْ مُرَادَهَا بِالْإِشَارَةِ. [الْبَيَانُ بِالدَّلَالَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ] وَيَكُونُ فِيهِ الْبَيَانُ أَيْضًا بِالدَّلَالَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ، نَحْوُ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ وَلَيْسَتْ الْحَيْضَةَ» فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ (خُرُوجِ) دَمِ الْعَرَقِ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ، «وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِلَ عَنْ سَمْنٍ مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقَوْهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ» فَدَلَّ بِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْمَائِعَاتِ يَنْجُسُ بِمُجَاوَرَةِ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إيَّاهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ السُّنَنِ. [بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ] وَقَدْ يَقَعُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ عَلَى فِعْلٍ شَاهَدَهُ مِنْ فَاعِلٍ يَفْعَلُهُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَيَتْرُكُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ (ذَلِكَ) بَيَانًا مِنْهُ فِي جَوَازِ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ وُجُوبُهُ إنْ كَانَ شَاهَدَهُ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَذَلِكَ نَحْوُ عَلِمْنَا بِأَنَّ عُقُودَ الشِّرْكِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْقُرُوضِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ قَدْ كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِحَضْرَتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاسْتِفَاضَتِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَى فَاعِلِيهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ إقْرَارِهِ إيَّاهُمْ عَلَى إبَاحَتِهِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ حَيِّزِ الْمَحْظُورِ لَأَنْكَرَهُ وَأَبْطَلَهُ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرَى أَحَدًا عَلَى مُنْكَرٍ مِنْ الْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ فَيُقَارُّهُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرُهُ، إذْ كَانَ إنْكَارُهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ النَّاسِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْهُ، إذْ كُلُّ مَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَإِنَّمَا فَعَلَهُ اقْتِدَاءً بِهِ وَبِأَمْرِهِ، فَإِذَا عَلِمْنَا إقْرَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا عَلَى أُمُورٍ عَلِمَهَا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا كَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ أَنْ تَكُونَ (جَارِيَةً) عَلَى الْوَجْهِ (الَّذِي) أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ قَدْ يَقَعُ (مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِإِقْرَارِ مَنْ شَاهَدَهُ عَلَى فِعْلٍ وَتَرْكِهِ النَّكِيرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي (شَاهَدَهُ) يَفْعَلُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي إقْرَارِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ شَاهَدَهُ عَلَى فِعْلٍ وَتَرْكِهِ النَّكِيرَ دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَتِهِ وَجَوَازِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْهُ. مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَهُ وَرِضَاهُ بِهِ. قِيلَ لَهُ: أَيُّ نَكِيرٍ أَشَدُّ مِنْ قِتَالِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 صَاغِرُونَ، مَعَ مَا قَدَّمَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمْ الْعَهْدَ وَأَخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ ظَاهِرٌ مِنْ أَمْرِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يُعْطِهِمْ الْعَهْدَ فِيهِ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ، نَحْوُ مَا كَتَبَ بِهِ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى «إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» فَابْتَدَأَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ حِينَ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرْبُونَ وَأَنَّ إقْرَارَهُمْ (عَلَيْهِ) لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ الذِّمَّةِ. وَيُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ: خَبِّرْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرَى رَجُلًا يُرْبِي أَوْ يَغْصِبُ أَوْ يَقْتُلُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَى فَاعِلِهِ اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ نَعَمْ: خَرَجَ مِنْ إجْمَاعِ الْأَمَةِ وَجَوَّزَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَجَازَ (عَلَى) (النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُقَالُ لَهُ: (فَإِنْ) جَازَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ لَنَا أَجْوَزُ، وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ لَنَا فَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى سُقُوطِ (فَرْضِ) الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا نَقْضُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَظِيمٍ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَنْ لَا نُقِرَّ أَحَدًا عَلَى مُنْكَرٍ إذَا أَمْكَنَنَا تَغْيِيرُهُ ثُمَّ يُقِرُّ (هُوَ) النَّاسَ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، حَاشَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ جَعَلَ أَصْحَابُنَا - (رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) - تَرْكَ الْعُلَمَاءِ النَّكِيرَ عَلَى الْعَامَّةِ فِي مُعَامَلَاتٍ قَدْ تَعَارَفُوهَا وَاسْتَفَاضَتْ فِيمَا بَيْنَهُمْ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهِ، نَحْوُ مَا قَالُوا فِي الِاسْتِصْنَاعِ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا عُلَمَاءَ السَّلَفِ (لَمْ يُنْكِرُوهُ) عَلَى عَاقِدِيهِ مَعَ ظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ كَانَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهِ وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ مِنْ أَجْلِهِ، وَمِثْلُ دُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ (مَعْلُومَةٍ) وَلَا مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا ذِكْرٍ لِمِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ أَجَازُوهُ لِظُهُورِهِ فِي عُلَمَاءِ السَّلَفِ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ (فِيهِ) ، وَمِثْلُ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْجِبَابَ وَالْكِيزَانَ لَا يَخْلُو مِنْ بَقٍّ أَوْ بَعُوضٍ يَمُوتُ فِيهَا فِي أَكْثَرِ الْحَالِ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ لِلْعَامَّةِ لَا يَجُوزُ لَكُمْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي هَذِهِ حَالُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ بَلْوَاهُمْ بِهِ، فَدَلَّ تَرْكُهُمْ النَّكِيرَ فِيهِ عَلَى طَهَارَةِ ذَلِكَ الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجَسًا مَا جَازَ لَهُمْ تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مُسْتَعْمِلِهِ لِلطَّهَارَةِ إذْ كَانُوا بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِهَا فِي قَوْلِهِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ. وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا» فَتَضَمَّنَ هَذَا الْقَوْلُ إخْبَارًا مِنْهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَى أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْكِرْ (عَلَيْهِ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إخْبَارَهُ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخْبِرُ أَحَدٌ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 مَالِكٌ لِبُضْعِ امْرَأَةٍ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ فِي الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ يُقِرُّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ قَدْ انْتَظَمَ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إخْبَارُهُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِبُضْعِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ، وَهَذَا كَذِبٌ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى الْكَذِبِ. وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ عَنْ اعْتِقَادِهِ بِأَنَّ فَرْجَهَا لَهُ مُبَاحٌ وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَدَلَّ تَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَى عُوَيْمِرٍ (فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ) ذَلِكَ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَكُنْ (قَدْ) وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ «النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالتَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، ثُمَّ يَرَى عَلَى نِسَائِهِ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ فَلَا يُنْكِرُهُ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ (خَاصٌّ) بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. [بَيَانُ الْمُجْمَلِ بِالْإِجْمَاعِ] وَقَدْ يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ (بِالْإِجْمَاعِ) ، لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ وَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ، فَيَجُوزُ وُقُوعُ الْبَيَانِ بِهِ، نَحْوُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَاَلَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَلَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فَبَيَّنَ الْإِجْمَاعَ الْمُرَادَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 بِهَا، وَكَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لِلْجَدِّ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ السُّدُسَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، وَأَنَّ لَبِنْتَيْ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ لِصُلْبٍ، وَأَنَّ لِلْجَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ (إذَا اجْتَمَعَتَا) سُدُسًا وَاحِدًا، وَهُوَ مِمَّا قَدْ وَقَعَ بِهِ بَيَانٌ قَوْله تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ بِنَصِّ قَوْلِهِ {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَكَمَا بَيَّنَتْ السُّنَّةُ بَعْضَهُ «فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَدَّةَ السُّدُسَ» كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ بَيَّنَ هَذِهِ الْفَرَائِضَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ مُجْمَلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء: 7] . وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُ الْإِجْمَاعِ بِحُكْمٍ مُبْتَدَأٍ كَمَا يَكُونُ بَيَانَ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَذَلِكَ نَحْوُ إجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى حَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَأْجِيلِ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ. وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُ خُصُوصِ الْعُمُومِ بِالْإِجْمَاعِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّ الْعَبْدَ يُجْلَدُ خَمْسِينَ، وَالْإِجْمَاعُ (وَإِنْ) لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ تَوْقِيفٍ أَوْ رَأْيٍ فَإِنَّهُ أَصْلٌ بِرَأْسِهِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيمَا يَقَعُ الْبَيَانُ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 [بَابُ الْقَوْلِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. فَقَالَ قَائِلُونَ: غَيْرُ جَائِزٍ تَأْخِيرُ بَيَانِ اللَّفْظِ الَّذِي يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَ الظَّاهِرِ، وَمَنَعُوا أَيْضًا جَوَازَ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الظَّاهِرِ وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُؤَدِّيًا بِبَيَانٍ يَرِدُ فِي الثَّانِي. نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْطِ زَيْدًا حَقَّهُ إذَا بَيَّنَهُ (لَهُ) . وَامْتَنَعُوا مِنْ إجَازَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ (الْإِجْمَالِ مُظْهَرًا) فِيهِ فَقَالُوا فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهِمَا صَلَاةً أَوْ زَكَاةً مَعْهُودَةً أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي مِثْلِهِ عَنْ حَالِ وُرُودِهِ، إذْ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُوجِبُ تَعْلِيقَهُ بِبَيَانٍ يَرِدُ فِي الثَّانِي. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ حُكْمِهِ أَوْ كَانَ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وَقَالَ آخَرُونَ: مَا كَانَ مُجْمَلًا لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُجْمَلًا إلَّا أَنَّهُ قُرِنَ بِهِ مَا يُوجِبُ إجْمَالَهُ وَيَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ حُكْمِهِ فَجَائِزٌ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ عَنْ وَقْتِ وُرُودِهِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ مُؤَدِّيًا بِبَيَانٍ يَرِدُ فِي الثَّانِي أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَأْخِيرُ بَيَانِ خُصُوصِهِ - إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْخُصُوصَ - عَنْ حَالِ إيقَاعِ الْخِطَابِ وَالْفَرَاغِ مِنْهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الَّذِي أَحْفَظُهُ عَنْ (شَيْخِنَا) أَبِي الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَازَ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَامْتِنَاعَهُ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ (الْمُطْلَقِ) إذَا أَرَادَ بِهِ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَأْخِيرُ بَيَانِ مُرَادِهِ. وَهَذَا الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ هُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ نَسْخًا إذَا وَرَدَتْ مُتَرَاخِيَةً عَنْهُ (وَلَا يُجَوِّزُونَهَا) إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ نَحْوُ إيجَابِ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ، وَشَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ، وَالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَلَوْ جَازَ عِنْدَهُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي مِثْلِهِ لَمَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُمْ نَسْخًا (بَلْ) كَانَ يَكُونُ بَيَانًا لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بَدْءًا بَعْضُ الْفَرْضِ لَا جَمِيعُهُ، وَقَدْ أَجَازُوا (مِثْلَ) هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْمُجْمَلِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ نَسْخَهُ بَلْ كَانَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا كَانَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ مُرَادٌ بِاللَّفْظِ وَيَصِيرُ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ، فَكَانَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِيهِ عَلَى جِهَةِ بَيَانِ الْمُرَادِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ مَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا صِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا إذَا كَانَ (هَذَا) هَكَذَا اعْتِقَادُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عُمُومٍ (وَ) حَقِيقَةٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصَ أَوْ الْمَجَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ عَنْ حَالِ الْخِطَابِ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَلُزُومَ حُكْمِهِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَ (لَا) عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا اعْتِقَادَهُ بِنَفْسِ ظُهُورِ اللَّفْظِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عُمُومٍ أَوْ حَقِيقَةٍ فَقَدْ أَجَازَ لَنَا الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْبَعْضَ أَوْ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ فَقَدْ أَجَازَ لَنَا الْكَذِبَ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَنْفَكُّ الْقَائِلُ بِتَأْخِيرِ بَيَانِ مَا هَذَا وَصْفُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ. أَوْ إجَازَةُ مَجِيءِ الْعِبَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِذَلِكَ وَكِلَاهُمَا مَنْفِيَّانِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَيْضًا: فَإِنَّ إرَادَةَ التَّخْصِيصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَكَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَرَاخَى الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَقُولَ {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} [العنكبوت: 14] ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ مُدَّةٍ {إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعُمُومِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ أَلَّا يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا جَمِيعًا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 أَنَّ) تَأْخِيرَ بَيَانِهِمَا يُؤَدِّي إلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَاف مَا هُوَ بِهِ. وَأَيْضًا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وَقَالَ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] ، وَفِي مُخَاطَبَاتِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا انْقَطَعَ ضَرْبًا مِنْ الِانْقِطَاعِ يُعْرَفُ بِهِ الْفَرَاغُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ مُوجِبِهِ غَيْرَ مُنْتَظَرٍ بِهِ وُرُودُ بَيَانٍ فِي الثَّانِي يَنْفِي بَعْضَ مُوجِبِهِ، كَمَا يُعْقَلُ مِثْلُهُ فِي الْإِعْدَادِ إذَا عُرِّيَتْ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَوْ أَنَّ مُتَكَلِّمًا أَطْلَقَ لَفْظَ عُمُومٍ أَوْ عَدَدًا مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ: أَرَدْت بَعْضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ فِي مَقَالَتِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ (دِرْهَمٍ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ: أَرَدْت تِسْعَمِائَةٍ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمَا اُسْتُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ كَذِبٌ أَبَدًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَنْفِي بِهِ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ (مَا أَرَدْتُهُ) بِاللَّفْظِ أَوْ أَرَدْت نَفْيَهُ بِشَرْطٍ، فَلَمَّا كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ مَنْفِيًّا عَنْ مُخَاطَبَاتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى (وَخِطَابِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى) إنَّمَا خَاطَبَنَا بِمَا هُوَ فِي لُغَتِنَا وَتَعَارُفِنَا. فَإِنْ قَالَ (قَائِلٌ) : يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي النَّسْخِ لِأَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاجِبٌ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ بَقَاءِ حُكْمِهِ، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ وُرُودِ نَسْخِهِ، كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَلْزَمَنَا اعْتِقَادُ الْعُمُومِ مَا لَمْ يَرِدْ بَيَانُ الْخُصُوصِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَتَبْدِيلُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ بَقَاءَهُ مَا دَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيًّا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ جَوَازِ نَسْخِهِ مَا بَقِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا وَرَدَ النَّسْخُ فَإِنَّمَا وَرَدَ مَا كَانَ فِي اعْتِقَادِنَا عِنْدَ وُرُودِ الْفَرْضِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِيمَا كَانَ وَصْفُهُ مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك} [المائدة: 67] قَالَ: فَقَدْ أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْبَيَانِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] إنَّمَا يَقْتَضِي الْمُنَزَّلَ بِعَيْنِهِ وَالْمُنَزَّلُ مُبَيَّنٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إظْهَارَهُ وَتَرْكَ كِتْمَانِهِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ الْخُصُوصِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ احْتَاجَ أَنْ يُثْبِتَ أَوَّلًا أَنَّ الْبَيَانَ مِمَّا نَزَلَ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ، وَكَلَامُنَا مَعَ الْمُخَالِفِ فِي: هَلْ جَائِزٌ أَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ الْعُمُومِ (إذَا كَانَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ) وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ امْتِنَاعُهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ الْخُصُوصِ لَمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا تَقُولُ: أَعْطَيْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ لِتَشْتَرِي بِهَا ثَوْبًا أَوْ لِتُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِك لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وَأَيْضًا: فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ لِتُبَيِّنَ مَا أُمِرْت بِبَيَانِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى (أَنْ) يُثْبِتَ أَوَّلًا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ عَلَى الْفَوْرِ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرَ هَذَا الْقَائِلُ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك} [المائدة: 67] فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَوَّلًا أَنَّ الْبَيَانَ مِمَّا (قَدْ) أُنْزِلَ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ، لِأَنَّ مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذَا مُجَوِّزٌ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمُومَ حُكْمٍ وَمُرَادُهُ الْخُصُوصُ ثُمَّ يُؤَخِّرُ بَيَانَهُ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ أَجَازَ الْبَيَانَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ زَعْمُ إحَالَةِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصْلَحَتِنَا أَنْ يُخَاطِبَنَا بِالْعُمُومِ فَنَعْتَقِدُهُ ثُمَّ يُبَيِّنُهُ لَنَا فِي الثَّانِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ وَانْحِلَالُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَوَّلًا أَنَّ فِي الْعَقْلِ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصْلَحَتِنَا أَنْ يُخَاطِبَنَا بِالْعُمُومِ فَنَعْتَقِدُهُ ثُمَّ يُبَيِّنُهُ لَنَا فِي الثَّانِي. وَقَائِلُ هَذَا لَا يَدْرِي أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ (فِي) أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِخِلَافِ مُرَادِهِ وَأَنْ يُبِيحَ لَنَا الْإِخْبَارَ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، فَرَامَ هَذَا الْقَائِلُ إثْبَاتَ تَجْوِيزِ كَوْنِ الْمَصْلَحَةِ فِي مَجِيءِ الْعِبَادَةِ بِهِ بِأَنْ يَجُوزَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُتَعَبَّدَ بِخِلَافِ مُرَادِهِ، وَبِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ فَانْتَظَمَ أَمْرَيْنِ كِلَاهُمَا مَنْفِيٌّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى. أَحَدُهُمَا: تَجْوِيزُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ (يَتَعَبَّدَنَا بِالْجَهْلِ) لِأَنَّ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ جَهْلٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وَالثَّانِي: تَجْوِيزُهُ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِالْكَذِبِ، ثُمَّ إنَّهُ بَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ الَّذِي أَصَّلَهُ فِي التَّجْوِيزِ وُجُودَ مَا ادَّعَاهُ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِي زَعْمِهِ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْك وَحْيُهُ} [طه: 114] قَالَ: وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: تِلَاوَتُهُ. وَالْآخَرُ: بَيَانُهُ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: (أَنَّهُ) إنْ سَلِمَ لَهُ مَا (قَدْ) ادَّعَاهُ مِنْ التَّأْوِيلِ مِنْ أَنَّ وَحْيَهُ بَيَانُهُ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَقْتَضِي الْبَيَانَ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُكَتَّفِي بِنَفْسِهِ عَنْ الْبَيَانِ فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْعَجَلَةِ (بِهِ) قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ جَمِيعِهِ لِأَنَّ بَيَانَ الْقَوْلِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ وَبُلُوغُ آخِرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُعَلَّقُ تَارَةً بِشَرْطٍ (وَ) يُوصَلُ بِاسْتِثْنَاءِ وَبِلَفْظِ التَّخْصِيصِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مُوَافِقًا لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْك بَيَانُهُ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ. وَيُقَالُ لِلْمُحْتَجِّ بِهَذَا: مَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} [طه: 114] عِنْدَك؟ أَرَادَ بِهِ أَنْ (لَا) يَتْلُوَهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ (لَا) يَعْتَقِدَ حُكْمَهُ عَلَى مَا وَرَدَ حَتَّى نُبَيِّنَ لَك مَعْنَاهُ. فَإِنْ قَالَ: أَرَادَ التِّلَاوَةَ. قِيلَ لَهُ: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا لَهُ التِّلَاوَةُ إذَا حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْهُ بِانْقِطَاعِ الْكَلَامِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فَإِنْ قَالَ: أَرَادَ (أَنْ) لَا يَعْتَقِدَهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ (مِنْ) اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ. وَهَذَا لَوْ صَحَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ مَنْ يَقِفُ فِي الْعُمُومِ وَأَنْتَ تَقُولُ إنِّي أَعْتَقِدُ الْعُمُومَ فِيهِ مَا لَمْ يَرِدْ بَيَانُهُ، فَقَدْ خَالَفْت قَوْلَهُ {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} [طه: 114] عَلَى مَعْنَاهُ عِنْدَك، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعُمُومَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِ جَمِيعِهِ يَجُوزُ عِنْدَك. وَكُلَّمَا بُيِّنَ لَهُ شَيْءٌ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَيَانٌ آخَرُ وَالْبَيَانُ نَفْسُهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا أَيْضًا عَلَى بَيَانٍ آخَرَ، وَهَذَا فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا: بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَيُقَالُ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ وَالْقَوْلُ الْمُكَتَّفِي بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ. فَمَا الدَّلَالَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ (كَوْنِهِ) بَيَانًا حَتَّى يَجُوزَ تَأْخِيرُهُ. وَأَيْضًا: مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بَيَانَ جَمِيعِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ أَيْضًا مُفْتَقِرًا إلَى بَيَانٍ. وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ الْمُجْمَلُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الظَّاهِرِ. وَأَيْضًا: فَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا مَعَ وُرُودِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ بَعْضِ الْقُرْآنِ صَارَ تَقْدِيرُهَا (ثُمَّ) إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ بَعْضِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى عَلَى مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤَخِّرُ بَيَانَهُ. وَقَالَ هَذَا الرَّجُلُ أَيْضًا: لَمَّا كَانَ (تَأْخِيرُ) بَيَانِ الْجُمْلَةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْعُمُومِ وَلَا فَرْقَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ جَوَابًا وَلَا زِيَادَةً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ: وَلِمَ قُلْت إنَّ هَذَا مِثْلُ بَيَانِ الْجُمْلَةِ؟ . ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَدْرِ مَا الِاعْتِقَادُ وَفِي الْعُمُومِ يَدْرِي. قَالَ: فَإِنَّهُمَا قَدْ اجْتَمَعَا فِي أَنَّ سَارِقًا يُقْطَعُ وَأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ يُقْطَعُ. وَقَالَ (وَ) أَيْضًا فَإِذَا جَازَ أَنْ يُؤَخَّرَ بَيَانُ مَا لَا يُدْرَى مَا هُوَ كَانَ بَيَانُ مَا يُدْرَى أَوْلَى أَنْ يُؤَخَّرَ هُنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا قَوْلُهُ قَدْ اجْتَمَعَا فِي الِاعْتِقَادِ (فَهُمَا سَوَاءٌ) فَإِنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْهَذَيَانِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَا يُمْكِنُنَا اعْتِقَادُ مَعْنَاهَا، وَإِنَّمَا نَعْتَقِدُ بِوُرُودِهَا إنْ فَرَضْنَا مَا قَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ وُرُودِ الْبَيَانِ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ نُبَيِّنَ فِي الثَّانِي مَعْنَى اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْعُمُومُ فَعَلَيْنَا فِيهِ اعْتِقَادُ ظَاهِرِهِ وَمُوجِبَ لَفْظِهِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ غَيْرَ مَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ فَحِينَ أَلْزَمَنَا الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا اعْتِقَادَهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَهُ مِنَّا، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إذَا جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِ مَا لَا يُدْرَى مَا هُوَ فَفِيمَا يُدْرَى أَوْلَى فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ مَا لَا يُدْرَى لَا يَلْزَمُنَا فِيهِ اعْتِقَادُ شَيْءٍ يُبَيَّنُ لَنَا فِي الثَّانِي خِلَافُهُ، وَمَا يُدْرَى قَدْ أُلْزِمْنَا مِنْهُ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الْبَيَانِ بَعْدَهُ بِخِلَافِهِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ الْجُمْلَةِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} [العنكبوت: 14] فَتَأْخِيرُ بَيَانِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْلَى حَتَّى يَقُولَ بَعْدَ مُدَّةٍ {إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] كَمَا قُلْت فِي تَأْخِيرِ بَيَانِ الْعُمُومِ إذَا كَانَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: وَإِنَّمَا نَقُولُ فِي اعْتِقَادِ مِثْلِهِ أَنَّا نَعْتَقِدُهُ عَلَى الْعُمُومِ إنْ خَلَّيْنَا وَهُوَ، فَلَيْسَ يَرْفَعُ الْبَيَانُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّمَا حَكَيْنَا أَلْفَاظَهُ عَلَى وَجْهِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَلْحُونَةً عَنْهُ لِأَنَّا لَمْ نُحِبَّ تَغْيِيرَهَا وَأَرَدْنَا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرَهَا. فَيُقَالُ (لَهُ) : فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا تَقُولُ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ إذَا صَدَرَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْهُ قَبْلَ وُرُودِ الْبَيَانِ، أَنَقْطَعُ فِيهِ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْعُمُومُ أَوْ لَا نَقْطَعُ فِيهِ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي الْحَالِ؟ . فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْتَقِدُ فِيهِ الْعُمُومَ إلَّا لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ (بِهِ) الْخُصُوصَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّا كَلَّمْنَاك عَلَى أَنَّك تَقُولُ مَعَنَا بِالْعُمُومِ، فَإِنْ صِرْت إلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْوَقْفِ سَحَبْنَا عَلَيْك جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ إثْبَاتِ الْعُمُومِ عَلَى أَصْحَابِ الْوَقْفِ وَأَلْزَمْنَاك أَنْ تَقِفَ فِي الْبَيَانِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيَانٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ وَيَذْكُرُهُ فِي الثَّانِي، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ بَيَانٍ يَرِدُ سَوَاءٌ كَانَ لَفْظًا أَوْ دَلَالَةً مِنْهُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ (اللَّفْظِ فَأَوْجَبَ الْوَقْفُ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ) لِجَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِهِ فَدَلَالَتُهُ أَحْرَى أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا. فَإِنْ قَالَ: إنِّي لَا أَقُولُ بِالْوَقْفِ، وَالْفَصْلُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْوَقْفِ أَنِّي أَقُولُ إنِّي أَعْتَقِدُ الْعُمُومَ إنْ خُلِّيت وَإِيَّاهُ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ نَقِفُ فِيهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعُمُومُ أَوْ الْخُصُوصُ. قِيلَ لَهُ: لَا فَصْلَ بَيْنَكُمَا فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا خَالَفْتهمْ فِي الْعِبَارَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّك مُعْتَرِفٌ أَنَّك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 لَمْ تُخَلَّ وَالْعُمُومَ حِينَ وُرُودِهِ وَحُصُولِ الْفَرَاغِ مِنْهُ، فَالْعُمُومُ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ لِأَنَّك عَلَّقْته بِشَرْطٍ لَمْ يَثْبُتْ وَهُوَ قَوْلُك إنْ خُلِّيت وَإِيَّاهُ وَأَنْتَ (إذَا لَا) تَدْرِي أَخُلِّيت وَإِيَّاهُ أَمْ لَا، وَأَنْتَ وَاقِفٌ فِي الْعُمُومِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَك وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْوَقْفِ حِينَ قَالُوا نَعْتَقِدُ الْعُمُومَ إنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ وَالْخُصُوصَ إنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ، فَإِنْ قُلْت إنِّي قَدْ خُلِّيت وَالْعُمُومَ نَقَضْت مَا ابْتَدَأْت بِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَرَجَعْت عَنْهُ وَلَزِمَك جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ. وَيُقَالُ لَهُ: مَا الْفَصْلُ بَيْنَك وَبَيْنَ مَنْ اعْتَقَدَ فِي ذِكْرِ الْأَعْدَادِ مِثْلِ اعْتِقَادِك فِي الْعُمُومِ، فَنَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] إنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ عِنْدَ وُرُودِهِ أَنَّهُمَا شَهْرَانِ إنْ خُلِّينَا وَإِيَّاهُمَا وَإِنْ (لَمْ) يُعْقِبْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَيَانِ اسْتِثْنَاءٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دُونَهُمَا بِأَنْ نَقُولَ شَهْرَيْنِ إلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَلَا نَعْتَقِدُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155] وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ فِيهِ حَتَّى يُتَوَفَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَرِدَ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ (فَيَقُولُ) : سَبْعِينَ إلَّا عَشَرَةً وَاثْنَيْ عَشَرَ إلَّا وَاحِدًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْأَعْدَادِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا فَمَا الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَهْرٍ أَرَدْت أَلْفًا إلَّا مِائَةً فَلَمَّا كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَتَى حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 اعْتِقَادَ مَضْمُونِهَا غَيْرَ مُرْتَقِبٍ فِيهَا بَيَانًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهَا فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا. وَاحْتَجَّ أَيْضًا: بِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْبَيَانُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفِعْلِ كَمَا يُبَيِّنُ بِالْقَوْلِ وَزَمَانُ الْفِعْلِ أَطْوَلُ مِنْ زَمَانِ الْقَوْلِ فَقَدْ أَخَّرَ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ إمْكَانِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَبَيَّنَ جِبْرِيلُ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُجِبْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (السَّائِلَ) عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ (حَتَّى صَلَّى الصَّلَوَاتِ) ثُمَّ قَالَ «أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ؟ الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ (فِي شَيْءٍ) مِمَّا ذُكِرَ دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعَلَّقَ بِمَعْهُودٍ مَعْلُومٍ عِنْدَهُمْ فَانْصَرَفَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا لِمَا قَدْ عَلِمُوهُ، فَلَمْ يَقَعْ بِهَذَا بَيَانٌ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ» وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَعْنًى قَدْ عَرَفُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ. وَكَذَلِكَ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ حِينَ وَرَدَ كَانَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ، فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانَهُمَا وَنَحْنُ نُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا. (وَقَالَ أَيْضًا) : إنَّ النَّسْخَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِالصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّا نُصَلِّي إلَيْهَا مَا بَقِينَا وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ، فَنَعْتَقِدُ أَنْ لَا يَزَالَ يُصَلَّى إلَيْهَا إنْ بَقِينَا وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ فَيُقَالُ لَهُ لَيْسَ هَذَا مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بَعْدَ وُرُودِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَدْ اعْتَقَدْنَا ثُبُوتَهُ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ وَلَا تَبَيَّنَ لَنَا خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُجَوِّزُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانٌ آخَرُ وَقْتُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ، فَيَلْزَمُنَا اعْتِقَادُ عُمُومِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وُرُودُ النَّسْخِ رَافِعًا لِلِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَا اعْتَقَدْنَا ثُبُوتَهُ لَمْ يَرْتَفِعْ بِوُرُودِ النَّسْخِ (وَأَمَّا وُرُودُ نَسْخِهِ فَقَدْ) كُنَّا نُجَوِّزُهُ مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ، وَأَنْتَ فَلَا يُمْكِنُك أَنْ تَقُولَ مِثْلَهُ فِي بَيَانِ الْخُصُوصِ إلَّا بِتَرْكِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِي حَالِ وُرُودِ اللَّفْظِ فَيُجْعَلُ نَفْسُ الْحُكْمِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَرِدُ مِنْ بَيَانِهِ. وَأَيْضًا: فَلَوْ وَرَدَ الْحُكْمُ النَّاسِخُ مَعَ الْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَنَافَيَا، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: صَلِّ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى وَقْتِ كَذَا، ثُمَّ صَلِّ إلَى الْكَعْبَةِ، كَمَا تَقُولُ صَلِّ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَلَا تُصَلِّ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ. وَاعْتِقَادُ الْعُمُومِ لَا يَصِحُّ مَعَهُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ لَوْ جَمَعَهُمَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَعْتَقِدُ قَطَعَ جَمِيعِ السُّرَّاقِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ وَقْفٌ فِي السُّرَّاقِ لَا يُحْكَمُ فِيهِمْ بِشَيْءٍ حَتَّى يَرِدَ الْبَيَانُ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الثَّانِيَ يُنَافِي الْأَوَّلَ. فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ وُرُودُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُرِيدَهُ بِهِ، وَلَمَّا صَحَّ جَمْعٌ (ذَكَرَ) الْحُكْمَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ فِي خِطَابِ وَاحِدٍ صَحَّ أَنْ يُرِيدَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وَأَيْضًا: فَإِنَّ مُدَّةَ الْفَرْضِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً وَكَانَ تَجْوِيزُ بَيَانِهَا بِالنَّسْخِ فَإِنَّمَا صَارَ النَّسْخُ فِي (مَعْنَى) بَيَانِ الْمُجْمَلِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَعْلُولِ الْمَعْنَى فَجَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَلَيْسَ كُلُّ حُكْمٍ وَرَدَ مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ فَأَنْتَ تُجَوِّزُ نَسْخَهُ مَا بَقِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ لَهُ: فَنَقُولُ فِي كُلِّ عُمُومٍ يَرِدُ مِمَّا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ. فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: فَقَدْ تَرَكْت الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ، وَيَلْزَمُك أَنْ لَا تَثِقَ بِالْبَيَانِ أَنَّهُ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَأَنْ يَجُوزَ فِيهِ وُرُودُ بَيَانِ خُصُوصِهِ أَوْ تَعْلِيقِهِ عَلَى شَرْطٍ أَوْ حَالٍ أُخْرَى، أَوْ اسْتِثْنَاءٍ، وَيُسْحَبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يَلْزَمُ مَنْ يَنْفِي الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ فِي إخْلَاءِ اللَّفْظِ مِنْ الْفَائِدَةِ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا: بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ وَجْهُ مَا فَعَلَهُ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ فِي وَقْتِ الْفِعْلِ وَأَخَّرَهُ إلَى ثَانٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي جَمِيعِ مَا فَعَلَهُ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَنَا وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْمَوْتِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَل مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا هُوَ صَلَاحٌ وَحِكْمَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 فَأَمَّا أَنْ يُعَرِّفَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ فَيَقُولُ إنَّ هَذَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِيهِ كَذَا وَهَذَا وَجْهُهُ كَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَدْ كَانَ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُبَيِّنَ أَوْ لَا يُبَيِّنَ، إذْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِالْبَيَانِ فَلَمْ يُؤَخِّرْ بَيَانَ شَيْءٍ لَزِمَهُ بَيَانُهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (قَدْ) كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَفْعَلْ إلَّا مَا هُوَ صَوَابٌ وَحِكْمَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ (مِنْهُ) بِعَيْنِهِ فَكَانَ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمَوْقُوفِ الْحُكْمُ عَلَى الْبَيَانِ فَجَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ كَمَا نَقُولُ فِي تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ. (وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] وَقَالَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] فَبَيَّنُوا حِينَئِذٍ وَقَالُوا {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] فَخَاطَبُوهُ بِخِطَابٍ اقْتَضَى الْعُمُومَ وَلَمْ يُبَيِّنُوهُ فِي الْحَالِ حَتَّى سَأَلَ) . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَنَّ لُوطًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ خَارِجُونَ مِنْ الْخِطَابِ فَصَارُوا مُسْتَثْنِينَ بِالدَّلَالَةِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُخَاطِبِ اسْتِثْنَاؤُهُمْ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ الْجُمْلَةِ بِالْبَيَانِ فَقَدْ كَانَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ لُوطًا وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ وَعَلِمَتْ الْمَلَائِكَةُ (أَيْضًا ذَلِكَ) مِنْ عِلْمِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ خِطَابِهِمْ. فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ عَلِمَ أَنَّ لُوطًا مُسْتَثْنًى مِنْ خِطَابِهِمْ لَمَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 لَهُمْ: إنَّ فِيهَا لُوطًا، هَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ كَانَ اعْتَقَدَ مِنْ خِطَابِهِمْ الْعُمُومَ، وَجَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُمِيتَ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَعَ قَوْمِهِمْ (مِنْ غَيْرِ) أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُقُوبَةٌ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً لِقَوْمِهِمْ. قِيلَ لَهُ: وَمَا فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ فِيهَا لُوطًا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ مِنْ خِطَابِهِمْ اسْتِثْنَاءَ لُوطٍ مِنْ الْجُمْلَةِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ اعْتَقَدَ اسْتِثْنَاءَ لُوطٍ مِنْهُمْ وَقَالَ إنَّ فِيهَا لُوطًا عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ كَيْفِيَّةِ خَلَاصِهِ (بِأَنْ يَتْرُكَهُ) اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَرْيَةِ وَيُهْلِكَ أَهْلَهَا سِوَاهُ وَسِوَى مَنْ آمَنَ بِهِ، أَوْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا ثُمَّ يُهْلِكَ الْقَرْيَةَ بِمَا فِيهَا فَأَخْبَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حِينَئِذٍ بِجِهَةِ خَلَاصِهِ، أَوْ لَمْ تُبَيِّنْهُ لَهُ إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ بَيَانُهُ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَلَمْ يَثْبُتْ لِهَذَا الْقَائِلِ وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. وَذَكَرَ أَيْضًا: قِصَّةَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ أَنْ يُنَجِّيَهُ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي الثَّانِي اسْتِثْنَاءَ ابْنِهِ مِنْ الْمُنَجِّيِينَ فَقَالَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَخْبَرَهُ {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وَكَانَ ابْنُهُ كَافِرًا فَعَلِمَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الِابْنَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمُنَجِّيِينَ إنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ ابْنُهُ قَبْلَ الْغَرَقِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا قَالَ لَهُ {أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وَظَاهِرٌ هَذَا أَلَّا يَتَنَاوَلَ أَهْلَهُ فَقَالَ {رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَك الْحَقُّ} [هود: 45] فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَرِّفَهُ حَالَ ابْنِهِ بَعْدَ الْغَرَقِ هَلْ كَانَ نَزْعٌ عَنْ كُفْرِهِ بَعْدَ فِرَاقِهِ إيَّاهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَمَنَعَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] . وَذَكَرَ أَيْضًا: قِصَّةَ بَقَرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ بَقَرَةٍ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِي أَنَّهَا عَلَى صِفَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ عُمُومٍ وَأَرَادَ خُصُوصَ بَقَرَةٍ بِعَيْنِهَا فِي الثَّانِي. فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ كَانَ ذَبْحَ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَلَمَّا تَعَنَّتُوا شَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِزِيَادَةِ الصِّفَةِ. وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ فِيهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ هَذَا وَيَتَعَنَّتُونَ. قِيلَ لَهُ: عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ أَوْ لَا يَفْعَلُونَ لَا يَمْنَعُ (مِنْ) جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ قَبْلَ وُقُوعِهِ. وَذَكَرَ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41] وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي (عَبْدِ) الْمُطَّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ بِشَيْءٍ فَلَمَّا سَأَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ (لَمْ) يُرَادُوا بِالْقَرَابَةِ، وَقَدْ كَانَ اللَّفْظُ يَشْمَلُهُمْ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ حَتَّى سُئِلَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فَيُقَالُ (لَهُ: إنَّ) هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلِذِي الْقُرْبَى لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ قَرَابَةَ كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَتَنَاوَلُ قَرَابَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَيَانِ، وَنَحْنُ نُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ. وَذَكَرَ (أَيْضًا) قَوْله تَعَالَى {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى قَدْ عُبِدَتْ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] فَأَطْلَقَ اللَّفْظَ وَلَمْ يُعْقِبْهُ بِبَيَانٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى مَا قَالَ. فَيُقَالُ (لَهُ) : هَذَا جَهْلٌ بِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعُقَلَاءُ (لِأَنَّ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ) وَمَنْ لِلْعُقَلَاءِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ الزِّبَعْرَى عَلِمَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا اعْتَرَضَ بِمَا ذَكَرَ مُتَعَنِّتًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ اعْتِرَاضٍ كَمَا كَانُوا يُكَابِرُونَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ (إيَّاهُ) مَرَّةً سَاحِرًا وَمَرَّةً مَجْنُونًا وَيُنَاقِضُونَ فِيهِ أَفْحَشَ مُنَاقَضَةٍ وَلَا يُبَالُونَ، لِأَنَّ السَّاحِرَ هُوَ الَّذِي يَبْلُغُ (بِدِقَّةِ تَدْبِيرِهِ وَلُطْفِ حِيلَتِهِ) مَا لَا يَبْلُغُهُ غَيْرُهُ، وَالْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي يَخْبِطُ وَيَتَعَسَّفُ فِي أَفْعَالٍ لَا يُجْرِيهَا عَلَى نِظَامٍ وَلَا تَرْتِيبٍ فَمَنْ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةَ وَيُبَاهِتُ هَذَا الْبُهُتَ إذْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الطَّعْنِ فِي دَلَائِلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وَأَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَدًا وَبَغْيًا لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُبَاهَتَ فِي الِاعْتِرَاضِ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - عَلَى الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ لَفْظُ الْآيَةِ دُخُولَهُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ وَجْهُ اعْتِرَاضِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ إنْ كَانَتْ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ يَجِبُ مِثْلُهُ فِي (الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ) وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إنَّهَا فِي النَّارِ مَعَ عَبَدَتِهَا لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ثُمَّ أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ هَذَا الْقَائِلِ وَبُهْتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْأَصْنَامِ أَنَّهُ خَاطَبَ بِهَا قُرَيْشًا وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ (الْمَسِيحَ وَلَا الْمَلَائِكَةَ) . فَإِنْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَتَضَمَّنْ الْآيَةُ دُخُولَ هَؤُلَاءِ فِيهِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَ مَنْ اعْتَرَضَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: فَكَأَنَّك تُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَقَدَ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي حُكْمِهَا وَأَنَّهُمْ فِي النَّارِ لِأَنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْسَلَخَ مِنْ الْمِلَّةِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ (وَ) كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مُعْتَقِدَهُ كَافِرٌ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُرَادُوا بِالْآيَةِ. قِيلَ لَهُ: أَفَلَيْسَ قَدْ جَازَ أَنْ لَا يُجِيبَهُمْ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِيهَا فَمَا أَنْكَرْت مِنْ قَوْلِنَا حِينَ قُلْنَا إنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلُوا قَطُّ فِي الْآيَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِظُهُورِ فَسَادِ اعْتِرَاضِهِمْ وَلِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] لَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 تَنَاوَلَ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ، لَكَانَ مُرَتَّبًا عَلَى مَا قَرَّرَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَمْ يَرِدْ اللَّفْظُ مُقْتَرِنًا بِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فَأَيُّ بَيَانٍ تَأَخَّرَ. وقَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] تَأْكِيدٌ لِمَا قَدْ ثَبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ وَتَقْرِيرٌ لَهُ (كَمَا) ذُكِرَ (فِي صِحَّةِ) التَّوْحِيدِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ (تَعَالَى) فِي الْكِتَابِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ. فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَأَخَّرَ بَيَانَ الصَّلَاةِ عَلَى حَالِ الْأَمْرِ بِذِكْرِ الزَّكَاةِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ هَذَا الْقَدْرَ جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ أَوْقَاتًا كَثِيرَةً. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] مِنْ أَنْ يَكُونَ تَنَاوَلَ صَلَاةً مَعْهُودَةً قَدْ عَرَفُوهَا فَلَمْ تَكُنْ مُفْتَقِرَةً إلَى الْبَيَانِ فَقَوْلُك أَخَّرَ بَيَانَهَا سَاقِطٌ أَوْ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا عِنْدَ هُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَنَحْنُ نُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ حُكْمَ الْكَلَامِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ تَأَخُّرُهُ وَحُصُولُ الْفَرَاغِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَهُ بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ تَعَلَّقَ الْجَمِيعُ بِهِ، فَلَوْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْعُمُومِ وَمُرَادُهُ الْخُصُوصُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَهُ بِمِقْدَارِ الْفَرَاغِ مِنْ الْكَلَامِ، لِأَنَّ السَّامِعَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ شَيْئًا إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: جَمِيعُ مَا أَلْزَمْته الْقَائِلِينَ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ فِيهِ إلَى وُرُودِ الْبَيَانِ يَنْفِي وُجُوبَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَتَرْكَ الْوَقْفِ وَالْقَوْلَ بِاعْتِقَادِ عُمُومِهِ (وَ) يُؤَدِّي إلَى تَجْوِيزِ اعْتِقَادِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي دَلَائِلِ التَّخْصِيصِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ، لِأَنَّك لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَعْتَقِدَ الْعُمُومَ بِنَفْسِ وُرُودِهِ أَوْ تَقِفَ فِيهِ حَتَّى يَسْتَبِينَ حُكْمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 اللَّفْظِ فِي عُمُومِهِ أَوْ خُصُوصِهِ، فَإِنْ اعْتَقَدْت الْعُمُومَ لَمْ تَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يُوجِبُ خُصُوصَهُ فَتَكُونُ قَدْ اعْتَقَدْت الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَإِنْ وَقَفْت فِيهِ قُلْنَا: أَنْ تَقُولَ مِثْلَهُ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْعَامِّ أَنَّهُ عَلَى الْعَامِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ الَّذِي يَرِدُ فِي الثَّانِي، وَلَا يَقْدَحُ (ذَلِكَ) فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ كَمَا أَنَّ وُقُوفَك فِي عُمُومِ اللَّفْظِ إلَى أَنْ تَسْتَبْرِئَ حَالَ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِتَخْصِيصِهِ، يُعْتَرَضُ عَلَيْك فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ. قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَاطِبُ أَحَدًا بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَمُرَادُهُ الْخُصُوصُ إلَّا مَعَ إيرَادِ دَلَائِلِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْقَلَ الْخُصُوصُ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ كَمَا يُعْقَلُ الِاسْتِثْنَاءُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو السَّامِعُ لِذَلِكَ إذَا كَانَ مُخَاطَبًا بِحُكْمِ اللَّفْظِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ. وَمَنْ يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ فَلَا يُورَدُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا لِاعْتِقَادِ حُكْمِهِ عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنْهُ إمْضَاءَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ إذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ اعْتِقَادُ حُكْمِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ (وَالْقَطْعُ) بِأَنْ لَا دَلِيلَ هُنَاكَ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ. وَكَذَلِكَ الْعَامِّيُّ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأُصُولِ الْحُكْمِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ مَتَى سَأَلَ مَنْ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُهُ عَنْ (حُكْمِ) حَادِثَةٍ فَأَجَابَهُ فِيهَا بِجَوَابٍ مُعَلَّقٍ مِنْ آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ فَعَلَيْهِ اعْتِقَادُ عُمُومُهُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَاصًّا لَبَيَّنَهُ لَهُ، فَإِنْ سَمِعَ (خَبَرًا أَوْ آيَةً) عَلَى غَيْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِمَا شَيْئًا لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِحُكْمِهِمَا فَهُوَ فِي مَعْنَى مَنْ (لَمْ) يَسْمَعْهُمَا. وَإِنْ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأُصُولِ الْأَحْكَامِ وَالنَّظَرِ فِيهَا فَتَلَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ سَمِعَ خَبَرًا عَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ لَيْسَ (يَصِيرُ) مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْعِلْمِ بِأُصُولِ الْأَحْكَامِ إلَّا وَقَدْ عَرَفَ مِثْلَ ذَلِكَ مَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ مِنْ تَخْصِيصٍ أَوْ نَسْخٍ أَوْ صَرْفِهِ (عَنْ حَقِيقَتِهِ) إلَى الْمَجَازِ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ دَلَائِلُ الْأُصُولِ مُقَارِنَةً لِلْعُمُومِ فِي إيجَابِ تَخْصِيصِهِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْخُصُوصَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ خَاصًّا وَلَمْ يُبَيِّنْ هُوَ خُصُوصَهُ لِعُمُومِ دَلَالَتِهِ وَخَفَائِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِي ذَهَابِهِ عَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، فَإِنْ اعْتَقَدَ فِيهِ الْعُمُومَ فَإِنَّمَا قَصَّرَ فِي اجْتِهَادِهِ وَأَخْطَأَ فِي اعْتِقَادِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْهُ بِاعْتِقَادِ الْخَطَأِ. وَإِنَّمَا أَلْزَمَنَا نَحْنُ الْقَائِلِينَ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِاعْتِقَادِ عُمُومِ لَفْظٍ مُرَادُهُ فِيهِ الْخُصُوصُ فَيَكُونُ أَمْرًا لَهُ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْ ذَلِكَ بِمِثْلِ جَوَابِنَا عَنْ سُؤَالِهِمْ. لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ بَعْدُ شَيْئًا، وَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ (وَلَا يُمْكِنُهُمْ) الْوُصُولُ مَعَهُ عَلَى عِلْمِ الْخُصُوصِ. فَإِنَّمَا أَتَوْا فِي اعْتِقَادِ عُمُومِ مَعْنَاهُ (الْخُصُوصَ) مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِهِمْ وَذَهَابِهِمْ عَنْ وَجْهِ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ وَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ عِنْدَنَا. وَلَمْ نُنْكِرْ أَنْ يُخْطِئَ الْإِنْسَانُ فَيَعْتَقِدَ الْعُمُومَ فِيمَا (قَدْ) بُيِّنَ خُصُوصُهُ فَيُخْطِئَ دَلَالَةَ الْخُصُوصِ وَيَعْتَقِدَ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوقِفَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 خَطَأِ (قَوْلِ) كُلِّ قَائِلٍ بِنَصٍّ يُزِيلُ مَعَهُ الْإِشْكَالَ عَنْهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَخْطَأَهَا مُخْطِئٌ لَمْ (يُؤَثِّرْ) ذَلِكَ فِي وُقُوعِ الْبَيَانِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الْكَلَالَةِ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» فَلَمْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ عِنْدَ إشْكَالِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَوَكَلَهُ إلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ بَيَانِهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فَإِذَا لَمْ تَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ مِنْ الْآيَةِ أَوْ الْخَبَرِ مَنْسُوخًا بِغَيْرِهِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرَ فِي الْأُصُولِ هَلْ فِيهَا مَا يَنْسَخُهَا ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَ فِي حُكْمٍ قَدْ تَيَقَّنَّا ثُبُوتَهُ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْنَا الثَّبَاتُ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ، فَكَذَلِكَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ حُكْمِ اللَّفْظِ وَاعْتِقَادُ عُمُومِهِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ غَيْرَ ظَاهِرِهِ فَلَا يُبَيِّنُهُ، كَمَا أَنَّ عَلَيْنَا الثَّبَاتَ عَلَى حُكْمٍ قَدْ عَلِمْنَا ثُبُوتَهُ يَقِينًا وَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ فِيهِ لِأَجْلِ جَوَازِ نَسْخِهِ لِأَنَّ النَّسْخَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَبَيَّنَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ وَقَفَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ لِلنَّظَرِ فِي الْأُصُولِ هَلْ فِيهَا مَا يَخُصُّهُ فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَجِدْ فِيهَا (دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ حَكَمَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي حَالِ وُرُودِهِ، وَإِنْ وَجَدَ فِيهَا) مَا يَخُصُّهُ تَبَيَّنَ بِهِ اقْتِرَانُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ إلَى اللَّفْظِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّمَا وَقَفَ (طَلَبًا لِبَيَانٍ) قَدْ حَصَلَ (إنْ كَانَ خَاصًّا) . وَأَنْتَ تَقِفُ لِرَدِّ الْبَيَانِ فِي الثَّانِي وَلَا تَطْلُبُ بِوُقُوفِك بَيَانًا قَدْ حَصَلَ كُنْت بِذَلِكَ تَارِكًا لِلْقَوْلِ بِالْعُمُومِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 (فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ) لَيْسَ جَائِزًا أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ تَعَالَى (حُكْمًا) فَيَتَعَلَّقَ حُكْمُهُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ وَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ» فَقَدْ صَلَّوْا بَعْضَ صَلَاتِهِمْ بَعْدَ نَسْخِ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا لِأَنَّ حُكْمَ النَّسْخِ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، فَكَذَلِكَ مَا أُنْكِرَ أَنْ يَجُوزَ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ وَيَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ فَيَكُونُ السَّامِعُ مُتَعَبِّدًا بِاعْتِقَادِ الْعُمُومِ، فَإِذَا وَرَدَ الْبَيَانُ تَبَيَّنَ خُصُوصُ اللَّفْظِ فَصَارَ إلَيْهِ وَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِ بَدْءًا كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ فَهُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالْفَرْضِ الْأَوَّلِ فَإِذَا بَلَغَهُ عِلْمُ أَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخًا قَبْلَ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَنْ بَلَغَهُ النَّسْخُ بَعْدَ زَمَانٍ فَقَدْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالْفَرْضِ الْأَوَّلِ وَقْتَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ وَلَمْ يُنْسَخْ عَنْهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوخًا عَنْ غَيْرِهِ فَمَنْ بَلَغَهُ قَبْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَمُخَالِفُنَا فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ عُمُومٍ، مَعْنَاهُ الْخُصُوصُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِعَيْنِهَا. وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ النَّسْخِ مِنْ هَذَا أَنْ يَعْتَقِدَ الْعُمُومَ ثُمَّ يَخُصُّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِبَعْضِ حُكْمِ اللَّفْظِ، وَهَذَا لَا نَأْبَاهُ وَلَا نَكْرَهُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 [فَصْلٌ فِي تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ] فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمُجْمَلُ الَّذِي لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ إلَّا بِبَيَانٍ فَإِنَّمَا جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ مِنَّا اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ إذَا (كَانَ) بَيَّنَ حُكْمَهُ وَلَا يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَنَا فِي تَقْدِمَةِ ذَلِكَ إلَيْنَا وَتَكْلِيفِنَا تَوْطِينَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِهِ عِنْدَ بَيَانِهِ كَمَا كُلِّفْنَا سَائِرَ الْعِبَادَاتِ وَكَمَا كُلِّفْنَا اعْتِقَادَ (أَدَاءِ) الصَّلَاةِ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِهَا، وَفِعْلَ صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا حَضَرَ الشَّهْرُ، كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَدِّمَ إلَيْنَا جُمْلَةً يَلْزَمُنَا بِهَا تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِهِ إذَا وَرَدَ بَيَانُهُ، فَالْأَمْرُ الْمُجْمَلُ قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُزُومُ تَوْطِينِ النَّفْسِ فِي الْحَالِ عَلَى فِعْلِهِ إذَا وَرَدَ بَيَانُهُ، وَتَرَقُّبِ مَجِيءِ وَقْتِهِ. وَالثَّانِي: (أَنَّهُ) مَتَى بُيِّنَ كَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَيْسَ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ كَتَأْخِيرِ بَيَانِ الْعُمُومِ إذَا كَانَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ، لِأَنَّ وُرُودَ لَفْظِ الْعُمُومِ يُلْزِمُنَا شَيْئَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 أَحَدُهُمَا: اعْتِقَادُ حُكْمِهِ عَلَى مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُهُ. وَالْآخَرُ: لُزُومُ فِعْلِهِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ، وَلُزُومُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مَانِعٌ مِنْ تَأْخِيرِ بَيَانِ خُصُوصِهِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ اعْتِقَادَ الْعُمُومِ فِيمَا مُرَادُهُ الْخُصُوصُ، وَيُوجِبُ أَيْضًا اعْتِقَادَ لُزُومِهِ عَلَى الْفَوْرِ. وَالْمُرَادُ تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتِ الْبَيَانِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَنْفِيٌّ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُجْمَلُ لَا يَلْزَمُنَا فِيهِ اعْتِقَادُ عُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ وَ (لَا) يَلْزَمُ بِهِ الْفِعْلُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ عِنْدَ وُرُودِ الْبَيَانِ، وَأَكْثَرُ مَا يَلْزَمُنَا فِيهِ عِنْدَ وُرُودِهِ إعْلَامُ حُكْمٍ يُبَيِّنُهُ لَنَا فِي الثَّانِي وَيَلْزَمُنَا (بِبَيَانِهِ فِعْلُهُ) وَقَبْلَ بَيَانِهِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلُهُ عَلَيْهَا، وَيُنَبِّهُنَا عَلَى الْفِكْرِ فِيمَا حَتَّمَ فِعْلُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَبِتَرْكِهِ مِنْ الْعِقَابِ فَيَصِيرُ حَتْمًا عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِمَا هُوَ مُفْتَرَضٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَوْطِينَ النَّفْسِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ يُسَهِّلُ فِعْلَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ» . وَقَالَ تَعَالَى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] . رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمَعْلُومٌ (أَنَّهُ لَيْسَ) عَلَيْهِمْ فَرْضٌ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا أَمْرُنَا بِذَلِكَ (فِيهِمْ) لِيَتَمَرَّنُوا عَلَيْهَا وَيَعْتَادُوهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهَا إذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 بَلَغُوا وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - حَثًّا لَهُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالصَّبْرِ وَتَسْهِيلًا لِلْمِحْنَةِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْك مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك} [هود: 120] وَقَصَّ (عَلَيْنَا) أَخْبَارَ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لِنَتَّعِظَ بِهَا وَنَنْتَهِيَ عَنْ مِثْلِ الْأَفْعَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ بِهَا فَلَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ لَنَا بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْ اعْتِقَادِ صِحَّتِهَا وَالِاتِّعَاظِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُجْمَلُ إذَا كَانَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ التَّكْلِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي الْحَالِ يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِبَيَانٍ يَصْحَبُهُ ثُمَّ يُبَيِّنُهُ لَنَا إذَا أَرَادَ إلْزَامَ الْفِعْلِ (بِهِ) ، وَهَذَا يُسْقِطُ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التِّلَاوَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ مَأْمُورٌ بِهِ يَلْزَمُنَا فِعْلُهُ فِي الْحَالِ وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُخَاطَبَةِ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ وَأَنَّ إيرَادَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْهُ بِلَفْظِ النَّهْيِ إذْ لَيْسَ تَحْتَهُ فِعْلٌ مُرَادٌ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خِطَابَ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ لَا يَفْهَمُ بِهِ الْمُخَاطَبُ شَيْئًا وَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ، فَيَكُونُ عَبَثًا وَلَغْوًا، وَالْخِطَابُ الْمُجْمَلُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ التَّكْلِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ الْمُجْمَلِ فَمُنْفَصِلٌ عَنْ الْخِطَابِ بِالنَّهْيِ الْمُجْمَلِ كَانْفِصَالِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ الْمَعْلُومِ الْمَعْنِيِّ عَنْ الْخِطَابِ بِالنَّهْيِ، لِأَنَّ النَّهْيَ الْمُجْمَلَ يُفِيدُ تَوْطِينَ النَّفْسِ عَلَى اجْتِنَابِ مَا يَرِدُ بَيَانُهُ، كَمَا يُفِيدُ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ الْمُجْمَلِ تَوْطِينَهَا (عَلَى) فِعْلِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْبَيَانِ، فَبَانَ بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ اعْتَرَضَ بِمِثْلِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَأْمَنُ أَنْ تُعَاجِلَهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلِ بَيَانِهِ فَلَا يُوصَلُ بَعْدَهُ إلَى حُكْمِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلِمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَنْ يَتَوَفَّاهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ وَيُبَيِّنَ (لِلْأُمَّةِ) مَا تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِهِ فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ. وَأَيْضًا: فَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ أَخَّرَ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتٍ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَهُ تَبْلِيغُهُ وَأَدَاؤُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيفِهِ إيَّاهُ عَلَى تَعْجِيلِهِ وَتَرْكِ تَأْخِيرِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرْسَلَهُ إلَى النَّاسِ لِيُبَلِّغَهُمْ مَا تَهُمُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، فَإِذَا أَبَاحَ لَهُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فَإِنَّمَا يُبِيحُهُ لَهُ مَا (لَمْ) يُؤَخِّرْهُ إلَى وَقْتٍ يَفُوتُهُ فِيهِ فِعْلُهُ، فَإِذَا صَارَ فِي حَالٍ إنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ فِيهِ فَاتَهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَعْلَمَهُ قَبْلَ تَأْخِيرِهِ. فَأَمَّا مَنْ أَجَازَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ إذَا كَانَ فِي الْخِطَابِ مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِحَالٍ ثَابِتَةٍ، وَأَبَاهُ إذَا وَرَدَّ مُطْلَقًا غَيْرَ مُطْمِعٍ فِي بَيَانٍ يَرِدُ فِي الثَّانِي، فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا كَانَ يَقْتَضِي فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ فَقَدْ أَلْزَمَنَا بِوُرُودِ الْأَمْرِ فِعْلَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مَقْرُونًا بِهِ لِيُمْكِنَهُ تَنْفِيذُهُ وَإِلَّا كَانَ فِيهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَهَذَا (لَا) يُوجِبُ مَا قَالُوهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُرُودَ الْأَمْرِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِوَقْتٍ، وَتَقُومُ الدَّلَالَةُ عَلَى (أَنَّ) الْمُرَادَ بِهِ الْمُهْلَةُ دُونَ الْفَوْرِ، فَمَتَى وَرَدَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ كَانَ وُرُودُهُ هَذَا الْمُورِدَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنَّا فِعْلَهُ فِي الْحَالِ، وَأَنَّ لُزُومَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَارَنَةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لِلَّفْظِ وَبَيْنَ ذِكْرِ مَا يُوجِبُ وُقُوفَهُ عَلَى الْبَيَانِ مُتَّصِلًا بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 [بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ مَا هُوَ] َ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ: افْعَلْ إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ حِينَ قَسَّمُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الْكَلَامَ جَعَلُوا الْأَمْرَ أَحَدَ أَقْسَامِهِ، وَقَالُوا هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ افْعَلْ كَمَا (ذَكَرُوا الْخَبَرَ) وَالِاسْتِخْبَارَ وَالطَّلَبَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ افْعَلْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: عَلَى جِهَةِ إيجَابِ الْفِعْلِ (وَإِلْزَامِهِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {واتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 189] {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَنَحْوِهَا، وَعَلَى النَّدْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وَقَوْلِهِ {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، وَعَلَى الْإِرْشَادِ إلَى الْأَوْثَقِ وَالْأَحْوَطِ لَنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، (وَقَوْلِهِ) {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وقَوْله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فِي (شَأْنِ) الرَّجْعَةِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وَعَلَى الْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] . وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وَعَلَى التَّقْرِيعِ وَالتَّعْجِيزِ كَقَوْلِهِ {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] وقَوْله تَعَالَى {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] . وَعَلَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] . وقَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِك} [الإسراء: 64] . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَكُونُ خِطَابًا مِنْ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ. وَتَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ وَالطَّلَبِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ فَوْقَهُ كَقَوْلِنَا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ أَوْ الْوَعِيدِ أَوْ الْمَسْأَلَةِ لَا يُسَمَّى أَمْرًا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْأَمْرِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: " افْعَلْ " إذَا كَانَ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً أَوْ إشَارَةً، هَلْ يُسَمَّى أَمْرًا، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْإِيجَابَ كَانَ أَمْرًا. فَقَالَ قَائِلُونَ: جَمِيعُ ذَلِكَ يُسَمَّى أَمْرًا وَلَيْسَ وُرُودُهُ مُطْلَقًا أَوْلَى بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مِنْهُ بِالْآخَرِ وَجَمِيعُهُ يُسَمَّى أَمْرًا. وَقَالَ آخَرُونَ: حَقِيقَةُ الْأَمْرِ مَا كَانَ إيجَابًا وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِأَمْرٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أُجْرِيَ عَلَيْهِ الِاسْمُ فِي حَالٍ كَانَ مَجَازًا، (وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ، وَهَذَا) الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ لِلْإِيجَابِ صِيغَةٌ فِي اللُّغَةِ تَخْتَصُّ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ لِأَهْلِ كُلِّ لُغَةٍ إلَى أَنْ (يَكُونَ) فِي لُغَتِهِمْ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ إيجَابٌ كَمَا أَنَّ بِهِمْ ضَرُورَةً إلَى أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلْخَبَرِ وَلَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِخْبَارِ وَلَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلْعُمُومِ وَكَمَا سَمَّى الْأَجْنَاسَ وَنَحْوَهَا. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِإِيجَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ هُوَ: لَفْظُ الْأَمْرِ الْمَوْضُوعُ لِلْإِيجَابِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْإِيجَابُ: أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَنْتَفِيَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ قَدْ يَنْتَفِي عَنْهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَوْمِ (شَهْرِ) رَمَضَانَ كَانَ صَادِقًا، وَلَوْ قَالَ: لَمْ يَأْمُرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ كَانَ كَاذِبًا (خَارِجًا) مِنْ الْمِلَّةِ، وَ (لَوْ) قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَك فِي هَذَا الْوَقْتِ بِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَدَقَةِ نَفْلٍ أَوْ بِالِاصْطِيَادِ أَوْ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا فِي قَوْلِهِ، وَكَانَ وَاضِعًا لِلْأَمْرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَلَا صَدَقَةٌ: مَا أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَانَ مُصِيبًا فِي قَوْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَمْرِ مُمْتَنِعًا فِي النَّوَافِلِ وَالْمُبَاحَاتِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا غَيْرَ مُنْتَفٍ عَنْ الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ بِحَالٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَخْتَصُّ بِالْإِيجَابِ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا مَتَى لَمْ يُصَادِفْ وَاجِبًا. وَيَدُلُّ (عَلَى ذَلِكَ) أَيْضًا أَنَّ الْعَرَبِيَّ يُسَمِّي تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصِيًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] ، وَقَالَ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ اللِّوَى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى ... غِوَايَتَهُمْ وَأَنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدِي فَسَمَّى تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصِيًا وَسِمَةُ الْعِصْيَانِ لَا تَلْحَقُ إلَّا تَارِكَ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مُخْتَصٌّ بِالْإِيجَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 [بَابُ الْقَوْلِ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ لِمَنْ تَحْتَ طَاعَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ هُوَ أَمْ عَلَى النَّدْبِ] ِ؟ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ قَائِلُونَ: الَّذِي يُفِيدُهُ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الدَّلَالَةُ عَلَى حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَوْنُهُ مُرَغَّبًا فِيهِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْإِيجَابِ وَلَا الْإِبَاحَةِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّدْبُ أَوْ الْإِيجَابُ. وَقَالَ آخَرُونَ: اللَّفْظُ (مُحْتَمِلٌ) لِلْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ فَهُوَ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ حَتَّى تَقُومَ (دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْمُرَادِ) بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَلَى الْإِيجَابِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَإِلَيْهِ كَانَ مَذْهَبُ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُهُ التَّخْيِيرَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ يُثْبِتُ مَعَهُمَا التَّخْيِيرَ وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 36] فَسَمَّى تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصِيًا وَاسْمُ الْعِصْيَانِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا لَفْظُ لِلْأَمْرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ غَيْرُ قَوْلِهِمْ افْعَلْ فَدَلَّ أَنَّهُ لِلْإِيجَابِ حَتَّى (تَقُومَ الدَّلَالَةُ) عَلَى غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 {فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، وَالْقَضَاءُ يُسَمَّى أَمْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} [الإسراء: 23] مَعْنَاهُ أَمْرٌ مُتَضَمِّنٌ لُزُومَ الْأَمْرِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَعِيدَ لَا يَلْحَقُ تَارِكَ النَّدْبِ وَالْمُبَاحِ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْأَمْرِ وَوُجُوبِهِ لَوْلَا (هَا) مَا اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ بِتَرْكِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَوْعَدَ مَنْ خَالَفَ الْأَمْرَ، وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَمْرِ. قِيلَ لَهُ: (بَلْ) هُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَفْطَرَ فِي (شَهْرِ) رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ خَالَفْت أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك} [الأعراف: 12] فَعَلَّقَ ذَمَّهُ بِتَرْكِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلَّوْمِ وَذَلِكَ حُكْمُ الْوَاجِبَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا ذَمَّهُ لِأَنَّهُ اسْتَكْبَرَ لِمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إلَّا إبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] . قِيلَ لَهُ: قَدْ ذَمَّهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَعَلَى الِاسْتِكْبَارِ، وَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ بِمُجَرَّدِهِ مَذْمُومٌ لَمَّا قَرَنَهُ إلَى الِاسْتِكْبَارِ فِيمَا عَنَّفَهُ عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ " لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فَيَكُونُ مُقْتَضِيًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ لِبَعْضِهَا حَقِيقَةً وَلِبَعْضِهَا مَجَازًا. فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْإِيجَابِ مَجَازًا فِيمَا سِوَاهُ عَلَى مَا يَقُولُهُ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ (فَلَا يُصْرَفُ) إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ حَقِيقَةً فِي الْإِيجَابِ وَأَفَادَنَا بِاللَّفْظِ فَغَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ إذَا (كَانَ كَذَلِكَ جَازَ) حَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْإِيجَابِ، لِأَنَّ مَا صَلُحَ لِلْإِيجَابِ وَلِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَهُ وَاجِبًا إلَّا بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ أَوْ نَقِفُ فِيهِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمُرَادِ إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِتَضَادِّهَا. قِيلَ لَهُ: حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ (لِلْإِيجَابِ) بِمَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْته مِنْ الْحَقِيقَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيجَابِ أَوْلَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبَاحَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ وَلَا بِتَرْكِهِ الْعِقَابَ. (وَالنَّدْبُ مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِتَرْكِهِ الْعِقَابَ) فَفِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى عَلَى الْمُبَاحِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وَالْوَاجِبُ مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ وَبِتَرْكِهِ الْعِقَابَ ، فَفِيهِ زِيَادَةُ حُكْمٍ عَلَى النَّدْبِ. فَلَوْ سُلِّمَ لَك أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ الْأَوْلَى حَمْلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ وَيَقْتَضِيهِ وَهُوَ يُفِيدُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ (فِيهِ) حَقِيقَةً، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقَهَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] كَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يَتَضَمَّنُهُ وَيَقْتَضِيهِ، وَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ (بِهِ) عَلَى الْأَقَلِّ إلَّا بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ، كَذَلِكَ لَفْظُ الْأَمْرِ إذَا كَانَ يُفِيدُ الْإِيجَابَ حَقِيقَةً فَقَدْ تَضَمَّنَ وُرُودُهُ اسْتِيعَابَ جَمِيعِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ فَلَا جَائِزٌ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْبَعْضِ، وَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ إنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْجَمِيعِ فَهُوَ يَقْتَضِي عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لُزُومَ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ حَقِيقَةً فِي بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا (هَا) مَجَازًا فِي الْبَعْضِ، وَلَيْسَ يَخْلُو مَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِيجَابَ أَوْ النَّدْبَ أَوْ الْإِبَاحَةَ. فَإِنْ كَانَ لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُ النَّدْبَ وَالْإِبَاحَةَ حَقِيقَةً دُونَ غَيْرِهِمَا فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ لِلْإِيجَابِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ فَقَدْ صَرَفَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ وَاسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ حَقِيقَةً فِي قَوْلِهِ {فآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأعراف: 158] ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّقْوَى عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1] فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِيجَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَوْضُوعُ اللَّفْظِ لِإِفَادَةِ كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنًا مَمْدُوحًا، وَأَنَّهُ لِلْإِيجَابِ مُتَعَلِّقٌ بِإِرَادَةِ الْآمِرِ فَمَتَى صَارَ عَارِيًّا عَنْ دَلَالَةِ الْإِيجَابِ لَمْ نَحْمِلْهُ عَلَيْهِ لِفَقْدِ عِلْمِنَا بِإِرَادَتِهِ إذْ كَانَتْ الصِّيغَةُ لَا تُفِيدُ الْإِيجَابَ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تُفِيدُهُ لَأَفَادَتْهُ حَيْثُ وُجِدَتْ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا قَدْ تَرِدُ وَلَا يُرَادُ بِهَا الْإِيجَابُ. قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ إذَا وَرَدَتْ الصِّيغَةُ مُقَارِنَةً لِدَلَالَةِ الْإِيجَابِ؟ أَيَكُونُ اللَّفْظُ عِنْدَك مُسْتَعْمَلًا لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً أَمْ مَجَازًا؟ فَإِنْ قَالَ: حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِالْإِرَادَاتِ وَلَا تَنْتَفِي عَمَّا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي مُوَاصَفَاتِ اللُّغَةِ فِيهَا بِحَالٍ فَإِذَا قَدْ أَعْطَيْت أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً عِنْدَ إرَادَةِ الْآمِرِ ذَلِكَ فَهَلَّا دَلَّك هَذَا عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَصْلِ لِلْإِيجَابِ فَيُعْقَلُ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَ وُرُودِهِ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ فِيهِ إلَى أَنْ يَعْرِفَ إرَادَةَ الْقَائِلِ إذَا لَمْ يَقْرِنْهُ بِدَلَالَةٍ تُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، بَلْ يَكُونُ وُرُودُهُ مُطْلَقًا دَلَالَةً عَلَى إرَادَةِ الْقَائِلِ لِلْإِيجَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ فَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ، كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ لِمُسَمَّيَاتِهَا حَقِيقَةٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يَجُزْ الْوُقُوفُ فِيهَا إلَى أَنْ يَتَعَرَّفَ إرَادَةَ الْقَائِلِ بِإِطْلَاقِهَا وَوُجُوبَ إمْضَائِهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا فِي اللُّغَةِ مَتَى لَمْ يَقْرِنْهُ بِدَلَالَةٍ تُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَكَلَفْظِ الْعُمُومِ لَمَّا كَانَ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أَنَّهُ لِلشُّمُولِ وَالِاسْتِيعَابِ لَمْ يَحْتَجْ عِنْدَ وُرُودِهِ مُطْلَقًا إلَى مُسَاعَدَةِ الدَّلَالَةِ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مَتَى وَرَدَ مُقَارِنًا لِدَلَالَةِ الْإِيجَابِ كَانَ مَجَازًا مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ رَفَعَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلَفْظِ الْإِيجَابِ صِيغَةٌ فِي اللُّغَةِ، وَخَرَجَ (بِهِ) أَيْضًا عَنْ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَزِمَهُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِيمَا سَلَفَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الصِّيغَةَ نَفْسَهَا لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهَا فِي إيجَابِهَا لِذَلِكَ وَلَمَا وَرَدَتْ إلَّا مُوَجَّهَةً. فَإِنَّا نَقُولُ لَهُ إنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ (فِي) الْأَصْلِ فَمَتَى صَدَرَتْ وَالْمُرَادُ النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ فَهِيَ مَجَازٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لَا حَقِيقَةٌ كَمَا تَقُولُ فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ وُرُودُ الصِّيغَةِ (عَارِيَّةً مِنْ) حُكْمِ الْإِيجَابِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا وَبَابُهَا الْوُجُوبَ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ تَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ مَعَ إرَادَةِ الْخُصُوصِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ اعْتِبَارَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ عِنْدَ تَعَرِّيه مِنْ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ (مَنْ) قَالَ إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ النَّدْبُ فَقَدْ أَعْطَى بِأَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ مِنْهُ إيقَاعُ الْفِعْلِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِإِرَادَةِ إيقَاعِ الْفِعْلِ وَجَبَ فِعْلُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ (وَ) احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ (إلَى) الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِلْإِيجَابِ لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُخَيَّرًا بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ (بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ) وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ إلَّا بِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ بِدَلَالَةِ غَيْرِ الْأَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَثْبُتْ التَّخْيِيرُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ وَكَانَ تَرْكُهُ مُبَاحًا فَبَقَّيْنَاهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَانَ التَّرْكُ مُبَاحًا قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ فَأَمَّا بَعْدَ وُرُودِهِ وَإِرَادَةِ الْآمِرِ إيقَاعَهُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ تَرْكِهِ وَقَدْ أَعْطَيْنَا أَنَّ الْآمِرَ قَدْ أَرَادَ مِنْهُ إيقَاعَ الْفِعْلِ؟ . فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إرَادَةِ الْفِعْلِ كَرَاهَةٌ لِتَرْكِهِ إذْ لَيْسَ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْحُسْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 قِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْت أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مَوْضُوعٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَكَرَاهَةِ التَّرْكِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ النَّهْيِ مَوْضُوعٌ لِكَرَاهَةِ الْفِعْلِ وَإِرَادَةِ التَّرْكِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَمْرِ إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّرْكِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْحُسْنِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي النَّهْيِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ النَّهْيَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنَّمَا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ ضِدِّهِ كَمَا قُلْت فِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ اجْتِمَاعُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَضِدِّهِ فِي الْحُسْنِ. فَإِنْ قَالَ: مَا مِنْ نَهْيٍ إلَّا وَمَعَهُ كَرَاهَةُ الْفِعْلِ. قِيلَ لَهُ: وَمَا مِنْ أَمْرٍ إلَّا وَمَعَهُ كَرَاهَةُ التَّرْكِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ وَلَا يُرَادُ كَرَاهَةُ ضِدِّهِ. قِيلَ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ لَك أَنَّ هَذَا أَمْرٌ، وَمَعَ هَذَا (فَقَدْ يَرِدُ) النَّهْيُ وَلَا يُرَادُ بِهِ كَرَاهَةُ الْفِعْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وَفِعْلُ الْفَضْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282] وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ عَرَفَ الشُّرُوطَ أَنْ يَكْتُبَ لِلنَّاسِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِأَنْ يَشْغَلَ عَنْ حَوَائِجِهِ وَيَضُرَّ بِهِ (وَقَدْ قَالَ) {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] وَهُوَ نَدْبٌ فِي (هَذِهِ الْمَوَاضِعِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283] فَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا النَّهْيِ كَرَاهَةَ الْفِعْلِ. فَإِنْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِنَهْيٍ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ النَّهْيِ. قِيلَ لَهُ: وَلَفْظُ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يُقَارِنْهُ كَرَاهَةُ التَّرْكِ فَلَيْسَ بِأَمْرٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ فِي النَّهْيِ سَوَاءٌ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعِصْيَانِ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] وَقَالَ {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] فَذَمَّهُ وَلَعَنَهُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَاصِدًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَسْتَحِقَّ إبْلِيسُ الذَّمَّ بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ بِالِاسْتِكْبَارِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ. قِيلَ لَهُ: (قَدْ) اسْتَحَقَّ الذَّمَّ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: بِتَرْكِ الْأَمْرِ عَلَى حِيَالِهِ وَبِالِاسْتِكْبَارِ (أَيْضًا) ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك} [الأعراف: 12] قَدْ اقْتَضَى تَوْجِيهَ اللَّائِمَةِ إلَيْهِ لِتَرْكِ الْأَمْرِ مُتَعَرِّيًا مِنْ الِاسْتِكْبَارِ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى أَوْجَبَتْ الذَّمَّ بِالِاسْتِكْبَارِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ يَسْتَحِقُّ سِمَةَ الْعِصْيَانِ فِي اللُّغَةِ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ اللِّوَى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى ... غِوَايَتَهُمْ وَإِنِّي غَيْرُ مُهْتَدٍ فَسَمَّى تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصِيًا، وَلَا يَسْتَحِقُّ سِمَةَ الْعِصْيَانِ إلَّا تَارِكُ الْوَاجِبَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وَأَيْضًا: فَإِنَّ تَارِكَ أَمْرِ مَنْ يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ فِيمَا بَيَّنَّا مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْنِيفِ وَاللَّائِمَةِ، وَأَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْقُولِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وَقَالَ تَعَالَى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وَلَا (شَيْءَ) يَسْتَحِقُّ بِهِ تَارِكُ الْأَمْرِ اللَّوْمَ فِيمَا بَيَّنَّا إلَّا وُرُودُهُ مُطْلَقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ. وَكَذَلِكَ مَعْلُومٌ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ أَمَرَ رَجُلًا بِالْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ أَمْرًا مُطْلَقًا فَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ مُعَنَّفًا عِنْدَ الْجَمِيعِ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ فَدَلَّ (عَلَى) أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ فِي أَوَامِرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوَامِرِنَا فِيمَا (بَيْنَنَا) لِعَبِيدِنَا وَمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا لِأَنَّ الْمَأْمُورَ يَقَعُ لَهُ عِلْمُ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِ الْآمِرِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ لَهُ: يَقَعُ لِلسَّامِعِ عِلْمُ الضَّرُورَةِ بِإِرَادَةِ الْآمِرِ (الْوُجُوبَ) بِنَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بِمَعْنًى يُقَارِنُهُ؟ فَإِنْ قَالَ: بِنَفْسِ الْأَمْرِ. قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَوَامِرِ لِوُجُوبِ الضَّرُورَةِ الْمُوجِبَةِ لِعِلْمِ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ قَالَ: إنَّمَا يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ بِأَحْوَالٍ مُقَارِنَةٍ. قِيلَ (لَهُ) : فَكُلُّ مَا صَدَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ مُقَارَنَةُ حَالٍ يَعْلَمُ الْمَأْمُورُ إرَادَةَ الْأَمْرِ لِإِيجَابِهِ ضَرُورَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، عُلِمَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ (قَدْ) يَرِدُ لَفْظُ الْأَمْرِ مِنْ الْآمِرِ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ بِهِ وَلَا يُقَارِنُهُ حَالٌ يَعْلَمُ بِهَا الْوُجُوبَ ضَرُورَةً، بَلْ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيجَابَ أَمْ لَا، ثُمَّ لَمْ تَعْتَبِرْ النَّاسُ الْأَحْوَالَ لِإِلْحَاقِ الذَّمِّ بِتَارِكِ الْأَمْرِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عِنْدَهُمْ لِتَرْكِهِ الْأَمْرَ بِمُجَرَّدِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّ لُزُومَ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ يُخَاطِبُهُ بِهِ مِنْ جِهَةِ مَا يَقَعُ لِلسَّامِعِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِمُرَادِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْأَمْرِ لِمَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمَنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ مِمَّنْ بَلَغَهُ أَمْرُهُ، فَيَلْزَمُ الْمُشَاهِدَ لَهُ (وَالسَّامِعَ مِنْهُ) وَ (لَا) يَلْزَمُ الْمُبَلِّغَ، لِأَنَّ الْمُشَاهِدَ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِمُرَادِهِ مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ، وَالْمُبَلِّغَ لَا يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمْرَ (النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْتَلِفُ فِي السَّامِعِ وَالْمُبَلِّغِ وَقَدْ) أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّامِعِينَ بِالتَّبْلِيغِ بِقَوْلِهِ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» فَدَلَّ (عَلَى) أَنَّ السَّامِعَ وَالْمُبَلِّغَ فِي حُكْمِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا فِيمَا تَعَبَّدَا بِهِ لِقَيْدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَعْنَى غَيْرِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ يَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِمُرَادِهِ السَّامِعُ وَالْمُبَلِّغُ. وَأَيْضًا: لَوْ سَاغَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي الْأَوَامِرِ لَسَاغَ لِنَفَّاتِ الْعُمُومِ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ فِي نَفْيِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ مُرَادَ بَعْضٍ (فِي الْعُمُومِ) وَالْخُصُوصِ ضَرُورَةً، فَوَجَبَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 مُخَاطَبَاتِنَا اعْتِبَارُ الْعُمُومِ لِوُقُوعِ عِلْمِ السَّامِعِ بِمُرَادِ (الْقَائِلِ) ضَرُورَةً (وَلَا يَجِبُ مِثْلُهُ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِمُرَادِهِ ضَرُورَةً) فَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَتِهِ الْعُمُومَ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ شَاهَدَهُ أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ وَ (مَنْ) بَلَغَهُ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ، لِأَنَّ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْلَمُ مُرَادَهُ ضَرُورَةً لِخِطَابِهِ لِمُقَارَنَةِ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ وَكَانَ يَلْزَمُ السَّامِعَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَمَنْ لَمْ يُشَاهِدْ لَمْ يَقَعْ لَهُ عِلْمُ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِهِ بِوُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ إلَّا بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُ الْمُحْتَجِّ بِمِثْلِهِ فِي نَفْسِ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِمَثَابَتِهِ. وَأَيْضًا: مَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَوَامِرُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وقَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَ (قَوْلِهِ) {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] وَ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إلَى مَسْأَلَتِهِ فِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُ عِنْدَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مُعَنَّفًا تَارِكًا لِأَوَامِر اللَّهِ وَلَمْ يَزِدْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَلَمْ يُعْقِبْهَا بِالْإِخْبَارِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إيجَابِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَاتِ لَمْ تُوجِبْ لَهُمْ عِلْمَ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً، فَثَبَتَ بِذَلِكَ سُقُوطُ اعْتِرَاضِ مَنْ اعْتَرَضَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَوَامِرِ الْآدَمِيِّ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ " لَوْ صَلَحَ لِلْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ، لَكَانَ الْمَصِيرُ إلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَالْأَخْذُ بِالثِّقَةِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ احْتِجَاجٌ صَحِيحٌ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَقَالَ: «إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ وَمَنْ رَتَعَ حِوَلَ الْحُمَّى يُوشَكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالثِّقَةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: اعْتِبَارُ الِاحْتِيَاطِ فِي إيجَابِ الْأَمْرِ هُوَ تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى الْإِيجَابَ وَاعْتَقَدْنَا فِيهِ الْوُجُوبَ فَقَدْ أَقْدَمْنَا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ اعْتِقَادِنَا الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت لِأَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرَ الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ، فَقَدْ تَيَقَّنَّا مَتَى فَعَلْنَا ذَلِكَ أَنَّا غَيْرُ مُعْتَقِدِينَ لِلشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ حِينَ قَالَ «فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَعِلَّتُك قَائِمَةٌ فِيهِ (لِأَنَّك لَا تَأْمَنُ) أَنْ تَدَعَهُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ تَرْكَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الْحَقِيقَةِ، «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلرَّجُلِ الَّذِي أَخْبَرَتْهُ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ وَزَوْجَتَهُ دَعْهَا عَنْك فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا سَوْدَاءُ يَعْنِي الْمُخْبِرَةَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ دَعْهَا عَنْك» فَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وَالثِّقَةِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهَا. وَاعْتِبَارُ الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالثِّقَةِ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ (قَدْ) اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ وَهُوَ فِي الْعَقْلِ كَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّ مَنْ قِيلَ لَهُ إنَّ فِي طَرِيقِك سَبُعًا أَوْ لُصُوصًا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْأَخْذَ بِالْحَزْمِ وَتَرْكَ الْإِقْدَامِ عَلَى سُلُوكِهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهَا. وَأَيْضًا: قَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ النَّهْيِ مِنْ فِعْلِ ضِدِّهِ عَلَى الْوُجُوبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْأَمْرِ أَدَلَّ عَلَى الْإِيجَابِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ (بِهِ) مِنْهُ بِدَلَالَةِ لَفْظِ النَّهْيِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فِي الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ إثْبَاتُ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ إذْ كَانَ (لَفْظُ) الْأَمْرِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تُعْطَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ حَقِيقَةً أَوْ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْطَيْت أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيجَابِ حَقِيقَةً سَقَطَ سُؤَالُك لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ مَا يُسْتَحَقُّ الذَّمُّ بِتَرْكِهِ فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِقَوْلِك إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ إلَّا بِلَفْظٍ (يُنْبِئُ عَنْهُ) . وَإِنْ كُنْت مِمَّنْ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ كَانَ اتِّفَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ قَاضِيًا بِفَسَادِ قَوْلِك، وَلَزِمَك أَنْ (لَا) تُثْبِتَ لِلْأَمْرِ صِيغَةً فِي اللُّغَةِ وَهَذَا (قَوْلٌ) ظَاهِرُ الْفَسَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَأَيْضًا: فَإِنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْإِيجَابِ يَسْتَحِقُّ مُرْتَكِبُهُ الذَّمَّ مَعَ عَدَمِ الْوَعِيدِ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَانْتَقَضَ بِذَلِكَ مَا أَحَلَّتْ مِنْ امْتِنَاعِ إثْبَاتِ الْوَعِيدِ إلَّا بِلَفْظٍ يُنْبِئُ عَنْهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا السَّائِلَ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْأَمْرِ إنَّمَا يَقْتَضِي الدَّلَالَةَ عَلَى حُسْنِ الشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَكَوْنُهُ مَمْدُوحًا مُرَغَّبًا فِيهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ ضَرْبًا مِنْ الثَّوَابِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَيْسَ لَفْظُ الْأَمْرِ عِبَارَةً عَنْ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، فَمَا يُنْكِرُ مِنْ إثْبَاتِ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ. وَأَيْضًا: مَعْلُومٌ فِي تَعَارُفِنَا وَعَادَاتِنَا أَنَّ مَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ فَتَخَلَّفَ عَنْهُ اسْتَحَقَّ التَّعْنِيفَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ بَلْ كَانَ مَعْقُولًا (مِنْهُ) مِنْ حَيْثُ عُقِلَ وُجُوبُ الْأَمْرِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنِّي أَجْعَلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ أَوْ الْإِيجَابِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قَالَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا. وَيُقَالُ لَهُ: فَإِذَا قَامَتْ، دَلَالَة الْإِيجَابِ كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. فَإِنْ قَالَ: حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: فَهَلَّا حَمَلْته عَلَى الْإِيجَابِ إذَا كَانَ مُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ تَطْلُبُهَا مِنْ غَيْره. فَإِنْ قَالَ: يَكُونُ مَجَازًا فِي الْإِيجَابِ أَكَذَبَتْهُ اللُّغَةُ وَخَرَج عَنْ قَوْلِ الْأُمَّةِ. وَيُقَالُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا: مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] فَيُؤَدِّي هَذَا (الْقَوْلُ) اللَّفْظُ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَتِهِ رَأْسًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 [بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ] ِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ عَلَى الْمُهْلَةِ، وَلَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَخْشَى الْفَوَاتَ بِتَرْكِهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَلَى الْفَوْرِ يَلْزَمُ الْمَأْمُورَ فِعْلُهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ. وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ فِي فَرْضِ الْحَجِّ إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ بِمَا قَدَّمْنَا، وَالْفِعْلُ مُرَادٌ مِنْ الْمَأْمُورِ فِي الْحَالِ، بِدَلَالَةِ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ فِيهَا مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ مُرَادًا بِالْأَمْرِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: افْعَلْهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ، فَلَزِمَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ، وَاحْتَجْنَا فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ إلَى دَلَالَةٍ، وَأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى الْوَقْتِ فَقَالَ: افْعَلْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِيهِ وَلَمْ يَسَعْهُ التَّأْخِيرُ (إلَى وَقْتٍ غَيْرِهِ. كَذَلِكَ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا (أَنَّ) الْفِعْلَ مُرَادٌ فِي الْحَالِ لَمْ يَجُزْ لَنَا التَّأْخِيرُ) إلَّا بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلَوْ أَخَّرَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ حَتَّى فَعَلَهُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى انْقِضَاءِ عُمُرِهِ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مُرَادٌ بِالْأَمْرِ. قِيلَ لَهُ: لِمَ قُلْت إنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ افْعَلْهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَلَا تُؤَخِّرْهُ، فَإِنْ أَخَّرْته إلَى الْوَقْتِ الثَّانِي فَافْعَلْهُ فِيهِ وَلَا تُؤَخِّرْهُ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ إذْ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالتَّعْجِيلِ ثُمَّ إذَا أَخَّرَهُ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 يَلِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» فَأَلْزَمَهُ فِعْلُهَا عِنْدَ الذِّكْرِ. وَمَنَعَهُ التَّأْخِيرَ، وَلَوْ أَخَّرَهَا كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ وَلَزِمَهُ فِعْلُهَا فِي الثَّانِي وَمَا يَلِيهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ. وَكَالدُّيُونِ الْوَاجِبَةِ لِلْآدَمِيِّينَ: يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا بَعْدَ حَالِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ الْحَالِ لَزِمَهُ فِي الثَّانِي (أَدَاؤُهُ) وَإِنْ أَخَّرَهُ لَزِمَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ سُؤَالِ مَنْ اعْتَرَضَ عَلَيْنَا بِمَا وَصَفْنَا، وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُرَادًا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي إذَا تَرَكَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ. وَأَيْضًا: فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مُرَادٌ فِعْلُهُ احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ فِي الْحَالِ إلَى دَلَالَةٍ (أُخْرَى) كَمَا احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ (رَأْسًا) إلَى دَلَالَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ صُورَةُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيجَابِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهُ عَلَى الْمُهْلَةِ فَقَدْ أَثْبَتَ تَخْيِيرًا غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الدُّيُونَ وَسَائِرَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَرْطُ التَّأْخِيرِ لَزِمَ أَدَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلَّذِي هِيَ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهَا إلَّا بِإِذْنِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وُجُوبَهُمَا غَيْرُ مُؤَقَّتٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ (أَيْضًا) : أَنَّ الْمُتَعَارَفَ الْمُعْتَادَ مِنْ أَوَامِرِنَا لِعَبِيدِنَا وَمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ مُوجِبَ الْقَوْلِ وَمُقْتَضَاهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وَقَدْ خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُتَعَارَفِ مِنْ مُخَاطَبَاتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] . وَأَيْضًا: فَلَوْ احْتَمَلَ الْفَوْرَ وَالْمُهْلَةَ جَمِيعًا لَكَانَ الْأَخْذُ بِالثِّقَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْحَزْمِ فِي الْمُبَادَرَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَلَالَةِ وُجُوبِ الْأَمْرِ، مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِرَامَ الْمَنِيَّةِ إيَّاهُ فَيَحْصُلُ مُفْرِطًا فِي التَّأْخِيرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ إلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وقَوْله تَعَالَى {إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] ، وَقَوْلُهُ {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُبْتَدَأً عَلَى لُزُومِ التَّعْجِيلِ لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ: لَا يَخْلُو (الْقَوْلُ) فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ إذَا لَمْ يَكُنْ آخِرِ وَقْتِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَا قُلْنَا، أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ عَلَى مَا قَالَ مُخَالِفُنَا. فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُهْلَةِ لَمْ يَخْلُ الْمَأْمُورُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْخِيرُهُ أَبَدًا حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ وَلَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ، أَوْ يَكُونُ مُفَرِّطًا مُسْتَحِقًّا لِلَّوْمِ إذَا مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَكُونُ مُفَرِّطًا بِتَرْكِهِ فِي حَيَاتِهِ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ حَيِّزِ الْوُجُوبِ وَصَارَ فِي حَيِّزِ النَّوَافِلِ، لِأَنَّ مَا كَانَ الْمَأْمُورُ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَهُوَ نَافِلَةٌ أَوْ مُبَاحٌ، وَلَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الْأَمْرِ بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَلْحَقُهُ التَّفْرِيطُ بِالْمَوْتِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ فِي وَقْتٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الْوَقْتُ الْمُضَيَّقُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ الْفِعْلِ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْصَبْ لَهُ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مَنْهِيًّا عَنْ تَأْخِيرِ الْفِعْلِ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي إذَا أَخَّرَهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ فِعْلَهُ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِبَادَةٍ لَا (يُعْلِمُهُ بِهَا) وَلَا يَنْصِبُ لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلًا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ عُمُرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَخْشَى فِيهِ فَوَاتَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلَّفَ فِعْلَهُ فِيهِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفَرِّطًا بِتَرْكِهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ، فَيَعُودُ الْقَوْلُ فِيهِ إلَى الْقِسْمِ الَّذِي قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى بُطْلَانِهِ، فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَحْتَمِلْ الْمَسْأَلَةُ وَجْهًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَبَطَلَ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ صَحَّ الثَّالِثُ. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ احْتَجَّ بِهَذَا مَرَّةً فَأَلْزَمْتُ عَلَيْهِ الزَّكَوَاتِ وَالنُّذُورَ وَقَضَاءَ (شَهْرِ) رَمَضَانَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى (الَّتِي) ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَقُلْتُ لَهُ: إنَّ هَذَا الِاعْتِلَالَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لُزُومُ جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ بَعْدَ حَالِ وُجُوبِهِ وَثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يَسَعُ مَنْ لَزِمَهُ تَأْخِيرُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» وَفِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 بَعْضِ الْأَلْفَاظِ " لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ " لَمَّا أَثْبَتَهَا فِي ذِمَّتِهِ مَنَعَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِ لُزُومِهَا فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا مَعْلُومٌ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِي وَقْتٍ عِنْدَهُ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ آخِرُ وَقْتِ الْفِعْلِ مُعَيَّنًا فَإِنَّ مُخَالِفَنَا إنَّمَا يَلْزَمُهُ التَّفْرِيطُ فِي وَقْتٍ لَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ آخِرُ أَوْقَاتِهِ، وَيَجْعَلُهُ مَنْهِيًّا عَنْ تَرْكِ فِعْلٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. فَإِنْ (قَالَ قَائِلٌ) : قَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " كَأَنْ يَكُونَ عَلَيَّ قَضَاءُ أَيَّامِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا أَقْضِيهَا إلَّا فِي شَعْبَانَ "، فَقَدْ كَانَتْ تُؤَخِّرُهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ إنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ وَاجِبٌ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ فَرْضٌ مُوَقَّتٌ بِالسَّنَةِ كُلِّهَا إلَى أَنْ يَجِيءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمَنْهِيَّ عَنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ اقْتَضَى كَرَاهَةَ تَرْكِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نُهِيَ عَنْ تَرْكِهِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى الْفَوْرِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ اقْتَضَى كَرَاهَةَ تَرْكِهِ فِي الْحَالِ دُونَ أَنْ يَكُونَ قَدْ كُرِهَ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي عُمُرِهِ كُلِّهِ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ (قَدْ) تَضَمَّنَ كَرَاهَةَ التَّرْكِ (وَ) كَانَ مَا كَرِهَ تَرْكَهُ فَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى صَارَ كَمَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَتْرُكْهُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَرْكِهِ عَلَى الْفَوْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِعْلُهُ، وَالْحَالُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فِي الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ إثْبَاتُ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ فِي الْحَالِ وَلَفْظُ الْأَمْرِ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ. قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ الْأَمْرِ وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ يَقْتَضِي ذَمَّ تَارِكِهِ، فَلَسْنَا نَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى اسْتِئْنَافِ دَلَالَةٍ عَلَى ذَمِّ تَارِكِهِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا السُّؤَالُ لَاعْتُرِضَ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْأَمْرِ فِي الْأَصْلِ وَلَسَاغَ لِمَنْ يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ رَأْسَا، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِمَنْ نَفَى وُجُوبَ الْأَمْرِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِهِ، كَذَلِكَ لَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِهِ عَلَى الْفَوْرِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ وَالْمُرَادُ الْفَوْرُ، وَقَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ. وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى لُزُومِ فِعْلِهِ فِي الْحَالِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ فِي الْحَالِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَثْبُتْ أَمْرٌ عَلَى الْمُهْلَةِ إلَّا وَآخِرُ وَقْتِهِ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ. فَقَوْلُك إنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ (خَطَأٌ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ) ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ وُرُودُهُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ لَمَّا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ قَوْلِنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ بِدَلَالَةٍ وَكَمَا يُصْرَفُ اللَّفْظُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بِدَلَالَةٍ وَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي (صِحَّةِ اعْتِبَارِنَا الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ) وَوُجُوبُ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لَازِمًا عَلَى الْفَوْرِ لَسَقَطَ فِعْلُهُ بِتَرْكِهِ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ الْمُؤَقَّتُ بِتَرْكِ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: الَّذِي كَانَ وَاجِبًا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَيْسَ هُوَ الْوَاجِبَ فِي الْوَقْتِ التَّالِي بَلْ قَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 سَقَطَ مَا وَجَبَ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ، كَمَا سَقَطَ الظُّهْرُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا، وَاَلَّذِي يَجِبُ بَعْدِ الْوَقْتِ فَرْضٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْوَجْهِ. فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاحْتَجْنَا إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْأَمْرِ فِي إيجَابِهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي (فَلَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي) إذَا تَرَكَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُزُومَهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَالِ دُونَ الْمُهْلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الظُّهْرُ وَسَائِرُ الْفُرُوضِ الْمُؤَقَّتَةِ لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَقْتِ قَبْلَ فِعْلِهَا يُسْقِطُهَا وَلَا يَلْزَمُهُ فَرْضٌ آخَرُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى. قِيلَ لَهُ: إنَّ تَقْرِيرَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عِنْدَنَا أَنْ صَلِّ فِي أَوَّلِ حَالِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ تَرَكْته فَافْعَلْهُ فِي الثَّانِي فَإِنْ تَرَكْته فَافْعَلْهُ فِي الثَّالِثِ فَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ (فِعْلَهُ) فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ لُزُومُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَيَّدَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كَانَ جَائِزًا. أَلَا تَرَى: أَنَّ مُخَالِفَنَا يَقُولُ مَعَنَا فِيمَنْ تَرَكَ الظُّهْرَ حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا عِنْدَ الذِّكْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ حَالِ الذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ اسْتَحَقَّ اللَّوْمَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ (تَأْخِيرِهَا) عَنْ وَقْتِ الذِّكْرِ، وَبِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» . فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ لُزُومُ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ لَكَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ كَالظُّهْرِ إذَا فَاتَ وَقْتُهَا قَبْلَ فِعْلِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 قِيلَ لَهُ: تَسْمِيَتُنَا إيَّاهُ قَضَاءً أَوْ غَيْرَ قَضَاءٍ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَقَدْ قُلْنَا إنَّ الْمَفْعُولَ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي غَيْرُ الْمَتْرُوكِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ آخَرُ غَيْرُهُ. فَإِنْ شِئْت بَعْدَ ذَلِكَ (أَنْ) تُسَمِّيَهُ (قَضَاءً) لَمْ نَمْنَعْك مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَا لَمْ (نَتَبَيَّنْ فِي الْخَبَرِ) عَمَّا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُقْتَضِيًا لِلْفَوْرِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] ، وَلَمْ يَدْخُلْهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] ، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَوْرِ الْخِطَابِ. وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا وَلَأُكَلِّمَنَّ عَمْرًا فَلَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِثْلَهُ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ وَجَبَ إذَا (كَانَ) الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُقْتَضِيًا لِلْفَوْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِثْلَهُ، وَبِأَيَّةِ عِلَّةٍ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَيْفَ وَجَّهَ دَلَالَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؟ . وَعَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ لَا يَقْتَضِي إلْزَامَ شَيْءٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ وَلَأُكَلِّمَنَّ زَيْدًا لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ فِعْلُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» فَأَمَرَهُ بِتَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ. (وَلَا يَحْنَثُ) فِيهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مِسْطَحِ بْنِ أَثَاثَةَ حِينَ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَلِفَهُ عَلَى فِعْلٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ، فَكَمَا جَازَ لَهُ تَرْكُهُ رَأْسًا فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ عَلَى الْفَوْرِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا وَجَّهَ اسْتِدْلَالَنَا مِنْهُ أَنَّ الْخَبَرَ وَالْيَمِينَ لَمْ تُفِيدَا فِعْلَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ جِهَةِ مَا يُعَلَّقُ بِالْأَمْرِ مِنْ الْإِيجَابِ دُونَ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. قِيلَ لَهُ: فَاَلَّذِي (فِيهِ) إلْزَامُ الْفِعْلِ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ أَجْلِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْوُجُوبِ، وَاَلَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ الْفِعْلِ لَمْ يَقْتَضِ الْحَالَ لِعَدَمِ الْإِلْزَامِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ وُرُودُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي عُمُومَ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ لَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْهَا، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ إيَّاهُ عَلَى الْفَوْرِ تَخْصِيصًا لِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُك إنَّهُ عُمُومٌ فِي الْأَزْمَانِ غَلَطٌ لِأَنَّ الزَّمَانَ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَيَكُونُ عُمُومًا مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِتَرْكِهِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وُجُوبُهَا) (فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَائِهِ، كَالدُّيُونِ إذَا أَخَّرَهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا) . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ وُرُودَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ يَقْتَضِي عُمُومُهُ جَوَازَ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ لِأَنَّهُ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْحَجِّ، وَلَمْ يَحُجَّ هُوَ حَتَّى حَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ تَقَدُّمِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِ الْفَوْرَ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا (بِسُؤَالٍ فِي) الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا لِأَنَّ الْكَلَامَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِنَا فِي الْأَصْلِ، وَنَحْنُ لَا نَأْبَى أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ أَنَّهَا مِمَّا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ أَوْ لَا يَجُوزُ يَكُونُ كَلَامًا فِي الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا وَكَلَامٌ فِي غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ لَفْظٌ (ظَاهِرُهُ) الْعُمُومُ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا فِي أَصْلِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ أَوْ نَفْيِهِ وَلَا قَادِحًا فِيهِ، فَلَوْ صَحَّ أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِلسَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا لَمَا دَلَّ (ذَلِكَ) عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ (أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ) ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 فَرْضَ الْحَجِّ إنَّمَا نَزَلَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، وَقِيلَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ. فَإِنْ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنْ كَانَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فَقَدْ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا قَبْلَهُ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى (هَذَا) ظَاهِرُ الْحَالِ (وَهُوَ) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُضُورِ الْمَوْسِمِ وَالْوُقُوفِ بِتِلْكَ الْمَشَاهِدِ مُتَنَفِّلًا بِهِ عَلَى الرَّسْمِ الَّذِي كَانُوا يَحُجُّونَهُ، لِيَعْلَمَ الْعَرَبُ وَمَنْ شَهِدَ ذَلِكَ الْمَوْسِمَ أَنَّ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَ الْحَجِّ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالدَّلِيلُ: عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ فَرْضِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَطَبَ النَّاسَ فِي عَرَفَاتٍ فَقَالَ: إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ» فَرُوِيَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ قَدْ صَارَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى (الْحَجَّ) فِيهِ حِينَ أَمَرَ بِهِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ (قَبْلَ ذَلِكَ) يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ فَيَتَّفِقُ الْحَجُّ فِي أَكْثَرِ السِّنِينَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ الْمَأْمُورِ فِيهِ، وَاتَّفَقَ عَوْدُهُ إلَى وَقْتِهِ الْمَفْرُوضِ فِيهِ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا مَحَالَةَ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ حَجَّ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ قَبْلَ تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا. وَكَانَ (شَيْخُنَا) أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْتَجُّ لِعُذْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَأَخُّرِهِ عَنْ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا أَبَا بَكْرٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ كَانُوا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَكَانَتْ تَلْبِيَتُهُمْ شِرْكًا وَكُفْرًا، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ إلَى السَّنَةِ الْأُخْرَى لِيَنْبِذَ إلَى الْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَقَالَ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 كَغَيْرِهِ لِأَنَّ مَنْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِخْفَافًا كَانَ كَافِرًا. وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَقَامَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمٌ لَمْ يَحُجُّوا، قِيلَ (لَهُ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ بِأَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ هُنَاكَ وَحَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَكَانُوا مَعْذُورِينَ فِي الْمَقَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ «حَبَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ أَبَا بَكْرٍ فَيَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْمَوْسِمِ فَبَعَثَ بِهِ بَعْدَ أَنْ حَبَسَهُ عِنْدَهُ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي الِابْتِدَاءِ إذَنْ قَدْ جَازَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ بَعْدَ حَبْسِهِ نَدْبًا. قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانَ كَوْنُهُ عِنْد النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْضًا فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ لَزِمَهُ فَرْضُ الْخُرُوجِ لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ فِيمَا عَهِدَ إلَيْهِ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ هَذَا أَوْجَبَ مِنْ الْأَوَّلِ فَلِذَلِكَ بَعَثَ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 [الْبَابُ الثَّلَاثُونَ فِي الْأَمْرِ الْمُؤَقَّتِ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ الْمُؤَقَّتِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ لَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ وَأُجِيزَ لَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ نَحْوُ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِي وَقْتِ وُجُوبِهِ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: قَدْ وَجَبَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فَإِذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ مَا يُؤَدِّي فِيهِ الْفَرْضَ صَارَ وُجُوبُهُ مُضَيَّقًا. وَكَذَلِكَ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ بِوُجُوبِ النِّصَابِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا إلَى آخِرِ الْحَوْلِ فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ صَارَ وُجُوبُهَا مُضَيَّقًا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ فِي الشَّرِيعَةِ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَلُزُومُهُ إيَّاهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ مَعَهُ الْفِعْلُ. وَالْآخَرُ: وُجُوبُ الْأَدَاءِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، أَنَّ وُجُوبَهُ قَدْ تَعَلَّقَ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ ثُمَّ إذَا أَجَّلَ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ قَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ فِي ذِمَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُلُولِ الْأَجَلِ لَمَا صَحَّ الْعَقْدُ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُدُوثُ الْمِلْكِ فِيهِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ الْمِلْكِ عَلَى مَجِيءِ الْوَقْتِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ قَدْ مُلِكَ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ أَدَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ الْفَرْضُ قَدْ وَجَبَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا حَتَّى إذَا صَارَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَهُ الْأَدَاءُ وَلَمْ يَسْعَهُ التَّأْخِيرُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وَقَدْ حُكِيَ لَنَا مَعْنَى هَذَا الْمَذْهَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْوُجُوبَ فِي مِثْلِهِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ فَإِنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: إنَّ مَا فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَفْلٌ يَمْنَعُ لُزُومَ الْفُرُوضِ فِي آخِرِهِ، مِثْلُ رَجُلٍ مُحْدِثٍ تَوَضَّأَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِطَهَارَتِهِ وَمَنَعَ ذَلِكَ لُزُومَ (فَرْضِ) الطَّهَارَةِ (لَهُ) عِنْدَ مَجِيءِ (وَقْتِ) الْفَرْضِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الزَّكَاةِ إذَا عَجَّلَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ. وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا بِمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ: أَنَّ امْرَأَةً لَوْ حَاضَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَافَرَ رَجُلٌ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَهُ الْقَصْرُ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا سَلَفَ مِنْ الْوَقْتِ تَأْثِيرٌ فِي لُزُومِ الْفَرْضِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ امْرَأَةً لَوْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ. وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَقَامَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، قَالُوا فَلَمَّا كَانَ هَذَا هَكَذَا عَلِمْنَا أَنَّ لُزُومَ فَرْضِ الصَّلَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ (مِنْ) الْوَقْتِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْإِيجَابِ. وَقَالَتْ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا: مَا فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُرَاعًى فَإِنْ لَحِقَ آخِرَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِهَا كَانَ مَا أَدَّاهُ فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْخِطَابِ بِهَا كَانَ الْمَفْعُولُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَفْلًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الزَّكَاةِ إذَا عَجَّلَهَا بَعْدَ وُجُوبِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِهَا كَانَ الْمُؤَدَّى فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَعَجَّلَ لِلْمُصَدِّقِ شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ شَاةً أَنَّهُ يَأْخُذُ الشَّاةَ مِنْ الْمُصَدِّقِ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا. وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَجْزَأَتْهُ الشَّاةُ عَنْ الصَّدَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، فَجَعَلُوا حُكْمَ الشَّاةِ مُرَاعًى فِي جَوَازِهَا عَنْ الْفَرْضِ وَكَوْنِهَا غَيْرَ مُجْزِيَةٍ عَنْهُ. قَالُوا: وَلَيْسَ يَمْنَعُ فِي الْأُصُولِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ مُرَاعًى بِمَوْقُوفِ الْحُكْمِ فَيَصِيرُ تَارَةً فِي حَيِّزِ الْوَاجِبِ وَتَارَةً فِي حَيِّزِ النَّفْلِ. أَلَا (تَرَى) : أَنَّ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ كَانَ ظُهْرُهُ مُرَاعًى فَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَلَّى مَعَهُ الْجُمُعَةَ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْأُولَى لَمْ تَكُنْ ظُهْرًا وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ كَانَتْ الْأُولَى ظُهْرًا. (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : وَاَلَّذِي حَصَّلْنَاهُ عَنْ (شَيْخِنَا) أَبِي الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ كُلَّهُ وَقْتٌ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ بِأَحَدِ وَقْتَيْنِ. أَمَّا إذَا لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى آخِرِهِ فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ (عَلَيْهِ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ. وَأَمَّا إذَا فَعَلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ يَتَعَيَّنُ) بِالْوَقْتِ الْمَفْعُولِ فِيهِ الصَّلَاةُ كَمَا يَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فِي وَاحِدٍ كَالْحِنْثِ حَتَّى إذَا فَعَلَ أَحَدَهَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الْوُجُوبِ فَكَانَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ. وَكَمَا يَقُولُ فِيمَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ مِنْ صُبْرَةٍ إنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِنَفْسِ الْعَيْنِ، فَإِنْ كَالَ مِنْهَا قَفِيزًا وَسَلَّمَهُ تَعَيَّنَ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَبِيعُ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ بِالتَّسْلِيمِ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْوُجُوبِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ (وَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْتِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ) لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ وَلَا الْأَمْرُ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُ الْإِيجَابِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنْهُ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ تَوَجَّهَ إلَيْهِ فِي حَالِ الْفِعْلِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ وَهُوَ كَمَا نَقُولُ فِي الْحَانِثِ فِي يَمِينِهِ إنَّهُ مَتَى فَعَلَ وَاحِدًا مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ تَعَيَّنَ حُكْمُ الْوُجُوبِ (بِالْمَفْعُولِ مِنْهَا وَانْتَفَى عَمَّا لَمْ يَفْعَلْ، فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَيَّنَ الْوُجُوبُ) فِيهِ بِالْأَمْرِ، وَكَمَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 إلَى مَسَاكِينَ لَمْ يَتَعَيَّنُوا بِوُجُوبِ الْفَرْضِ ثُمَّ إذَا أَعْطَاهَا مَسَاكِينَ بِأَعْيَانِهِمْ تَعَيَّنَ حُكْمُ الْوُجُوبِ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ الِانْصِرَافُ عَنْهُمْ (إلَى غَيْرِهِمْ) . فَإِنْ قَالَ: لَا يُشْبِهُ مَا ذَكَرْت كَفَّارَةَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ وُجُوبُ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْحَالِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهَا شَاءَ، فَأَيَّهَا فَعَلَ كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ إنَّهُ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ وُجُوبُ إحْدَى الصَّلَوَاتِ الَّتِي (لَمْ) يُمْكِنْ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، لِأَنَّهُ (إنَّمَا يُمْكِنُهُ) فِعْلُهَا عَلَى حَسَبِ مَجِيءِ الْأَوْقَاتِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى فِعْلِ أَيُّهَا شَاءَ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، كَمَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ وَجَبَتْ وُجُوبًا مُوَسَّعًا أَوْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا مُتَنَفِّلًا. قِيلَ لَهُ: لَا يُوجِبُ مَا ذَكَرْت الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَعَلُّقَ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِالْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ قَدْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ بِهَا فِي أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ مِنْهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنْ (شِئْت) تُصَلِّي الظُّهْرَ فَصَلِّهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي الثَّانِي وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي الثَّالِثِ عَلَى أَنَّك مُخَيَّرٌ فِيهَا، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا وَحُكْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ قَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ تَرْكِهَا إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى تَلِيهَا، كَمَا تَعَلَّقَ (حُكْمُ) الْوُجُوبِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا بِجَمِيعِهَا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ جَمِيعُهَا فِي الْإِيجَابِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ كَفَّرَ بِالْجَمِيعِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ إلَّا وَاحِدًا مِنْهَا كَمَا لَا يَكُونُ الْوَاجِبُ إلَّا إحْدَى الصَّلَوَاتِ الْمَفْعُولَةِ فِي الْوَقْتِ دُونَ جَمِيعِهَا. وَكَانَ (شَيْخُنَا) أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَتَعَلَّقْ وُجُوبُهُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ أَنَّ لَهُ تَأْخِيرَهَا عَنْهُ لَا إلَى بَدَلٍ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَيْسَ بِبَدَلٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 عَنْ الْمَتْرُوكِ فِي أَوَّلِهِ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا (كَانَ) لَهُ تَرْكُهُ (انْصَرَفَ) عَنْهُ لَا إلَى بَدَلٍ مِنْهُ فَلَيْسَ بِفَرْضٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَفْلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ تَرْكُهُ لَا إلَى بَدَلٍ. قِيلَ (لَهُ) : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إذَا تَرَكَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ لَا إلَى بَدَلٍ مِنْهُ، لِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ بَعْضٍ، وَأَيَّهَا فَعَلَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ نَفْلًا. وَكَذَلِكَ تَارِكُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ وَإِنْ كَانَ تَارِكًا لَهَا لَا إلَى بَدَلٍ مِنْهَا فَلَيْسَ يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَتَى فَعَلَهَا تَعَلَّقَ فِيهَا حُكْمُ الْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَيْسَ بِنَفْلٍ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ» . فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ (بِهِ) وَقْتَ النَّفْلِ الَّذِي يَمْنَعُ وُجُوبَ الظُّهْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قِيلَ لَهُ: الظُّهْرُ لَا يَكُونُ نَفْلًا وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتًا لَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ فَاعِلٌ لِلْفَرْضِ، إذْ كَانَ لَا يَصِحّ أَنْ يُقَال إنَّهُ وَقْت الظُّهْر إلَّا وَقَدْ جَعَلَ وَقْتًا لِوُجُوبِهَا أَوْ لِأَدَائِهَا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يرد الْوُجُوبَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ وَقْتٌ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ. وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مُصَلِّيَ الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ مُصَلِّي نَفْلٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا بِحَالٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ يَخْلُو وَقْتُ الْوُجُوبِ (مِنْ أَنْ يَكُونَ) مِقْدَارَ مَا يَلْحَقُ فِيهِ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ فَيَلْزَمُ الطَّاهِرَ مِنْ الْحَيْضِ فَرْضُهَا، وَيَلْزَمُ الْمُسَافِرَ الْإِتْمَامُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ مُتَعَلِّقًا فِي الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فِيهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِآخِرِ الْوَقْتِ الَّذِي يَلْحَقُ فِيهِ مِقْدَارَ الِافْتِتَاحِ فَوَاجِبٌ أَلَّا يَأْثَمَ بِتَأْخِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَعَيَّنُ (عَلَيْهِ إلَّا فِيهِ) فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ مِنْ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فِي (أَوَّلِ) الْوَقْتِ (الَّذِي) يَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ بِتَأْخِيرِ الِافْتِتَاحِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَزِمَك عَلَى هَذَا أَنْ تَقُولَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونُ مُسِيئَةً بِتَأْخِيرِ الِافْتِتَاحِ أَنْ يَلْزَمَهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا قَدْ أَدْرَكَتْ مِنْ وَقْتِ الْفَرْضِ مِقْدَارَ الِافْتِتَاحِ، كَمَا قُلْت فِيمَنْ طَهُرَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهَا فِيهِ الِافْتِتَاحُ لَزِمَهَا فَرْضُ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ لُزُومَ فَرْضِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِهِ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَلْحَقُ فِيهِ الِافْتِتَاحَ، وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْوُجُوبِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الطَّاهِرَ إذَا حَاضَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَدْرَكَتْ مِنْهُ وَهِيَ طَاهِرٌ الْمِقْدَارَ الَّذِي لَوْ تَحَرَّمَتْ فِيهِ بِالصَّلَاةِ لَمْ يُمْكِنْهَا قَضَاؤُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، لِأَنَّهَا لَمْ تَلْحَقْ وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ التَّأْخِيرِ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهَا لَحَصَلَ فِعْلُ بَعْضِ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَمُنِعَ مِنْ التَّأْخِيرِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْ التَّأْخِيرِ بِمُوجَبِ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَقْتَ لُزُومِ الْفَرْضِ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ لِمَعْنًى غَيْرِهِ. كَمَا يَقُولُ فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَةً إنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ التَّحْرِيمَةِ، لِأَنَّ بَعْضَ صَلَاتِهِ تَحْصُلُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِنْ كَانَ مُدْرِكًا لِوَقْتِ الْفَرْضِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَى وَقْتِ لُزُومِ الْفَرْضِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا (بِفِعْلِ الصَّلَاةِ قَبْلَ وُجُودِ وَقْتِ وُجُوبِهَا وَيُنْهَى عَنْ تَرْكِهَا، وَهَلْ صُورَةُ الْوَاجِبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِفِعْلِهِ مَنْهِيًّا) عَنْ تَرْكِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ هُوَ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ بِتَأْخِيرِهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ هَذَا فِي الْأُصُولِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ لِلْمُتَمَتِّعِ قَبْلَ وُجُوبِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْهَدْيُ وَالصَّوْمُ بَدَلٌ مِنْهُ ثُمَّ أَمَرَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهِ لِئَلَّا يَحْصُلَ فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهِ الصَّوْمُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِتَقْدِيمِ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهَا لِئَلَّا يَحْصُلَ فِعْلُ بَعْضِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 [الْبَابُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ] [فَصْلٌ الْأَمْرُ إذَا كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ] وَفِيهِ فَصْلٌ: الْأَمْرُ إذَا كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِوَقْتٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجِبُ التَّكْرَارُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَمَتَى فَعَلَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْأَمْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَلْزَمُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا قَوْلُهُمْ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك أَنَّ هَذَا عَلَى وَاحِدَةٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ ثَلَاثًا فَيَكُونُ ثَلَاثًا، وَقَوْلُهُمْ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: تَزَوَّجْ أَنَّهُ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ ثِنْتَيْنِ فَيَكُونُ (الْأَمْرُ) عَلَى مَا عَنَى، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ فِي الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَدَدٍ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَرَّةً وَاحِدَةً (وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَكْثَرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ) . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ (الْأَوَّلِ) أَنَّهُ مَتَى فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ تَنَاوَلَهُ إطْلَاقُ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا فَعَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَثَالِثَةً يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ (قَدْ) فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ صَلَحَ لَهُ اللَّفْظُ عَلَى مَوْضُوعِك. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَجْعَلْ جَوَازَ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْت، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمَّا كَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَمْ يَقْتَضِ الْأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا غَيْرَهُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ لَفْظِ الْأَمْرِ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنَّهُ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فَقَالَ إنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ خَطَأً، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ (فِعْلُهُ) فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ آتِيًا بِمَا أُمِرَ بِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ نَفْلًا وَتَطَوُّعًا فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ فِي إيجَابِ التَّكْرَارِ إثْبَاتَ عَدَدٍ وَجَمْعٍ لَيْسَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ ذَلِكَ إلَّا بِلَفْظٍ أَوْ دَلَالَةٍ فَلَمْ يَجِبْ التَّكْرَارُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: أَنَّ لِلتَّكْرَارِ لَفْظًا مَوْضُوعًا فِي اللُّغَةِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ كُلٌّ وَكُلَّمَا وَلِغَيْرِ التَّكْرَارِ صِيغَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِيهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ التَّكْرَارِ إلَّا مَعَ وُجُودِ حَرْفِ التَّكْرَارِ وَقِيَامِ دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ فِي الْإِثْبَاتِ فُعِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهَا، كَقَوْلِك: دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ أَوْ سَيَدْخُلُهَا لَا يُعْقَلُ مِنْهُ التَّكْرَارُ، وَلَوْ قَالَ بَدَلَ هَذَا: قَدْ دَخَلَهَا كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْهُ وُجُودَ الدُّخُولِ مُكَرَّرًا عَلَى حَسَبِ عَدَدِ الْأَيَّامِ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يُفَارِقْهُ لَفْظُ التَّكْرَارِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ التَّكْرَارِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ حَرْفُ التَّكْرَارِ، كَمَا لَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَرْفِ التَّكْرَارِ عَمَّا ذُكِرَ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ الْأَمْرُ وَكَانَ مَتَى فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ فَاعِلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ مِنْهُ الْفِعْلُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: افْعَلْهُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَ خَمْسِينَ سَنَةً كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْغَرَضِ فِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَمَعْلُومٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْهُ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ الِاتِّصَالِ وَالدَّوَامِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَلِانْقِطَاعِهِ (بِهِ) عَنْ سَائِرِ الْفُرُوضِ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ قَوْلِك أَنَّهُ (مِنْ) حَيْثُ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ فِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ (الْأَوْقَاتُ) كُلُّهَا وَقْتًا لِلْفِعْلِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ فِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ مِنْ عُمْرِهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً، فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ الْفِعْلِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْفَرْضِ، كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا إنَّ فَرْضَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْوَقْتِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ فَعَلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهَا وَلَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَ وُقُوعِ الْفِعْلِ وَقْتًا لِلْوُجُوبِ، وَلَمْ يَجِبْ مِنْ أَجْلِ كَوْنِ الْوَقْتِ كُلِّهِ وَقْتًا لَهَا مَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُ الظُّهْرِ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ. وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ (يَقْتَضِي التَّكْرَارَ) لَمَا كَانَ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْقَاتُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةً فِي بَابِ وُجُوبِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى وُجُوبِ فِعْلِهِ دَائِمًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِذَنْ الْمُرَادُ مِنْهُ فِعْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَوْلَى بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ مِنْ بَعْضٍ فَيَحْصُلُ الْأَمْرُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ غَيْرَ مَعْلُومٍ مِنْهُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ. وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِفِعْلٍ ظَاهِرِ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ قَبْلَ وُرُودِ بَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِيهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ فِي الْأَوْقَاتِ إذْ كَانَ وُجُوبُ اعْتِبَارِ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 أَنْ يَكُونَ لُزُومُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى وُرُودِ بَيَانِ الْوَقْتِ. فَإِنْ قَالَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ أَبَدًا حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْوَقْتَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْأَمْرِ فَيُعْتَبَرُ عُمُومُهُ، فَقَوْلُك إنَّ اعْتِبَارَ فِعْلِهِ فِي الْأَوْقَاتِ وَاجِبٌ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ خُصُوصِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ خَطَأً. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَقْتُ مَذْكُورًا بِلَفْظِ عُمُومٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُمُومًا فِي الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] لَيْسَ بِعُمُومٍ فِي الْحَجِّ (لِأَنَّهُ) مَذْكُورٌ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ (ذِكْرِ) عُمُومِ الْوَقْتِ (لَوْ ذُكِرَ) مَعَ عَدَمِ لَفْظِ الْعُمُومِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: اُدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ كَانَ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ دُخُولُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مَذْكُورًا بِعُمُومِ لَفْظٍ يَنْتَظِمُ سَائِرَ أَجْزَائِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا: «أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ بَلْ حَجَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُمُوهُ لَضَلَلْتُمْ» قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 أَحَدُهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ لَوْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ الْآيَةِ لَمَا سَأَلَ الْأَقْرَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " بَلْ حَجَّةً وَاحِدَةً " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ إيجَابَ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ نَعَمْ كَانَ وَاجِبًا بِقَوْلِهِ لَا بِالْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً لَمَا سَأَلَ عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يُشْكَلْ عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ فِعْلَهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ هَلْ أَرَادَ بِالْأَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ، أَوْ هَلْ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُكْمٌ فِي إيجَابِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ زِيَادَةً عَلَى مَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ (وُجُوبَهُ) فَأَخْبَرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ غَيْرَ مَا فِي الْآيَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ مُخَاطَبَاتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْطِ هَذَا الْفَقِيرَ دِرْهَمًا أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِ أَمْرُهُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مُكَرَّرًا دَائِمًا مُتَّصِلًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَخِطَابُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] . وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي هَذَا كَالنَّهْيِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي نَفْيَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ أَبَدًا. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مُنْتَفِيًا أَبَدًا، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَا دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ أَوْ قَالَ لَا يَدْخُلُهَا فَعَلَّقَ الْخَبَرَ عَلَى مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ بِحَرْفِ النَّفْيِ عَلَّقَ بِهِ (نَفْيَ) جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ، وَالْخَبَرُ إذَا وَقَعَ عَنْ إثْبَاتِ فِعْلٍ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ لَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ. كَذَلِكَ الْأَمْرُ إذَا كَانَ مَوْضُوعُهُ الْإِثْبَاتَ فَمَتَى فُعِلَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَرَّةً فَقَدْ أَدَّى مُوجِبَ الْأَمْرِ، وَإِنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَرَّةً لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حُكْمُ النَّهْيِ فِيمَا بَعْدُ لِأَنَّ النَّهْيَ لَمَّا تَنَاوَلَ نَفْيَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ صَارَ كَمَنْ قِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ (ذَلِكَ) فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا أَوْقَعَ الْفِعْلَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ فِي بَاقِي الْأَوْقَاتِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا تَضَمَّنَ الْأَمْرُ وُجُوبَ الِاعْتِقَادِ (لِلُزُومِ) فِعْلِهِ كَمَا تَضَمَّنَ وُجُوبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 الْفِعْلِ ثُمَّ كَانَ الِاعْتِقَادُ لِوُجُوبِ فِعْلِهِ لَازِمًا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الْفِعْلُ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ مَضْمُونِ الْأَمْرِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الِاعْتِقَادِ بَلْ يَكْفِيهِ الِاعْتِقَادُ الْأَوَّلُ إلَى أَنْ يُوقِعَ الْفِعْلَ، فَقَوْلُك: إنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ تَكْرَارَ الِاعْتِقَادِ خَطَأٌ. وَأَيْضًا: لَوْ فَعَلَهُ عَقِيبَ وُرُودِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الِاعْتِقَادِ، وَإِنَّمَا ظَنَّ السَّائِلُ أَنَّ لُزُومَ الثَّبَاتِ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ إلَى وَقْتِ إيقَاعِهِ تَكْرَارٌ لِلِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ هُوَ كَمَا ظَنَّ، وَعَلَى أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: حُجَّ فِي عُمْرِك حَجَّةً وَاحِدَةً لَكَانَ عَلَيْهِ الثَّبَاتُ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا إلَى وَقْتِ إيقَاعِهَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الْحَجِّ مِنْ حَيْثُ لُزُومُهُ الثَّبَاتَ عَلَى الِاعْتِقَادِ إلَى وَقْتِ إيقَاعِهَا. [فَصْلٌ الْأَمْرِ إذَا كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِوَقْتٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ] فَصْلٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْأَمْرِ إذَا كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِوَقْتٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ حَرْفُ التَّكْرَارِ وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وقَوْله تَعَالَى {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] ، لَمْ يَقْتَضِ ظَاهِرُ الْأَمْرِ التَّكْرَارَ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَدْ قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا طَلُقَتْ، وَلَوْ دَخَلَتْهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلَّمَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهَا بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ لِأَنَّ " إذَا " لَيْسَ فِيهَا تَكْرَارٌ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِيهِ وَقْتٌ. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَنْ تَقُولَ إنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَوَضَّأْ بِالْآيَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. قِيلَ لَهُ: الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا اللَّفْظُ وَاَلَّذِي تَنَاوَلَ اللَّفْظُ مِنْ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمُرَادَ إذَا قُمْتُمْ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، فَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْحَدَثِ لَا بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ مَتَى أَرَادَ الصَّلَاةَ وَهُوَ مُحْدِثٌ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ " إذَا " لِلْوَقْتِ فَوَاجِبٌ أَنْ تَقْتَضِيَ التَّكْرَارَ لِوُجُودِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي عَلَّقَ الْفِعْلَ بِهَا. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْوَقْتِ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ قَالَ (لَهُ) صَلِّ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوْ صُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ تَكْرَارَ الْفِعْلِ فِي الْأَوْقَاتِ لِأَجْلِ تَعْلِيقِهِ إيَّاهُ بِاسْمٍ يَنْتَظِمُ عِدَّةَ أَوْقَاتٍ فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَاهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ (قَالَ) لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهَا، وَلَا تَكُونُ مَشِيئَتُهَا مَقْصُورَةً عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ عَلَّقَهَا بِسَائِرِ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَيُثْبِتُ لَهَا الْمَشِيئَةَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا إيقَاعَ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فِي بَابِ الْوَقْتِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الْمَجْلِسِ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَقْتِ وَكَانَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ، وَأَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ تَتَعَلَّقُ عَلَى الْمَجْلِسِ مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِوَقْتٍ بَعْدَهُ. وَالْعِلَّةُ فِي كَوْنِ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ (أَوْ) وَقْتٍ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ وُجُوبِ التَّكْرَارِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هِيَ أَنَّ التَّكْرَارَ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ إلَّا بِوُجُودِ لَفْظِ التَّكْرَارِ أَوْ بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَكْرَارُ الْفِعْلِ بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مَا وَصَفْنَا. وَنَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسَّنَةِ، وَأَرَادَ ثَلَاثًا أَنَّهُ كَمَا نَوَى، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ لِلسَّنَةِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِأَوْقَاتِ السَّنَةِ فَيَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِتَكْرَارِ الْأَوْقَاتِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي ثَلَاثَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 أَطْهَارٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَنَّهُ (قَدْ) تَنَاوَلَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقَةً فِي أَوْقَاتِ السَّنَةِ. وَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] قَدْ تَنَاوَلَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةَ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] لُزُومَ فِعْلِ الصَّلَاةِ مُكَرَّرًا عِنْدَ أَوْقَاتِ الدُّلُوكِ، إلَّا أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 [بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ إذَا تَنَاوَلَ أَحَدَ أَشْيَاءَ عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ] إذَا خُيِّرَ الْمَأْمُورُ بَيْنَ فِعْلِ أَحَدِ أَشْيَاءَ مِثْلِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَالْوَاجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ إنَّ جَمِيعَهَا هُوَ الْوَاجِبُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْصِرَافُ عَنْهُ مَعَ الْإِمْكَانِ إلَّا إلَى بَدَلٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إذَا تَعَيَّنَ بِالْفِعْلِ (مُنْفَرِدًا عَنْ) غَيْرِهِ كَانَ فِي الْحُكْمِ هُوَ الْوَاجِبَ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَهُ تَرْكُ مَا عَدَا الْوَاحِدَ لَا إلَى بَدَلٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ مِنْ مُخَالِفِينَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ الْجَمِيعَ دُفْعَةً (وَاحِدَةً) كَانَ الْمَفْعُولُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ وَاحِدًا مِنْهَا لَا جَمِيعَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ فِيهَا، إذْ لَوْ كَانَ الْجَمِيعُ وَاجِبًا لَكَانَ الْجَمِيعُ إذَا فَعَلَهُ مَفْعُولًا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا قَبْلَ الْفِعْلِ ثُمَّ إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ وَقَعَ نَفْلًا لَا وَاجِبًا، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهَا (لَا بِعَيْنِهِ) لَا جَمِيعُهَا وَأَنَّ مَا فُعِلَ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ حُكْمُ الْوُجُوبِ فِيهِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا يَقُولُ فِي أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يُعْطِيَ زَكَاتَهُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمَسَاكِينِ فَأَيَّهُمْ أَعْطَى كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْوَاجِبَ إعْطَاءُ مَسَاكِينِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ جَازَ إعْطَاؤُهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: بَلْ إذَا كَانَ وَجْهُ الْإِيجَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ (مِنْ) الْمَصْلَحَةِ وَمِنْ أَجْلِهِ يَقْبُحُ تَرْكُهُ فَلَا بُدَّ (مِنْ) أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِذَا خُيِّرَ بَيْنَ أَحَدِ أَشْيَاءَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا عَلِمْنَا أَنْ حُكْمَ الْوُجُوبِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَابِ وَاحِدٍ مِنْهَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ عَلَى أَنَّهُ أَيَّهَا فَعَلَ مِنْهَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ، كَنَهْيٍ فِي الْآخَرِ لَوْ فَعَلَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِالْجَمِيعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ. [فَصْلٌ فِي تَكْرَارِ لَفْظِ الْأَمْرِ] ِ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَكْرَارُ الْأَمْرِ) يُوجِبُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ (عَلَى) أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّانِي هُوَ (الْأَوَّلُ، نَحْوُ) قَوْلِ الْقَائِلِ: تَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: تَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ فَيَكُونُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ (أَنَّ) الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِدِرْهَمٍ: إنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هَكَذَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ حُكْمًا فِي نَفْسِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى فَائِدَةٍ مُحَدَّدَةٍ وَحُكْمٍ مُسْتَأْنَفٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَجْعَلَهُ تَكْرَارًا إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَالدَّلَالَةُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ وَظَاهِرِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِهِ، نَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك» ثُمَّ يَقُولُ فِي حَالٍ أُخْرَى «إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك» ، مَعْلُومٌ مِنْ ظَاهِرِ الْخِطَابِ وَالْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْكَلَامُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ فَلَا يَجِبُ تَكْرَارُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَجْلِ تَكْرَارِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ تَكْرَارَهُ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِسُؤَالٍ سَائِلٍ أَوْ حُدُوثِ حَالٍ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى بَيَانِ الْحُكْمِ لِغَيْرِ مَنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ أَوَّلًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ مُمَكَّنًا مِنْ فِعْلِهِ فِي حَالِ لُزُومِهِ] فَصْلٌ: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ مُمَكَّنًا مِنْ فِعْلِهِ فِي حَالِ لُزُومِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحَالِ فُصُولِ الْأَمْرِ مِنْ الْآمِرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَنَاوَلَتْ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 36] وقَوْله تَعَالَى {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 بَلَغَ} [الأنعام: 19] وقَوْله تَعَالَى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] فَمِنْ حَيْثُ كَانَ رَسُولًا إلَى أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ (جَمِيعَهُمْ) مَوْجُودِينَ (وَقْتَ) الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْآمِرَ انْفَصَلَ مِنْ أَمْرِهِ لِلْمَأْمُورِينَ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرًا لَنَا لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ مَوْجُودِينَ وَقْتَ (الْأَمْرِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ رَسُولًا إلَيْنَا لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ مَوْجُودِينَ وَقْتَ) الرِّسَالَةِ، (وَلَمْ نَكُنْ مَأْمُورِينَ بِهَا الْآنَ) وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، فَصَحَّ أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، مِمَّنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ (فِي) وَقْتِ الْأَمْرِ وَمَنْ وَجَدَ بَعْدَهُ عَلَى شَرْطِ بُلُوغِ الْأَمْرِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْآمِرُ مِنْ أَمْرِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْمَأْمُورِ مَعْقُودًا بِشَرْطِ التَّمْكِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَكَّنًا مِنْهُ فِي حَالِ فُصُولِ الْأَمْرِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْمَرِيضِ: إذَا بَرَأْت فَصُمْ وَصَلِّ وَقَاتِلْ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103] فَقَدْ صَحَّ خِطَابُ الْعَاجِزِ بِالْفِعْلِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّمْكِينِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ (أَمْرُ الْمَعْدُومِ) قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا بِأَمْرٍ لِلْمَعْدُومِ بِأَنْ يَفْعَلَهُ وَهُوَ مَعْدُومٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْأَمْرَ قَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 يَصِحُّ وُجُودُهُ وَالْمَأْمُورُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ " افْعَلْ " وَقَدْ حَصَلَ أَمْرٌ لِمَنْ وُجِدَ بَعْدَ زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ أَمْرٌ يَكُونُونَ مُخَاطَبِينَ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَنَا أَنْ لَا نُجِيزَ لِلْمُعْدَمِ لِتَعَذُّرِ الْفِعْلِ وَاسْتِحَالَتِهِ مِنْهُ فِي حَالِ الْأَمْرِ (لَلَزِمَ أَنْ) لَا يَصِحَّ خِطَابُ الْمَرِيضِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَرْطِ الْبُرْءِ وَالْإِمْكَانِ وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ. [فَصْلٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ] فَصْلٌ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلَى شَرْطِ بُلُوغِهِ (فِي) حَالِ التَّمْكِينِ. فَأَبَى ذَلِكَ قَوْمٌ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا بِشَيْءٍ إلَّا وَفِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ سَيَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ مِنْهُ فَيَفْعَلُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ عَلَى شَرِيطَةِ التَّمْكِينِ وَبُلُوغِ حَالِ الْقُدْرَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْلُومِهِ أَنَّهُ سَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَيُقْطَعُ دُونَهُ إذَا جَوَّزَ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 فَذَهَبَتْ الْفِرْقَةُ الْأُولَى: (إلَى) أَنَّ هَذَا لَوْ جَازَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَنَقْلِ الْجِبَالِ عَنْ مَوَاضِعِهَا (بِشَرْطِ) الْإِمْكَانِ وَهَذَا سَفَهٌ وَعَبَثٌ، لِأَنَّ فِي مَعْلُومِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مِنَّا وَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ بِحَالٍ، كَذَلِكَ كُلُّ مَا (كَانَ) فِي مَعْلُومِهِ أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ تَكْلِيفُهُ إيَّاهُ لَا مُطْلَقًا وَلَا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَأْمُورٌ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْكُفْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ بِالْبَقَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَبْلُغُ الْحَالَ الثَّانِيَةَ أَمْ لَا. وَأَبَى هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفُوهُمْ، وَقَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِنْكَارِ هَذَا الْقَوْلِ مِمَّنْ ظَهَرَ فِيهِ. قَالُوا: وَقَدْ وَجَدْنَا مَا أَجَزْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ جَائِزًا فِيمَا بَيْنَنَا فِي أَوَامِرِنَا لِعَبِيدِنَا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً كَانَ عَالِمًا بِاضْطِرَارٍ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ وَأَرَادَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِبَقَائِهِ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ، وَمَعَ تَجْوِيزِهِ أَنَّهُ يُحَالُ بَيْنَهُ (وَبَيْنَهُ) وَكَانَ مَعْلُومًا (مَعَ) ذَلِكَ مَعَ وُرُودِ أَمْرِهِ أَنَّ مُرَادَهُ إيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى شَرْطِ الْإِمْكَانِ وَالْبَقَاءِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ إذَا جَوَّزَ بُلُوغَ (وُقُوعِ) حَالِ الشَّرْطِ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَتَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ لَمْ يَقْدُمْ فَلَا تَفْعَلْهُ - فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ مُتَعَبِّدًا بِشَيْئَيْنِ فِي الْحَالِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 أَحَدُهُمَا: الِاعْتِقَادُ (أَنَّهُ) إنْ قَدِمَ لَزِمَهُ فِعْلُهُ وَأَنَّهُ سَيَفْعَلُهُ إنْ قَدِمَ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ - كَانَ هَذَا مَعْنًى سَائِغًا وَتَكْلِيفًا جَائِزًا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْمَأْمُورُ تَوْطِينَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِهِ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ، وَعَلَى تَرْكِهِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْرِنَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَقَلْعِ الْجِبَالِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ لِأَنَّ هَذَا قَدْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ وُجُودِهِ، فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِهِ إلَّا عَبَثًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ الَّذِي قَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا وُجُودُ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَيَجُوزُ غَيْرُهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِثْلُهُ فِي عَادَاتِ الْحُكَمَاءِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي وَصَفْنَا. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ: اقْلَعْ الْجِبَالَ وَاشْرَبْ مَاءَ الْبَحْرِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَانَ عَابِثًا وَاضِعًا لِلْأَمْرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَكَذَلِكَ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا تَجْرِي عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُنْسَخَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: صَلِّ غَدًا إنْ لَمْ نَنْسَخْ هَذِهِ الصَّلَاةَ عَلَيْكُمْ، كَمَا أَجَزْت أَنْ يَقُولَ: صَلِّ غَدًا إنْ مُكِّنْت مِنْهَا وَلَمْ يُحَلْ بَيْنَك وَبَيْنَهَا، وَمَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطِ التَّمْكِينِ وَبَيْنَهُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَلَّا يُنْسَخَ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ (مَعْقُودًا) بِشَرِيطَةِ أَنْ افْعَلُوهُ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَالْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ فَقَدْ أَرَادَهُ مِنْهُ، وَإِذَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ كَرِهَهُ مِنْهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَرَدْته مِنْك إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَعْقُودًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَة. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَقُولَ: افْعَلْهُ إنْ قَدَرْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 عَلَيْهِ وَإِنْ أَمْكَنَك، فَلَمَّا صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ وَوَرَدَ الْأَمْرُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْأَمْرَ مِنَّا لِعَبِيدِنَا جَائِزٌ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنَّا لِعَبْدِهِ: قَدْ أَرَدْت مِنْك هَذَا الْفِعْلَ إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ إلَّا وَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ إنْ لَمْ يَبْدُ (لِي) وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (لِأَنَّهُ تَعَالَى) عَالِمٌ بِالْعَوَاقِبِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ. [فَصْلٌ فِيمَنْ أَمَرَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا] فَصْلٌ: وَمَنْ أَمَرَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، نَحْوُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَجَزَاءَ الصَّيْدِ، وَمَا خُيِّرَ الْإِنْسَانُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَفْعَلَ غَيْرَهُ. وَإِذَا نُهِيَ عَنْ شَيْئَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا -، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوْ تَتَنَاوَلُ أَحَدَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِذَا أُدْخِلَتْ عَلَى النَّهْيِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ بِالنَّهْيِ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْإِيجَابِ تَنَاوَلَتْ أَيْضًا أَحَدَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّهْيِ لَمْ يَجُزْ إيقَاعُ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُ، لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْقَعَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (أَيْضًا) : قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] وقَوْله تَعَالَى {إلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] لَمَّا دَخَلَتْ أَوْ عَلَى النَّهْيِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُ عَلَى حِيَالِهِ. وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْإِيجَابِ تَنَاوَلَتْ وَاحِدًا مِنْهُ، إلَّا أَنَّهُ أَيُّهَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِمَا عَلَيْهِ، عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا. [فَصْلٌ مِنْ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ وَيَتَوَجَّهُ بِهِ الْخِطَابُ إلَى جَمَاعَتِهِمْ] فَصْلٌ: وَمِنْ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ وَيَتَوَجَّهُ بِهِ الْخِطَابُ إلَى جَمَاعَتِهِمْ، نَحْوُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَغُسْلِهِمْ، وَنَحْوُ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ لَازِمٌ لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ، وَلَوْ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَ النَّاسُ عَنْ سَائِرِ أُمُورِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ ظُهُورُ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ (عَلَى) أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْجَمِيعِ فَإِنَّ لُزُومَ فَرْضِهِ مَقْصُورٌ عَلَى وُقُوعِ الْكِفَايَةِ (بِهِ) مِنْ بَعْضِهِمْ، فَمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَابُوا عَنْ (النَّاسِ) الْبَاقِينَ، عَلَى هَذَا مَضَى السَّلَفُ وَسَائِرُ الْخَلْفِ مِنْ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 [فَصْلٌ فِي حُكْمِ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ] (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : وَالْكُفَّارُ مُكَلَّفُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامِهِ كَمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّ الْكُفَّارَ عَلَى تَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّا تَعَلَّقَ لُزُومُهُ بِالشَّرْعِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 7] وَنَحْوُ حِكَايَتِهِ عَنْ أَهْلِ النَّارِ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 46] {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 47] فِيهِ إخْبَارٌ عَنْ عِقَابِهِمْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ مَعَ مَا اسْتَحَقُّوا مِنْ الْعِقَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ {وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] وَقَالَ تَعَالَى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] فَذَمَّهُمْ (اللَّهُ) عَلَى فِعْلِ الرِّبَا، فَدَلَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 عَلَى أَنَّهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ (مُسْتَحِقُّونَ لِلْعِقَابِ) عَلَيْهِ وَالْعِقَابُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (أَيْضًا) : وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، فَدَلَّ جَمِيعُ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ (بِالشَّرَائِعِ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهَا سِوَى عُقُوبَةِ الْكُفْرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ) بِهَا وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ فِعْلُهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ الْكُفْرِ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُمْ السَّبِيلَ إلَى فِعْلِهَا بِأَنْ يُسْلِمُوا ثُمَّ يَأْتُوا بِهَا، كَمَا أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْجَنَابَةِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُهَا، إذْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لَهُ السَّبِيلَ إلَى فِعْلِهَا بِطَهَارَةٍ يُقَدِّمُهَا أَمَامَهَا، كَذَلِكَ الْكَافِرُ قَدْ جُعِلَ لَهُ السَّبِيلُ إلَى التَّمَسُّكِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يُقَدِّمَ أَمَامَهَا فِعْلَ الْإِيمَانِ. فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا لَمَا جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، قِيلَ لَهُ: هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَقَدْ أُقِرُّوا عَلَى تَرْكِهِ بِالْجِزْيَةِ، كَذَلِكَ شَرَائِعُهُ. [فَصْلٌ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ] ِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ - فِيمَا سَلَف - مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ثُمَّ اخْتَلَفَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ النَّهْيِ عَلَى ضِدِّهِ. فَقَالَ قَائِلُونَ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَيَكُونُ لَفْظُ الْأَمْرِ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ وَمُوجِبًا لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُوجِبًا لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ (لَهُ) فِعْلُ (ضِدِّهِ) الْمُنَافِي لَهُ فِي وَقْتِ وُجُوبِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ قَدْ دَلَّ عَلَى كَرَاهَةِ ضِدِّهِ، لِأَنَّ لِلنَّهْيِ صِيغَةً يَخْتَصُّ بِهَا فِي اللُّغَةِ، كَمَا أَنَّ لِلْأَمْرِ لَفْظًا يَخْتَصُّ بِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ أَوْ حَظْرُهُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 طَرِيقِ اللَّفْظِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَزِمَهُ فِعْلُهُ، أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَزِمَهُ اجْتِنَابُهُ إذَا (كَانَ) ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ لَهُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لَا يُسَمَّى أَمْرًا أَوْ نَهْيًا. وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ إنَّمَا تَصِحُّ مَعَانِيهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْأَمْرَ (لِلْوُجُوبِ) . فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ لَفْظَ الْأَمْرِ دَلِيلًا عَلَى كَرَاهَةِ ضِدِّهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ مَتَى اقْتَضَى الْأَمْرُ الْإِيجَابَ فِي وَقْتٍ مُضَيَّقٍ لَا يَسَعُ الْمَأْمُورَ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ فَمَحْظُورٌ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِيهِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ وَكَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبًا (لَا) يَقْتَضِي قُبْحَ تَرْكِهِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ إذَا تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا لِأَنَّهُ فَعَلَ قَبِيحًا بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ فَاحِشٌ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ لَا عَلَى فِعْلٍ كَانَ مِنْ الْعَبْدِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيمَا كَانَ وُجُوبُهُ أَوْ حَظْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ؟ فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ (عَنْ) ضِدِّهِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ. وَقَالَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهَا فِي صَدْرِ (هَذَا) الْبَابِ: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 جِهَةِ اللَّفْظِ، وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْمُهْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ فِي الْحَالِ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ سَائِرَ أَضْدَادِهِ وَيَتْرُكَهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فِعْلُهُ وَتَرْكُ سَائِرِ أَضْدَادِهِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ عِنْدَ مَنْ يُطْلِقُ لَفْظَ الْأَمْرِ فِي مِثْلِهِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ الدَّلَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ (لَهُ) : لَا تَتَحَرَّكْ، فَإِنَّ السُّكُونَ ضِدٌّ لِسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ السُّكُونِ، إذْ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَكَّ مِنْ سَائِرِ الْحَرَكَاتِ إلَّا إلَى سُكُونٍ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ تَقُولَ لَهُ: لَا تَسْكُنْ فَلِلسُّكُونِ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ حَرَكَاتُهُ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: (إنَّ) النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَإِنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ. وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: وَاجِبًا أَوْ مَحْظُورًا، وَأَسْقَطُوا الْقِسْمَ الْمُبَاحَ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى قَوَدِ قَوْلِهِمْ إسْقَاطُ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ فَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ مِمَّا يُضَادُّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَهُمْ، وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ فَكُلُّ فِعْلٍ يُضَادُّ الْمَأْمُورَ بِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ عِنْدَهُمْ، فَلَا يَبْقَى (هَا) هُنَا فِعْلٌ يَكُونُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا وَاجِبًا (وَلَا مَحْظُورًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا ضِدٍّ وَاحِدٍ أَوْ أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا وُجُوبُ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَيَلْزَمُهُ بِوُرُودِهِ تَرْكُ سَائِرِ أَضْدَادِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَفْعَلْ أَضْدَادَ هَذَا الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ كَانَ فِي الدَّارِ: اُخْرُجْ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، فَقَدْ كُرِهَ لَهُ سَائِرُ مَا يُضَادُّ الْخُرُوجَ مِنْهَا نَحْوُ الْقُعُودِ (وَالْقِيَامِ) وَالِاضْطِجَاعِ وَالْحَرَكَةِ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا خُرُوجًا مِنْ الدَّارِ فَصَارَ كَمَنْ نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ فِعْلِهَا، وَالنَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ نَهْيٌ صَحِيحٌ لَوْ نَصَّ عَلَيْهَا بِلَفْظِ النَّهْيِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا وَلَا مُمْتَنِعًا، فَكَذَلِكَ إذَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مَحْظُورَةً يَلْزَمُ الْمَأْمُورَ اجْتِنَابُهَا عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجْتِنَابُهُ إلَّا بِفِعْلِ ضِدِّهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْفَكَّ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ فَلَيْسَ النَّهْيُ عَنْهُ أَمْرًا بِسَائِرِ أَضْدَادِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى غَيْره عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ نَهَيْتُك عَنْ السُّكُونِ وَأَبَحْت لَك الْحَرَكَةَ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ، فَيُطْلَقُ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَرَكَةِ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ الْحَرَكَةُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَاجِبَةً لَمَا صَحَّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ (عَلَيْهَا) ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: قَدْ نَهَيْتُك عَنْ الْحَرَكَةِ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ وَأَبَحْت لَك السُّكُونَ (لِأَنَّ السُّكُونَ) إذَا كَانَ ضِدًّا لِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ (وَهُوَ) لَا يَنْفَكُّ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ فَالسُّكُونُ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ عَلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قُلْنَا: إنَّ الْأَمْرَ (بِالشَّيْءِ) نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ وَإِنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَوْجَبْت عَلَيْك فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَأَبَحْت لَك سَائِرَ أَضْدَادِهِ أَوْ وَاحِدًا مِنْ أَضْدَادِهِ، فَلَمَّا انْتَفَى عَنْ سَائِرِ أَضْدَادِهِ اسْمُ الْإِبَاحَةِ وَالْإِيجَابِ صَحَّ أَنَّهُ (مَدْلُولٌ بِالْأَمْرِ كَرَاهَةً) وَلَزِمَ اجْتِنَابُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّا لَوْ قُلْنَا إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَإِنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ قِسْمِ الْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْ أَقْسَامِ الْأَفْعَالِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِ إذَا كَانَتْ وَاقِعَةً عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ وَلَمْ تَكُنْ وَاقِعَةً عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا أَرْبَعَةً: وَاجِبٌ وَمَحْظُورٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُبَاحٌ، فَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الزِّنَا أَمْرًا بِسَائِرِ أَضْدَادِ الزِّنَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْيُ إلَى السُّوقِ وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ وَصَوْمُ النَّفْلِ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَكُلُّ مَا يُضَادُّ (الزِّنَا) مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَأْمُورًا بِهِ وَاجِبًا. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ أَوْ مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يُضَادُّ فِعْلَ الْمَحْظُورِ بِتِلْكَ الْجَارِحَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ فِعْلُ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ فَهُوَ يُمْكِنُهُ فِعْلُ أَضْدَادِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ، فَإِذَا تَرَكَ أَضْدَادَهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ بِفِعْلِ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَنْدُوبِ فَوَاجِبٌ عَلَى قَضِيَّةِ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ (بِهِ) فَيَكُونُ هَذَا مُؤَدِّيًا إلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي الشَّرْعِ فِعْلٌ مُبَاحٌ وَلَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَقَلُوا أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مُبَاحًا وَمَنْدُوبًا إلَيْهِ مُرَغَّبًا فِيهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَصَحَّ بُطْلَانُ كُلِّ قَوْلٍ يُؤَدِّي إلَى دَفْعِ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَلَّا قُلْت: إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ كَانَ أَمْرًا بِوَاحِدٍ مِنْ أَضْدَادِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ (مِمَّا يُنَافِي) فِعْلَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِفِعْلِ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، كَمَا يَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، إنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 قِيلَ لَهُ: مَا تَقَدَّمَ يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ (قَدْ) نَهَيْتُك عَنْ السُّكُونِ وَأَبْحَثُ لَك سَائِرَ أَضْدَادِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ، فَنُطْلِقُ اسْمَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، بَلْ يُقَالُ (لَهُ) افْعَلْ أَيَّهَا شِئْت عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. (وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ لَا يَنْصَرِفُ عَنْ فِعْلِ مَأْمُورٍ بِهِ فِيمَا وَصَفْت إلَّا إلَى وَاجِبٍ مِثْلِهِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْت مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ بِفِعْلِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ بِمَا فَعَلَ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيَّ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ مِنْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فِيمَا وَصَفْنَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلِمْنَا أَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَلَا وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ الثَّوَابَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 [فَصْلٌ كُلُّ أَمْرٍ مُضَمَّنٌ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ] ِ (إنْ كَانَ الْوَقْتُ) يَسْتَوْعِبُ الْفِعْلَ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ مُؤَقَّتٌ بِالشَّهْرِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ فِيهِ، وَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ يَتَّسِعُ لِإِيقَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِيهِ مِرَارًا كَثِيرَةً فَوُجُوبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ أَوْقَاتِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِهِ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْوَقْتِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَنَّهُ إنْ أَخَّرَهُ عَنْ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أُبِيحَ لَنَا تَأْخِيرُ الْفِعْلِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي وُجُوبِ الظُّهْرِ وَتَعَلَّقَ فَرْضُهُ بِالْوَقْتِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا، وَمَتَى فَاتَ الْوَقْتُ قَبْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فِعْلُهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يُوَجَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ إلَى فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ، وَمَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ الْأَمْرُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْأَمْرِ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ النَّهْيِ إذَا كَانَ مُؤَقَّتًا فَإِنْ مَضَى (الْوَقْتُ) يُزِيلُ حُكْمَهُ وَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى (مِنْ غَيْرِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 [بَابُ الْقَوْلِ فِي النَّهْيِ هَلْ يُوجِبُ فَسَادَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ أَمْ لَا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يُوجِبُ فَسَادَ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةُ الْجَوَازِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وَهَذَا (الْمَذْهَبُ) مَعْقُولٌ مِنْ احْتِجَاجَاتِهِمْ لِإِفْسَادِ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ لِمُجَرَّدِ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ، نَحْوُ احْتِجَاجِهِمْ لِإِفْسَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ الزَّوَالِ بِظَاهِرِ (النَّهْيِ الْوَارِدِ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ، وَاحْتِجَاجِهِمْ لِإِفْسَادِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَبَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ فِيهِمَا مِنْ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ، قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إذَا كَانَ (النَّهْيُ عَنْهُ) إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَ هَذِهِ الْعُقُودِ وَلَا الْقُرَبِ الْمَفْعُولَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بَعْدُ. وَهَذَا الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ فِي ذَلِكَ هُوَ أَيْضًا عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلُهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحِكَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ مَشْهُورَةٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْت مَكَّةَ فَوَجَدْت بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَابْنَ أَبِي لَيْلَى وَابْنَ شُبْرُمَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَأَتَيْت أَبَا حَنِيفَةَ) . فَقُلْت (لَهُ) : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ بَيْعًا وَاشْتَرَطَ شَرْطًا فَقَالَ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، فَأَتَيْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 بَاطِلٌ فَأَتَيْت ابْنَ شُبْرُمَةَ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ قَالَ فَقُلْت: ثَلَاثَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فِي مَسْأَلَةٍ (وَاحِدَةٍ) فَأَتَيْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: " لَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ» . وَأَتَيْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا اشْتَرِي بَرِيرَةَ وَاشْتَرِطِي الْوَلَاءَ لَهُمْ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 بَاطِلٌ. قَالَ فَأَتَيْت ابْنَ شُبْرُمَةَ فَذَكَرْت (لَهُ ذَلِكَ) فَقَالَ لَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدَّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقَةً وَاشْتَرَطَ لِي حُمْلَانَهُ إلَى الْمَدِينَةِ» فَأَجَازَ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ، فَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي إفْسَادِ مَا أَفْسَدَ بِظَاهِرِ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَ) هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ: إنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ أَوْ الْقُرَبِ بَلْ ظَاهِرُ احْتِجَاجَاتِهِمْ وَمُنَاظَرَاتِهِمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي فَسَادَ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إلَيْهِمَا. ثُمَّ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ إذَا رَجَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 إلَى أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَجَبَ فَسَادُ نِكَاحِهِنَّ، وَلَمْ يَلْجَأْ مَنْ أَفْسَدَهُ بِرُجُوعِ الْحُكْمِ إلَيْهِ إلَّا إلَى ظَاهِرِ مَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] . وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ قَدْ عُقِلَ مِنْهُ فَسَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ - فَقَالَ: " حَرَّمَ اللَّهُ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَعْلَمُ مِنْ الشِّرْكِ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ: عِيسَى أَوْ عَبْدٌ مِنْ الْعِبَادِ اللَّهُ ". وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 22] مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَطْءِ أَفْسَدَ (بِهِ) النِّكَاحَ بَعْدَ الْوَطْءِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ مَنَعَ (مِنْ) تَزْوِيجِهَا بَعْدَ عَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا، وَلَا يَمْنَعُهُ بَعْدَ وَطْئِهَا بِالزِّنَا، وَكَذَلِكَ مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ مِنْهُمْ لَمْ يَرْجِعْ فِي إفْسَادِ نِكَاحِهَا إلَّا إلَى قَوْله تَعَالَى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] (يَعْنِي فِي الْعِدَّةِ) {حَتَّى يَبْلُغَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وقَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] عَقَلَتْ الْأُمَّةُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ، اقْتَضَى فَسَادَ الْعَقْدِ، وَعَقَلَتْ الصَّحَابَةُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» مَعَ ذِكْرِهِ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ فَسَادَ الْبَيْعِ فِيهَا إذَا عَقَدَ عَلَيْهَا عَلَى الْوَجْه الَّذِي حَظَرَهُ الْخَبَرُ، وَقَالَ فِي الصَّرْفِ «لَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» وَقَالَ «إذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» ، وَحَاجُّوا ابْنَ عَبَّاسٍ فِي تَجْوِيزِهِ الصَّرْفَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مُقْتَضَى لَفْظِ الْخَبَرِ أَنَّهُ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا عَارَضَهُمْ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» ثُمَّ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ، وَعَقَلَ السَّلَفُ مِنْ «نَهْيَهُ عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ» فَسَادَ الْعَقْدِ إذَا حَصَلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَكَذَلِكَ «نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 يُقْبَضْ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الْمَجْرِ» (مَا فِي الْبُطُونِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَلَمْ يَرْجِعُوا فِي إفْسَادِهَا (إلَّا) إلَى ظَاهِرِ النَّهْيِ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ (مِنْ) مَذْهَبِهِمْ، أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ، وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا فِي كُتُبِهِمْ فِي إفْسَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ فِيهِ مَا وَصَفْنَا، وَمِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّهْيَ وَإِنْ مَنَعَ جَوَازَ هَذِهِ الْعُقُودِ، وَالْقُرَبِ إذَا تَنَاوَلَهَا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُقُوعِهَا عَلَى فَسَادٍ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَقَالَ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ: إنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ إذَا صَامَ فِيهِنَّ كَانَ صَوْمُهُ صَوْمًا لَمَا كَانَ لِلنَّهْيِ مَعْنًى، وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ (إنْ) صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ عَنْ صَوْمٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى فَسَادٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا تَنَاوَلَهُ، عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ فَاعِلِهِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ مَعْنًى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ الْقُرْبَةِ الْمَفْعُولَةِ، أَوْ مَا هُوَ مِنْ شُرُوطِهَا الَّتِي يَخُصُّهَا لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ ذَلِكَ نَحْوُ الْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَتَلَقِّي الْجَلَبِ، وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ السَّبْيِ (لِذَوِي الرَّحِمِ) الْمَحْرَمِ فِي الْبَيْعِ إذَا كَانُوا صِغَارًا، وَمِثْلِ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالطَّهَارَةِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ، وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ عَلَى جَمَلٍ مَغْصُوبٍ: أَنَّ كَوْنَ (الْفِعْلِ) فِيهَا عَنْهُ فِي هَذِهِ (الْوُجُوهِ) لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا لَمْ يَتَنَاوَلْ مَعْنًى فِي نَفْسِ الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا تَنَاوَلَ مَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ عَاصِيًا فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ فِعْلِهِ مَوْقِعَ الْجَوَازِ، كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ عَاصِيًا فِي تَرْكِهِ الصَّلَاةَ لَا يَمْنَعُ) صِحَّةَ صِيَامِهِ إذَا صَامَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ رَأَى رَجُلًا يَغْرَقُ، وَهُوَ يُصَلِّي، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ، أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْمُضِيِّ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَمَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ الرَّجُلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى رَجُلًا يَقْتُلُ آخَرَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَدَفْعَ الْقَاتِلِ عَمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُجْزِئَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُنْفِرَ النَّاسُ إلَى عَدُوٍّ أَظَلَّهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَانَ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْفِرَ إلَيْهِمْ، فَلَوْ اشْتَغَلَ بِفِعْلِ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَتَرَكَ الْخُرُوجَ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَاضِيَةً، مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ وَاجِبًا أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنَّا فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إذَا أَلْزَمْنَا الْخُرُوجَ إلَى طَرَسُوس لِقِتَالِ الْعَدُوِّ، وَفِي اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 هَذَا وَصْفُهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ فِي نَفْسِ الْقُرْبَةِ الْمَفْعُولَةِ أَوْ بِمَا هُوَ مِنْ شُرُوطِهَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ (وَ) وُقُوعَ الْقُرْبَةِ مَوْقِعَ الْجَوَازِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَخْلِيصَ (الرَّجُلِ مِنْ) الْغَرَقِ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ شُرُوطِهَا فِي شَيْءٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ تَخْلِيصَ الْغَرِيقِ (لَوْ اشْتَغَلَ) بِالصَّلَاةِ أَيْضًا كَانَ عَاصِيًا فِي اشْتِغَالِهِ عَنْ تَخْلِيصِهِ، وَأَنَّ أَذَانَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الْبَيْعِ وَلَا مِنْ شَرْطِهِ فَلَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ مِنْ أَجْلِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ الِاشْتِغَالُ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (لَا الْبَيْعُ) ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْقِدْ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ كَانَ النَّهْيُ قَائِمًا فِي اشْتِغَالِهِ بِغَيْرِ الصَّلَاةِ، فَعَلِمْت أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا تَنَاوَلَ الِاشْتِغَالَ عَنْ الْجُمُعَةِ لَا الْبَيْعَ نَفْسَهُ. وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ، وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ حَقِّ الْغَيْرِ لَا لِأَجْلِ الْبَيْعِ. وَكَذَلِكَ (هَذَا) فِي اسْتِيَامِ الرَّجُلِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَوْ عَقَدَ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ إنَّمَا تَعَلَّقَ لِحَقِّ الْمُسَاوِمِ لَا بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ إذَا وَقَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْمَهْرِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ كَانَ جَائِزًا مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ كَرَاهَتُهُ بِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ، إنَّمَا تَعَلَّقَ بِاَلَّذِي أَخَذَتْهُ أَقَلَّ مِمَّا أَعْطَتْ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أَلَا تَرَى أَنَّ مَهْرَهَا لَوْ كَانَ مِثْلَ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ لَجَازَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَعْنَى فِي أَشْبَاهِهِ، فَصَارَ مَا ذَكَرْنَا أَصْلًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ. ثُمَّ الْعُقُودُ وَمَا سَبِيلُهُ أَنْ يُفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إذَا فُعِلَتْ عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا عَلَى وُجُوهٍ: فَمِنْهَا مَا يَكُونُ حَالُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْعَقْدِ وَفِي غَيْرِ شُرُوطِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ. وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ فِيهِ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ فِي شُرُوطِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: فَمَا كَانَ مِنْهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَوْ غَيْرُ جَائِزٍ - وَهُوَ مِمَّا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَيَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ - فَإِنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ عَلَى فَسَادٍ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ مَعَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا مَا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِ. فَأَمَّا مَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ فِيهِ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَفِي شُرُوطِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ، فَكَبَيْعِ الْعَبْدِ بِالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، فَهَذَا تَعَلَّقَ النَّهْيُ فِيهِ بِنَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ عَنْهُ، فَإِذَا جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمَجْهُولَ وَالْغَرَرَ وَمَا لَيْسَ عِنْدَهُ بَدَلًا وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَقَدْ تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِنَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ فَسَادَهُ. وَأَمَّا شُرُوطُهُ الَّتِي تَخُصُّهُ: فَنَحْوُ الْقَبْضِ وَالْأَجَلِ وَإِلْحَاقِ شَرْطٍ بِهِ لَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ، فَإِذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، أَوْ بَاعَ مَا لَمْ يَقْبِضْ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُسْلِمَ إلَى الْمُشْتَرِي وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْعَقْدُ، فَمَتَى تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِهَذِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 الْأَوْصَافِ أَوْجَبَ فَسَادَ الْبَيْعِ، وَلَا يَمْنَعُ مَا تَنَاوَلَ النَّهْيُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ وُقُوعَهَا عَلَى فَسَادٍ، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا عُقُودٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ: إنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، (لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ الْبَيْعَ فِي مِثْلِهِ بِالْقِيمَةِ، وَالْبَيْعُ إلَى الْعَطَاءِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ) فَمِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، " وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ أَنَّهُ جَائِزٌ " فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ النَّهْيِ الَّذِي تَنَاوَلَ نَفْسَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضَ شُرُوطِهِ مِنْ وُقُوعِهِ عَلَى فَسَادٍ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هَكَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ إجَازَةٌ بِحَالٍ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا (عَنْهُ) لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ عَلَى فَسَادٍ، وَوُقُوعُ الْمِلْكِ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ إذَا وُجِدَ التَّسْلِيطُ (مِنْ مَالِكِهِ لِمُشْتَرِيهِ) عَلَى ذَلِكَ. وَالْبُيُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا وَمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ قَدْ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ بِحَالٍ، لِأَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِجَوَازِهِ نَفَذَ حُكْمُهُ وَصَحَّ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا عِنْدَنَا قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ (بِهِ) ، فَصَارَ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ مِنْ جِهَةِ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ، فَيَمْلِكُ مُشْتَرِيهِ بَدَلَهُ إذَا قَبَضَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُقُوعَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى ذَلِكَ: «بِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَاشْتَرَطَتْ الْوَلَاءَ لِمَوَالِيهَا، ثُمَّ أَعْتَقَتْهَا، ثُمَّ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَأَجَازَ عِتْقَهَا» ، وَقَدْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا بِشَرْطِهَا الْوَلَاءَ لَهُمْ. هَذَا مَعْنَى قَضِيَّةِ بَرِيرَةَ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَتْ الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 مُخْتَلِفَةً، فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْعُقُودِ يَقَعُ فَاسِدًا وَيُمْلَكُ بِهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْوَطْءُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي بَابِ لُزُومِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ. وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا الْأَدَاءُ أُعْتِقَ بِهِ الْعَبْدُ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى فَسَادٍ. وَضَرْبٌ آخَرُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ فَلَا يَقَعُ رَأْسًا، مِثْلُ بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِعُقُودٍ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَلْحَقَهَا (الْإِجَازَةُ بِحَالٍ) ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُجِيزُ بَيْعَ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الْأَبْدَالِ لَا بِقِيمَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَقْدًا بِحَالٍ صَارَ لَغْوًا لَا حُكْمَ لَهُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ هَذِهِ الْعُقُودِ بِأَنْ قَالَ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: مِنْهَا عَقْدٌ جَائِزٌ، وَهِيَ الْمُبَايَعَاتُ الصَّحِيحَةُ، وَمِنْهَا عَقْدٌ فَاسِدٌ، وَهِيَ كَشِرَاءِ الْعَبْدِ بِالْخَمْرِ (وَالْخِنْزِيرِ) وَبِالْأَثْمَانِ الْمَجْهُولَةِ، أَوْ إلَى آجَالٍ مَجْهُولَةٍ، أَوْ يَشْرِطُ فِيهَا شُرُوطًا فَاسِدَةً، وَسَائِرُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَقَعُ الْمِلْكُ (فِيهَا) عَنْدَ الْقَبْضِ. وَمِنْهَا عَقْدٌ بَاطِلٌ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِالْخَمْرِ وَبِالْمَيْتَةِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْمِلْكِ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، فَيُفَرِّقُونِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ وَلَا يَضِيقُ أَنْ يُعَبِّرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وَيُفَرِّقَ بَيْنَ مَعَانِيهَا لِلْإِفْهَامِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ مِمَّا لَا يَلْحَقُهُ (فَسْخٌ) ، فَإِنَّ كَوْنَهُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ وُقُوعِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، وَمَا يَقَعُ فَاسِدًا فَإِنَّهُ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فِي بَابِ وُقُوعِ الْمِلْكِ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ فِيمَا يَمْلِكُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فَسْخُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لِانْتِفَاءِ أَحْكَامِ الصِّحَّةِ عَنْهُ، فَمَا (يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَهُوَ وَاقِعٌ فَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ صَارَ بِحَالٍ) لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَذَلِكَ مِثْلُ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ (فَإِنَّهُ) وَإِنْ تَعَلَّقَ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الطَّلَاقِ، وَفِيمَا هُوَ (مِنْ) شُرُوطِهِ، إذَا أَرَادَ إيقَاعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَمْ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ الْفَسْخُ نَفَذَ وَصَحَّ " وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ» (وَ) أَجَازَ مَعَ ذَلِكَ طَلَاقَ ابْنِ عُمَرَ. وَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 إذَا أَوْقَعَهَا عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ مِثْلَ أَنْ يَعْتِقَهُ فِي الْمَرَضِ - وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ قَاصِدًا بِهِ (إضْرَارَ) - الْوَرَثَةِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَإِنْ وَقَعَ مَنْهِيًّا عَنْهُ. «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَوْ أَدْرَكْته مَا صَلَّيْت عَلَيْهِ» وَأَعْتَقَ مَعَ ذَلِكَ ثُلُثَ ذَلِكَ الرَّقِيقِ مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمَتَى وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهَا كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى أَبْدَالٍ مَذْكُورَةٍ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، كَانَتْ وَاقِعَةً نَافِذَةً لَا يُبْطِلُهَا بُطْلَانُ الْبَدَلِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ الْعَقْدِ نَحْوُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ يَعْفُوَ مِنْ دَمِ عَمْدٍ عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ، وَيَصِحُّ الْعَفْوُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَنْهَا بَدَلًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا، وَلَمْ يَكُنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 مِنْ الْعَاقِدِ غُرُورٌ لِلْمَعْقُودِ لَهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ خَمْرٌ وَمَيْتَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا عَقْدًا بِحَالٍ وَإِنَّمَا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَنَظَائِرُهُ مِمَّا وَصَفْنَاهُ مِنْ حَيْثُ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْقَبُولِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا تَعَلَّقَ عَلَى الْأَخْطَارِ وَالشُّرُوطِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا مِمَّا يَصِحُّ إيقَاعُهَا بِالْقَبُولِ دُونَ شَرْطِ الْبَدَلِ، فَلَا يَقْدَحُ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْقَبُولِ صَارَ كَقَوْلِهِ: إنْ قَبِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ. وَأَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ إذَا وَقَعَ عَلَى خَمْرٍ وَمَيْتَةٍ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يُشْبِهُ الْعِتْقَ وَنَظَائِرَهُ الْوَاقِعَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَبْدَالِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْبَدَلِ فَلَا يَقْدَحُ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي صِحَّتِهِ، وَيُفَارِقُهَا مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِهَا بِالْأَخْطَارِ وَالشُّرُوطِ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْطَارِ وَلَا عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَقَوْلِهِ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ تَزَوَّجْتُك، فَإِنَّمَا جَازَ مَعَ فَسَادِ الْبَدَلِ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْعِتْقِ وَنَظَائِرِهِ وَهُوَ جَوَازُ وُقُوعِهِ بِالْقَوْلِ دُونَ شَرْطِ (الْبَدَلِ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا (الْأَصْلُ) يَنْتَقِضُ عَلَيْك فِي عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَسَائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى أَبْدَالٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، لِأَنَّ مَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 مِنْ) نَحْوِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ بِالْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ (الْبَدَلِ) ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فَسَادُ عَقْدِ الْبَيْعِ لِأَجْلِ فَسَادِ الْبَدَلِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ تَأَمَّلْت مَا قُلْنَاهُ لَعَلِمْت بُطْلَانَ هَذَا السُّؤَالِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا (إنَّ) مَا يَصِحُّ (إيقَاعُهُ) بِالْقَوْلِ (عَلَى وَجْهٍ) عَلَى غَيْرِ شَرْطِ الْبَدَلِ لَمْ يَقْدَحْ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي صِحَّتِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالنِّكَاحِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِمَّا تَصِحُّ بِالْقَوْلِ. وَأَمَّا تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ: عَلَى جِهَةِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ بِالْقَوْلِ دُونَ انْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ، وَهُوَ الْقَبْضُ فَلَمْ يَلْزَمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يَجُزْ لَنَا تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْمَعْقُودِ عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ لِأَجْلِ أَنَّ الْهِبَةَ قَدْ تَصِحُّ بِغَيْرِ بَدَلٍ؛ لِأَنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ لَكَانَ إنَّمَا يَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ الْبَدَلِ فِيهِ، وَالْقَوْلُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إيجَابِ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لَا تَلْزَمُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أَيْضًا لَا تَصِحُّ بِالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا تَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْقَوْلِ إلَى مَوْتِ الْمُوصِي حَتَّى تُمْلَكَ بِهَا. فَإِنْ قَالَ: الْبَرَاءَةُ مِنْ الدَّيْنِ تَصِحُّ بِالْقَوْلِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا عَقَدَهَا عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ لَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ. قِيلَ لَهُ: الْبَرَاءَةُ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ مِنْ حَيْثُ كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 الْمُبْرِئِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ فَلَمْ يَخْلُ أَنْ تَكُونَ صِحَّتُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْقَوْلِ (وَبِمَعْنًى) آخَرَ يَنْضَمُّ إلَيْهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ الْوَاقِعِ بِالْهِبَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْوَاقِعِ بِالْبَيْعِ لِمَا تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي (لَا) تَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، وَلَيْسَ حُكْمُ الطَّلَاقِ (الْوَاقِعِ) بِبَدَلٍ مُخَالِفًا لِحُكْمِ وُقُوعِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَالصُّلْحُ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ وَقَعَتْ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ - وَجَبَ أَنْ (لَا) يُؤَثِّرَ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَقَعُ (عَلَيْهِ) لَوْ لَمْ (يَكُنْ) هُنَاكَ بَدَلٌ، لِأَنَّ الْمَوْقِعَ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُخْتَلِفِ الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَمْلُوكُ بِالْبَيْعِ حُكْمُهُ فِي نَفْسِهِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْمَمْلُوكِ بِالْهِبَةِ كَانَ لِفَسَادِ الْبَدَلِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ أَوْ (عَلَى) بَدَلٍ فَاسِدٍ عَلَى مَا شُرِطَ، فَإِنْ أَوْقَعْنَاهُ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ كُنَّا قَدْ أَلْزَمْنَاهُمَا (عَقْدَ) هِبَةٍ لَمْ يَعْقِدَاهَا، وَإِنْ أَوْقَعْنَاهُ عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ فَوَاجِبٌ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ بِفَسَادِ الْبَدَلِ، إذْ لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَدَلٍ صَحِيحٍ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْعُقُودِ وَاجِبٌ فِيمَا سَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً إذَا أَوْقَعَهُ عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ (فِي) أَنَّ النَّهْيَ مَتَى تَنَاوَلَ مَعْنًى فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ فِي شُرُوطِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ فَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا فِيهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى فَسَادٍ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِهِ وَبِهِ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ فَإِنَّهُ مَتَى أَخَلَّ بِهِ بَطَلَ حُكْمُ فِعْلِهِ رَأْسًا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ. فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، هِيَ فَاسِدَةٌ إذَا وَقَعَتْ عَلَى (هَذَا الْوَجْهِ) وَلَمْ يُخْرِجْهَا الْفَسَادُ مِنْ ثَبَاتِ حُكْمِهَا عَلَى فَسَادٍ وَلَمْ (يُجْزِهِ مِنْ ذَلِكَ) عَنْ الْفَرْضِ، وَإِنْ ضَحِكَ فِيهَا أَعَادَ (وَأَعَادَ) الْوُضُوءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَالثَّانِي: مِثْلُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَوُجُودُ الْكَلَامِ فِيهَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِهَا نَاسِيًا كَانَ أَوْ عَامِدًا، وَكَذَلِكَ عَدَمُ الطَّهَارَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ فِعْلِهَا (وَثُبُوتَ حُكْمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ تَرْكَ الْكَلَامِ فِيهَا مِنْ شُرُوطِهَا، وَأَنَّ وُجُودَ الطَّهَارَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ فِعْلِهَا) فَمَتَى أَخَلَّ بِذَلِكَ خَرَجَ مِنْهَا، وَكَانَ نَظِيرُهَا مِنْ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ (الْعَقْدُ) عَلَى حُرٍّ وَمَيْتَةٍ (وَدَمٍ) (وَمُدَبَّرٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 [فَصْلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَا فِي أَصْلِ الْبَابِ] وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة: 275] فَنَهَى عَنْ أَكْلِ الزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {: لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] ، فَدَلَّ أَنَّ ظَاهِرَ نَهْيِهِ قَدْ اقْتَضَى وُجُوبَ الِامْتِنَاعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا أَخَذَ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَذَمَّ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الرِّبَا (الْمَنْهِيِّ عَنْهُ) وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْمُبَاحِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَحْظُورَ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ الْوَاجِبِ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْظُورُ مُخَالِفًا لِلْمُبَاحِ. فَإِذَا كَانَ وُقُوعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ يُوجِبُ صِحَّتَهُ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْظُورِ مُوجِبًا (لِفَسَادِهِ بِمَا) فِي فَحَوَى الْآيَةِ مِنْ إيجَابِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَاقْتَضَى ظَاهِرُ النَّهْيِ رَدَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 الزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا إلَى بَائِعِهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِظَاهِرِ النَّهْيِ. وَالرَّابِعُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] لَمَّا نَهَى عَنْهُ حَكَمَ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَوْلَا أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ قَدْ اقْتَضَى الْفَسَادَ لَكَانَ مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ صَحِيحٍ لَا يَجِبُ رَدُّهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ» فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْفَسَادُ فِيمَا ذَكَرْنَا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ ثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَا تَنَاوَلَهُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْجَوَازِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ وَالْقُرَبَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ (سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ) (مَفْعُولَةً عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ) (وَ) كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا فَرْضًا أَوْ مُبَاحًا، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْفَرْضَ أَوْ النَّدْبَ أَوْ الْمُبَاحَ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ (كَذَلِكَ) وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ فَاعِلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا لِمَا قُصِدَ إلَى فِعْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 مِنْ نَدْبٍ أَوْ إبَاحَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ فَرْضٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا تَصِحَّ لَهُ قُرْبَةٌ وَلَا فِعْلُ الْمُبَاحِ، فَإِذَا كَانَ مَا فَعَلَهُ عَقْدًا مِنْ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ الَّذِي سَبِيلُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ، فَهُوَ إذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ الْعَقْدِ نَفْسِهِ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ شُرُوطِهِ فَهُوَ غَيْرُ فَاعِلٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِلْعَقْدِ الْمُبَاحِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ عَقْدُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُ مَالِكِهِ عَنْهُ بِهَذَا الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْوَاقِعَ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ وَحُكْمِهِ بِهِ، وَإِذَا حُكِمَ بِنَهْيِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ الْحُكْمِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إيقَاعِ الْمِلْكِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ فَاسِدًا لَا حُكْمَ لَهُ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ: إنَّهَا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، ثُمَّ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ ثَبَتَ لِلْمَقْبُوضِ حُكْمُ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ، وَنَحْنُ فَإِنَّمَا كَلَامُنَا هَاهُنَا فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ عَقْدٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لِهَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُقُوعِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَعَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ كَانَ لُزُومُ فَسْخِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى (وَلَزِمَ الْحَاكِمَ إذَا اخْتَصَمُوا إلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ قَبْضِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ قَبْضَ الْمَبِيعِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ قَبَضَهُ ثُمَّ اخْتَصَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ سَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ، وَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى) مُتَعَلِّقًا بِظَاهِرِ النَّهْيِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحْكَامَ الْعَقْدِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ مَمْنُوعَةً بَعْدَ الْعَقْدِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ وَجَبَ فَسْخُهُ مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى نَفَاذِ تَصَرُّفِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّ الْعَقْدَ وَاقِعٌ عَلَى فَسَادٍ، لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا تَنَاوَلَ الْعَقْدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا. وَأَمَّا إذَا تَنَاوَلَ النَّهْيُ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْمَعْقُودِ وَلَا مِنْ شَرَائِطِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَخَارِجٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ لِمَا قَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ فِعْلِهِ لِشَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ النَّهْيُ بِهِ مِنْ عَقْدٍ أَوْ قُرْبَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ تَرْكُهُ لِصَلَاتِهِ صِحَّةَ صَوْمِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُرُوضِ مَتَى ارْتَكَبَ النَّهْيَ فِي تَرْكِ بَعْضِهَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ صِحَّةِ فِعْلِ مَا فَعَلَ مِنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمُعْتَدَّةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبِمَا هُوَ مِنْ شُرُوطِهِ مَنَعَ صِحَّةَ الْعَقْدِ. وَأَنَّ نِكَاحَ مَنْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ - وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ - لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ وُقُوعِهِ لِأَنَّ النَّهْيَ تَنَاوَلَ مَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَبَانَ بِذَلِكَ (صِحَّةُ) مَا وَصَفْنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 [بَابُ الْكَلَامِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ] [فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ فِي مَاهِيَّةِ النَّسْخِ] ِ فَصْلٌ (فِي الْكَلَامِ) فِي مَاهِيَّةِ النَّسْخِ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى النَّسْخِ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ. فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ النَّقْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نُسِخَ الْكِتَابُ، أَيْ نُقِلَ مَا فِيهِ إلَى غَيْرِهِ، فَيُطْلِقُونَ اسْمَ النَّسْخِ وَالنَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ، وَمِنْهُ (قَوْلُهُمْ) : نَسَخَتْ الرِّيَاحُ الْآثَارَ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي، وَأَيُّهَا كَانَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ مَتَى اُسْتُعْمِلَ فِي نَسْخِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْنَى النَّسْخِ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ هُوَ النَّقْلَ: فَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ (لِلنَّقْلِ مَعْنًى مَعْقُولًا) فِي اللُّغَةِ لَا تَصِحُّ حَقِيقَتُهُ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ، وَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَقْلَ الْحُكْمِ نَفْسِهِ، أَوْ نَقْلَ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْحُكْمَ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ هُوَ مَعْنًى يَصِحُّ نَقْلُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ النَّقْلَ الْمَعْقُولَ فِي اللُّغَةِ هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَان إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 الْمُرَادُ نَقْلَ الْمُتَعَبِّدِ بِالْحُكْمِ إلَى حُكْمٍ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ نَقْلٌ بِأَنْ يَتَعَبَّدَ بِحُكْمٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ. فَعَلِمْت أَنَّ الِاسْمَ إنْ كَانَ مَوْضُوعًا (لِلنَّقْلِ) فِي (أَصْلِ) اللُّغَةِ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ مَجَازٌ فِي الْحُكْمِ، فَكَأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ النَّقْلَ يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْمَنْقُولِ عَنْ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إلَى غَيْرِهَا، فَشُبِّهَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ فِي الثَّانِي بِالنَّقْلِ. وَعَلَى أَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ إنَّمَا يُسَمَّى نَقْلًا مَجَازًا أَيْضًا لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ بَدْءًا هُوَ بَاقٍ فِي مَوْضِعِهِ غَيْرِ مَنْقُولٍ عَنْهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَا نُسِخَ مِنْهُ مَنْقُولًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالشَّيْءِ الْمَنْقُولِ مِنْ مَكَان إلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى النَّسْخِ أَنَّهُ نَقْلُ (مَا) فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَجَازًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ النَّسْخُ هُوَ الْإِزَالَةُ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ أَيْضًا إلَّا إلَى الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: نَسَخَتْ الرِّيَاحُ الْآثَارَ، قَدْ يُطْلَقُ فِي الرِّيحِ إذَا أَعْفَتْ آثَارَ الدِّيَارِ بِأَنْ سَفَّتْ عَلَيْهَا التُّرَابَ فَأَخْفَتْهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ، كَمَا يُقَالُ: عَفَتْ الدِّيَارُ وَدَرَسَتْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى كُلِّ مُزَالٍ، لِأَنَّهُ لَوْ أَزَالَ جِسْمًا مِنْ مَكَان إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لَهُ (إنَّهُ) قَدْ نَسَخَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُزَالَةِ مَا يَنْتَفِي عَنْهُ اسْمُ النَّسْخِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ النَّسْخِ فِي إزَالَةِ الرِّيحِ الْأَثَرَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةً، وَهُوَ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ إزَالَتُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، إذْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ بِعَيْنِهِ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُكْمٌ أُزِيلَ بِالنَّسْخِ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُبَيِّنُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 الْحُكْمِ لَا يَجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَا يَكُونُ النَّسْخُ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَّا تَشْبِيهًا لَهُ بِمَا كَانَ ثَابِتًا فِي مَوْضُوعٍ فَأُزِيلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّ إزَالَةَ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ لَا يَقْتَضِي ارْتِفَاعَ عَيْنِهِ وَلَا إبْطَالَهُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: أَزَلْت الْحَجَرَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَهُوَ بَاقِي الْعَيْنِ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِهِ، وَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِبَاقٍ بَعْدَ النَّسْخِ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ مَعْنَى الْإِزَالَةِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ فِي اللُّغَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ نَسَخَتْ (الشَّمْسُ الظِّلَّ) فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مَجَازًا لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: نَسَخْت الْكِتَابَ وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ شَيْءٍ، وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وَلَمْ يُرِدْ إبْطَالَ شَيْءٍ بَلْ مَعْنَاهُ إثْبَاتُ مَقَادِيرِهَا وَمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُوَ فِي مَعْنَى نَسْخِ الْكِتَابِ وَإِثْبَاتِ مِثْلِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى بِمَعْنَى اللَّفْظِ مِنْ الْإِبْطَالِ. وَلَوْ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ لَمَا صَحَّ إطْلَاقُهُ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ إبْطَالُهُ بِحَالٍ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الثَّانِي حُكْمُ غَيْرِ الْأَوَّلِ (وَالْأَوَّلُ) لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُرَادًا فِي الثَّانِي فَلَيْسَ هُنَاكَ حُكْمٌ أُبْطِلَ بِالنَّسْخِ. وَالنَّسْخُ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ فِي تَوَهُّمِنَا وَتَقْدِيرِنَا جَوَازُ بَقَائِهِ، فَتَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُدَّتُهُ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُرَادًا بَعْدَهَا. وَلَا يَجُوزُ (أَنْ يَكُونَ) لِنَسْخِ الْأَحْكَامِ مَعْنًى غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ مُرَادًا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي الَّذِي (وَرَدَ) فِيهِ النَّسْخُ ثُمَّ أَبْطَلَهُ وَنَهَى عَنْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الْبَدَاءُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، إذْ هُوَ الْعَالِمُ بِالْعَوَاقِبِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ عِلْمُ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي الْأَوَّلِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ فِي الشَّرْعِ مَا وَصَفْنَا. وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مَعْنَى النَّسْخِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا وُقُوعُهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى لَيْسَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهُ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ صَارَ اسْمًا شَرْعِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ تَوْقِيتَ الْمُدَّةِ فِيمَا كَانَ يُظَنُّ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ يُسَمَّى نَسْخًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ. (وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ) إطْلَاقُهُ فِي أَوَامِرِنَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا مِنْ عَبِيدِنَا وَمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا، وَأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَخْصُوصٌ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَلَيْسَ كُلُّ مَا بُيِّنَ بِهِ (مُدَّةُ) الْحُكْمِ يُسَمَّى نَسْخًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِأَنْ قَالَ: صَلُّوا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْأَمْرِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ نَسْخًا، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ تَوْقِيتَ مُدَّتِهِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ اسْمُ النَّسْخِ فِيمَا يَكُونُ فِي تَوَهُّمِنَا وَتَقْدِيرِنَا تَجْوِيزُ بَقَائِهِ عَلَى الدَّوَامِ، فَيَأْتِي الْحُكْمُ النَّاسِخُ وَيُبَيِّنُ أَنَّ مَا كَانَ فِي تَقْدِيرِنَا مِنْ بَقَاءِ الْحُكْمِ غَيْرَ ثَابِتٍ وَأَنَّ مُدَّةَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ قَدْ انْقَضَتْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَهَذَا جَهْلٌ مُفْرِطٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّنَا النَّسْخُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا فِي هَذَا الْوَقْتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 [بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ] ُ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ إذَا وَقَعَتْ عَنْ قَصْدِ فَاعِلِهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ فِي الْعَقْلِ. مِنْهَا وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ، كَتَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَاجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعُقُولِ. وَمِنْهَا مُمْتَنِعٌ مَحْظُورٌ انْقِلَابُهُ عَنْ حَالٍ، نَحْوُ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْكَذِبِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ وَارْتِكَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعُقُولِ، فَهَذَانِ الْبَابَانِ يَجْرِيَانِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمَا التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ، وَلَا يَصِحُّ مَجِيءُ الْعِبَادِ فِيهِمَا بِخِلَافِ مَا فِي الْعُقُولِ مِنْ حُكْمِهَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَا حَسَّنَهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ حَسَنٌ وَمَا قَبَّحَهُ فَهُوَ قَبِيحٌ، وَالسَّمْعُ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَتَضَادَّ حُجَجُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا (يَجُوزُ أَنْ) تَتَنَافَيَا فَثَبَتَ أَنَّ السَّمْعَ لَا يَرِدُ بِرَفْعِ مَا فِي الْعَقْلِ وُجُوبُهُ وَلَا إيجَابِ مَا فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ مَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ إيجَابَهُ (تَارَةً) وَحَظْرَهُ أُخْرَى وَإِبَاحَتَهُ، مِثْلُ (الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ) وَالْحَجِّ وَذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فَهَذَا الضَّرْبُ مِمَّا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ مَجِيءَ الشَّرْعِ بِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ النَّسْخُ يَتَطَرَّقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَرْدُودٌ إلَى مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَابِهِ أَوْجَبَهُ، وَإِذَا عَلِمَهَا فِي حَظْرِهِ بَعْدَ الْإِيجَابِ حَظَرَهُ، وَإِذَا عَلِمَهَا فِي إبَاحَتِهِ دُونَ إيجَابِهِ وَحَظْرِهِ فَعَلَ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا الْمَعْلُومَةِ، وَيَحْظُرُ صِيَامَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيَحْظُرُ الصَّلَاةَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا وَيُبِيحُ فِعْلَ الصِّيَامِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ، فَلِذَلِكَ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ثُمَّ يَنْسَخُهُ بِحَظْرِهَا أَوْ إبَاحَتِهَا، وَيَدُلُّكَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْهَيْنِ (الْأَوَّلَيْنِ) أَنَّهُ جَائِزٌ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِلُزُومِ (الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ) بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ وَحَظْرِهِمَا عَلَى بَعْضِهِمْ كَنَحْوِ مَا أَمَرَ الطَّاهِرَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَهَى عَنْهُمَا، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ يَجْرِي مَجْرَى سَائِرِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ (وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ) وَمِنْ إحْدَاثِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ لِمَا عَلِمَ تَعَالَى (فِيهِ) مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ عَلَيْهِ مَجِيءُ الْعِبَادَةِ (بِهِ) تَارَةً وَبِضِدِّهِ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَالْبَابَانِ الْأَوَّلَانِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ مَأْمُورِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبَعْضُهُمْ مَنْهِيِّينَ عَنْهُ، أَوْ مُبَاحًا لَهُمْ تَرْكُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ بَعْضُهُمْ مُجَانَبَةَ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعَقْلِ (مِنْ نَحْوِ) كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْكَذِبِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَيُؤْمَرَ بَعْضُهُمْ بِارْتِكَابِهَا. فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمِ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِمَا. وَلَمَّا جَازَ فِي غَيْرِهِمَا مِمَّا وَصَفْنَا اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْأَزْمِنَةِ (الْمُخْتَلِفَةِ) فَيَتَعَبَّدُونَ بِالْحَظْرِ فِي زَمَانٍ وَبِالْإِيجَابِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فِي زَمَانٍ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الْوَارِدُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعِبَادَةُ بِاعْتِقَادِ مَخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ وَلَا التَّعَبُّدُ فِيهِ بِغَيْرِ الِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: حِفْظُهُ وَتِلَاوَتُهُ، وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَرْكِ تِلَاوَتِهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمَانِ فَيُنْسَى، كَمَا نُسِخَتْ (تِلَاوَةُ) سَائِرِ كُتُبِ (اللَّهِ تَعَالَى) الْقَدِيمَةِ كَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، قَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَةً حَتَّى صَارَتْ لَا يَتْلُوهَا أَحَدٌ وَلَا يَحْفَظُهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِنَسْخِ اعْتِقَادِ مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنْ جَازَ وُرُودُهَا بِنَسْخِ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ التِّلَاوَةُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ إيجَابُ (التَّعَبُّدِ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ) عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ (لِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا يَلْزَمُنَا عِنْدَ وُرُودِهِ اعْتِقَادُ مَخْبَرِهِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ) وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِاعْتِقَادِ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ عَلَى حَسَبِ مَا أُمِرْنَا بِاعْتِقَادِهِ، فَيَكُونُ أَمْرًا لَنَا بِالْكَذِبِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِالْكَذِبِ لَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ مَعَانِيَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى اعْتِقَادِنَا فِيهَا، بِأَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِاعْتِقَادِ ضِدِّ مَخْبَرِهَا لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَعْتَقِدَ فِيهَا خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ وُرُودُ الْخَبَرِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى (بِهِ) مِنْ الْعِبَادَاتِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا وَمَضَى عَلَيْهَا أَوْقَاتُ فِعْلِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَرِدَ الْعِبَادَةُ بِنَسْخِ اعْتِقَادِ صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّ فِي نَسْخِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ وُجُوبِ اعْتِقَادِ فَسَادِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ قُبْحٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اعْتِقَادَ مَعَانِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارٍ مَجْرَى التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا لَهُ فِي الْعُقُولِ حَالَانِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهَا تَارَةً وَبِأَضْدَادِهَا أُخْرَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْأَمْرُ بِالِاعْتِقَادَيْنِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لِزَمَانَيْنِ مُخْتَلِفِينَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: اعْتَقِدُوا فِي خَبَرِي هَذَا أَنَّهُ (عَلَى) مَا هُوَ عَلَيْهِ إلَى مُدَّةِ كَذَا، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَاعْتَقِدُوا فِيهِ ضِدَّهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: اعْتَقِدُوا صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ إلَى وَقْتِ كَذَا (فَإِذَا انْقَضَى الْوَقْتُ فَاعْتَقِدُوا ضِدَّهُمَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ: صَلُّوا وَصُومُوا إلَى وَقْتِ كَذَا) فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 فَلَا تَصُومُوا وَلَا تُصَلُّوا، فَثَبَتَ أَنَّ اعْتِقَادَ مَعْنَى الْخَبَرِ يَجْرِي فِي حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ كَاعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَمَنْ جَوَّزَ النَّسْخَ فِي اعْتِقَادِ مَعَانِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْبَدَاءِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ فِي الثَّانِي مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ قَبْلُ، لِأَنَّ الْبَدَاءَ مَعْنَاهُ، الظُّهُورُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] يَعْنِي إنْ تَظْهَرْ لَكُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] وَمَنْ جَوَّزَ الْبَدَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْأَخْبَارِ إذَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (نَسْخَهَا) . قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد: 39] مِنْ مَعَانِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ تَعَلَّقْت بِعُمُومِهِ فَجَعَلْته عَلَى الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْك أَوَّلًا أَنْ تُثْبِتَ أَنَّ نَسْخَ مَعَانِي الْأَخْبَارِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّلْنَا آنِفًا عَلَى أَنَّ هَذَا سَفَهٌ وَقُبْحٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى (بَاطِلٌ) سَاقِطٌ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْخَبَرِ لَكَانَ الْمَعْنَى نَسْخَ تِلَاوَتِهِ لَا مَخْبَرِهِ (لِأَنَّهُ) لَيْسَ هُوَ الْخَبَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ، وَامْتِنَاعَ جَوَازِ نَسْخِ اعْتِقَادِ مَخْبَرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَقَاوِيلُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ مَعْنَاهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْدِلُهُ مَا يَشَاءُ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنْسَخُهُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يُبْدِلُهُ {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] يَعْنِي جُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِمَّا يُنْزِلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِمَّا يُنْزِلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: يَمْحُو اللَّهُ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ فَيَذْهَبُ، وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إلَى أَجَلِهِ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقَبِيلِ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يَجُوزُ] فَصْلٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَنُبَيِّنُ الْآنَ حُكْمَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقَبِيلِ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْهَا. فَنَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ الْوَارِدَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَقَّتًا وَلَا مَقْرُونًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَإِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى سَامِعِهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (لَهُ وَالْمُتَعَبِّدِينَ بِهِ لُزُومُ) اعْتِقَادِ جَوَازِ نَسْخِهِ مَا دَامَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيًّا، كَقَوْلِهِ: صَلُّوا وَصُومُوا فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَيَّامِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ نَعْلَمُهُ، وَأَمَّا إذَا (قَرَنَهُ بِوَقْتٍ) بِعَيْنِهِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: صَلُّوا هَذِهِ السَّنَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ يَقُولَ: صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ الْقَابِلَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عِنْدَنَا بِحَالٍ، وَسَنُفْرِدُ الْقَوْلَ فِيهِ بَعْدَ هَذَا. وَأَمَّا إذَا قَالَ: صَلُّوا الظُّهْرَ أَبَدًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِكُمْ وَمِنْ بَعْدِكُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ النَّسْخِ فِي مِثْلِهِ، إذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُجِيزُ وُرُودَ النَّسْخِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّمَا جَازَ نَسْخُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْصُرْهُ تَوْقِيتٌ وَلَا مُدَّةٌ، وَكَانَ جَوَازُ النَّسْخِ قَائِمًا فِي مِثْلِهِ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَلَّا نَعْتَقِدَ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَيْنَا بَقَاءَ حُكْمِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ مَعَ بَقَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا فِي مِثْلِهِ اعْتِقَادُ جَوَازِ نَسْخِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ (كَذَلِكَ) جَازَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ، حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ نَسْخِهِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَأَمَّا إذَا (قَرَنَهُ بِالتَّأْبِيدِ) فَقَالَ: افْعَلُوهُ (أَبَدًا) أَنْتُمْ وَمَنْ (يَحْدُثُ) بَعْدَكُمْ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنَّ الْأَظْهَرَ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوز نَسْخُ (مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ) لِأَنَّهُ قَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ بَقَائِهِ مُؤَبَّدًا، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَقَاءَهُ إلَى وَقْتٍ وَمُدَّةٍ، لِأَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ دَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ (فِيهِ) فِي إثْبَاتِ الْعُمُومِ وَامْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ (بَيَانِ) الْخُصُوصِ فِيمَا سَلَفَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْيَهُودَ تَزْعُمُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ الْأَمْرَ بِالتَّمَسُّكِ بِالسَّبْتِ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَقَدْ وَرَدَ نَسْخُهُ عَلَى لِسَانِ كَثِيرٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الَّذِي ادَّعَوْهُ فِي التَّوْرَاةِ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ يَحْتَمِلُ التَّأْبِيدَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، فَحَمَلَهُ هَؤُلَاءِ عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا عِلْمٌ بِحَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي التَّوْرَاةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَثْبُتْ مَا ذَكَرُوهُ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا ادَّعَوْهُ فِي ذَلِكَ ثَابِتًا وَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ وَاقِعًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ مَعَ سَمَاعِنَا لِذَلِكَ، كَوُقُوعِ عِلْمِهِمْ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا ذَلِكَ مَعَ سَمَاعِنَا لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلِمْنَا بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ، وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَعَ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ فِيهِ مِمَّنْ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ فَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّ عَلَيْنَا اعْتِقَادَ صِحَّةِ مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ أَوْ يُوَافِقُهُ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ فِيهِ مَقْرُونًا بِجَوَازِ النَّسْخِ، كَأَنَّهُ قَالَ: افْعَلُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ أَبَدًا مَا لَمْ أَنْسَخْهُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ هَذَا لَوْ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْعُمُومِ فَيُقَالُ: إنَّا نَعْتَقِدُ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 الْعُمُومَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ الْخُصُوصَ، وَلَجَازَ فِي الْحُكْمِ الْمَفْرُوضِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَنْ (يَقُولَ لَهُ) : افْعَلْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا لَمْ أَنْسَخْهُ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ قَبِيحٌ لَا يَصِحُّ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا وَصَفْنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 [بَابٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ] ِ (فِي الْوُجُوهِ الَّتِي) بَيَّنَّا (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) مَنْ يُنْكِرُ النَّسْخَ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْيَهُودُ، وَالْآخَرُ: فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ. فَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ (تَجْوِيزَ) النَّسْخِ (فِيمَا زَعَمَ) مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ، وَ (تَحْرِيمَ) يَوْمِ السَّبْتِ لَا يُنْسَخُ أَبَدًا، فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى (أَنَّ) هَذَا (بَدَاءٌ) وَرُجُوعٌ عَنْ إرَادَةِ الشَّيْءِ إلَى كَرَاهَتِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْعَوَاقِبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمُ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ صَحِيحًا فَالرُّجُوعُ عَنْ الصَّحِيحِ لَا يَفْعَلُهُ حَكِيمٌ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِمَعْنَى النَّسْخِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُبَيِّنُ أَنَّ زَمَانَ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ قَدْ انْقَضَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ الْوَاجِبِ (الَّذِي) كَانَ فِي الْمَاضِي، وَهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ كَانَ جَائِزًا مُسْتَقِيمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: تَمَسَّكُوا بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ، إلَى مِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ أَحِلُّوهُ كَانَ جَائِزًا. وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُطْلِقَ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ ثُمَّ تُبَيِّنَ الْوَقْتَ الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ مُدَّةُ التَّحْرِيمِ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ سُبْحَانَهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِيهِ، وَكَمَا (أَنَّهُ) جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْعِبَادِ فَيَتَعَبَّدُ بَعْضَهُمْ بِحُكْمٍ، وَ (يَتَعَبَّدُ) بَعْضَهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، نَحْوُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ، وَإِيجَابِهِمَا عَلَى الطَّاهِرِ عَلَى حَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ. كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ (فِي زَمَانَيْنِ وَكَمَا جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمْ فِي تَغْيِيرِهِ وَأَفْعَالِهِ فِيهِمْ نَحْوُ أَنْ) يُمِيتَ وَاحِدًا وَيَخْلُقَ آخَرَ وَيُمْرِضَ وَاحِدًا وَيُصِحَّ آخَرَ وَيُغْنِيَ وَاحِدًا وَيُفْقِرَ آخَرَ، وَ (يَفْعَلَ) ذَلِكَ بِوَاحِدٍ فِي زَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْبَدَاءِ وَعَلَى الرُّجُوعِ عَمَّا أَرَادَهُ، لِأَنَّ الَّذِي أَرَادَهُ فِي الثَّانِي غَيْرُ الَّذِي أَرَادَهُ فِي الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ تَجْرِي عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مُبَاحًا لِوَلَدِ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَخُ مِنْهُمْ بِأُخْتِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ تَنَاسُلٌ وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ بَعْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْبَدَاءَ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ السَّبْتِ وَسَائِرُ الشَّرَائِعِ الَّتِي يُجَوِّزُ الْعَقْلُ حَظْرَهَا تَارَةً وَإِبَاحَتَهَا أُخْرَى جَائِزٌ نَسْخُهَا وَالْإِبَانَةُ عَنْ مُضِيِّ وَقْتِ تَحْرِيمِهَا. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَا تُنْسَخُ، فَإِنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ أَنْبَأَتْ عَنْ نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءَ بَعْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَحْرِيمَ السَّبْتِ مُعَلَّقٌ بِتَوْقِيفِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) فَإِذَا أَحَلَّتْهُ صَارَ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 مَقْرُونًا إلَى لَفْظِ التَّحْرِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: حَرِّمُوا السَّبْتَ مَا لَمْ أُحِلَّهُ عَلَى لِسَانِك. وَعَلَى أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَوْقِيفِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى التَّمَسُّكِ (بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ) أَبَدًا لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ مَعَ سَمَاعِنَا لِلْخَبَرِ عَنْهُ (بِهِ) كَمَا ادَّعَى هَؤُلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ. فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ مَعَ سَمَاعِنَا الْأَخْبَارَ الَّتِي سَمِعُوهَا فِي ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ إنَّمَا صَارُوا إلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَأَخْطَئُوا فِيهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاس عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا انْفِصَالَ لَهُمْ مِنْهَا، وَلَيْسَ غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا (الْقَصْدُ) الْكَلَامُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَرَضَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ أَحْبَبْنَا أَلَا نُخَلِّيَهُ مِنْ جُمْلَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ الْفِرْقَةِ الَّتِي تَنْتَحِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ضَاهَتْ الْيَهُودَ فِي امْتِنَاعِهَا مِنْ تَجْوِيزِ نَسْخِ الشَّرِيعَةِ. فَنَقُولُ بَعْدَ تَقْدِمَةِ الْقَوْلِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ فِي الْجُمْلَةِ إنَّ الْفِرْقَةَ الْمُنْكِرَةَ لِلنَّسْخِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ قَدْ خَالَفَتْ الْكِتَابَ وَالْآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَاتِّفَاقَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا فِيمَا صَارَتْ إلَيْهِ (مِنْ) هَذِهِ الْمَقَالَةِ. فَأَمَّا مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فَأَثْبَتَ النَّسْخَ فِي الْكِتَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا أَرَادَ النَّسْخَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِزَالَةَ وَالْإِسْقَاطَ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو (مِنْ) أَنْ يُرِيدَ بِهِ إزَالَةَ الْحُكْمِ (أَوْ إزَالَةَ الرَّسْمِ، فَإِنْ أَرَدْت إزَالَةَ الْحُكْمِ فَقَدْ وَافَقْت، وَإِنْ أَرَدْت إزَالَةَ الرَّسْمِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ) فَإِنَّ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ مُتَحَكِّمٌ قَائِلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ إزَالَةِ الرَّسْمِ فَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ادَّعَيْنَا لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ عَنَّا فَرْضَ تِلَاوَتِهِ وَاعْتِقَادَ كَوْنِهِ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَزِمَنَا ذَلِكَ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْإِزَالَةَ وَالْإِسْقَاطَ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ بِذِكْرِ النَّسْخِ هُوَ نَسْخُ الْحُكْمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وَقَالَ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] وَأَخْبَرَ عَنْ نَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] وَقَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَالْبُطْلَانُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى أَنْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وَأَمَرَهُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِك فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] » ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ (قَدْ) كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ غَيْرِهَا ثُمَّ نُقِلُوا عَنْهَا، وَقَدْ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى فَنُسِخَا عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وَكَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} [البقرة: 240] ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَمِثَالُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَتَوَارَثُوهُمَا قَرْنًا عَنْ قَرْنٍ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ وَلَا يَشُكُّونَ فِيهِ. وَذَكَرَ مَنْ أَبَى وُجُودَ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ (أَنَّ النَّسْخَ) الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ نَسْخُهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا وَكُلُّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 نَاسِخًا، وَهَذَا مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ. وَقَوْلُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَظْهَرُ فَسَادًا وَأَبْيَنُ انْحِلَالًا مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِكْثَارِ فِي الْإِبَانَةِ (عَنْ) قُبْحِهِ وَشَنَاعَتِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 [بَابُ نَسْخِ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ قَائِلُونَ وَهُمْ الْأَكْثَرُ: لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ وَبِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ وَبِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُنْسَخُ حُكْمٌ إلَّا بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، وَلَا يُنْسَخُ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَقَالَتَيْنِ إنَّمَا هِيَ تَظْنِينٌ وَحُسْبَانٌ مِنْ قَائِلِيهَا لَا يَرْجِعُ مِنْهَا إلَى دَلَالَةٍ يُعَضِّدُ بِهَا مَقَالَتَهُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَهُوَ عِنْدِي قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَنَّ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا تَرِدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (عَلَى) حَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ مَصَالِحِنَا فِيهَا، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ تَارَةً فِي الْأَخَفِّ وَتَارَةً فِي الْأَثْقَلِ، فَيُنْقَلُ (الْمُتَعَبِّدُ) مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَنْقُلُهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 مِنْ الرَّخَاءِ، إلَى الشِّدَّةِ تَارَةً وَمِنْ الشِّدَّةِ إلَى الرَّخَاءِ أُخْرَى فَيُغْنِي فِي وَقْتٍ ثُمَّ يُفْقِرُ فِي (وَقْتٍ) آخَرَ وَيُصِحُّ فِي وَقْتٍ وَيُمْرِضُ فِي (وَقْتٍ) آخَرَ كَذَلِكَ الْعَادَاتُ جَارِيَةٌ هَذَا الْمَجْرَى، وَالْعِلَّةُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مَعْلُومٌ مِنْ تَدْبِيرِ الْحُكَمَاءِ لِمَنْ يَلُونَ أَمْرَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَهُمْ مِنْ الشِّدَّةِ، إلَى الرَّخَاءِ وَمِنْ الرَّخَاءِ إلَى الشِّدَّةِ فَيَنْقُلُونَهُمْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَوْنَ لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحْوَالِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَقَالَةَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ يُوجِبُ أَلَا يَفْرِضَ اللَّهُ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا، لِأَنَّ إيجَابَ الْفَرْضِ تَكْلِيفٌ وَهُوَ أَثْقَلُ مِنْ الْإِبَاحَةِ، وَقَدْ وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُوَضِّحُ عَنْ بُطْلَانِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَقَلَهُمْ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحَظْرِ وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ (وَابْنِ عُمَرَ) وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ (فِي) تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فَجَعَلَ الصَّوْمَ حَتْمًا وَأَسْقَطَ التَّخْيِيرَ، (وَأَيْضًا) فَإِنَّ الْخَمْرَةَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَأْمُورًا بِتَرْكِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] ثُمَّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] وَنَحْوُهُ (مِنْ) الْآيَاتِ فَنَقَلَهُمْ مِنْ الْأَخَفِّ إلَى مَا هُوَ أَشَقُّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى فَنُقِلُوا إلَى الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ يُفْطِرُ فِي (شَهْرِ) رَمَضَانَ لَمْ (تَكُنْ) تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثُمَّ أَوْجَبَهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْمُجَامِعِ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً حَتَّى أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْمُحَرَّمَةِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهَا مُتَقَدِّمًا ثُمَّ حُرِّمَتْ. وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِجَوَازِ النَّسْخِ فِي الْأَصْلِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ نَسْخِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ وَبَيْنَ نَسْخِ الْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصْلَحَةِ (الْمُتَعَبِّدِ بِهِ) وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي نَقْلِ الْمُتَعَبِّدِ مِنْ الْأَخَفِّ إلَى الْأَثْقَلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَأَيْضًا لَوْ جُمِعَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَنَافَيَا، بِأَنْ يَقُولَ: قَدْ أَبَحْت لَكُمْ كَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 إلَى وَقْتِ كَذَا ثُمَّ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ. كَمَا أَبَاحَ الْإِفْطَارَ فِي سَائِرِ السَّنَةِ إلَى دُخُولِ (شَهْرِ) رَمَضَانَ فَإِذَا جَاءَ (شَهْرُ) رَمَضَانَ حُظِرَ الْإِفْطَارُ (فِيهِ، وَ) كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَتْ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى مَا كَانَتْ ". فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَلُ إلَى مَا هُوَ أَشَقُّ عَلَيْنَا، وَإِنَّمَا يَنْقُلُ إلَى مِثْلِهِ أَوْ أَخَفَّ (مِنْهُ) . قِيلَ لَهُ: لَيْسَ أَنْ يَكُونَ الْأَثْقَلُ خَيْرًا لَنَا وَأَصْلَحَ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ أَشَقُّ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ تَرْكِهَا، وَفِعْلُهَا مَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ لَنَا مِنْ تَرْكِهَا، فَلَيْسَ الْخَبَرُ إذْن عِبَارَةٌ عَنْ الْأَخَفِّ وَلَا الْأَثْقَلِ، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ. (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 [بَابُ الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ] ِ لَيْسَ يَخْلُو الْأَمْرُ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَأْمُورِ مِنْ أَحَدِ أَقْسَامٍ خَمْسَةٍ: إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ: صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، أَوْ يَقُولَ: صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِعَيْنِهِ. أَوْ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِوَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ يَوْمٍ شِئْتُمْ، وَصُومُوا (شَهْرَ) رَمَضَانَ فِي أَيِّ (شَهْرِ) رَمَضَانَ شِئْتُمْ. وَأَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا غَيْرَ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ يَتَنَاوَلُ فَرْضًا فِي وَاحِدٍ إلَّا عَلَى وَجْهِ تَكْرَارِهِ فِي الْأَوْقَاتِ، وَلَا التَّخْيِيرَ فِي أَوْقَاتِ فِعْلِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً، وَصُومُوا يَوْمًا أَوْ شَهْرًا وَاحِدًا. أَوْ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِالتَّأْبِيدِ نَحْوُ (أَنْ يَقُولَ) : صَلُّوا أَبَدًا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا بَقِيتُمْ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا حَيِيتُمْ. أَوْ (أَنْ) يَكُونَ وَارِدًا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي أَدْنَى الْجَمْعِ حَقِيقَةً، وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَيَقْتَضِي فِعْلَهُ مُكَرَّرًا فِي الْأَزْمَانِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ. فَالْأَمْرُ الْوَارِدُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 فَأَمَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهَا بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَسْقُطُ عَنَّا الْفَرْضُ بِأُمُورٍ أُخْرَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّسْخِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ تَعَلَّقَ وُجُوبُ فِعْلِهِ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ نَسْخِهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِعَيْنِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ (بِهِ) مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا هِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ، صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَرْضٌ (قَدْ تَعَلَّقَ) بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يُنْسَخَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ (أَوْ بَعْدَهُ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُهُ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ) لِمَا نَسْتَنِدُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا مَضَى وَقْتُ الْفِعْلِ (قَبْلَ أَنْ) يَفْعَلَهُ، فَإِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ مِنْ لُزُومِ الْفِعْلِ قَدْ سَقَطَ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ (وَسُقُوطُ الْفَرْضِ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا) لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْقُولًا مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ وَمَا لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ، لِأَنَّ مَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ لَا يُسَمَّى سُقُوطُهُ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ نَسْخًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ (وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ) فَلَمْ يَصُمْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي لُزُومِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الْقَضَاءِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّ سُقُوطَهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْتُمْ، أَوْ صُومُوا شَهْرًا أَيَّ شَهْرٍ شِئْتُمْ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا فَأَيُّ وَقْتٍ فَعَلَ فِيهِ الْمَأْمُورَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ فَرْضِهِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ وَسِعَهُ التَّأْخِيرُ أَبَدًا، ثُمَّ لَا يَصِيرُ مُفَرِّطًا بِالْمَوْتِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْوَقْتِ الَّذِي يُعَيَّنُ عَلَيْهِ فِيهِ الْفَرْضُ، فَيَخْرُجُ ذَلِكَ الْأَمْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا، إلَّا أَنَّا تَكَلَّمْنَا فِيهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ فَقُلْنَا: وَاجِبٌ أَلَا يَجُوزَ نَسْخُهُ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ يَأْتِي عَلَيْهِ إذَا فَعَلَهُ فِيهِ كَانَ فَاعِلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِعَيْنِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ نَسْخِهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ لِمَا وَصَفْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهُ فَلَيْسَ هُنَاكَ أَمْرٌ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ فَيُنْسَخُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ وَهُوَ فَرْضٌ وَاحِدٌ لَا يَقْتَضِي لَفْظُ الْأَمْرِ فِعْلَهُ مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ (لَزِمَهُ فِعْلُهُ) فِي الثَّانِي بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِعَيْنِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الثَّانِي لَزِمَهُ فِعْلُ مِثْلِهِ فِي الثَّالِثِ بِالْأَمْرِ أَيْضًا، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْأَمْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّانِي فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّالِثِ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَقْتٍ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهِ كَانَ الَّذِي يَلِيهِ وَقْتًا لِفِعْلِهِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ (ثُمَّ) لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَنْسَخَهُ قَبْلَ الْفِعْلِ أَوْ بَعْدَهُ. وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَمَا قُلْنَا فِي نَسْخِ الْفِعْلِ قَبْلَ (مَجِيءِ) وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَوْ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 يَنْسَخُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ (الْفَرْضُ) بِأَدَائِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَدْ نُسِخَ عَنْهُ مَا قَدْ أَدَّاهُ وَلَمْ يَقْضِ لَفْظُ الْأَمْرِ لُزُومَ غَيْرِ مَا فَعَلَهُ (فَلَمْ يَكُنْ هَاهُنَا شَيْءٌ نُسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يُوجِبَ فِعْلَهُ) مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ وَيُقْرِنَهُ بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: صَلُّوا أَبَدًا مَا بَقِيتُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي كُلِّ سَنَةٍ (أَبَدًا) مَا حَيِيتُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنَّ هَذَا قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِيمَا سَلَفَ وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي جَوَازِ نَسْخِهِ وَامْتِنَاعِهِ. وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ بِلَفْظٍ تَنَاوَلَ أَدْنَى الْجَمْعِ حَقِيقَةً وَيُحْتَمَلُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَيَقْتَضِي فِعْلُهُ مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا وَلَا مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ الْمَأْمُورُ (بِهِ) أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ. وَأَقْسَامُ النَّهْيِ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَمْرِ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: صَلِّ وَصُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِعْلُهُ مُكَرَّرًا، فَمَتَى فَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ بِالْأَمْرِ فَلَمْ يَصِحَّ مَعْنَى النَّسْخِ (فِيهِ) قَبْلَ فِعْلِهِ وَلَا بَعْدَ فِعْلِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: لَا تَصُمْ أَوْ لَا تُصَلِّ فَفَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حُكْمُ النَّهْيِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ: وَيَكُونُ فِي تَوَهُّمِنَا وَتَقْدِيرِنَا بَقَاءُ حُكْمِ النَّهْيِ مَا لَمْ يَرِدْ النَّسْخُ فَيَصِحُّ وُرُودُ النَّسْخِ (فِيهِ) ، فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهُوَ وَالْأَمْرُ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. [فَصْلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ] ِ الدَّلَالَةُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأَمْرِ يَقْتَضِي لُزُومَ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَسَنٍ، وَلَا يَنْهَى إلَّا عَنْ قَبِيحٍ، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ دَلَّ بِأَمْرِهِ (بِهِ) عَلَى حُسْنِهِ وَعَلَى قُبْحِ تَرْكِهِ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى قُبْحِهِ بِنَهْيِهِ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْإِخْبَارِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ حَسَنًا وَيَكُونُ تَرْكُهُ قَبِيحًا. وَإِذَا صَحَّ هَذَا لَمْ يَجُزْ (أَنْ) يَنْهَى عَمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ مِمَّا هَذَا وَصْفُهُ لِأَنَّهُ لَوْ نَهَى (عَنْهُ) لَكَانَ نَهْيُهُ دَلَالَةً مِنْهُ عَلَى قُبْحِهِ وَعَلَى حُسْنِ تَرْكِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 مِنْهُ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا إذَا وَقَعَ مِنْ فَاعِلِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَدُلَّ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَبِيحٌ الْوَجْهُ الَّذِي (دَلَّ) عَلَيْهِ حُسْنُهُ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي تَنَاقُضَ دَلَالَتِهِ وَتَنَافِيهَا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَنَا عَنْهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ، وَيُخْبِرَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ قَبِيحٌ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْإِخْبَارِ فِي بَابِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَسَنِ أَوْ الْقَبِيحِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِيمَا ذَكَرْت غَيْرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِوَقْتٍ مَحْصُورٍ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ بِالْأَمْرِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أُوقِعَ هَذَا الْفِعْلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَعَ حَسَنًا، وَالنَّسْخُ إذَا وَرَدَ فَإِنَّمَا تَنَاوَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِعَيْنِهِ لَا فِعْلًا غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فِعْلُ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِالْأَمْرِ فَيَتَنَاوَلُهُ النَّسْخُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ النَّهْيُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ النَّسْخُ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْمَأْمُورَ (بِهِ) بِعَيْنِهِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ فِعْلِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَلَى حَسَبِ اقْتِضَائِهِ الْأَمْرَ بَدْءًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا السَّائِلَ لَمْ يُحَصِّلْ مَعْنَى مَا قَالَ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ، وَمَا نَهَانَا عَنْهُ فَقَدْ كَرِهَ مِنَّا فِعْلَهُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَلَّا يَكُونَ مُرِيدًا لِمَا أَمَرَ بِهِ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا بِضِدِّهِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَأْمُورُ مُطِيعًا بِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ بِفِعْلِ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ، وَكَانَ لَا يَكُونُ عَاصِيًا بِفِعْلِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ مِنْهُ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبُ النَّهْيِ مُطِيعًا لِلَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 تَعَالَى، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَجْعَلُ وُرُودَهُمَا عَبَثًا وَسَفَهًا، فَإِذَا صَحَّ هَذَا ثُمَّ وَرَدَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِإِرَادَةِ الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْرَهَهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ مِنْهُ وَفِي النَّهْيِ عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ كَرَاهَةٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَهَذَا هُوَ الْبَدَاءُ الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَكْرَهُهُ بَعْدَ إرَادَتِهِ، لَهُ إلَّا وَقَدْ اسْتَحْدَثَ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ وَقْتَ إرَادَتِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَبَثًا وَسَفَهًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا مَنْفِيَّانِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ الْفِعْلُ مِنْ وَجْهٍ وَيُكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَتَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ (بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَأَمَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَا. وَتَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ) مِنْ وَجْهَيْنِ أَنْ يُرِيدَ الْفِعْلَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَيَكْرَهَهُ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ (وَمِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَنْ يُرِيدَهُ مِنْهُ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكْرَهَهُ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى) وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ الَّذِي أَجَازَهُ مُخَالِفُونَا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ، تَعَالَى (اللَّهُ) عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى جَوَازَ تَعَلُّقِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ الْإِبَاحَةُ بِهِ غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ صَحَّ مِنْهُمَا، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِجَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ الْفِعْلِ لِمَا بَيَّنَّا) . وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَجُوزُ وُرُودُهُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ مَعَ الْأَمْرِ (بِهِ) فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: صَلُّوا إلَى وَقْتِ كَذَا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَلُّوا، بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وَمَا لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ وُرُودُ النَّسْخِ (بِهِ) وَمَا ذَكَرْنَا وَصْفَهُ مِنْ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَدْ فَرَضْت عَلَيْكُمْ الظُّهْرَ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مَذْكُورًا مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَتَعَبَّدَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ مَا يَجُوزُ نَسْخُهُ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ ذُكِرَ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ بَدْءًا لَمْ يَتَنَاقَضْ (وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِمَا لَوْ ذُكِرَ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ تَنَاقَضَ) الْكَلَامُ وَاسْتَحَالَ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ (جَوَازِ) نَسْخِ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيمَا (كَانَ) هَذَا وَصْفَهُ إذَا كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ النَّهْيِ عَنْهُ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُعَلَّقًا بِعَدَمِ وُرُودِ النَّسْخِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ، افْعَلُوا إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَنْكَرُ الَّذِي لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ إنْ لَمْ أَنْهَكُمْ عَنْهُ، وَقَدْ أَرَدْته مِنْكُمْ إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ، وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: افْعَلُوهُ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ إذَا كَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرِطَهُ مَعَ الْأَمْرِ. وَعَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، أَوْ أَنْ يَقُولَ: إنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا تَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ فِي اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ مَوْقُوفًا عَلَى دَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَأْبَى الْقَوْلَ بِاقْتِضَاءِ وُرُودِ الْأَمْرِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ (وَهُوَ أَنْ) يَقُولَ: إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ فَإِنَّ الْأَمْرَ مَعَ ذَلِكَ فِي صِيغَتِهِ وَحِيَالَ وُرُودِهِ لَيْسَ بِالْإِيجَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 أَوْلَى مِنْهُ بِالنَّهْيِ، حَتَّى إذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْأَمْرِ الْإِيجَابَ. فَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ إذْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ النَّهْيَ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إيقَاعَ الْفِعْلِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَلَّا يُنْسَخَ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ اقْتَضَى إيقَاعَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ وَلَا مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، وَالْحَقَائِقُ أَنَّهَا مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِأَحْكَامِهَا الْمَوْضُوعَةِ لَهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَزِمَنَا بِهَا اعْتِقَادُ مُوجِبِ صِيغَتِهَا، ثُمَّ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَرِدَ - بَعْدَ أَنْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ صُورَتُهَا بِحُصُولِ الْفَرَاغِ فِيهَا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ وَلَا وَصْفٍ - أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا غَيْرُ مَا اقْتَضَتْهُ حَقِيقَةُ لَفْظِهَا، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا (مُقْتَضِيًا) لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ أَلَّا يُنْسَخَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي نَفْيِ إثْبَاتِ الشَّرْطِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْعَارِي مِنْ الشَّرْطِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ، وَسَنَتَكَلَّمُ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ مُقَيَّدًا بِهَذَا الشَّرْطِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ لَوْ قَالَ (اللَّهُ تَعَالَى) لَنَا: صَلُّوا الظُّهْرَ فِي مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِكُمْ، أَوْ صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي مُسْتَقْبَلِ السِّنِينَ، كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ مُكَرَّرًا، ثُمَّ جَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَك وُرُودُ نَسْخِهِ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِ أَدْنَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، فَلِمَ أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهُ كَمَا أَجَزْت وُرُودَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُرُودَ الْأَمْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مُقَارِنٌ لِجَوَازِ نَسْخِهِ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ أَدْنَى فِعْلِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مَا دَامَ النَّسْخُ قَائِمًا بِبَقَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا وَرَدَ النَّسْخُ عَلِمْنَا أَنَّ الْفَرْضَ كَانَ الْمِقْدَارَ الَّذِي وَقَعَ التَّمْكِينُ مِنْهُ إلَى وَقْتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 النَّسْخِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِالْأَمْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ لَنَا: صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ وُجُوبِهَا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ تَجْوِيزٍ لِغَيْرِهِ، فَمَتَى وَرَدَ نَسْخُهُ كَانَ نَهْيًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَجَزْت وُرُودَ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِشَرْطِ فِعْلِهِ فِي وَقْتٍ إنْ لَمْ (يَنْهَ) عَنْهُ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فَيَقُولُ: صَلُّوا عِنْدَ الزَّوَالِ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ قَدْ (أَرَدْته) مِنْكُمْ إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ، وَكَقَوْلِهِ: هُوَ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا، وَكَقَوْلِهِ: خَبَرِي هَذَا صِدْقٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَقَوْلِهِ: (قَدْ) أَمَرْتُكُمْ بِهِ إنْ لَمْ يَبْدُ لِي فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا جَاهِلٌ بِالْعَوَاقِبِ وَبِقُبْحِ الْأَمْرِ أَوْ بِحُسْنِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ الْمُوجِبَ لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ مُوجِبًا لِقُبْحِهِ وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ إذَا وَرَدَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حُسْنِهِ أَوْ قُبْحِهِ، لِأَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ وَعَالِمٌ بِقُبْحِهِ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُ جَوَازُ شَرْطِ النَّهْيِ فِيمَا عُلِمَ حُسْنُهُ وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْأَمْرِ فِيمَا عُلِمَ قُبْحُهُ. فَإِنْ قَالَ: أَلَيْسَ جَائِزًا فِيمَا بَيْنَنَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: اُدْخُلْ الدَّارَ غَدًا مَا لَمْ أَنْهَك عَنْهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ فَمَا أَنْكَرْت مِنْ تَجْوِيزِ مِثْلِهِ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِيمَا بَيْنَنَا لِجَوَازِ الْبَدَاءِ عَلَيْنَا وَالتَّنَقُّلِ فِي الرَّأْيِ وَاسْتِحْدَاثِ الْعِلْمِ (بِالْأَمْرِ) ، فَجَازَ أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنَّا لِعَبْدِهِ: افْعَلْ غَدًا كَذَا مَا لَمْ أَنْهَك عَنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: افْعَلْهُ إنْ لَمْ يَبْدُ لِي فِيهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبُدَاءَاتُ، وَلَا اسْتِحْدَاثُ الْعِلْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 بِالْأُمُورِ فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ جَوَازُ شَرْطِ ذَلِكَ فِي أَوَامِرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ (مِثْلَ) ذَلِكَ مِنَّا لِعَبْدِهِ عَقَلْنَا مِنْ لَفْظِهِ (أَنَّهُ) إنَّمَا جَوَّزَ عَلَى نَفْسِهِ انْتِقَالَهُ عَنْ الرَّأْيِ (الْأَوَّلِ) إلَى غَيْرِهِ لِمَا عَسَى أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ وَأَنْ سَيَحْدُثُ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي الْأَوَّلِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ مِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ وَاسْتِحْدَاثُ الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَجَزْت فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وُرُودَ الْأَمْرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّقًا بِشَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: صَلِّ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ إنْ كُنْت صَحِيحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَاتِلْ الْمُشْرِكِينَ غَدًا إنْ أَمْكَنَك، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ عِنْدَك صِحَّةَ الْأَمْرِ مُعَلَّقًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَهَلَّا جَوَّزْت (أَنْ يَقُولَ) صَلِّ عِنْدَ الزَّوَالِ إنْ لَمْ أَنْهَك عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ عِلَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَثَلَيْنِ فِي الْجَوَازِ أَوْ الِامْتِنَاعِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَرَدْته مِنْك إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ، وَأَنَّ أَمْرِي إيَّاكَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُ قَبِيحًا، وَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ يَقْتَضِي تَجْوِيزَ الْبَدَاءِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَنْفِيَّةٌ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: صَلِّ إنْ قَدَرْت عَلَيْهِ اقْتِضَاءُ صِفَةٍ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ مَنْفِيَّةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُهُ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَكَوْنِهِ حَسَنًا وُجُودُ التَّمْكِينِ فِي حَالِ لُزُومِ فِعْلِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ مَقْرُونًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الثَّانِي مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الثَّانِي مَا يُضَادُّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ فِي حَالِ وُجُودِ ضِدِّهِ، كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ امْتِنَاعُ وُقُوعِهِ (مِنْهُ) مَعَ عَدَمِ التَّمْكِينِ مِنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ الْأَمْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 بِفِعْلٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِأَجَلٍ مَا فِي الْمَعْلُومِ مِنْ وُقُوعِ ضِدِّهِ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَدَلًا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عَبَثًا وَلَا سَفَهًا، كَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ التَّمْكِينِ أَمْرٌ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ (فِي) مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ، وَمَنْ مَنَعَ حُسْنَ الْأَمْرِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ إذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْآمِرَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ كَانَ أَمْرُهُ (بِهِ) عَبَثًا كَأَمْرِهِ لَنَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِنَا لِعَبِيدِنَا وَمَنْ يَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا فِي جَوَازِهِ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَّا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ بُلُوغُ الْمَأْمُورِ حَالَ التَّمْكِينِ وَلَوْ كَانَ وُجُودُهُ مِنْ الْمَأْمُورِ فِيمَا بَيْنَنَا مَيْئُوسًا مِنْهُ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ حَسَنًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ هَذَا إنَّمَا جَازَ وُرُودُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَقْرُونًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ بُلُوغُ حَالَ التَّمْكِينِ وَإِنْ كَانَ (فِي) مَعْلُومِ اللَّهِ (أَنَّا) لَا نَبْلُغُهَا لِأَنَّا مَتَى جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَزِمَنَا بِوُرُودِهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ عَلَى الشَّرِيطَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَيُلْزِمُنَاهَا تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلُهُ عَلَيْهَا إنْ بَلَغْنَا حَالَ التَّمْكِينِ وَهَذِهِ عِبَادَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَيُلْزِمَنَاهَا فِي الْحَالِ. وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ بِصُعُودِ السَّمَاءِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ، لِأَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّا لَا نَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ مِنْهُ أَبَدًا وَلَا يَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ اعْتِقَادُ جَوَازِ بُلُوغِ حَالِ الْإِمْكَانِ وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ إذَا بَلَغْنَاهَا، فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا الْأَمْرِ وُجُوبُ الْفِعْلِ وَلَا اعْتِقَادُ شَيْءٍ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 كَانَ عَبَثًا فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قَالَ: مَا أَنْكَرْت عَلَى هَذَا أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِشَرِيطَةِ (أَنْ يَقُولَ) افْعَلُوا مَا لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَيْنَا فِيهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ لَمْ يَنْسَخْهُ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ بِوُرُودِ الْأَمْرِ، أَوْ أَنْ يَلْزَمَهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ كَانَ وَاجِبًا، أَوْ اعْتِقَادُ حَظْرِهِ إنْ كَانَ مَحْظُورًا فَيُعْتَقَدُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ. فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَلْزَمُهُ بِوُرُودِ الْأَمْرِ الْمَعْقُودِ بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى اعْتِقَادِ الْأَمْرِ الْمُبْهَمِ الَّذِي لَا شَرْطَ فِيهِ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الشَّرْطِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ نَسْخِ (الْأَمْرِ) الْمُبْهَمِ الْعَارِي مِنْ الشَّرْطِ إذَا تَنَاوَلَ (وَقْتًا) مَحْصُورًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَهُ مَعْقُودًا بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْهُ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ اعْتِقَادُ وُجُوبِ فِعْلِهِ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِهِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِقَادِ وُجُوبِ تَرْكِهِ فَلَوْ لَزِمَنَا بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ إيجَابَ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا أَمْرٌ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَجَوَازُ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ مُنْتَفٍ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ بِمَا وَصَفْنَا فَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذَا وَصْفُهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 كَانَ وَاجِبًا، أَوْ حَظْرِهِ إنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ، فَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ عَلَى اعْتِقَادِ شَيْءٍ لَا حَظْرَ وَلَا إيجَابَ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِهِ رَأْسًا، لِأَنَّ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ كَهِيَ قَبْلَ وُرُودِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَعْتَقِدُ قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَأَنَّ مَا يَحْظُرُهُ فَهُوَ مَحْظُورٌ، فَيُؤَدِّي هَذَا الْقَوْلُ (إلَى) إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْأَمْرِ رَأْسًا، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ هَذَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَجِيءُ الْعِبَادَةِ بِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَرَدْته مِنْك إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ، وَهُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا، وَأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ صِدْقٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ وُرُودُ الْخِطَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي خِطَابِهِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلِاعْتِقَادِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي وَصَفَهُ مَا ذَكَرْت وَجْهٌ غَيْرُ مَا وَصَفْنَا، وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا لِمَا بَيَّنَّا، ثَبَتَ امْتِنَاعُ جَوَازِ وُرُودِهِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ. فَإِنْ قَالَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ الْأَمْرِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ. فَنَقُولُ: قَدْ أَمَرْتُك (بِهِ) إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ، وَيَكُونُ الَّذِي يَلْزَمُنَا بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذِهِ صُورَتُهُ: أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مُجْمَلٌ يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ، وَيَكُونُ بَيَانُ حُكْمِهِ مُتَرَقَّبًا بِمَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ فَإِنْ حَظَرَهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ (بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ كَانَ الْحَظْرَ، وَإِنْ لَمْ يَنْسَخْهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ) (بِهِ) كَانَ الْإِيجَابَ، كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِهَا إلَّا بِوُرُودِ بَيَانِهَا وَلَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ (فَائِدَةِ الْأَمْرِ كَمَا لَا يَكُونُ) اللَّفْظُ الْمُجْمَلُ عَارِيًّا مِنْ (الْفَائِدَةِ) لِوُرُودِهِ مُجْمَلًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 قِيلَ لَهُ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ تَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ غَدًا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ مِنْ حَيْثُ اقْتَضَى وُجُوبَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لَهُ، فَقَدْ أَلْزَمَنَا بِوُرُودِهِ اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ (قَوْلُهُ) افْعَلْ مَا لَمْ أَنْسَخْهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُقْتَضَى الْإِيجَابِ إلَّا أَنَّهُ شُرِطَ جَوَازُ رَفْعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْمُجْمَلُ: فَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَلْزَمْنَا فِيهِ اعْتِقَادُ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ، فَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ بَيَانِ الْحُكْمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ الْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ النَّهْيَ لَوْ وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ عِبَارَةً عَنْهُ. فَقَوْلُك: إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ الْمَقْرُونَ بِجَوَازِ شَرْطِ النَّهْيِ مَوْقُوفٌ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ خَطَأٌ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ بَاقِيًا، بَلْ يَكُونُ مَرْفُوعًا زَائِلًا فَكَيْفَ يَكُونُ مَا يُوجِبُ دَفْعَهُ وَإِسْقَاطَهُ بَيَانًا لَهُ، وَهُوَ يُوجِبُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ مَوْضُوعًا لِلنَّهْيِ، وَلَفْظُ الْإِيجَابِ مَوْضُوعًا لِلْحَظْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ. وَأَمَّا وُرُودُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَغَيْرُ مُزِيلٍ لِحُكْمِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجُمْلَةِ قَدْ كَانَ يَصْلُحُ لَهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةٌ عَنْهُ إمَّا فِي اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ، فَلَمْ يَكُنْ بَيَانُهُ مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ. وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ خَمْسُونَ صَلَاةً فَمَا زَالَ يَسْأَلُ اللَّهَ حَتَّى رَدَّهَا إلَى خَمْسٍ. قَالُوا: فَقَدْ نُسِخَ فَرْضُ الْخَمْسِينَ إلَى الْخَمْسِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ. وَبِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَأَنَّهُ نُسِخَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَبِصُلْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ (مِنْهُمْ) مُسْلِمًا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ النِّسَاءِ قَبْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 مَجِيئِهِنَّ إلَيْهِ، وقَوْله تَعَالَى: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَسَخَهُ قَبْلَ مَجِيءِ (وَقْتِ فِعْلِهِ) . وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ فَرْضِ الْخَمْسِينَ صَلَاةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي الِابْتِدَاءِ مَعْقُودًا بِشَرْطِ اخْتِيَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (بِأَعْلَى) النَّظَرَيْنِ فِي ذَلِكَ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا تَعَلُّقُ الْفَرْضِ بِاخْتِيَارِ الْمَأْمُورِ بِهِ، كَاخْتِلَافِ حُكْمِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ بِاخْتِيَارِهِ السَّفَرَ وَالْإِقَامَةَ، وَكَمَا تَلْزَمُنَا الْقُرَبُ بِالنَّذْرِ وَإِيجَابُنَا لَهَا عَلَى أَنْفُسِنَا، وَكَمَا يَكُونُ الْحَانِثُ فِي يَمِينِهِ مُخَيَّرًا فِي أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَبِأَيِّهَا كَفَّرَ تَعَيَّنَ حُكْمُ الْفَرْضِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْفَرْضِ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ أَحَدٍ مِنْ الْمَأْمُورِينَ، لِأَنَّ الْفُرُوضَ وَالْأَوَامِرَ إنَّمَا (هِيَ) حَسَبَ الْمَصَالِحِ وَلَا عِلْمَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَسَاوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ الصَّلَاحِ، فَإِذَا خُيِّرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي ذَلِكَ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَا هُوَ صَلَاحٌ فَيَكِلُ وُجُوبَ الْفَرْضِ إلَى اخْتِيَارِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُسِنَّ مَا رَأَى، وَيَفْرِضَ مَا شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ يَأْتِيهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، كَمَا «قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الْحَجِّ أَوَاجِبٌ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: بَلْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ» وَكَمَا اسْتَثْنَى الْإِذْخِرَ عِنْدَ مَسْأَلَةِ الْعَبَّاسِ إيَّاهُ ذَلِكَ حِينَ قَالَ: «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» بَعْدَمَا أَطْلَقَ النَّهْيَ فِي الْجَمِيعِ قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ أَوْ الْإِبَاحَةِ مُعَلَّقًا بِاخْتِيَارِهِ. وَكَمَا قَالَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إيجَابَ ذَلِكَ كَانَ مَجْعُولًا إلَيْهِ وَمَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ (عِنْدَنَا) أَنْ نَكِلَ فَرْضَ الْخَمْسِينَ إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْأَلَةَ فِيهِ، فَمَا زَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَى خَمْسٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ فِي الِابْتِدَاءِ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا مَعْنَى مَسْأَلَتِهِ التَّخْفِيفَ وَمُرَاجَعَتِهِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ فَتَكُونُ مَسْأَلَتُهُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ، كَمَا قُلْنَا (فِي) فَرْضِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِنَا لِلسَّفَرِ أَوْ الْإِقَامَةِ فَيَخْتَلِفُ الْفَرْضُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَوْقُوفَانِ عَلَى اخْتِيَارِنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الْفَرْضَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لَا جَمِيعُهَا، وَأَنَّ حُكْمَ الْمَفْرُوضِ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ الْمُكَفِّرِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِهِ الْحُكْمُ إذَا فَعَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَبْحِ ابْنِهِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ وُرُودِ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَلَمَّا عَالَجَ أَسْبَابَ الذَّبْحِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَنْعِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ (الْعِلْمِ فِي) التَّفْسِيرِ: ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حَلْقِهِ صَفِيحَةَ نُحَاسٍ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيهَا الشَّفْرَةُ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمْكَنَهُ وَبَذَلَ الْمَجْهُودَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ (إنَّمَا) رَأَى فِي الْمَنَامِ فِعْلَ أَسْبَابِ الذَّبْحِ وَمُعَالَجَتَهُ وَقَدْ فَعَلَ وَسَمَّاهُ ذَبْحًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ يَقَعُ بِمِثْلِهِ الذَّبْحُ فِي الْعَادَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مَنْعٌ كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُجَاوِرًا لَهُ أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلَا مَعْنَى إذَنْ لِلْفِدْيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ لِعَدَمِ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ مَا سُمِّيَ فِدْيَةً مَوْقِعَ الْفِدْيَةِ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وَمَا فُدِيَ بِهِ عِنْدَك لَمْ يَقُمْ مَقَامَ شَيْءٍ أُمِرَ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ إذَا كَانَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ عِنْدَك. قِيلَ لَهُ: (لَيْسَ) يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سُمِّيَ فِدْيَةً لِمَا كَانَ يَتَوَقَّعُهُ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ حُدُوثِ الْمَوْتِ بِالذَّبْحِ، فَفَدَى مَا كَانَ فِي تَقْدِيرِهِ أَنَّهُ سَيَقَعُ بِمَا (قَدَرَ) بِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ ذَبَحَهُ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ ثُمَّ وَصَلَهَا اللَّهُ فِي أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الطَّرْفِ قَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ، وَهَذَا جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. وَأَمَّا صُلْحُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُرَيْشًا عَلَى مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ وَنَسْخُ الْحُكْمِ عَنْ النِّسَاءِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَضَى مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ إلَى أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِرَدِّ النِّسَاءِ مُدَّةً يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمِ فِيهَا فَلَيْسَ فِي هَذَا نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ، وَكَذَلِكَ نَسْخُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَضَى مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ وُرُودِ النَّسْخِ مُدَّةٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمِ فِيهَا، وَنَسْخُ مِثْلِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا فِي شَيْءٍ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا امْتِنَاعُ جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ وَجَمِيعُ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَا جَوَازَ نَسْخِهِ، وَهُوَ أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ عُمُومًا فِي جِنْسِ يُوجِبُ فِعْلَهُ عَلَى الدَّوَامِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ تَوْقِيتٍ فَهُوَ (مِنْ) نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وقَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وَمَا جَرَى مَجْرَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَفِيمَا (يَقْتَضِي) مُسْتَقْبَلَ الْأَوْقَاتِ كَقَوْلِهِ: صُومُوا عَاشُورَاءَ فِيمَا (يُسْتَقْبَلُ) مِنْ السِّنِينَ وَنَحْوُ (ذَلِكَ) قَوْلُهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: تَمَسَّكُوا بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهَا اعْتِقَادُ مُوجِبِ لَفْظِهَا وَتَجْوِيزُ نَسْخِهَا مَعَ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ مِنْ وَقْتِ الْفِعْلِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا، وَذِكْرُهُ بِمُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ قَلِيلِ الْأَوْقَاتِ وَكَثِيرِهَا، لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ تَارَةً أَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وُجُوبُ قَتْلِهِمْ، وَمِنْ الْآنَ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْقَاذِفِينَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ الْجَلْدُ، وَمِنْ الْآنَ اللِّعَانُ وَهُمْ قَاذِفُو الزَّوْجَاتِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ فَرْضُهُ إلَى وَقْتِ نُزُولِ (الْأَمْرِ بِصَوْمِ شَهْرِ) رَمَضَانَ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ السَّبْتِ (إلَى الْوَقْتِ) الَّذِي نَسَخَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ آخَرَ جَاءَ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ فُعِلَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوْ لَمْ يُفْعَلْ، فَإِنَّ نَسْخَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّمْكِينُ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ لَزِمَهُ فَرْضُهُ، وَتَفْرِيطُهُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهُ عَنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّقَهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ قَبْلَ فِعْلِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَقُولُ (لَهُ: إنْ فَعَلْته عِنْدَ وُجُودِ التَّمْكِينِ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِنْ تَرَكْته فَأَنْتَ مُعَاقَبٌ) عَلَى تَرْكِهِ وَلَا فَرْضَ عَلَيْك بَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ وُرُودَ النَّسْخِ جَائِزٌ، وَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ الْمَأْمُورِينَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي وَقْتِ لُزُومِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا أَرَادَ نَسْخَ شَيْءٍ سَأَلَهُمْ: هَلْ تَرَكَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى يَصِحَّ نَسْخُهُ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ. وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنُقِلَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَسَخَهُ، بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَسَخَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ مِنْهُ عَنْ حَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 الْمَأْمُورِينَ فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ دَلَّ (ذَلِكَ) عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ جَوَازِ النَّسْخِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَصِحُّ نَسْخُهُ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ تَرْكِهِ وَإِنْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ فِعْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ ارْتِكَابُهُ لِلْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَانِعًا مِنْ نَسْخِهِ كَذَلِكَ تَرْكُهُ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 [بَابٌ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ] ِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ (رَسْمِ) الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ. فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَكُونُ رَفْعُ حُكْمِهِ إلَّا بِرَفْعِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ فَيَرْتَفِعُ الْحُكْمُ بِارْتِفَاعِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ رَفْعُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ أَيُّهُمَا كَانَ مِنْ تِلَاوَةٍ أَوْ حُكْمٍ. وَقَالَ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ وَلَكِنْ يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ التِّلَاوَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا جَوَازُ نَسْخِ الْحُكْمِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ إلَّا فِرْقَةً شَذَّتْ عَنْهَا، وَقَدْ حَكَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلَهَا. وَأَمَّا نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُنْسِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ (أَوْ يَأْمُرَهُمْ) بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَكَتْبِهِ فِي الْمُصْحَفِ فَيَنْدَرِسُ عَلَى الْأَيَّامِ كَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] وَلَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ لَا يَكُونُ مَتْلُوًّا مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ يَمُوتُ وَهُوَ مَتْلُوٌّ مَوْجُودٌ بِالرَّسْمِ ثُمَّ يُنْسِيهِ اللَّهُ النَّاسَ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ. وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا نَسْخُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا رَسْمُهُ وَلَا حُكْمُهُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا قَوْمٌ مُلْحِدَةٌ يَسْتَهْزِئُونَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَيَقْصِدُونَ إفْسَادَ الشَّرِيعَةِ بِتَجْوِيزِ نَسْخِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَأَمَّا نَسْخُ رَسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ حُكْمِهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّ فِي مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِهِمْ نَسْخَ التِّلَاوَةِ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَغَيْرُ جَائِزٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا: إيجَابُهُمْ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، لِمَا ذَكَرُوا أَنَّ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْيَوْمَ وَلَا يَجُوزُ تِلَاوَتُهُ فِيهِ وَلَا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ حَرْفُ عَبْدِ اللَّهِ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ نَأْمَنْ مِنْ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ كَانَتْ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَضْعَافَ مَا فِي أَيْدِينَا الْيَوْمَ فَرَفَعَهَا اللَّهُ مِنْ أَوْهَامِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَلَّا يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِي أَيْدِينَا مِنْ الشَّرِيعَةِ مِمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بِأَنْ يَكُونَ أَنْسَى الْأُمَّةَ جَمِيعَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَرَفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ ثُمَّ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَأَلْهَمَهُمْ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي فِي أَيْدِينَا (الْيَوْمَ) . وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْمِلَّةِ، فَثَبَتَ امْتِنَاعُ جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَكُونَ قَدْ أُمِرُوا بِأَلَّا يَقْرَءُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا يَكْتُبُوهُ فِي الصُّحُفِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا مِنْ الطَّرِيقِ الَّتِي نُقِلَ الْقُرْآنُ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ) ثُمَّ نُسِخَتْ التِّلَاوَةُ وَبَقِيَ الْحُكْمُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ نَقَلَهُ إلَيْنَا إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ إلَيْنَا مِنْهُ سَائِرُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ التَّوَاتُرُ وَالِاسْتِفَاضَةُ، حَتَّى لَا يَشُكَّ أَحَدٌ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ نَقْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ مِمَّا كَانَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَّ تِلَاوَتَهُ مَنْسُوخَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَيْنَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْأَحَادِيثِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِك أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ (إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ) بِهِ النَّسْخُ. قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كَانَ مَتْلُوًّا مِنْ الْقُرْآنِ فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَبَقَاءُ تِلَاوَتِهِ غَيْرِ ثَابِتٍ بِالِاسْتِفَاضَةِ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ بَقَاءُ الْحُكْمِ مَعَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ نُثْبِتْهُ مَتْلُوًّا فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَأَثْبِتْ التِّلَاوَةَ بِمِثْلِهَا، لِأَنَّهُ الْوَجْهُ الَّذِي مِنْهُ نُقِلَ الرَّسْمُ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَمَّا لَمْ يَبْقَ حُكْمُهَا الْيَوْمَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الِاسْتِفَاضَةِ إذَا لَمْ تَثْبُتْ فِي سَائِرِ الْمَصَاحِفِ، عَلِمْنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ تِلَاوَتِهَا مَا يُوجِبُ نَسْخَ حُكْمِهَا إذْ لَا يَمْتَنِعُ بَقَاءُ أَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْآخَرِ. [نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا] فَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا: فَجَائِزٌ (أَيْضًا) عِنْدَنَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَيَجُوزُ (عِنْدَنَا أَيْضًا) نَسْخُ الْأَخْبَارِ دُونَ مَخْبَرِهَا فِي حَيَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِنَا بِوُرُودِ رَسْمِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: التِّلَاوَةُ. وَالْآخَرُ: الْحُكْمُ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ زَوَالُ الْعِبَادَةِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 أَمَّا نَسْخُ الْحُكْمِ: فَبِأَنْ يُتَعَبَّدَ بِضِدِّهِ. وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ فَبِأَنْ يُنْسِيَهُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ كَانَ حَفِظَ مِنْ الْأُمَّةِ فِي عَصْرِهِ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ أَوْ يَأْمُرَهُمْ بِأَلَّا يُثْبِتُوهُ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا يَتْلُوهُ، فَيُنْسَى عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَسْخَهُ بِالنِّسْيَانِ قَدْ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أُنْسِيَ سُورَةً قَدْ كَانَ حَفِظَهَا فَسَأَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنَّهَا نُسِخَتْ» ، وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَرَأَ فِي صَلَاةٍ سُورَةً، فَتَرَكَ آيَةً مِنْهَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَرَكْت آيَةَ كَذَا، فَقَالَ: أَلَا أَذْكَرْتنِيهَا فَقَالَ الرَّجُلُ: ظَنَنْت أَنَّهَا نُسِخَتْ» . {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} [الإسراء: 86] . وَقَالَ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] . وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ: أَوْ نُنْسِهَا مِنْ النِّسْيَانِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مِنْ التَّرْكِ بِأَلَّا يَنْسَخَهَا، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْآيَةِ إذَا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً (لِلنِّسْيَانِ) تَجْوِيزُ مَا وَصَفْنَا فِيهَا. وَأَمَّا مَا طَعَنَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ ثُمَّ كَشَفَ قِنَاعَهُ وَأَبْدَى مَا كَانَ يُضْمِرُهُ مِنْ إلْحَادِهِ، بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَدْخُولٌ فَاسِدُ النِّظَامِ لِسُقُوطِ كَثِيرٍ مِنْهُ. وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " إنَّ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ إذَا زَنَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ " " وَإِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: إنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تُوَازِي الْبَقَرَةَ أَوْ هِيَ أَطْوَلُ، وَأَنَّهُ " كَانَ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهَا لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إلَيْهِمَا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ ". وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ بَلِّغُوا قَوْمًا عَنَّا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا "، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَا مَطْعَنَ لِمُلْحِدٍ فِيهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وُرُودُهَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْقُرْآنِ بِهَا. ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةً عَلَى مَا رُوِيَ فِيهَا أَوْ سَقِيمَةً مَدْخُولَةً، (فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولَةً) فَالْكَلَامُ عَنَّا فِيهَا سَاقِطٌ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ مُحْتَمِلَةً أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَمُحْتَمِلَةً لِغَيْرِهِ، أَوْ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا كَوْنَهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَمَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَتْ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَا احْتَمَلَ مِنْهَا لَفْظُهُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ (أَنَّهُ) آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ (آيَةً) مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَمِمَّا أَنْزَلَهُ (اللَّهُ) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ الْقَطْعُ فِيهِ بِأَحَدِ وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَنَّا سَاقِطٌ، وَعَلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ حُمِلَ فَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ لِمُلْحِدٍ، لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ (مِنْ) الْقَبِيلِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوخُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 التِّلَاوَةِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ ذُكِرَ فِي سِيَاقِهِ لَفْظُهُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ، مِثْلُ خَبَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى (أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ) أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَالَ: إنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَرَأْنَاهُ وَوَعَيْنَاهُ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ فِي فَرْضِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] يَعْنِي فَرَضَهُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] يَعْنِي فِي فَرْضِهِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] (أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ) وَ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] يَعْنِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا كَانَ (ذَلِكَ) كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِاسْتِفَاضَةِ النَّقْلِ فِي لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ مَا وَصَفْنَا، أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ لَكَتَبَهُ فِيهِ قَالَ النَّاسُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُولُوهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ إنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ (وَ) رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الرَّجْمَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قُرْآنًا وَغَيْرَ قُرْآنٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وَرُوِيَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: " إنْ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ " وَهَذَا اللَّفْظُ لَوْ ثَبَتَ لَمْ يَدُلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْآيَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 22] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [الروم: 22] فَسَمَّى الدَّلَالَةَ الْقَائِمَةَ مِمَّا خَلَقَ عَلَى تَوْحِيدِهِ آيَةً فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ (آيَةَ) الرَّجْمِ وَهُوَ يَعْنِي أَنَّ مَا يُوجِبُ الرَّجْمَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ. وَأَيْضًا (فَإِنَّهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ (الرَّجْمُ) ثُمَّ (كَانَ) تَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرُّوَاةِ فَعَبَّرَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ يَرَى نَقْلَ الْمَعْنَى (عِنْدَهُ دُونَ) اللَّفْظِ فَظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ إنَّهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ قَالَ إنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ آيَةٌ مِنْهُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ (لَوْلَا أَنْ يَقُولَ) النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُهُ فِي آخِرِ الْمُصْحَفِ وَيُبَيِّنُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ لِيَتَّصِلَ نَقْلُهُ وَيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهِ كَمَا يَتَّصِلُ نَقْلُ الْقُرْآنِ لِئَلَّا يَشُكَّ فِيهِ شَاكٌّ وَلَا يَجْحَدَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 جَاحِدٌ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ يَقُولَ قَائِلٌ: إنَّ عُمَرَ زَادَ فِي الْقُرْآنِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَكْتُبَ فِي الْمُصْحَفِ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَجَمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَبِالشَّفَاعَةِ وَبِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ» فَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ إشَاعَتَهُ وَإِظْهَارَهُ لِيَسْتَفِيضَ نَقْلُهُ لَا أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنْ ثَبَتَ وَصَحَّ فَهُوَ مِنْ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ لَا مَحَالَةَ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ فَلَا دَلَالَةَ (فِيهِ) عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ السُّنَنَ وَسَائِرَ كَلَامِ النَّاسِ يُقْرَأُ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: تَأْوِيلُكُمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ فَإِنَّهُ مِنْ الْخَبَرِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْسُوخِ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَلَا يَقْرَءُونَهُ، وَقَدْ أَخَّرْت ثُبُوتَ الْخَبَرِ وَقِرَاءَتَهُمْ إيَّاهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْسُوخَ الرَّسْمِ مِمَّا بَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ (وَرَسْمُهُ) إلَى يَوْمِنَا هَذَا. قِيلَ لَهُ: تَجْوِيزُنَا لِثُبُوتِ الْخَبَرِ لَا يَمْنَعُ مَا ذَكَرْنَا وَلَا يَنْقُضُ تَأْوِيلَنَا، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَنْقُولُ بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى نِظَامِهِ وَتَأْلِيفِهِ حَسَبَ مَا نَقَلُوهُ إلَيْنَا وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ نَقَلُوهُ عَلَى نَظْمٍ آخَرَ وَنُسِخَ ذَلِكَ النَّظْمُ وَأُنْسِيَ مَنْ كَانَ يَحْفَظُهُ وَلَمْ يُنْسَخْ الْحُكْمُ، فَنَقَلُوهُ بِلَفْظٍ غَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي كَانَ رَسْمُ الْقُرْآنِ حِينَ نُزُولِهِ إلَى أَنْ رُفِعَ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَمِنْ رَسْمِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، مِنْهَا أَنَّهُ مِمَّا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ مِنْ (غَيْرِ) تَغَيُّرٍ لِنَظْمِهِ وَلَا إزَالَةٍ لِتَأْلِيفِهِ فَإِذَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَنِظَامُهُ أَسْقَطَ عَنَّا التَّعَبُّدَ بِالِاعْتِقَادِ وَاَلَّذِي أَلْزَمْنَاهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ. وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُكْمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ (بِهِ) وَأَنَّ قِرَاءَتَهُ فِيهَا لَا تُفْسِدُهَا وَإِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ أَفْسَدَهَا. وَالثَّالِثُ: الْعِبَادَةُ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتِلَاوَتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ بِقِرَاءَتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ نَكُونَ مَأْمُورِينَ بِحِفْظِهِ وَإِثْبَاتِهِ فِي مَصَاحِفِنَا وَنَقْلِهِ عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُودِ رَسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ مَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ الْمَذْكُورَةِ (فِيهِ) فَلَا يَمْتَنِعُ إذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 كَانَ هَذَا كَمَا وَصَفْنَا أَنْ يُنْسَخَ الرَّسْمُ فَتَزُولُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَيَبْقَى حُكْمُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ السُّنَنِ كَمَا نُسِخَ رَسْمُ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَتِلَاوَتُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِهَا وَمَعَانِيهَا بَاقِيَةٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الِاعْتِقَادِ فِيهِ فَيُعْتَقَدُ فِي حَالٍ أَنَّهُ قُرْآنٌ وَفِي حَالٍ أَنَّهُ غَيْرُ قُرْآنٍ، وَهَلَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا كَأَخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اعْتِقَادَنَا فِي مُخْبَرَاتِهَا لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا فِي حَالٍ فَنَعْتَقِدُ فِي حَالِ نُزُولِهَا مُوجَبَ مُخْبَرَاتِهَا وَنَعْتَقِدُ فِي حَالٍ أُخْرَى خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَسْخُهَا. قِيلَ لَهُ: مَا ذَكَرْت لَا يَمْنَعُ (نَسْخَ) الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا كَانَ (قُرْآنًا) لِوُجُودِهِ عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النِّظَامِ الْمُعْجِزِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى إزَالَةِ النَّظْمِ وَرَفْعِهِ مِنْ قُلُوبِ عِبَادِهِ وَأَوْهَامِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} [الإسراء: 86] فَإِذَا ذَهَبَ بِهِ وَأَنْسَاهُ خَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنً، لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لَا يُسَمَّى قُرْآنًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (إلَّا أَنَّ الِاعْتِقَادَ) الْأَوَّلَ بَاقٍ فِي أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى ذَلِكَ الضَّرْبِ مِنْ النِّظَامِ كَانَ قُرْآنًا حِينَ كَانَ مَوْجُودًا مَتْلُوًّا وَمَسْطُورًا، فَإِذَا عُدِمَ ذَلِكَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَالِ قُرْآنًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مُخْبِرُ أَخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ مَعْنَاهُ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ وُرُودُ الْخَبَرِ بِهِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ الْخَبَرُ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ (فَلَا يَصِحُّ) أَنْ نَتَعَبَّدَ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ، وَأَمَّا النَّظْمُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ قُرْآنًا إذَا زَالَ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَزِمَ الدَّوَامُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فِي بَقَائِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قُرْآنًا فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] . وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهُ أَبَدًا وَأَنَّ الْبَيَانَ بِهِ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إذْ لَمْ يَخُصَّ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ وَلَا قَوْمًا مِنْ قَوْمٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27] فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَهُ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَذَلِكَ يُؤْمِنُنَا وُقُوعَ نَسْخِ تِلَاوَتِهِ وَرَسْمِهِ، لِأَنَّ مَا رَفَعَ وَأُنْسِيَ وَلَمْ يُنْقَلْ لَا يَكُونُ ذِكْرًا لِلْعَالَمِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُنْذَرٌ بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي (كُلِّ) الْأَوْقَاتِ وَمَا رُفِعَ لَا يَصِحُّ الْإِنْذَارُ بِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ (رَفْعِهِ) ، وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَهُ يَهْدِي وَلَمْ يَسْتَثْنِ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ فَوَجَبَ أَنْ تُوجَدَ الْهِدَايَةُ فِي جَمِيعِهِ أَبَدًا. وَقَالَ تَعَالَى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97] وَذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ جَمِيعِهِ. وَالْجَوَابُ: بِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ كَمَا لَمْ تَمْنَعْ (هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ) جَوَازِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ وَمُوجِبَاتِهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَنْتَظِمُ شَيْئَيْنِ، النَّظْمَ وَالْمَعْنَى، فَإِذَا لَمْ تَمْنَعْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ لَمْ تَمْنَعْ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ، وَكَانَتْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَحْمُولَةً عَلَى غَيْرِ جَوَازِ النَّسْخِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 [نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ] وَأَمَّا نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ فَغَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي أَحْكَامِهِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ نَسْخُ أَحْكَامِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - امْتَنَعَ نَسْخُ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ، لِأَنَّ الرَّسْمَ قَدْ تُعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَفِي نَسْخِهِ نَسْخُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِاعْتِبَارِ الْخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِمَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَيَحْيَى بْنُ شُعْبَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ: «كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ» وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ " وَكَانَتْ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ السَّرِيرِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ اشْتَغَلْنَا بِدَفْنِهِ فَدَخَلَتْ دَاجِنٌ فَأَكَلَتْهَا " فَلَا يَخْلُو (الْمُحْتَجُّ بِهَذَا) الْحَدِيثِ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يُجِيزَ نَسْخَ رَسْمِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ لَا يُجِيزَ. فَإِذَا أَجَازَهُ ارْتَكَبَ أَمْرًا شَنِيعًا قَبِيحًا خَارِجًا عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ كَطُرُقِ الْمُلْحِدِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُهُ وَأَنَّهُ قَدْ فُقِدَ عِظَمُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ إجَازَةِ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَبَيْنَ إجَازَةِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ، وَإِنْ مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَصِحَّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ (بِهِ) ، لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَرَسْمُهُ بَاقٍ، لِأَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ ثَابِتًا عِنْدَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إثْبَاتُهُ مِنْ الْقُرْآنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 لِأَنَّهُ قَدْ أَعْطَى امْتِنَاعَ جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أُثْبِتُ الْحُكْمَ دُونَ التِّلَاوَةِ كَمَا أَثْبَتَّ أَنْتَ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِمَا فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتْ الرَّسْمَ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَهُوَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَكَوْنُهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي وَقْتٍ لَا يُوجِبُ (كَوْنَهُ مِنْ الْقُرْآنِ) أَبَدًا مَا دَامَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَاقِيًا فَوَجَبَ إذْ لَمْ يَثْبُتْ نَقْلُهُ قُرْآنًا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ أَلَّا نُثْبِتَهُ قُرْآنًا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِي خَبَرِ عَائِشَةَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ قُرْآنًا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَمَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ، لَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ نَسْخُهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ ذَهَابَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ الدَّاجِنَ أَكَلَ الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ أَنَّهُ كَانَ مُعَرَّضًا لِأَكْلِ الدَّاجِنِ لَهُ وَذَهَابِهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَكُمْ. قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ عَائِشَةَ فِيهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْ تَكُونَ قَالَتْ إنَّهُ كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَيْتَ (وَ) كَيْتَ، وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَيُرَادُ بِهِ وَحْيٌ غَيْرُ قُرْآنٍ. فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ كَانَ قُرْآنًا إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَنُقِلَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ عُمَرَ فِي الرَّجْمِ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إثْبَاتِ مَا رُوِيَ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ مَعْنَى يَرُدُّهُ الْكِتَابُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وَنَحْوُهُ مِنْ الْآيِ الْمُقْتَضِيَةِ لِبَقَاءِ رَسْمِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنْ قِيلَ، فَأَثْبِتُوا الْحُكْمَ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتُوا الرَّسْمَ (كَمَا أَثْبَتُّمْ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِحَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرَّسْمُ) قِيلَ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاهِنًا سَقِيمًا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ مِنْ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ النَّقْلُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُ حُكْمِهِ لِمَا قَدْ بَانَ مِنْ خَطَأِ الرَّاوِي لَهُ فِي نَقْلِهِ. إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ ثَابِتًا عَلَى مَا رُوِيَ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَفْظُ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ حُكْمِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي يُقْصَدُ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا وَجَائِزٌ أَنْ (يَكُونَ) وَهُوَ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ رَاوِيهِ كَغَلَطِهِ فِي لَفْظِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ أَيْضًا بَعْضُ لَفْظِهِ مِمَّا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَفِي بَعْضِ الْمَوْضِعَيْنِ دُونَ بَعْضٍ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ حُكْمًا فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ خَاصَّةً، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظِهِ وَسِيَاقَةِ مَعْنَاهُ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَأَمَّا حَرْفُ عَبْدِ اللَّهِ فِي التَّتَابُعِ: فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ لَفْظِهِ مَا يُدْفَعُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ وَلَيْسَ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [نَسْخُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الرَّسْمِ] وَأَمَّا نَسْخُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الرَّسْمِ فَمَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] إلَى آخِرِهَا مَنْسُوخُ الْحُكْمِ بِالْجَلْدِ تَارَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وَبِالرَّجْمِ أُخْرَى، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] ، وقَوْله تَعَالَى: {مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} [البقرة: 240] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وقَوْله تَعَالَى: {، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] رُوِيَ أَنَّ الصَّحِيحَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 [بَابُ الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا النَّسْخُ] ُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نَسْخُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: (نَسْخُ جَمِيعِ الْحُكْمِ. وَالْآخَرُ: نَسْخُ بَعْضِهِ. وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ) مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ بِدَلَائِلِ الْأُصُولِ إذَا عُدِمَ ذَلِكَ. وَالْحُكْمُ النَّاسِخُ هُوَ الَّذِي يَرِدُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ (وَالتَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِهِ مِمَّا يُنَافِي بَقَاءَ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ) وَيَمْتَنِعُ مَعَهُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْآخَرُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَإِنْ اقْتَضَى زَوَالَ (جَمِيعِهِ، وَإِنْ اقْتَضَى) بَعْضَهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لِذَلِكَ الْبَعْضِ. فَأَمَّا نَسْخُ الْجَمِيعِ: فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الْجِمَاعُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] الْآيَةُ فَأَبَاحَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَبْلَهُ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وَ (نَحْوُ) قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] . [نَسْخُ بَعْضِ الْحُكْمِ] وَأَمَّا نَسْخُ بَعْضِ الْحُكْمِ: فَنَحْوُ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إنَّمَا نُسِخَ مِنْهَا التَّوَجُّهُ إلَى هُنَاكَ وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا بَاقِيَةٌ، وَصَلَاةُ اللَّيْلِ نُسِخَ مِنْهَا الْوُجُوبُ وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا بَاقِيَةٌ، مِنْ أَوْصَافِ أَفْعَالِهَا وَشَرَائِطِهَا وَكَوْنِهَا قُرْبَةً ثَابِتَةً، وَنَحْوُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَلْدِ عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةُ ثُمَّ نَسَخَ الْجَلْدَ عَنْ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ وَأَوْجَبَ اللِّعَانَ إذَا كَانَا عَلَى صِفَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْجَمِيعِ كَانَ الْجَلْدَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ: ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ» . وَلَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرَ الْجَلْدِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ أَمَرَهُ بِاللِّعَانِ وَلَمْ يَجِدْهُ. وَإِذَا عُرِفَ تَارِيخُ الْحُكْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ التَّعَبُّدِ بِهِمَا فِي حَالِ وَاحِدَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنْ الْآخِرَ مِنْهُمَا نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ ". وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ النَّسْخَ يَقَعُ بِمَا لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِهِ مَعَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ وَلَا يَكُونُ نَسْخًا، لِأَنَّ مَا جَازَتْ الْعِبَادَةُ بِهِ فِي حَالٍ (وَاحِدَةٍ) لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ فِي تَكْلِيفِ أَحَدِهِمَا مَا يَنْفِي لُزُومَ الْآخَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَا جَمِيعًا إذَا وَرَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ (يَصِحُّ) التَّعَبُّدُ بِهِمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا لَمْ يَتَنَافَيَا إذَا وَرَدَا مَعًا وَجَبَ أَلَّا يَتَنَافَيَا إذَا وَرَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، أَلَا (تَرَى) أَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَمَّا صَحَّ الْأَمْرُ بِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ وَلَا مَانِعًا (مِنْ بَقَاءِ) حُكْمِهِ إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ وَاجِبٌ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ. وَقَدْ يَرِدُ حُكْمٌ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ وُرُودُهُ عَقِيبَ نَسْخِ الْأَوَّلِ، فَيُطْلِقُ (بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ بِالثَّانِي وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ) فِي الْحَقِيقَةِ وَاقِعًا بِغَيْرِهِ، وَإِطْلَاقُ هَذَا مَجَازٌ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا نَسْخًا لِأَنَّهُ وَرَدَ عَقِيبَ النَّسْخِ مُتَّصِلًا بِهِ وَسُمِّيَ بِاسْمِهِ، كَمَا يُسَمَّى (الشَّيْءُ) بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُجَاوِرًا لَهُ وَكَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ وَالتَّشْبِيهِ بِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، فَرُوِيَ أَنَّ هَذَا كَانَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَوْ خَلَّيْنَا وَالْآيَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ (بَيْنَ) حُكْمِهِمَا عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَيَكُونُ حَدُّهُ الْحَبْسَ وَالْأَذَى وَالْجَلْدَ مَعَ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ وُجُوبُ جَلْدِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ مَانِعًا مِنْ بَقَاءِ حُكْمِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُزِيلًا لَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، إلَّا أَنَّهُ (كَانَ) يَكُونُ نَسْخًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ عِنْدَنَا لِمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَعَلِمْنَا أَنَّ زَوَالَ حُكْمِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوُجُوبِ الْجَلْدِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ غَيْرِهِ، فَلَمَّا أَوْجَبَ الْجَلْدَ عَلَى الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ عِنْدَ نَسْخِهِمَا، أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَسَخَهُ. وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ فِي الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ، فَأَمَّا الزَّانِي الْمُحْصَنُ فَهَذَا الْحُكْمُ لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخٌ عَنْهُ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي إيجَابِهِ الرَّجْمَ عَلَى الْمُحْصَنِ، إذْ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ (الرَّجْمِ وَالْحَبْسِ وَالْأَذَى) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ كَانَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَالرَّجْمِ عَلَيْهِ وَيَكُونَانِ جَمِيعًا عُقُوبَتَهُ، بِأَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ بَعْدَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الَّذِي فِي الْآيَةِ (مِنْ ذَلِكَ) فَلَمْ يَكُنْ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الرَّجْمِ، لِأَنَّهُ قَالَ: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] فَكَانَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى هُمَا الْحَدَّ إلَى أَنْ تَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهَا أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهَا سَبِيلًا غَيْرَهُمَا، وَوُقُوعُ الرَّجْمِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ، فَقَدْ نَسَخَ الرَّجْمُ هَذَا الْحُكْمَ بِحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّ الرَّجْمَ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالزِّنَى، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ حَدُّهُمَا الْحَبْسَ وَالْأَذَى فِي الْحَالِ الَّتِي أَبْدَلَ مَكَانَهَا الرَّجْمَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ (الْحَبْسِ وَالْأَذَى) فِي الْحَالِ الَّتِي وَجَبَ فِيهَا الرَّجْمُ، لِأَنَّ وُقُوعَ الرَّجْمِ يُنَافِيهِمَا، فَثَبَتَ أَنَّهُمَا مَنْسُوخَانِ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» وَهَذَا يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - السَّبِيلَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» فَأَخْبَرَ بِزَوَالِ الْحَبْسِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ حَبْسَهُنَّ إلَى وَقْتِ وُرُودِ السَّبِيلِ، فَبَيَّنَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (ذَلِكَ) السَّبِيلَ، وَأَخْبَرَ بِنَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ عَنْ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا بِإِيجَابِ الْجَلْدِ، لَكِنْ بِمَعْنًى غَيْرِهِ، وَنَسَخَهُ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الرَّجْمِ يُنَافِي الْحَبْسَ. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ، قِيلَ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُوبَ الْمِيرَاثِ لَمْ يَكُنْ يُنَافِي بَقَاءَ الْوَصِيَّةِ فَيَسْتَحِقُّهَا جَمِيعًا مَعًا، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا نُسِخَتْ الْوَصِيَّةُ وَأَوْجَبَ عَقِيبَهَا الْمِيرَاثَ، قِيلَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِهِ. وَلَوْ خُلِّينَا وَالْآيَتَيْنِ لَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا جَمِيعًا، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ ثُمَّ نُسِخَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ» وَأَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ نَسَخَتْ كُلَّ ذَبِيحَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَهَا، وَأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» مَنْسُوخٌ بِإِيجَابِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلِمْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُنْسَخْ بِالْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ بَعْدَهَا، فَإِنَّ مَنْ سَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا فَإِنَّمَا سَمَّاهُ (بِهِ) مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ لَمَّا نُسِخَ الْأَوَّلُ وَجَبَ الثَّانِي عَقِيبَهُ وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ وَاقِعًا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا كُلُّ حُكْمَيْنِ لَا يَصِحُّ مَجِيءُ التَّعَبُّدِ بِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ} [المائدة: 42] مَتَى اسْتَقَرَّ هَذَا الْحُكْمُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، إذْ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ خَيَّرْتُك بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْإِعْرَاضِ وَمَعَ ذَلِكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ إعْرَاضٍ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاقَضُ بِهِ وَيَسْتَحِيلُ مَعْنَاهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَنَعْنَا أَنْ يَعْتَرِضَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] لِأَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ التَّخْيِيرَ فِي الْمَفْرُوضِ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَإِذَا حُمِلَ مَعْنَى التَّخْيِيرِ عَلَى تَعْيِينِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْجَبَ إسْقَاطَ التَّخْيِيرِ الَّذِي فِي الْآيَةِ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ. وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65] فَأَوْجَبَ عَلَى الْعِشْرِينَ مُقَاوَمَةَ الْمِائَتَيْنِ وَعَلَى الْمِائَةِ مُقَاوَمَةَ الْأَلْفِ وَحَظَرَ عَلَيْهِمْ الْفِرَارَ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] فَصَارَ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَثَبَتَ نَسْخُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قُلْنَا: إنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ (يُوجِبُ نَسْخُهُ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ، وَكَذَلِكَ النَّصُّ إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 الزِّيَادَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ مَعَ النَّصِّ وَاسْتِقْرَارِ) حُكْمِهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ (لِاسْتِحَالَةِ) جَمْعِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] اقْتَضَى ظَاهِرُهُ وَحَقِيقَتُهُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ بِغَسْلِهَا دُونَ وُجُودِ النِّيَّةِ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي غَسْلِهَا فَإِنْ لَمْ تَنْوُوا بِهِ الطَّهَارَةَ لَمْ تُجْزِكُمْ صَلَاتُكُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الْآيَةُ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ مَعَ اسْتِعْمَالِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: (قَدْ) أَوْجَبْت عَلَيْكُمْ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدَيْنِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَجَزْت لَكُمْ مَعَ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاقَضُ وَيَسْتَحِيلُ مَعْنَاهُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمِائَةُ حَدَّهُمَا (وَأَنَّ وُجُودَهُمَا) يُوجِبُ وُقُوعَهَا مَوْقِعَ الْجَوَازِ وَاسْتِيفَاءُ كَمَالِ الْحَدِّ بِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ: هَذَا بَعْضُ الْحَدِّ دُونَ جَمِيعِهِ وَأَنَّ كَمَالَهُ بِوُجُودِ النَّفْيِ مَعَهُ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فَلَمَّا امْتَنَعَ وُجُودُهُمَا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُوجِبًا لِنَسْخِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُرُودِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ فِي كَوْنِهَا نَاسِخًا لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ الْمَعْقُودِ بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ، وَبَيْنَ وُرُودِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ وُرُودِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا، فَأَمَّا وُرُودُ النَّصِّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَاقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى ذِكْرِ الْجَلْدِ دُونَ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ، وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذِكْرُ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ مَعَ الْجَلْدِ فِي حَالِ وُجُودِ الْإِحْصَانِ أَوْ عَدَمِهِ بِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» وَبِهِ نُسِخَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى لِأَنَّ هَذَا السَّبِيلَ هُوَ السَّبِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] لَمْ يَكُنْ نَزَلَ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ لَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 كَانَ نَزَلَ لَكَانَ السَّبِيلُ قَدْ جُعِلَ لَهُنَّ قَبْلَ قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ السَّبِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَأْخُوذٌ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ عُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ قَبْلَهُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ بَعْدَهُ مُنْفَرِدَةً عَنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا فَيَكُونُ الْجَلْدُ الْمَذْكُورُ فِيهَا (هُوَ) كَمَالُ الْحَدِّ وَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّفْيِ وَالرَّجْمِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْخَبَرِ حَدًّا مَعَ الْجَلْدِ. فَإِنْ (قَالَ قَائِلٌ) قَدْ قُلْت فِيمَا سَلَفَ: إنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِهِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ ذِكْرِهِ مَعَ الْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ مَعَ الْأَصْلِ مِمَّا يَصِحُّ وُجُودُهُ مَعَهُ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا (إلَى هَاهُنَا) مِنْ حُكْمِ أَحْكَامِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ نَفْيٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ اعْتِبَارِ جَوَازِ النَّسْخِ فِي الْأَصْلِ بَلْ هُمَا جَمِيعًا صَحِيحَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ مَا (لَا) يَصِحُّ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يَكُونَ مَأْمُورًا بِاعْتِقَادِ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ وَمَأْمُورًا أَيْضًا فِي تِلْكَ الْحَالِ بِاعْتِقَادِهِ عَلَى خِلَافِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَلْزَمُهُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ، لَا يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْآيَةَ إذَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِكَوْنِ الْحَدِّ (جَلْدَ مِائَةٍ فَقَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ كَوْنِهِ) حَدًّا كَامِلًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: فَاعْتَقِدُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَيْضًا أَنَّ جَلْدَ الْمِائَةِ هُوَ بَعْضُ الْحَدِّ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ بَعْضَ الْحَدِّ وَهُوَ جَمِيعُهُ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةٌ، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، فَلَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِاعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُدَّتَيْنِ عِدَّةً كَامِلَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا مَا قُلْنَا فِي اعْتِبَارِ جَوَازِ النَّسْخِ بِاجْتِمَاعِ ذِكْرِ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْرَيْنِ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُدَّةِ الْآخَرِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَكَانَ نَاسِخًا لِمَا عَدَا هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ الْحَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ بِأَنْ نَتَعَبَّدَ بِهِمَا فِي حَالَيْنِ بِجَوَازِ أَنْ تَقُولَ: عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَوْلٌ إلَى أَنْ يَمْضِيَ خَمْسُ سِنِينَ فَإِذَا مَضَتْ السُّنُونَ الْخَمْسُ كَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا (زَوْجُهَا) أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ لَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرْت مِنْ إيجَابِهَا النَّسْخَ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْجَلْدُ وَالنَّفْيُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا، وَأَنَّ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَرْضٌ مَعَ إحْضَارِ النِّيَّةِ لَهُ وَلَا يَتَنَاقَضُ الْخِطَابُ بِهِ، فَلَيْسَ (فِي) وُرُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ مَا يُوجِبُ النَّسْخَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مُحَالٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُمَا إذَا وَرَدَا مَعًا لَا يَكُونَانِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَذْكُورُ جَمِيعَ النَّصِّ، لِأَنَّ مَا جَمَعَهُ أَمْرٌ وَاحِدٌ (وَخِطَابٌ وَاحِدٌ) لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَهُ زِيَادَةٌ فِي بَعْضٍ وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ، (أَنْ يَرِدَ النَّصُّ مُفْرَدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ تَرِدُ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً عَنْ خِطَابِ النَّصِّ) نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَتَكُونُ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ حَدًّا وَاقِعًا مَوْقِعَ الْجَوَازِ فِي عِقَابِ الزَّانِي، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَاجْلِدُوهُمْ مِائَةَ (جَلْدَةٍ) وَانْفُوهُمْ فَقَدْ تَغَيَّرَ بِوُرُودِ الزِّيَادَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اعْتِقَادُ مُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ فَكُلُّ مَا وَرَدَ بَعْدَهُ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةً فِيهِ أَوْ نُقْصَانًا مِنْهُ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ نَسْخٌ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ الْخِطَابِ (بِهِ) فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَقُولُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 جَلْدُ الْمِائَةِ هُوَ جَمِيعُ الْحَدِّ وَهُوَ بَعْضُهُ، فَأَمَّا أَنْ يَرِدَا مَعًا فَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَا يَكُونُ زِيَادَةً، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةً وَيَكُونُ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرُ دَاخِلَةً فِيهَا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ: الْعِدَّةُ سَنَةٌ وَالْعِدَّةُ أَرْبَعَةٌ وَعَشْرٌ، وَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ نَقُولَ: صَلُّوا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَإِلَى الْكَعْبَةِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ نَقُولَ صَلُّوا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلُّوا إلَى الْكَعْبَةِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ. وَمَتَى اسْتَقَرَّ أَحَدُهُمَا ثُمَّ وَرَدَ الْآخَرُ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ (هَاهُنَا) فِي النَّصِّ (هِيَ) عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ فِي الزِّيَادَةِ (كَمَا يَقُولُ مُخَالِفُنَا مَعَنَا فِي النُّقْصَانِ: فَلَمَّا كَانَ النُّقْصَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِيِّ نَسْخًا كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ) وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: الْعِدَّةُ سَنَةٌ، ثُمَّ يَقُولُ: الْعِدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا، وَلَوْ جَمَعَهُمَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ بِأَنْ قَالَ: الْعِدَّةُ سَنَةٌ إلَّا (كَذَا وَكَذَا وَشَهْرًا) لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ إذَا وَرَدَتْ مَعَ النَّصِّ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ النَّصِّ كَانَ نَسْخًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ النَّصِّ، فَأَمَّا إذَا أُورِدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ (وَوَرَدَتْ الزِّيَادَةُ) وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُمَا فَإِنَّ هَذَا لَهُ شَرِيطَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ، وَسَنَذْكُرُهَا أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. [الْوُجُوهَ الَّتِي تُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ وُجُودِ النَّسْخِ. وَنُبَيِّنُ الْآنَ الْوُجُوهَ الَّتِي تُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ بِهَا. فَنَقُولُ: إنَّ مَا يُعْلَمُ بِهِ النَّسْخُ عَلَى وُجُوهٍ، مِنْهَا أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا مَعَ ذِكْرِ تَارِيخِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ عَلَى سَامِعِهِمَا أَنَّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا فِي التَّارِيخِ نَاسِخٌ (لِلْأَوَّلِ) نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ غَيْرِهَا ثُمَّ حُوِّلُوا إلَيْهَا وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا ثُمَّ قَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَدَلَّ ذِكْرُهُ لِلتَّخْفِيفِ أَنَّهُ وَارِدٌ بَعْدَ حُكْمٍ هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ فَصَارَ نَاسِخًا لَهُ، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] يَعْنِي فَخَفَّفَ عَنْكُمْ وَهَذَا بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2] ثُمَّ قَالَ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَاقْتَضَتْ الْقِصَّةُ بِفَحْوَاهَا وَمَضْمُونِ خِطَابِهَا أَنَّ فَرْضَ صَلَاةِ اللَّيْلِ مَنْسُوخٌ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ إبَاحَةِ تَرْكِهَا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - سَهَّلَ عَلَيْكُمْ وَخَفَّفَ عَنْكُمْ، فَدَلَّ عَلَى نَسْخِ حَظْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ذِكْرَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ. وَالسُّنَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ، قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِعْلٌ، وَقَدْ يَقَعُ النَّسْخُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَأَمَّا النَّسْخُ بِالسُّنَّةِ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ فَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» ، وَ «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَوْعِيَةِ، فَاشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا» ، وَ «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا» فَانْتَظَمَ الْخَبَرُ ذِكْرَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وَكَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ مَالِي وَلِلْكِلَابِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ» . وَقَالَ جَابِرٌ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ أَذِنَ لِطَوَائِفَ» فَهَذِهِ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ مِمَّا نُقِلَ إلَيْنَا فِيهِ حُكْمُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَكُلُّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ فَلَا إشْكَالَ عَلَى أَحَدٍ فِي حُكْمِهِ. وَأَمَّا النَّسْخُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ فَنَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ. فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» ثُمَّ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أُتِيَ بِشَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ» وَمِثْلُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 أَكَلَ لَحْمًا وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» نُسِخَ بِهِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» . [مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يُوجِبُ النَّسْخَ مِنْ جِهَةِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَأَخُّرِ حُكْمِهَا عَنْ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ] وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يُوجِبُ النَّسْخَ مِنْ جِهَةِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَأَخُّرِ حُكْمِهَا عَنْ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ مَذْكُورًا مَعَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، فَمَنَعَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ إلَّا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَةٌ " مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْفِدَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ رَضَخَ رَأْسَ يَهُودِيٍّ قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 لَهَا» «وَأَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَ الْعُرَنِيِّينَ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رَاعِيَ الْإِبِلِ وَسَاقُوهَا» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَشْعَرَ الْبُدْنَ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ» ، وَقَالَ سَمُرَةُ (بْنُ جُنْدَبٍ) «مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا وَأَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ» فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ النَّهْيِ عَنْهَا فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِسَمْلِ أَعْيُنِ الْمُحَارَبِينَ وَرَضْخِ الرَّأْسِ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَإِشْعَارِ الْبُدْنِ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُثْلَةِ. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَجِيرِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ قَالَ: أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» فَأَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 كَانَ مُتَأَخِّرًا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى خَبَرِ خَبَّابٍ «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا» لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ كَانَ مُتَأَخِّرًا. وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْخِيرِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ وُجُوبِ الْقَوَدِ مُتَقَدِّمٌ لِهَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْقَوَدِ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وُجُوبِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] عَلَى إيجَابِ الْقَوَدِ بِكُلِّ مَا قُتِلَ بِهِ لِأَنَّ إيجَابَ الْقَوَدِ بِالسَّيْفِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فَهُوَ قَاضٍ عَلَيْهِ. وَنَحْوُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً» فَلَمْ يَذْكُرْ خَطَأَ الْعَمْدِ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ «فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ حِينَ رَآهَا مَيِّتَةٌ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَقَالُوا إنَّهَا مَيِّتَةٌ» فَدَلَّ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ كَانَ مُقَدَّمًا لِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «إنَّمَا الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إيجَابُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا الْخَبَرِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. [إخْبَارُ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ عَنْ تَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ عِيَارًا فِي وُجُوهِ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ] وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ إخْبَارُ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ عَنْ تَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ (عِيَارًا فِي) هَذَا الْبَابُ، فَيُوجَبُ بِهِ النَّسْخُ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] (نَزَلَ) بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ، وَنَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الرَّضْعَةَ الرَّضْعَتَانِ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَلَا فَأَخْبَرَ عَنْ تَقَدُّمِ عِلْمِهِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ، وَإِنْ (كَانَ) حُكْمُهُ غَيْرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 ثَابِتٍ الْآنَ فَصَارَ ذَلِكَ إخْبَارًا مِنْهُ بِنَسْخِهِ وَتَارِيخِ حُكْمِهِ. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَتْ هَاجَرَتْ وَبَقِيَ هُوَ مُشْرِكًا ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا بَعْدَ سِنِينَ» . قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ. " وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: (إنَّمَا) كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ اسْتَحْكَمَتْ الْفَرَائِضُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إذَا أُخْبِرَا بِنَسْخِ حُكْمٍ كَانَ خَبَرُهُمَا مَقْبُولًا فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّارِيخِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ. (اجْتِهَادِ الرَّأْيِ) وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقِلَّ (ذَلِكَ) إلَّا مِنْ جِهَةِ (التَّوْقِيفِ) . فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا أَوْصَلَ إلَى الْعِلْمِ بِتَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ، إمَّا بِذِكْرِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا مَعَ ذِكْرِ تَارِيخِهِمَا، أَوْ بِذِكْرِ النَّاسِخِ وَتَارِيخِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمَنْسُوخِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ فَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلَالَتِهِ. [الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ] وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ فَقَدْ ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَالنَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ لِلْآخَرِ، فَاسْتَدَلَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَسْنَا نَقُولُ إنَّ الْإِجْمَاعَ يُوجِبُ النَّسْخَ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لِمَنْ كَانَ فِي حَضْرَتِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، إلَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا حَصَلَ عَلَى زَوَالِ حُكْمٍ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ دَلَّنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَوْقِيفٍ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا اللَّفْظُ النَّاسِخُ لَهُ. فَمِمَّا دَلَّنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُ هَذَا الْحُكْمِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ. وَنَحْوُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمِنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» ، وَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ «فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا وَهِيَ لَهُ، وَإِنْ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا» وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَذِنَتْ لَهُ جُلِدَ مِائَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَإِنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَتُهُ أَذِنَتْ لَهُ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ» . فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا إلَّا بِدَلَالَةِ) الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ. [اعْتِبَارُ دَلَائِلِ النَّظَرِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْحُكْمَيْنِ] وَأَمَّا اعْتِبَارُ دَلَائِلِ النَّظَرِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْحُكْمَيْنِ فَإِنَّمَا يَجِبُ فِيمَا لَا يُعْرَفُ تَارِيخُهُ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّا، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى شَوَاهِدِ الْأُصُولِ وَدَلَائِلِ النَّظَرِ فَيَثْبُتُ مِنْهُ مَا أَثْبَتَهُ وَيَنْتَفِي (مِنْهُ) مَا نَفَتْهُ وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْمَعْنَى جُمْلَةً يُعْرَفُ بِهَا عَامَّةُ هَذَا الْبَابِ مِنْ فَهْمِ مَعَانِي كَلَامِهِ. قَالَ عِيسَى: إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَالنَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا وَاسْتِعْمَالُ أَشْبَهِهِمَا بِالْأُصُولِ، وَإِنْ عُلِمَ تَارِيخُهُمَا فَالْآخَرُ نَاسِخُ الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْمُوَافَقَةَ وَإِنْ احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ، سَاغَ الِاجْتِهَادُ (فِيهِ) . وَإِنْ عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ خَامِلٌ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الشَّاذُّ نَظَرُهُ، فَإِنْ سَوَّغَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ كَانَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَمَا عَرَفُوا الْأَوَّلَ وَلَظَهَرَ النَّسْخُ مِنْهُمْ كَمَا ظَهَرَ الْفَرْضُ الْأَوَّلُ، حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْهُ إلَّا الْقَلِيلُ. أَلَا تَرَى أَنَّ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ قَدْ ظَهَرَتْ الْإِبَاحَةُ فِيهَا كَمَا ظَهَرَ الْحَظْرُ، وَكَذَلِكَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ، وَإِبَاحَةُ الظُّرُوفِ، وَمُتْعَةُ النِّسَاءِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أَمَّا قَوْلُهُ) أَمَّا إذَا كَانَ النَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ، فَإِنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ صِحَّةُ (حُجَّةِ) الْإِجْمَاعِ، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ فَوَاجِبٌ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وَإِنْ وُجِدَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَاسْتَحَالَ ثُبُوتُ مَا يُضَادُّهُ مِنْ الْحُكْمِ فِي حَالِ ثُبُوتِهِ ثَبَتَ هُوَ وَانْتَفَى مَا يُضَادُّهُ، وَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ مَنْسُوخٌ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إذَا اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ وَاسْتُعْمِلَ أَشْبَهُهُمَا بِالْأُصُولِ، فَإِنَّ مُرَادَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا وَجِهَاتُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، وَأَنَا ذَاكِرٌ مِنْهَا طَرَفًا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى جُمْلَةِ الْقَوْلِ فِيهِ. [الدَّلِيلَ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ] فَنَقُولُ قَبْلَ أَنْ نَشْرَعَ فِي ذِكْرِ جِهَاتِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ: إنَّ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِنْهُمَا (عَلَى) أَنَّ اخْتِلَافَ النَّاسِخِ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَحْتَمِلَانِ غَيْرَ النَّسْخِ يُجْعَلُ الْحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى سَائِرِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي (قَدْ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِ (حُكْمِ) أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ اعْتِبَارَ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ الَّذِي تُعَضِّدُهُ الْأُصُولُ مِنْهَا أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ، كَحُكْمِ الْحَادِثَةِ إذَا عَاضَدَتْهُ دَلَائِلُ الْأُصُولِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَضَادَّتْ أَحْكَامُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَسْقُطَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فَيُجْعَلُ الْحُكْمُ مَوْقُوفًا عَلَى شَوَاهِدِ الْأُصُولِ فَمَا دَلَّتْ الْأُصُولُ عَلَى ثَبَاتِهِ مِنْ الْحُكْمَيْنِ فَهُوَ الثَّابِتُ دُونَ الْآخَرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حُكْمًا (يُوجِبُهُ الْأَثَرُ) وَدَلَائِلُ الْأُصُولِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِنْ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِإِيجَابِهِ الْأَثَرُ دُونَ (دَلَائِلِ) الْأُصُولِ. فَدَلَّ جَمِيعُ مَا وَصَفْنَا عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْخَبَرَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إنْ عَلِمَ تَارِيخَهُمَا فَالْآخَرُ أَوْلَى إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْمُوَافَقَةَ، فَمِنْ قِبَلِ أَنَّ الْآخَرَ ثَابِتُ الْحُكْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ مَا يُزِيلُهُ، وَفِي (ثُبُوتِهِ نَفْيُ الْأَوَّلِ لِتَضَادِّهِمَا) وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنْ احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ، فَلِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ النَّسْخَ وَاحْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا الْحُكْمِ بِالْمُوَافَقَةِ أَيْضًا بِالِاحْتِمَالِ، إذْ لَيْسَ أَحَدُ (وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ) بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَصَارَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِالْأُصُولِ عَلَى ثُبُوتِهِمَا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ أَوْ إثْبَاتُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا بِإِثْبَاتِ النَّسْخِ. فَإِنْ قَالَ (قَائِلٌ) : هَلَّا حَكَمْت بِالْمُوَافَقَةِ دُونَ النَّسْخِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْأُصُولِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ حُكْمُهُ ثَابِتٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُزِيلُهُ، فَإِذَا اُحْتُمِلَ كَوْنُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَاحْتُمِلَ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لَهُ، لَمْ يَزُلْ عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَّا بِيَقِينٍ وَلَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ بِالشَّكِّ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ هَاهُنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ (أَنَّ) الْخَبَرَ (الثَّانِيَ) إذَا كَانَ حُكْمُهُ مُنَافِيًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ فَإِذَا احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ صَارَ بَقَاءُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَصَارَ إيجَابُ النَّسْخِ مَشْكُوكًا فِيهِ أَيْضًا، فَلَمَّا تَطَرَّقَ الشَّكُّ عَلَى الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا احْتَجْنَا إلَى اعْتِبَارِهِمَا بِالْأُصُولِ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ لِأَحَدِ الْحَكَمِينَ دُونَ الْآخَرِ كَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ حُمِلَ الثَّانِي عَلَى مُوَافَقَتِهِ، وَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَانَ الْخَبَرُ الثَّانِي ثَابِتَ الْحُكْمِ وَكَانَ الْأَوَّلُ مَحْمُولًا عَلَى مُوَافَقَةِ الثَّانِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنْ عَمِلَ النَّاسُ (بِالْأَوَّلِ) وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي يَدِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ خَامِلٌ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الشَّاذُّ نَظَرُهُ، فَإِنْ سَوَّغَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ، سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ، كَانَ مَا (عَمِلَ بِهِ) النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّ عَمَلَهُمْ بِالْأَوَّلِ مَعَ تَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالثَّانِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ اسْتِعْمَالِ حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاجْتِهَادُ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْآخَرُ عِنْدَهُمْ نَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَلَظَهَرَ النَّكِيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 مِنْهُمْ) عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالْأَوَّلِ، فَكَانَ فِي تَرْكِ بَعْضِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ دُونَ الْآخَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ كَانَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ، فَلِأَنَّهُمْ إذَا عَابُوا عَلَى الْآخَرِينَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ أَبَانُوا عَنْ نَسْخِ الْآخَرِ وَأَفْصَحُوا بِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَكَانَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ سَائِغًا عِنْدَهُمْ، وَمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَا يَسَعُ بَعْضَهُمْ إظْهَارُ النَّكِيرِ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ، فَدَلَّ ظُهُورُ النَّكِيرِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِينَ فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُمْ ثَابِتٌ (عِنْدَهُمْ) غَيْرُ مَنْسُوخٍ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِخْبَارِ مِنْهُمْ بِأَنَّ الثَّابِتَ هُوَ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ دُونَ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ نَسْخَ الْأَوَّلِ (لَوْ كَانَ) ثَابِتًا لَعَرَفُوهُ كَمَا عَرَفُوا الْأَوَّلَ وَلَظَهَرَ النَّسْخُ فِيهِمْ كَمَا ظَهَرَ الْأَوَّلُ حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْ عِلْمِهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، كَالنَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالشُّرْبِ فِي الظُّرُوفِ وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ الْأَوَّلُ نَاسِخًا لِلْآخَرِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّ الْأَوَّلَ نَاسِخٌ لِلْآخَرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ الْحُكْمِ دُونَ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْآخَرَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنًى لَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ، أَوْ يَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْأَوَّلِ (وَلَكِنْ) بِمَعْنًى آخَرَ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا كَمَا قُلْنَا فِيمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى مِنْ أَنَّ نَسْخَ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَظَهَرَ فِيهِمْ كَظُهُورِ الْحُكْمِ (الْأَوَّلِ) صَحِيحٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ وَانْتَشَرَ فِي الْكَافَّةِ ثُمَّ أَحْدَثَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَسْخًا فَلَا بُدَّ (مِنْ) أَنْ يُظْهِرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْكَافَّةِ حَتَّى يَعْرِفُوهُ كَمَا كَانُوا عَرَفُوا الْمَنْسُوخَ قَبْلَ نَسْخِهِ، لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُعْتَقِدُونَ لِبَقَائِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 عَلَيْهِمْ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ ثُبُوتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مَعَ إيجَابِ نَسْخِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ إقْرَارُهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ الشَّيْءِ (عَلَى خِلَافِ) مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَكَانَ فِيهِ أَيْضًا تَرْكُ الْإِبْلَاغِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك} [المائدة: 67] وقَوْله تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُسَارَعَةً إلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إظْهَارُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِمَّنْ عَرَفَ (الْحُكْمَ) الْمَنْسُوخَ بَدْءًا، وَمَتَى أَظْهَرَهُ فِيهِمْ نَقَلُوهُ كَمَا نَقَلُوا الْأَوَّلَ، وَلَوْ نَقَلُوهُ لَاسْتَفَاضَ فِيهِمْ وَظَهَرَ كَظُهُورِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ الْحُكْمُ الْآخَرُ إلَّا الشَّاذُّ مِنْهُمْ وَثَبَتَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ ثَابِتًا غَيْرَ (مَرْفُوعٍ بِالشَّاذِّ) الَّذِي لَا يُوَازِيهِ فِي النَّقْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ مَاسَّةً ثُمَّ عُرِفَ الْأَوَّلُ، فَالْوَاجِبُ تَوْقِيفُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامُهُمْ إيَّاهُ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ النَّاسِخُ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهَا، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا نَقْلُ الْكَافَّةِ، وَلَا يُلْتَفَتُ (فِيهِ) إلَى نَقْلِ الشَّاذِّ، فَيَصِيرُ الْحُكْمُ (بِالْآخَرِ) حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ، وَصَارَ الْأَوَّلُ ثَابِتًا غَيْرَ مُعَارَضٍ بِالْآخَرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (حُكْمُ) الْآيَتَيْنِ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْأَخْبَارِ (فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ) مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَمَلَ النَّاسِ بِأَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْآخَرِ وَوَهَانَتِهِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ أَوْ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 إغْفَالِ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِبَعْضِ مَعَانِيهِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فَيَصِيرُ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ كَالْمَنْقُولِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ، وَالْآخَرُ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْآيَتَانِ فَجَوَازُ وُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِمَا مَأْمُونٌ (مِنْهُمَا) . قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ عِيسَى لَمْ يُفَرِّقْ (مَا) بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا وَرَدَا مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ، وَبَيْنَهُمَا إذَا وَرَدَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ مَا ذَكَرْت، وَعَلَى أَنَّهُ لَمَّا اُعْتُبِرَ ظُهُورُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ أَنَّهُ نَاسِخٌ كَظُهُورِ الْمَنْسُوخِ كَانَ عِنْدَهُمْ بَدْءًا، وَجَبَ أَلَّا يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ نَقْلَ النَّاسِخِ مِنْهُمَا أَنَّهُ نَاسِخٌ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ كَذَلِكَ كَنَقْلِ لَفْظِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُ مَوْكُولٌ إلَى الِاجْتِهَادِ وَاعْتِبَارِ الْأُصُولِ. [طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِنْ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادِّينَ مِنْ جِهَةِ الْأُصُولِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَمَّا طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِنْهُمَا مِنْ جِهَةِ الْأُصُولِ، فَعَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ يَتَعَذَّرُ وَصْفُ جَمِيعِهَا وَلَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا جُمَلًا يُعْتَبَرُ بِهَا نَظَائِرُهَا وَتَدُلُّ عَلَى أَمْثَالِهَا. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: (إنَّ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا وَجَازَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِالْآخَرِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ثُمَّ وَرَدَ فِيهِ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ، وَالْآخَرُ الْحَظْرَ فَحُكْمُ الْحَظْرِ أَوْلَى وَيَصِيرُ خَبَرُ الْحَظْرِ رَافِعًا لِلْإِبَاحَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَمِّي ذَلِكَ نَسْخًا إذَا لَمْ تَكُنْ الْإِبَاحَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ثَابِتَةً مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ. وَلَيْسَ غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَلَامَ فِي أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى نَسْخًا أَوْ لَا يُسَمَّى، لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُنَا فِي الْمَعْنَى وَفِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَزَوَالِهِ، وَفِي أَنَّ أَيَّ الْخَبَرَيْنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَى الْآخَرِ وَمُزِيلًا لِحُكْمِهِ. فَنَقُولُ: إنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا وُرُودَ النَّقْلِ عَنْ الْإِبَاحَةِ الَّتِي كَانَ (الْأَصْلُ) بِخَبَرِ الْحَظْرِ، وَالْخَبَرُ الْمُبِيحُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ مُؤَكِّدًا لِلْإِبَاحَةِ الَّتِي كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ مِنْ طَرِيقِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ، إذْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ مِنْهُ مَا يَفُوقُ الْإِحْصَاءَ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وقَوْله تَعَالَى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 رِزْقِهِ} [الملك: 15] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ مُؤَكِّدًا لَمَا كَانَ (فِي) الْعَقْلِ مِنْهَا، وَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ طَارِئًا لَا مَحَالَةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَنَاقِلًا عَنْهَا إلَى الْحَظْرِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْحَظْرِ ثَابِتًا، وَأَلَّا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْإِبَاحَةِ إنْ لَمْ نَتَيَقَّنْ وُرُودَهُ عَلَى الْحَظْرِ وَنَاقِلًا عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا الِاعْتِبَارِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، حِينَ سُئِلَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَ: " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى " فَأَثْبَتَ حُكْمَ الْحَظْرِ عِنْدَ تَعَارُضِ مُوجِبِ الْآيَتَيْنِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ كَانَ يَقُولُهَا شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ نَحْوُ خَبَرِ جَرْهَدٍ الْأَسْلَمِيِّ وَمَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ أَمَرَ بِتَغْطِيَةِ الْفَخِذِ وَقَالَ: إنَّهَا عَوْرَةٌ» . وَمَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَخِذُهُ مَكْشُوفٌ فَلَمْ يُغَطِّهَا، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَغَطَّاهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» فَاقْتَضَى هَذَا الْخَبَرُ إبَاحَةَ كَشْفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 الْفَخِذِ، وَاقْتَضَى (خَبَرُ) جَرْهَدٍ وَمَعْمَرٍ حَظْرَ كَشْفِهِمَا فَصَارَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَبَاحَهُ» فَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى لِمَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلَّا وَقَفْت حُكْمَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ، لِأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ وَإِنْ كَانَ يَقِينًا فِي وُرُودِهِ عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ بَقَاءَهُ مَعَ وُرُودِ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِيَقِينٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ (وَارِدًا) بَعْدَ الْحَظْرِ فَيَكُونُ رَافِعًا لَهُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِيهِمَا (فَقَدْ) وَقَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ، فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يُجْعَلَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا، فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْمُقَدَّمَةِ (أَوْ يُوقَفُ) حُكْمُهُ، وَيُطْلَبُ حُكْمُ حَظْرِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ مِنْ وَجْهِ غَيْرِهِمَا. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا عَلِمْنَا وُرُودَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَثُبُوتَ حُكْمِهِ بَعْدَهُ لَمْ يُجِزْ لَنَا الْحُكْمُ بِزَوَالِهِ إلَّا بِيَقِينٍ، لِأَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ لَوْ كَانَ مُتَأَخِّرًا (عَنْ الْحَظْرِ) يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَنْقُلَ الْجَمِيعُ تَارِيخَ الْإِبَاحَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَظْرَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا قُلْنَا فِي خَبَرِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا، وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ وَنَظَائِرِهَا: فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلُوا تَارِيخَ الْإِبَاحَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ عَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ وَارِدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ فِيهِ قَبْلَ وُرُودِ حَظْرِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَا كَانَ أَصْلُهُ الْإِبَاحَةَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، ثُمَّ أَقَرَّ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّاسَ عَلَيْهِ وَتَرَكَ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ فِي إتْيَانِهِمْ إيَّاهُ (عَلَى) وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِإِبَاحَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مَا كَانَ أَصْلُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْقَضَاءِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ عَلَيْهِ وَإِزَالَتِهِ عَنْ حُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. كَذَلِكَ وُرُودُ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ مَعَ خَبَرِ الْحَظْرِ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّاسَ عَنْ إبَاحَةِ شَيْءٍ (مِنْ) إزَالَتِهِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ تَقْضِي بِخَبَرِ إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ عَلَى الْخَبَرِ النَّافِي لَهُ، لِأَنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَخَبَرُ الْإِيجَابِ نَاقِلٌ عَنْهُ، فَوَجَبَ حَظْرُ الصَّلَاةِ قَبْلَ إحْدَاثِ الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْمَسِّ. قِيلَ لَهُ: لَا يَلْزَمُنَا ذَلِكَ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ (لَوْ) انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ خَبَرِ النَّفْيِ لَمَا لَزِمَنَا قَبُولُهُ عَلَى أَصْلِنَا، لِأَنَّهُ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الِاعْتِبَارَ الَّذِي وَصَفْنَا فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا تَوَازَيَا وَتَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ وَوَجْهِ الِاسْتِعْمَالِ، فَأَمَّا إذَا كَانَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَهُمَا حُكْمٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنْ نَقُولَ: لَوْ عَلِمْنَا شَيْئًا كَانَ أَصْلُهُ الْحَظْرَ، ثُمَّ وَرَدَ خَبَرٌ يُبِيحُهُ وَخَبَرٌ يَحْظُرُهُ (يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ) أَوْلَى، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ طَارِئَةٌ عَلَى الْحَظْرِ لَا مَحَالَةَ، وَالْحَظْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ وُرُودِ إبَاحَتِهِ، فَخَبَرُ الْإِبَاحَةِ نَاقِلٌ عَنْ الْحَظْرِ فَلَا يُعْلَمُ خَبَرُ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَيْهَا نَاقِلًا عَنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى مَا لَمْ تَعُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى وُرُودِ خَبَرِ الْحَظْرِ بَعْدَ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ. وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَيْئًا (فِي هَذَا) الْفَصْلِ الْأَخِيرِ، وَاعْتِلَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ فِي مِثْلِهِ أَوْلَى. لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ وُرُودِهَا عَلَى الْحَظْرِ وَإِزَالَتِهَا (لِحُكْمِهِ يَقِينًا) وَغَيْرُ مَعْلُومٍ وُرُودُ خَبَرِ الْحَظْرِ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ (وَرَدَ تَأْكِيدًا) لِمَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ قَبْلَ وُرُودِ الْإِبَاحَةِ، إلَّا أَنِّي قَدْ سَمِعْته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 يَحْتَجُّ أَيْضًا بِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِ خَبَرِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ إذَا وَرَدَا عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي وَصَفْنَا، بِأَنَّ تَرْكَ الْمُبَاحِ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابُ، وَفِعْلُ الْمَحْظُورِ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابُ، فَالِاحْتِيَاطُ (عِنْدَ الشَّكِّ) اجْتِنَابُهُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي يُعَضِّدُ هَذَا الْحِجَاجَ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَقَالَ: «فَمَنْ تَرَكَهُنَّ كَانَ أَشَدَّ اسْتِبْرَاءً لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْحِجَاجُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي هَذَا الْفَصْلِ يُوجِبُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْحَظْرِ، لِاخْتِلَافِ حَالِ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ فِيهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ، لِأَنَّهُ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِاسْتِعْمَالِ خَبَرِ الْحَظْرِ فِيمَا وَصَفْنَا مَا لَزِمَ مِنْ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ، فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ الْحَظْرَ ثُمَّ وَرَدَ فِيهِ خَبَرَانِ: أَحَدُهُمَا حَاظِرٌ، وَالْآخَرُ مُبِيحٌ، وَتَجْوِيزُ (وُرُودِ) خَبَرِ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ قَائِمٌ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا لَزِمَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ مُوجِبًا لِلْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي اسْتِعْمَالِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ احْتِيَاطٌ، وَلَا أَخْذٌ بِالْحَزْمِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْت، لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ الْحَظْرِ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ، كَمَا حُظِرَ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ الْإِبَاحَةِ فِيمَا هُوَ مَحْظُورٌ، فَمَنْ اعْتَقَدَ الْحَظْرَ فِيمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَهُوَ تَارِكٌ لِلِاحْتِيَاطِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذْ كَانَ مَأْمُورًا بِتَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَأْمَنُهُ مَحْظُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا ثَابِتًا فِي الشَّرِيعَةِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا وَصَفْنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ (إلَى) غَيْرِ هَذَا الْمَذْهَبِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ الْإِبَاحَةَ، ثُمَّ وَرَدَ خَبَرَانِ: حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 تَارِيخَهُمَا، فَقَالَ عِيسَى فِيهِمَا: إذَا عَرِيَا مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ، وَتَسَاوَيَا فِي جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُمَا إذَا تَعَارَضَا وَلَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ سَقَطَا، وَصَارَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا، وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ. وَذَكَرَ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ حَدِيثَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ «أُتِيَ بِنَبِيذٍ فَرَفَعَهُ إلَى فِيهِ فَقَطَّبَ، فَقِيلَ لَهُ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَهُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ «مَنْ خَشِيَ مِنْ شَرَابِهِ فَلْيُكْثِرْهُ بِالْمَاءِ» . وَذُكِرَ أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْحَظْرَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا فِي مِثْلِهِ لَعَرَفَهُ جُلُّ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ الْإِبَاحَةُ، وَلِأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ، وَخَبَرَ الْإِبَاحَةِ لَا يَحْتَمِلُهَا. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ إلَّا وَفِي الْآخَرِ مِثْلُهُ، لَكَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى إحْلَالِهِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ إذَا تَضَادَّ الْخَبَرَانِ، كَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ. وَذَكَرَ أَيْضًا خَبَرَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ (قَالَ) : " لَا وُضُوءَ فِيهِ "، ثُمَّ ذَكَرَ وُجُوهَ التَّرْجِيحِ لِلْخَبَرِ النَّافِي لِلْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا تَضَادُّ الْخَبَرَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ، كَانَ الْخَبَرَانِ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهِ. وَذَكَرَ عِيسَى (بْنُ أَبَانَ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعَثَ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ إلَى الْفَجْرِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَدْ طَلَعَ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اخْتَلَفْتُمَا إذًا (شَذَّا بِي) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ عِيسَى: (فَأَسْقَطَا الْخَبَرَيْنِ) عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَتَرَكَا الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهَذَا الْمَذْهَبُ خِلَافُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لَمَّا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى صَاحِبِهِ فَنَسَخَهُ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَا (جَمِيعًا) إذَا تَسَاوَيَا، كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ (حُكْمُهُ) قَبْلَ وُرُودِهِمَا. وَقَدْ بَيَّنَّا (وَجْهَ مَا) كَانَ يَقُولُهُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ فِي هَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قُلْتُمْ فِي رَجُلٍ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ: إنَّ هَذَا اللَّحْمَ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ، وَهَذَا الشَّرَابَ قَدْ خَالَطَهُ خَمْرٌ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ أَنَّهُ طَاهِرٌ حَلَالٌ. أَوْ كَانَ ذَلِكَ (فِي مَاءٍ) أَرَادَ الْوُضُوءَ بِهِ، وَقَالَ لَهُ أَحَدُ الْمُخْبِرَيْنِ: قَدْ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ طَاهِرٌ، أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ عَلَى آكَدِ ظَنِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَوَتْ الْحَالَانِ عِنْدَهُ، جَازَ لَهُ أَكْلُ ذَلِكَ وَشُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ. وَأَسْقَطْتُمْ الْخَبَرَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَا، وَجَعَلْتُمُوهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ، فَهَلَّا قُلْتُمْ مِثْلَهُ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا رُوِيَا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ، وَدَلَالَةُ الْأُصُولِ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَيَسْقُطَانِ؟ . قِيلَ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَخْبَارَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا جَازَ فِيهَا وُرُودُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ثُمَّ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَقَدْ عَلِمْنَا الْحَظْرَ طَارِئًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا مَحَالَةَ، وَالْإِبَاحَةُ لَوْ وَرَدَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ لَظَهَرَ أَمْرُهَا وَانْتَشَرَ تَارِيخُهَا فِيمَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ لَا مَحَالَةَ يُظْهِرُ الْإِبَاحَةَ لِكَافَّةِ مَنْ عَلِمَ الْحَظْرَ، حَتَّى يَنْتَشِرَ فِيهِمْ وَيَظْهَرَ كَظُهُورِ الْحَظْرِ قَبْلَهَا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ فِي خَبَرِ النَّهْيِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا، وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ وَنَحْوِهَا، فَلَمَّا فَقَدْنَا ذَلِكَ فِيمَا وَصَفْنَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى (أَنَّ خَبَرَ) الْإِبَاحَةِ وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ، وَأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ جِهَةً تُوجِبُ لِخَبَرِ الْحَظْرِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِخَبَرِ الْإِبَاحَةِ، وَتَغْلِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 بِهَا فِي النَّفْسِ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُخْبِرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِنَجَاسَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهِ أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ (فِي الظَّنِّ) صِحَّةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَمِلْنَا عَلَيْهِ وَأَلْغَيْنَا الْآخَرَ، فَالْخَبَرَانِ الْمُتَضَادَّانِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ بِمَنْزِلَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي خَبَرِ أَحَدِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ وَلَا يُشْبِهُ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ (فِي هَذَا الْوَجْهِ تُسَاوِيَ خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ) فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَيَسْقُطَانِ وَيَبْقَى الشَّيْءُ مُبَاحًا عَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ ارْتِفَاعُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ بَعْدَ حُلُولِهَا فِي الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ، فَيَعْتَبِرُ فِيهِ وُرُودَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ وَظُهُورُ أَمْرِهَا لَوْ ثَبَتَ عَلَى حَسَبِ مَا قُلْنَا فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا حَالٌ يَغْلِبُ بِهَا جِهَةَ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ تَسَاوَى الْخَبَرَانِ جَمِيعًا وَسَقَطَا وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا الْحُكْمُ، وَصَارَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا. وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي تَغْلِيبِ جِهَةِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مَا ذَكَرْت، مِنْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَوْ كَانَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ لَظَهَرَ أَمْرُهَا وَانْتَشَرَ تَارِيخُهَا حَتَّى يَعْرِفَهَا عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ الْحَظْرَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ لَظَهَرَ تَارِيخُ الْحَظْرِ عَنْهَا، وَلَعَرَفَهُ عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْإِبَاحَةَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ وُرُودَ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ فِي إيجَابِهِ مَا أَوْجَبَ مِنْ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِنَا بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُبَاحًا عَلَى الْأَصْلِ، وَإِقْرَارُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّاسَ عَلَيْهَا، ثُمَّ لَمْ يَجِبْ إذَا وَرَدَ خَبَرُ الْحَظْرِ عَارِيًّا عَنْ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَفْظًا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ أَوْلَى بَلْ (أَنْ) يَكُونَ الْحَظْرُ أَوْلَى، وَلَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْقُلُوا إلَيْنَا أَنَّ هَذَا الْحَظْرَ كَانَ بَعْدَ إقْرَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّاسَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. كَذَلِكَ إذَا نُقِلَ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنُقِلَ الْحَظْرُ، فَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ وُرُودِ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى نَقْلِ التَّارِيخِ، وَأَمَّا إذَا ثَبَتَ الْحَظْرُ ثُمَّ نَقَلُوا عَنْهُ إلَى الْإِبَاحَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ تَارِيخِهِ وَظُهُورِهِ فِيمَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَعَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَارِدَةٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ، وَأَنَّ الْحَظْرَ وَارِدٌ بَعْدَهَا فَكَانَ أَوْلَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا ذَكَرْت فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَخْبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبَيْنَ خَبَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الْمُخْبِرَيْنِ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، بِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا يَجُوزُ فِيهِ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ تَارَةً وَوُرُودُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أُخْرَى، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي مُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ طَاهِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ نَجَسًا. (فَوَجَبَ تَأْكِيدُ) خَبَرِ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمُ عَلَى خَبَرِ الطَّهَارَةِ وَالتَّحْلِيلُ، لِأَنَّهُ إذَا حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَطْهُرَ بَعْدَهُ، وَمَا حَظَرَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَجُوزُ أَنْ يُبِيحَهُ بَعْدَهُ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، أَنَّ أَحَدَهُمَا يَجُوزُ فِيهَا وُرُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَنَّ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ فِيهَا وُرُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ فَحَسْبُ، دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الشَّرْعِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، لَمَّا جَازَ فِيهَا وُرُودُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ، وَقَدْ عَلِمْنَا صِحَّةَ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَى الْإِبَاحَةِ، امْتَنَعَ وُجُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَهُ، إلَّا مَعَ وُرُودِ تَارِيخِهِمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ مُنْتَشِرًا ظَاهِرًا عِنْدَ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحَظْرُ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ، فَلَمَّا عَدِمْنَا ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ وَارِدٌ (عَلَى الْأَصْلِ) وَأَنَّ خَبَرَ (الْحَظْرِ) بَعْدَهُ (وَ) قُلْنَا: إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، لِامْتِنَاعِ وُرُودِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ، فَلَمْ يَكُنْ هَاهُنَا جِهَةٌ تُوجِبُ كَوْنَ إثْبَاتِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ إثْبَاتِ الطَّهَارَةِ. وَيُبَيِّنُ لَك الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا (أَنَّك لَا تُخَالِفُنَا) فِي صِحَّةِ خَبَرِ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تُرِيدُ إثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ فِعْلٌ طَارِئٌ عَلَى الْحَظْرِ، وَلَا نَقُولُ مِثْلَهُ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، لِأَنَّك تَمْنَعُ إثْبَاتَ الطَّهَارَةِ بَعْدَ النَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا عَارَضْت أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَأَسْقَطَتْهُمَا جَمِيعًا، وَبَقَّيْت الشَّيْءَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ خَبَرِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَبَيْنَ أَخْبَارِ الشَّرْعِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ إنَّمَا (تَنَاوَلَ خَبَرَاهُمَا عَيْنًا وَاحِدَةً أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 بِنَجَاسَتِهَا، وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهَا، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ مُخْبِرِيهِمَا عَلَى مَا (أَخْبَرَا بِهِ) مِنْ حُكْمِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ قَدْ أَوْهَمَ فِي خَبَرِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ (الشَّيْءِ عَلَى) خِلَافِ حَقِيقَةِ حَالِهِ. فَلَمَّا لَمْ يَعْرِفْ الْغَالِطَ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِقَبُولِ خَبَرِهِ، مِنْ الْآخَرِ سَقَطَ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا فَصَارَ وُجُودُ خَبَرَيْهِمَا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ قَادِحًا فِي نَفْسِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ أَخْبَارِ الشَّرْعِ إذَا وَرَدَتْ مُتَعَارِضَةً فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَقْدَحْ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ، وَلَمْ يُوجِبْ كَوْنَهُ مَشْكُوكًا فِيهِ إذْ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَمِنْ جِهَةِ الْآحَادِ، وَإِنَّمَا تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ مِنْ حَيْثُ فَقَدْنَا الْعِلْمَ بِتَارِيخِهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فِي (حُكْمِ) شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ إذَا وَرَدَ (عَلَى مَا) عَلِمْت إبَاحَتَهُ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (النَّاسَ) عَلَيْهَا، أَنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْإِبَاحَةِ وَيَرْفَعُهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعَارُضًا وَلَا تَضَادًّا فِي الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ مَا حُظِرَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَا كَانَ مُبَاحًا، فَلَمْ يُرِدْ الْخَبَرَانِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ (فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ) أَنَّهُ: مَحْظُورٌ مُبَاحٌ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَكَانَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ صَحِيحًا، مَحْكُومٌ بِهِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْحَظْرِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْحَظْرُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَارَضَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا فِي إثْبَاتِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ ثَابِتَانِ، إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِتَقَدُّمِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ، وَأَثْبَتْنَا الْحَظْرَ بَعْدَهَا، فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي تَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ أَيَّهُمَا الْمُتَقَدِّمُ لِصَاحِبِهِ وَأَمَّا الْمُخْبِرَانِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَالٍ يُثْبِتُ صَاحِبُهُ فِيهِ ضِدَّهُ، فَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُمَا إذَا تَسَاوَيَا، وَلَمْ يَجْرِ الْحُكْمُ بِتَأْخِيرِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْحَالِ الَّتِي أَخْبَرَ الْمُخْبِرُ الْآخَرُ مِنْهُمَا بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِالطَّهَارَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ طَاهِرٌ فِي الْحَالِ، وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ ثَابِتُ الْحُكْمِ، وَالْمَخْبَرُ بِالنَّجَاسَةِ يَقُولُ: هُوَ نَجِسٌ فِي الْحَالِ، لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، فَتَنَاوَلَ خَبَرُهُمَا عَيْنًا وَاحِدَةً بِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَتَعَارَضَ مُوجِبُ خَبَرَيْهِمَا عِنْدَ اسْتِوَاءِ حَالِهِمَا، وَسَقَطَا كَأَنْ لَمْ يَرِدَا، وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْإِبَاحَةِ، وَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ عَمْرًا يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ، فَتَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ لِتَضَادِّهِمَا، إذْ قَدْ عَلِمْنَا كَذِبَ أَحَدِهِمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ بِالْمَوْضِعِ (الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شَهَادَتِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي أَثْبَتَ الْآخَرُ كَوْنَهُ بِالْمَوْضِعِ) الْآخَرِ، وَذَلِكَ مُتَنَافٍ مُتَضَادٌّ، لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَوْلَى بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ مِنْ الْآخَرِ، فَسَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا جَمِيعًا. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ السَّائِلِ عَمَّا وَصَفْنَا لَيْسَتْ (مِنْ) تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّاسِخَ لِصَاحِبِهِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِلُ: أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يُخْبِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ بِحَالِ تَضَادِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ صَاحِبَهُ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ فِيهِ إلَى اعْتِبَارٍ آخَرَ، نَحْوُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» وَكَانَ ذَلِكَ تَزْوِيجًا وَاحِدًا، وَنَحْوُ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 رُوِيَ «أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُعْتِقَتْ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا " وَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِيهَا» وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ، وَلَهُ شُرُوطٌ أُخَرُ سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا انْتَهَيْنَا إلَى مَوْضِعِ الْكَلَامِ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 [فَصْلٌ إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ فِي أَحَدِهِمَا إيجَابُ شَيْءٍ وَفِي الْآخَرِ حَظْرٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ] فَصْلٌ مِنْ هَذَا (الْبَابِ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ فِي أَحَدِهِمَا إيجَابُ شَيْءٍ وَفِي الْآخَرِ حَظْرٌ، وَهُمَا مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَا، فَإِنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَبَرِ الْمُبَاحِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ أَوْ مِنْ خَبَرِ الْمَحْظُورِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ مِنْ خَبَرِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ عَلَى حَسَبِ مَجِيءِ السَّمْعِ بِهَا، فَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وُرُودَ الْإِيجَابِ عَلَى الْحَظْرِ وَإِزَالَتَهُ لِحُكْمِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْحَظْرِ وَارِدًا عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، فَالْحُكْمُ فِي مِثْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْنَا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ مِنْ خَبَرِ الْمُبَاحِ، فَلَيْسَ وُرُودُ الْحَظْرِ بِأَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ، بِأَوْلَى مِنْ وُرُودِ خَبَرِ الْإِيجَابِ عَلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَنَا تَارِيخٌ، فَلَيْسَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِأَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْآخَرِ، فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ طَلَبُ الدَّلِيلِ (عَلَى الثَّابِتِ) مِنْ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأُصُولِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُصُولِ مَا يَشْهَدُ لِثُبُوتِ حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْوَاجِبَ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَتَعَارَضَا، وَأَنْ يَسْقُطَا وَيَصِيرَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْوَاجِبَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ طَاعَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَنَا. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ قَدْ أَخْرَجَاهُ مِنْ حَيِّزِ الْإِبَاحَةِ وَأَلْحَقَاهُ بِحُكْمِ الْحَظْرِ أَوْ الْإِيجَابِ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي مِثْلِهِ الْكَفُّ عَنْ الْإِقْدَامِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ فَيَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا يَعْلَمُهُ وَاجِبًا وَلَا مَنْدُوبًا إلَيْهِ فَيَفْعَلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَالِاحْتِيَاطُ بِهِ إذَنْ لَمْ يَثْبُتْ إيجَابُهُ، وَعَلَى أَنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ لَمْ نَجِدْ خَبَرَيْنِ أَحَدَهُمَا يَحْظُرُ وَالْآخَرَ يُوجِبُ، إلَّا وَالدَّلَائِلُ قَائِمَةٌ عَلَى ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، إمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِتَارِيخِهِمَا، أَوْ قِيَامِ دَلَائِلَ مِنْ الْأُصُولِ عَلَى الثَّابِتِ مِنْهُمَا. وَإِنَّمَا تَكَلَّمْنَا عَلَى حَالِ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِمَا وَتَسَاوِيهِمَا فِي مُوجِبِ لَفْظِهِمَا، اسْتَوَيَا فِي الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ حَسَبَ مَا يَقْتَضِيهِ أَقْسَامُ الِاحْتِمَالِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّاسِخِ، أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ مَعَ احْتِمَالِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ، فَيَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النَّاسِخِ مِنْهُمَا، بَعْدَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى نَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ أَحَدِهِمَا، فَيَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَمْ يَتَّفِقْ عَلَى نَسْخِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقَ عَلَى نَسْخِ بَعْضِهِ مَنْسُوخًا بِالْآخِرِ لِدَلَالَةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا فِيهِ قَدْ نُسِخَ بِالْآخَرِ (وَأَنَّ الْآخَرَ قَدْ) صَارَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي وُجُوبِ نَسْخِ بَعْضِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ وَإِذَا سَجَدَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ، وَإِذَا نَهَضَ إلَى الْقِيَامِ» . وَرُوِيَ (عَنْ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى» وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ الرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْهُ، وَإِذَا نَهَضَ إلَى الْقِيَامِ، (فَدَلَّ عَلَى) أَنَّ خَبَرَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُتَقَدِّمٌ لِخَبَرِ التَّرْكِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مَنْسُوخًا بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ هُنَا خَبَرٌ يُوجِبُ نَسْخَ الرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ وَبَعْدَهُ إلَّا الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ تَرْكُ الرَّفْعِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي سَائِرِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّاسِخُ لِلرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ، صَارَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي التَّارِيخِ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْسَخَ الرَّفْعُ عِنْدَ الرُّكُوعِ، إذْ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُهُ فَرْقٌ بَيْنَ الرَّفْعِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَ (عِنْدَ) السُّجُودِ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ» وَرُوِيَ عَنْهُ: «تَرْكُ الْقُنُوتِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ» وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (فَدَلَّ عَلَى) أَنَّ خَبَرَ التَّرْكِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِجَمِيعِهِ إذْ كَانَ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ نَسْخَ بَعْضِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ فِعْلَ الْقُنُوتِ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَمْ يُنْسَخْ بِهَذَا الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَنَا خَبَرٌ غَيْرُهُ يُوجِبُ نَسْخَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّا إذَا (وَجَدْنَا) الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةً عَلَى مَعْنًى مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ، وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حَصَلَ عَنْ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا. وَمِثْلُ مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ: رَكَعَ رُكُوعَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «رَكَعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَجَدَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ: «رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 سَجَدَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «صَلَّى كَهَيْئَةِ صَلَاتِنَا، وَأَنَّهُ قَالَ: صَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا» وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْكَعُ فِي رَكْعَةٍ أَكْثَرَ مِنْ رُكُوعَيْنِ فَصَارَ (مَا زَادَ عَلَى الرُّكُوعَيْنِ مَنْسُوخًا بِخَبَرٍ مَا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا) عَنْ الرُّكُوعَيْنِ أَيْضًا نَاسِخًا لَهُمَا كَنَسْخِهِ لِمَا زَادَ عَلَيْهِمَا وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّسْخِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مُتَّفَقًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَالْآخَرُ مُخْتَلَفًا فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَالْوَاجِبُ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ أَنْ يُقْضَى فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَيَصِيرُ نَاسِخًا (لَهُ) إنْ اقْتَضَى لَفْظُهُ رَفْعَ جَمِيعِهِ وَإِنْ اقْتَضَى رَفْعَ بَعْضِهِ كَانَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الْآيَةُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» فَلَوْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُخَالِفُ لَكَانَتْ الْآيَةُ نَاسِخَةً لَهُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى ثَبَاتِ حُكْمِهَا وَاخْتِلَافِهِمْ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْخَبَرِ، وَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» «وَنَهْيِهِ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الْمُزَابَنَةِ» فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا، " وَخَبَرُ الْخَرْصِ وَالْعَرَايَا " مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا فَهُمَا مَنْسُوخَانِ بِهِمَا، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 [الِاسْتِدْلَال عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْخَبَرَيْنِ بِالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ] وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْخَبَرَيْنِ بِالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ فَنَحْوُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ أَكَلَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . وَرُوِيَ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فَكَانَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ، لِأَنَّا لَمْ نَرَ الْوُضُوءَ فِي السُّنَّةِ الْقَائِمَةِ إلَّا فِي الْأَنْجَاسِ الْخَارِجَةِ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ. وَوَجَدْنَا لِمَسِّ مَا هُوَ أَنَجَسُ مِنْ الذَّكَرِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْوُضُوءُ فَكَانَ الْأَمْرُ (فِيهِ) عِنْدَنَا أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهِ. فَاسْتَدَلَّ عِيسَى بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَمُعَاضَدَةِ الْقِيَامِ لَهُ عَلَى بَيَانِ حُكْمِهِ دُونَ الْآخَرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ: لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَرُوِيَ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «غَطُّوا رُءُوسَ مَوْتَاكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُعْمَلُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ، فَكَانَ النَّظَرُ مُعَاضِدًا لِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَمُنَافِيًا لِخَبَرِ النَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا لَا يُوقَفُ بِهِ بِعَرَفَةَ وَلَا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا يُطَافُ بِهِ وَلَا يُفْعَلُ بِهِ سَائِرُ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ، فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إحْرَامِهِ، وَعَلَى أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ عَنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ مَنْسُوخٌ بِالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ (مَا) رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» وَرُوِيَ «أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» فَكَانَ الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ اعْتِبَارَ الْوَقْتِ أَوْلَى، مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ طَهَارَةً مُقَدَّرَةً بِوَقْتٍ وَهُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلَيْسَ مِنْهَا طَهَارَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَقُلْنَا: إنَّ خَبَرَنَا أَوْلَى لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَيْسَ فِيهَا الْجَمْعُ بَيْنَ رُكُوعَيْنِ مِنْ غَيْرِ سُجُودٍ بَيْنَهُمَا، فَكَانَتْ الْأُصُولُ شَاهِدَةً بِخَبَرِنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ لِسَائِرِ الْأَخْبَارِ الَّتِي تُخَالِفُهُ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا تَرَكْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدَّلَالَةِ (فِي مَوَاضِعَ) عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْأُصُولِ لِحُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَوْلَى مِمَّا تُنَافِيهِ الْأُصُولُ (فِي مَوَاضِعَ) فَكَرِهْنَا إعَادَتَهُ مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهَا] فَصْلٌ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهَا. مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ مُنْفَرِدًا عَنْهَا كَانَ نَسْخًا، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ وَرَدَتْ مُتَّصِلَةً بِالنَّصِّ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ - كَاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ - فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَانِ، فَيَكُونُ النَّصُّ مُسْتَعْمَلًا بِالزِّيَادَةِ الْوَارِدَةِ مَعَهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي مِثْلِهِ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، كَمَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُ الْجُمْلَةِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ. وَنَذْكُرُ الْآنَ حُكْمَ الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا، وَلَا نَعْلَمُ تَارِيخَهُمَا فَنَقُولُ: إنَّ الزِّيَادَةَ إنْ كَانَتْ وَرَدَتْ مِنْ جِهَةٍ ثَبَتَ النَّصُّ بِمِثْلِهَا فَإِنَّ طَرِيقَهُ الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ أَوْ النَّظَرِ عَلَى ثُبُوتِهِمَا مَعًا أَثْبَتْنَاهُمَا، فَإِنْ شَهِدَتْ (بِالنَّصِّ) مُنْفَرِدًا عَنْهَا أَثْبَتْنَاهُ دُونَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُصُولِ دَلَالَةً عَلَى إسْقَاطِ حُكْمِ الزِّيَادَةِ وَإِثْبَاتِ النَّصِّ دُونَهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ فِي ذَلِكَ بِوُرُودِهِمَا مَعًا، وَيَكُونَانِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ إذَا وَرَدَا وَلَا نَعْلَمُ تَارِيخَهُمَا، وَلَا فِي الْأُصُولِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَكُونَانِ مُسْتَعْمَلَيْنِ جَمِيعًا. كَذَلِكَ إذَا وَرَدَتْ الزِّيَادَةُ وَالنَّصُّ وَلَمْ نَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا وَلَا مَعَ أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ مِنْ الْأُصُولِ وَلَا اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِلنَّصِّ دُونَ الزِّيَادَةِ، فَالْحُكْمُ بِوُرُودِهِمَا مَعًا وَاجِبٌ فَيَكُونُ النَّصُّ ثَابِتًا بِزِيَادَتِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ وُرُودُ النَّصِّ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجِبِهِ، نَحْوُ أَنْ يَكُونَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوْ سُنَّةً ثَابِتَةً بِالنَّقْلِ (الْمُسْتَفِيضِ) وَكَانَ وُرُودُ الزِّيَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِالنَّصِّ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً مَوْجُودَةً (مَعَ النَّصِّ) لِنَقْلِهَا إلَيْنَا مِنْ نَقْلِ النَّصِّ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إثْبَاتَ النَّصِّ مَعْقُودًا بِالزِّيَادَةِ، فَيَقْتَصِرُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (عَلَى) إبْلَاغِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا مِنْهَا، فَوَاجِبٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 إذَنْ) أَنْ يَذْكُرَهَا مَعَهُ، وَلَوْ ذَكَرَهُمَا مَعًا لَنَقَلَ الزِّيَادَةَ مَنْ نَقَلَ النَّصَّ. فَإِنْ كَانَ النَّصُّ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ وَالزِّيَادَةُ وَارِدَةً مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقْتَصِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تِلَاوَةِ الْحُكْمِ الْمُنَزَّلِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يُعْقِبَهَا بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّ حُصُولَ الْفَرَاغِ مِنْ النَّصِّ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ يَلْزَمُنَا اعْتِقَادُ مُقْتَضَاهُ مِنْ حُكْمِهِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ هُوَ الْجَلْدَ وَالنَّفْيَ أَوْ الْجَلْدَ وَالرَّجْمَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتْلُوَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْآيَةَ عَلَى النَّاسِ عَارِيَّةً مِنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ عَقِيبَهَا، لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ مَعَهَا يُلْزِمُنَا اعْتِقَادَ مُوجِبِهَا، وَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا هُوَ كَمَالُ الْحَدِّ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ إيقَاعِهِ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَعَهُ نَفْيٌ أَوْ رَجْمٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ لَكَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ (أَنَّهُ) بَعْضُ الْحَدِّ وَأَنَّهُ جَمِيعُهُ، فَإِذَا أَخْلَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التِّلَاوَةَ مِنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ عَقِيبَهَا، فَقَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ الْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ (حَدًّا كَامِلًا) ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ جَلْدًا، كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِمَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» . وَكَذَلِكَ لَمَّا رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ دَلَّ عَلَى (أَنَّهُ) نَسَخَ الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ. كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] عَارِيًّا عَنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ مُوجِبًا لِنَسْخِ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ (بْنِ الصَّامِتِ) «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةً مَعَ الْأَصْلِ لَذَكَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِيبَ التِّلَاوَةِ، وَلَوْ ذَكَرَهَا لَنَقَلَتْهَا " الْكَافَّةُ الَّتِي نَقَلَتْ الْأَصْلَ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا (الْحَدَّ) الْجَلْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وَالنَّفْيَ جَمِيعًا فَيَنْقُلُوا الْجَلْدَ دُونَ النَّفْيِ. كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلُوا بَعْضَ الْحَدِّ دُونَ بَعْضٍ وَقَدْ سَمِعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ الْجَمِيعَ. فَلَمَّا عَدِمْنَا نَقْلَ الْكَافَّةِ لِلزِّيَادَةِ حَسَبِ نَقْلِهَا لِلنَّصِّ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَقِيبَ التِّلَاوَةِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ، إذْ كَانَ (السَّامِعُونَ لِلْآيَةِ مُعْتَقِدِينَ نَقْلَ) الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ الْأَصْلِ وَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ التَّبْعِيضُ وَتَرْكُ النَّقْلِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِالنَّصِّ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ إيَّاهَا، فَلَا تَخْلُو حِينَئِذٍ الزِّيَادَةُ الْوَارِدَةُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ النَّصِّ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَقَدْ نَسَخَهَا النَّصُّ الْمُطْلَقُ عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَهَذَا يُوجِبُ نَسْخَ الْآيَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْآيَةِ بِخَبَرٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَالْقِيَاسُ الَّذِي (شَرْطٌ فِي الرَّقَبَةِ الْإِيمَانِ) يُوجِبُ نَسْخَ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَكَذَلِكَ قَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، وَلَمْ يَشْرِطْ فِيهَا الْإِيمَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِجَهْلِ السَّائِلِ بِالْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ زِيَادَةُ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ، وَهَذَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ وَإِلْحَاقَ شَرْطِ الْإِيمَانِ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَسْخَ الْآيَةِ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِيَاسَ لَوْ أَوْجَبَ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِيهَا لَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ السَّائِلُ غَيْرَهُ، وَلِئَلَّا يَقْدَمَ فِي الْحَالِ عَلَى تَنْفِيذِهَا فِي رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ، إذْ قَدْ أَمَرَهُ بِعِتْقِهَا فِي الْحَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» عَقَلْنَا مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا غَيْرُ الرَّجْمِ إذْ كَانَ مَأْمُورًا فِي الْحَالِ بِتَنْفِيذِ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الْحُكْمِ وَإِمْضَائِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدُّ لَا غَيْرُ. كَذَلِكَ أَمْرُهُ السَّائِلَ بِرَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فِي الْحَالِ أَيِّ رَقَبَةِ كَانَتْ، يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْوَاجِبَةَ كَافِرَةً كَانَتْ أَوْ مُسْلِمَةً. وَأَمَّا إذَا كَانَ ثُبُوتُ النَّصِّ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ بِهِ عَلَى الِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا، وَلَمْ يُرِدْ مَعَ النَّصِّ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ (مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَتْ وَارِدَةً مَعَ النَّصِّ فِي خِطَابِ وَاحِدٍ) فَلَيْسَتْ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا هِيَ النَّصُّ فَجَمِيعُهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ، وَهَذَا مَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ. وَحُكِيَ لِي عَنْ بَعْضِ مِنْ (كَانَ بِبَغْدَادَ مِنْ) أَذْنَابِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ قِيَاسًا عَلَى نَصٍّ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى سُنَّةٍ أُخْرَى. وَاَلَّذِي يَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ خَامِلٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخِلَافُهُ فِي ذَلِكَ كَخِلَافِ رَجُلٍ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَوْ خَالَفَ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ، فَكَيْفَ بِهِ إذَا خَالَفَ عَلَى السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْمَأْثُورِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، فَمِنْهُ مَا رُوِيَ بِالنَّقْلِ الشَّائِعِ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ بِمَ تَقْضِي قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ جَاءَك شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ جَاءَك شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَهُ لِمَا يُحِبُّهُ رَسُولُ اللَّهِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ مَقْصُورٌ عَلَى عَدَمِ النَّصِّ الْمُتَوَارَثِ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ إذَا اُبْتُلُوا بِحَادِثَةٍ طَلَبَ حُكْمَهَا مِنْ النَّصِّ، ثُمَّ إذَا عَدِمُوا النَّصَّ فَزِعُوا إلَى الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، وَلَا يُسَوِّغُونَ لِأَحَدٍ الِاجْتِهَادَ وَاسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ «مَنْ أَتَاهُ مِنْكُمْ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ» . وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا نَزَلَ بِهِ نَازِلَةٌ مِنْ أَمْرِ الْأَحْكَامِ سَأَلَ الصَّحَابَةَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا شَيْئًا فَإِذَا رُوِيَ لَهُ فِيهَا (أَثَرٌ) قَبِلَهُ وَلَمْ يَفْتَقِرْ مَعَهُ إلَى مُشَاوَرَةٍ وَلَا اجْتِهَادٍ، فَإِذَا عَدِمَ حُكْمَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَزِعَ إلَى مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ وَإِلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهَا ". وَكَذَلِكَ كَانَ أَمْرُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَفْزَعُونَ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ، وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مُقَابَلَةُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَلَا مُعَارَضَتُهُ بِالِاجْتِهَادِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ يُوجِبَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 الْعِلْمَ بِمَا تَضَمَّنَاهُ، وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِمُوجِبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ غَالِبُ ظَنٍّ فَغَيْرُ جَائِزٍ رَفْعُ مَا أَوْجَبَ الْعِلْمُ بِمَا لَا يُوجِبُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي تَخْصِيصِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَلَّا تُزِيلَ الْإِبَاحَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الشَّرْعِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ. قِيلَ (لَهُ) : هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَشْيَاءَ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّا مَتَى قَصَدْنَا إلَى اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ، فَإِنَّمَا نَسْتَبِيحُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَ (فِي) ظَنِّنَا أَنَّ عَلَيْنَا فِي تَنَاوُلِهِ ضَرَرًا أَكْثَرَ مِمَّا نَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَنَاوُلُهُ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ طَرِيقُهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا حَقِيقُهُ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَمَّا كَانَتْ مَعْقُودَةً بِأَلَّا يَلْحَقَنَا ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِمَّا نَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْقُوفًا عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، بَطَلَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اسْتِبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا نَقُولُ: إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ قَبُولُ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي الدُّيُونِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ثُمَّ إذَا أَرَدْنَا قَبُولَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا كَانَ طَرِيقُ قَبُولِهَا الِاجْتِهَادَ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ، لَا مِنْ جِهَةٍ تُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ مَقَالَتِهِمَا فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّسْخَ لَمَّا كَانَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَكَانَ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ، كَتَوْقِيتِ مِقْدَارِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَرَكَعَاتِ الظُّهْرِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْفَرْضِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 [بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يُنْسَخُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمَا لَا يُنْسَخُ] بَابُ الْقَوْلِ (فِيمَا يُنْسَخُ) بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمَا لَا يُنْسَخُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ ثَبَتَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَكَذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَجَائِزٌ عِنْدَنَا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَ (نَسْخُ) الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَلَا نَسْخُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَيَجُوزُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَجَائِزٌ نَسْخُهُ بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. (فَلَا) يَجُوزُ نَسْخُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ فَجَائِزٌ نَسْخُهُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ. فَصْلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فَإِذَا كَانَ النَّسْخُ بَيَانًا لِمُدَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا اقْتَضَى عُمُومُ الْكِتَابِ جَوَازَ نَسْخِ السُّنَّةِ (بِهِ) ، وَأَيْضًا: لَمَّا جَازَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُهَا أَيْضًا بِوَحْيٍ هُوَ قُرْآنٌ، لِأَنَّهُمَا وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَيْضًا: لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ فِي جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ قَدْ تَظَاهَرَتْ عَنْهُمْ فِي أَشْيَاءَ مِنْ السُّنَنِ ذَكَرُوا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ. مِنْهَا (مَا) رُوِيَ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى بِضْعَةَ عَشَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 شَهْرًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ، وَنَسَخَ بِهِ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» . وَرَوَى أَبُو رَافِعٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ (مُكَلِّبِينَ) } [المائدة: 4] » قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخْبَرَ أَنَّ نَسْخَ قَتْلِ الْكِلَابِ كَانَ بِالْآيَةِ. . وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ثُمَّ أَنْزَلَ (قَوْلَهُ) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فَنَسَخَ (بِهِ) الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْ نِسَائِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] » الْآيَةُ. رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ «أَنَّهُ رَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ» مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} [الممتحنة: 10] ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَدُّهُ إيَّاهَا إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 بَرَاءَةٌ " فَرَأَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ بِسُورَةِ " بَرَاءَةٌ " يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَرُوِيَ «أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنِسَاؤُهُ عِنْدَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ بَعْدَ أَنْ كُنَّ غَيْرَ مُحَجَّبَاتٍ» . وَمِنْهَا تَبَنِّي النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَتَبَنِّي أَبِي حُذَيْفَةَ سَالِمًا نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالكُمْ} [الأحزاب: 40] وقَوْله تَعَالَى: {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] . «وَكَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِفَسْخِ الْحَجِّ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] » . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ عَلَى هَذَا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يَقِفُ مِنْ تَأْوِيلِ مُجْمَلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا لَا يُشْرِكُهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ، فَلَيْسَتْ لَهُ سُنَّةٌ لَا كِتَابَ فِيهَا إلَّا وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْكِتَابِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا، فَخَصَّ (اللَّهُ تَعَالَى) رَسُولَهُ بِعِلْمِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ آيَةً نَسَخَتْ سُنَّةً، لِأَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ قَدْ تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنْ جُمْلَةِ (هَذَا) الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ (عَلَيْنَا) عِلْمُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الْكَلَامُ بَيِّنُ الِانْحِلَالِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَازَ مَا ذَكَرَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 يَمْنَعُ وُجُودَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَنَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ آيَتَيْنِ ظَاهِرُهُمَا النَّسْخُ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخُ إحْدَاهُمَا إنَّمَا كَانَ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَّا بِقُرْآنٍ. وَ (أَنَّ) الْقُرْآنَ إنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ قَدْ سَنَّهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَسَخَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَكُلُّ سُنَّتَيْنِ كَانَ ظَاهِرُهُمَا النَّسْخَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخُ الْمَنْسُوخِ مِنْهُمَا إنَّمَا كَانَ بِحُكْمٍ أَوْجَبَهُ جُمْلَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبَعُوهُ} [الأنعام: 153] وقَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُنَّةٌ رَأْسًا وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سَنَّهُ (فَإِنَّمَا هُوَ) بَيَانٌ لِجُمْلَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَفْسِيرَهَا دُونَنَا لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ الَّتِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ مِنْ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهَا قَدْ عَقَلَتْ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَحْكَامًا مَأْخُوذَةً مِنْ الْكِتَابِ، وَأَحْكَامًا لَيْسَتْ مِنْ الْكِتَابِ مَأْخُوذَةً مِنْ السُّنَّةِ. فَإِنْ قَالَ (قَائِلٌ) : إنَّ (هَذَا الْقَوْلَ) الَّذِي عَارَضْت بِهِ مَا حَكَيْت يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] فَقَدْ أَفْصَحَ الْكِتَابُ بِأَنَّ بَعْضَهُ يَنْسَخُ بَعْضًا. قِيلَ لَهُ: نَقُولُ لَك إنَّمَا أَفْصَحَ الْكِتَابُ بِوُجُودِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ نَسْخَهُ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ بِسُنَّةٍ نُوحِي بِهَا إلَيْك نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] بِأَنْ نَنْسَخَهَا بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ ثُمَّ نَنْزِلُ أُخْرَى مَكَانَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَاسِخَةً لَهَا، فَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلُ بِمَا وَصَفْنَا الِانْفِصَالَ مِمَّنْ نَفَى نَسْخَ الْكِتَابِ إلَّا بِالسُّنَّةِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ إلَّا بِالْكِتَابِ، فَإِنْ قَالَ: قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ. قِيلَ لَهُ: الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ هُمْ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ. فَإِنْ قَالَ (قَائِلٌ) : الشَّافِعِيُّ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: مَنْ تَقَدَّمَ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَجَازُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكِيَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ. وَقَدْ حَكَيْنَا نَحْنُ عَنْ خَلْقٍ مِنْ السَّلَفِ جَوَازَهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي حَكَيْنَا قَوْلَهُ وَعَارَضْنَا بِهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا عَلَيْنَا وَعَلَى الشَّافِعِيِّ جَمِيعًا. ثُمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: (لَمْ نَرَ) مَنْ خَالَفَ (فِي) هَذَا أَوْرَدَ آيَةً نُسِخَتْ عِنْدَهُ لِسُنَّةٍ، وَقَدْ وَجَدْنَا لَهَا جُمْلَةً فِي الْكِتَابِ نَحْوُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ. فَقَدْ يَكُونُ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَأْخُوذًا مِنْ جُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُرْبَهَا لَا يَحِلُّ وَفِيهِ إثْمٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . .} [المائدة: 90] الْآيَةُ. وَتَحْرِيمُ مَا يَحِلُّ لِلْمُفْطِرِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ قَدْ يَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أَيْ عَلَى (تِلْكَ) الْهَيْئَةِ. وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 قَالَ: وَإِنْ وَرَدَ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ فَيُقَالُ (لَهُ) : بِمَ تَنْفَصِلُ مِمَّنْ قَالَ لَك إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُؤَدِّي (إلَى) أَلَّا يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هُدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فِيهِ الْأَمْرُ (بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ) الْمُتَقَدِّمِينَ فِي شَرَائِعِهِمْ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّ مَعْنَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا بَقَاءُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ فِيهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ نُقِلُوا إلَى الْحُكْمِ الثَّانِي، فَلَا شَيْءَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إيجَابٍ أَوْ إبَاحَةٍ إلَّا وَقَدْ كَانَ مِثْلُهُ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ فِي شَرِيعَتِنَا. وَإِنَّمَا صَارَ فِي شَرِيعَتِنَا (بِقَوْلِهِ تَعَالَى) {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] . فَإِنْ قَالَ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا كَوْنَ أَشْيَاءَ مُبَاحَةً فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا حُظِرَتْ فِي شَرِيعَتِنَا كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، وَكَوْنَ أَشْيَاءَ مَحْظُورَةٍ فِي شَرِيعَتِهِمْ أَبَاحَتْهَا شَرِيعَتُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] قِيلَ لَهُ: نَقُولُ لِهَذَا الْقَائِلِ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا حُظِرَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَأُبِيحَ بَعْدَ الْحَظْرِ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ (مِنْ) قَبْلِنَا كَذَلِكَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ فَتَعَبَّدَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْحُكْمِ فِي (مِثْلِ) الْمُدَّةِ الَّتِي فِيهَا الْحَظْرُ أَوْ الْإِبَاحَةُ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا أَنَّ سُنَنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ كَانَ يَجُوزُ نَسْخُهَا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَيْسَ (مَعَنَا) نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فَيَنْتَظِمُ جَوَازُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَمَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَظْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ (بَعْدَ النَّوْمِ) ، وَنَسْخُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ إثْبَاتَهُ عَلَيْنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا أَلَّا نَجْعَلَ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] ، وَأَنَّهُ إنَّمَا زَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ بَقِيَ فِيهَا، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرِيعَتِنَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] ثُمَّ قَالَ: حُظِرَ (عَلَيْهِمْ) الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ مِقْدَارَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ إبَاحَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ بِاللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَبْلَهُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخُ شَيْءٍ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ إيجَابُ حُكْمٍ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَنْفِي مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وُجُودَ نَاسِخٍ، وَمَنْسُوخٍ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ مَنْ يَنْفِي مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا نَسْلُكُ فِيهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَجْرِي (فِيهِ) عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ فِي نَفْيِ النَّسْخِ. وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَعَلَى أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْنَا الصِّيَامُ، وَالصِّيَامُ لَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ وَإِنْ حُظِرَ الْأَكْلُ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ وَقَدْ بَيَّنَ (ذَلِكَ) فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 فِي قَوْله تَعَالَى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْنَا (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا إنَّمَا هُوَ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ) فَلَمْ يَتَنَاوَلْ اللَّيْلَ قَطُّ فَسَقَطَ قَوْلُهُ إنَّ مَا نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ كَانَ مُوجِبًا بِالْآيَةِ قَبْلَ نَسْخِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] وَأَنَّهُ قَدْ قَرَنَهَا بِالْإِثْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ اقْتَضَى تَحْرِيمَهَا لِأَنَّ الْإِثْمَ كُلَّهُ مُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33] ، وَ (ذِكْرُ الْمَنَافِعِ) الَّتِي فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ قَدْ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَعَ بَقَاءِ الْحَظْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِشُرْبِهِمْ إيَّاهَا وَإِقْرَارِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ يَشْرَبُهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَظْرِ وَظَنَّ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُوجِبْ تَحْرِيمَهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بَعْدَ إبَاحَتِهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت، لِأَنَّ إبَاحَتَهَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَكَوْنَ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةً فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ النَّسْخِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ الْكِتَابِ بِحَظْرِهَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ: إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِالسُّنَّةِ هَلْ يَجُوزُ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِزَوَالِهِ وَنَسْخِهِ أَمْ لَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ فَصَارَ إقْرَارُهُ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ (إبَاحَةً مِنْهُ بِشُرْبِهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ: قَدْ أَبَحْت لَكُمْ شُرْبَهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ لَفْظِهِ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ إقْرَارِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ) ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَسْخِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَثَبَتَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وَالْوَجْهُ الْآخَرُ (أَنَّ) دَلَالَتَنَا عَلَى مَا اسْتَدْلَلْنَا (بِهِ) عَلَيْهِ قَائِمَةٌ، لِأَنَّ هَذَا كَلَامٌ فِي الِاسْمِ لَا فِي الْمَعْنَى، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ حُكْمًا أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَالَةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ بِالْقُرْآنِ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ بِهِ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِهِ فَجِهَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ وَرَدَ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ. فَإِنَّهُ يُقَالُ (لَهُ) : هَلْ يَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى مُرَادٌ فِي حُكْمٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ لَفْظٌ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ فَيَخْفَى عَامُّهُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ؟ . فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ خَفِيَ عِلْمُهَا عَنْ الْأُمَّةِ فَأَخْطَئُوهَا، وَحَكَمُوا بِغَيْرِهَا وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مَأْمُونٌ مِنْهُمْ. وَإِنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَجَزْت أَنْ تَرِدَ آيَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِيهَا ثُمَّ يُنْسَخُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ مِنْ الْكِتَابِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ ذَهَبَ عَنْ الْأُمَّةِ لِأَنَّ مُخَالِفِيك يَقُولُونَ. لَيْسَ فِي الْكِتَابِ حُكْمٌ قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكِتَابُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَرَدَ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ وَتَزْعُمُ أَنْتَ أَنَّك لَا تَقِفُ عَلَيْهِ وَلَا تَعْلَمُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حُكْمٌ قَدْ خَفِيَ عَلَيْك فَقَدْ أَدَّاك هَذَا إلَى خَفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا. وَلَوْ جَازَ هَذَا لَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَحْكَامًا كَثِيرَةً نَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِهَا لَمْ تَقِفْ الْأُمَّةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وَيُقَالُ لَهُ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا سَنَّهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهُوَ مِمَّا أَوْجَبَتْهُ جُمْلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ مَا نَسَخَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ مِنْ سُنَّتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسَخَهُ بِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةٌ فِي الْكِتَابِ لَمْ نَقِفْ عَلَى مَعْنَاهَا وَيَجِبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُنَنٌ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا قَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَحْكَامٌ تَخْفَى عَلَى الْأُمَّةِ، لَمَا صَحَّ الرَّدُّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ لِأَنَّا مَتَى أَرَدْنَا رَدَّ الْحَادِثَةِ إلَى الْأَصْلِ، وَجَوَّزْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا حُكْمُهُ لَمْ نَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ هُوَ مِمَّا قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا حُكْمُهُ مِنْ الْكِتَابِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ، وَكَفَى بِقَاعِدَةٍ تُؤَدِّي الْبَانِيَ عَلَيْهَا إلَى هَذِهِ الْجَهَالَاتِ فَسَادًا مِنْ إبْطَالِ نَسْخِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ النَّسْخُ فِيهِمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَإِلَى تَجْوِيزِ (خَفَاءِ حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ عَلَى الْأُمَّةِ فَلَا نَعْلَمُهُ وَلَا نَقِفُ عَلَيْهِ، وَإِلَى تَجْوِيزِ) أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُنَّةٌ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا سَنَّهُ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، وَإِلَى بُطْلَانِ رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى الْكِتَابِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا مِمَّا لَمْ تَقِفْ عَلَيْهِ الْأُمَّةِ. وَذَكَرَ هَذَا الرَّجُلُ وَجْهًا ثَالِثًا فِي زَعْمِهِ لِتَخْرِيجِ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ سَنَذْكُرُهُ عِنْدَ حِكَايَتِنَا بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَلَى أَنَّ الْآيَ الَّتِي احْتَجَجْنَا بِهَا إنَّمَا يُطْلَبُ لَهَا تَأْوِيلٌ يُوَافِقُ مَذْهَبَ مَنْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ الْمَقَالَةِ فِي الْأَصْلِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعَضِّدْ قَوْلَهُ بِحُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ فَلَمْ يَلْجَأْ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ، ثُمَّ اسْتَغَلَّ مَطْلَبَ تَأْوِيلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِ مَقَالَتِهِ وَحَمَلَهَا عَلَى وُجُوهٍ تُنَاقِضُ الْأُصُولَ وَتُنَافِيهَا كَانَ قَوْلُهُ سَاقِطًا مَطْرُوحًا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَقَالَتِنَا قَوْله تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ مُبَيِّنًا فَلَا يَكُونُ الْكِتَابُ إذَنْ مُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْسَخُ آيَةً مِثْلَهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] . قِيلَ لَهُ لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إظْهَارَهُ وَتَرْكَ كِتْمَانِهِ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مَا افْتَقَرَ مِنْهُ إلَى بَيَانٍ، وَمَا لَمْ يَفْتَقِرْ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك} [المائدة: 67] (أَنْ) يَكُونَ الْمُرَادُ (مِنْهُ) مَا احْتَاجَ مِنْهُ إلَى (بَيَانِ) الرَّسُولِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ تَعَالَى (إلَيْهِ) النَّسْخَ لِلسُّنَّةِ فَيُبَيِّنُهُ (لِلنَّاسِ) بِإِظْهَارِهِ إيَّاهُ، فَهَذَا لَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْت، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيَانَ مُجْمَلِ الْكِتَابِ، مَا يَنْفِي نَسْخَ السُّنَّةِ بِحُكْمٍ فِي الْقُرْآنِ غَيْرِ مُفْتَقِرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 إلَى بَيَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ يَقُولَ: لِتُبَيِّنَ مُجْمَلَ الْكِتَابِ لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ (مَا لَا يَحْتَاجُ) إلَى الْبَيَانِ مِنْهُ نَاسِخًا لِسُنَّتِهِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ مَا يَحْصُلُ مِنْ بَيَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُتَوَلِّي لِتَبْيِينِهِ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مَا حَصَلَ مِنْ الْبَيَانِ فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ مِنْهُ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ مُدَّةَ السُّنَّةِ فَيَنْسَخُهَا بِالْكِتَابِ كَمَا تَوَلَّى تَبْيِينَهَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَأَيْضًا: لَيْسَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ السُّنَّةَ أَيْضًا، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ نَسْخَهُ بِهِ، وَكَمَا أَنَّ السُّنَّةَ تُبَيِّنُ السُّنَّةَ وَتَنْسَخُهَا أَيْضًا، فَلَيْسَ إذَنْ فِي وَصْفِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْسَخَ سُنَّةً بِالْقُرْآنِ. وَأَيْضًا: فَاَلَّذِي قَالَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] هُوَ الَّذِي قَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فَهَلَّا أَجَزْت لِعُمُومِهِ تَبْيِينَ مُدَّةِ السُّنَّةِ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَلِتُبَيِّنَ الْكِتَابَ مَا بِسُنَّةٍ إذْ لَيْسَ بَيَانُ مُجْمَلِ الْكِتَابِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّمَا يُبَيِّنُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ كَذَا، أَوْ أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا قَالَ كَذَا، فَلَا يُسَمَّى هَذَا سُنَّةً فَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَإِيجَابُ تَخْصِيصِهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فَلَيْسَ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 تَعَلُّقٌ بِمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْسَخُ بِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] (أَنَّهُ) لَا يَمْنَعُ أَنْ يُبَدِّلَ آيَةً مَكَانَ سُنَّةٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ حِكَايَةَ قَوْلِ الْكُفَّارِ عِنْدَ نَسْخِ آيَةٍ بِآيَةٍ مِثْلِهَا وَلَمْ يَنْفِ نَسْخَ السُّنَّةِ بِآيَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ: وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِي أَمْرٍ سُنَّ مِنْهُ غَيْرُ مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي السُّنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ، وَجَدْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَأَوْجَبْنَا ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيمَا وَصَفْت مِنْ فَرْضِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قُبِلَتْ عَنْ اللَّهِ، فَمَنْ قَبِلَهَا فَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَتْبَعُهَا، وَلَا نَجِدُ خَبَرًا أَلْزَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقَهُ نَصًّا مُبَيِّنًا إلَّا كِتَابَهُ ثُمَّ سُنَّةَ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ كَمَا وَصَفْت لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْسَخَهَا إلَّا مِثْلُهَا وَلَا مِثْلَ لَهَا غَيْرُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا الْفَصْلُ مِنْ كَلَامِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الِاخْتِلَالِ مِنْهَا قَوْلُهُ: إنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَعَ بِذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ إلَّا بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا، ثُمَّ نَقَضَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ، وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ فِي أَمْرٍ سُنَّ فِيهِ غَيْرُ مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ، لَيْسَ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً، فَأَجَازَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ سُنَّةَ نَبِيِّهِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ بَدْءًا أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمْ يَقُلْ إنْ أَحْدَثَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقُرْآنٍ يُنَزِّلُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَنْسَخُهُ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ. قِيلَ لَهُ: فَإِذَنْ يَكُونُ مَا أَحْدَثَ سُنَّةً لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ غَيْرُ قُرْآنٍ مِنْ الْأَحْكَامِ هِيَ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَسُنَّ فِيمَا أَحْدَثَ (اللَّهُ) إلَيْهِ،، وَاَلَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ سُنَّةً لَا يَفْتَقِرُ فِي وُقُوعِ النَّسْخِ بِهَا إلَى سُنَّةٍ أُخْرَى. وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَبْطَلَ تَأْوِيلَ هَذَا الْقَائِلِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْفَصْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ تُنْسَخُ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ سُنَّةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ، حَتَّى تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ، فَأَجَازَ نَسْخَهَا بِالْقُرْآنِ إذَا سَنَّ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ. وَقَوْلُهُ: لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ مُسْتَحِيلٌ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ نَسَخَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنْ خِلَافِ سُنَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَوْلُهُ أَيْضًا: لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ (سُنَّةً) نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا. فَمَا قَدْ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَهُ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بَعْدَهُ، وَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ الْمَنْسُوخِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ مَا قَدْ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَجُوزُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّ سُنَّتَهُ نَسَخَتْهُ فَيَكُونُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، حَاشَا لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 مِنْ ذَلِكَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ، إذْ لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ (النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَنْفِي جَوَازَ نَسْخِهَا بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا يَنْفِي جَوَازَ نَسْخِهَا بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، فَإِذَنْ لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ) النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَعَلُّقٌ بِنَسْخِ السُّنَّةِ بِقُرْآنٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّا إنَّمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (الَّتِي) لَمْ تُنْسَخْ (فَأَمَّا) إذَا نَسَخَهَا الْقُرْآنُ أَوْ سُنَّةٌ لَهُ أُخْرَى فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ حِينَئِذٍ بِاعْتِقَادِ نَسْخِهَا وَزَوَالِ حُكْمِهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] ، وَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ نَسْخِهِ بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ السُّنَّةَ لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَلَيْسَ يَخْلُو مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ. إمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ نَظْمَهَا مُعْجِزٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْخَلْقِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْحُكْمَ. فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ اللَّفْظَ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقُولُ إنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُعْجِزٌ بِالنَّظْمِ، وَإِنْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْصَحَ الْخَلْقِ، وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ مُعْجِزًا لَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْقُرْآنِ فِي إعْجَازِ النَّظْمِ وَهَذَا خَلَفٌ مِنْ الْقَوْلِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِإِعْجَازِ النَّظْمِ دُونَ سَائِرِ الْكَلَامِ. وَلَوْ كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُعْجِزًا لَتَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ كَمَا تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ وَلَاسْتَغْنَى النَّاسُ (بِهِ) عَنْ طَلَبِ الشَّبَهِ لِمُبَايِنَتِهِ لِكَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ الْبَشَرِ فِي إعْجَازِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 نَظْمِهِ كَمَا بَانَ الْقُرْآنُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ بِالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ وَالتَّأْلِيفِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقُولُ: إنَّ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْخَلْقِ أَنْ يَشْرَعَ الشَّرَائِعَ (وَيَبْتَدِعَ) الْأَحْكَامَ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهِ هَاهُنَا إذْ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ، لِأَنَّ كَلَامَنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ لَا فِي نَسْخِهَا بِمَا لَهُ شَبَهُ (كَلَامٍ) مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ مَعْنَى كَلَامِهِ، لِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَنْسَخُهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا شِبْهَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ، وَيَنْسَخُهُ الْقُرْآنُ (فَكَذَلِكَ السُّنَّةُ لَا يَكُونُ لَهَا شِبْهٌ مِنْ قَوْلِ الْخَلْقِ، وَيَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ) الَّذِي لَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْمَخْلُوقِينَ فَلَمْ يَحْصُلْ (لَهُ) مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُسِخَتْ سُنَّتُهُ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ، جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا حَرَّمَ (رَسُولُ) اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْبُيُوعِ كُلِّهَا قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَفِيمَنْ يُرْجَمُ مِنْ الزِّنَا قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ (قَبْلَ نُزُولِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الْفَصْلُ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ قَالَ: وَنُسِخَتْ سُنَّتُهُ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَالسُّنَّةُ) النَّاسِخَةُ فَأُطْلِقَ نَسْخُهَا بِالْقُرْآنِ ثُمَّ أُوجِبَ نَسْخُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نُسِخَ بِالْقُرْآنِ يَسْتَحِيلُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْمَنْسُوخِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ جَازَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ سُنَّةً بِالْقُرْآنِ وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا حَرَّمَ (اللَّهُ مِنْ الْبُيُوعِ إلَى آخِرِ) مَا ذَكَرَ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ إنْ صَحَّتْ مَنَعَتْ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِخِ مِنْهُمَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ النَّسْخَ، فَإِذْ قَدْ وَجَدْنَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِخِ مِنْهُمَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ، وَمِنْ غَيْرِ ذِكْرِ تَارِيخٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَلْ يَكُونُ اسْتِدْرَاكُ حُكْمِ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَتَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَوْكُولًا إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِغَيْرِهِ. كَذَلِكَ يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَيَكُونُ سَبِيلُ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ طَلَبَ تَارِيخِ الْحُكْمِ مِنْ سَائِرِ الْأُصُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا عِلْمٌ بِتَارِيخِهِمْ، وَلَا كَانَ فِي لَفْظِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا. وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فِي (بَابِ) صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي «تَأَخُّرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِالصَّلَوَاتِ حَتَّى كَانَ هَوِيَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَضَاهُنَّ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ صَلَاةُ الْخَوْفِ» ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فِي الْخَوْفِ إلَى أَنْ يُصَلُّوهَا - كَمَا أَنْزَلَ (اللَّهُ) ، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتِهَا وَنَسَخَ (رَسُولُ اللَّهِ) سُنَّتَهُ فِي تَأْخِيرِهَا بِفَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ثُمَّ بِسُنَّتِهِ، صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا كَمَا وُصِفَتْ " فَنَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، إلَّا أَنَّهُ وَصَلَهُ بِمَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: نَسَخَهَا بِفَرْضِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ ثُمَّ بِسُنَّتِهِ، وَمَا قَدْ نُسِخَ بِالْكِتَابِ (لَا) يَصِحُّ نَسْخُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا بِالسُّنَّةِ وَلَا بِغَيْرِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 [الْبَابُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ] [فَصْلٌ فِي نَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ] ِ وَفِيهِ فَصْلٌ: نَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 بَابُ الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَأَجَازَهُ أَصْحَابُنَا إذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ مَجِيئًا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهَا هِيَ مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَيُوجِبُ الْعِلْمَ، نَحْوُ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَيْضًا. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ جَوَازَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، وَالنَّسْخُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ (فِي) تَوَهُّمِنَا بَقَاؤُهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُنَا لَهُ، فَانْتَظَمَ قَوْلُهُ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] سَائِرَ وُجُوهِ الْبَيَانِ، فَلَمَّا كَانَ النَّسْخُ ضَرْبًا مِنْ الْبَيَانِ وَجَبَ أَنْ تَسْتَوْعِبَهُ الْآيَةُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمُرَادُ بِهِ إظْهَارُ مَا أُنْزِلَ وَتَبْلِيغُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا أَحَدُ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، وَلَمْ يَنْفِ غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ ضُرُوبِ الْبَيَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ ضَرْبًا مِنْ الْبَيَانِ، وَلَمْ يَكُنْ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرِ بِإِظْهَارِ، وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ مَانِعًا مِنْ دُخُولِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ تَحْتَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 كَذَلِكَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ النَّسْخُ (وَاجِبٌ أَنْ) يَتَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ السُّنَّةُ تُبَيِّنُ الْقُرْآنَ اسْتَحَالَ أَنْ تَنْسَخَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الشَّيْءُ بِمَا يُبَيِّنُهُ. قِيلَ (لَهُ) : إنَّ هَذِهِ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلَالَةٌ وَهُوَ مَوْضُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَكَأَنَّك إنَّمَا جَعَلْت مَوْضِعَ الْخِلَافِ دَلَالَةً عَلَى الْمَسْأَلَةِ. وَعَلَى أَنَّ النَّسْخَ ضَرْبٌ مِنْ الْبَيَانِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ بِالسُّنَّةِ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِهِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] {صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 53] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . فَلَمَّا كَانَ النَّاسِخُ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ صِرَاطَ اللَّهِ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ بِالسُّنَّةِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَهْدِي إلَى صِرَاطِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهَا وَحْيٌ وَهُوَ قُرْآنٌ كَمَا جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُمَا، وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ. (أَحَدُهُمَا) : نَسْخُ التِّلَاوَةِ. (وَالثَّانِي) : نَسْخُ الْحُكْمِ. وَقَدْ جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ نَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا بِقُرْآنٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، لِأَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ يَكُونُ بِالْإِنْسَاءِ تَارَةً وَبِالْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كَتْبِهَا وَحِفْظِهَا أُخْرَى، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ وُقُوعُهُ بِغَيْرِ قُرْآنٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ وُجِدَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ مَعَنَا قُرْآنٌ مَوْجُودٌ نُسِخَتْ بِهِ، فَلَمَّا جَازَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا بِقُرْآنٍ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ وَجْهَيْ نَسْخِ الْقُرْآنِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وَلِأَنَّ التِّلَاوَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا (وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ) مِنْ الثَّوَابِ إذْ كَانَتْ قُرْآنًا، وَلَا تَسْتَحِقُّ بِغَيْرِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى نَسْخِ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ لَا مَحَالَةَ يَقْتَضِي نَسْخَ حُكْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قُرْآنٌ مَنْسُوخٌ بِغَيْرِ قُرْآنٍ فَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي حُكْمٍ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّ مَا صَحَّ اجْتِمَاعُهُ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ جَازَ النَّسْخُ بِهِ عَلَى (حَسَبِ) مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ تَجْوِيزِ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِيبَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، مُوجِبَةً لِتَوْقِيتِ حُكْمِهِ، أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ كَذَا، ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِعْلُهُ بَعْدَهُ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عِبَادَةٌ أُخْرَى، كَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَالْحَجُّ وَاجِبٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُرُوضِ، وَجَبَ أَنْ (لَا) يَمْنَعَ إبْهَامَ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ ثُمَّ تَرِدُ سُنَّةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِزَوَالِ ذَلِكَ (الْحُكْمِ) ، وَوُجُوبِ ضِدِّهِ كَمَا جَازَ وُجُودُ ذَلِكَ (مِنْهُ) عَقِيبَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. وَالتَّخْصِيصُ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ. إذْ كَانَ النَّسْخُ تَخْصِيصًا بِالْوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ (مِنْهُمَا) ، وَارِدٌ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا تَجْوِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ كَمَا جَوَّزْت تَخْصِيصَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ. قِيلَ لَهُ: لَنَا فِي تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ شَرَائِطُ قَدْ بَيَّنَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 بَعْضَهَا فِيمَا سَلَفَ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا كَانَ (مِنْهُ) ظَاهِرَ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ، إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ السَّلَفُ فِيهِ وَيُسَوِّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ أَوْ يَتَّفِقُوا عَلَى خُصُوصِهِ، فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِمُوجِبِ عُمُومِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَمُوجِبُ حُكْمِهِ ثَابِتٌ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ مُوجِبُهُ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِمَا يَجُوزُ (بِهِ) النَّسْخُ فِي مِثْلِهِ. فَإِنْ قَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ أَنَّهُ يَبْقَى مَعَ التَّخْصِيصِ مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ مَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَبْقَى مَعَ النَّسْخِ حُكْمٌ يُسْتَعْمَلُ. قِيلَ (لَهُ) : هَذَا فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ (آخَرَ) لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَعَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا وَقَدْ مَضَى مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ مَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَذَلِكَ الْوَقْتُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَبَقَّى مِنْ حُكْمِ الِاسْمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا جَوَازُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. وَأَمَّا مَنْ نَفَى جَوَازَهُ مِنْ الْمُخَالِفِينَ بِمَا ادَّعَى (فِيهِ) مِنْ وُرُودِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ احْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] . قَالَ: وَالسُّنَّةُ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلَهُ بِوَجْهٍ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ نَذْكُرُهَا (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) . فَنَبْدَأُ بِبَيَانِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، ثُمَّ نَشْرَعُ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَا عَلَى مَا ادَّعَوْهُ (إنْ شَاءَ اللَّهُ) . فَأَمَّا وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: " بِخَيْرٍ مِنْهَا " لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ (بِهِ) خَيْرًا مِنْهَا فِي نَظْمِهَا وَصُورَتِهَا وَحُرُوفِهَا، أَوْ خَيْرًا مِنْهَا أَصْلَحَ لَنَا وَأَنْفَعَ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا، فَثَبَتَ الْوَجْهُ الثَّانِي وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمٌ ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ أَصْلَحَ لَنَا وَأَنْفَعَ مِنْهُ لَوْ نَزَلَ بِهِ قُرْآنٌ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ قُرْآنًا وَأَنْزَلَ بِبَعْضِهَا وَحْيًا لَيْسَ بِقُرْآنٍ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَصَالِحِنَا (فِيهَا) . وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا وَصَفْنَا فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ نَسْخِهَا بِالسُّنَّةِ لِجَوَازِ إطْلَاقِهَا أَنَّهَا خَيْرٌ لَنَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ " مِثْلِهَا " لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ (جَمِيعِ جِهَاتِهِمَا أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ وُجُودَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِثْلَ الْمَنْسُوخِ فِي نَظْمِهِ وَصُورَتِهِ وَحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ هُوَ الْمَنْسُوخَ وَيُوجِبُ بُطْلَانَ النَّسْخِ رَأْسًا، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ وُجُودُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ) بَعْضِ الْجِهَاتِ، وَقَدْ يَصِحُّ إطْلَاقُ (اسْمِ) الْمَثَلِ إذَا تَمَاثَلَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 23] فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُمَاثَلَةِ لِمُمَاثَلَتِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ إذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْحُورَ الْعِينَ غَيْرُ مُمَاثِلَةٍ لِلُّؤْلُؤِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَإِنَّمَا مِثْلُهُنَّ بِهِ مِنْ جِهَةِ الصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) . فَمَتَى اسْتَحَقَّ اسْمَ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْآيَةِ، وَقَدْ تَكُونُ السُّنَّةُ مِثْلَ الْآيَةِ، مِنْ جِهَةِ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُهُ بِهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا فِيمَا يَكُونُ (مُمَاثِلًا) لَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا (يُقَالُ) هُوَ مِثْلُهُ عَلَى التَّقْيِيدِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يُرِدْ بِالْمِثْلِ هَاهُنَا مَا ذَكَرْت، لِمَا بَيَّنَّا، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. وَأَمَّا مَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ النَّاسِخَ لَهَا، وَإِنَّمَا (قُلْنَا) (فِيهَا) أَنَّهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْسَخَ الْآيَةَ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ يَأْتِي بِآيَةٍ أُخْرَى مِثْلِهَا وَلَا تَكُونُ هِيَ النَّاسِخَةَ إذْ لَمْ يَقُلْ (مَا نَنْسَخْ) مِنْ آيَةٍ نَأْتِ بِمَا يَنْسَخُهَا خَيْرًا مِنْهَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ (أَنَّ قَوْلَهُ) " نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ، وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا يَكُونُ بِآيَةٍ مِثْلِهَا بَلْ بِغَيْرِ آيَةٍ ثُمَّ يَأْتِي بِآيَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا لَيْسَتْ هِيَ النَّاسِخَةَ لِلتِّلَاوَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْحُكْمِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ هُوَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ دُونَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلنَّظْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ بَاقِيَةً وَالْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، وَقَدْ تُنْسَخُ الْآيَةُ وَالْحُكْمُ بَاقٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ اسْمٌ لِلرَّسْمِ وَالنَّظْمِ دُونَ الْحُكْمِ، (فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] عَلَى نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ دُونَ الْحُكْمِ) ، وَأَلَّا يَدْخُلَ الْحُكْمُ فِيهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَيْضًا لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] مِنْ (أَحَدِ) أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يُرِيدَ (بِهِ) نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ أَوْ نَسْخَ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ أَوْ نَسَخَهُمَا مَعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى مَوْضُوعِ الْخِلَافِ (لِأَنَّ الْخِلَافَ) بَيْنَنَا فِي نَسْخِ الْحُكْمِ، وَلَمْ نَخْتَلِفْ أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ (قَدْ) يَكُونُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ السُّنَّةِ خَيْرًا لَنَا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ فِي بَابِ أَنَّهُ أَصْلَحُ لَنَا وَأَنْفَعُ، لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْرِ لَا يُطْلَقُ فِي مِثْلِ هَذِهِ إلَّا بِإِضْمَارِ إضَافَتِهِ إلَى مَنْ يَحْصُلُ لَهُ، لِأَنَّك لَا تَقُولُ إنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا إلَّا وَمُرَادُك أَنَّهُ خَيْرٌ لِمَنْ تَعَبَّدَ بِهِ أَوْ جَعَلَ لَهُ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ مَعًا، فَإِنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ بِغَيْرِ قُرْآنٍ، بِأَنْ يُنْسِيَ اللَّهُ مَنْ يَحْفَظُهَا أَوْ يَأْمُرَ عَلَى (لِسَانِ) رَسُولِ اللَّهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا فَتُنْسَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَمْنَعْ نَسْخَ الْحُكْمِ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُهُمَا مَعًا بِالسُّنَّةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] ؟ (أَوْ مِثْلِهَا أَنْ يَكُونَ) خَيْرًا مِنْ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِتِلَاوَتِهَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ يَعْنِي فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِتِلَاوَتِهَا مِنْ الثَّوَابِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِهَا. وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَعْدِلَ بِهِ عَنْ قُرْآنٍ مِثْلِهِ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِقُرْآنٍ مِنْ جِهَةِ مَا ذُكِرَ، ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 الْجَوَابُ: إنَّ هَذَا لَا يُعْتَرَضُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَدَّمْنَا وَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّا إذَا سَلَّمْنَا لَهُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ فِي كَوْنِ التِّلَاوَةِ خَيْرًا لَهُ لِمَا يُسْتَحَقّ بِهَا مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ. فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ كَوْنُ ثَوَابِهَا خَيْرًا لَنَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَصْمُنَا أَوْلَى بِصَرْفِ مَعْنَاهَا إلَيْهِ مِنَّا (بِصَرْفِهِ) إلَى الْحُكْمِ وَمَا لَنَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ خَيْرًا مِنْهَا أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا (لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَنْفَعُ لَنَا) ، وَأَصْلَحُ إمَّا مِنْ جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالسُّنَّةِ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقُرْآنِ، إنْ كَانَ هَذَا الْإِطْلَاقُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا فِي بَابِ أَنَّهُ أَصْلَحُ لَنَا، فَلَيْسَ إذَنْ فِيمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الثَّانِي خَيْرًا مِنْ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَأَيْضًا: فَإِذَا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ السُّنَّةِ خَيْرًا لَنَا مِنْ حُكْمٍ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَجَازَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهِ كَمَا جَازَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ، كَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ تَجْوِيزَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَسْخِهَا بِقُرْآنٍ مِثْلِهَا، أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا، مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ وَمِنْ نَسْخِهَا بِالسُّنَّةِ مِنْ جِهَةِ مَا يَكُونُ خَيْرًا لَنَا فِي بَابِ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ نَسْخُ النَّظْمِ وَالتِّلَاوَةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالرَّسْمِ لَا الْحُكْمِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ. إذْ جَائِزٌ بَقَاءُ الْحُكْمِ مَعَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ نَظْمِ آيَةٍ وَرَسْمِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فَلَا يَعْتَرِضُ (ذَلِكَ) عَلَى مَوْضُوعِ الْخِلَافِ، لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ بِالسُّنَّةِ لَا فِي نَسْخِ النَّظْمِ وَالتِّلَاوَةِ، إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ وُقُوعُهُ بِغَيْرِ قُرْآنٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَأَيْضًا: فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] دَلَالَةٌ عَلَى (أَنَّ) الْمَأْتِيَّ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 هُوَ النَّاسِخُ لَهَا، إذْ لَمْ يَقُلْ نَأْتِ بِمَا يَنْسَخُهَا خَيْرًا مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَأْتِ بِنَاسِخٍ خَيْرٍ مِنْهَا، لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ دَعْوَاهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا، إذْ لَيْسَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِأَوْلَى بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ مِنْ الْآخَرِ، بَلْ لَوْ قُلْنَا: إنَّ الْأَظْهَرَ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ فَحْوَى الْخِطَابِ، نَسْخُ الْآيَةِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ وُجُوهِ النَّسْخِ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَ قُرْآنٍ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، كَانَ قَوْلًا سَدِيدًا أَوْ أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِنَا. فَإِنْ قَالَ: قَوْله تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْآيَةِ بِقُرْآنٍ مُعْجِزٍ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَنَعَ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ. قِيلَ لَهُ: (وَلَوْ) سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ التِّلَاوَةِ (وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ) ، وَالنَّظْمِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَنَا، فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهَا (عَلَى أَنَّ هَذَا يَدُلُّ) عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ. وَمِنْ (وَجْهٍ آخَرَ) : لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْت لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ مِثْلُهَا هُوَ النَّاسِخُ لَهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَسْخَ حُكْمِ الْقُرْآنِ أَوْ تِلَاوَتِهِ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَيَأْتِي مَعَ ذَلِكَ بِقُرْآنٍ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَجُوزُ فِيهِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي (بِهِ) بَعْدَ النَّسْخِ يَكُونُ قُرْآنًا (إنْ اقْتَضَتْ) الْآيَةُ ذَلِكَ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ حُكْمًا مِنْ جِهَةِ وَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ. وَيَصِحُّ الْوَصْفُ لَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ الَّذِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ بَعْدَ النَّسْخِ قُرْآنٌ مُعْجِزٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ} [يونس: 15] (فَدَلَّ أَنَّهُمْ) سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْآيَةِ نَفْسِهَا وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُبَدِّلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَوْ جَازَ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ لَكَانَ قَدْ بَدَّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ (إذَا كَانُوا) سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْآيَةِ نَفْسِهَا لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْقُرْآنِ، هَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ أَمْ لَا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ النَّظْمِ وَالرَّسْمِ، أَوْ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ، أَوْ تَبْدِيلَهُمَا جَمِيعًا. فَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ النَّظْمِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ أَحَدًا غَيْرُ اللَّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَبْدِيلِ نَظْمِ الْقُرْآنِ إلَى نَظْمٍ آخَرَ مُعْجِزٍ. فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ دُونَ النَّظْمِ لَمْ يُعْتَرَضْ أَيْضًا عَلَى قَوْلِنَا، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ نَفْيٌ تَبْدِيلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّهُ يُبَدِّلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُبَدِّلُهُ اللَّهُ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ إمَّا قُرْآنٌ (وَإِمَّا) غَيْرُ قُرْآنٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ {إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ} [يونس: 15] (وَالْوَحْيُ) لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَبْدِيلِ حُكْمِهِ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا حَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى الْحُكْمِ، لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ نَسْخُ النَّظْمِ وَالرَّسْمِ. إذْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ كَانَ قُرْآنًا وَجَوَّدَهُ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ النَّظْمِ، وَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ النَّظْمِ وَالْحُكْمِ مَعًا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ إنَّهُ يُبَدِّلُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَ (إنَّمَا) قُلْنَا إنَّمَا يَتَّبِعُ مَا يُوحَى إلَيْهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وَمَا يُوحَى إلَيْهِ قَدْ يَكُونُ قُرْآنًا وَغَيْرَ قُرْآنٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُنْسَخُ الْآيَةُ بِآيَةٍ مِثْلِهَا قَطْعًا لِحُجَجِ الْكُفَّارِ وَإِبْطَالًا لِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ افْتَرَاهَا وَأَنَّهُ أَتَى بِهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: وَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] مَا يُوجِبُ أَنَّ حُكْمَ الْقُرْآنِ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ إذَا بَدَّلَ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ قَالَ الْكُفَّارُ {إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ لَا يَنْسَخُهَا بِالسُّنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (إنَّهُ) إنَّمَا بَدَّلَ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ قَطْعًا لِحُجَجِ الْكُفَّارِ وَبُطْلَانًا لِدَعْوَاهُمْ فَإِنَّهُ (قَدْ) أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا (مَعَ) تَبْدِيلِ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ وَلَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ مِنْ نَسْخِ آيَةٍ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ وَإِنْ قَالَ الْكُفَّارُ ذَلِكَ. وَعَلَى أَنَّ " قَوْلَهُ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] إنَّمَا يَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْمَتْلُوِّ لَا الْحُكْمَ وَلَيْسَ (فِي) الْمَتْلُوِّ مَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْمَتْلُوِّ، فَلَيْسَ لِمَا ذَكَرُوهُ تَعَلُّقٌ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ نَسَخَهَا بِالسُّنَّةِ لَارْتَابَ الْكُفَّارُ وَقَالُوا: إنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ ارْتَابَ الْكُفَّارُ مَعَ نَسْخِهَا بِآيَةٍ أُخْرَى وَلَمْ يَمْنَعْ، ارْتِيَابُهُمْ مِنْ نَسْخِهَا بِآيَةٍ غَيْرِهَا. فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا (عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِمَا قَدَّمْنَا) وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 السَّمْعِ مَا يَمْنَعُ (مِنْ) ذَلِكَ، وَنُدِلُّ الْآنَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ (لَا يَجِدُ) نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ إيَّانَا عَلَى تَجْوِيزِهِ فَنَقُولُ: إنَّ أَصْحَابَنَا قَدْ ذَكَرُوا أَحْكَامًا فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا إلَّا بِالسُّنَّةِ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ} [النساء: 15] إلَى قَوْله تَعَالَى: {تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] . فَاتَّفَقَ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ كَانَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالْجَلْدِ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْمُوجِبُ (لِنَسْخِ) ذَلِكَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ، وَالرَّجْمُ» . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى نُسِخَا بِالْخَبَرِ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فِي هَذَا الْحَدِيثِ) «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» فَنَبَّهَنَا عَلَى وُجُودِ السَّبِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] ، وَدَلَّ بِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي» عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِخْبَارُ بِالنَّسْخِ فِي الْحَالِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا النَّسْخَ وَاقِعٌ لَا بِقُرْآنٍ بَلْ بِسُنَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «خُذُوا عَنِّي» قَدْ أَفَادَ وُقُوعَ النَّسْخِ بِسُنَّتِهِ لَا بِالْقُرْآنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ وَأَنَّ السَّبِيلَ كَانَ مُتَقَدِّمًا، فَلَمْ يَكُنْ (يَصِحُّ) الْإِخْبَارُ بِأَنَّ السَّبِيلَ مَأْخُوذٌ عَنْهُ وَلَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَى وُجُودِهِ إلَّا مَعَ تَقَدُّمِ عِلْمِهِمْ بِهَا، وَتَقْرِيرِهَا قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْت، لَكَانَتْ دَلَالَةُ الْخَبَرِ قَائِمَةً عَلَى وُقُوعِ نَسْخِهَا بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهَا مَقْصُورٌ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَقَدْ كَانَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى حَدًّا ثَابِتًا عَلَى الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ كَانَ حَدًّا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَكَانَتْ آيَةُ الْجَلْدِ نَاسِخَةً لِلْحَبْسِ وَالْأَذَى عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ. وَلَوْ خَلَّيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَمُقْتَضَى حُكْمِ آيَةِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَآيَةِ الْجَلْدِ، لَأَوْجَبَ ذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى فِي الْمُحْصَنَيْنِ،، وَلَا شَيْءَ نَسَخَهُ عَنْهُمَا إلَّا إيجَابُ الرَّجْمِ وَالرَّجْمُ (إنَّمَا) ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي آيَةِ الْجَلْدِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا، وَمَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ بِغَيْرِهِ (وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ) . فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَلَّا يَدُلَّ حَدِيثُ عُبَادَةَ فِي الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عَلَى نَسْخِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى. لِأَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ مُؤَقَّتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] فَإِنَّمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ السَّبِيلَ كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْآيَةِ إلَى سَنَةٍ لَمْ يَكُنْ مُضِيُّ السَّنَةِ مُوجِبًا لِنَسْخِهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ إذَا لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْقَوْلِ أَلَّا يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَيَكُونُ حَدُّهُمَا الْحَبْسَ وَالْأَذَى عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 التَّأْبِيدِ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] لَكَانَ مَعْقُولًا مِنْ الْآيَةِ ثَبَاتُ حُكْمِهَا إلَى أَنْ يَنْسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَذِكْرُ السَّبِيلِ إنَّمَا أَفَادَ تَأْكِيدَ بَقَاءِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ وُقُوعِ النَّسْخِ. وَعَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت كَانَتْ دَلَالَةُ الْخَبَرِ قَائِمَةً عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبِيلَ مَذْكُورٌ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الرِّجَالِ، لِأَنَّ حَدَّ الرَّجُلِ كَانَ الْأَذَى إلَى أَنْ يَتُوبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] ، وَهُوَ مَنْسُوخٌ الْآنَ بِرَجْمِ الْمُحْصَنِ وَجَلْدِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الرَّجْمِ النَّاسِخِ لِحُكْمِ الْآيَةِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ فَلَا مَحَالَةَ قَدْ أَوْجَبَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ، وَالْأَذَى كَانَ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ، فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْصَنِ حُكْمٌ ثَابِتٌ فَكَانَ وُجُوبُ الرَّجْمِ حَدًّا مُبْتَدَأً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ السَّلَفِ قَدْ قَالَ إنْ ذَلِكَ كَانَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرُوا فَرْقًا بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ حَدًّا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَنُقِلَ وَلَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعْلَمُوهُ حَدًّا لِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ فَيَنْقُلُوا مَا يُوجِبُ كَوْنَهُ حَدًّا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ، إخْبَارٌ بِأَنَّ السَّبِيلَ لِجَمِيعِ مَنْ تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ السَّبِيلِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، لَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَصَرَ بِذِكْرِ السَّبِيلِ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ، فَلَمَّا جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 الْمُحْصَنَاتِ وَغَيْرِهِنَّ فِي بَيَانِ السَّبِيلِ فَقَالَ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي (الْآيَةِ كَانَ لِلْفَرِيقَيْنِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ السَّبِيلُ الْمَذْكُورُ فِي) الْخَبَرِ نَاسِخًا لِلْحُكْمِ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا. وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ: نُسِخَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى عَنْ الْمُحْصَنِينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ» . فَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَإِنَّمَا يَنْقُضُ بِذَلِكَ قَوْلَ صَاحِبِهِ. وَقَالَ قَائِلٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى مَنْسُوخَيْنِ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الَّذِي كَانَ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، فَلَا يَدُلُّ مَا ذَكَرْت عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ. وَهَذَا (أَيْضًا) غَلَطٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ السَّبِيلَ فِي الْآيَةِ كَانَ عَقِيبَ مَا أَوْجَبَهُ بِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ نَقَلُوا مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى مَا هُوَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَا وَاسِطَةِ حُكْمٍ بَيْنَهُمَا. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّ مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ مِنْ قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» كَانَ قُرْآنًا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَكَيْفَ يَكُونُ قُرْآنًا مَعَ إخْبَارِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنْهُ لَا عَنْ الْقُرْآنِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَنْسُوخَانِ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الْمَذْكُورِ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا قَطُّ. وَلَوْ كَانَ قُرْآنًا مَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ لَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خُذُوا عَنِّي» ، وَلَكَانَ السَّبِيلُ الَّذِي جُعِلَ لَهُنَّ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ الثَّابِتِ الْحُكْمِ، وَفِي خَبَرِ عُبَادَةَ مَا يَنْفِي هَذَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَنْسُوخَانِ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُهُ بِقُرْآنٍ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّهُ لَوْ شَاعَ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ سُنَّةٍ ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ، فَيُوجِبُ هَذَا أَلَّا يَثْبُتَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُنَّةٌ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي جَمِيعِ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا قَدْ وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ إنَّهُ إنَّمَا نُسِخَ بِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ، ثُمَّ نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى بِالْحُكْمِ الْآخَرِ. وَهَذَا خَلَفٌ مِنْ الْقَوْلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: مَا نُسِخَتْ سُنَّةٌ قَطُّ إلَّا بِقُرْآنٍ قَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ فَيُوجِبُ هَذَا بُطْلَانَ قَوْلِ مُخَالِفِنَا إنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ عُبَادَةَ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: (وَهُوَ) أَنَّ خَبَرَ عُبَادَةَ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ فِي إيجَابِ الرَّجْمِ، إلَّا مَنْ شَذَّ عَلَيْهَا مِمَّنْ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ خِلَافًا مِنْ الْخَوَارِجِ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَيَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَقَدْ أَجَازَ أَصْحَابُنَا نَسْخَ الْقُرْآنِ بِهِ لِتَلَقِّي النَّاسِ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ رَجْمَ الْمُحْصَنِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ مُنْتَشِرَةٍ مُوجِبَةِ عِلْمٍ بِمُخْبَرَاتِهَا فَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا الرَّجْمَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَبِخَبَرِ عُبَادَةَ، وَأَثْبَتْنَا بِهَا نَسْخَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى عَنْ الْمُحْصَنَاتِ، فَصَارَ حَظُّ خَبَرِ عُبَادَةَ فِي إثْبَاتِ تَارِيخِ الرَّجْمِ، وَأَنَّهُمْ نَقَلُوا أَمْرَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى الرَّجْمِ بِلَا وَاسِطَةِ حُكْمٍ بَيْنَهُمَا وَلَا نُزُولِ آيَةٍ قَبْلَهُ أَوْجَبَتْ نَسْخَهُمَا. [إثْبَاتُ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النَّسْخِ] وَقَدْ يَجُوزُ إثْبَاتُ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النَّسْخِ إذَا كَانَ النَّسْخُ وَاقِعًا بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا. وَمِمَّا قِيلَ إنَّهُ نَسْخٌ مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . وقَوْله تَعَالَى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فَقَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 180] مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، وَنَحْوُهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَلَمْ يُنْسَخْ إلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 فَزَعَمَ مُخَالِفُونَا أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَأَخْبَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ الْمِيرَاثَ. كَانَ مَعْقُولًا أَنَّ النَّاسِخَ لِلْوَصِيَّةِ هُوَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لَا قَوْلُهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا (ذَكَرَهُ مِنْ) ذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمِيرَاثِ نَاسِخًا لِلْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَآيَةُ الْمَوَارِيثِ إنَّمَا فِيهَا إيجَابُ (الْمِيرَاثِ) بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَلَوْ خُلِّينَا وَالْآيَتَيْنِ لَجَمَعْنَا لَهُمَا بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ حُكْمَيْنِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَ فِي وُرُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. فَوَجَبَ عَلَى هَذَا مَتَى وَجَدْنَا حُكْمَيْنِ قَدْ نُسِخَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ إيجَابِ الْآخَرِ مِمَّا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّسْخَ وَاقِعٌ بِغَيْرِهِ لِأَنَّا لَوْ خُلِّينَا وَإِيَّاهُمَا لَمَا أَوْجَبْنَا نَسْخًا، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» لَا يُوجِبُ مَا ذَكَرُوهُ، لِأَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ إذَنْ لَمْ تُوجِبْ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِمَا بَيَّنَّا، فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّهَا هِيَ النَّاسِخَةُ لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَإِنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَا قَالُوا، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى الْمِيرَاثَ، فَنَسَخَ وَصِيَّتَهُ (بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ) لَا بِآيَةِ الْمِيرَاثِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا بَلْ يَكُونُ سَائِغًا جَائِزًا، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخَةً بِالْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذِكْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمِيرَاثَ عِنْدَ ذِكْرِ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ (أَنَّهُ) ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ وَإِنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ حَظِّ الْمِيرَاثِ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَأَخْبَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَمْ يُخْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ قَبْلَ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ وَبَعْدَهَا مِنْ حَظٍّ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُخَالِفُ مَا يَنْفِي أَنَّ كَوْنَ الْمِيرَاثِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَأَجَازَ لَهُ وَصِيَّةً أَيَّ وَصِيَّةٍ كَانَتْ، لِأَنَّهُ أَطْلَقَهَا بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ، ثُمَّ جَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ عَلَى السِّهَامِ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ يَسْتَحِقُّهَا الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخَ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] نَفْيٌ لِجَوَازِ (نَسْخِ) الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، إذْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَصِيَّةً مَنْكُورَةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ عَلَى قَوْمٍ، فَهِيَ جَائِزَةٌ لِلْوَارِثِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَلَمْ يَنْسَخْ جَوَازَهَا لِلْوَارِثِ إلَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . قِيلَ (لَهُ) : الَّذِي فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ جَوَازِهَا إلَّا عَنْ الْوَاجِبِ، وَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ جَوَازَهَا عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّعِ بِهَا، وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَمَّا كَانَتْ مُطْلَقَةً عَلَى وَجْهِ النَّكِرَةِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ نَسْخَ إيجَابِهَا. فَإِذَنْ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» لَمْ يُنْسَخْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الَّذِي فِيهَا الْإِيجَابُ قَدْ نُسِخَ بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْجَوَازُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِيجَابِ فَهُوَ حُكْمٌ آخَرُ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ اللَّفْظُ إلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إيجَابِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ (وَيُخَصِّصُهَا بِلَفْظٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَطْلَقَهَا بِلَفْظِ النَّكِرَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ وَصِيَّةٍ لِمَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى نَسْخِ وُجُوبِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) إذْ جَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ إيجَابَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] لِأَنَّهُ اقْتَضَى جَوَازَهَا لِسَائِرِ النَّاسِ، وَجَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَهَا لِلْوَرَثَةِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نَسْخَ وُجُوبِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَارِثِينَ كَانُوا أَوْ غَيْرَ وَارِثِينَ، وَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ طَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ فِي آخَرِينَ حِينَ أَثْبَتُوا فَرْضَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً وَلَمْ يُجَوِّزُوهَا لِلْأَجْنَبِيِّينَ مَا دَامَ هَؤُلَاءِ مَوْجُودِينَ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 لِلْمُعْتَقَيْنِ فِي الْمَرَضِ الثُّلُثَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ قَرَابَةٌ (قَالَ) : فَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي مِنْهُ إجَازَةَ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً بِالْخَبَرِ. وَمِمَّا قِيلَ: إنَّهُ نَسْخٌ مِنْ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] قَالُوا: فَقَدْ كَانَ هَذَا حُكْمًا عَامًّا مُسْتَقِرًّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْعُمُومِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخَّرَ الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ» لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ. قَالُوا: وَقَدْ اعْتَرَفَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ فِي أَمْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا عِنْدِي لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى وُجُودِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا فِي حَالِ الْخَوْفِ وَفِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُتَنَفِّلِ ثُمَّ نُسِخَ تَرْكُ التَّوَجُّهِ إلَيْهِمَا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ: بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُؤْمَرُوا بَدْءًا بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ إلَّا فِي حَالِ الْأَمْنِ وَفِي غَيْرِ حَالِ السَّفَرِ لِلْمُتَنَفِّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ (وَإِنَّمَا كَانَتْ حَالَ الْخَوْفِ) مَخْصُوصَةً مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مَنْ لُزُومِ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا قَدْ كَانَ عَامًّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ نُسِخَ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ قَدْ عَلِمَتْ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ خِطَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا أَوْجَبَ كَوْنَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الْأَمْنِ (وَالْإِقَامَةِ) دُونَ حَالِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا غَيْرَ مُتَوَجِّهٍ إلَى الْكَعْبَةِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَعَلَى أَنَّ (فِي) سِيَاقِ قِصَّةِ الْأَمْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] يَقْتَضِي لُزُومَ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ حَتْمًا كَانَ قَوْله تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] مُسْتَعْمَلًا فِي حَالَتَيْ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ - لِلتَّنَقُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ - اللَّتَيْنِ صَلَّى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِمَا إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ نُسِخَ كَمَا لَا يُقَالُ فِي قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أَنَّهُ نَاسِخٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِخًا لَكَانَ (نَسْخُ الْقُرْآنِ) بِقُرْآنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي تَطَوُّعًا حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ يَأْتِي مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ» قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِي رَاحِلَتِي تَطَوُّعًا ثُمَّ تَلَا {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] .، وَقَالَ: فِي هَذَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ الَّتِي أَبَاحَتْ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خُصَّتْ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ عَامًّا أَوْ نَسَخَتْهَا، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَقَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي حَالِ الْخَوْفِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَئِذٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 لِتَعَذُّرِ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا. فَإِنَّهُ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ جَمِيعًا أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ. فَثَبَتَ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ (قَدْ) كَانَتْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، لِأَنَّهُ شُغِلَ بِالْقِتَالِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسَايِفِ وَالْمُقَاتِلِ صَلَاةٌ وَأَنَّهُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْقِتَالُ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَئِذٍ «مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى» . وَمِمَّا قِيلَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ مِنْ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخٌ (الْآنَ) عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ نَسْخَهُ كَانَ بِالسُّنَّةِ. وَمِمَّا نُسِخَ مِنْهُ أَيْضًا بِغَيْرِ قُرْآنٍ مَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] قَالَتْ: «مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أُحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ» ، وَرُوِيَ عَنْهَا حَتَّى " أُحِلَّ لَهُ نِسَاءُ أَهْلِ الْأَرْضِ ". وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا (يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ) فَثَبَتَ أَنَّهُ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] قِيلَ لَهُ: لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى النِّسَاءِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك} [الأحزاب: 50] إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَلَمْ يُوجِبْ نَسْخَ قَوْلِهِ {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] ، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ {إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك} [الأحزاب: 50] . وَأَمَّا نَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَالْقُرْآنُ وَمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ يُوجِبَانِ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا تَضَمَّنَاهُ، فَغَيْرُ (جَائِزٍ) أَنْ (يَنْزِلَ مَا) كَانَ هَذَا وَصْفُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يَجُوزُ تَرْكُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُهُ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ الْمَنْعِ قَدْ وَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهَا وَيُقْبَلُ (مَعَ ذَلِكَ) خَبَرُ الْوَاحِدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فِي حَظْرِهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَشْيَاءَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِيهِ، فَإِنَّا مَتَى قَصَدْنَا إلَى اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا طَرِيقُ اسْتِبَاحَتِهِ الِاجْتِهَادُ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي أَلَّا يَلْحَقَنَا بِهِ ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِمَّا نَرْجُو بِهِ مِنْ نَفْعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي التِّجَارَاتِ وَالْخُرُوجَ فِي الْأَسْفَارِ وَشُرْبَ الْأَدْوِيَةِ وَأَكْلَ الْأَطْعِمَةِ إنَّمَا يَصِحُّ لَنَا مِنْهَا اسْتِبَاحَةُ مَا لَا يَلْحَقُنَا بِهِ ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِنْ النَّفْعِ الَّذِي نَرْجُوهُ بِهَا فِي غَالِبِ ظَنِّنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ (فِيمَا) سَلَفَ، وَذَكَرْنَا أَنَّ نَظِيرَهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مَرَضِيَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِمَا أَوْجَبَ لَنَا الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ، ثُمَّ مَتَى عَيَّنَّا شَاهِدَيْنِ كَانَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا (مِنْ طَرِيقِ غَالِبِ الظَّنِّ لَا مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسَعُ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمَا) عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ قَبُولِهَا أَوْ رَدِّهَا فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا فِي كَوْنِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةً فِي الْأَصْلِ هُوَ عَلَى (هَذَا السَّبِيلِ) . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 [بَابٌ ذِكْرُ نَسْخِ النَّاسِخِ مِنْ الْأَحْكَامِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ يَرِدُ النَّسْخُ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] (وَقَالَ السُّدِّيُّ قَوْلُهُ {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ. وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى. {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ بَدْءًا، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ اللَّذَيْنِ نُسِخَ بِهِمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ، وَالرَّجْمُ» وَهَذَا الْحَدُّ مَنْسُوخٌ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . وَعَنْ الْمُحْصَنِ رَجْمُهُ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ (مِنْ غَيْرِ جَلْدٍ وَبِقَوْلِهِ:) «يَا أُنَيْسُ اُغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، فَلَمْ تُوجِبْ الْآيَةُ النَّفْيَ، وَلَمْ يُوجِبْ الْخَبَرُ الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ (بْنِ الصَّامِتِ) لِأَنَّهُمْ نُقِلُوا مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى مَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ، بِلَا وَاسِطَةٍ لِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ثُمَّ كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ وَقِصَّةُ مَاعِزٍ بَعْدَ ذَلِكَ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ حَدِيثُ: إبَاحَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ حُظِرَ ثُمَّ أُبِيحَ، ثُمَّ حُظِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ، فَرَوَى: أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ، وَرَوَى: أَنَّ قُدُومَهُ مِنْهَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ، قَالَ: فَسَلَّمْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، وَقَدْ كَانَ يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ، فَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ: أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» فَثَبَتَ بِذَلِكَ حَظْرُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مُتَقَدِّمًا لِيَوْمِ بَدْرٍ. وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فِي إبَاحَتِهِ أَيْضًا قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ (لِأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ) وَرُوِيَ عَنْ «زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ» . فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ مُشَاهَدَةَ حَالِ: إبَاحَةِ الْكَلَامِ مِنْهَا، وَهُوَ (مِمَّنْ) لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَلَمْ يَكُنْ (حِينَئِذٍ) مِمَّنْ يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ، أَوْ عَسَى لَمْ يَكُنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وُلِدَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ: إبَاحَتُهُ بَعْدَ حَظْرِهِ، ثُمَّ حَظَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَائِرِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَظْرِهِ، نَحْوُ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» وَلِأَنَّ (النَّاسَ قَدْ) اتَّفَقُوا: أَنَّ آخِرَ حُكْمِهِ كَانَ الْحَظْرَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ (رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَاحَهَا، ثُمَّ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ» ، وَرَوَى سَمُرَةُ الْجُهَنِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَاحَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ حَرَّمَهَا» (فَدَلَّ أَنَّهَا) أُبِيحَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ، ثُمَّ حُظِرَتْ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ، فَكَانَ آخِرُ أَمْرِهَا الْحَظْرَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 [بَابٌ آخَرُ فِي النَّسْخِ] ِ رُوِيَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَبِالْهِجْرَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. وَأَنَّ الرَّحِمَ (بَعْدَ) قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وَقَالَ تَعَالَى {والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] وَقَالَ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] . فَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ نَسْخًا، وَيَقُولُ: إنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ أَوْلَى مِنْ وَارِثٍ قَالَ: فَأَمَّا الْمِيرَاثُ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ فَقَائِمٌ لَمْ يُنْسَخْ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ اسْتَحَقَّ (الْحَلِيفُ) الْمِيرَاثَ، إذَا كَانَ عَاقَدَهُ وَوَالَاهُ عَلَى (أَنَّهُ) يَرِثُهُ إذَا مَاتَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ هَمْدَانَ مَا أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُ وَارِثًا مِنْكُمْ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلْيَضَعْ أَحَدُكُمْ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِمَا وَصَفْنَا: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا أَنَّ الْأَخَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ وَلَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ، وَلَا يَكُونُ مِيرَاثُهُ مَنْسُوخًا عِنْدَ وُجُودِ الِابْنِ، كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنْ (ذِي رَحِمٍ) أَوْ وَلَاءٍ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضَعَ مِيرَاثَهُ حَيْثُ شَاءَ، بِحُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّوَارُثِ بِالْمُعَاقَدَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي نَقُولُ فِي ذَلِكَ: وُجُوبُ الْإِرْثِ بِالْمُعَاقَدَةِ مَنْسُوخٌ لَا مَحَالَةَ فِي حَالِ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَوْجَبَهُ لِلْحَلِيفِ مَعَ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ، وَمَعَ عَدَمِهِمْ، وَجَعَلَهُ أَوْلَى مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] . فَقَدْ صَرَفَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا كَانَ جَعَلَهُ لَهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِ الْمَيِّتِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ مِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقِدِ، فِي حَالِ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُو رَحِمٍ: فَحُكْمُ الْإِرْثِ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ، فَكَأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى إحْدَى حَالَيْ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالْحَلِفِ (وَهِيَ حَالُ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ دُونَ غَيْرِهَا، وَنُفِيَ هَذَا الْحُكْمُ) فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتْرُكُ الْمَيِّتُ فِيهَا ذَا رَحِمٍ عَلَى مَا أَوْجَبَتْهُ الْآيَةُ الْمُوجِبَةُ لِمِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقَدَةِ. وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا وَلَيْسَ بِنَسْخٍ قَوْله تَعَالَى {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّاسُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سُتُورٌ، فَكَانَ خَادِمُ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَيْهِ وَهُوَ مَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ لِذَلِكَ، فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَالَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَوْ عَادَ لَعَادَ الْحُكْمُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بَاقٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ، مَتَى زَالَ السَّبَبُ عَادَ الْحُكْمُ، كَالْحَائِضِ لَا صَلَاةَ عَلَيْهَا، لِأَجْلِ وُجُودِ الْحَيْضِ الَّذِي إذَا زَالَ لَزِمَتْهَا الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ لِلصَّلَاةِ عَنْهَا، لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِحُدُوثِ سَبَبٍ، مَتَى زَالَ عَادَ حُكْمُ لُزُومِهَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ، فَنُقِلَتْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ الْآيَةُ فِي إيجَابِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَسْبَابِ السَّاتِرَةِ لَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ الدَّاخِلِينَ إلَيْهِمْ، مِنْ خَدَمِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ مَقْصُورًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ نُقِلُوا عَنْهُ بِالْآيَةِ إلَى غَيْرِهِ (فَمَتَى زَالَ السَّبَبُ) الَّذِي مِنْ (أَجْلِهِ) أُمِرُوا بِذَلِكَ (زَالَ) الْحُكْمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي لُزُومِ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ] ِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَلْزَمُنَا الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَرَائِعِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا، وَإِنَّمَا الْمَبْعُوثُ إلَيْنَا نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا شَرِيعَتُهُ خَاصَّةً دُونَ شَرَائِعِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ مَا ثَبَتَ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ فَهُوَ لَازِمٌ لَنَا، ثَابِتُ الْحُكْمِ عَلَيْنَا، وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، بِأَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: أَنَّ حُكْمَ كَيْتَ وَكَيْتَ قَدْ كُنْت شَرَعْته لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيُخْبِرُنَا بِذَلِكَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَيَلْزَمُنَا ذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْزَمُنَا لَوْ شَرَعَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وَأَمَّا مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ غَيَّرُوا كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ وَبَدَّلُوهَا، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رِوَايَةِ مَنْ حَكَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ كَذَا، وَلَا إلَى رِوَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ أَيْضًا، لِأَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إثْبَاتِ الشَّرِيعَةِ، بِكُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الشِّرْبِ، لِإِجَارَةِ الْمُهَايَأَةِ فِي الشِّرْبِ، بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ، حِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] . وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً: أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهَؤُلَاءِ لَازِمٌ لَنَا. ثُمَّ جَائِزٌ لَنَا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ إنَّمَا رَآهُ لَازِمًا لَنَا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَدْ كُنْت أَرَى أَبَا الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَظَاهِرُ احْتِجَاجِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى هَذَا الْمَذْهَبَ صَحِيحًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ؟ قَائِلٌ: قَدْ كَانَتْ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى آخِرِ الْأَبَدِ مَا لَمْ يُنْسَخْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 أَوْ يَقُولُ: إنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ لَمْ تَلْزَمْ النَّاسَ كَافَّةً عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْنَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِعِ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ شَرِيعَةً لِلْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِينَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. أَوْ يَقُولُ قَائِلٌ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ ثَابِتَةً، لَا مِنْ جِهَةِ بَقَاءِ هَذَا، إذَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهَا عَلَى مَا قَالَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ بَدْءًا وَلَا مِنْ جِهَةِ: أَنَّهَا صَارَتْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: أَنَّهُ شَرَعَهَا لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا حَتَّى يَأْمُرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا أَوْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهَا شَرِيعَةٌ لَنَا. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ بَعِيدٌ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ هَكَذَا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا، وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَوَامِرُ أَوَامِرَ لَنَا، وَقَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ (خُصِصْت بِخَمْسٍ لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، مِنْهَا: أَنِّي بُعِثْت إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ) وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا طَلَبُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَنَتَّبِعُهَا، وَلَدَعَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّاسَ إلَيْهَا دُعَاءً عَامًّا، كَدُعَائِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ نَقْلًا عَامًّا، وَلَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَعْلِيمُهَا الصَّحَابَةَ وَتَبْلِيغُهَا إيَّاهُمْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنَقَلُوهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 كَنَقْلِهِمْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَحِيفَةً فَقَالَ: مَا هَذِهِ فَقَالَ: التَّوْرَاةُ، فَغَضِبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ كَمَا تَهَوَّكَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ لَوْ كَانَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» فَهَذَا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَنَا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَهَاهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهَا وَعَنْ تَعَلُّمِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ بَدَّلَتْ وَغَيَّرَتْ، فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ نَتَّبِعَ مِنْهَا مَا قَدْ بَدَّلُوهُ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَقَالَهُ لَهُ، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ: (لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) ، دَلَّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ تَكُنْ قَائِمَةً ثَابِتَةَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً ثَابِتَةً لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْبَقَاءِ عَلَيْهَا، مَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْوَجْهُ يَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْمَقَالَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا. فَنَقُولُ: إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَارَتْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَزِمَ النَّاسَ حِينَئِذٍ حُكْمُهَا، مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ شَرِيعَةً لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] إلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك} [الشورى: 13] إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] فَبَقِيَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَنَا بِنَفْسِ وُرُودِهَا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَلَزِمَتْنَا مِنْ حَيْثُ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهَا، لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ: أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] فَتَكُونُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةً لَنَا مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا، فَإِلْزَامُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا فِعْلَهَا بِالْقُرْآنِ، لَا لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا، وَلَا كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ أَمْرًا لَنَا عِنْدَ وُرُودِهَا. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ سَجْدَةِ (ص) مِنْ أَيْنَ سَجَدْت؟ قَالَ: أَوَمَا تَقْرَءُوا {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 إلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فَكَانَ دَاوُد مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسَجَدَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ اسْتِدْلَالَ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] يَعْنِي فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتِعْمَالِ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى لُزُومِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ شَرَائِعِ مِثْلِهِ، الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ أَحْكَامُ الْأُمَمِ فِيهَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ، وَقَدْ أُمِرَ بِاقْتِدَائِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَسَاوَى الْجَمِيعُ فِي تَكْلِيفِهِ: مِنْ التَّوْحِيدِ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَنَحْوِهِ، مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ شَرَائِعَهُمْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِهَا، لِاسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي الْأَزْمَانِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَتَبْدِيلُهُ مِمَّا فِي الْعُقُولِ إيجَابُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ شَرِيعَةِ الْآخَرِينَ. الْجَوَابُ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] رَاجِعٌ إلَيْهِ وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ، مِنْ قَبْلِ أَنَّ اسْمَ الْهُدَى يَتَنَاوَلُ مَا أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَعَدْلِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرَائِعِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] فَسَمَّى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ هُدًى، وَقَالَ تَعَالَى: {الم} [البقرة: 1] {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى: مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَعَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي طَرِيقُ مَعْرِفَةِ إدْرَاكِهَا السَّمْعُ، ثُمَّ سَمَّى الْجَمِيعَ هُدًى، فَدَلَّ أَنَّ اسْمَ الْهُدَى لَا يَخْتَصُّ بِمَا فِي الْعَقْلِ إيجَابُهُ، دُونَ مَا يَدُلُّ السَّمْعُ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، اقْتَضَى عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا سُمِّيَ هُدًى، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ دُونَ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] كَلَامٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ، وَكُلُّ كَلَامٍ هَذَا حُكْمُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُهُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ حُكْمُ لَفْظِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ قَدْ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ، وَقَدْ أُمِرَ مَعَ ذَلِكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِدْلَال عَلَى التَّوْحِيدِ، فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِمَا ذَكَرَهُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْآيَةِ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِيهَا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَإِخْوَانِهِمْ، وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُمْ، فَأُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ أَيْضًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرِيقَتِهِمْ، وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] جُمْلَةً، لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ إلَّا وَهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] . وَأَيْضًا: فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ: يَقْتَضِي الِاقْتِدَاءَ بِالْجَمِيعِ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَهُ شَرِيعَةٌ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا وَاجِبٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ شَرِيعَةٌ مَخْصُوصٌ مِنْ اللَّفْظِ، إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَنْبِيَاءَ خَاصَّةً. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ: مِنْ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا، فَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، كَذَلِكَ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا، وَتَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا مَا اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ حُكْمُهُ إلَى مَبْعَثِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَجُعِلَ شَرِيعَةً لَهُ دُونَ مَا نُسِخَ مِنْهَا، وَعَلِمْنَا بِالنَّاسِخِ مِنْهَا مِنْ الْمَنْسُوخِ عَلَى التَّفْصِيلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهَا، لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً لَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِنَسْخِهِ، فَأَمَّا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْنَا تَتَبُّعُهُ، لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كُنَّا مُتَعَبِّدِينَ بِذَلِكَ، لَكَانَ عَلَيْنَا طَلَبُهُ وَتَتَبُّعُهُ، فَلَيْسَ بِمُوجِبِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ إذَا صَارَ شَرِيعَةً لَنَا فَقَدْ اكْتَفَيْنَا بِوُجُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، عَنْ طَلَبِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَنَقُولُ: إنَّ كُلَّ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طَلَبِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّا لَا نَصِلُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ يُوثَقُ بِهَا، وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمُهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنَّا تَكْلِيفُهُ، فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا شَيْءٌ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِهِ - فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرِيعَةً لَهُمْ، فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِإِيجَابِهِ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حِكَايَةُ كَوْنِهِ شَرِيعَةً لِمَنْ قَبْلَنَا - فَيَكْفِي بِهَذَا عَنْ طَلَبِهِ وَتَتَبُّعِهِ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] فَغَيْرُ مَانِعٍ مِمَّا قُلْنَا: مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَمْنَعْ تَسَاوِي الْجَمْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشَّرَائِعِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهَا، وَذَلِكَ الْبَعْضُ الَّذِي خَالَفَ بِهِ شَرِيعَتُنَا شَرَائِعَهُمْ، هُوَ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّسْخُ، فَلَا يَلْزَمُنَا اسْتِعْمَالُهُ، وَقَدَّمْنَا ذِكْرَ قَوْله تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وَهَذَا الظَّاهِرُ قَدْ اقْتَضَى الْمُسَاوَاةَ فِي الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الدِّينَ اسْمٌ يَنْتَظِمُ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] لِأَنَّ الْمِلَّةَ اسْمٌ يَجْمَعُ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُنْسَخُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهُوَ شَرِيعَةٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: قَوْله تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، وَالظَّالِمُونَ، وَالْفَاسِقُونَ فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ تَحَاكَمُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ الرَّجْمِ، فَنَبَّهَ بِهَا عَلَى كَذِبِهِمْ، وَبَهَتَهُمْ فِي كِتْمَانِهِمْ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ، فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] فَحَكَمَ بِإِكْفَارِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ الرَّجْمِ، الَّذِي كَانَ صَارَ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ قَبُولِ شَرِيعَتِهِ فِيهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِإِكْفَارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِتَرْكِهِمْ الرَّجْمَ الَّذِي كَانَ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِتَرْكِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِسِمَةِ الْكُفْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِتَرْكِهِمْ حُكْمَ التَّوْرَاةِ، إذْ هُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 مَأْمُورُونَ فِيهَا بِتَرْكِ الِانْصِرَافِ عَنْهُ، إلَى شَرِيعَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَثَبَتَ أَنَّ مَا كَانَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ، صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيعَةً لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي تِلْكَ الْحَالِ، بَلْ صَارَتْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ مَنْسُوخَةً بِشَرَائِعِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذْ كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ النَّاسِ. وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]- وَالظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ - فَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ صَارَ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِعَيْنِهِ، وَإِعْلَامِهِ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَذَلِكَ، لَمَا كَانَ الْيَهُودُ ظَالِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إلَى حُكْمِ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَدَلَّ: عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ وَالْوَصْفَ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْتَقِدُوا شَرِيعَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ - لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَدُعَائِهِ إيَّاهُمْ إلَى دِينِهِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةً لِعِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَدُونَ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دُونَ كَوْنِهِ مِنْ شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ وَسِمَةَ الْفِسْقِ، لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَرَائِعِهِ، بَلْ يَقْتَضِي: أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْبَقَاءِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبُلُوغِهِمْ دَعْوَتَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، مَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخِلَافِهَا وَنَسْخِهَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ، لِأَنَّهُمْ زَالُوا عَنْ حَدِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، مِنْ اتِّبَاعِهِ، وَالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 [بَابُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ قَدِيمًا فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ عَلَى مُخَالِفِي الْمِلَّةِ، وَعَلَى مَنْ شَذَّ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى جُمْهُورِ الْأُمَّةِ، مَا يُغْنِي وَيَكْفِي. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ جُمَلًا، ثُمَّ نُعَقِّبُهَا بِفُرُوعِهَا الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، وَاَللَّهُ نَسْأَلُ الْعَوْنَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَخْبَارِ: فَنَفَتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ جَمِيعِ الْأَخْبَارِ، وَأَنْكَرَتْ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَنَفَتْ الْيَهُودُ كُلَّ خَبَرٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَأَثْبَتَتْ مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ، مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ: لَا تُعْرَفُ صِحَّةُ الْأَخْبَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِهَا مَعْصُومًا. وَقَالَ آخَرُونَ: شَرْطُ صِحَّتِهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ بِهَا عُدُولًا، أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ، وَلَيْسُوا بِأَعْيَانِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ: لَا يُعْرَفُ بِخَبَرِ الْأَرْبَعَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ شَيْءٌ، وَمِنْ فَوْقِ الْأَرْبَعَةِ إلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 الْعِشْرِينَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِخَبَرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُعْلَمَ، إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ، وَعَلَى نَفْيِهِ، وَأَمَّا الْعِشْرُونَ فَقَدْ يُعْلَمُ صِحَّةُ خَبَرِهِمْ لَا مَحَالَةَ، إذَا كَانَ الْعِشْرُونَ ظَاهِرُهُمْ وَبَاطِنُهُمْ سَوَاءً، أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ النَّظَّامُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُضْطَرُّ إلَى الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، وَمَتَى عَلِمَهُ اضْطِرَارًا عِنْدَ مُقَارَبَةِ أَسْبَابِهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ اثْنَيْ عَشْرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ بَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَبَعْضُهَا شُذُوذٌ عَنْ كَافَّةِ الْأُمَّةِ. وَالْوَجْهُ: أَنْ نَبْتَدِئَ بِذِكْرِ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا عَلَى مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَا صَحَّ عِنْدَنَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ بِإِفْسَادِ مَا خَالَفَهَا وَخَرَجَ عَنْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 [بَابٌ ذِكْرُ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَحْكَامِهَا] [الْأَخْبَارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُتَوَاتِرٌ وَغَيْرُ مُتَوَاتِرٍ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، جُمْلَةً فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ وَأَحْكَامِهَا فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِي الْأَخْبَارِ، وَأَنَا أَذْكُرُ مَعَانِيَهَا مُخْتَصَرَةً دُونَ سِيَاقَةِ أَلْفَاظِهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَكَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا عَلَى نَسَقِهَا، وَاقْتَصَرْت مِنْهَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِهِ فِيهَا. ذَكَرَ: أَنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ فِيهَا: يُحِيطُ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ وَحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ. وَقِسْمٌ مِنْهَا: يُحِيطُ الْعِلْمُ بِكَذِبِ قَائِلِهِ وَالْمُخْبَرِ بِهِ. وَقِسْمٌ: يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَمَا وَقَعَ الْعِلْمُ بِمُخْبِرِهِ لِوُرُودِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ، وَامْتِنَاعِ جَوَازِ التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى مُخْبِرِهِ، كَعِلْمِنَا بِأَنَّ فِي الدُّنْيَا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَخُرَاسَانَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعَا النَّاسَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَجَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَأَمْرُهُ إيَّانَا: بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِلْمُ اضْطِرَارٍ وَإِلْزَامٍ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ، رَدًّا عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ ذَلِكَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا، خَارِجًا عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ، كَالْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَوْمٌ، وَأَنَّ الْمَوْجُودِينَ أَوْلَادُ أُولَئِكَ، وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ السَّمَاءَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وِلَادَتِنَا، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَلَا عِدَّةٌ مَحْصُورَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ الْعَشَرَةَ وَالْعِشْرِينَ قَدْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِمْ الْخَبَرُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَعْنَاهُ عِنْدِي إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ مُتَشَاعِرِينَ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ. قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ: هُوَ مَا يَقَعُ لَنَا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، الَّذِي لَا مَجَالَ لِلشَّكِّ مَعَهُ، وَلَا مَسَاغَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ، وَذَكَرَ مَا فِي هَذَا الْقِسْمِ، مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ، عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، فَوُجِدَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 3] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ} [الفتح: 27] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ، فَوُجِدَ مُخْبَرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى. وَنَحْوُهُ: مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَخْفَى كَثْرَةً، فَوُجِدَ عَلَى مَا قَالَ وَوَصَفَ. فَمِنْهُ مَا وُجِدَ فِي أَيَّامِهِ، وَمِنْهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا يَكُونُ بَعْدَهُ، فَوُجِدَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا: إنَّا إذَا رَأَيْنَا النَّاسَ مُنْصَرِفِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ، فَاعْتَرَضْنَاهُمْ سَائِلِينَ لَهُمْ عَنْ مَجِيئِهِمْ فَقَالُوا: جِئْنَا مِنْ الْجَامِعِ، وَقَدْ صَلَّيْنَا عَلِمْنَا ضَرُورَةً: أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ، مَعَ جَوَازِ الْكَذِبِ عَلَى بَعْضِهِمْ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَرَضْنَا قَافِلَةَ الْحَاجِّ وَهُمْ رَاجِعُونَ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَسَأَلْنَاهُمْ، فَقَالُوا: حَجَجْنَا، وَوَقَفْنَا بِعَرَفَاتٍ، عَلِمْنَا ضَرُورَةً بِأَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ، مَعَ جَوَازِ كَوْنِ بَعْضِهِمْ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ عِيسَى: وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي يُعْلَمُ كَذِبُهُ حَقِيقَةً، فَكَنَحْوِ أَخْبَارِ مُسَيْلِمَةَ وَإِضْرَابِهِ مِنْ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ، أَخْبَرُوا بِأَشْيَاءَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَكَانَتْ كَذِبًا وَزُورًا، وَادَّعَوْا أَنَّ لَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 دَلَائِلَ عَلَى مَا انْتَحَلُوهُ مِنْ النُّبُوَّةِ، فَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَبَانَ كَذِبُهُمْ، وَانْكَشَفَ بُطْلَانُ دَعْوَاهُمْ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ قَائِلٍ: رَأَيْت رِجَالًا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ نَسْلٍ، وَرَأَيْت دَارًا وُجِدَتْ مِنْ غَيْرِ بَانٍ بَنَاهَا، وَرَأَيْت النَّاسَ تَفَانَوْا بِالْقَتْلِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، ثُمَّ لَا يُخْبِرُ أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ بِمِثْلِ خَبَرِهِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ. قَالَ: فَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يَتَوَاتَرُ بِهَا الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ، فَيَجُوزُ فِي خَبَرِهِمْ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ وَنَفْيَ التُّهْمَةِ، فَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ فِي الْأَحْكَامِ، عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا، مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ مِنَّا بِصِدْقِهِ، وَلَا الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ. وَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْفِسْقَ وَالتُّهْمَةَ بِالْكَذِبِ فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَصَدَ عِيسَى إلَى ذِكْرِ تَقْسِيمِ الْأَخْبَارِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ الْحُكْمِ بِمُخْبِرِهَا دُونَ الْخَبَرِ الَّذِي يُقَارِنُهُ، دَلَالَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَسَنُفَصِّلُهَا بِاسْتِيفَائِنَا لِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَوَاتِرٌ، وَغَيْرُ مُتَوَاتِرٍ. فَالْمُتَوَاتِرُ مَا تَنْقُلُهُ جَمَاعَةٌ لِكَثْرَةِ عَدَدِهَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ صِفَتِهِمْ الِاتِّفَاقُ وَالتَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، فِيمَا نُبَيِّنُهُ بَعْدُ. وَغَيْرُ الْمُتَوَاتِرِ: مَا يَنْقُلُهُ وَاحِدٌ وَجَمَاعَةٌ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى نَقْلِهِ. فَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ بِاضْطِرَارٍ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ. وَضَرْبٌ مِنْهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَالْآخَرُ: لَا يُوجِبُهُ، وَسَنُبَيِّنُ الْقَوْلَ مِنْ وُجُوهِهِ، بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْمُتَوَاتِرِ، وَمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ الْأَخْبَارِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا. الْكَلَامُ عَلَى مَنْ حَكَيْنَا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ قَالَ: الَّذِينَ دَفَعُوا وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ طَرِيقُ الْحِجَاجِ عَلَيْهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 بِالِاسْتِدْلَالِ مَبْنِيًّا عَلَى عُلُومِ الِاضْطِرَارِ، فَمَنْ جَحَدَ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ مَا جَحَدَهُ، مِمَّا لَا يَشُكُّ هُوَ وَلَا وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ فِي مُكَابَرَتِهِ، وَدَفْعُ مَا لَا يَعْلَمُهُ ضَرُورَةً، كَمَا نَتَكَلَّمُ فِي دَفْعِ عُلُومِ الْخَبَرِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ، إذْ لَا فَرْقَ فِي عُقُولِ النَّاسِ جَمِيعًا كَامِلِهِمْ وَنَاقِصِهِمْ وَذَكِيِّهِمْ وَغَبِيِّهِمْ، بَيْنَ مَا عَلِمُوهُ وَتَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا نَاسٌ قَبْلَنَا، وَأَنَّ السَّمَاءَ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وِلَادَتِنَا، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَنَا أَجْدَادٌ وَمُلُوكٌ (قَبْلَ) وُجُودِنَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُشَكِّكَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ، كَانَ كَمَنْ رَامَ تَشْكِيكَهَا فِي وُجُودِ نَفْسِهِ، وَوُجُودِ مَا نُشَاهِدُهُ وَنُحِسُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُمَيِّزَ وَغَيْرَ الْمُمَيِّزِ يَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ. وَأَنَا ذَاكِرٌ: إنْ عَلِمْنَا ذَلِكَ فِي حَالِ صِبَانَا بِكَوْنِ السَّمَاءِ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِنَا، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نَاسٌ مِثْلُنَا، وَتَكُونُ الْبُلْدَانُ الْفَانِيَةُ وَالْأُمَمُ السَّالِفَةُ كَعِلْمِنَا الْآنَ بِهَا، وَكَعِلْمِنَا بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا أَفْسَدُوا بِهِ قَوْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: أَنَّهُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مَتَى أَرَادُوا الْخُرُوجَ إلَى خُرَاسَانَ، قَصَدُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، وَإِذَا أَرَادُوا مِصْرَ خَرَجُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ بِكَوْنِ خُرَاسَانَ نَاحِيَةَ الْمَشْرِقِ، وَكَوْنِ مِصْرَ نَاحِيَةَ الْمَغْرِبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ، وَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ عَلَيْهِمْ تَقْرِيرًا لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ، وَلَا تَشْكِيكَ أَنْفُسِهِمْ فِيهِ، كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ التَّغْرِيرُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَلَا يَخْطِرُ لَهُمْ فِيهِ خَوَاطِرُ، وَلَا تَعْتَرِيهِمْ الشُّكُوكُ، وَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافٌ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ: أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ عَلِمُوا صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ثَارَتْ إلَيْهِمْ، مِنْ جِهَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ وَالشُّهُودُ، وَلَا الِاتِّفَاقُ وَالتَّوَاطُؤُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا يَقْصِدُونَ سَمْتَ الشَّرْقِ إذَا أَرَادُوا خُرَاسَانَ، وَسَمْتَ الْمَغْرِبِ إذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 أَرَادُوا مِصْرَ، لِمَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ وَسَكَنَتْ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ عِلْمٍ، إذْ قَدْ يَغْلِبُ فِي عِلْمِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةً، وَتَسْكُنُ نَفْسُهُ إلَى مَا لَا يَرْجِعُ مِنْهُ إلَى يَقِينٍ. قِيلَ: إنَّ مَا وَصَفْت أَنَّهُ غَلَبَةُ ظَنٍّ، وَسُكُونُ نَفْسٍ، عُلِمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمْتُمْ أَنَّ عِلْمَكُمْ هَذَا. فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُمْ اضْطِرَارًا، لَمَا جَازَ أَنْ يُدْفَعَ، وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ أَنْ نَكُونَ عَالِمِينَ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُمْ. قِيلَ لَهُ: لَمْ تَدْفَعُوا أَنْتُمْ كَوْنَ هَذِهِ الْبُلْدَانِ، وَلَا وُجُودَ السَّمَاءِ، قَبْلَ مَوْلِدِكُمْ، وَلَا وُجُودَ أَجْدَادِكُمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ حِينَ تَوَهَّمْتُمْ: أَنَّ عِلْمَكُمْ هَذَا ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ، كَظَنِّ مَنْ أَنْكَرَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، وَالْأَصْلُ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ. إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ عِبَادَهُ وَتَرْغِيبَهُمْ فِيمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِمَا فِيهِ مَصَالِحُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، عَلَى سُنَّةِ رُسُلِهِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، بَعْدَمَا قَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ وُجُوبَ اجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِيهَا، وَفِعْلَ مَا يَقْتَضِي فِعْلَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إبْلَاغُ كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ، وَمُشَافَهَتُهُ بِمَا تَعَبَّدَهُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا، خَالَفَ بَيْنَ طَبَائِعِ النَّاسِ، وَهِمَمِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ، لِيَجْمَعَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلِئَلَّا يَقَعَ مِنْهُمْ اتِّفَاقٌ، وَمِنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ وَلَا تَوَاطُؤٍ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ. وَأَجْرَى بِذَلِكَ عَادَةً تَقَرَّرَتْ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، كَمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْخَبَرِ عَلَى مُخْبَرَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ، عَلَى جِهَةِ التَّظَنِّي وَالْحُسْبَانِ، فَصَادَفَ ذَلِكَ وُجُودَ مُخْبَرِهِ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَيَقَّنَ بِذَلِكَ فِي الْوَاحِدِ، ثُمَّ وَفَّقَ بَيْنَ طَبَائِعِهِمْ فِي اسْتِنْقَالِ كِتْمَانِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ، وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ نَقْلَهَا وَإِذَاعَتَهَا، لِتَتِمَّ الْحُجَّةُ فِي نَقْلِ الشَّرَائِعِ، وَمَا بِهِمْ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَكُلُّ خَبَرٍ وَرَدَ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَنَقَلَهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُو الْآرَاءِ، وَالْهِمَمِ، غَيْرِ مُتَشَاعِرِينَ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ، أَوَّلُهُمْ كَآخِرِهِمْ، وَوَسَطُهُمْ كَطَرَفِهِمْ، فَأَخْبَرُوا عَمَّنْ شَاهَدُوهُ وَعَرَفُوهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 اضْطِرَارًا بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُخْبَرِهِ، لِامْتِنَاعِ وُجُودِ اجْتِمَاعِ الْكَذِبِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، عَنْ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَخْبَارِ مِنْ نَاقِلِيهَا إنَّمَا يَكُونُ حَسَبَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَالْعِلَلِ الْمُثِيرَةِ لِنَقْلِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ مَا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى نَقْلِهِ، مِنْ نَحْوِ مُخْبِرٍ إنَّهُ رَأَى نَاسًا يَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَآخَرِينَ يَتَبَايَعُونَ فِيهَا، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَدْعُو إلَى نَقْلِ مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ اخْتِرَاعُ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا، وَإِنَّمَا تَتَّفِقُ عَلَى حَسَبِ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ الِاخْتِلَافُ (فِي) دَوَاعِي النَّاسِ وَأَسْبَابِهِمْ. فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ وُقُوعُ اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ: أَنْ يَبْتَدِئَ اخْتِرَاعَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، حَتَّى يُخْبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَصَارَ قِطْعَتَيْنِ، وَبَقِيَتَا طُولَ اللَّيْلِ كَذَلِكَ حَتَّى غَابَتَا. فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ اخْتِرَاعُ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ، إلَّا عَنْ تَوَاطُؤٍ. وَلَيْسَ الْكَذِبُ فِي هَذَا كَالصِّدْقِ، فَيَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى نَقْلِ خَبَرِ أَمْرٍ قَدْ شَاهَدُوهُ، وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ غَيْرِ مُتَشَاعِرِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالصِّدْقِ دَاعٍ تَجْمَعَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ عَلَى نَقْلِهِ وَالْإِخْبَارِ بِهِ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ، وَمَا جُعِلَ فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ اسْتِنْقَالِ كِتْمَانِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ. فَلَمَّا كَانَتْ هُنَاكَ دَوَاعِي تَدْعُو إلَى نَقْلِهِ، وَسَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَكَانَ كِتْمَانُ مِثْلِهِ مُسْتَقِلًّا فِي طِبَاعِهِمْ سَوَاءً كَانَ عَلَيْهِمْ فِي إشَاعَتِهِ وَنَقْلِهِ ضَرَرٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، صَارَتْ هَذِهِ الدَّوَاعِي سَبَبًا لِنَقْلِهِ وَالْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِ، لِتَبْلُغَ الْحُجَّةُ بِالْإِخْبَارِ مَبْلَغَهَا، وَتَنْتَهِي مُنْتَهَاهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 [الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ] وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا إلَى اخْتِرَاعِهِ، وَالْإِخْبَارِ بِهِ، وَلَا سَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ عَلَى وَضْعِهِ، بَلْ الدَّوَاعِي مُتَّفِقَةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْكَذِبِ وَالْإِشَاعَةِ، فَإِنْ اتَّفَقَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ تَوَاطُؤٍ وَتَرَاسُلٍ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَخْفَى، بَلْ يَظْهَرُ وَيَنْتَشِرُ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ، حَتَّى يَضْمَحِلَّ وَيَبْطُلَ. وَعَلَى أَنَّا قَدْ شَرَطْنَا فِي ذَلِكَ: امْتِنَاعَ التَّوَاطُؤِ وَالتَّشَاعُرِ فِيهِ، عَلَى حَسَبِ امْتِحَانِنَا لِأَحْوَالِ النَّاسِ، فَمَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُخْبِرِهِ لَا مَحَالَةَ، وَلَيْسَ سَبِيلُ الْإِخْبَارِ فِي هَذَا السَّبِيلِ اعْتِقَادَ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ عَلَى مِثْلِهِمْ اخْتِرَاعُ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ، مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا رَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى امْتِحَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَوَجَدْنَا مِثْلَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا، لَا يَجُوزُ مِنْهَا وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَوَجَدْنَاهُمْ يَجُوزُ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى اعْتِقَادِ مَذْهَبٍ فَاسِدٍ، فَإِنَّمَا رَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى الْمَوْجُودِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، فِيمَا صَحَّ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ، وَفِيمَا امْتَنَعَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا مَنَعْنَا وُقُوعَ اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْهُمْ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ، وَدَوَاعِيهِمْ، وَأَنَّ جَمَاعَتَهُمْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَبْتَدِئَ اخْتِرَاعَ خَبَرٍ فِي شَيْءٍ لَا أَصْلَ لَهُ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْطِرُ بِبَالِ صَاحِبِهِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُمْ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَّفِقَ دَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ وَالْإِخْبَارِ بِهِ، لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ خُطُورُهُ بِبَالِ جَمَاعَتِهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَالْإِخْبَارُ بِهِ وَنَقْلُهُ أَبْعَدُ فِي الْجَوَازِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا اعْتِقَادُ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ، وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، إلَّا بِدُعَاءِ دَاعٍ لَهُمْ إلَيْهِ، أَوْ لِشُبْهَةٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي جَوَازِ اعْتِقَادِهِ فَيَعْتَقِدُونَهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ: أَنْ يَدْعُوَهُمْ وَيَجْمَعَهُمْ جَامِعٌ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ يَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ فِيمَنْ وَصَفْنَا حَالَهُمْ، وَإِنْ اتَّفَقَ التَّوَاطُؤُ مِنْ جَمَاعَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ أَمْرِهِ وَانْتِشَارِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَضْمَحِلَّ وَيَبْطُلَ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْأَخْبَارِ وَالِاعْتِقَادَاتِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ نَقَلَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَتْلَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصَلْبَهُ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ، وَنَقَلَتْ الْمَجُوسُ أَعْلَامَ زَرَادُشْتَ وَمُعْجِزَاتِهِ، وَهُوَ كَذَّابٌ، مَعَ اخْتِلَافِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 أَسْبَابِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ. وَكَيْفَ نَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ مَعَ وُجُودِ مَنْ وَصَفْنَا بِخَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا شَكَّ فِي كَذِبِهِ، وَهُمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ اخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ وَامْتِنَاعِ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: شَرْطُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ: أَنْ يَنْقُلَهُ قَوْمٌ وَصْفُهُمْ مَا ذَكَرْنَا، وَيُخْبِرُوا عَنْ مُشَاهَدَةِ مَنْ عَرَفُوهُ اضْطِرَارًا. وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ لَمْ يَكْذِبُوا عَلَى أَسْلَافِهِمْ فِيمَا نَقَلُوا، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ هَذَا الْخَبَرِ لَيْسَ كَآخِرِهِ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ، إذْ نَحْنُ وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي سَمَاعِهِ، كَمَا أَنَّ عُلُومَ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ مُشَاهِدُوهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِمُخْبِرِ أَخْبَارِهَا، وَلَا مَعَ سَمَاعِنَا لَهَا، عَلِمْنَا أَنَّ أَوَّلَ خَبَرِهِمْ كَانَ عَمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَالتَّوَاطُؤُ، فَقَلَّدُوهُمْ فِيهِ وَنَقَلُوا عَنْهُمْ: أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الدُّنْيَا، كَعِلْمِنَا بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الشَّكِّ فِيهَا، مِنْ حَيْثُ كَانَ أَوَّلُ خَبَرِهِمْ كَآخِرِهِ فِي امْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ، وَاخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، فَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَا يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا نَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ أَرْبَعَةٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ، وَالْخَطَأُ، وَالتَّوَاطُؤُ فِي النَّقْلِ، وَأَمَّا الْيَهُودُ: فَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ قَبْلَ قَصْدِهِمْ إيَّاهُ لِقَتْلِهِ، وَإِنَّمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: يَهُوذَا، كَانَ مِمَّنْ يَصْحَبُ الْمَسِيحَ. وَاجْتَعَلَ مِنْهُمْ عَلَى دَلَالَتِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَقَالَ لَهُمْ: الَّذِي تَرَوْنِي أُقَبِّلُهُ هُوَ صَاحِبُكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ هُنَاكَ أَخَذُوهُ، وَقَتَلُوهُ، عَلَى أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى قَتْلَ رَجُلٍ (إلَّا مَنْ يَجُوزُ) عَلَيْهِ التَّوَاطُؤُ فِي الْأَخْبَارِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وَالنَّاقِلُونَ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَتْلَ الرَّجُلِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَهَؤُلَاءِ، إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ فَأَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَوَاطَئُوا عَلَى الِاجْتِهَادِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِينَ شَاهَدُوهُ بَعْدَ الْقَتْلِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَصْلُوبًا قَدْ قَالُوا: إنَّ الْمَصْلُوبَ كَانَ الْمَسِيحَ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِي ذَلِكَ، وَلَا سَائِرُ مَنْ نَقَلُوا إلَيْهِ الْخَبَرَ بِهِ، إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] حِينَئِذٍ كَذَّبَ الْخَوَاطِرَ فِي أَمْرِهِ، وَشَكَّ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَاعْتَقَدَ الْمُسْلِمُونَ بُطْلَانَ خَبَرِهِمْ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْحَوَارِيُّونَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ مُسْتَخْفِينَ غَيْرَ ظَاهِرِينَ مِنْ الْيَهُودِ، حَتَّى طَلَبُوا الْمَسِيحَ لِيَقْتُلُوهُ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا مِمَّنْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مَصْلُوبًا، قِيلَ: إنَّهُ الْمَسِيحُ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا رَجَعُوا فِيهِ إلَى قَوْلِ يَهُوذَا الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] فَإِنَّ أَوَّلَ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي ظَنِّهِمْ، أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ، أَوْ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى نَقْلِهِ، لَمَّا جَازَ وُقُوعُ الشَّكِّ مِنْ أَحَدٍ سَمِعَ أَخْبَارَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ فِي قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَشْكِيكُ أَحَدٍ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِيمَا ذَكَرْت لَجَازَ عَلَى قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ، أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ رَجُلٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ، أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلُوبًا مَقْتُولًا، فَلَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ مَقْتُولًا مَصْلُوبًا، وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا، هُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَ: أَنَّهُ عَرَفَهُ مَقْتُولًا، مَصْلُوبًا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت، لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، وَلِأَنَّ نَقْلَهُمْ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ لَوْ كَانَ فِي وَزْنِ نَقْلِهِمْ لِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا، لَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِقَتْلِهِ، وَصَلْبِهِ، كَوُقُوعِهِ بِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لِنَقْلِ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا سَبَبٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَبَرِ بِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ، وَالْقَتْلُ وَالصَّلْبُ قَدْ اعْتَرَضَهُمَا أَسْبَابٌ تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْخَبَرِ بِهِمَا مِنْ قَوْمٍ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 عِلْمًا، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ: أَنَّهُمْ لَمَّا فَقَدُوا الْمَسِيحَ، وَرَأَوْا رَجُلًا مَقْتُولًا مَصْلُوبًا، قَالَ لَهُمْ مَنْ بِحَضْرَتِهِ: هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ، فَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ، وَلَا تَأَمُّلٍ لِأَصْلِهِ، وَمَا يَجُوزُ فِيهِ، مِمَّا لَا يَجُوزُ. وَأَيْضًا: فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاقِلِينَ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَلَا اخْتِرَاعُ الْكَذِبِ فِي خَبَرٍ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، لَمَا أَوْجَبَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا نَقَلُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا شَخْصًا مَقْتُولًا مَصْلُوبًا، فَهُمْ صَادِقُونَ فِي رُؤْيَتِهِمْ لِشَخْصٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا شَخْصًا قَدْ قُتِلَ وَصُلِبَ، فَأَمَّا أَنَّهُ الْمَسِيحُ أَوْ غَيْرُ الْمَسِيحِ فَلَمْ يَكُنْ يَقِينًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إحْدَاثِ شَخْصٍ مِثْلِ الْمَسِيحِ، فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فِي أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ، وَظَنَّهُ الْقَاتِلُونَ وَاَلَّذِينَ رَأَوْهُ مَصْلُوبًا، بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ إلَيْهِ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا جَاءُوا يَطْلُبُونَهُ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ وَلَهُ الْجَنَّةُ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُ خَبَرِهِمْ عَنْ ظَنٍّ لَا يَقِينٍ، وَعِلْمِ اضْطِرَارٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ. وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِعْلُ خَبَرٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُخْبِرَ بِهِ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ عَرَفُوهُ اضْطِرَارًا. فَأَمَّا إذَا كَانَ مَرْجِعُ خَبَرِهِمْ إلَى ظَنٍّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ: أَنَّهُ كَانَ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُلْقَى شَبَهُ الْمَسِيحِ وَهُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ، حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ إلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سِوَاهُ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ.؟ ؟ (قِيلَ لَهُ) : لِأَنَّ قَلْبَ الْعَادَاتِ وَنَقْضَهَا جَائِزَانِ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا (كَانَ يُرَى جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ) ، وَدُخُولِ إبْلِيسَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ مَرَّةً وَفِي صُورَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيِّ مَرَّةً أُخْرَى) ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَخْصًا عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ دِحْيَةُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَوِّزَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي مُشَاهَدَتِهِمْ لِشَخْصٍ مَقْتُولٍ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ، مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ هُوَ لَا مَحَالَةَ، مَعَ تَجْوِيزِهِ لِنَقْضِ الْعَادَةِ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ مِثْلَهُ، أَوْ إلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ. فَلَمَّا وَجَدْنَا الْقُرْآنَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالشَّوَاهِدِ الصَّادِقَةِ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّهُمْ {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] عَلِمْنَا أَنَّ: الْأَمْرَ جَرَى فِي أَصْلِ الْخَبَرِ عَنْ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا الْمَجُوسُ: فَإِنَّ الَّذِي تَدَّعِيهِ فِي أَعْلَامِ زَرَادُشْتَ يَجْرِي مَجْرَى الْخُرَافَاتِ، الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا يَعُدُّونَهُ لَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ فَرَسٍ لِلْمَلِكِ فِي جَوْفِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا، وَعَادَ الْفَرَسُ صَحِيحًا كَمَا كَانَ، وَمَرْجِعُ هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ إلَى الْمَلِكِ وَقَوْمٍ مِنْ خَاصَّتِهِ، وَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَنَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْمَلِكِ لَمَّا اخْتَبَرَهُ فَرَأَى حِيلَتَهُ وَدَهَاءَهُ وَاطَأَهُ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لَهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدَ أَرْكَانِ شَرَائِعِهِ الَّتِي يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا لِلتَّدَيُّنِ بِطَاعَةِ الْمُلُوكِ، وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ الْمَلِكُ قَوْمًا مِنْ خَاصَّتِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الْفَرَسِ، فَتَلَقَّوْهُ وَانْتَشَرَ الْخَبَرُ بِهِ، ثُمَّ حَمَلَ النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ، ثُمَّ طَالَتْ مُدَّتُهُ، وَنَشَأَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَأَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ، ثُمَّ مَا زَالَ مَنْ يَنْتَحِلُ مِنْهُمْ الدِّينَ وَيَتَخَصَّصُ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ، وَيَزِيدُ فِيهِ، وَيُشِيعُهُ فِي الدَّهْمَاءِ، فَيَنْقُلُوهُ إرَادَةً مِنْهُمْ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ، وَبِتَأْكِيدِ أَمْرِهِ، وَكَانَتْ الْعُلُومُ فِي زَمَنِ مُلُوكِ الْفَرَسِ مَقْصُورَةً عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ، وَيَمْنَعُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ انْتِحَالُهُ، وَالنَّظَرُ فِيهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَاتُ. وَكَانَتْ سَائِرُ النَّاسِ إنَّمَا يَأْخُذُونَ أَخْبَارَ زَرَادُشْتَ وَأَمْرَ الدِّينِ عَنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِأَخْبَارِهِمْ صِحَّةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ مِمَّا ادَّعَوْهُ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ زَرَادُشْتَ: إنَّ لِلَّهِ ضِدًّا مُغَالِبًا فِي مُلْكِهِ، مَعَ مَا يُضِيفُونَ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْقَبِيحَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي قَامَتْ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ: إنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْتَقِدُونَهَا. عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا مُخَرِّفًا، وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيُظْهِرَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ الْإِخْبَارُ حُجَّةً وَالْمُخْبِرُونَ بِهَا هُمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْهَا، وَمَتَى شَاءُوا اخْتَرَعُوهَا، وَأَخْبَرُوا بِهَا، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِيمَا يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْهُ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي مَقْدُورِهِمْ وَيُمْكِنُهُمْ اخْتِرَاعُهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ كَيْفَ شَاءُوا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ: إنَّ الْأَخْبَارَ فِي أَنْفُسِهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَخْبَارًا، حَتَّى يَلْزَمَنَا مَا ذَكَرْت، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهَا مَتَى قَارَنَهَا أَحْوَالٌ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُخْبِرِينَ، بَلْ اللَّهُ الْمُتَوَلِّي لَهَا وَوَاضِعُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى خَالَفَ بَيْنَ أَسْبَابِ الْمُخْبِرِينَ وَعِلَلِهِمْ، وَأَجْرَى الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَخْبَارِ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ ذَكَرُوا: أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ اضْطِرَارًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ، فَالْحُجَّةُ إنَّمَا لَزِمَتْ بِالْأَخْبَارِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ افْتِعَالَ الْكَذِبِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْبِرِينَ، لَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِمَّا يُؤْمِنُنَا كَذِبُهُمْ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ حُكْمَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الشَّاهِدِ وَمَا يَجُوزُ فِي الْعَادَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى حَسَبِ مَا امْتَحَنَّا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَوَجَدْنَا الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا شَأْنَهَا، يَمْتَنِعُ جَوَازُ اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ مَشَاهِدِهِ، مَعَ بَقَاءِ الْعَادَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، عَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا صِدْقًا، وَأَنَّ مُخْبَرَهُ وَاقِعٌ عَلَى مَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا جَوَّزْنَا الْكَذِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، إذَا انْفَرَدَ بِخَبَرٍ، وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْكَذِبِ مِنْهُ، فَرَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى مَا اقْتَضَتْهُ أَحْوَالُ الشَّاهِدِ، وَخَبَرُ إنَّ الْعَادَةُ، فَجَوَّزْنَا مِنْهُ مَا أَجَازَتْهُ، وَمَنَعْنَا مِنْهُ مَا مَنَعَتْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ الْكَثِيرِ فِي هَذَا كَحُكْمِ الْقَلِيلِ، لَوَجَبَ إذَا جَازَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَتَكَلُّمُهُ مِنْ عَرَضِ الْكَلَامِ، أَنْ يَجُوزَ مِنْهُ إنْ أَتَى بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِي نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ، إنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَلَى الِانْفِرَادِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْجَمُ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِمَّا فِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ، فَيَخْتَرِعَهُ وَيَنْتَبِهَ مُبْتَدِئًا بِهِ. أَنْ نُجَوِّزَ مِنْهُ إنْشَاءَ قَصَائِدَ مِثْلِ قَصَائِدِ امْرِئِ الْقَيْسِ، فِي وَزْنِهَا وَأَلْفَاظِهَا وَنَظْمِهَا، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى جِهَةِ التَّظَنِّي وَالْحُسْبَانِ، فَيُصَادِفُ وُجُودَ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، أَنْ يُجَوِّزَ مِنْهُ أَنْ يَظُنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَخْطِرُ بِبَالِهِ وَيَتَوَهَّمَهُ، فَيُخْبِرَ بِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَ أَنْ يُصَادِفَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وُقُوعَ مُخْبَرِهِ، وَقَدْ عُلِمَ بُطْلَانُ ذَلِكَ ضَرُورَةً، فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إذَا جَازَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ إذَا انْفَرَدَ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ الْجَمَاعَاتِ الْكَثِيرَةِ، الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ فِي خَبَرِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا اكْتِسَابٌ، وَلَيْسَ بِعِلْمِ اضْطِرَارٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ: بِمَا قَدَّمْنَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ اضْطِرَارِيًّا اسْتِوَاءُ حَالِ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِي الْعِلْمِ، كَالصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ، لِأَنَّا نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّا كُنَّا نَعْلَمُ فِي حَالِ صِبَانَا بِكَوْنِ أَجْدَادِنَا وَأَوَائِلِنَا كَعِلْمِنَا الْآنَ بِهِمْ. وَأَيْضًا:. فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالِاكْتِسَابِ لَجَازَ لِبَعْضِنَا أَنْ لَا يَكْتَسِبَهُ (وَلَا يُسْتَدَلُّ) عَلَيْهِ، فَلَا يُعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ (لَا يَعْرِفُهُ) مَنْ لَا يَسْتَدِلُّ. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ اكْتِسَابًا، لَجَازَ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَلَجَازَ وُجُودُ الشَّكِّ فِيهِ مَعَ سَمَاعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَسَائِرِ الْعُلُومِ الْمُكْتَسَبَةِ، فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُنْكَرُ لِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا كَالْمُنْكَرِ لِبَعْضِ مَا يَذْكُرُهُ بِحَاسَّتِهِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِمَا وَصَفْنَا اضْطِرَارٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ، تُثْبِتُ التَّوَاتُرَ الَّذِي نَعْلَمُ صِحَّتَهُ اضْطِرَارًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 [الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ التَّوَاتُرِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ] فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ التَّوَاتُرِ وَهُوَ: مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ: فَإِنَّ أَبَا الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، الَّذِي يُوجِبُ الْعِلْمَ، كَخَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى: أَنَّ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ فِي ثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ عِلْمَ اضْطِرَارٍ. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ عِنْدَهُ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَا لَيْسَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتُهُ مِنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ الْأَخْبَارِ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مِنْ «إبَاحَتِهِ مُتْعَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ حَظْرِهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ» ، وَمِثْلُهُ أَخْبَارِ الرَّجْمِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَمَاعَةٌ يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِهِمْ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ، أَوْ وُقُوعُ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ فِيهِ، فَنَعْلَمُ بِتَأَمُّلِنَا حَالَهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَلَا تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَأَمَّلْ حَالَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَلَمْ نَسْتَدِلَّ عَلَى صِحَّتِهَا، لِمَا وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهَا. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُجِيزُ التَّفَاضُلَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ، وَيُعَارِضُ هَذَا الْخَبَرَ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلَ وَتَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِهِ نَزَلَ عَنْ قَوْلِهِ، وَرَجَعَ إلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا. وَقَدْ قَالَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ (فِي الرَّدِّ) عَلَى الْمَرِيسِيِّ لَا يَخْلُو الْحَدِيثُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: يَضِلُّ تَارِكُهُ، وَيَأْثَمُ، وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ وَالْخَطَأِ. وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجْمِ يَرُدُّهُ قَوْمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ بِهِ الْخَبَرُ كَمَا تَوَاتَرَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلَا يَكْفُرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا النَّاقِلِينَ، فَأَخْطَئُوا فِي التَّأْوِيلِ، وَعَارَضُوا بِظَاهِرِ الْكِتَابِ. قَالَ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِثْلُ خَبَرِ الصَّرْفِ، وَخَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، يُخَطَّأُ مُخَالِفُهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْإِثْمُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَارَضَ حَدِيثَ الصَّرْفِ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» وَالْخَوَارِجُ خَالَفَتْ الْإِجْمَاعَ، وَخَبَرُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالُوا: إنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَأَخْطَئُوا، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ، وَيُخْشَى عَلَيْهِمْ الْمَأْثَمُ، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ لَا يُدْرَى هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ، أَمْ لَا، وَيُرَدُّ قَضَاءُ مَنْ قَضَى بِهِ (لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَرُدُّهُ) . قَالَ: وَمِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ، مَنْ اسْتَحَقَّ دَمًا بِالْقَسَامَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ كَاذِبُونَ فِي حَلِفِهِمْ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] . وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ. قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا نَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنْهَا، وَاخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي الْعَمَلِ بِهَا، مَعَ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهَا، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ} [النساء: 11] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَكُونُ الْإِخْوَةُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: اثْنَانِ. وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ السَّفَرِ فِيهِ، وَمَا أَشْبَهَهُ طَرِيقُهُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ، وَلَا يَأْثَمُ الْمُخْطِئُ، فِيهِ وَلَا يَضِلُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ عِيسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ تَقْسِيمِ مَنَازِلِ مُوجِبِ الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا حَكَيْنَا عَنْهُ فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ، أَنَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ، لِأَنَّ خَبَرَ الرَّجْمِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ عِنْدَهُ لَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ، لَكِنْ لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَمِلَتْ بِهِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا، وَلَا يُعَدُّ الْخَوَارِجُ خِلَافًا، فَإِنَّمَا يُوجَبُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لِمُسَاعَدَةِ إجْمَاعِ السَّلَفِ إيَّاهُ، وَجَعْلُ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَخَبَرِ الصَّرْفِ دُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْمًا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ عَلَى السَّلَفِ قَدْ ذَهَبُوا إلَيْهِمَا، إلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَتْهُ الْجَمَاعَةُ، وَأَخْطَئُوا بِتَرْكِهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَةَ الضَّلَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ مِمَّا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ مِنْ جِهَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ فِيهِ، كَإِخْبَارِ أَهْلِ بَلَدٍ بِخَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ عَنْ نَفْسِهِ: أَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ، وَكَإِخْبَارِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ بِخَبَرِ كُلٍّ عَنْ نَفْسِهِ: أَنَّهُ يَعْتَقِدُ النَّصْرَانِيَّةَ، فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ (إذَا أَدْلَى) الْمُخْبِرُونَ بِهِ فَصَارُوا بِحَيْثُ لَا يَتَّفِقُ مِنْهُمْ كِتْمَانُ خِلَافِ مَا أَظْهَرُوهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اشْتِمَالِ خَبَرِهِمْ عَلَى جَمَاعَةٍ قَدْ صَدَقُوا فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ الرُّوَاةُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، كُلٌّ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ غَيْرِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْآخَرُ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ غَيْرُ كَاذِبَةٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَتْ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَلَى صِدْقٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ لَنَا صِدْقُ الصَّادِقِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُعْلَمُ مُخْبَرُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَمْ يَجِدْ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَتَوَاتَرُ بِهِمْ الْخَبَرُ عَدَدًا. وَكَذَلِكَ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي ذَلِكَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ إذَا نَقَلَهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُو الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ فَهُوَ تَوَاتُرٌ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا: أَنَّ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ الْخَبَرِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا فِي أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا، أَنَّا مَتَى حَكَمْنَا بِشَهَادَتِهِمْ أَنْ لَا نَقْطَعَ عَلَى غَيْبِهِمْ، وَأَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ، إذْ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَأَنْ يَكِلَ أَمْرَهُمْ فِي مَغِيبِ شَهَادَتِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَمْضَيَا الْحُكْمَ بِهَا. قَالُوا: وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْنَا التَّعَبُّدَ بِمَا وَصَفْنَا، مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَادُّ وَيَتَنَافَى. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ، وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا خَبَرُهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ، حَتَّى إذَا كَثُرَ الْعَدَدُ فِي قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ، أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ لَا مَحَالَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُدَانَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ، وَذَلِكَ: أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا: شَرْطُ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا مُجْتَمِعِينَ، وَيَكُونُوا مُتَشَاعِرِينَ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا عَشْرَةً أَوْ عِشْرِينَ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 مُتَشَاعِرِينَ يُخْبِرُونَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ عَنْ أَمْرٍ شَاهَدُوهُ، لَمَا وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، إذَا جَوَّزْنَا عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤَ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَسْوَاقِ هَاهُنَا بِبَغْدَادَ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى تَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَرُبَّمَا حَضَرَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ أَكْثَرُ، يَشْهَدُونَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ بِجِنَايَةٍ فِي نَفْسٍ، أَوْ عِرْضٍ، أَوْ مَالٍ، فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ، لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِمْ. فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: أَنْ يُسْتَدَلَّ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ: عَلَى أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مِنْ الْمُخْبِرِينَ هَذَا مِقْدَارُهُ لَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُ إنْ جَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا. قِيلَ لَهُ: نَحُدُّهُمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا أَنْ يَحْضُرُوا جَمِيعًا، فَيَشْهَدُونَ مُجْتَمِعِينَ، وَإِلَّا كَانُوا قَذَفَةً. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ شَهِدَ عِنْدِي مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مُتَفَرِّقِينَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَحَدَدْتهمْ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُ لَوْ شَهِدَ عَشَرَةٌ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى إقْرَارِ رَجُلٍ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ وَجَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ. هَلْ يَقَعُ لَك الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ؟ وَهَلْ نَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا كَانُوا فُسَّاقًا، لِأَجْلِ مَا وَقَعَ مِنْ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ حَتَّى جَاءُوا غَيْرَ مُتَشَاعِرِينَ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ فِيهِ؟ . قِيلَ لَهُ: إنْ جَازَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ حَتَّى يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ، إذْ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ حَقًّا لِإِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْحُكْمَ، أَوْ يَعْلَمَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ حُكْمِهِ، ثُمَّ يَصِيرَ إلَى عِلْمِهِ، أَوْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِمَّا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا، أَوْ السَّرِقَةِ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي عِلْمِهِ، أَوْ فِي مُخْبِرِ عِلْمِهِ، فَيَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ غَيْرِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ سِوَاهُ، حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا. وَأَيْضًا: فَإِنْ الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ سَوَاءٌ، وَالْأَرْبَعَةَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا سَوَاءٌ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيهَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا فِي شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: إذَا أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ عَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَوَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاقِعًا بِخَبَرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ هُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، قَدْ عَلِمُوهُ اضْطِرَارًا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوقِعَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ فَكَذَبُوا فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ بِأَنْ لَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوا ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي أَخْبَرُوا عَنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاقِعًا عِنْدَ خَبَرِ الْخَمْسَةِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ، بِخَبَرِ أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ فَمَنْ دُونَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَالْبَاقُونَ أَخْبَرُوا عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ، وَلَا مُشَاهَدَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَوْ انْفَرَدَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْعِلْمُ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَ إخْبَارِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا، وَلَيْسَ الْمُخْبِرُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ بِخَبَرِهِ، فَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْجَمَاعَةِ صَادِقِينَ فِي خَبَرِهِمْ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِ بَعْضِ الْجَمَاعَةِ الْمُخْبِرِينَ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً وَأَقَلَّ مِنْهُمْ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ لِمَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَدَدٌ مَعْلُومٌ مِنْ الْمُخْبِرِينَ عِنْدَنَا، إلَّا أَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا: أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، وَيَقَعُ بِخَبَرِ الْكَثِيرِ، إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِخَبَرِ جَمَاعَةٍ، وَلَا يَقَعُ بِخَبَرِ مِثْلِهِمْ فِي حَالٍ أُخْرَى، حَتَّى يَكُونُوا أَكْثَرَ، عَلَى حَسَبِ مَا يُصَادِفُ خَبَرَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ خَبَرِهِمْ، لِأَنَّا لَمَّا امْتَحَنَّا أَحْوَالَ النَّاسِ لَمْ نَرَ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ، وَالْكَثِيرُ يُوجِبُهُ، إذَا كَانُوا بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ، فَلَا سَبِيلَ إلَى تَحْدِيدِهِ، وَإِيجَابُ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ لِسَامِعِهِ، إذَا كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِاضْطِرَارٍ، مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُقَارِنُهُ، وَلَا يُوجِبُهُ إلَّا إذَا قَارَنَتْهُ أَسْبَابٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ. فَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِاضْطِرَارٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ سَامِعٍ صِدْقَ كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ شَاهَدَهُ مِنْ كَذِبِهِ، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ غَيْرَهُ كَاذِبٌ، إذَا لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَمَتَى وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ حَكَمْنَا بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ لِمَا ادَّعَاهُ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إلَى بَيِّنَةٍ، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْيَمِينِ، وَوَاجِبٌ أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُ الزَّوْجِ أَوْ صِدْقُهُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَنَا عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِصِدْقِهِ حَكَمْنَا بِكَذِبِهِ وَحَدَدْنَاهُ، وَلَا نُوجِبُ بَيْنَهُمَا لِعَانًا، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ كَافِيًا لَنَا بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا مَا جَازَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ الْآخَرُ عَلَى صِدْقِهِ، مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِأَنْ يَأْمُرَنَا بِالْإِخْبَارِ بِالْكَذِبِ وَالْحَلِفِ عَلَيْهِ، مَعَ عَلِمْنَا بِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ. وَأَوْجَبَ أَيْضًا: أَنْ لَا تُعْتَبَرَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَقَعُ لِلْحَاكِمِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ، فَإِنْ وَقَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 لَهُ عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِذَلِكَ عُلِمَ صِدْقُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذَلِكَ حُكِمَ بِكَذِبِهِمْ، عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ لِخَبَرِ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ هَذَا السَّامِعِ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُك إنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ لِلسَّامِعِ عِنْدَ هَذَا الْخَبَرِ: هُوَ نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُخْبِرِينَ يُحْدِثُ اللَّهُ عِنْدَ خَبَرِهِ لِلسَّامِعِ عِلْمًا، فَاقْتِصَارُك بِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَا مَعْنَى لَهُ، وَعَلَى أَنَّ مَا أَلْزَمْنَاهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ سَامِعٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ مَحْجُوجًا بِمَا أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ الْعِلْمِ عِنْدَ الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ، وَإِنْ أَحْدَثَهُ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ، فَلَا مَعْنَى إذًا لِلْكَلَامِ فِي تَبْيِينِهِ فِي نَظَرٍ وَحِجَاجٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُضْطَرُّ إلَى عِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخَبَرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ ضَرُورَةً أَوْ لَا يَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا لِنَتَثَبَّتَ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَأَنْ لَا نَقْطَعَ بِصِحَّتِهَا وَلَوْ كَانَ خَبَرُ الشُّهُودِ يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ بِحَالٍ، لَمَا جَازَ أَنْ نَكُونَ مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، بِأَنْ لَا نَقْطَعَ بِصِحَّةِ مَا عَلِمْنَاهُ ضَرُورَةً. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ إذَا صَحِبَهُ أَسْبَابٌ، وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقَارِنُ الْخَبَرَ شَيْءٌ آكَدُ وَلَا أَثْبَتُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي (قَارَنَتْ أَخْبَارَ) النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، الْمُوجِبَةَ لِتَصْدِيقِهِ، ثُمَّ لَمْ نَعْلَمْ صِحَّةَ خَبَرِ الِاسْتِدْلَالِ، إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَخِطَابِهِ إيَّاهُ، وَأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَاحِدٌ يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ لَكَانَ خَبَرُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْلَى الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ. فَلَمَّا عَدِمْنَا ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، عَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يُرَى الرَّجُلُ يَمُرُّ بِبَابِ دَارِ الرَّجُلِ فَيَرَى جِنَازَةً مَنْصُوبَةً وَمُغَسَّلًا مَوْضُوعًا، وَيَسْمَعُ صُرَاخًا فِي الدَّارِ، فَيَسْأَلُ عَجُوزًا خَرَجَتْ مِنْ الدَّارِ عَنْ ذَلِكَ، فَتَقُولُ مَاتَ فُلَانٌ، فَلَا يَرْتَابُ السَّامِعُ بِخَبَرِهَا، وَلَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مَجْلِسًا حَافِلًا وَرَأَى رَجُلًا فِي الصَّدْرِ عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ، فَيَسْأَلُ رَجُلًا مِنْ الْحَاضِرِينَ عَنْ الْجَالِسِ فِي الصَّدْرِ فَيَقُولُ: فُلَانٌ الْقَاضِي، فَلَا يَرْتَابُ السَّامِعُ بِخَبَرِهِ، وَلَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ أَوْجَبَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِمْ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت، وَذَلِكَ لِأَنَّك لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ سُكُونِ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهِ وَلَا يَقِينِ الْعِلْمِ، وَقَدْ تَسْكُنُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَشْيَاءِ ثُمَّ يَتَعَقَّبُهَا، فَيَجِدُهَا بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَ فِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ نُفُوسُهُمْ سَاكِنَةٌ إلَى اعْتِقَادَاتِهِمْ، وَلَيْسُوا عَلَى عِلْمٍ وَلَا يَقِينٍ، بَلْ عَلَى جَهْلٍ وَكُفْرٍ، ثُمَّ إذَا تَعَقَّبُوا اعْتِقَادَاتِهِمْ، وَنَظَرُوا فِيهَا مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ مُنَبِّهٌ، عَلِمُوا فَسَادَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَسْهُو الرَّجُلُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثَلَاثًا وَيُسَلِّمُ، وَلَا يَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ صَلَّاهَا أَرْبَعًا. فَإِنْ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: إنَّمَا صَلَّيْت ثَلَاثًا، شَكَّ فِيمَا كَانَتْ نَفْسُهُ سَاكِنَةً إلَيْهِ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا بِسُكُونِ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عِلْمًا لِلْيَقِينِ. وَعَلَى أَنَّا قَدْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَعَمَّدُونَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي ذَكَرْت أَنَّهَا إذَا قَارَبَتْ الْخَبَرَ أَوْ أَوْجَبَتْ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ بِمُخْبَرِهِ وَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا أَغْرَاضٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ مُجُونٍ وَخَلَاعَةٍ. وَقَدْ بَلَغَنَا: أَنَّ أَبَا الْعِيرِ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ قَدْ كَانَ يَتَعَمَّدُ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وَجْهِ الْمُجُونِ وَالْخَلَاعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ إنْسَانًا لَوْ قَالَ لِهَذَا السَّائِلِ (عَنْ) الْعَجُوزِ الْخَارِجَةِ مِنْ الدَّارِ: إنَّ هَذِهِ الْعَجُوزَ قَدْ غَلِطَتْ أَوْ كَذَبَتْ، وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ فَأَحْضَرُوا الْجِنَازَةَ وَالْمُغْتَسَلَ، ثُمَّ تَبَيَّنُوهُ حَيًّا، أَوْ قَالَ هُوَ مَيْئُوسٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَمُتْ، لِشَكِّ السَّائِلِ فِي خَبَرِهَا، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ يَقِينًا وَعِلْمًا ضَرُورِيًّا لَمَا جَازَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِضِدِّهِ، وَلَمَا جَازَ أَنْ يُوجَدَ أَمْرُهُ عَلَى خِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ. فَإِنْ قَالَ: لِمَ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ إذَا أَخْبَرَتْ بِشَيْءٍ شَاهَدَتْهُ وَعَلِمَتْهُ ضَرُورَةً إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ لِسَامِعِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْوَاحِدِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ، فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَتَى أَخْبَرَ أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِقَوْلِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا أَخْبَرَتْ فَلَيْسَتْ تَخْلُو مِنْ أَنْ يَقَعَ لِلسَّامِعِ بِقَوْلِهَا عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهَا، أَوْ عِلْمُ اكْتِسَابٍ، فَإِنْ أَوْجَبَ خَبَرُهَا عِلْمًا مُكْتَسَبًا فَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ جَارِيًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ دُونَ الْجَمَاعَةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ فِي هَذَا الْقِسْمِ: إنَّ الْعِلْمَ حَادِثٌ مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ خَطَأٌ، لِأَنَّ السَّامِعَ إنَّمَا اسْتَدَلَّ بِخَبَرِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ جَارِيًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ، فَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ بِذَلِكَ مُجْتَمِعِينَ وَكَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ، فَالْعِلْمُ حَادِثٌ أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِ جَمَاعَتِهِمْ، دُونَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، إذَا كَانُوا قَدْ عَلِمُوا مَا أَخْبَرُوا بِهِ ضَرُورَةً، وَإِنْ كَانُوا أَخْبَرُوا بِهِ مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ أَحْدَثَ اللَّهُ بِهِ الْعِلْمَ عِنْدَ قَوْلِ أَحَدِهِمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا: جَوَّزُوا إحْدَاثَ اللَّهِ لَهُ الْعِلْمَ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، إذَا انْفَرَدَ بِخَبَرِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ فِي الْأَخْبَارِ عَنْهُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ هَذَا الْوَاحِدِ إذَا تَقَدَّمَتْهُ جَمَاعَةٌ تُخْبِرُ بِمِثْلِ خَبَرِهِ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ مَتَى وُجِدَتْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ أَوْجَبَ خَبَرُهَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِحُدُوثِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ (لَوْ) كَانَ يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ عِنْدَ مُقَارَنَةِ الْأَسْبَابِ، لَجَازَ أَنْ تُخْبِرَ الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ بِخَبَرٍ، فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، إذَا لَمْ يُقَارِنْ خَبَرَهُمْ أَسْبَابٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 تَقْتَضِي إيجَابَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ بِبَغْدَادَ مَنْ قَدْ نَشَأَ فِيهَا، وَأَتَى عَلَيْهِ خَمْسُونَ سَنَةً، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةَ، وَالشَّامَ، وَمِصْرَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقَارِنْ مَا سَمِعَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ أَسْبَابٌ تُوجِبُ لَهُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَهَذَا فَاسِدٌ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ ضَرُورَةً، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَ خَبَرِهَا بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يَجُوزُ وُجُودُ الْإِخْبَارِ مِنْهَا عَلَى أَمْرٍ شَاهَدَتْهُ وَعَرَفَتْهُ ضَرُورَةً، ثُمَّ لَا يَقَعُ لِسَمَاعِهِ ضَرُورَةُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهَا. وَجَرَيَانُ الْعَادَةِ أَيْضًا بِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ ضَرُورَةَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ بِحَالٍ، فَكَانَ أَمْرُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا مَحْمُولًا عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، وَعُرِفَ بِامْتِحَانِ أَحْوَالِ الْأَخْبَارِ وَالْمُخْبِرِينَ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الِاثْنَيْ عَشْرَ، وَالْعِشْرِينَ، وَالسَّبْعِينَ، فَشَيْءٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِ الْآخَرِ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ عَدَدًا أَقَلَّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُ لِقَائِلِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الِانْفِصَالُ مِنْهُ، إذْ لَيْسَ فِي اقْتِصَارِهِ بِالْبَقَاءِ بِهِ عَلَى الِاثْنَيْ عَشْرَ، وَأَمْرِ الْعِشْرِينَ بِالْجِهَادِ، وَاخْتِيَارِ السَّبْعِينَ لِحُضُورِهِمْ مَعَ مُوسَى مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِالْأَخْبَارِ، إذْ لَيْسَ هُنَاكَ خَبَرٌ أُمِرُوا بِنَقْلِهِ دُونَ مَنْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا، وَقَدْ يَلْزَمُ الْجِهَادُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَجَازَ كَوْنُ النَّقِيبِ وَاحِدًا لِجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 [فَصْلٌ فِيمَنْ رَدِّ الْأَخْبَارَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا] فَصْلٌ وَأَمَّا مَنْ رَدَّ الْأَخْبَارَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ خِلَافُ مَنْ خَالَفَ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ الْبُلْدَانِ الثَّابِتَةِ لَمْ يَقْدَحْ عِنْدَكُمْ فِي صِحَّتِهَا، وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِهَا، مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهَا. فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَنْ خَالَفَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْمَقَالَةِ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا الْعَقْلُ لَا الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا الِاخْتِلَافُ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الصَّحِيحِ، وَفَسَادِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لَمْ يُعْتَبَرْ خِلَافُ مُخَالِفٍ فِيهَا، وَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّتِهِ، فَهَلَّا اعْتَبَرْتُمْ صِحَّتَهَا مِنْ جِهَةِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ تُوجِبُ عَلَى الْيَهُودِ عَلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ شَيْءٌ مِنْ أَعْلَامِ مُوسَى لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا، إذْ كَانَتْ الثَّنَوِيَّةُ وَالْمَجُوسُ وَسَائِرُ الْمُلْحِدِينَ يَجْحَدُونَهَا، فَلِمَا صَحَّتْ أَعْلَامُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِوُجُودِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مَعَهُ التَّوَاطُؤُ، يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ وَيَثْبُتَ، وَأَنْ لَا يَقْدَحَ فِيهَا خِلَافُ مَنْ خَالَفَ. . [فَصْلٌ فِيمَنْ قَالَ لَا نَعْرِفُ صِحَّةَ الْخَبَرِ إلَّا بِقَوْلِ الْمَعْصُومِ] فَصْلٌ وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا نَعْرِفُ صِحَّةَ الْخَبَرِ إلَّا بِقَوْلِ الْمَعْصُومِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، مِنْ جِهَةِ: أَنَّ عِلْمَ الرُّومِ وَسَائِرِ مُلْكِ الْكَفَرَةِ فِي بِلَادِهَا تَكُونُ أَقَاوِيلُهُمْ وَسَائِرُ مُلُوكِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ النَّائِيَةِ عَنْهَا - كَعِلْمِنَا بِكَوْنِ أَوَائِلِنَا وَأَسْلَافِنَا، فَلَوْ كَانَ صِحَّةُ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ مَوْقُوفَةً عَلَى قَوْلِ الْمَعْصُومِ لَوَجَبَ أَنْ (لَا) يَعْلَمَ الْكُفَّارُ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَيْئًا (مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 أَخْبَارِهِمْ) ، وَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَلْقَ الْمَعْصُومَ مِنَّا لَا يَعْرِفُ صِحَّةَ وُجُودِ الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ، وَكَوْنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مَنْ لَمْ يَلْقَ الْمَعْصُومَ فَلَا حُجَّةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. فَإِنْ قَالَ: لِمَا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ الْغَلَطُ وَالْكَذِبُ، جَازَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي خَبَرِهِمْ. فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا، قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، عَلَى مَنْ نَفَى صِحَّةَ الْأَخْبَارِ رَأْسًا، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 [بَاب الْقَوْلُ فِي بَيَانِ مُوجِبِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ مُوجِبِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ الْعِلْمَ لِمَا تَصْحَبُهُ مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهِ. وَالْآخَرُ: لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَالْآخَرُ: لَا يُوجِبُهُ. ثُمَّ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ عَلَى وُجُوهٍ، مِنْهُ: مَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا وَرَدَ عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهُ: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِقْدَارٌ مِنْ الْعَدَدِ، وَهُوَ: الشَّاهِدَانِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَالَةُ الشَّاهِدِ. وَمِنْهَا: مَا يَسْقُطُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ جَمِيعًا، كَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ، وَالْكَافِرِ، وَالْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ، فِي وُجُوهٍ مِنْهَا. وَمِنْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَحَدُ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ: مِنْ عَدَالَةٍ، أَوْ عَدَدٍ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى تَبْيِينِ وُجُوهِهِ، إذْ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ. فَنَقُولُ: إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الْمُوجِبَةَ لِلْعِلْمِ لِمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَة لِصِحَّتِهَا عَلَى وُجُوهٍ، مِنْهَا: إخْبَارُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَعَمَّا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ، قَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 شَهِدَتْ بِصِحَّتِهِ الشَّوَاهِدُ الصَّادِقَةُ، وَالْأَعْلَامُ الْمُعْجِزَةُ، الَّتِي لَيْسَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ، فَأَوْجَبَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ إخْبَارِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا الْعِلْمُ هُوَ عِلْمُ اكْتِسَابٍ، وَاقِعٌ مِنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَلَيْسَ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ. أَلَا تَرَى: أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْظُرْ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّةَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِلْمَ ضَرُورَةٍ لَاسْتَوَى السَّامِعُونَ بِخَبَرِهِ، فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ، مَعَ سَمَاعِهِمْ بِخَبَرِهِ، وَمُشَاهَدَتِهِمْ لِأَعْلَامِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ خَبَرُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ مِمَّنْ كَانَ شَاهَدَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ مَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ. وَمِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّذِي نَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ: مَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ، فَيَكُونُ تَصْدِيقُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ: مَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ. وَكَذَلِكَ خَبَرُ مُخْبِرٍ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِهِ، أَوْ يُجْمِعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِدْقِهِ. فَبِذَا كُلِّهِ نَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حَقٌّ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا: أَنْ يُخْبِرَ مُخْبِرٌ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ يُحِيلُهُ عَلَى قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ، وَقَدْ شَهِدَهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، فَيَبْلُغُ ذَلِكَ الْجَمَاعَةَ: فَلَا تُنْكِرُهُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ مِثْلِهِمْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَامْتَحَنَّاهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ: تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مِثْلِهِ، إذَا لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَاب يَجْرِي مَجْرَى كِتْمَانِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَالْأَعَاجِيبِ الْحَادِثَةِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ كِتْمَانُهَا، فَكَذَلِكَ تَرْكُ النَّكِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ مِثْلِهِمْ، فَبِمَا وَصَفْنَا سَوَاءٌ كَانَ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ. أَلَا تَرَى: أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ فِي مَحْفِلٍ عَظِيمٍ، بِحَضْرَةِ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْآرَاءِ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ: أَنْ سَارَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ مُعْجِزَةَ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهُ دَعَا عَلَى قَوْمٍ فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْهُ، أَنْ تُخَلِّيَهُ مِنْ تَكْذِيبِهِ، وَظَاهِرُ النَّكِيرِ عَلَيْهِ، كَمَا يَمْتَنِعُ عَلَى مِثْلِهَا خَبَرٌ لَا أَصْلَ لَهُ، عَلَى شَيْءٍ يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مِنْ وُقُوعِ الْإِخْبَارِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكِتْمَانِ، وَاخْتِلَافُ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ، وَأَنَّ الْإِخْبَارَ بِمِثْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُوَاطَأَةٍ وَعَنْ سَبَبٍ يَجْمَعُهُمْ، وَالْمُوَاطَأَةُ، عَنْ مِثْلِهِمْ إذَا كَانَتْ ظَهَرَتْ وَلَمْ تَنْكَتِمْ. كَذَلِكَ كِتْمَانُ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ فِي طِبَاعِهِمْ اسْتِثْقَالَ كِتْمَانِ مِثْلِهَا، وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِخْبَارَ بِهَا، وَجَعَلَ لَهُمْ دَوَاعِيَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَدْعُوهُمْ إلَى إشَاعَتِهَا وَنَشْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ فِي كِتْمَانِهَا ضَرَرٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ مَوْتَ الْخُلَفَاءِ وَقَتْلَهُمْ وَخُلْفَهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ - لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ وُقُوعُ الْكِتْمَانِ فِيهِ، حَتَّى يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ وَالْبَيْعَةِ لِآخَرَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يُخْبِرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِهِ، وَلَا يَنْقُلُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَادَةِ: أَنْ يَدْخُلَ رَجُلٌ بَغْدَادَ فَيَسْأَلَ عَنْ دَارِ الْخَلِيفَةِ، أَوْ عَنْ مَسْجِدِ جَامِعِ الْمَدِينَةِ، فَلَا يُرْشِدُهُ أَحَدٌ إلَيْهِ، حَتَّى يَبْقَى طُولَ دَهْرِهِ بِهَا فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَدُلُّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَبِمِثْلِهِ عَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ الرَّافِضَةِ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَصَبَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ لِلْإِمَامَةِ بَعْدَهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ. لِأَنَّ نَصْبَ النَّبِيِّ لِإِمَامٍ بَعْدَهُ، وَتَعْيِينَهُ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ - أَعْظَمُ فِي الصُّدُورِ، وَأَثْبَتُ فِي النُّفُوسِ مِنْ خَلْعِ خَلِيفَةٍ فِي زَمَانِنَا، وَالْبَيْعَةِ لِغَيْرِهِ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلِأَنَّ عِلَلَهُمْ وَأَسْبَابَهُمْ تَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ، كَمَا تَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ الرَّسُولِ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ جَازَ كِتْمَانُ مِثْلِهِ لَجَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ آخَرُ بَعَثَهُ، فَكَتَمَتْ الْأُمَّةُ أَمْرَهُ، وَلَجَازَ أَنْ يَقُولَ آخَرُ: إنَّ النَّبِيَّ كَانَ غَيْرَهُ فَكَتَمَتْهُ الْأُمَّةُ، وَادَّعَتْ النُّبُوَّةَ لِغَيْرِهِ، وَفِيمَا دُونَ النَّصِّ عَلَى الْإِمَامَةِ وَتَعْيِينِهَا لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ الْكِتْمَانُ. فَكَيْفَ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ، وَأَجَلَّ فِي الصُّدُورِ، كَانَ حِرْصُ النَّاسِ عَلَى نَقْلِهِ أَشَدَّ، وَكُلْفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ أَكْثَرَ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ ادَّعَى: أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ شَرَطَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 أَصْحَابُنَا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْآحَادِ: أَنْ لَا يَكُونَ وُرُودُهُ فِيمَا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ ، لِأَنَّ مَا كَانَ بِهِمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ تَوَقُّفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ فَعَلَ لَمَا جَازَ وُقُوعُ الْكِتْمَانِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِهِ، وَتَرْكُ نَقْلِهِ مَعَ تَدَيُّنِهِمْ بِوُجُوبِ نَقْلِهِ، وَمَا يَرْجُونَ مِنْ الثَّوَابِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِذَاعَتِهِ وَنَشْرِهِ. فَأَمَّا مَا قُلْنَا: مِنْ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُخْبِرٍ فِي خَبَرِهِ - فَيُوجِبُ لَنَا ذَلِكَ عِلْمًا بِصِدْقِهِ: فَنَحْوُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ لِرَجُلٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا انْصَرَفَ: لَا جُمُعَةَ لَك. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ سَعْدًا قَالَ لِي: لَا جُمُعَةَ لَك. فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لِمَ يَا سَعْدٌ؟ قَالَ: إنَّهُ تَكَلَّمَ وَأَنْتَ تَخْطُبُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَ سَعْدٌ» . وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَخْطُبُ وَقَرَأَ آيَةً: مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أُبَيٌّ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك الْيَوْمَ إلَّا مَا لَغَوْت، فَذَكَرَ الرَّجُلُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَالَ: صَدَقَ أُبَيٌّ» فَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذَيْنِ الْمُخْبِرَيْنِ بِمَا أَخْبَرَا بِهِ لَكَانَ ظَاهِرُ خَبَرِهِمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ، فَلَمَّا صَدَّقَهُمَا وَقَعَ لِسَامِعِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ بِصِدْقِهِمَا فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا نُزُولُ الْقُرْآنِ بِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ فِي خَبَرِهِ، نَحْوُ مَا رُوِيَ: أَنَّ «زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي غَزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنَ سَلُولَ قَدْ دَفَعَ بَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ كَلَامًا، قَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ وَحَلَفَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ مَا قَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: إنَّ اللَّهَ صَدَّقَك» أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْقَوْلِ. وَأَمَّا: إخْبَارُ مَنْ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ يُحِيلُهُ عَلَى قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَبْلُغُ ذَلِكَ الْجَمَاعَةَ فَلَا تُنْكِرُهُ، أَوْ يَذْكُرُهُ لِحَضْرَتِهَا فَلَا تَكْرَهُ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ: فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسِيَرِهِ، وَسُنَنِهِ وَأَحْكَامِهِ، مِمَّا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ الرِّوَايَةَ بِهِ كَانَتْ شَائِعَةً مُسْتَفِيضَةً، يُحِيلُونَهَا عَلَى مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَاتِ الْعَظِيمَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لِذَلِكَ الْإِخْبَارِ بِهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ، وَتَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى قَائِلِهِ، إذَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِحَقِيقَتِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَكَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا: الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْهَا: الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَذِبٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي مَنَعَتْ وُقُوعَ الْإِخْبَارِ مِنْهَا بِشَيْءٍ لَا أَصْلَ لَهُ - هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ إقْرَارِهَا مَنْ يَدَّعِي مُشَاهَدَةَ أَمْرٍ لَا يَفْقَهُونَهُ عَلَى دَعْوَاهُ وَخَبَرِهِ، وَالْعِلْمُ الْوَاقِعُ فِي هَذَا الْوَجْهِ اكْتِسَابٌ لَيْسَ بِضَرُورَةٍ، لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا سَاعَدَهُ الْإِجْمَاعُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ، وَمُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ - فَإِنَّهُ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» إنَّمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَاسْتِقَامَتِهِ. وَنَحْوُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا، «إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ، أَوْ يَتَرَادَّانِ» وَنَحْوُهُ: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي «أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ» وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي «إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ» . قَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ حِينَ سَمِعُوهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهَا وَسَلَامَتِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِيهَا قَوْمٌ، فَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا شُذُوذٌ، لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ - فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّا إذَا وَجَدْنَا السَّلَفَ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ خَبَرِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ فِيهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ بِالْأُصُولِ، أَوْ بِخَبَرِ مِثْلِهِ، مَعَ عِلْمِنَا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي التَّثَبُّتِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ، وَالنَّظَرِ فِيهَا، وَعَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ - دَلَّنَا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ: عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا إلَى حُكْمِهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مُسَاعَدَةُ الِاتِّفَاقِ لِحُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي وَصَفْتُمْ دَلِيلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لَهُ غَالِطًا، وَيَكُونَ حُكْمُهُ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي عَامَّةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي وَصْفُهَا مَا ذَكَرْنَا، أَنَّ فُقَهَاءَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: إنَّمَا صَارُوا إلَى حُكْمِهَا حِينَ سَمِعُوا وَبَلَغَهُمْ أَمْرُهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَا، وَيُجِيزُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا لَهَا وَاتَّبَعُوهَا، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُمْ أَجْمَعُوا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْخَبَرِ الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ، مَعَ مَا اتَّصَلَ بِنَا مِنْ تَسْلِيمِهِمْ، فَحُكْمُهُ خَطَأٌ، خَطَأٌ لَا مَعْنَى لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَيَانِ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الدَّلَائِلِ. وَقَدْ قُلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ: إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ. وَالْآخَرُ: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ. وَأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ مِنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ. وَالْآخَرُ: يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهَا. فَأَمَّا الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: فَقِسْمٌ مِنْهَا: الشَّهَادَاتُ. وَالْقِسْمُ الْآخَرُ: أَخْبَارُ الدِّيَانَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي نَذْكُرُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ. فَأَمَّا الشَّهَادَاتُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: أَحَدُهَا: الشَّهَادَاتُ عَلَى مَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، وَهُوَ: الْحُدُودُ، وَالْقِصَاصُ. فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا إلَّا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فِي الزِّنَا، وَرَجُلَانِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي: الشَّهَادَةُ عَلَى مَا لَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، وَعَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ، وَذِي الْحِجَّةِ - إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، وَلَا يُقْبَلُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وَالثَّالِثُ: الشَّهَادَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَعَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ - فَيُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذِهِ الشَّهَادَاتُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُهَا، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْأَدَاءُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَلَا يُقْبَلُ: أَعْلَمُ، وَأُخْبِرُ. وَالثَّانِي: مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ صِفَةِ الشَّاهِدِ. وَهِيَ: أَنْ (يَكُونَ) بَالِغًا، عَاقِلًا، حُرًّا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ، صَحِيحَ النَّظَرِ، طَائِقًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ، نَافِيًا لِمَا يُؤْذِيهِ، لَا تَجُرُّ شَهَادَتُهُ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا مَغْرَمًا. وَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ فَهِيَ: نَحْوُ خَبَرِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ، وَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ، وَالْبَيْعِ فِيمَا عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ، وَنَحْوُ: قَوْلُ الْآذِنِ لِمَنْ اسْتَأْذَنَ عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا أَشْبَهَهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ، وَالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ، مَا لَمْ يَغْلِبْ فِي ظَنِّ السَّامِعِ كَذِبُ الْمُخْبِرِ، وَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا: مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 وَمِنْهَا: مَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُخْبِرِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ فِي خَبَرِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ خَبَرِ الْوَكِيلِ، وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ، وَخَبَرِ الْأَذَانِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَحْوُ خَبَرِ الْعَزْلِ عَنْ الْوَكَالَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ رَسُولًا، فَلَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ عِنْدَهُ حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبِرُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ. أَوْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَدْلًا، فَشُرِطَ فِيهِ: أَحَدُ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْعَدَدُ، أَوْ الْعَدَالَةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ فَأَعْتَقَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا، وَلَا تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ، حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبَرُ بِهِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا، أَوْ رَجُلًا عَدْلًا. وَالْأَصْلُ فِي الشَّهَادَاتِ: مَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مِنْ الْأَعْدَادِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَوْصَافِهَا، بَعْضُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ، وَبَعْضُهَا إجْمَاعٌ، وَبَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَائِلِ الْأُصُولِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى الْكَلَامِ فِيهَا، إذْ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِأُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ: فَالْأَصْلُ فِي قَبُولِهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور: 28] . فَحَظَرَ الدُّخُولَ بَدْءًا، إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ، ثُمَّ أَبَاحَهُ بِإِذْنِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَوَصْفِ الْمُخْبَرِ فِيهِ. وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ لَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ بَرِيرَةَ: إنَّهَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا فَتُهْدِيهِ فَقَالَ: هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» فَقَبِلَ قَوْلَهَا: فِي إنَّهَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ مَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِغَيْرِهَا، فَصَدَّقَهَا عَلَى انْتِقَالِهِ إلَيْهَا بِالصَّدَقَةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 [بَابٌ الْكَلَامُ فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَات] بَابٌ الْكَلَامُ فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نَتَكَلَّمُ بِعَوْنِ اللَّهِ فِي تَثْبِيتِ وُجُوبِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَاحِدًا كَانَ الْمُخْبِرُ، أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِالْكَلَامِ عَلَى مَنْ أَبَى إلَّا قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي فُرُوعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَشُرُوطِهَا، بِمَا يُسَهِّلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ: قَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِذَلِكَ بِحُجَجٍ كَافِيَةٍ مُغْنِيَةٍ، وَأَنَا ذَاكِرٌ جُمْلَةً، وَنَتْبَعُهَا بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَمَا احْتَجَّ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [البقرة: 159] . فَنَقُولُ: إنَّ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ فِي لُزُومِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُقَصِّرِ عَنْ الْمَنْزِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْكِتْمَانِ، فَثَبَتَ وُقُوعُ الْبَيَانِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ إذَا أَخْبَرُوا، فَدَلَّ وُجُوبُ الْعِلْمِ بِهِ، لِوُقُوعِ بَيَانِ أَحْكَامِ اللَّهِ بِخَبَرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِالْبَيَانِ لِيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ وَيَنْتَشِرَ فَيُوجِبَ الْعِلْمَ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ وَأَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَنَاوَلَ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْبَيَانِ بِخَبَرِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِمْ الْكِتْمَانُ فِي خَبَرِهِمْ جَازَ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ (فَلَا يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 فَإِنْ قِيلَ: لَا دَلَالَةَ مِنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ. فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] إخْبَارًا مِنْهُ بِوُقُوعِ بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا أُخْبِرُوا - دَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ، وَوُجُوبِ الْتِزَامِ حُكْمِهِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا أُمِرُوا بِالْإِخْبَارِ بَيَانًا لَهُمْ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ مَا يُوصَفُ بِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِهِ، لُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ، إذَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وَالْفِرْقَةُ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ، وَأَقَلُّ الْجَمَاعَةِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ جَعَلَ الطَّائِفَتَيْنِ الْفِرْقَةَ، وَهِيَ بَعْضُهَا، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ مَنْ دُونَ الثَّلَاثَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الطَّائِفَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وَقَدْ يَتَنَاوَلُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] قَدْ قِيلَ: إنَّ أَقَلَّهَا وَاحِدٌ، فَكَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالطَّائِفَةُ اسْمٌ قَدْ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ إيجَابَ قَبُولِ خَبَرِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَمَرَ الطَّوَائِفَ بِالْإِنْذَارِ لِيَتَوَاتَرَ بِهِمْ الْخَبَرُ، فَيَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إذَا أَخْبَرَتْ. قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} [التوبة: 122] أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ رُجُوعَ الطَّوَائِفِ وَدَوَرَانَهَا عَلَى كُلِّ قَوْمٍ عَلَى حِيَالِهِمْ، أَوْ رُجُوعَ كُلِّ طَائِفَةٍ إلَى قَوْمِهَا دُونَ قَوْمِ طَائِفَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا. فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ تَنْفِرْ الطَّائِفَةُ مِنْهُمْ: إنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمٍ: إنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِمْ. صَحَّ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الْمُرَادَ رُجُوعُ كُلِّ طَائِفَةٍ أُفْرِدَتْ مِنْ قَوْمٍ رُجُوعُهَا إلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ لِقَوْمِهَا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ بِخَبَرِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِهِمْ قَبُولَ خَبَرِهَا وَإِنْذَارَهَا. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اجْتِمَاعَ الطَّوَائِفِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ دَوَرَانَ جَمِيعِهَا فِي الْقَبَائِلِ عَلَى فِرْقَةٍ، لَكَانَ دَلَالَةُ الْآيَةِ قَائِمَةً عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ جَازَ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْآيَةِ لَظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ لَا مَحَالَةَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ، لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالِاجْتِمَاعِ لِلتَّفَقُّهِ، ثُمَّ الدَّوَرَانِ عَلَى الْقَبَائِلِ لِلْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَقْتَصِرُ لِكُلِّ قَوْمٍ عَلَى مَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنْهُمْ، وَالْوَافِدُ الْوَارِدُ مِنْ قِبَلِهِمْ. دَلَّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ كَانَتْ تَقُومُ عَلَيْهِمْ فِي إبْلَاغِهِمْ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، بِمَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ إنَّمَا أُمِرَتْ بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا وَإِبْلَاغِهَا مَا سَمِعَتْهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِيَنْتَشِرَ الْخَبَرُ عَنْهَا، وَيَسْتَفِيضَ، فَلَا يَكُونُ فِي أَمْرِ كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْإِنْذَارِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا، كَمَا أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى حِيَالِهِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَحْدَهُ. قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ وَحْدَهُ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوفِهِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْإِنْذَارِ قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ قَبُولِ خَبَرِهِ، دُونَ مَعْنًى آخَرَ يَنْضَافُ إلَيْهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ وَبِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُوجِبَيْنِ - لِقَبُولِهَا وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا، إذْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَنَّ (أَمْرَنَا بِإِقَامَتِهَا) وَأَدَائِهَا - مُوجِبٌ لِقَبُولِهَا، فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ تَعَالَى كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى حِيَالِهَا بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ حُكْمِ الْإِنْذَارِ بِقَوْلِهَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُكْمًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا بِسَمَاعِهِ، أَوْ مُشَارِكًا لِغَيْرِهِ فِيهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى: أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَعَلَّقَ لُزُومُهُ بِخَبَرِهِ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَاهِدٌ غَيْرُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ تَعَلُّقَ قَوْلِهِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ تَعَلُّقَ صِحَّتِهَا بِهِ وَبِغَيْرِهِ. وَأَيْضًا: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وَمَعْنَاهُ لِكَيْ يَحْذَرُوا، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ مَا سَمِعُوهُ، كَمَا قَالَ {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي إيجَابِهِ الْحَذَرَ بِإِنْذَارِ طَائِفَةٍ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا، لِأَنَّ الْحَذَرَ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الطَّائِفَةِ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْحَذَرُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، مِنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ مِنْهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِكَيْ يَحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أُنْذِرَتْ الطَّائِفَةُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . فَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مِنْ الْعُقُوبَةِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أُخْبِرَتْ بِهِ الطَّائِفَةُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ - لَمَا كَانَ الْإِنْذَارُ قَدْ أَلْزَمَهُ شَيْئًا، إذْ كَانَ الْحَذَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاجِبًا قَبْلَ إنْذَارِ الطَّائِفَةِ وَبَعْدَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى لِكَيْ يَحْذَرُوا، فَلَا يَأْمَنُوا أَنْ يَكُونَ الْإِنْذَارُ صَحِيحًا، فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ الْبَحْثَ عَنْهُ، حَتَّى يَعْلَمَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ إنْ كَانَ صَحِيحًا، فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ إلَى مُوجِبِ حُكْمِهِ. قِيلَ لَهُ: إنْ لَمْ يَكُنْ إنْذَارُ الطَّائِفَةِ قَدْ أَلْزَمَهُ حُكْمًا فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ قَبْلَ إنْذَارِهَا وَبَعْدَهُ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ: احْذَرْ وَاطْلُبْ الْآثَارَ وَالسُّنَنَ، لِتَعْرِفَ الْمُتَوَاتِرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ لَهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَيْءٌ. وَهَذَا يُوجِبُ إسْقَاطَ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ، وَإِيجَابَ الْحَذَرِ بِهِ، وَمَا أَدَّى إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَفَائِدَةُ الْآيَةِ ثَابِتَةٌ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] . وقَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وقَوْله تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] وَنَحْوِهِ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ حُكْمِ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ. فَمِنْهُمْ: مَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِهَا فِي لُزُومِ خَبَرِ الْعَدْلِ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ مَقْبُولٍ، فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ، لِتَحْصُلَ التَّفْرِقَةُ. وَمِنْهُمْ: مَنْ يَضُمُّ إلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فَتَوَكَّدَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ، وَأَوْجَبَ التَّثَبُّتَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ، وَتَرْكِ التَّثَبُّتِ فِيهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِجَاجِ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ خَاصَّةً مَوْجُودَةً بَعْدَ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَبْلَهَا فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. فَالْمَعْقُولُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ: إيجَابُ التَّفْرِقَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ الْوُجُوهُ الَّتِي أَوْجَبَ بِهَا التَّفْرِقَةَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهَا، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ. كَأَنَّهُ قَالَ: أَوْ خَبَرُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَكُلُّ بَعْضٍ أَشَرْنَا إلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يُفَرَّقْ بِهِ بَيْنَهُمَا، فَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ فِيمَا وَصَفْنَا سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فَلَمَّا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِجَاجِ لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] قَالَ: فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إجَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَعَاهُ وَهُوَ وَاحِدٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ مُشَافَهَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُ لَيْسَ هُوَ دُعَاءَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ مَنْ عَدَا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا بِدَلَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَا جَازَ فِي الْمُتَعَارَفِ أَنْ يُقَالَ: دَعَانِي فُلَانٌ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِ بِرَسُولٍ تَنَاوَلَ لَفْظَ الْآيَةِ، دَعَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُمْ شِفَاهًا، وَبِإِرْسَالِهِ مَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ. قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُمْ شِفَاهًا مُرَادٌ بِالْآيَةِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَمَا ذَكَرْته فَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ، فَلَا يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى حَصَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ انْتَفَى دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا جَاءَ فَذَكَرَ أَنَّهُ (مَدْعُوٌّ مِنْ) رَسُولِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذْ لَيْسَ يَثْبُتُ عِنْدِي أَنَّهُ دُعَاءٌ مِنْ الرَّسُولِ، دُونَ أَنْ يَنْقُلَهُ مَنْ يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ، فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، بِدَلَالَةٍ تَحْتَاجُ أَنْ تُثْبِتَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ احْتَجَّ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] قَالَ وَالْآذِنُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ مَا يُقَالُ لَهُ، فَمَدَحَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، أَنَّهُ قَالَ: {يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِيمَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ شَيْءٌ أَوْهَى مِنْ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، أَوْ الشَّهَادَاتِ، فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، بَلْ كَانَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُهُ، وَالْأَخْذُ عَنْهُ، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. وَلَيْسَ يَجُوزُ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبُولَ الشَّهَادَاتِ فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ، لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَعْدَادٍ مَعْلُومَةٍ، لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ الْأَعْدَادِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الشَّهَادَاتِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهَا هَاهُنَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوُهَا، وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. فَأَمَّا قَبُولُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَمِنْهَا: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يَسْمَعُهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ: «لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ تَبْلُغُهُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وَبِعَالٍ» وَأَنَّهُ «أَمَرَ بِالْغَدَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، نَهَى عَنْ لُحُومِ الْأَهْلِيَّةِ» «وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ أَنْ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» . وَأَنَّهُ «قَبِلَ شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ» وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ كَنَحْوِهَا تُوجِبُ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهَا فِي طَرِيقِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَلَقَّتْهَا وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي نَقْلِ الْعِلْمِ وَأَدَائِهِ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَفِي قَبُولِ نِدَاءِ الْمُنَادِي وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَقَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِذَلِكَ، وَرَوَى بَعْضَهَا مُرْسَلًا، وَمِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ احْتِجَاجِهِ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى مُبْطِلِي خَبَرِ الْوَاحِدِ بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ قَائِلُو خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي قَبُولِهِ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ لَا يَقْبَلُ أَخْبَارَ الْآحَادِ رَأْسًا. وَإِنَّمَا وَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِهِ: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَرْفَعْهَا، بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ قَدْ اسْتَعْمَلَتْهَا، وَتَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ فِي لُزُومِ نَقْلِ الْعِلْمِ، وَدَلَالَتُهَا وَاضِحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ قَالَ: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» فَأَخْبَرَ: أَنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ الْوَاحِدُ وَيُؤَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ فِقْهٌ، وَلَيْسَ يَكُونُ فَقِيهًا إلَّا وَقَدْ لَزِمَ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ. وَكَذَلِكَ النِّدَاءُ، لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْمُنَادِي - وَهُوَ وَاحِدٌ - لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِهِ مَعْنًى. وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ ذَلِكَ: وَهُوَ رُسُلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ، أَرْسَلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى كُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ رَسُولًا وَكِتَابًا، وَكَانَ فِي كُتُبِهِ إلَيْهِمْ، الدُّعَاءُ إلَى التَّوْحِيدِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالرِّسَالَةِ، وَجُمَلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ لَزِمَهُمْ قَبُولُهَا، وَالْعَمَلُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْحُكْمِ لَمَا كَانَ لِإِرْسَالِهِمْ وَكَتْبِ الْكُتُبِ مَعَهُمْ مَعْنًى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: التَّصْدِيقُ وَالتَّوْحِيدُ بِالرِّسَالَةِ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالْخَبَرِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا التَّوْحِيدُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ اعْتِقَادُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لَهُ قَبْلَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وَأَمَّا الرِّسَالَةُ: فَقَدْ كَانَ الْخَبَرُ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِهِ، وَظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَى يَدِهِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ فِي أَمْرِهِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهِ، وَفِي مُعْجِزَاتِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّسُلَ، لِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا كُتُبُهُ وَرَسَائِلُهُ إلَيْهِمْ. وَبَعْدَ تَقَدُّمِهِ الدُّعَاءَ إلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ: أَنَّهُمْ إنْ أَجَابُو فَلَهُمْ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا فَعَلَيْهِمْ كَذَا، فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْرًا لَهُمْ بِحَمْلِ الشَّرَائِعِ. وَضَرْبٌ آخَرُ: وَهُوَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُمَّالَهُ إلَى الْآفَاقِ، كَتَوْجِيهِهِ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إلَى الْيَمَنِ، وَاسْتِعْمَالِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ. وَقَدْ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْأَحْكَامِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَعْلِيمِهَا لِلنَّاسِ، وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا، وَإِلْزَامِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ قَبُولَهَا، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْخَبَرَ كَانَ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِاسْتِعْمَالِ الْعَامِلِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ الْآنَ بِتَوْلِيَةِ الْخَلِيفَةِ أَمِيرًا مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْبُلْدَانِ. قِيلَ لَهُ: أَجَلْ قَدْ كَانَ يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِالْوِلَايَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يَقْدُمُ بِهَا إلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ كُلَّمَا بَعَثَ عَامِلًا بَيَّنَ لِسَائِرِ النَّاسِ كُلَّ حُكْمٍ أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِهِ، وَكُلَّ شَرِيعَةٍ أَمَرَهُ بِأَدَائِهَا إلَيْهِمْ، لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، فَمَا كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ: تَوْجِيهُ الْعُمَّالِ دُونَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِهَا، وَقَدْ عَلِمْنَا مَعَ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمَبْعُوثِينَ إلَيْهِمْ، ثَبَتَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَقْلَهَا إلَيْهِمْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَلْزَمَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، قَبُولَ خَبَرِ الْمَوْلَى فِي الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 قَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ عَنْهُ إلَّا مَا كَانَ حَقًّا، وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْوُلَاةِ، يَتَوَارَثُهَا أَعْقَابُهُمْ، كَسَائِرِ الْفَضَائِلِ الَّتِي خُصَّ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ، نَحْوُ " مَا خُصَّ جَعْفَرٌ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ "، وَأَنَّ الْمَلَائِكَة غَسَّلَتْ حَنْظَلَةَ "، وَنَحْوَهَا مِنْ الْأُمُورِ. فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ وُلَاتَهُ مَعْصُومُونَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الْحَقَّ، عَلِمْنَا بُطْلَانَ هَذَا الْقَائِلِ. وَضَرْبٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ مِنْ وُجُودِ الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فِي الْأَحْكَامِ مُخْتَلِفَةً، قَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةً: وُقُوعَ الْحُكْمِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِهَا، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَكَمَ بِهِ، كَمَا عَلِمْنَا ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا: أَنَّهُ قَوْلُ قَائِلٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَكَمَا نَعْلَمُ ضَرُورَةً إذَا أَخْبَرَنَا النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُمْ مُنْصَرِفُونَ فِي طَرِيقِ الْجَامِعِ قَدْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَ خَبَرُهَا عَلَى صِدْقٍ، وَإِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 لَمْ يُقْطَعْ بِصِحَّةِ خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، إذَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَهُمْ، وَإِذَا كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِاضْطِرَارٍ: أَنَّ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَرَوَتْهُ، ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ، يُخْبِرُ بِهِ الْخَاصَّ مِنْ النَّاسِ الَّذِي لَا يُوجِبُ نَقْلُهُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ، وَلَا يُشِيعُهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ، عَلَى مَا كَانَ يَحْدُثُ مِنْ الْحَوَادِثِ، وَيُبْلَى بِهَا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ، فَيَكُونُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مَوْقُوفَةً عَلَى مَنْ بُلِيَ بِهَا، دُونَ كَافَّةِ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ حُكْمِهِ، لَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ إشَاعَتِهِ وَإِظْهَارِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَاتَرَ الْحُكْمُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكِلَهُمْ إلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِمْ، مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مِنْهُ فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُمْ إلَى الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَمَنْ لَا يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ. وَمِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ، وَأَتْبَاعِهِمْ، فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ. وَاَلَّذِي نُبَيِّنُهُ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ، وَالْعَمَلِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِهَا، وَلَا رَدَّ لَهَا. وَقَدْ أَوْرَدَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا. مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ غَيْرِي اسْتَحْلَفْته، فَإِنْ حَلَفَ صَدَّقْته، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يُصَلِّي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إلَّا غَفَرَ لَهُ اللَّهُ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وَقَبِلَ أَبُو بَكْرٍ شَهَادَةَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي «إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ» وَعَمِلَ بِهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا " وَقَبِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ» وَقَبِلَ أَيْضًا خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» . وَقَبِلَ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْمُغِيرَةِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دِيَةِ الْجَنِينِ ". وَقَبِلَتْ الْأَنْصَارُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَقَبِلَ أَهْلُ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ حِينَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ، فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «كُنَّا لَا نَرَى بِالْمُخَابَرَةِ بَأْسًا، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا، فَتَرَكْنَاهَا» وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ تَسْأَلُ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُمُورٍ، كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا أَنَّهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ بِعِلْمِهَا. وَفِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مُسْتَفِيضٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَعَلَيْهِ جَرَى أَيْضًا أَمْرُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إلَى أَنْ نَشَأَتْ فِرْقَةٌ فَاجِرَةٌ، قَلِيلَةُ الْفِقْهِ، جَاهِلَةٌ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَخَالَفَتْ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ، وَسُنَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي ذَلِكَ، إلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 آرَائِهِمْ، وَعَارَضُوهَا بِنَظَرٍ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَمَا أَمْكَنَهُمْ بِهِ تَصْحِيحُ مَقَالَتِهِمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى قَبُولِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَفَرُّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرِوَايَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وَدُعَاءُ النَّاسِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرًا لَأَنْكَرُوهُ عَلَى رُوَاتِهَا، وَمَنَعُوهُمْ مِنْهَا، إذْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الَّذِي رَوَيْته عَنْ الصَّحَابَةِ فِي تَثْبِيتِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ: هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَكَيْفَ جَعَلْته أَصْلًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى خَصْمِك وَهُوَ نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نُنَازِعُك فِيهَا. قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَقْلَ ذَلِكَ وَظُهُورَهُ فِي الْأُمَّةِ وَتَلَقِّيَهُمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَالثَّانِي: أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا كَوْنَ ذَلِكَ وَوُجُودَهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ عَلَى صِحَّةِ كُلِّ خَبَرٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، (إلَّا) أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِاضْطِرَارٍ: أَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِي بَعْضِ مُخْبَرَاتِهَا، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ. وَلَعَلِمْنَا بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي حَوَادِثِ الْمَسَائِلِ، وَإِنْ لَمْ نَقْطَعْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ فِيهَا. وَقَدْ اسْتَدَلَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ إذَا حَدَثَتْ لَهُنَّ حَوَادِثُ فِيمَا خَصَّهُنَّ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ: أَنَّ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُنَّ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُنَّ، وَأَنَّهُنَّ كُنَّ يَقْتَصِرْنَ فِيهَا عَلَى أَخْبَارٍ مِنْ خَبَرِهِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُكَلِّفُهُنَّ الْحُضُورَ لِذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ: اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ لِلْمُسْتَفْتِي بِمَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُفْتِي، مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَعَلَى أَنَّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ، وَقَدْ ضَمِنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَمَذْهَبُهُ الْحُكْمُ الَّذِي أَمْضَاهُ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَ لَمَا جَازَ حُكْمُهُ، وَقَدْ قَبِلَ الْجَمِيعُ خَبَرَهُ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَصَارَ أَصْلًا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، عَلَى الشَّرَائِطِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهُ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِ الْمُفْتِي، وَيَلْزَمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا أَخْبَرَا عَنْ رَأْيِهِمَا وَاعْتِقَادِهِمَا، فَإِذَا أُخْبِرَ حُكْمَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ، فَهُوَ أَوْلَى (مِنْ قَبُولِ) خَبَرِهِمَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا قَالَ: إنَّ هَذَا أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ: كَيْتَ وَكَيْتَ، لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسْتَفْتِي لَزِمَ السَّامِعَ حُكْمُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي: إنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْقُرْآنِ، لَزِمَهُ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَأَنْتَ لَا تُثْبِتُ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرْت. قِيلَ لَهُ: لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ: فَإِنِّي أُثْبِتُهُ، وَكَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ لَا فِي غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُ خَبَرِ الْمُفْتِي، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 الْحُكْمِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ مَتَى فَقَدُوا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ، رَجَعُوا إلَى اسْتِعْمَالِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ لَا يُفْضِي بِنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ غَالِبُ الظَّنِّ. وَالْأَثَرُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ يَقُولُ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْضًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي الِاجْتِهَادِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا كَانُوا يَفْزَعُونَ إلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَثَرِ عَنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ النَّظَرَ مَعَ الْأَثَرِ، وَقَدَّمْنَا الْأَثَرَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَانْتَفَى قَبُولُهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] . وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَ قَائِلِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِرَاوِيهِ. وَقَدْ نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْحُكْمَ بِالظَّنِّ، فَانْتَفَى بِهَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ فِي (بَدْءِ دُعَائِهِ) النَّاسَ إلَى التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِهِ، إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 لِصِدْقِهِ، فَمَنْ دُونَهُ مِنْ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقْبَلَ خَبَرًا إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَبِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنْ قَائِلِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ، لَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمُخْبِرِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ، إذْ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ، وَجَازَ قَبُولُ خَبَرِ غَيْرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ. وَالْجَوَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَنْفِي قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ: أَنَّ الْحُكْمَ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا حُكْمٌ يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِقَبُولِهِ، وَالْحُكْمَ بِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْحُكْمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنَّهُ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا حُكْمٌ بِالظَّنِّ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلْحُكْمِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِلُزُومِ قَبُولِهِ، فَهُوَ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، كَمَا نَقُولُ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ: إنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنَّهُ اتِّبَاعُ ظَنٍّ بِلَا حَقِيقَةٍ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا، كَذَلِكَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ، وَحَكَمَ بِالْحَقِّ دُونَ الظَّنِّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعِلْمَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَالْآخَرُ: حُكْمُ الظَّاهِرِ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ - وَأَنَّهُ يُسَمَّى عِلْمًا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فِي ضَمَائِرِهِنَّ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِنَّ عِلْمًا، وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {إنَّ ابْنَك سَرَقَ، وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] فَسَمَّوْا مَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْبِهِ وَحَقِيقَتِهِ عِلْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْرِقُ فِي الْحَقِيقَةِ، «وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ، يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فَسَمَّى إخْبَارَهُمْ إعْلَامًا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ. وَكَالشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا بِحَقٍّ، حَكَمْنَا بِقَوْلِهِمْ بِظَاهِرِ الْعِلْمِ، حَسَبَ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ صِدْقِهِمْ، وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْعِلْمِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَكَانَ خَبَرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِنْدَنَا الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ مَا يَنْفِي قَبُولَهُ، إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَضِيَهُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمًا لِمُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِمَا ادَّعَاهُ السَّائِلُ - لَمَنَعَتْ قَبُولَ قَوْلِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ، وَلَسَقَطَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أَكْثَرَ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ تَشْتَمِلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْخَبَرِ، وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا. فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فِي إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا، وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا، مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا، بَطَلَ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ عِلْمًا لِمُخْبِرِهَا. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَمْ يَتَعَدَّدْ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وَنَحْوُ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى الْحُكْمَ بِمَا يَجُوزُ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، وَكَانَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْعَدْلُ مُوجِبًا لِضَرْبٍ مِنْ الْعِلْمِ، أَوْجَبَ ذَلِكَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِهِ بِعُمُومِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَخْبَارُ الْآحَادِ الْوَارِدَةُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّهَادَاتِ، وَالْإِقْرَارَاتِ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّا إنَّمَا كُلِّفْنَا الشَّهَادَةَ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ عِلْمِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِهِمَا، وَلَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَ مَا كَانَ بِهِ الْإِقْرَارُ، وَلَا عِلْمَ مَا قَامَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] إنَّمَا كُلِّفْنَا فِيهِنَّ عِلْمَ ظُهُورِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، لَا عِلْمَ الْمُضَمَّنِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّا كُلِّفْنَا فِيهِ عِلْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وقَوْله تَعَالَى: {وإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا نَقُولُ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا نُكَلَّفُ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ، وَمِنْهَا مَا اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَمَا قَبِلْنَا فِيهِ أَخْبَارَ الْآحَادِ - فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] لَا يَنْفِي لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا السَّائِلُ، لَوَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ أَخْبَارَ الْمُعَامَلَاتِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ: مِنْ حَظْرِ مُبَاحٍ، أَوْ إبَاحَةِ مَحْظُورٍ، فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةً مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، عَلِمْنَا أَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ إصَابَةَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَضِيَّةَ هَذَا السَّائِلِ يَمْنَعُ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولَ قَوْلِ الْمُفْتِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَأَخْبَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ: قَدْ طَهُرْتُ مِنْ حَيْضِي، أَوْ قَدْ حِضْت، فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَحَظْرِهِ، لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ هَؤُلَاءِ مَقْبُولَةً مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مُخْبَرَاتِهَا، عَلِمْنَا بِهِ فَسَادَ هَذَا السُّؤَالِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَخْبَارَ الشَّرْعِ لَوْ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ، لَمَا سَاغَ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ يُفْضِيَ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْلِيبُ الظَّنِّ وَأَكْثَرُ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الدِّينِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ: مِنْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مَا عَارَضَ بِهِ السَّائِلُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 الْمُوجِبَةِ لِتَصْدِيقِهِ، فَكَانَ غَيْرُهُ بِمَثَابَتِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى خَبَرِهِ عَارِيًّا مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ صِدْقَهُ. فَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَدْءٌ فَإِنَّمَا كَانَ مَعَ دُعَائِهِ لِلنَّاسِ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَكُلِّ مَنْ دَعَا إلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي (كُلِّ مَا) كَانَ سَبِيلُهُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْخَبَرِ مُجَرَّدًا دُونَ مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهِ. ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نُبُوَّتُهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُ، صَارَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ مُوجِبَةً لِصِدْقِ إخْبَارِهِ فِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُ بِهِ. وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُنَا بِهَا الْعَمَلُ دُونَ الْعِلْمِ. فَالْمُسْتَدِلُّ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُعْتَقِدٌ لِمَا وَصَفْنَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُنْتَقَضٌ عَلَى قَائِلِهِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، فِي الْفُتْيَا، وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، مَعَ تَفَرُّدِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ الْمُخْبِرِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا: إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ، حَتَّى تُقَارِنَهُ دَلَائِلُ غَيْرِهِ تُوجِبُ صِحَّتَهُ، وَخَبَرُ غَيْرِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ، دُونَ مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ لَهُ. فَأَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّمَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُخْبِرِ غَيْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ، دُونَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَالْقَطْعِ عَلَى عَيْنِهِ. وَقُلْنَا: إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا اقْتَضَى وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ، وَمَا دَعَا إلَيْهِ، احْتَاجَ إلَى الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ، فَلَمْ نَجْعَلْ الْمُخْبِرَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي خَبَرِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ظَنَّ السَّائِلُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْفُتْيَا وَالْحُكْمِ - أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِقَبُولِ خَبَرِهِمْ بِلَا دَلَالَةٍ تُقَارِنُهُ مُوجِبَةٍ لِتَصْدِيقِهِ، وَامْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا دَلَالَةَ مَعَهُ مُوجِبُ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ دَالٌّ: عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، وَرَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَشْيَاءَ أَنَا ذَاكِرُهَا، وَمُبَيِّنٌ وَجْهَ الْقَوْلِ فِيهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْتُرِضَ أَيْضًا عَلَى بَعْضِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَأَنَا أَذْكُرُ مَوْضِعَ اعْتِرَاضَاتِهِ، وَأُبَيِّنُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ. فَمَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى اسْتِدْلَالِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] . أَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُسَمَّى طَائِفَةً، وَأَنَّ الْفِرْقَةَ الَّتِي أَمَرَ الطَّائِفَةَ بِالنُّفُورِ مِنْهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: فَلَوْ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، عُلِمَ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُرَادَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ: أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ، فَلَا سَبِيلَ إلَى تَثْبِيتِهِ مِنْ أَدِلَّةٍ، وَلَا شَرْعٍ، بَلْ الدَّلَائِلُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَقَوْلِ السَّلَفِ ظَاهِرَةٌ: أَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 اسْمَ الطَّائِفَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ: أَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ. فَقَدْ تَأَوَّلَ السَّلَفُ اسْمَ الطَّائِفَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَوْلَا أَنَّهَا اسْمٌ لَهُ لَمَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فَدَلَّ: أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَ. وَمَوْجُودٌ أَيْضًا: فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ: أَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ وَالْبَعْضِ وَالْخَبَرِ يَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ: أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا شَاءَ مِنْهَا، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ بَعْضُهَا، أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَتْ الطَّائِفَةُ بِمَعْنَى الْبَعْضِ، فَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ مِنْهَا. وَقَالَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْوَاحِدَ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ: إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعُدُولِ دُونَ الْفُسَّاقِ. وَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مَأْمُورًا بِالْأَدَاءِ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ شَهَادَتِهِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، كَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْعَدْلِ بِأَدَاءِ مَا سَمِعَ مِنْ الْحُكْمِ - دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ أُمِرَ بِالْأَدَاءِ لِيَنْتَشِرَ وَلِيَسْتَفِيضَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا سَلَفَ. وَنَقُولُ أَيْضًا: إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْلَاغِ يَقْتَضِي قَبُولَ خَبَرِهِ، وَمَا يُؤَدِّيهِ، كَمَا اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا، هَذَا ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ، وَهُمْ الْفُسَّاقُ، كَمَا أَنَّ لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِمَا إقَامَةَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ، إذَا دُعِيَا لِلشَّهَادَةِ، (وَأَنَّهُ وَاجِبُ) التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَلَا يَقْدَحُ وُجُوبُ التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ، فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ كَمَا يَقُولُ فِي الْعُمُومِ: إنَّهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ جُمْلَتِهِ. وَذَكَرَ: أَنَّهُ لَيْسَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْعُمَّالَ عَلَى الْبُلْدَانِ وَاسْتِعْمَالُ السُّعَاةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ - دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ، لِأَنَّ قَبُولَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَاجِب عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَةِ رَأْيِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبَيْنَ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذْ قَدْ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَكَمَ بِكَذَا، أَوْ أَمَرَ بِكَذَا - يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ، فَغَيْرُهُ مِنْ الْمُخْبِرِينَ بِمَنْزِلَتِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوُلَاةَ الَّذِينَ كَانَ يَبْعَثُهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُونُوا يَقْتَصِرُونَ فِي تَعْلِيمِ رَعَايَاهُمْ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ إنْ أَجَابُوا أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْكَافَّةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَعَايَا الْوُلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُ أَخْبَارِ الْوُلَاةِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا حُكَّامًا عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْتِزَامُ أَحْكَامِهِمْ، وَإِنَّمَا لَزِمَهَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَتْ بِهِ الْوُلَاةُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَذُكِرَ فِي شَأْنِ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ: أَنَّهُ جَائِزٌ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، غَيْرِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ الَّذِي حَكَى إخْبَارَهُ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ عَمِلُوا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَصِحُّ، وَلَا يَحْتَمِلُ مَا رُوِيَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخْبِرٌ آخَرُ وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ لَنُقِلَ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إلَّا خَبَرُ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ صَارَتْ إلَى حُكْمِ خَبَرِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. وَلَوْ سَاغَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا رَجَمَهُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ شُهُودٍ عَلَيْهِ بِالزِّنَا، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ لِلزِّنَا وَحْدَهُ، وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الرَّجْمَ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ فَحَسْبُ، لَكِنْ لِأَنَّ زَوْجَهَا خَيَّرَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَيْنَا، وَلُزُومُ هَذَا الِاعْتِبَارِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ السُّنَنِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي حُكْمٍ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَمَ بِهِ لِحُدُوثِ حَادِثَةٍ - أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا. وَعَلَى أَنَّ الْقَائِلَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا قَبِلَ خَبَرَ جَمَاعَةٍ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَّا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ فِي نَحْوِ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ. وَذُكِرَ: أَنَّ رَاوِيَ خَبَرِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ صَغِيرًا يَوْمئِذٍ، لِأَنَّهُ بَلَغَ عَامَ الْخَنْدَقِ، فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَضْبِطُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ خَبَرَ مَسْجِدِ قُبَاءَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْهَرَ فِي الْأُمَّةِ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى إسْنَادٍ، حَتَّى قَدْ صَارَ يُسَمَّى مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا فِيهِ بَعْضَ صَلَاتِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْضَهَا إلَى الْكَعْبَةِ، فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَئِذٍ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَضْبِطُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ سِنَّهُ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوَهَا، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَكَانَ سِنُّ ابْنِ عُمَرَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 عَشْرَةَ سَنَةً، لِأَنَّهُ قَالَ: عُرِضْت يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَأَجَازَنِي يَوْمَ أُحُدٍ، وَبِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَمَنْ رَوَى: أَنَّ سِنَّهُ كَانَتْ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَقَدْ غَلِطَ، لِأَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَتَيْنِ، وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ رَوَى قِصَّةَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ لَمَا رَوَاهَا، وَلَا قَطَعَ بِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّمَا يَرْوِي مَا يَرْوِيهِ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ مِنْهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ، هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ، وَيُقَالُ: إنَّ مَا يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمَاعًا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَاقِي سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يُطْعَنْ فِي رِوَايَتِهِ لِمَا رَوَاهُ سَمَاعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِغَرِهِ، بَلْ قَدْ قَبِلَهُ النَّاسُ وَجَعَلُوهُ أُصُولًا. رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَأَحْكَامِهَا، فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَاتَ فِيهَا عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ خَالَتُهُ - لِيَعْرِفَ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ أَصْلًا يُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ أَجْلِ صِغَرِهِ. وَمِمَّنْ كَانَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَرَوَى عَنْهُ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ، فَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَتِهِ، وَبَيْنَ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيمَا يَرْوِيهِ الصَّحَابِيُّ بِالسِّنِّ فِي وَقْتِ الْقِصَّةِ الَّتِي يَحْكِيهَا. وَذُكِرَ: أَنَّ الْأَنْصَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَاقُوا شَرَابَهُمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ مُخْبِرٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ، كَمَا كَسَرُوا الْأَوَانِيَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ كَانَ مَالًا لَهُمْ قَبْلَ سَمَاعِ الْخَبَرِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ قَدْ أَوْجَبَ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمَهُ لَمَّا أَسْرَعُوا إلَى إتْلَافِهِ، وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْجِرَارَ تَأْكِيدًا لِأَمْرِ التَّحْرِيمِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعَادَةِ فِي شُرْبِهَا، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَقِّ رَوَايَا الْخَمْرِ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى صَبِّهَا، تَأْكِيدًا لِأَمْرِ تَحْرِيمِهَا، وَتَغْلِيظًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ عَادَاتِهِمْ عَنْهَا. وَذُكِرَ فِي قَبُولِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي «تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» : أَنَّهُ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَكَانَ صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ. وَمَعَ ذَلِكَ إنَّ الضَّحَّاكَ ذَكَرَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ وَاحِدٍ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ اسْتَدَلَّ عُمَرُ بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا كَوْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ يَقُولُ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَحَلَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُسَمَّى رَاوِيَةَ عُمَرَ، وَكَانَ يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِقَضَايَا عُمَرَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَعَلَى أَنَّ عَامَّةَ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمَصِيرِ إلَى حُكْمِهِ. فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الضَّحَّاكَ حَكَى لِعُمَرَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا عِنْدَ عُمَرَ وَقْتَ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ لِذَلِكَ، إنَّمَا كَانُوا فِي قَبَائِلِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وَالضَّحَّاكُ إنَّمَا ذَكَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ، فَكَانَ غَائِبًا عَنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا مَعْنَى إذًا لِاعْتِبَارِ شُهْرَةِ الْقِصَّةِ، وَتَرْكِ النَّكِيرِ مِمَّنْ كَانَتْ فِيهِمْ عَلَى رَاوِي الْخَبَرِ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَهْلَهَا الَّذِينَ كَانَتْ الْقِصَّةُ فِيهِمْ كَانُوا حَضَرُوا عِنْدَهُ وَقْتَ رِوَايَتِهِ. وَذُكِرَ فِي خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْضِ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ وُلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَحْرَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا تَظَنِّي وَحُسْبَانٌ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَا بِرِوَايَتِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَ: أَنَّ عُمَرَ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَخْبَارِ إلَّا بِرِوَايَةٍ، وَذَكَرَ: أَنَّ رُجُوعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ قَبْلَ طَوَافِ الصَّدْرِ، حِينَ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأُمَّ سَلَمَةَ قَدْ أَخْبَرَاهُ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ أَفْسَدْنَا عَلَيْهِ هَذَا الِاعْتِبَارَ. وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ مِمَّا يَرْوِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً تَوَاتَرَ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِهَا، فَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أَخْبَرَهُ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْوِهِ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَذَكَرَ أَخْبَارًا أُخَرَ اسْتَدَلَّ بِهَا مُثْبِتُو خَبَرِ الْوَاحِدِ بِتَنَاوُلِهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِي إفْسَادِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَتَكْرَارِهِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، وَنَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] قَالَ: وَنَزَلَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُصَدِّقًا. عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ ثِقَةٌ عَدْلٌ، فَجَاءَ وَادَّعَى: أَنَّهُمَا أَرَادُوا قَتْلَهُ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْوَلِيدِ. فَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ فِسْقَهُ وَجَعْلَهُ فَاسِقًا بِإِخْبَارِهِ بِالْكَذِبِ - فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا مِنْهُ الظَّاهِرُ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ فَسَقَ فِي إخْبَارِهِ، كَمَا فَسَقَ الْوَلِيدُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ، بَلْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ، فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَحْدَهُ. فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَمَقَادِيرِهَا، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ لَمَا اسْتَعْمَلَهُ. ثُمَّ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِسْقِهِ حِينَ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَذِبٍ، أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ لَعَلَّهُ قَدْ فَسَقَ فِي قَوْلِهِ. قِيلَ لَهُ: فَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَمْنَعُ قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُمَا قَدْ فَسَقَا، وَتَمْنَعُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 قَبُولِ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا عِنْدَنَا، يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ فَسَقُوا، فَهَذَا اعْتِبَارٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ: أَنَّ الشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِشَهَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ قِيَاسَ الْأَخْبَارِ عَلَى الشَّهَادَاتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَيْسَتْ الشَّهَادَةُ أَصْلًا لِلْأَخْبَارِ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْعَبِيدِ، وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ، وَخَبَرِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَيْضًا: عَلَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ فِي الْأَمْوَالِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، إلَّا مِنْ الْأَحْرَارِ غَيْرِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ، وَأَنَّ (شَهَادَةَ) النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ مَقْبُولَةٌ فِي الْوِلَادَةِ، وَنَحْوِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَاتِ لَيْسَتْ بِأَصْلٍ لِلْأَخْبَارِ. وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَاتُ أَصْلًا لِذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ الْخَبَرُ فِي إثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا إلَّا أَرْبَعَةٌ، كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ، وَلَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَثُرْنَ، مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ، كَمَا لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا: أَنَّ الْأَخْبَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالشَّهَادَاتِ. وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ فِي الْأَخْبَارِ، رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ: أَنَّ الشَّهَادَاتِ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي الْأَخْبَارِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمُعَايَنَةِ. وَالْأَخْبَارُ يُقْبَلُ فِيهَا: فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَاتِ ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ السَّامِعِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالنَّقْلِ عَنْهُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَصِحُّ، إلَّا بِتَحْمِيلِ الشَّاهِدِ إيَّاهُ، وَأَمْرِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَقَبِلَ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ، بِأَخْبَارٍ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ الطَّرِيقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 الَّتِي يَعْتَبِرُهَا قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. بَلْ لَا يُمْكِنُهُ حَتَّى إثْبَاتُ خَبَرٍ يَرْوِيهِ اثْنَانِ، عَنْ اثْنَيْنِ، حَتَّى يُبْلِغُوهُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ؟ مِنْهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ «ذِي الْيَدَيْنِ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ» قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكْتَفِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ - دَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ يُوجِبُ حُكْمًا لَمَا احْتَاجَ إلَى مَسْأَلَةِ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ عِنْدَنَا شَرَائِطَ فِي قَبُولِهِ. مِنْهَا: أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا حَكَى شَيْئًا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُهُ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ لَمْ تَعْرِفْهُ الْجَمَاعَةُ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا مُوجِبًا لِلتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ، وَقِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَامْتَنَعَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْفَى مَا ذَكَرَهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ، وَيَنْفَرِدَ هُوَ بِمَعْرِفَتِهِ دُونَهُمْ، فَلِذَلِكَ سَأَلَ غَيْرَهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: إنَّك صَلَّيْت رَكْعَةً، لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ مَنْ خَلْفَهُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى خَبَرِهِ، وَكَمَا نَقُولُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ: إنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَحْضُرَ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ لِطَلَبِ الْهِلَالِ، فَيَنْفَرِدَ بِرُؤْيَتِهِ وَاحِدٌ دُونَهُمْ، مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي صِحَّةِ الْإِبْصَارِ، وَاتِّفَاقِ هِمَمِهِمْ فِي الطَّلَبِ. وَذَكَرَ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُشْهِدْ فِي عُهُودِهِ وَالْإِقْطَاعَاتِ لِلنَّاسِ أَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الْأَخْبَارِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا الْعُهُودُ وَالْإِقْطَاعَاتُ: فَإِنَّ فِيهَا حُقُوقًا لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَاحْتَاجَ إلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ تَوْثِقَةً لَهُمْ، وَحُجَّةً يَصِلُونَ بِهَا إلَى إثْبَاتِهَا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ فِي شَيْءٍ. أَلَا تَرَى: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ كَتَبَ كُتُبًا فِي الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِيهَا أَحَدًا، نَحْوَ كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي ضُرُوبٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَكِتَابِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الصَّدَقَاتِ، وَكِتَابِهِ إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، وَكِتَابِهِ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا شُهُودًا، لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِهَا كَانَ لِلْخَبَرِ، لَا لِلشَّهَادَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ: أَنْ لَا يَقْبَلَ خَبَرَ اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اقْتَصَرَ فِي كُتُبِ عُهُودِهِ وَإِقْطَاعَاتِهِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَحَسْبُ، بَلْ الْمُسْتَفِيضُ: أَنَّهُ كَانَ يُشْهِدْ فِيهَا جَمَاعَةً أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ إشْهَادُهُ عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى بُطْلَانِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ مِنْ فِعْلِ الْأَئِمَّةِ: بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ. وَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَحَكَمَ لَهَا بِالسُّدُسِ، وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّ خَبَرَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَرَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْحَبْسِ، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ فِي إسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا، وَقَالَ: " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، بِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا أَدْرِي أَصَدَقَتْ، أَمْ كَذَبَتْ " وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُوجِبَةٌ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خَبَرَ عُثْمَانَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَطَلَبَا مُخْبِرًا آخَرَ مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ ذَكَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْمَدِينَةِ. وَلَمْ يَقْبَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ (وَ) ذَكَرَ أَخْبَارًا مِنْ نَحْوِهَا، لَمْ يَقْبَلْهَا قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا: عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا رَدُّوهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ، وَأَنَّ الْمُخْبِرَ بِهَا لَوْ كَانَ اثْنَيْنِ لَقَبِلُوهَا. وَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي سُورَتَيْ الْقُنُوتِ، وَلَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي إسْقَاطِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، «وَأَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: لَمْ يَقْبَلْ قِرَاءَةَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 حِينَ سَمِعَهُ يَقْرَأُ خِلَافَ قِرَاءَتِهِ، حَتَّى خَاصَمَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعُمَرَ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ أَمَرَ هِشَامًا فَقَرَأَ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَأَوَّلُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْ قَالَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ إثْبَاتُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِنَقْلِ اثْنَيْنِ، حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ أَقْصَاهُ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ إذًا الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي دَفْعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَاعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ. فَإِنْ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُهَا بِنَقْلِ اثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهَا أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ، فَيَجُوزُ إثْبَاتُهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قِيلَ لَهُ: فَإِذَا كَانَتْ أَخْبَارًا وَارِدَةً مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ وَقَدْ قَبِلَتْهَا الْأُمَّةُ وَأَثْبَتَتْهَا، فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتَ بِذَلِكَ: عَلَى أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ أَخْبَارَ الْآحَادِ؟ وَأَنَّهَا لَمْ تَعْتَبِرْ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ؟ ثُمَّ نَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ قَبُولَ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَإِنَّمَا كَأَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ دَلَالَةً عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَرَى قَبُولَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا، وَلَا يَرَى رَدَّهَا لِعِلَلٍ تُوجِبُ رَدَّهَا. فَأَمَّا مَنْ اعْتَبَرَ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ شَرَائِطَ مَتَى خَرَجَتْ عَنْهَا لَمْ تُوجِبْ قَبُولَهَا، فَقَوْلُهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ، وَلَيْسَ فِي رَدِّ السَّلَفِ لِبَعْضِ الْأَخْبَارِ مَا يُوجِبُ خِلَافَ قَوْلِهِ، وَكُلُّ خَبَرٍ مِنْ ذَلِكَ رَدُّوهُ فَهُوَ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي يَجِبُ رَدُّهُ لِلْعِلَلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْآحَادِ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الشَّاهِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، لِلْعِلَلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْأَخْبَارِ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ لِلْعِلَلِ الَّتِي تُوجِبُ رَدَّهَا، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ تَعْرِيَتِهِمَا مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِرَدِّهَا، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُمْ فِي رَدِّهِمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرُوهَا: أَنَّهُمْ رَدُّوهَا لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ، دُونَ أَنْ يَكُونُوا رَدُّوهَا لِعِلَلٍ أُخَرَ غَيْرِهَا، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي نَقُولُهُ. ثُمَّ لَوْ كَانَ ظَاهِرُ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ رَدِّهِمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونُوا رَدُّوهَا لِعِلَلٍ أَوْجَبَتْ رَدَّهَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ سَقَطَ احْتِجَاجُهُ بِهَا، إذْ لَيْسَ هُوَ أَسْعَدَ بِدَعْوَاهُ هَذِهِ مِنَّا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى خَصْمِهِ بِغَيْرِهَا، وَعَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ ظَاهِرَةٌ: عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوهَا لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ، لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَفَاضَ عِنْدَهُمْ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعَ ذَلِكَ وَجْهَ كُلِّ خَبَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ تَعَرَّتْ مِمَّا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، لَمَا دَلَّتْ: عَلَى أَنَّهُمْ رَدُّوا مَا رَدُّوا مِنْهَا لِمَا ذَكَرَهُ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَطْلُبْ مِنْ الْمُغِيرَةِ هَذَا إلَّا احْتِيَاطًا، وَإِلَّا قَدْ ضَعُفَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ. إمَّا: لِعِلَّةٍ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَإِمَّا: أَنْ يَكُونَ الْمُغِيرَةُ أَخْبَرَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ قَوْمٍ سَمِعُوهُ مَعَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ: بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ بِالْمَدِينَةِ، بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ تَكُنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ. وَلَا يُمْكِنُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَفَرَّقَ مَنْ حَضَرَهُ وَعَلِمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْعُدْ، أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ رَدَّهُ، لَوْ قَدْ زَالَتْ لَقَدْ كَانَ خَبَرُهُ عِنْدَهُ مَقْبُولًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَضَى بِقَضِيَّةٍ بَيْنَ قَوْمٍ. فَقَالَ بِلَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَشْهَدُ أَنَّهُمْ اخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَرَدَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَنَقَضَ قَضَاءَهُ، وَقَضَى بَيْنَهُمْ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَدْ قَضَى أَبُو بَكْرٍ بِخَبَرِ بِلَالٍ وَحْدَهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وَنَقَضَ بِهِ قَضَاءً كَانَ قَضَى بِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ عِلَّةٌ لَيْسَ فِي خَبَرِ بِلَالٍ مِثْلُهَا لَأَجْرَاهُمَا مَجْرًى وَاحِدًا. وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ - فَإِنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فَاسْتَنْكَرَ وُرُودَهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَهَذَا عِنْدَنَا إحْدَى الْعِلَلِ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ الْهِلَالِ، وَخَبَرُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ فِي الْجَامِعِ، أَوْ فِي عَرَفَاتٍ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ، فَلَا يُخْبِرُ أَحَدٌ بِمِثْلِ خَبَرِهِ فَنَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ. وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدِّ حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ (بْنُ) مَسْلَمَةَ، فَإِنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - كَانَ وَجْهُهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي تَثَبُّتِ أَبِي بَكْرٍ فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ، فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ. عَلَى (أَنَّ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةِ: أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ فِي خَبَرِ حُكْمِ الْجَنِينِ مُضْطَرِبٌ، وَإِنَّمَا يَرْوِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَلَا كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى اضْطِرَابِهِ أَنَّهُ مَشْهُورٌ عَنْ «عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ أُذَكِّرْ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ شَيْئًا، فَقَامَ إلَيْهِ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: كُنْت بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا بَطْنَ الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغُرَّةٍ» . فَقَالَ عُمَرُ: " كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ هَذَا بِرَأْيِنَا ". وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا - لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا. فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَقَدْ قَبِلَهُ عُمَرُ وَعَمِلَ بِهِ - فَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ: أَنَّهُ سَأَلَ الْمُغِيرَةَ، مَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ مُقَدَّمًا لِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، فَكَيْفَ سَأَلَ النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَضِيَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْخَبَرِ، مَعَ تَقَدُّمِ سَمَاعِهِ لِحُكْمِهِ، وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بِخَبَرِ اثْنَيْنِ؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْخَبَرِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ سُؤَالٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وَأَمَّا خَبَرُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّمَا رَدَّهُ عُمَرُ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خِلَافَ الْكِتَابِ، فِي إبْطَالِهِ السُّكْنَى، وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] . فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُ: أَنَّهَا قَدْ أَوْهَمَتْ فِي خَبَرِهَا فِي إبْطَالِ السُّكْنَى، وَكَانَتْ النَّفَقَةُ بِمَنْزِلَةِ السُّكْنَى - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهَا، وَسَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِي رَدِّهِ. وَعَلَى أَنَّهُ: قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ " أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّمَا رَدَّ خَبَرَهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، لَا لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ عُمَرَ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي رَدِّ خَبَرِهَا: أَنَّهُ لَا يَدْرِي صَدَقَتْهُ أَمْ كَذَبَتْ. فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي الِاعْتِلَالِ لِرَدِّهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، لِخَبَرِ مَنْ يَجُوزُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ، وَمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لَا يَسَعُ الشَّكُّ فِيهِ. وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى الْكِتَابِ، وَلَا عَلَى السُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، وَعَلَى أَنَّ جَوَازَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَلَى الْمُخْبِرِ بِانْفِرَادِهِ لَوْ كَانَ عِلَّةً لِرَدِّهِ - لَوَجَبَ رَدُّ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ أَيْضًا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَلَوَجَبَ رَدُّ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا أَيْضًا لِذَلِكَ. وَأَمَّا رَدُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَبَرَ عُثْمَانَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ الْعَاصِ إلَى الْمَدِينَةِ - فَإِنَّ عُثْمَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 ذَكَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَطْمَعَهُ فِي رَدِّهِ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ، وَلَوْ كَانَا هُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُطْمِعُهُ فِي رَدِّهِ ثُمَّ لَمْ يَرُدَّهُ - لَمَا جَازَ لَهُمَا أَنْ يَرُدَّاهُ، إذَا لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَعَلُّقٌ بِمَا ذَكَرَهُ. وَأَمَّا رَدُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِخَبَرِ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ، فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ فَإِنَّ قِصَّةَ بِرْوَعَ قَدْ شَهِدَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْجَعَ، مِنْهُمْ: أَبُو سِنَانٍ، وَأَبُو الْجَرَّاحِ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ بِهَا وَاحِدًا، فَلَا تَعَلُّقَ فِيهِ، لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَعَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَرُدَّ خَبَرَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: لَا نَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً - لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ لِكَثْرَةِ وَهْمِهِمْ، وَقِلَّةِ ضَبْطِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَعْرَابٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إحْدَى الْعِلَلِ الَّتِي رَدَّ خَبَرَهُمْ لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ أُبَيِّ سُورَتَيْ الْقُنُوتِ، وَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْبَلْ قِرَاءَةَ الرَّجُلِ الَّذِي قَرَأَ خِلَافَ قِرَاءَتِهِ. فَإِنَّ مِنْ أَصْلنَا: أَنَّا لَا نُثْبِتُ الْقِرَاءَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِرَاضِ بِهِ فِيمَا وَصَفْنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي قَبُولِ شَرَائِطِ أَخْبَارِ الْآحَادِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا وُجُوبَ الْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الطُّرُقِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَا، وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوهِ الْحِجَاجِ لَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا مَتَى عَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي قَبُولِ خَبَرٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ وَالْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ الِاجْتِهَادَ، كَمَا نَقُولُ فِي الشَّهَادَاتِ: إنَّ ثُبُوتَهَا فِي الْجُمْلَةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ. وَمَتَى عَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي شَهَادَةِ شُهُودٍ بِأَعْيَانِهِمْ، كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِ شَهَادَتِهِمْ وَالْعَمَلُ بِهَا الِاجْتِهَادَ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ، لَا حَقِيقَةَ الْعِلْمِ. فَمَتَى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ لِمَا تَحَمَّلُوا، وَإِتْقَانُهُمْ لِمَا أَوْجَبَ قَبُولَهَا مِنْهُمْ. وَمَتَى غَلَبَ فِي ظَنِّنَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَجَبَ رَدُّهَا، وَلَمْ يَجُزْ لَنَا قَبُولُهَا، وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ الْآحَادِ، يَجُوزُ رَدُّهَا لِعِلَلٍ، إذَا كَانَ طَرِيقُ قَبُولِهَا مِنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ الِاجْتِهَادَ وَغَالِبُ الظَّنِّ، عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الظَّنِّ بِالرُّوَاةِ. فَمِنْ الْعِلَلِ الَّتِي يَرُدُّهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا: مَا قَالَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: ذَكَرَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُرَدُّ لِمُعَارَضَةِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ إيَّاهُ. أَوْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِي. أَوْ يَكُونَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، فَيَجِيءَ خَبَرٌ خَاصٌّ لَا تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ. أَوْ يَكُونَ شَاذًّا قَدْ رَوَاهُ النَّاسُ، وَعَمِلُوا بِخِلَافِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّمَا مَا كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ لِنَصِّ الْكِتَابِ (لَا) يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُقْتَضَاهُ. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ: مِنْ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَنَسْخِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ، حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: فِي إسْقَاطِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ وَنَفَقَتِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَمَا رُوِيَ: أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " رَأَى رَبَّهُ " يَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ. يَرُدُّهُ آيَةُ الرِّبَا، وَحَدِيثُ مَانِعِ الزَّكَاةِ: أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَشَطْرُ مَالِهِ. وَحَدِيثُ: أَخْذُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَكْمَامِهَا: أَنَّهُ يَعْنِي يَغْرَمُهَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ. هَذِهِ الْأَخْبَارُ تَرُدُّهَا آيَةُ الرِّبَا. وَكَذَلِكَ مُعَارَضَةُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ إيَّاهُ، عِلَّةٌ تَرُدُّ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ تُوجِبُ الْعِلْمَ، كَنَصِّ الْكِتَابِ. وَأَمَّا حُكْمُهُ فِيمَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ: فَإِنَّمَا كَانَ عِلَّةً لِرَدِّهِ مِنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْكَافَّةَ عَلَى حُكْمِهِ، فِيمَا كَانَ فِيهِ إيجَابٌ أَوْ حَظْرٌ نَعْلَمُهُ، بِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى عِلْمِهِ إلَّا بِتَوْقِيفِهِ، وَإِذَا أَشَاعَهُ فِي الْكَافَّةِ وَرَدَ نَقْلُهُ بِحَسَبِ اسْتِفَاضَتِهِ فِيهِمْ. فَإِذَا لَمْ نَجِدْهُ كَذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 عَلِمْنَا: أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ: أَنْ يَخْتَصَّ بِنَقْلِهِ الْأَفْرَادُ دُونَ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي أَهْلِ مِصْرٍ إذَا طَلَبُوا الْهِلَالَ، وَلَا عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ: إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي رُؤْيَتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ (صَحِيحًا) لَمَا جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ هُوَ بِرُؤْيَتِهِ دُونَ الْكَافَّةِ. وَلَوْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، وَجَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ قُبِلَ خَبَرُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ عَنْ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ فِي الْجَامِعِ تَفَانَى فِيهَا الْخَلْقُ، لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ دُونَ نَقْلِ الْكَافَّةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا سَلَّمَ: إنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يُخْبِرْهُ غَيْرُهُ بِذَلِكَ، مَعَ كَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى خَبَرِهِ، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ صَلَّى بِآخَرَ فَلَمَّا سَلَّمَا، قَالَ لَهُ: سَهَوْت: وَإِنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً، كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ خَبَرِهِ، إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ: أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ. وَمِمَّا وَرَدَ خَاصًّا مِمَّا سَبِيلُهُ أَنْ تَعْرِفَهُ الْكَافَّةُ: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ قَالَ: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» . فَهَذَا الْخَبَرُ إنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ اقْتَضَى بُطْلَانَ الطَّهَارَةِ إلَّا مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهَا - تَعْرِفُهُ الْكَافَّةُ، كَمَا عُرِفَتْ سَائِرُ فُرُوضِهَا، لِعُمُومِ الْحَاجَةِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَكَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» . وَنَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَمِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ، وَالْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَمَا رُوِيَ فِي الْجَهْرِ: بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ ثَابِتَةً لَنَقَلَهَا الْكَافَّةُ. وَمِثْلُهُ: حَدِيثُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ، لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ: «أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَقَالَ لَهُمَا: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ» ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَخْتَصَّ هُوَ بِعِلْمِ ذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا سَلَّمَ: سَهَوْت، وَإِنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ، إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ مَعَ جَمَاعَةٍ غَيْرَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْحَيْضُ مِمَّا تَعُمُّ بَلْوَى النِّسَاءِ بِهِ، وَلَمْ يَرِدْ النَّقْلُ مُسْتَفِيضًا بِمِقْدَارِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ: بِأَنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، وَأَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 ثَلَاثَةٌ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ، وَعَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْهُ سِتٌّ، أَوْ سَبْعٌ، كَمَا «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ: تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ» وَهَذَا الْمُعْتَادُ مِنْهُ قَدْ وَرَدَ ثُبُوتُهُ وَكَوْنُهُ حَيْضًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ: عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ حَيْضًا، وَكَذَلِكَ الثَّلَاثَةُ، وَالْعَشَرَةُ، مُتَّفَقٌ عَلَى: أَنَّهَا حَيْضٌ، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَخَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ، فَجَائِزٌ أَنْ لَا يَرِدَ النَّقْلُ بِنَفْيِهِ أَوْ إيجَابِهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّلْبِيَةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَعَ كَثْرَةِ الْجَمْعِ هُنَاكَ. قِيلَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ: أَنَّهُ لَمْ يُلَبِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَرَوَى جَمَاعَةٌ: «أَنَّهُ كَانَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ، وَفِعْلُ التَّلْبِيَةِ هِيَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضِيلَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَوْقِيفُ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا لَهُ تَرْكُهَا رَأْسًا، فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ فَعَلَهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ، مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْكَافَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُلَبِّي فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُهَا إلَّا مَنْ قَرُبَ مِنْهُ: مِثْلُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ كَانَ رَدِيفَهُ، وَمِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْرُبُ مِنْهُ. وَمِنْ الْمُخَالِفِينَ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِقَوْلِنَا فِي وُجُوبِ الْوِتْرِ، وَوُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْجَنَابَةِ، وَوُجُوبِ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَنَحْوِهَا، مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا قَدْ وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ: فِي أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ، وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنَّ مَذْهَبَ بَعْضٍ عَنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ فِيمَا قَدْ صَحَّ نَقْلُهُ مَصْرُوفَةٌ إلَى النَّدْبِ بِتَأْوِيلٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَلَامُنَا فِي نَقْلِ مَا عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا اعْتِبَارَ بِمَا ذَكَرْت مِنْ وُجُوبِ اسْتِفَاضَةِ النَّقْلِ فِيمَا عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنْ يَخُصَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِتْقَانِ بِإِعْلَامِ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى، حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إلَى الْكَافَّةِ قِيلَ لَهُ فِي هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ذَكَرْت كَانَ مُؤَدِّيًا لِمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ إذَا أَوْدَعَ ذَلِكَ عَامَّةَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّمَا يُودِعُهُمْ إيَّاهُ لِيَنْقُلُوهُ إلَى الْكَافَّةِ، وَإِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَتَنْقُلُهُ الْكَافَّةُ أَيْضًا عَمَلًا، فَيَتَّصِلُ لِلنَّقَلَةِ وَيَسْتَفِيضُ، فَقَضِيَّتُنَا بِمَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ وُرُودِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ صَحِيحَةٌ فِيمَا كَانَ وَصْفُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا كَانَ مَبْعُوثًا إلَى الْكَافَّةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ حَاجَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 الْعَامِّيِّ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ كَحَاجَةِ غَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَوْقِيفُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْحُكْمِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِتَعْلِيمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ - الْخَاصَّةِ دُونَ الْكَافَّةِ. فَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا عَمَّتْ فِيهِ الْبَلْوَى، وَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، سَبِيلُهُ: أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِخِلَافِهِ: فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَأَنْ يَقْنُتَ فِي الْمَغْرِبِ وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ» . وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ، فَهُوَ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَنْ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ: أَنَّهَا إنْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا» . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مَانِعِ الصَّدَقَةِ، وَآخِذِ الثَّمَرَةِ مِنْ أَكْمَامِهَا، قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِهَا، قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: وَرَدُّ أَخْبَارِ الْآحَادِ لِعِلَلٍ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَذَكَرَ أَخْبَارًا رَدَّهَا السَّلَفُ لِلْعِلَلِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، فَمِنْهَا: " رَدُّ عُمَرَ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا " لِأَنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] فَاسْتَنْكَرَ عُمَرُ انْفِرَادَ أَبِي مُوسَى بِمَعْرِفَةِ تَحْدِيدِ الثَّلَاثِ دُونَ الْكَافَّةِ، مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَأَوْعَدَهُ حَتَّى حَضَرَ مَجْلِسَ الْأَنْصَارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَعَرَفُوهُ، وَقَالُوا: " لَا يَقُومُ مَعَك إلَّا أَصْغَرُنَا ". فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَلَا حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَانَ يَرَى الْخَبَرَ الْخَاصَّ بَلْ كَانَ يَقْبَلُهُ مِنْهُمْ، وَيَعْمَلُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِلَّةٌ يُرَدُّ مِنْ أَجْلِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ أَبِي سَعِيدٍ حِينَ شَهِدَ لِأَبِي مُوسَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ سَوَاءٌ فِي عُمُومِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ، وَشَرْطُك فِي مِثْلِهِ أَلَّا يُقْبَلَ إلَّا الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ، لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 الْأَنْصَارِ بِذَلِكَ، فَصَدَّقَ أَبَا سَعِيدٍ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي مَعْرِفَتِهِمْ لِصِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى، فَصَارَ كَأَنَّ الْأَنْصَارَ شَهِدُوا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ، فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّوَاتُرِ، فَلِذَلِكَ عَمِلَ بِهِ وَقَبِلَهُ وَرَدَّ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ " حَدِيثَ عَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ " وَكَانَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا رَدَّهُ عُمَرُ: أَنَّ عَمَّارًا ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ مَعَهُ شَاهِدًا لِتِلْكَ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عُمَرُ، فَاتَّهَمَ وَهْمَ عَمَّارٍ فِيهِ، مَعَ عَدَالَتِهِ وَفَضْلِهِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَرُدَّ خَبَرَهُ، لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ فِي الرِّوَايَةِ، لَكِنْ خَافَ مِنْهُ الْغَلَطَ، وَالْوَهْمَ فِيهَا. وَمِثْلُهُ رَدُّ عُمَرَ (لِقَوْلِ أَنَسٍ) فِي أَمَانِهِ الْهُرْمُزَانِ، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ أَمَّنَهُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ جَمَاعَةٌ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ ذَاكِرًا لَهُ، فَاسْتَنْكَرَ أَنْ يَحْفَظَهُ هُوَ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ. فَلَمَّا شَهِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمْضَى أَمَانَهُ. وَرَدَّ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ " حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إسْقَاطِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ وَنَفَقَتِهَا " لِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ. (وَقَدْ رَدَّ) ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، ظَاهِرَ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى «أَنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَعَارَضُوهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَرَدَّتْ عَائِشَةُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَهْلِ قَلِيبِ بَدْرٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: إنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَهُمْ» وَعَارَضَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] وَقَالَتْ: إنَّمَا قَالَ: «إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي كُنْت أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَفَرَ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] ، وَأَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي «الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» وَقَالَ: (إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ) ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَنَقَلَتْهُ الْكَافَّةُ، لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَمَشَتْ عَائِشَةُ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَقَالَتْ: " لَأُحَدِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَ الْأُخْرَى» . قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا مَذْهَبُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدِّهَا بِالْعِلَلِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا ذَكَرَ لَهُمْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» يَقُولُونَ: كَيْفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 يُصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ قَيْسٌ الْأَشْجَعِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ " فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِمِهْرَاسِكُمْ هَذَا؟ قَالَ: فَقَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّكَ " وَرَوَى إنْسَانٌ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرَيْنِ: الذَّهَبِ، وَالْمُعَصْفَرِ» فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: " كَذَبُوا وَاَللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: تَلْبَسُ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ، وَتَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ ". وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَكْثَرَ ابْنُ خَدِيجٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَاَللَّهِ لَيَكْرِنَّهَا كِرَاءَ الْإِبِلِ، يَعْنِي فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ» وَقَالَ مُغِيرَةُ: ذُكِرَ لِإِبْرَاهِيمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 مَا رَوَوْا فِي أُمِّ سُلَيْمٍ وَفِي قِصَّةِ ابْنِ أَخِي ابْنِ أُبَيِّ الْقُعَيْسِ فِي رَضَاعِ الرَّجُلِ فَلَمْ يَرَهُمَا شَيْئًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَكَرَ عِيسَى هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَأَخْبَارًا أُخَرَ غَيْرَهَا مَعَهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهَا: عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ: رَدُّ أَخْبَارِ الْآحَادِ بِالْعِلَلِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذُكِرَ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ إجْمَاعُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ، كَمَا أُثْبِتَ بِإِجْمَاعِهِمْ لِمَا قَبِلُوهُ مِنْ الْأَخْبَارِ، فِي لُزُومِ الْعَمَلِ بِهَا وَالْمَصِيرِ إلَيْهَا. فَمِنْ حَيْثُ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ بِمِثْلِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا رَدُّهُمْ لَهَا لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنَا، حُجَّةً فِي لُزُومِ قَبُولِهَا إذَا عَرِيَتْ مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِرَدِّهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ فِيمَا رَدُّوا مِنْهَا - حُجَّةً فِي رَدِّهَا، لِلْعِلَلِ الَّتِي وَصَفْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ مِنْ الْعِلَلِ أَنْ يُنَافِيَ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ، لِأَنَّ الْعُقُولَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَغَيْرُ جَائِزٍ انْقِلَابُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَتْهُ. وَكُلُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 خَبَرٍ يُضَادُّهُ حُجَّةٌ لِلْعَقْلِ فَهُوَ فَاسِدٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَحُجَّةُ الْعَقْلِ ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِوَجْهٍ لَا يُخَالِفُ بِهِ أَحْكَامَ الْعُقُولِ، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ حَكَيْت جُمْلَةَ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ، وَإِنَّمَا قَصَدَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا ذَكَرَهُ إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَظْرِ، أَوْ الْإِيجَابِ، أَوْ فِي الْإِبَاحَةِ، مَا قَدْ ثَبَتَ حَظْرُهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرَهَا، أَوْ حَظْرُ مَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ، مِمَّا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ، فَحُكْمُهُ جَارٍ عَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَبُولِ، أَوْ الرَّدِّ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَبْقِيَةِ الشَّيْءِ عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ، أَوْ نَفْيِ حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ، أَوْ فِي اسْتِحْبَابِ فِعْلٍ، أَوْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا عِنْدَنَا خَارِجٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ الَّذِي قَدَّمْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحٍ، وَلَا تَوْقِيفُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِنَصٍّ يَذْكُرُهُ، بَلْ جَائِزٌ لَهُ تَرْكُ النَّاسِ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ مِنْ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ تَبْيِينُ مَنَازِلِ الْقُرَبِ وَمَرَاتِبِهَا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ لَنَا عَلَى كَوْنِهَا قُرَبًا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا مَقَادِيرَ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ، فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ خَبَرٍ خَاصٍّ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ، وَتَوْقِيفُهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَيْهِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ، حَسْبَ مَا يَتَّفِقُ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِ عَنْهُ، أَوْ وُجُودُ سَبَبٍ يُوجِبُ ذِكْرَهُ، فَيَعْرِفُهُ خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ، وَيَنْقُلُوهُ دُونَ كَافَّتِهِمْ. وَمِنْ نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي وُرُودِ خَبَرٍ خَاصٍّ فِيمَا تَرَكُوا فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ: حَدِيثُ نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْ كُلِّ مَا لَا يُوجِبُ حُدُوثُهُ الْوُضُوءَ، مِنْ نَحْوِ خُرُوجِ اللَّبَنِ، وَالدَّمْعِ، وَالْعَرَقِ، مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا، لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَوْقِيفُ الْكَافَّةِ عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي الْأَصْلِ عَلَى نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْهُ. فَإِذَا أَحْدَثَ لَهُمْ هَذَا الْحُكْمَ وَجَبَ إعْلَامُهُمْ إيَّاهُ، لِئَلَّا يُقْدِمُوا عَلَى الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، كَمَا وَقَفَ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ. وَكَذَلِكَ خَبَرُ «تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» . وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْعَامَّةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْنَا. وَإِيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حُكْمُهُ أَنْ يَرِدَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ لِمَا بَيَّنَّا. وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّةِ، وَتَفْضِيلُ الْأَعْمَالِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مِمَّا لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 تَعَلُّقَ فِيهِ، بِحَظْرٍ وَلَا إيجَابٍ: مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي " الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَأَمَامَهَا " وَفِي (الْمُغَلِّسِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْإِسْفَارِ بِهَا) وَفِي " عَدَدِ تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ، وَمِقْدَارِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ " وَفِي " فِعْلِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَارَةً فِي أَوَائِلِ أَوْقَاتِهَا، وَتَارَةً فِي أَوَاخِرِهَا " وَفِي " إدَامَةِ التَّلْبِيَةِ إلَى أَنْ يَرَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ " وَفِي " مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فِي حَالٍ، وَكُلَّهُ فِي أُخْرَى ". فَهَذِهِ كُلُّهَا قُرَبٌ وَنَوَافِلُ. وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي أَيُّهَا أَفْضَلُ، فَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَوْقِيفُ الْجَمِيعِ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُسْتَفِيضًا فِي الْكَافَّةِ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ فَعَلَ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَلِيُعَلِّمَهُمْ جَوَازَ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ، فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا: يَجِبُ اعْتِبَارُ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ أَحْوَالِ أَخْبَارِ الْآحَادِ] ِ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا لَمْ يَتِمَّ وَهْمُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ عَدْلًا. وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَيُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا لَمْ يَرُدَّهُ الْقِيَاسُ، وَلَمْ يُخَالِفْ نَظَائِرَهُ مِنْ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَلَمْ يَرُدُّوهُ. وَقَالَ: وَلَمْ يُنَزَّلْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْزِلَةَ حَدِيثِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ، لِكَثْرَةِ مَا نَكِرَ النَّاسُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَشَكِّهِمْ فِي أَشْيَاءَ مِنْ رِوَايَتِهِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: " كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَدَعُونَ ". وَقَالَ: " كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إلَّا مَا كَانَ فِي ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ". وَلَمْ يَقْبَلْ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَتَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» وَعَارَضَهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ " إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ، وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ، وَإِنَّا نَدْهُنُ بِالدُّهْنِ وَقَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا ابْنَ أَخِي، إذَا جَاءَكَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ ". وَقَالَ عِيسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خِلَافُ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَسَأَلَهُ عَنْ التَّارِيخِ لِيَعْلَمَ النَّاسِخَ، وَلَمَّا لَجَأَ فِي رَدِّهِ إلَى الْقِيَاسِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمًا وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» إلَّا أَنَّ احْتِجَاجَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِرَدِّ ابْنِ عَبَّاسٍ خَبَرَهُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، لِأَنَّ خَبَرَهُ عِنْدَهُ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ - لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ مُبَيَّنًا مِنْ جُمْلَةِ مَا مَسَّتْ النَّارُ: فِي أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهِ، وَيَكُونُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَهُ فِيمَا عَدَا اللَّحْمَ، فَلِمَا رَدَّ جُمْلَةَ الْحَدِيثِ لِمُخَالَفَتِهِ لِقِيَاسِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنْ نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْ اللَّحْمِ وَمِنْ الْحَمِيمِ، ثَبَتَ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدُّ خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْقِيَاسِ. " وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَمْشِي فِي الْخُفِّ الْوَاحِدِ وَتَقُولُ: لَأُحَدِّثَن أَبَا هُرَيْرَةَ ". وَقَالَتْ لِابْنِ أَخِيهَا: " لَا تَعْجَبْ مِنْ هَذَا وَكَثْرَةِ حَدِيثِهِ. إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ أَحْصَاهُ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَجَمَاعَةٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ - كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِكَثِيرٍ مِنْهَا، حَتَّى يَسْأَلُوا غَيْرَهُ، فَإِذَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ غَيْرُهُ عَمِلُوا بِهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِيمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ فِي أَنَّهُ قَالَ: «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» : " لَمْ يَنْتَظِرْ بِأُمِّهِ أَنْ تَضَعَ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَعَلَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ظَهَرَ مِنْ مُقَابَلَةِ السَّلَفِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ، وَتَثْبِيتِهِمْ فِيهِ، عِلَّةً لِجَوَازِ مُقَابَلَةِ رِوَايَاتِهِ بِالْقِيَاسِ. فَمَا وَافَقَ الْقِيَاسَ مِنْهَا قَبِلَهُ، وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا قَدْ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ فَيُتَّبَعُونَ فِيهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ كَحَدِيثِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ التَّثَبُّتِ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ مُقَابَلَتُهُ بِالْقِيَاسِ، مِثْلُ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ فِي حَدِيثِهِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ أَحَدَ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ، وَعَرْضِهِ عَلَى النَّظَائِرِ مِنْ الْأُصُولِ، فَإِنْ لَمْ تَرُدَّهُ النَّظَائِرُ مِنْ الْأُصُولِ قَبِلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ نَظَائِرُهُ مِنْ الْأُصُولِ بِخِلَافِهِ - عُمِلَ عَلَى النَّظَائِرِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِالْخَبَرِ، كَمَا اعْتَبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ النَّظَائِرِ، وَكَمَا فَعَلَتْ عَائِشَةُ فِي مَشْيِهَا فِي خُفٍّ وَاحِدٍ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي، كَالشَّهَادَاتِ، فَمَتَى كَثُرَ غَلَطُ الرَّاوِي، وَظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ التَّثَبُّتُ فِي رِوَايَتِهِ، كَانَ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلِاجْتِهَادِ فِي مُقَابَلَتِهِ بِالْقِيَاسِ، وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وَحَكَى بَعْضُ مَنْ لَا يَرْجِعُ إلَى دِينٍ، وَلَا مُرُوءَةٍ، وَلَا يَخْشَى مِنْ الْبَهْتِ وَالْكَذِبِ: أَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَعَنَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنَّهُ رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: " سَمِعْت النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي ثَلَاثُونَ دَجَّالًا، وَأَنَا أَشْهَدُ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنْهُمْ وَهَذَا كَذِبٌ مِنْهُ عَلَى عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مَا قَالَهُ عِيسَى، وَلَا رَوَاهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِمَا ذَكَرْنَا: أَنْ نُبَيِّنَ عَنْ كَذِبِ هَذَا الْقَائِلِ، وَبَهْتِهِ، وَقِلَّةِ دِينِهِ. بَلْ الَّذِي ذَكَرَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، مَعَ تَقْدِيمِهِ الْقَوْلَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِ بِأَنَّهُ عَدْلٌ، مَقْبُولُ الْقَوْلِ وَالرِّوَايَةِ، غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالتَّقَوُّلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّ الْوَهْمَ وَالْغَلَطَ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ مِنْهُ نَصِيبٌ، فَمَنْ أَظْهَرَ مِنْ السَّلَفِ تَثَبُّتًا فِي رِوَايَةٍ تَثَبَّتْنَا فِيهَا، وَاعْتَبَرْنَاهَا بِمَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قِيلَ، قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: " يَزْعُمُونَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي كُنْت امْرَأً مِسْكِينًا، أَصْحَبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنِّي شَهِدْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْلِسًا وَهُوَ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: «مَنْ يَبْسُطُ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي، ثُمَّ يَقْبِضُهُ إلَيْهِ، وَلَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي، فَبَسَطْت بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ، حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَالَتَهُ، فَقَبَضْتهَا، فَمَا نَسِيت شَيْئًا بَعْدَهُ» سَمِعْته مِنْهُ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدْ حَفِظَ مَا سَمِعَهُ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ يَدُلُّ: عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا أَنْكَرُوا كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وَأَمَّا حِفْظُهُ لِمَا كَانَ سَمِعَهُ حَتَّى لَا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ فَضِيلَةً لَهُ قَدْ اُخْتُصَّ بِهَا، وَفَازَ بِحَظِّهَا مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ لَعَرَفُوا ذَلِكَ لَهُ، وَاشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ أَمْرُهُ، حَتَّى كَانَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَتُهُ، وَلَرَجَعَتْ الصَّحَابَةُ إلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَقَدَّمُوهَا عَلَى رِوَايَاتِ غَيْرِهِ، لِامْتِنَاعِ جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ، وَجَوَازِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَكَانَ هَذَا التَّشْرِيفُ وَالتَّفْضِيلُ الَّذِي اُخْتُصَّ بِهِ مُتَوَارَثًا فِي أَعْقَابِهِ، كَمَا " خُصَّ جَعْفَرٌ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ " وَخُصَّ " حَنْظَلَةَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَسَّلَتْهُ ". فَلَمَّا وَجَدْنَا أَمْرَهُ عِنْدَ الصَّحَابَةِ بِضِدِّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ: عَلِمْنَا: أَنَّ مَا رَوَى: فِي أَنَّهُ لَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ - غَلَطٌ. وَكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا أَخْبَرَ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» ثُمَّ رَوَى «لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» . فَقِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَيْت لَنَا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ ذَلِكَ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» . فَقَالَ: مَا رَوَيْته. وَلَا يَشُكُّ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ نَسِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا صَحِيحَتَانِ عَنْهُ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: أَنَّهُ بَسَطَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا سَمِعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ خَاصَّةً، دُونَ غَيْرِهِ، وَاَلَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَيْسَ فِي رُتْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فِي الْفِقْهِ، وَالدِّرَايَةِ، وَالْإِتْقَانِ، وَقُرْبِ الْمَحَلِّ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: " جَالَسْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَمَا سَمِعْتُهُ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اعْتَرَاهُ السَّهْوُ وَالْعَرَقُ ثُمَّ قَالَ: أَوْ نَحْوَ هَذَا، أَوْ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّهِ مِنْ الْعِلْمِ: يَتَهَيَّبُ الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَنْ لَا يُدَانِيهِ وَلَا يُقَارِبُهُ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَعْرِفَةٍ: أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فِي التَّثَبُّتِ، وَالْإِتْقَانِ، وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْيَاءَ لَا تُعْرَفُ: " لَئِنْ لَمْ تَكُفَّ عَنْ هَذَا لَأُلْحِقُك بِجِبَالِ دَوْسٍ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلْجَيْشِ يُوَجِّهُ بِهِ (أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا شَرِيكُكُمْ) . وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ كَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَأَمْثَالِهِمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 يَتَوَقَّوْنَ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَوْفًا مِنْ الزَّلَلِ وَالْغَلَطِ. وَكَانَ أَنَسٌ إذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَدِيثٍ قَالَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ: " أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ إذَا سُئِلَ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: " كَبِرْنَا وَنَسِينَا، وَالْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَدِيدٌ ". وَسَمِعَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ حَلَفَ الزُّبَيْرُ بِاَللَّهِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ الزُّبَيْرُ: " هَذَا وَأَشْبَاهُهُ يَمْنَعُنَا مِنْ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ: أَنَّهُ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَمْ يَفْهَمْ الرَّجُلُ عَنْهُ، وَظَنَّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " كُنَّا نَحْفَظُ الْحَدِيثَ - وَالْحَدِيثُ يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا إذَا رَكِبْتُمْ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ فَهَيْهَاتَ ". وَقَالَ بُكَيْر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ: " اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاَللَّهِ إنْ كُنَّا لَنُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ، ثُمَّ يَقُولُ " أَخْبَرَ كَعْبٌ، ثُمَّ نَفْتَرِقُ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَنَسْمَعُهُمْ يَذْكُرُونَ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَعْبٍ، وَحَدِيثَ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ قَدْ أَشْفَقُوا عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، مِنْ أَنْ يَدْخُلَهُ خَلَلٌ أَوْ وَهْمٌ، أَوْ أَنْ يُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. فَلِذَلِكَ أَمَرُوا بِالْإِقْلَالِ مِنْ الرِّوَايَةِ، إلَّا لِذَوِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ جَائِزًا عَلَى الرُّوَاةِ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ إنْكَارُ كَثْرَةِ الرِّوَايَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَعَرْضِهِ عَلَى الْأُصُولِ وَالنَّظَائِرِ. قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ كَانَ الَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ مَجْهُولًا، أَوْ شَكَّ النَّاسُ فِي خَبَرِهِ، وَاتَّهَمُوا وَهْمَهُ، نُظِرَ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَرُدَّ مِنْهُ مَا كَانَ يُخَالِفُ نَظَائِرَهُ مِنْ السُّنَّةِ وَالتَّأْوِيلِ، وَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ. قَالَ: وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ الثِّقَاتُ الْحَدِيثَ: مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثًا فَرَوَاهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ نَشْرُهُ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالثِّقَةِ فِيهِ، وَالْحِفْظِ لَهُ، مِثْلُ: مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَوَابِصَةِ بْنِ مَعْبَدٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ: حَدِيثُهُمْ عِنْدَنَا مَقْبُولٌ، لِحَمْلِ الثِّقَاتِ عَنْهُمْ. وَلِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَخْبَارِهِمْ، فَيَرُدُّوا مِنْهَا مَا أَنْكَرُوا بِالتَّأْوِيلِ، وَالْقِيَاسِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ، فَرَدَّ بَعْضَهُ، وَقَبِلَ بَعْضًا، فَقَبِلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ نَظَائِرُهُ مِنْ الْأُصُولِ، وَرَدَّ مِنْهُ مَا كَذَّبَتْهُ نَظَائِرُهُ، بِكَوْنِ أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ عِنْدَنَا كَأَخْبَارِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعِلْمِ وَالْحِفْظِ، كَالشُّهُودِ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ الْمُغَفَّلُ الَّذِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْوَاضِحِ، الَّذِي يَرَى الْحَاكِمُ: أَنَّهُ يَضْبِطُ مِثْلَهُ، وَيَرُدُّهُ فِي الْأَمْرِ الْمُشْكِلِ الَّذِي يَرَى: أَنَّهُ لَا يَضْبِطُ حِفْظَهُ، وَالْقِيَامَ بِهِ، أَجَازَ رَدَّ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ، وَسَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَجْهُولَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، أَوْ قُبَيْلَ عَصْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَجْهُولَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: أَنَّ الْمَجْهُولَ الَّذِي ذُكِرَ أَمْرُهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ قُبَيْلَ ذَلِكَ، فَهَذَا وَجْهُهُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْقَرْنَ الرَّابِعَ مِنْ الْأُمَّةِ قَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِظُهُورِ الْكَذِبِ مِنْهُمْ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْقِيَاسِ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَجْهُولُ مِنْ السَّلَفِ، مِنْ صَحَابِيٍّ، أَوْ تَابِعِيٍّ، فَإِنَّ عِيسَى قَدْ ذَكَرَ: " أَنَّ عَلِيًّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا رَدَّ خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ " لِأَنَّهُ كَانَ خِلَافَ الْقِيَاسِ عِنْدَهُ، وَكَانَ سِنَانٌ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْحِفْظِ وَالرِّوَايَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَاتُ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّمَا رَدَّ خَبَرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِتَحَمُّلِ الْعِلْمِ، وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ، وَقَبِلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَفَرِحَ بِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ، فَجَعَلَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَذْهَبَهُمَا فِي ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَوَازِ رَدِّ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِينَ مِنْ الرُّوَاةِ، لِمُخَالَفَتِهَا الْقِيَاسَ، وَنَزَّلَ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ مَنْ شَكَّ النَّاسُ فِي خَبَرِهِ، " وَاتُّهِمَ حِفْظُهُ " عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ، وَمُعَارَضَتِهَا بِالْقِيَاسِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَتَحْصِيلُ مَا رَوَيْنَا عَنْهُ وَجُمْلَتُهُ: أَنَّهُ نَزَّلَ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى مَنَازِلَ ثَلَاثٍ: أَحَدُهَا: مَا يَرْوِيهِ عَدْلٌ مَعْرُوفٌ بِحَمْلِ الْعِلْمِ، وَالضَّبْطِ، وَالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ يُنْكَرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 مِنْ السَّلَفِ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ، فَيَكُونُ مَقْبُولًا، إلَّا أَنْ يَجِيءَ مُعَارِضًا لِلْأُصُولِ الَّتِي هِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ، وَالِاتِّفَاقُ. وَلَا يُرَدُّ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ. وَالثَّانِي: مَا يَرْوِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ ضَبْطُهُ وَإِتْقَانُهُ، وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ بِحَمْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ الثِّقَاتِ قَدْ حَمَلُوا عَنْهُ، فَيَكُونُ حَمْلُهُمْ عَنْهُ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ لَهُ، فَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ، مَا لَمْ يَرُدَّهُ قِيَاسُ الْأُصُولِ، وَيُسَوَّغُ بِهِ رَدُّهُ، وَقَبُولُهُ بِالِاجْتِهَادِ. نَحْوُ مَا ذَكَرَ عِيسَى مِنْ حَدِيثِ: وَابِصَةَ، وَابْنِ سِنَانٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ، وَنُظَرَائِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَمْلَهُمْ الْعِلْمَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ إيَّاهُ، إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ: أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَلَيْسَ فِي تَعْدِيلِهِمْ إيَّاهُ مَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْحُكْمِ مِنْهُمْ بِضَبْطِهِ وَإِتْقَانِهِ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي صِحَّةِ النَّقْلِ: أَعْنِي الْعَدَالَةَ، وَالضَّبْطَ لِمَا نُقِلَ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا ضَبْطُ الرَّاوِي لِمَا رَوَاهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُ - جَازَ لَنَا النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي (قَبُولِ رِوَايَتِهِ) وَرَدِّهَا. وَالثَّالِثُ مَا: يَرْوِيهِ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ وَقَدْ شَكَّ السَّلَفُ فِي رِوَايَتِهِ، وَاتَّهَمُوا غَلَطَهُ، فَرِوَايَتُهُ مَقْبُولَةٌ، مَا لَمْ تُعَارِضْهُ الْأُصُولُ الَّتِي قَدَّمْنَا، وَلَمْ يُعَارِضْهُ الْقِيَاسُ أَيْضًا، فَإِنَّهُ إذَا عَارَضَهُ الْقِيَاسُ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهِ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ، فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يَدُورُ هَذَا الْبَابُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ (أَنَّ) خَبَرَ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ - كَانَ كَالشَّهَادَةِ، فَمَتَى عَرَضَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي وَصَفْنَا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهَا وَقَبُولِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الرِّجَالِ: مَا حَدَّثَنَا عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ عَمْرٌو فَقُلْتُ لِجَابِرٍ: إنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ وَهُوَ حَلَالٌ» ، فَقَالَ لِي جَابِرٌ: إنَّ زَيْدًا خَالُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا، فَقُلْت وَهِيَ خَالَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، فَقَالَ لِي: وَأَيْنَ تَجْعَلُ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ؟ أَعْرَابِيًّا يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ، إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ " فَاعْتُبِرَ حَالُ هَذَا الرَّجُلِ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ. وَقَالَ عِيسَى أَيْضًا، رَوَى رَجُلٌ مِنْ الثِّقَاتِ الْمَعْرُوفِينَ خَبَرًا، وَرَوَى ضِدَّهُ مَنْ قَدْ حَمَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 عَنْهُ الثِّقَاتُ، وَلَيْسَ بِمَعْرُوفِ الضَّبْطِ وَالْحِفْظِ. جَازَ قَبُولُ رِوَايَةِ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْحِفْظِ اجْتِهَادًا، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا جَهَالَةَ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ: أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالْحِفْظِ، وَالْآخَرُ مَعْرُوفٌ بِالْحِفْظِ، فَأَجْرَاهُ مَجْرَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عَدَالَةِ النَّاقِلِ، وَضَبْطِ مَا يَتَحَمَّلُهُ وَإِتْقَانِهِ، لِمَا يُؤَدِّيهِ. كَمَا يُعْتَبَرُ أَوْصَافُ الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ فِيمَنْ شَاهَدْنَاهُ، وَأَمَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَمْ نُشَاهِدْهُ، فَإِنَّ نَقْلَ الْعُلَمَاءِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ مِنْهُمْ فِيهِمْ تَعْدِيلٌ لَهُمْ، وَلَيْسَ نَقْلُهُمْ عَنْ الْمَجْهُولِ - وَإِنْ كَانَ تَعْدِيلًا لَهُ - حُكْمًا مِنْهُمْ بِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ، فَكَانَ أَمْرُهُ مَحْمُولًا عَلَى الِاجْتِهَادِ، فِي قَبُولِ رِوَايَةٍ أَوْ رَدِّهَا. وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى، فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ تُفَرِّقْ فِي قَبُولِهَا أَخْبَارَ الْآحَادِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا يَسْأَلُونَ نِسَاءَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخُصُّهُنَّ، هَلْ عِنْدَهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْهَا شَيْءٌ؟ فَقَبِلُوا مَا يُورِدَنهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَقْبَلُونَ مِنْ رِوَايَاتِ مَنْ كُفَّ بَصَرُهُ. مِنْهُمْ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ فِي نَظَائِرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى أَخْبَارًا مُتَضَادَّةً اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى: وُقُوعِ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ. مِنْهَا: أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ مُهِلَّةً بِالْعُمْرَةِ حِينَ حَجَّتْ مَعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ مُهِلَّةً بِالْحَجِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: " أَلَا تَعْجَبُ مِنْ اخْتِلَافِ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ عُرْوَةُ: أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ. وَرَوَى «أَنَسٌ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ» . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: " وَهُمْ أَنَسٌ، إنَّمَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ، عَنْ «أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ» رَوَى أَبُو قَيْسٍ قَالَ: «سَأَلْتُ أُمَّ سَلَمَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ؟ فَقَالَتْ: لَا. فَقُلْتُ: إنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَعَلَّهُ إنَّهُ كَانَ لَا يَتَمَالَكُ عَنْهَا حُبًّا، أَمَّا إيَّايَ فَلَا» . وَذَكَرَ أَخْبَارًا أُخَرَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، مُسْتَدِلًّا بِهَا عَلَى وُقُوعِ الْغَلَطِ مِنْ الرُّوَاةِ الثِّقَاتِ فِي الْأَخْبَارِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْإِقْدَامُ عَلَى إثْبَاتِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ، دُونَ عَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ جَمِيعِهَا، وَإِضَافَتُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّضَادِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 [فَصْلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِمَّا قَسَمْنَا عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْآحَادِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا رَوَاهُ الْعَدْلُ الثِّقَةُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْ السَّلَفِ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَاتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ - قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: عَلَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ نَصٌّ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ فَأَظْهَرَهُ، فَقَالَ: هَذَا نَصُّ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لَزِمَ قَبُولُ قَوْلِهِ، إذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ: عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ بِالْقِيَاسِ، مَعَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا بِقَبُولِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيَاسٍ مَعَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْقَوْلَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ يَتْرُكُونَهُ إلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَبُولِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَتَرْكِ رَأْيِهِ لَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: " كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِهِ بِرَأْيِنَا، وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فَإِنَّ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ: لَوْلَا مَنْ رَوَاهُ لَكَانَ رَأْيُنَا فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «كُنَّا لَا نَرَى فِي الْمُخَابَرَةِ بَأْسًا، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا» ، فَتَرَكْنَاهَا " وَأَخْبَارٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْقِيَاسَ لَهَا، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ، سَأَلُوا الصَّحَابَةَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَفْزَعُوا إلَى الْقِيَاسِ، (وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِهِ) ، إلَّا بَعْدَ فَقْدِ السُّنَّةِ. فَدَلَّ: عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ عَدْلًا، (صَادِقًا) ، ضَابِطًا، تَسْكُنُ النَّفْسُ إلَى خَبَرِهِ - فَهُوَ يَقُولُ لَنَا: هَذَا نَصُّ الْحُكْمِ. وَالْقَائِسُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ: أَنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ قِيَاسُهُ حَقِيقَةً حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ لِلْخَبَرِ مَزِيَّةٌ عَلَى النَّظَرِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ وُرُودُ الْخَبَرِ مِمَّنْ ظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ التَّثَبُّتُ فِي رِوَايَتِهِ، وَمُقَابَلَتُهَا بِالْقِيَاسِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي لَهُ مَعْرُوفًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِنَّمَا جَازَ مُعَارَضَتُهُ بِالْقِيَاسِ وَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي تَقْدِمَةِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، مِنْ قِبَلِ: أَنَّ السَّلَفَ قَدْ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ وَعَارَضُوا كَثِيرًا مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْأَخْبَارِ بِالنَّظَرِ، كَنَحْوِ مُعَارَضَةِ (ابْنِ عَبَّاسٍ) لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي «الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» فَقَالَ: " إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ " وَكَخَبَرِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - فِي إبْطَالِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ - قَالَ فِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا " لِقَوْلِ امْرَأَةٍ ". ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، إنَّمَا عَنَى بِهِ قِيَاسَ السُّنَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 لَا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ سُنَّةٌ) بِخِلَافِ مَا رَوَتْهُ. (قَالَ) : وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ سُنَّةٌ بِخِلَافِ مَا رَوَتْهُ فِي غَيْرِ الْحَادِثَةِ لَسَأَلَهَا عَنْ تَارِيخِ حَدِيثِهَا، لِيَنْظُرَ أَيُّهُمَا النَّاسِخُ، فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا (لَمْ) يَسْأَلْهَا عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصُّ سُنَّةٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مُرَادَهُ كَانَ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ السُّنَّةِ، وَهِيَ مِمَّنْ يَثْبُتُ لَهَا السُّكْنَى - وَالسُّكْنَى مِنْ النَّفَقَةِ - فَإِذَا وَجَبَ بَعْضُهَا، وَجَبَ جَمِيعُهَا، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّهَا حِينَ جُعِلَتْ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا وَبَقِيَ حَقٌّ فِي الْمَالِ، كَانَ الْقِيَاسُ: أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ. وَكَمَا رَدَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ، فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ، لِأَنَّهُ كَانَ خِلَافُ الْقِيَاسِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ الرَّاوِي لَهُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُ بِالضَّبْطِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَقْبُولَةٌ. وَكَذَلِكَ عِنْدِي: قَبُولُهُ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ بِإِرْسَالِ الْحَدِيثِ عَنْ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ. فَأَمَّا مَرَاسِيلُ مَنْ كَانَ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ مِنْ الْأُمَّةِ: فَإِنِّي كُنْت أَرَى بَعْضَ شُيُوخِنَا يَقُولُ: إنَّ مَرَاسِيلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّ الْكَذِبَ يَفْشُو فِيهِ، وَحَكَمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ: الْفَسَادُ وَالْكَذِبُ، لَمْ نَقْبَلْ فِيهِ إلَّا خَبَرَ مَنْ عَرَفْنَاهُ بِالْعَدَالَةِ، وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ. وَلَمْ أَرَ أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرَاسِيلِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ. وَأَمَّا عِيسَى بْنُ أَبَانَ فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرْسَلَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ - وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - فَإِنَّ مُرْسَلَهُ مَقْبُولٌ، كَمَا يُقْبَلُ مُسْنَدُهُ، وَمَنْ حَمَلَ عَنْهُ النَّاسُ الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ، وَلَمْ يَحْمِلُوا عَنْهُ الْمُرْسَلَ، فَإِنَّ مُرْسَلَهُ عِنْدَنَا مَوْقُوفٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَفَرَّقَ فِي أَهْلِ زَمَانِهِ: بَيْنَ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُرْسَلَ، دُونَ مَنْ لَمْ يَحْمِلُوا عَنْهُ إلَّا الْمُسْنَدَ، وَاَلَّذِي يَعْنِي بِقَوْلِهِ: حَمَلَ عَنْهُ النَّاسُ، قَبُولَهُمْ لِحَدِيثِهِ، لَا سَمَاعَهُ، فَإِنَّ سَمَاعَ الْمُرْسَلِ وَغَيْرِ الْمُرْسَلِ جَائِزٌ. وَقَالَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ: الْمُرْسَلُ أَقْوَى عِنْدِي مِنْ الْمُسْنَدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي، وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مَقْبُولٌ، مَا لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي مِمَّنْ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَجَازَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ، لَا لِمُسْنَدٍ وَلَا لِمُرْسَلٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ ظَاهِرَ أَحْوَالِ النَّاسِ كَانَ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ الصَّلَاحُ وَالصِّدْقُ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ أَجْلِهِ كَانَ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا، مُجَرَّبًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 عَلَيْهِ شَهَادَةٌ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ، أَوْ قَرَابَةٍ ". وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَقُولُ: " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مَقْبُولٌ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ مَرَاسِيلَ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَوْثُوقِ بِعِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ وَمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ - غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى لُزُومِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا: مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ عُمُومِ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ. مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] وَغَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ دَلَالَتِهَا فِي وُجُوبِ الْعِلْمِ بِالْمُسْنَدِ دُونَ الْمُرْسَلِ، لِأَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَدْ بَيَّنَ، وَتَرَكَ الْكِتْمَانَ، فَيَلْزَمُ قَبُولُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَدَلَّ: عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ مِنْ التَّابِعِينَ إذَا رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا فَقَالَتْ: أُنْذِرُكُمْ مَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأُحَذِّرُكُمْ مُخَالَفَتَهُ، قَدْ لَزِمَهُمْ قَبُولُ خَبَرِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الصَّحَابِيِّ إذَا قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَيْضًا: فَلَمَّا كَانَ الْمُسْنَدُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مَقْبُولًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسَلُ مِنْهَا بِمَثَابَتِهِ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ الْحُكْمُ بِعَدَالَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ، مِنْ حَيْثُ شَهِدَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 لِأَهْلِ عَصْرِهِ وَالتَّابِعِينَ بِالصَّلَاحِ، كَمَا شَهِدَ لِلصَّحَابَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَى مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ أَمْرَ الصَّحَابِيِّ، إذْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ يَقْضِي تَعْدِيلَهُمْ، بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُمْ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَلَمَّا قَالَ: نَعَمْ.» قَبِلَ خَبَرَهُ. وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ بِنَفْسِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ، قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمَا سَأَلَهُ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ لَا؟ كَذَلِكَ يَجِبُ هَذَا الْحُكْمُ لِأَهْلِ عَصْرِ التَّابِعِينَ، بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ بِهِ. فَيُقْبَلُ خَبَرُ مَنْ رَوَى عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يُسَمِّهِ، مَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ بِذَلِكَ لَنَا مَعْرُوفًا بِإِرْسَالِ الْحَدِيثِ عَمَّنْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفْنَاهُ بِذَلِكَ لَمْ نَلْتَفِتْ إلَى خَبَرِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِزَوَالِ عَدَالَتِهِ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ، حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ. وَثُبُوتُهُ كَنَحْوِ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فِسْقِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: لِأَنَّ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ مَنْ قَدْ أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ: أَنَّهُمْ لَا يُرْسِلُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُمْ. قَالَ الْأَعْمَشُ: قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ: إنْ حَدَّثْتنِي فَأَسْنِدْ. فَقَالَ: إذَا قُلْت لَك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: فَهُوَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَإِذَا قُلْت لَك: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: (كُنْت إذَا اجْتَمَعَ لِي أَرْبَعُ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكْتهمْ، وَأَسْنَدْته إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدِيثَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» وَأَرْسَلَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ الْعَدْلُ الرَّضِيُّ، وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ أَخْبَرَهُ. فَاكْتَفَى مِنْهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ، وَقَبِلَهُ، وَعَمِلَ بِهِ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا، يُرْسِلُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سُئِلُوا عَنْ إسْنَادِهِ أَسْنَدُوهُ إلَى الثِّقَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ جَرَى أَمْرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي إرْسَالِهِمْ الْأَخْبَارَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَاقِي سَمَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ يَكَادُ يَذْكُرُ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إنَّمَا يُرْسِلُهُ عَنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُ بِهِ سَمِعْنَاهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَكِنَّا سَمِعْنَاهُ، وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا، وَلَكِنَّا لَا نَكْذِبُ) . وَكَذَلِكَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَا يَحْكِيهِ سَمَاعًا مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إلَّا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ «إنَّ فِي الْبَدَنِ مُضْغَةً، إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْبَدَنُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْبَدَنُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا: أَنَّهُ لَا فُرْقَةَ بَيْنَهُمَا فِي لُزُومِ قَبُولِهِمَا، وَالْعَمَلِ بِهِمَا. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إرْسَالُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَذَفَ تَسْمِيَةَ مَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، لَمْ يَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْمُسْنَدَ وَالْمُرْسَلَ وَاحِدٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ الْحُكْمِ، وَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ. بَلْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَهُ فَقَدْ أَكَّدَهُ بِإِرْسَالِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَرْسَلُوهُ، لِأَنَّ الَّذِي حَذَفُوا اسْمَهُ لَمْ يَكُنْ بَيِّنًا، وَلَا مَقْبُولَ الرِّوَايَةِ، أَوْ كَانَ بَيِّنًا مَقْبُولَ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ قَبُولُ الْمُرْسَلِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَظُنَّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ، ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، وَحَذَفُوا اسْمَ مَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِوُجُوهٍ: - أَحَدُهَا: أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إثْبَاتًا مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَطْعٌ بِهِ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يَرْوِيهِ غَيْرُ الثِّقَةِ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ حَمَلَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِقَبُولِ خَبَرِهِ، وَإِنْ أَسْنَدَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ: إنْ عَظُمَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُرْسَلِ وَالْمُسْنَدِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ، ثُمَّ يَكْتُمُونَهُ، وَيَحْذِفُونَ اسْمَهُ، فَيَعْتَبِرُ بِهِمْ السَّامِعُ، وَيَعْتَقِدُ ثُبُوتَهُ، وَصِحَّتَهُ، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا: أَنْ يَكُونُوا حَمَلُوهُ عَنْ ثِقَةٍ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ الْمُرْسَلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانُوا قَدْ كَتَمُوا مَوْضِعَ الْحُجَّةِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِحَمْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ، وَلَا مَوْثُوقًا بِرِوَايَتِهِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ، صَحَّ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَهُوَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ وَالتَّأْكِيدِ لَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَيْضًا: فَإِنَّا وَجَدْنَا عَامَّةَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَالتَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، يَسْمَعُونَ الْأَخْبَارَ الْمُرْسَلَةَ فَيَصِيرُونَ إلَيْهَا، وَيَتْرُكُونَ آرَاءَهُمْ لَهَا، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ، وَلَوْ ذَكَرْنَاهُمْ لَطَالَ بِهِمْ الْكِتَابُ، كَمَا وَجَدْنَاهُمْ يَقْبَلُونَ الْمُتَّصِلَ، فَمِنْ حَيْثُ كَانُوا حُجَّةً فِي قَبُولِ الْمُتَّصِلِ فَهُمْ حُجَّةٌ فِي قَبُولِ الْمُرْسَلِ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّ ظَاهِرَ أَمْرِهِمْ بِالسَّمَاعِ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ وَظَاهِرُ أَمْرِهِ: أَنَّهُ سَمِعَهُ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: حَدَّثَنِي. فَلَا يَكُونُ فِي مِثْلِ الْآخَرِ. وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ إنَّمَا يَرْوِي عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ. وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مَقْبُولُو الرِّوَايَةِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانُوا يُجِيزُونَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ رَجُلًا، فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَسْنَدُوهُ لَهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 وَأَيْضًا: فَكَمَا أَنَّ ظَاهِرَ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ: السَّمَاعُ مِنْهُ، فَكَذَا ظَاهِرُ مَنْ حَمَلَهُ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ: أَنَّهُ عَدْلٌ، مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ، حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الصَّحَابِيَّ إنَّمَا يَرْوِي عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ، وَكُلُّهُمْ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِفِسْقِهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَهُوَ: الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ آخَرُونَ هُنَاكَ قَدْ رَأَوْا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَمِلُوا بَعْدَهُ أَعْمَالًا أَسْقَطَتْ عَدَالَتَهُمْ، وَهَذَا مَا لَا خَفَاءَ بِهِ. أَيْضًا: فَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَأَسْنَدَ بِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّهِمَا - لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِهِ، لِأَجْلِ تَرْكِهِ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ، وَكَانَ أَمْرُهُمْ مَحْمُولًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ. كَذَلِكَ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ، يَجِبُ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْعَدَالَةِ، حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ عِنْدِي عَدْلًا، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُتَبَيَّنَ حَيْثُ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُ، كَمَا أَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، وَلَمْ يُسَمِّيَاهُمَا، فَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا، حَتَّى يُسَمِّيَاهُمَا فَيَنْظُرُ الْقَاضِي فِي حَالِهِمَا، كَذَلِكَ الْمُرْسَلُ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا مَنْ شَاهَدْنَاهُ وَخَبَرْنَا أَمْرَهُ - فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ فِي جَرْحِهِ وَتَزْكِيَتِهِ إلَى مَعْرِفَتِنَا بِهِ، أَوْ مَسْأَلَةِ مَنْ خَالَطَهُ، وَخَبَرَ أَمْرُهُ - عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ وَثِقَتِهِ إلَّا بِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ عَنْهُ. فَتَكُونُ رِوَايَتُهُمْ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَعَقَّبَهُمْ فِي تَعْدِيلِهِمْ إيَّاهُ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ: فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ: يُقْبَلُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَاتِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ، فَعَلِمْت: أَنَّ رِوَايَاتِ الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وَأَيْضًا: فَإِنَّ سَامِعَ الْخَبَرِ يَجُوزُ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ رَاوِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الرَّاوِي: ارْوِهِ عَنِّي، وَمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: أَشْهَدُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ، فَيَحْمِلُهَا إيَّاهُ فَعَلِمْت بُطْلَانَ اعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْحَاكِمَ: أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَشْهُودِ عَلَى شَهَادَتِهِ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُ. فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْأَصْلِ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِمْ، وَثُبُوتِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ الرُّوَاةِ فَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَالِهِمْ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِينَ عَنْهُمْ، فَكَانَ نَقْلُهُمْ وَإِرْسَالُهُمْ الْحَدِيثَ عَنْهُمْ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ إيَّاهُمْ. أَيْضًا: فَإِنَّ الشُّهُودَ إذَا رَجَعُوا إلَى شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، يَلْحَقُهُمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ. فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ وَإِنْ رَجَعُوا. وَمِنْهُمْ: مَنْ يُوجِبُهُ عَلَيْهِمْ. فَاحْتَاجَ الْحَاكِمُ إلَى: أَنْ يَعْرِفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، لِكَيْ إذَا رَجَعُوا لَزِمَهُمْ حُكْمُ مَا يُوجِبُهُ إشْهَادُهُمْ غَيْرَهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْأَخْبَارِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِأَعْيَانِهِمْ، إنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ عَنْهُمْ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ اتِّفَاقٌ. قَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى: قَبُولِ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَمَاعًا، إذَا كَانَ مِمَّنْ قَدْ لَقِيَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرْسَلُ غَيْرَ مَقْبُولٍ - لَمَا جَازَ: قَبُولُ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ، إذْ لَيْسَ فِيهِ سَمَاعٌ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ: أَنَّ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ: أَنَّهُ سَمَاعٌ حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ؟ بَلْ الظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَرْوِي عَنْهُ سَمَاعًا تَارَةً، وَيَرْوِيهِ تَارَةً سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الظَّاهِرَ: أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ الْحَدِيثَ إلَّا عَنْ عَدْلٍ حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَاجُ أَنْ يَثْبُتَ: أَنَّهُ عَدْلٌ عِنْدِي. قِيلَ لَهُ: وَيَحْتَاجُ: أَنْ يَثْبُتَ عِنْدِي: أَنَّهُ سَمَاعٌ، إذَا قَالَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 عِنْدَك: أَنَّهُ سَمَاعٌ، كَذَلِكَ يَجُوزُ: أَنْ يُقْبَلَ الْمُرْسَلُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ: أَنَّهُ عَدْلٌ عِنْدِي، فَاكْتَفَى تَعْدِيلُهُ إيَّاهُ بِإِرْسَالِهِ عَنْهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُفْتِيَ إذَا قَالَ: لِلْمُسْتَفْتِي حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ بِكَذَا. أَوْ قَالَ فِيهِ: كَذَا، لَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ، مَعَ حَذْفِ سَنَدِهِ، وَهَذَا أَحَدُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي إثْبَاتِ الْمُسْنَدِ، فَهُوَ حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْمُرْسَلِ أَيْضًا. وَزَعَمَ بَعْضُ مُخَالِفِينَا: أَنَّهُ إنَّمَا رَوَى التَّابِعُونَ الْمُرْسَلَ لِيُطْلَبَ فِي الْمُسْنَدِ. فَيُقَالُ لَهُ: مَعْنَى قَوْلِك لِيَطْلُبَ فِي الْمُسْنَدِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُمْ إسْنَادٌ، فَإِنْ كُنْت تَعْنِي ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلَّا وَهُمْ يَسْمَعُونَ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَحْصُرُوا الْمَرَاسِيلَ لِيُنْظَرَ هَلْ تُوجَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كَذَلِكَ - لَمَا كَانُوا أَهْلًا لِقَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ أَصْلًا: الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوهُ - فَمَا الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنْ إظْهَارِ سَنَدِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ؟ فَعَلِمْت أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ مِنْ كَلَامِهِ فَارِغٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي الْمُرْسَلِ - لَجَازَ لِمُبْطِلِي أَخْبَارِ الْآحَادِ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ إنَّمَا رَوَوْا الْآحَادَ لِيُطْلَبَ فِي التَّوَاتُرِ، وَالِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّ الْمُرْسَلَ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْإِسْنَادِ وَجْهٌ. فَيُقَالُ: يَقُولُ لَك مُبْطِلُو خَبَرِ الْوَاحِدِ: لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولًا لَمَا كَانَ لِسَمَاعِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَثَلَاثَةٍ، وَأَرْبَعَةٍ، مَعْنًى. فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُطْلَبَ الْأَثَرُ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيُرْوَى مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَنْفِ ذَلِكَ جَوَازَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدِ، كَذَلِكَ يُرْوَى الْحَدِيثُ، فَيُذْكَرُ إسْنَادُهُ تَارَةً، وَلَا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَرْسَلَ التَّابِعُونَ الْأَخْبَارَ إعْلَامًا مِنْهُمْ لِسَامِعِيهَا: أَنَّ الْمَحْذُوفَ اسْمُهُ فِي السَّنَدِ لَيْسَ مِمَّنْ يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ. قِيلَ لَهُ: قَدْ أَخْبَرُوا هُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَإِنْ صَدَّقْتهمْ كُنْت كَاذِبًا فِيمَا حَكَيْت عَنْهُمْ، وَإِنْ أَكْذَبْتهمْ فَلَا تَقْبَلْ رِوَايَاتِهِمْ، لَا مُرْسِلًا وَلَا مُسْنِدًا. وَأَيْضًا: فَمَا الَّذِي حَمَلَهُمْ: عَلَى أَنْ يَرْوُوا مَا لَا يَجُوزُ قَبُولُهُ، ثُمَّ يَكْتُمُوا إسْنَادَهُ. فَيَعْرِفُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 النَّاسَ بِهِ، وَكَانَ أَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْكُتُوا عَنْهُ. فَلَا يَرْوُوهُ. وَعَلَى أَنَّ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ ثُمَّ كَتَمَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَمْرَهُ، صَارَ مِنْ الْمَجْرُوحِ، وَالْمَطْعُونِ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ. وَهَذَا يُوجِبُ الطَّعْنَ عَلَى عَامَّةِ التَّابِعِينَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا الْأَخْبَارَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِهِ: أَنَّهُ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ عَمَّنْ لَا يُوثَقُ بِرِوَايَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْعِلْمِ عَنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْمَرَاسِيلِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مِنَّا فِيمَنْ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ عِنْدَهُ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ التَّابِعِينَ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ أَخْبَرَ بِهِ، وَكَانَ كَاذِبًا. قِيلَ لَهُ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ التَّابِعِينَ فَعَلَ ذَلِكَ. وَعَلَى أَنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّ مَنْ رَوَى عَنْ كَذَّابٍ وَكَتَمَ أَمْرَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ، لَا سِيَّمَا إذَا حَذَفَ اسْمَهُ مِنْ الْإِسْنَادِ. وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ احْتَجَّ فِي إبْطَالِ الْمَرَاسِيلِ: بِأَنَّ التَّابِعِينَ قَدْ كَانُوا يَتَسَاهَلُونَ فِي الْإِرْسَالِ عَمَّنْ لَوْ كَشَفَ عَنْهُ وَبَيَّنَ أَمْرَهُ، كَانَتْ حَالُهُ بِخِلَافِهَا إذَا أَرْسَلَ عَنْهُ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ قَالَ لَهُ: إنَّ حَدِيثَ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ يَدُورُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ. فَقُلْت لَهُ: قَدْ رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: أَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 حَدَّثْت بِهِ الْحَسَنَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فَقُلْت لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَقَدْ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ مُرْسَلًا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنِي شَرِيكٌ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ. قَالَ: أَنَا حَدَّثْت بِهِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فَقُلْت لَهُ: قَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ مُرْسَلًا. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَرَأْت هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ الْحَسَنِ. قَالَ الْقَائِلُ: فَإِذَا سَمِعَ السَّامِعُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مُرْسَلَةً يَقُولُ: قَدْ رَوَاهُ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ. ثُمَّ إذَا كَشَفَ عَنْهُ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْعَجَبُ مِنْ غَبَاوَةِ هَذَا الْقَائِلِ، حِينَ جَعَلَ قَوْلَ فُلَانٍ: أَنَا حَدَّثْت بِهِ فُلَانًا نَفْيًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ حَدَّثَهُ بِهِ غَيْرُهُ، أَوْ سَمِعَهُ مِنْ سِوَاهُ. وَلَا يَمْتَنِعُ: أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ رَجُلٌ مُرْسَلًا، وَقَدْ سَمِعَهُ هُوَ مُتَّصِلًا مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ دَارَ الْحَدِيثُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ مَا الَّذِي كَانَ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِ؟ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّ الْحَسَنَ وَالزُّهْرِيَّ قَدْ رَوَيَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَيْسَ غَرَضُنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ الْمَنْسُوبِ إلَى أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 [بَابٌ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ] بَابٌ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: - تَعَارُضُ الْخَبَرَيْنِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: مِنْهَا: مَا يَكُونُ مِنْ غَلَطِ الرُّوَاةِ، وَنَتَيَقَّنُ مَعَهُ وَهْمَ رُوَاةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ. وَمِنْهَا: مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ. وَلَا يُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ بَقَاءُ حُكْمِهِمَا بِلَا مَحَالَةٍ، إنْ ثَبَتَا، وَصَحَّا، فَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ مَتْرُوكُ الْحُكْمِ. وَمِنْهَا: مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ، وَيَكُونَا جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي حَالَيْنِ، أَوْ فِي شَيْئَيْنِ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» . وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَغَيْرُ جَائِزٍ: أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا وَغَيْرَ مُحْرِمٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَنَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وَقَالَ بِلَالٌ: بِأَنَّهُ صَلَّى فِيهَا» مَعَ عِلْمِنَا: بِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْرَدَ بِالْحَجِّ» . وَرَوَى جَابِرٌ وَأَنَسٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ قَارِنًا» . وَنَحْوُ مَا رَوَى زَوْجُ بَرِيرَةَ: " إنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ كَانَ عَبْدًا. مَتَى أَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ عِنْدَ عِتْقِهَا كَانَ الْخَبَرَانِ مُتَضَادَّيْنِ، نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ (أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ) مُخْطِئٌ. وَكَرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ» ، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا شَاكَلَهَا مِمَّا تَقَعُ الْإِشَارَةُ فِيهَا إلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، فَمَعْلُومٌ فِيهَا غَلَطُ رُوَاةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ» ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ «نَهَى عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ» وَرُوِيَ " أَنَّهُ أَبَاحَهُ ". وَمَا رُوِيَ عَنْهُ: «أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ» وَرُوِيَ عَنْهُ: «أَنَّهُ كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ» هَذِهِ الْأَخْبَارُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مَنْسُوخًا بِبَعْضٍ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا وَهْمًا وَغَلَطًا، لِأَنَّهَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ثُبُوتُ حُكْمِ جَمِيعِهَا لِتَنَافِيهَا، وَتَضَادِّهَا، وَلِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ بَعْضَهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ دُونَ جَمِيعِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْهَا: أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ فِي الظَّاهِرِ، فَيُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا فِي حَالَيْنِ، أَوْ عَلَى وَجْهَيْنِ، نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» ، وَقَالَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» . وَمَحْمُولٌ عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» مَحْمُولٌ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» ، مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَرِدُ فِيهِ الْخَبَرُ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فِيمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ " وَكَالتَّمْرِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ " كَمَا قَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ «وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، يَدًا بِيَدٍ» . وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ حُكْمَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ، فَجَعَلَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمُقَوِّيَةِ لِأَحَدِهِمَا: وُجُودَ عَمَلِ النَّاسِ، دُونَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ الْمَعْمُولُ ثَابِتَ الْحُكْمِ، نَاسِخًا، وَالْآخَرُ مَنْسُوخًا، إنْ صَحَّتْ فِي الْأَصْلِ رِوَايَتُهُ. قَالَ: وَإِنْ اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي تَثْبِيتِ أَحَدِهِمَا. قَالَ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا، - فَإِنْ احْتَمَلَا الْمُوَافَقَةَ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا - اُسْتُعْمِلَ الِاجْتِهَادُ. وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ، فَالْآخَرُ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، إنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ عَمِلَ بِهِ النَّاسُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاَلَّذِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ الْآخَرُ مِنْهُمَا خَامِلًا، لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الشَّاذُّ مِنْ النَّاسِ، فَحِينَئِذٍ نَنْظُرُ إلَى الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ. فَإِنْ وَجَدْنَاهُمْ يُجَوِّزُونَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا بِالْآخَرِ، وَلَا يَعْتِبُونَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُمْ يَعِيبُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُمْ، كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى مَا عَمِلَ النَّاسُ، وَظَهَرَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ الشَّاذِّ الَّذِي قَدْ عَابُوهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا ظَهَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَعَمِلُوا بِهِ ثُمَّ نُسِخَ، ظَهَرَ نَسْخُهُ مِنْهُمْ، كَمَا ظَهَرَ لِلْغَيْرِ نَصُّهُ، حَتَّى لَا يَشِذَّ إلَّا عَلَى الْقَلِيلِ. كَالنَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ، وَالشُّرْبِ فِي الظُّرُوفِ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَنَسْخِهَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ. لَمَّا نُسِخَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ظَهَرَ نَسْخُهَا، كَظُهُورِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ابْتِدَاءً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَعَلَ عِيسَى اسْتِعْمَالَ النَّاسِ لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مُوجِبًا لِثُبُوتِ حُكْمِهِ دُونَ الْآخَرِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَا تَسَعُ مُخَالَفَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ مَعَهُ، فَالْخَبَرُ الَّذِي سَاعَدَهُ الْإِجْمَاعُ مِنْهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ، وَالْآخَرُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ. وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفُوا فَاسْتَعْمَلَ بَعْضُهُمْ الْآخَرَ، سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا، فَيَكُونُ مَا عَاضَدَهُ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، مِنْ قِبَلِ: أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِأَوْلَى بِاسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ مِنْ الْآخَرِ فِي ظَاهِرِ وُرُودِهِمَا، كَانَ مَا شَهِدَ لَهُ الْأُصُولُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّ شَوَاهِدَ الْأُصُولِ لَوْ انْفَرَدَتْ عَنْ الْخَبَرِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْيِهَا، فَإِذَا سَاعَدَتْ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ. وَأَيْضًا: فَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ عَرْضُهُمْ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى الْأُصُولِ، وَمُقَابَلَتُهَا بِالْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ حَسَبَ مَا حَكَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، فَصَارَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ تَأْثِيرٌ فِي رَدِّ بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَحَسَبَ كَوْنِ مُسَاعَدَتِهَا لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ - مُوجِبَةً لِاسْتِعْمَالِهِ، دُونَ الْآخَرِ الَّذِي يُخَالِفُهَا. وَأَيْضًا: لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْخَبَرَيْنِ، وَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، فَقَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا بِالنَّظَائِرِ، كَسَائِرِ الْحَوَادِثِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِمَا، فَإِنْ احْتَمَلَا الْمُوَافَقَةَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَجْعَلُوا الْآخَرَ قَاضِيًا عَلَى الْأَوَّلِ، فَقَدْ سَوَّغُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا، فَمَتَى أَدَّى الِاجْتِهَادُ إلَى حَمْلِهِمَا عَلَى الْوِفَاقِ حَمَلْنَاهُمَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِعْمَالِ، وَدَلَالَةِ الْأُصُولِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ - فَإِنَّ الْآخَرَ مِنْهُمَا يَكُونُ نَاسِخًا الْأَوَّلَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ ثَابِتٌ إذْ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِهِ دُونَهُ، وَفِي ثُبُوتِ الْآخَرِ نَفْيُ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا إذَا عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ إلَّا الشَّاذُّ مِنْهُمْ، وَسَوَّغُوا مَعَ ذَلِكَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْآخَرِ، وَلَمْ يَعِيبُوا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيهِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ اتَّفَقُوا فِي هَذِهِ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ. وَأَمَّا إذَا عَابُوا عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى الْخَبَرِ الْآخَرِ، فَإِنَّمَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ مَا عَمِلَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَظَهَرَ فِي أَيْدِيهِمْ، دُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّاذُّ مِنْهُمْ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّاسِ الْأَوَّلَ يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَثَبَاتَهُ، فَلَوْ كَانَ الْآخَرُ ثَابِتًا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ الْأَوَّلَ، وَلَمَا أَنْكَرَهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ وَاسْتَفَاضَ فِي الْكَافَّةِ ثُمَّ نُسِخَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مَحَالَةَ يُظْهِرُ نَسْخَهُ فِيمَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ فِي حُكْمِهِ بَدْرً، فَدَلَّ إنْكَارُهُمْ عَلَى الْآخَرِينَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ الْآخَرِ، أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتُ الْحُكْمِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ شَاذٌّ، لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ لَمَّا عَلِمُوا بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْآخَرَ قَدْ رُوِيَ - فَهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْحُكْمَ بِالثَّانِي، إلَّا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتُ الْحُكْمِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الثَّانِي نَاسِخًا لَهُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرُوا الثَّانِيَ وَثَبَتُوا عَلَى الْأَوَّلِ، عَلِمْنَا: أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا شُذُوذَ الثَّانِي، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ مُوجِبٌ لِتَقْوِيَةِ بَقَاءِ حُكْمِ خَبَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ: مِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ اجْتِهَادًا، عَلَى حَسَبِ مَا تَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ صِحَّتِهَا وَسَلَامَتِهَا، وَمِنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لَهَا، أَوْ مُخَالَفَتِهَا إيَّاهَا، فَكَانَ مَا وَصَفْنَا فِي هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 الْفَصْلِ ضَرْبًا مِنْ الِاجْتِهَادِ، تَقْوَى مَعَهُ فِي النَّفْسِ بَقَاءُ حُكْمِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَبْوَابِ النَّسْخِ: مَا كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا: إنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ أَوْلَى، وَاحْتِجَاجَهُ لَهُ، بَلْ الْإِبَاحَةُ لَمَّا كَانَتْ هِيَ الْأَصْلُ، وَالْحَظْرُ طَارِئٌ عَلَيْهِ، كَانَ حُدُوثُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مُتَيَقَّنًا، وَلَسْنَا نَتَيَقَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ حُدُوثَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ. وَذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الصَّيْدِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَنَحْوُ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» وَمَا رُوِيَ فِي " إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَيْهَا " وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَحَكَيْنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ: بِأَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّامِعِ رَأْيٌ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ: أَنَّهُ يَسْقُطُ خَبَرُهُمَا جَمِيعًا، وَيَكُونُ الْمَاءُ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ. وَبَيَّنَّا: أَنَّ نَظِيرَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَخْبَارِ أَحْكَامِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بَدَأَ فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَأَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ فِيهِ غَلَطٌ لَا مَحَالَةَ، كَرِوَايَةِ مَنْ رَوَى: أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَمَنْ رَوَى: أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرَ الْمَاءِ، لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا صَحِيحَيْنِ فِي الْأَصْلِ، وَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ بِالْآخَرِ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ مُخَالِفَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ: أَسْقِطْ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا. وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرِوَايَتِهِ: " أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا "، (لِتَعَارُضِهَا مَعَ رِوَايَةِ) يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ: " أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا، كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، حِينَ عَارَضَ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْخَبَرِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِيهَا إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ، أَوْجَبَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَوْلَى بِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ مِنْ الْآخَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْخَبَرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ أَصْلًا لِلْإِخْبَارِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ إسْقَاطِ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا دَلَالَةٌ: عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ حُكْمُهَا: أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحَوَادِثَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا أُصُولٌ مِنْ النُّصُوصِ، وَأَشْبَاهٌ وَنَظَائِرُ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِحُكْمِهَا خَبَرٌ. فَمَتَى خَلَتْ الْحَوَادِثُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ، حُمِلَ عَلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْأُصُولِ، فَإِذَا عَارَضَتْ الْأُصُولُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ، دُونَ مَا خَالَفَتْهُ. وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتُهُ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ إذَا تَعَرَّتْ مِنْ الْخَبَرِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عِنْدَ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ. اطِّرَاحُهُمَا، وَبَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقَدْ سَوَّى عِيسَى بْنُ أَبَانَ بَيْنَ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا تَعَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى صَاحِبِهِ، مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ، فَإِنَّ سَبِيلَهُمَا: أَنْ يَسْقُطَ، كَأَنَّهُمَا لَمْ يُرْوَيَا، وَجَعْلُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ، وَالْآخَرُ بِنَجَاسَتِهِ، وَتَسَاوَيَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ. فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا. وَذُكِرَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ: فِي الرَّجُلَيْنِ حِينَ اخْتَلَفَا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ: أَنَّهُمَا أَسْقَطَا خَبَرَهُمَا وَشَرِبَا. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ يَحْتَجُّ لِتَرْجِيحِ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى خَبَرِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ: بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ حَادِثٍ عَلِمَهُ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، وَأَبُو رَافِعٍ، وَمَنْ رَوَى: أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا. إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرِ مَا كَانَ عَلِمَهُ بَدْءًا، مِنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ إحْرَامِهِ، فَكَانَ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْبَرَ: أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ حُرِّيَّةٍ حَادِثَةٍ عَلِمَهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ قَدْ كَانَ عَبْدًا مَرَّةً، وَمَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا. فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَدْءًا مِنْ رِقِّهِ. وَلَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُ عِتْقِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ» . فَقَدْ عَلِمَ حُدُوثَ نِكَاحٍ لَمْ يَعْلَمْهُ مَنْ أَخْبَرَ: أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ. فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ يَجْرِي حُكْمُ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ إذَا كَانَ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ حِجَاجُهُ لِتَثْبِيتِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْنَا: أَنْ نَقُولَ مِثْلَهُ فِي الْخَبَرَيْنِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ، فَنَجْعَلُ الْخَبَرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ عَلِمَ حُدُوثَ نَجَاسَةٍ لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُخْبِرُ بِطَهَارَتِهِ، وَإِنَّ الْمُخْبِرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 بِطَهَارَتِهِ إنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا عَلِمَهُ مِنْ حَالِهِ بَدْءًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَجُوزُ أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَيْمُونَةَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَارِيخِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَخْيِيرِ بَرِيرَةَ لَمَّا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُعْتِقَتْ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِيخِهِ. فَقَالَ قَائِلُونَ: كَانَ بَعْدَ عِتْقِ زَوْجِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: قَبْلَ عِتْقِ زَوْجِهَا. فَكَانَ خَبَرُ مَنْ أَخْبَرَ بِتَارِيخِ الْإِحْرَامِ، وَتَارِيخِ عِتْقِ زَوْجِ بَرِيرَةَ، مُقَدِّمًا لِعِتْقِهَا. أَوْ كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ: أَنَّهُ أَعْتَقَهُ مُنْذُ شَهْرٍ، وَأَخْبَرَ اثْنَانِ: أَنَّهُ مُنْذُ سَنَةٍ. أَنَّ الْوَقْتَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى. فَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا فِي تَارِيخِ الْحُكْمِ، وَكَانَ لِمَا أَثْبَتْنَاهُ ضَرْبًا مِنْ التَّرْجِيحِ، وَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْمُخْبِرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ عَلَى وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَجَازَ إسْقَاطُ خَبَرَيْهِمَا إذَا تَسَاوَيَا، وَلَمْ يَكُنْ نَظِيرًا لِمَا وَصَفْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ: أَحَدُهُمَا بَانَ عَلَى أَصْلٍ قَدْ ثَبَتَ، وَالْآخَرُ، نَاقِلٌ عَنْهُ، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِي جِهَةِ النَّقْلِ، وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ النَّاقِلُ عَنْ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ الْبَانِي عَلَيْهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، سَوَاءً كَانَ النَّاقِلُ مُبِيحًا لِشَيْءٍ قَدْ ثَبَتَ حَظْرُهُ، أَوْ حَاظِرًا لِشَيْءٍ قَدْ ثَبَتَ إبَاحَتُهُ. وَيَنْبَغِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ وَعَنْ عِيسَى أَنْ يَسْقُطَا جَمِيعًا، وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَنَّ الشَّيْءَ إنْ كَانَ مَنْفِيًّا فِي الْأَصْلِ، فَخَبَرُ الْإِثْبَاتِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، فَخَبَرُ النَّفْيِ أَوْلَى، لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: مِنْ أَنَّ وُرُودَ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ مُتَيَقَّنٌ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ الْإِثْبَاتِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشَّيْءُ قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُهُ ثُمَّ وَرَدَ خَبَرَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي إثْبَاتِهِ، وَالْآخَرُ فِي نَفْيِهِ، فَخَبَرُ النَّفْيِ أَوْلَى، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَاهُ طَارِئًا عَلَى الْإِثْبَاتِ بَدْءًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِثْبَاتِ وَارِدًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كَانَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ» . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى نَقْلِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ. ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ: تَرَكَ الْقُنُوتَ بَعْدَ فِعْلِهِ. فَكَانَ الْمُثْبِتُ لِلْقُنُوتِ ثَابِتًا عَلَى أَصْلِ مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ. وَالنَّافِي لَهُ أَخْبَرَ: أَنَّ التَّرْكَ كَانَ طَارِئًا عَلَى الْفِعْلِ، فَكَانَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ التَّرْكِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَ بَعْدَ الْفِعْلِ، فَكَانَ أَوْلَى، لِمَا وَصَفْنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وَعَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى: يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَا جَمِيعًا، وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ. وَإِنْ وَرَدَ خَبَرَانِ: أَحَدُهُمَا يُوجِبُ شَيْئًا، وَالْآخَرُ يَنْهَى عَنْهُ، وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْأَصْلِ الْإِبَاحَةَ، فَإِنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِبَاحَةِ: إمَّا إلَى إيجَابٍ، أَوْ إلَى حَظْرٍ. فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ: إنَّ الْإِبَاحَةَ قَدْ زَالَتْ، وَلَمْ يَثْبُتْ حَظْرٌ، وَلَا إيجَابٌ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ مَوْقُوفًا، لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: يُطْرَحُ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا، فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ. وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ: فِي أَحَدِهِمَا فِعْلٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشَيْءٍ، وَفِي الْآخَرِ النَّهْيُ عَنْهُ وَتَسَاوَيَا، فَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ النَّهْيُ أَوْلَى، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ» ، فَهَذَا فِعْلٌ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ» وَأَنَّهُ قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا حَالَ الرُّكُوعِ، فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ. وَتَرْكَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ، بِظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ أَفْعَالًا لِنَفْسِهِ لَا يُرِيدُهَا مِنَّا، وَلَا يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ، أَوْ يَنْهَى عَنْهُ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنَّا مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْأَصْلِيِّ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَلَا يُعَارِضُ، الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالْفِعْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ قَدْ «أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ: أَكَلَ لَحْمًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فَعَارَضَتْ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ وَجَعَلَتْ الْفِعْلَ أَوْلَى مِنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 قِيلَ لَهُ: لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّا إنَّمَا شَرَطْنَا فِيمَا قَدَّمْنَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ وَتَسَاوِيهَا فِي الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَبُولِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ مُعَارَضَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ، لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ لِوُرُودِهِ مُنْفَرِدًا فِيمَا عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ. فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا قَبُولُهُ إذَا عَارَضَهُ غَيْرُهُ؟ وَخَبَرُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى النَّقْلِ مِنْ الْكَافَّةِ، لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَلَمْ يُسَاوِ خَبَرَ نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 [فَصْل التَّعَارُضُ فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ] فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ: عَلَى أَنَّ فِي ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا نَفْيًا لِلْآخَرِ. مِثْلُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. فَقَالَ: لَا شَيْءَ لَهُمَا» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» ، فَلَوْ خَلَّيْنَا وَظَاهِرُهُمَا لَمْ يَتَعَارَضَا، وَاسْتُعْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا وَرَدَ، لِأَنَّ نَفْيَ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ غَيْرُ نَافٍ لِمِيرَاثِ الْخَالِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ. إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْخَالَ إنْ ثَبَتَ مِيرَاثُهُ - كَانَ مِيرَاثُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ ثَابِتًا. وَأَنَّهُ. إنْ سَقَطَ مِيرَاثُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ سَقَطَ مِيرَاثُ الْخَالِ. صَارَ انْضِمَامُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا إلَى الْخَبَرِ مُوجِبًا لِتَعَارُضِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ، ثُمَّ يَكُونُ إثْبَاتُ الْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَاقِلٌ مِنْ الْأَصْلِ، وَنَفْيُ الْمِيرَاثِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي خَبَرِنَا إثْبَاتَ الْمِيرَاثِ، وَفِي خَبَرِهِمْ نَفْيَهُ، وَمَتَى اجْتَمَعَ خَبَرٌ نَافٍ وَخَبَرٌ مُثْبِتٌ كَانَ الْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنْ النَّافِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُضَادَّيْنِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ عِنْدَنَا، إذَا لَمْ يَبْلُغْ مِقْدَارًا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْوِيَ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَاحِدٌ، وَيَرْوِي الْآخَرَ اثْنَانِ. وَزِيَادَةُ الْعَدَدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوجِبُ تَرْجِيحَ أَكْثَرِهِمَا عَدَدًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمَا عَدَدًا أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ أَقَلِّهِمَا عَدَدًا، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْأَرْبَعَةِ بِمِلْكِ هَذَا الْعَبْدِ لِعَمْرٍو أَقْوَى فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 النَّفْسِ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ بِهِ لِزَيْدٍ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَلَيْسَ لِزِيَادَةِ الشُّهُودِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّهُمْ قَدْ قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي عَارَضَهَا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، أَخْبَارًا كَثِيرَةً، أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ. وَمَا سَمِعْنَا أَيْضًا أَبَا الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَطُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَخَبَرِ الِاثْنَيْنِ فِي طُولِ مَا جَارَيْنَاهُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، بَلْ كَانَ الْمَفْهُومُ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِهِ وَمَا لَا شَكَّ فِيهِ اعْتِقَادُهُ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حِجَاجُهُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا حُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُ مَنْ قَالَ: لَا أَلْتَفِتُ إلَى عَمَلِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ، أَنْ يَقُولَ: إذَا تَضَادَّتْ الْأَخْبَارُ أَخَذْت بِأَقْوَاهَا إسْنَادًا، وَأَصَحِّهَا فِي الْخَبَرِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِمَّا جَاءَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقْوَى فِي الْخَبَرِ مِنْ الْوَاحِدِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى: أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ كَانَ مُتَقَرِّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، فِي أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَا أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَهُ رَجُلَانِ ثِقَتَانِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ، وَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ ثِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَعْمَلُ بِقَوْلِ الِاثْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَا عَبْدَيْنِ وَيَتْرُكُ قَوْلَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا. قَالَ: وَإِنْ أَخْبَرَهُ حُرَّانِ ثِقَتَانِ بِالْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَعَبْدَانِ ثِقَتَانِ بِالْأَمْرِ الْآخَرِ. أَنَّهُ يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا تُقْطَعُ بِهَا الْأَحْكَامُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ نَاقِلِي أَخْبَارِ الْآحَادِ أَنَّ خَبَرَ الرَّجُلَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خَبَرِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْحُرَّيْنِ، وَخَبَرُ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ، لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْحُرَّانِ يُقْطَعُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يُقْطَعُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بَيْنَ خَبَرِ أَبِي بَكْرَةَ، وَشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ. وَهُمَا مَحْدُودَانِ فِي قَذْفٍ، غَيْرِ تَائِبَيْنِ مِنْهُ، وَبَيْنَ خَبَرِ اثْنَيْنِ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرَيْنِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ، لَيْسَ بِأَصْلِ الْأَخْبَارِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الدِّينِ. أَوَلَا تَرَى: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا شُرِطَ فِي أَقَلِّ عَدَدِهَا اثْنَانِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا حُكْمُ الِاثْنَيْنِ، وَحُكْمُ الْأَرْبَعَةِ. كَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ، لَمَّا كَانَ أَقَلُّ مَنْ يُقْبَلُ فِيهِ وَاحِدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي زِيَادَاتِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي زِيَادَاتِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَذْهَبُ إلَى أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ وَاحِدًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْهُ فِي زِيَادَةِ أَلْفَاظِهِ وَنُقْصَانِهَا: إنَّ الْأَصْلَ هُوَ مَا رَوَاهُ الَّذِي سَاقَهُ بِزِيَادَةٍ، وَأَنَّ النُّقْصَانَ إنَّمَا هُوَ إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ، أَوْ يَتَرَادَّانِ» وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَرْوِي هَذَا الْخَبَرَ فَلَا يَذْكُرُ فِيهِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ بِعَيْنِهَا. فَالْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَحَذْفُ قِيَامِ السِّلْعَةِ إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَاوِي الْخَبَرِ وَاحِدًا، لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ. ذَكَرَ فِي إحْدَاهُمَا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْأُخْرَى فَلَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ خَبَرِ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ. وَأَمَّا إذَا رُوِيَ الْخَبَرُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجْهَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ، فَكَانَ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ دَلَالَةٌ: عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ قَالَ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ زِيَادَةٌ. فَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَالْخَبَرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رَوَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعَ تَمْرٍ، أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» فَزَادَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ ذِكْرَ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وَرَوَى جَمَاعَةٌ غَيْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ» . وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، فَهُمَا مُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا، وَلَا يَجُوزُ لَنَا حَمْلُ الْخَبَرِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَا وَصَفْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ قَالَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُقْبَضَ» . وَرُوِيَ فِي أَخْبَارٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» فَاسْتَعْمَلَ الْخَبَرَيْنِ، وَلَمْ يُحْمَلْ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ حَذَفَ مِنْهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الزِّيَادَةِ. أَلَا تَرَى: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ مُبْتَدَأُ الْقَوْلِ مُطْلَقًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: انْهَهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ قَدْ قَالَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَسَحَ بِبَعْضِ رَأْسِهِ» ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ «أَنَّهُ مَسَحَ بِجَمِيعِ رَأْسِهِ» ، فَهَلَّا أَثْبَتَ الزِّيَادَةَ ". قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَنَا، إلَّا أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَتْرُكُ الْمَفْرُوضَ بِحَالٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَنْدُوبَ فِي حَالٍ، وَيَتْرُكَهُ فِي آخَرَ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ، وَإِذَا رَوَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ حَدِيثًا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثُمَّ رُوِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُفْسِدٍ لِرِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا، بَلْ هُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ رِوَايَتَهُ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 يُوجِبُ تَأْكِيدَ رِوَايَتِهِ، وَيَكُونُ دَلِيلًا: عَلَى أَنَّهُ رَآهُ ثَابِتَ الْحُكْمِ، غَيْرَ مَنْسُوخٍ. وَقَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُصَنِّفُونَ الرُّوَاةَ، فَيَجْعَلُونَهُمْ طَبَقَاتٍ، فَإِذَا رَوَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا حَدِيثًا قَبِلُوا عَلَيْهِ زِيَادَةَ مَنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِ، وَلَمْ يَقْبَلُوا عَلَيْهِ زِيَادَةَ مَنْ هُوَ دُونَ طَبَقَتِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَسْنَدَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَرَفَعَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ هُوَ دُونَ طَبَقَتِهِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُسْنَدًا، وَإِنْ رَفَعَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَرَفَعَهُ مَنْ هُوَ فِي طَبَقَةٍ دُونَهَا، كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَوْقُوفًا، وَلَمْ يَكُنْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا يُرْسِلُهُ وَاحِدٌ، وَيُسْنِدُهُ آخَرُ، عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ مُعَارَضَتَهَا لِلْأُصُولِ وَدَلَائِلِهَا، وَإِنَّمَا يُصَحِّحُونَ الرِّوَايَاتِ بِالرِّجَالِ فَحَسْبُ. وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ اعْتِبَارَهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 [بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَنْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ وَهُوَ يُنْكِرُهُ] بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَنْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ وَهُوَ يُنْكِرُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَانَ كَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِنَا يَسْتَدِلُّ عَلَى فَسَادِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» بِمَا ذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَكَانُوا يَجْعَلُونَ إنْكَارَ الزُّهْرِيِّ لِذَلِكَ مُفْسِدًا لِرِوَايَةِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» فَلَمَّا سُئِلَ سُهَيْلٌ عَنْهُ قَالَ: لَا أَعْرِفُهُ. فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّ رَبِيعَةَ يَرْوِيهِ عَنْك، فَقَالَ: إنْ كَانَ رَبِيعَةُ يَرْوِيهِ عَنِّي فَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ: فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَاضٍ اُدُّعِيَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ - فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً لِتَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ لَهُ بِذَلِكَ: أَنَّ لِلْقَاضِي أَلَّا يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَسْمَعُ مِنْهَا، وَيَقْضِي لَهُ بِالْحَقِّ. فَإِنْ حَمَلْنَا الْخَبَرَ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ لَا يَذْكُرُهُ - فَالْوَاجِبُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يُفْسِدُ الْحَدِيثَ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّاوِي لَهُ ثِقَةً. وَيَجِبُ عَلَى مُحَمَّدٍ أَنْ يَقْبَلَ. وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ عَمَّارٍ: أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ حِينَ خَالَفَهُ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّا كُنَّا فِي الْإِبِلِ فَأَجْنَبْت، فَتَمَعَّكْت فِي التُّرَابِ، ثُمَّ سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْك، فَتَمْسَحَ بِهَا وَجْهَك وَذِرَاعَيْك» . فَلَمْ يُقْنِعْ عُمَرَ قَوْلُ عَمَّارٍ وَهُوَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ أَمِينٌ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ شَاهِدًا لِلْأَمْرِ الَّذِي قَالَهُ. فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ، فَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِ الْحَدِيثِ بِجُحُودِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ إيَّاهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ: فِي أَنَّ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ لَوْ قَالَا لِرَجُلٍ: قَدْ كُنْت أَشْهَدْتنَا عَلَى شَهَادَتِك: أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ لَا يَذْكُرُ ذَلِكَ، أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ الْقَاضِي بِمَا قَالَا. وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ لَمْ يَسَعْهُ إقَامَتُهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ أَفْسَدَ الْحَدِيثَ بِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْسَاهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ، إيَّاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ رِوَايَةَ الثِّقَةِ عَنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 قِيلَ لَهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي نَسِيَ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَزِيدُ، فَسَمِعَهُ مِنْهُ، وَهُوَ إنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَالنِّسْيَانُ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَلِمَ جَعَلْت الْمَرْوِيَّ عَنْهُ أَوْلَى بِالنِّسْيَانِ مِنْ الرَّاوِي؟ وَأَمَّا مَنْ لَا يَفْسُدُ الْحَدِيثُ بِإِنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ لَهُ، فَإِنَّهُ يُذْهَبُ فِيهِ إلَى أَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَالنِّسْيَانُ جَائِزٌ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَلَا يُفْسِدُهُ. وَقَدْ «قَبِلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، حِينَ قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ» فَقَبِلَ خَبَرَهُمَا. وَقَبِلَ عُمَرُ قَوْلَ أَنَسٍ فِي أَمَانِ الْهُرْمُزَانِ حِينَ، قَالَ لَهُ: " أَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ حَيٍّ أَمْ بِكَلَامِ مَيِّتٍ؟ " فَقَالَ: تَكَلَّمْ بِكَلَامِ حَيٍّ " وَلَمْ يَذْكُرْ عُمَرُ مَا قَالَهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَبِلَ قَوْلَ مَنْ أَخْبَرَ بِهِ. وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَلْزَمُ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَعُمَرُ فِي قِصَّةِ الْهُرْمُزَانِ، ذَكَرَا ذَلِكَ بَعْدَ إخْبَارِ مَنْ أَخْبَرَهُمَا بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ الْمُدَلِّسِ وَغَيْرِهِ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ الْمُدَلِّسِ وَغَيْرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّدْلِيسُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ آخَرَ لَقِيَهُ، وَيُوهِمَ السَّامِعَ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَاعٌ، وَلَا يَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ، وَذَكَرَ فُلَانٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ الْأَعْمَشُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَهِشَامٌ، فِي آخَرِينَ يُدَلِّسُونَ الْأَخْبَارَ. وَكَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ: لَأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ. وَالْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُدَلِّسُ مَشْهُورًا بِأَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ إلَّا عَمَّنْ يَجُوزُ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، فَرِوَايَتُهُ مَقْبُولَةٌ فِيمَا دَلَّسَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُبَالِي عَمَّنْ دَلَّسَ: مِنْ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ثِقَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إلَّا أَنْ تَذْكُرَ سَمَاعَهُ فِيهِ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي إرْسَالِهِ الْحَدِيثَ، وَلَا سِيَّمَا كُلُّ مَنْ أَسْقَطَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ رَوَى عَنْهُ رَجُلًا مُدَلِّسًا، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ رَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَثِيرًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يَسْمَعُوهَا، وَحَذَفُوا ذِكْرَ مَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَاقْتَصَرُوا عَلَى أَنْ قَالُوا: قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ، وَلَا يُسَمَّوْنَ مُدَلِّسِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ إنَّمَا قَصَدُوا الِاخْتِصَارَ، وَتَقْرِيبَ الْإِسْنَادِ عَلَى السَّامِعِينَ مِنْهُمْ. الْآخَرُ: أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْإِسْنَادِ تَأْكِيدَ الْحَدِيثِ، وَالْقَطْعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِأَنَّهُ قَالَهُ، وَلَمْ يَقْصِدُوا التَّزَيُّنَ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، مَنْ قَصَدَ مِنْهُمْ بِحَذْفِ الرَّجُلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ: أَحَدَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَإِنَّا لَا نُسَمِّيهِ مُدَلِّسًا، وَإِنَّمَا الْمُدَلِّسُ مَنْ يَقْصِدُ بِحَذْفِ الرَّجُلِ الَّذِي سَمِعَهُ: التَّزَيُّنَ بِعُلُوِّ السَّنَدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَصْدُ غَيْرُ مَحْمُودٍ، غَيْرَ أَنَّهُ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ، فَهُوَ مَقْبُولُ الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا. وَمَنْ يُدَلِّسُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ فَالْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ: أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ حَتَّى يُبَيِّنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 [فَصْلٌ وَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقْرِئَ الْمُحَدِّثَ فَيَقُولَ فِيهِ حَدَّثَنَا] إذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ يَسْمَعُ وَيَضْبِطُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: إنَّ قِرَاءَتَك عَلَيَّ لِمُحَدِّثٍ أَثْبَتُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْك. وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا كَانَ قَارِئًا لَمْ يَعْقِلْ شَيْئًا مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ هُوَ السَّامِعُ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِلَ بَعْضَ مَا يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ. وَمِثْلُهُ يَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَاتُ، وَهِيَ أَكْبَرُ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّك لَوْ قَرَأْت صَكًّا عَلَى إنْسَانٍ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: أَشْهَدُ عَلَيْك بِذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ. وَسِعَك أَنْ تَقُولَ: أَقَرَّ عِنْدِي فُلَانٌ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا مَنْ كُتِبَ إلَيْهِ بِحَدِيثٍ، فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إمَّا بِقَوْلِ ثِقَةٍ، أَوْ بِعَلَامَاتٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 مِنْهُ وَخَطِّهِ، يَغْلِبُ مَعَهَا فِي النَّفْسِ أَنَّهُ كِتَابُهُ، فَإِنَّهُ يَسَعُ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ الْكِتَابُ أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ، يَعْنِي الْكَاتِبَ إلَيْهِ، وَلَا يَقُولُ حَدَّثَنِي. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: إنْ أَخْبَرْت فُلَانًا بِسِرِّ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَكَتَبَ إلَيْهِ، وَوَصَلَ إلَيْهِ كِتَابَاتُهُ. فَقَدْ أَخْبَرَ، وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي كِتَابِهِ. وَجَائِزٌ لَنَا أَنْ نَقُولَ: أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، «وَكَتَبَ إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» . وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ: وَرَدَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ مِنْ ذَلِكَ: هُوَ إخْبَارٌ مِنْ الْكَاتِبِ بِهِ. وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِ رَجُلٍ وَمَذْهَبِهِ فِي كِتَابٍ مَعْرُوفٍ بِهِ قَدْ تَنَاوَلَتْهُ النُّسَخُ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَمَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَحَدٍ. مِثْلُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أَصْنَافِ الْعُلُومِ، لِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، لَا يَحْتَاجُ مِثْلُهُ إلَى إسْنَادٍ، وَقَدْ عَابَ بَعْضُ أَغْمَارِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْكُتُبِ فَقِيلَ لَهُ: أَسَمِعْتهَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ؟ فَقَالَ: لَا. فَقِيلَ لَهُ: أَسَمِعْتهَا مِنْ أَبِي يُوسُفَ؟ فَقَالَ: لَا. وَإِنَّمَا أَخَذْنَاهَا مُذَاكَرَةً. فَأَنْكَرَ هَذَا الْقَائِلُ بِجَهْلِهِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنْ يَحْكِيَ عَنْهُمْ أَقَاوِيلَهُمْ الَّتِي فِي كُتُبِهِمْ الْمُصَنَّفَةِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ. وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى سَمَاعٍ، وَلَا إسْنَادٍ، لِظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هَكَذَا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِمُوَطَّإِ مَالِكٍ، أَوْ كِتَابِ أَبِي يُوسُفَ: هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ، وَهَذَا كِتَابُ فُلَانٍ، إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَهُ بِإِسْنَادٍ. وَأَمَّا إذَا قَالَ الرَّاوِي لِرَجُلٍ: قَدْ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَارْوِهِ عَنِّي. فَإِنْ كَانَا قَدْ عَلِمَا مَا فِيهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ. فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي، كَمَا أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 رَجُلًا لَوْ كَتَبَ صَكًّا وَالشُّهُودُ يَرَوْنَهُ، ثُمَّ قَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، جَازَ لَهُمْ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الرَّاوِي، وَلَا السَّامِعُ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ بِذَلِكَ، كَمَا قَالُوا فِي الصَّكِّ إذَا أَشْهَدَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ: لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا لَهُ: أَجَزْنَا لَك مَا يَصِحُّ عِنْدَك مِنْ حَدِيثِنَا، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ صَكٍّ فِيهِ إقْرَارِي فَاشْهَدْ بِهِ عَلَيَّ. لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ الشَّهَادَةُ بِهِ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 [بَابٌ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا بِكَذَا وَنُهِينَا عَنْ كَذَا وَالسُّنَّةُ كَذَا] بَابٌ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، وَنُهِينَا عَنْ كَذَا، وَالسُّنَّةُ كَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، وَنُهِينَا عَنْ كَذَا. وَقَوْلُهُ: السُّنَّةُ كَذَا. لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْهُ رِوَايَةً عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذْ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالسُّنَّةُ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {َأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . فَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْأَمِيرِ وَالْوُلَاةِ، فَلَا دَلَالَةَ فِي مِثْلِهِ عَلَى: أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ، فَقَدْ تَكُونُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً حَسَنَةً» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وَقَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لِرَبِيعَةَ، حِينَ سَأَلَهُ عَنْ أَرْشِ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ إذَا كُنَّ ثَلَاثًا فَقَالَ: " فِيهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: فَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا. فَقَالَ: فِيهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ. قُلْت: لَمَّا كَثُرَ جُرْحُهَا وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا نَقَصَ أَرْشُهَا؟ فَقَالَ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ هَكَذَا السُّنَّةُ " وَإِنَّمَا مَخْرَجُ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَسَمَّاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ سُنَّةً. وَحُكِيَ لَنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ: " إذَا قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ كَذَا، فَإِنَّمَا يُرِيدُ سُنَّةَ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَكَانَ عَرِيفَ السُّوقِ ". وَأَمَّا إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، أَوْ نَهَانَا عَنْ كَذَا، وَسَنَّ رَسُولُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، أَوْ قَالَ هَذِي سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى أَنْ يُوجِبَ بِمِثْلِهِ حُكْمًا، حَتَّى يَحْكِيَ لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ لَفْظًا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِي، فَتَأَوَّلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ، وَنَحْنُ فَلَا يَلْزَمُنَا تَأْوِيلُهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ مَذْهَبِ بَعْضِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ نَقْلَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. وَقَالَ آخَرُونَ: حُكْمُ مَا هَذَا سَبِيلُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ ثَابِتٌ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْعُدُولُ عَنْهُ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَمِمَّنْ يُوثَقُ بِضَبْطِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَهُوَ يَعْرِفُ مَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِنْ الْأَلْفَاظِ، مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ. فَلَوْ كَانَ مَصْدَرُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَهُ عَنْ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَبَيَّنَ حِكَايَةَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا اقْتَصَرَ عَلَى إجْمَالِ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلِمْنَا: أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ عِنْدَهُ لَمْ يُغَيِّرْ مَا حَكَيْنَاهُ. وَلَوْ سَاغَ الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ قَائِلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِهِ إذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " كَيْتَ وَكَيْتَ "، لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرْوِي نَقْلَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. مِنْهُمْ: الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَمِنْهُمْ: مَنْ يَرَى نَقْلَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ، فَيَجُوزُ عَلَى مَوْضُوعِ هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا إنَّمَا حَكَى مَعْنَى مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَا لَفْظَهُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، فَلَمَّا أَبْطَلَ ذَلِكَ. وَكَانَ قَوْلُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَذَا. مَحْمُولًا عَلَى حِكَايَةِ لَفْظٍ وَحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا: وَنَهَانَا عَنْ كَذَا، وَسَنَّ لَنَا كَذَا، عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ " كَأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِعَيْنِهِ. وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تَكْتَفِي فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْكَامَهُ، وَسَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِسَمَاعِ هَذَا اللَّفْظِ، فِيمَا يَزِيدُ مَعْرِفَةً مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 النُّصُوصِ وَالسُّنَنِ، أَلَا تَرَى: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا سَفَرًا: أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا، لَيْسَ الْجَنَابَةَ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَمْرِ مُجْمَلًا، دُونَ حِكَايَةِ لَفْظِ أَمْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَنَعَ السَّائِلُ أَيْضًا مِنْهُ بِذَلِكَ، دُونَ مُطَالَبَتِهِ بِإِيرَادِ لَفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا، فَتَرَكْنَاهَا» فَاكْتَفَى مِنْهُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ النَّهْيِ، دُونَ حِكَايَةِ لَفْظِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهِ، وَمِنْ نَحْوِهِ: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، حِينَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: السُّنَّةُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك " وَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ إضَافَتِهِ السُّنَّةَ إلَى النَّبِيِّ: إلَى حِكَايَةِ لَفْظِهِ أَوْ فِعْلِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي الصَّحَابِيِّ إذَا رَوَى خَبَرًا ثُمَّ عَمِلَ بِخِلَافِهِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْخَبَرُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى تَأْوِيلِ الصَّحَابِيِّ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَمْضَى الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ صَرْفِهِ إلَى مَا يُؤَوِّلُهُ الرَّاوِي. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَرْوِيَهُ ثُمَّ يَقُولَ بِخِلَافِهِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ. فَهَذَا يَدُلُّ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ نَسْخُ الْخَبَرِ، أَوْ عُقِلَ مِنْ ظَاهِرِ حَالِهِ: أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ النَّدْبَ، دُونَ الْإِيجَابِ. فَالْأَوَّلُ: نَحْوُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا» . وَالتَّفْرِيقُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَيَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ. وَكَانَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بِالْأَبْدَانِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْهُ، فَلَا يَقْضِي تَأْوِيلَهُ عَلَى مُرَادِ الْخَبَر. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: نَحْوُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فِي «غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا» . وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: مَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَ عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إلَّا أَنْ سَمِعْت النِّدَاءَ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 تَوَضَّأْت، فَقَالَ عُمَرُ: وَلِلْوُضُوءِ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْت: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْغُسْلِ» . فَأَخْبَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِالْغُسْلِ، ثُمَّ قَالَ هُوَ: إنَّ الْوُضُوء يُجْزِئُ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ بِالْغُسْلِ لَا يَحْتَمِلُ جَوَازَ الْوُضُوءِ. فَعَلِمْنَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ بِإِجْزَاءِ الْوُضُوءِ عَنْ الْغُسْلِ، إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فَحْوَى خِطَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ، وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ. وَنَحْوُهُ مَا رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ: " لَمْ يَرْفَعْهُمَا " وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ» . ثُمَّ رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّهُ: " صَلَّى خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ " فَدَلَّ تَرْكُهُمَا الرَّفْعَ بَعْدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى: أَنَّهُمَا قَدْ عَرَفَا نَسْخَ الْأَوَّلِ، لَوْلَاهُ لَمَا تَرَكَاهُ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُظَنَّ بِهِمَا مُخَالَفَةُ سُنَّةٍ رَوَيَاهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِلتَّأْوِيلِ. قَالَ عِيسَى: وَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ الْخَبَرِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إلَى غَيْرِهِ، فَالْعَمَلُ عَلَى الْخَبَرِ، دُونَ مَا رَوَى الصَّحَابِيُّ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَنَّهُ قَالَ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ " نَفَى رَجُلًا، فَلَحِقَ بِالرُّومِ. فَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 عُمَرُ: لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَحَدًا ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " كَفَى بِالتَّفْرِقَةِ فِتْنَةً " فَلَوْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا ثَابِتًا لَمَا تَرَكُوهُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا أَنْهَى عَنْهَا، إذَا صِرْت عَلَيْهَا. مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةِ الْحَجِّ ". قَالَ ابْنُ سِيرِينَ " هُمْ شَهِدُوا، وَهُمْ نَهَوْا عَنْهَا، فَمَا فِي رَأْيِهِمْ مَا يُرْغَبُ عَنْهُ، وَلَا فِي نَصِيحَتِهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 مَا يُتَّهَمُ ". وَمِنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَسَمَ خَيْبَرَ حِينَ افْتَتَحَهَا» وَفَتَحَ عُمَرُ السَّوَادَ فَلَمْ يَقْسِمْهُ، وَتَرَكَهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ: أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قِسْمَةِ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا، لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ بِالْمَدِينَةِ» . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " إنْ جَمَعَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ " وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَاهُ مُخَالِفُنَا ثَابِتًا - لَمَا خَفَى مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ يَصْحَبُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَفِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَسْخُ التَّطْبِيقِ، وَكَانَ يُطَبِّقُ بَعْدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، مَعَ قُرْبِ مَحَلِّهِ مِنْ النَّبِيِّ، وَمُلَازَمَتِهِ إيَّاهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّطْبِيقِ عَمْدًا، وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ لَفْظَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ عَلَى الرُّخْصَةِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ: " شَكَا إلَيْهِ مَشَقَّةَ التَّطْبِيقِ فَقَالَ: «اسْتَعِينُوا بِالرَّكْبِ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ: التَّرْخِيصُ، فَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ عِنْدَهُ: أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتٌ، فَاخْتَارَهُ، لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْمُصَلِّي. قَالَ عِيسَى: فَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الصَّحَابِيِّ: فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ: رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ طَوَافِ الصَّدْرِ» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " تُقِيمُ حَتَّى تَطْهُرَ فَتَطُوفَ ". وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَى عُمَرَ. فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ: أَمَرَ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ مِنْ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ» وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ: " لَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ "، وَمِثْلُهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، فَلَا يُعْتَرَضُ بِخِلَافِهِ عَلَى الْخَبَرِ، وَلَا يُوهِنُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " فِي الْحَجِّ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ، الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " فَهَذِهِ أُمُورٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ خَفَاءُ مِثْلِهَا عَلَى هَؤُلَاءِ، فَلَا تَقْدَحُ مُخَالَفَتُهُمْ فِيهَا فِي الْخَبَرِ، وَيُحْمَلُ أَمْرُهُ عَلَى: أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَدْ كَانَ بَلَغَهُمْ لَصَارُوا إلَيْهِ، وَتَرَكُوا رَأْيَهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي رَاوِي الْخَبَرِ كَيْفَ سَبِيلُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي رَاوِي الْخَبَرِ كَيْفَ سَبِيلُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ حَكَيْنَا عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّهُمَا كَانَا يُحَدِّثَانِ بِالْمَعَانِي، وَكَانَ غَيْرُهُمْ - مِنْهُمْ ابْنُ سِيرِينَ - يُحَدِّثُ بِاللَّفْظِ. وَالْأَحْوَطُ عِنْدَنَا إذًا اللَّفْظُ وَسِيَاقُهُ عَلَى وَجْهِهِ، دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَعْنَى، سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ. إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مِثْلَ: الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، فِي إتْقَانِهِمَا لِلْمَعَانِي وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي هِيَ وَفْقَهَا غَيْرُ فَاضِلَةٍ عَنْهَا، وَلَا مُقَصِّرَةٍ. وَهَذَا عِنْدَنَا إنَّمَا كَانَ يَفْعَلَانِهِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَيَكُونُ لِلْمَعْنَى عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَيُعَبِّرَانِ تَارَةً بِعِبَارَةٍ، وَتَارَةً بِغَيْرِهَا. فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّا لَا نَظُنُّ بِهِمَا: أَنَّهُمَا كَانَا يُغَيِّرَانِهِ إلَى لَفْظٍ غَيْرِهِ، مَعَ احْتِمَالِهِ لِمَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى لَفْظِ الْأَصْلِ، وَأَكْثَرُ فَسَادِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَتَنَاقُضِهَا وَاسْتِحَالَتِهَا إنَّمَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعَانِي، فَيُعَبِّرُ هُوَ بِلَفْظٍ غَيْرِهِ، وَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَيَفْسُدُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ نَقْلِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا. فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . فَأَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِنَقْلِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ لِيَعْتَبِرَهُ الْفُقَهَاءُ، وَيَحْمِلُوهُ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ] ِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَفْعَالُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْوَاقِعَةُ عَلَى قَصْدٍ مِنْهُ يَقْتَسِمُهَا وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ. وَاجِبٌ، وَنَدْبٌ، وَمُبَاحٌ، إلَّا مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ الْمَعْفُوَّةِ. فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِعْلٌ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ، عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهَا. فَقَالَ قَائِلُونَ: وَاجِبٌ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ وَاجِبٌ عَلَيْنَا فِعْلُهُ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهِ، وَلَنَا فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، إذْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى مَنَازِلِ أَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ آخَرُونَ: نَقِفُ فِيهِ، وَلَا نَفْعَلُهُ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا غَيْرِهَا، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا إذَا عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ: مِنْ الْإِبَاحَةِ، وَالنَّدْبِ وَالْإِيجَابِ. فَقَالَ قَائِلُونَ: عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ، وَإِيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: ظَاهِرُ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَلْزَمُنَا بِهِ شَيْءٌ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى لُزُومِهِ لَنَا، وَلَا أَحْفَظُ عَنْهُ الْجَوَابَ أَيْضًا، إذَا عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي مِنْ مَذْهَبِهِ، أَنَّهُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا فِعْلَ مِثْلِهِ - قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ} [النساء: 59] وَقَالَ تَعَالَى {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَلَمَّا أَمَرْنَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ وَاتِّبَاعُهُ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِأَنْ نُوقِعَ أَفْعَالَنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنَّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ عِبَارَةً عَنْ إرَادَتِهِ ذَلِكَ مِنَّا، وَلَا كَانَ فِي ظَاهِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ لَنَا فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ، مَعَ فَقْدِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يُرِيدُ ذَلِكَ مِنَّا، فَلَا يَكُونُ فِعْلُنَا لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ طَاعَةً، وَلَا اتِّبَاعًا لَهُ، وَلِأَنَّا مَتَى أَقْدَمْنَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْنَا بِأَنَّهُ مُرِيدٌ مِنَّا ذَلِكَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا إثْبَاتُ إرَادَتِهِ لِذَلِكَ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ، وَظُهُورُ فِعْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، أَوْ قَدْ يَفْعَلُ هُوَ فِي نَفْسِهِ فِعْلًا وَلَا يُرِيدُ مِنَّا مِثْلَهُ، فَإِذًا لَيْسَ وُجُودُ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَلَيْسَ ظُهُورُ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَظُهُورِ أَمْرِهِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى إرَادَتِهِ مِنَّا، لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ. فَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي إرَادَةَ الْمَأْمُورِ مِنَّا. فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مَا اسْتَدْلَلْت بِهِ مِنْ الْآيِ هُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِهِ عَلَيْنَا، لِأَنَّهُ حِينَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ، فَقَدْ أَمَرَنَا بِأَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، إذْ كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْ لَفْظِ الِاتِّبَاعِ، أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ. قِيلَ: لَا يَخْلُو شَرْطُ الِاتِّبَاعِ: مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعُ الْفِعْلِ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْقَعَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِإِرَادَتِهِ ذَلِكَ مِنَّا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُهُ مِنَّا، وَمَتَى فَعَلَهُ فِي صُورَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِهِ بِإِرَادَتِهِ إيَّاهُ مِنَّا، لَكُنَّا مُتَّبِعِينَ إذَا نَهَانَا عَنْهُ، وَفَعَلَهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، فَفَعَلْنَا مِثْلَ فِعْلِهِ لِوُجُودِ مِثْلِهِ فِي صُورَتِهِ مِنَّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكُنَّا مُطِيعِينَ لَهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مُتَّبِعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا لَهُ: فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا عَاصِيًا، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا عَلِمْنَا: أَنَّ شَرْطَ اتِّبَاعِهِ فِي فِعْلِهِ: أَنْ نُوقِعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَ عَلَيْهِ وَأَرَادَهُ مِنَّا، فَلَمَّا لَمْ يَكُ ظَاهِرُ فِعْلِهِ دَلَالَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إيقَاعُهُ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ، مَعَ فَقْدِ الْعِلْمِ مِنَّا بِالْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا: فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ ثُمَّ فَعَلْنَاهُ نَحْنُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ - لَمْ نَكُنْ مُتَّبِعِينَ لَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الِاتِّبَاعِ إيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ، وَمَتَى خَالَفْنَاهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ خَرَجْنَا مِنْ حَدِّ الِاتِّبَاعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَفَعَلَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ لَهُ وَالْمُضَاهَاةِ لِفِعْلِهِ قَاصِدًا الْمُعَارَضَةَ وَمُبَارَاتَهُ، لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْقَعَ فِعْلًا مِثْلَ فِعْلِهِ فِي الظَّاهِرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وَالْفِعْلُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ شَأْنِهِ وَطَرِيقَتِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تَضَمَّنَ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] . النَّهْيَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ: فِي شَأْنِهِ، وَطَرِيقَتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَحْوَالِهِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي هَذَا: أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأَمْرِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: افْعَلْ، وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ، إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْأَمْرِ لَا يَنْتَفِي عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، إذَا أُرِيدَ بِهِ إلْزَامُ الْفِعْلِ بِحَالٍ، وَيَنْتَفِي لَفْظُ الْأَمْرِ عَنْ الْفِعْلِ بِأَنْ يُقَالَ: الْفِعْلُ لَيْسَ بِأَمْرٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ، وَيَعْطِفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَقُولَ: فِعْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ - لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: لِكُلِّ فِعْلٍ أَمْرٌ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صَلَاتَنَا أَمْرٌ، وَقُعُودَنَا، وَأَكْلَنَا، وَشُرْبَنَا، أَمْرٌ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا: أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي فِي مُقَابَلَةِ الْأَمْرِ - وَهُوَ النَّهْيُ - إنَّمَا يَكُونُ قَوْلًا لَا فِعْلًا، فَكَذَلِكَ ضِدُّهُ، وَمَا فِي مُقَابَلَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلًا. وَأَيْضًا: فَلَوْ صَحَّ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ لَمَا كَانَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: (عَنْ أَمْرِهِ) رَاجِعٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، دُونَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ حُكْمَ الْكِنَايَةِ أَنْ تَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهَا، وَلَا تَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَلَمَّا كَانَ الَّذِي يَلِي الْكِنَايَةَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ قَالَ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] وَقَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ إلَى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ فِيهَا ضَمِيرَ الْوَاحِدِ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] . قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: أَيْ لَا تَدْعُوهُ كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بِأَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنْكُمْ: يَا مُحَمَّدُ، بَلْ يَدْعُوهُ بِأَنْبَهِ أَسْمَائِهِ وَأَشْرَفِهَا، فَيَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَيَا رَسُولَ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَمْتَنِعُ رُجُوعُ ضَمِيرِ الْكِنَايَةِ إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا} [الجمعة: 11] فَرَدَّ الضَّمِيرَ إلَى التِّجَارَةِ، وَقَدْ تَوَسَّطَهَا ذِكْرُ اللَّهْوِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْته، لِأَنَّ الْأَصْلَ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إلَى مَا يَلِيهَا، وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: (انْفَضُّوا إلَيْهَا) قَدْ عَادَ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ خَبَرٌ لَهُمَا جَمِيعًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَحَصَلَ قَوْلُهُ: (أَوْ لَهْوًا) مُنْفَرِدًا عَنْ خَبَرِهِ، فَيَبْطُلُ فَائِدَتُهُ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: أَوْ لَهْوًا، مُفْتَقِرًا إلَى خَبَرٍ، وَلَا خَبَرَ لَهُ غَيْرُ مَا فِي الْآيَةِ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: انْفَضُّوا إلَيْهَا خَبَرٌ لَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا خَصَّ التِّجَارَةَ بِالْكِنَايَةِ، لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ: أَنَّ تَفَرُّقَ النَّاسِ إلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاهِرُ فِعْلِهِ مُوجِبًا عَلَيْنَا فِعْلَ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَذَّرَ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ، وَمَتَى لَمْ يَعْلَمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مِنْ إيجَابٍ، أَوْ نَدْبٍ، أَوْ إبَاحَةٍ، ثُمَّ فَعَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ وَأَرَادَهُ مِنَّا فَإِنَّ ذَلِكَ إلَى مُخَالَفَتِهِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْمُتَابَعَةِ، وَلَيْسَ تَرْكُ الْمُخَالَفَةِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، فِي صُورَتِهِ، دُونَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى إرَادَتِهِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَهَاهُ عَنْ فِعْلِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ، وَإِنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 وَأَيْضًا: لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ، لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُرَادًا بِالْآيَةِ عِنْدَنَا، وَإِنْ رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ: أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ مُرَادٌ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ امْتَنَعَ دُخُولُ الْفِعْلِ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ. وَأَيْضًا: فَلَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ جَمِيعَ مَا ادَّعَوْهُ فِي الْآيَةِ: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا: طَرِيقَتُهُ، وَشَأْنُهُ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَمَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي إيجَابِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي لُزُومِ سَائِرِ أَفْعَالِهِ لَنَا، وَمَا لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ بَعْضِ أَفْعَالِهِ، فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ الْبَعْضُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ، وَلُزُومِ فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُجْمَلًا، مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهِ عَلَيْنَا. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ تَدُلُّ: عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَيْنَا، لِتَعَذُّرِ اتِّبَاعِهِ فِيهِ، عِنْدَ فَقْدِنَا الْعِلْمَ بِالْوَجْهِ الَّذِي أُوقِعَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً، وَمَتَى فَعَلْنَاهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ وَنَحْنُ لَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَاعَةٍ، فَلَا نَكُونُ مُتَّبِعِينَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] وَمَعْنَاهُ يَخَافُ اللَّهَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ قَالَ: لَكُمْ أَنْ تَتَأَسَّوْا بِهِ، وَهَذَا نَدْبٌ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ، وَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: كَانَ يَفْعَلُ كَذَا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، لَوْ قَالَ: عَلَيْك بِهِ، أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: عَلَيْكُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] مَعْنَاهُ عَلَيْهِمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 قِيلَ الْحَقِيقَةُ: مَا وَصَفْنَا، وَهَذَا مَجَازٌ، لَا يُصْرَفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الأحزاب: 21] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، أَبَانَ بِهِ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِالْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّ النَّدْبَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَعْنَى: يَخَافُ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ - غَلَطٌ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ غَيْرُ الْخَوْفِ فِي اللُّغَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: أَرْجُو الثَّوَابَ، وَلَا تَقُولُ: أَرْجُو الْعِقَابَ. وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَخَافُ الْعِقَابَ، وَقَالَ تَعَالَى: {ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] ، فَالرَّجَاءُ يَتَعَلَّق بِضِدِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَوْفُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِيقَةِ، وَصَرْفُهُ إلَى ضِدِّ مُوجِبِهِ. وَأَيْضًا: لَوْ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا دَلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ، لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّأَسِّي بِهِ، لِيَكُونَ فِعْلًا مُسَاوِيًا لِفِعْلِهِ فِي الْحُكْمِ، فَإِذَا لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ فَعَلْته أَنَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طَاعَةٌ، وَإِذَا فَعَلَهُ هُوَ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً وَفَعَلْته أَنَا عَلَى الْوُجُوبِ فَقَدْ خَالَفْته، وَمُخَالَفَتُهُ لَيْسَتْ بِطَاعَةٍ. وَأَيْضًا: فَلَمَّا كَانَ مَعْلُومًا تَعَذُّرُ التَّأَسِّي بِهِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لُزُومَ سَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، صَارَ مَا بَدَرَ إلَيْهِ مِنْ التَّأَسِّي بِهِ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضِ أَفْعَالِهِ، لِاسْتِحَالَةِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ. فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: لَكُمْ التَّأَسِّي بِهِ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ اللَّفْظِ فِي إثْبَاتِ الْوَجْهِ الَّذِي يَتَأَسَّى بِهِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] يَدُلُّ عَلَى: أَنَّ مَا فَعَلَهُ يَجِبُ عَلَيْنَا فِعْلُ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ مِمَّا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: (مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ) وَبَيْنَ لَوْ قَالَ: مَا أَتَى الرَّسُولُ بِهِ فَخُذُوهُ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: " مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ: مَا نَهَى عَنْهُ فَانْتَهُوا عَنْهُ. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (مَا آتَاكُمْ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَتَى بِهِ فَخُذُوهُ، بِقَصْرِ الْأَلِفِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (مَا آتَاكُمْ) بِمَعْنَى مَا أَعْطَاكُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي خِطَابَنَا بِهِ، وَإِرَادَتَهُ مِنَّا، وَمَا فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَدْ أَتَانَا فِي نَفْسِهِ أَفْعَالًا لَا يُرِيدُهَا مِنَّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر: 7] ، فَإِنَّ النَّهْيَ لَا يَكُونُ إلَّا خِطَابًا لَنَا، وَذَلِكَ فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر: 7] وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ: مَا نَهَانَا عَنْهُ، يُبَيِّنُ لَكُمْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ: أَتَى فُلَانٌ كَذَا: أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِعْلًا فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا قِيلَ: آتَى كَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، يَنْبَغِي إعْطَاءً، فَيَقْتَضِي مُعْطِيًا، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ فِيمَا وَصَفْنَا خِطَابَ الْغَيْرِ بِهِ، وَأَمَّا فِعْلٌ يَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا «خَلَعَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ خَلَعَ الْقَوْمُ نِعَالَهُمْ» ، فَدَلَّ: عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْوُجُوبِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قِيلَ لَهُ: هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مَقْرُونَةٍ بِدَلَالَةٍ، مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْوُجُوبَ؟ دُونَ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ؟ وَهَذَا الْخَبَرُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَذَلِكَ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا سَلَّمَ قَالَ لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ فَقَالُوا: رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا. فَقَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ بِهَا قَذَرًا» فَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَهُمْ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ فِيهِ - لَمَا كَانَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ خَلْعَهَا فِي الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةً، أَوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى اجْتَمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُمْ: خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ» فَدَلَّ عَلَى: أَنَّ مُدَاوَمَتَهُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ مُوجِبٌ لِلتَّأَسِّي بِهِ فِيهِ، لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ مَعْنًى. قِيلَ لَهُ: هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَلَامَنَا فِي ظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَمْ لَا؟ وَلَمْ نَتَكَلَّمْ فِي الْمُدَاوَمَةِ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهِمْ لَيْلَتَيْنِ، وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ: أَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِفِعْلِهِ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لَكَانَ قَدْ وَجَبَ بِأَوَّلِ لَيْلَةٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ لَوْ دَاوَمْت، فَأَخْبَرَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُكْتَبُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَتْ مُدَاوَمَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ لَقَالَ: لَوْ دَاوَمْت عَلَيْهَا لَوَجَبَتْ بِالْمُدَاوَمَةِ، وَكَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: " خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ فِي مِثْلِهِ: أَنَّهُ إذَا دَاوَمَ عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يُدَاوِمْ لَمْ تُكْتَبْ، فَكَانَ لُزُومُهُ لِلْفُرُوضِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ، كَمَا كَانَ لُزُومُ الْخَمْسِينَ صَلَاةً أَوْ الْخَمْسَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْرِيَ بِهِ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ: أَنَّ أَفْعَالَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَعْتَوِرُهَا مَعْنَيَانِ: الْأَخْذُ، وَالتَّرْكُ. فَلَمَّا كَانَ التَّرْكُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْفِعْلِ، كَانَ الْأَخْذُ مِثْلَهُ. وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْفِعْلِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِهِ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ التَّرْكِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِهِ فِي نَفْسِهِ: مِنْ وُجُوبٍ، أَوْ نَدْبٍ، أَوْ إبَاحَةٍ. فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَلَيْنَا بِوُجُودِهِ " مِنْهُ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ " فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ مُتَنَازِعَيْنِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ خَصْمَيْنِ بِالْقَضَاءِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ أَفْعَالِهِ بِمَثَابَتِهَا. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِعْلَهُ، فَهُوَ سُؤَالٌ سَاقِطٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّا لَا نَقُولُ: إنَّ وُرُودَ فِعْلِهِ مَوْرِدَ الْبَيَانِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إنَّ وُرُودَ فِعْلِهِ مَوْرِدَ الْبَيَانِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ إذَا كَانَ بَيَانًا لِلَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا لِمَا لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ فَلَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَنَحْوِهِ - فَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، فَلَزِمَنَا الِاقْتِدَاءُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنَّ مَا عَلِمْنَا وُجُوبَهُ عَلَيْهِ مِنْهَا فَوَاجِبٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 عَلَيْنَا فِعْلُهُ. وَالْكَلَامُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ - خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ. وَمِنْ الدَّلِيلِ أَنَّ ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ مِثْلِهِ عَلَيْنَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُنَا عُمُومَ مِثْلِ أَفْعَالِهِ، لِأَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا نَتَوَصَّلُ إلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مُلَازَمَتِهِ، وَتَرْكُ مُفَارَقَتِهِ، فَاسْتَحَالَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَكْلِيفُنَا عُمُومَ أَفْعَالِهِ، فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، فَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ وَاجِبًا لَاسْتَحَالَ أَنْ يُمَيِّزَ مَا هُوَ وَاجِبٌ مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، بِدَلَالَةِ غَيْرِ الْفِعْلِ، فَإِذًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِظَاهِرِ فِعْلِهِ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ مِثْلِهِ عَلَيْنَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ أَفْعَالُهُ وَاجِبَةً عَلَيْنَا حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، فَيَخْرُجُ عَلَى حَدِّ الْوُجُوبِ بِالدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُسَوِّغُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ جَمِيعِهِ، ثُمَّ يَرِدُ لَفْظٌ يَقْتَضِي لُزُومَ الْجَمِيعِ. فَيُقَالُ: إنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ، فَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ جَمِيعِهِ - فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّ جَمِيعَهُ وَاجِبٌ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ، وَعَلَى أَنَّك لَمْ تُعَضِّدْ هَذَا الْقَوْلَ بِدَلِيلٍ. وَلِخَصْمِك أَنْ يَقُولَ: إنَّ جَمِيعَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ مِثْلِهِ عَلَيْنَا. وَنُدَلِّلُ الْآنَ: عَلَى أَنَّا مَتَى وَقَفْنَا عَلَى حُكْمِ فِعْلِهِ: مِنْ إبَاحَةٍ، أَوْ نَدْبٍ، أَوْ إيجَابٍ، فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ، وَالتَّأَسِّي بِهِ فِيهِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وَالِاتِّبَاعُ: أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ، وَفِي حُكْمِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَاجِبًا، فَعَلْنَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِذَا فَعَلَهُ نَدْبًا، أَوْ مُبَاحًا، فَعَلْنَاهُ كَذَلِكَ، لِنَكُونَ قَدْ وَفَّيْنَا الِاتِّبَاعَ حَقَّهُ، وَفِيمَا يَقْتَضِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فَإِذَا عَلِمْنَاهُ فَعَلَ فِعْلًا عَلَى الْوُجُوبِ قُلْنَا: التَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا بِوُقُوفِنَا عَلَى جِهَةِ فِعْلِهِ، أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُ - لَمَا جَازَ لَنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ، عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ - لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَكَذَلِكَ مَا عَلِمْنَا مِنْ أَفْعَالِهِ: أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ. قُلْنَا: فَعَلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ صَارَ نَدْبًا لَمَا جَازَ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ، وَالتَّأَسِّي بِهِ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ، وَفِي حُكْمِهِ سَوَاءٌ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ فِعْلُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّأَسِّي بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِمَا وَصَفْنَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَقَلُوا فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ وَسَائِرَ أُمَّتِهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَفْرَدَهُ بِحُكْمِهِ، دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا عَقَلُوا: أَنَّ أَهْلَ سَائِرِ الْأَعْصَارِ بَعْدَ النَّبِيِّ فِي حُكْمِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَكَمَا عَقَلُوا: أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مِنْ حُكْمٍ، جَارٍ فِي سَائِرِ الْأُمَّةِ. فَإِنْ كَانَ حُكْمًا مُبْتَدَأً فَالْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِسَبَبٍ فَبِحُدُوثِ (السَّبَبِ) . فَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ وَالْمَفْهُومِ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَوَافَقُوا عَلَى نَقْلِ أَحْكَامِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمَحْكُومِ بِهَا فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ، إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ عَقَلُوا أَنَّهَا أَحْكَامٌ جَارِيَةٌ فِي جَمِيعِهِمْ، إلَّا مَنْ خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِيَكُونَ حُكْمًا جَارِيًا فِي أُمَّتِهِ، وَنَبَّهْنَا بِهِ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأُمَّتَهُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ، إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ: مِنْ نَحْوِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] إلَى قَوْله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 {خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] لَمَّا أَرَادَ إفْرَادَ النَّبِيِّ بِذَلِكَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخُصَّهُ لَعَقَلَتْ الْأُمَّةُ مُسَاوَاتَهَا لَهُ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: حَدِيثُ «الْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ حِينَ بَعَثَ بِهَا زَوْجُهَا إلَيْهَا لِتَسْأَلَهَا عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَأَخْبَرَتْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَسْت كَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِنَبِيِّهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَأَلَتْهُ، فَقَالَ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأُمِّ سَلَمَةَ: هَلَّا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَدْ أَخْبَرْتهَا بِذَلِكَ، فَقَالَ زَوْجُهَا: لَسْت كَالنَّبِيِّ، إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَالَ: إنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ» . فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّ وُجُودَ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ كَافِيًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِهِ عَنْ حُكْمِ نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاقِعًا عَلَى وَجْهِهِ كَانَ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ، فِي إيقَاعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ، قُلْنَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، إذْ كَانَتْ أَدْنَى مَنَازِلِ أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ بَدْءًا، وَلَا وَاجِبًا، لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ حُكْمٍ لَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ. فَإِنْ قِيلَ: شَرْطُ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ وَالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنْ يَكُونَ هُوَ فَعَلَهُ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا مِثْلَهُ. قِيلَ لَهُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَاتَّبِعُوهُ وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فَكَانَ الِاتِّبَاعُ وَالتَّأَسِّي: أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّا إيقَاعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَّا، بِإِرَادَةٍ مَقْرُونَةٍ بِفِعْلِ مِثْلِهِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ، مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا: لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ لَنَا الدَّلَائِلَ: عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحُكْمَ أُمَّتِهِ سَوَاءٌ، إلَّا فِيمَا خَصَّهُ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا: أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَنَكُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 بِذَلِكَ مُتَّبِعِينَ وَمُتَأَسِّينَ بِهِ، وَلَا نَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى: فِي أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ غَيْرَ مَا وَصَفْنَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا: أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنِّي إذَا لَمْ أَعْلَمْ وُقُوعَ فِعْلِهِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَقَفْت فِيهِ، وَلَمْ أَفْعَلْهُ، حَتَّى أَعْلَمَ حَقِيقَتَهُ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ، لِأَنِّي إذَا فَعَلْته عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُ فِيهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ، أَوْ الْوُجُوبِ. وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فِي قَوْلِهِ: أَقِفُ فِيهِ: مِنْ أَنْ يَمْنَعَ فِعْلَ مِثْلِهِ وَيَحْظُرَهُ، أَوْ يَقُولَ: إنِّي لَا أَمْنَعُهُ، وَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ، فَإِنْ حَظَرَهُ وَمَنَعَ مِنْهُ - فَقَدْ حَكَمَ بِحَظْرِهِ وَأَبْطَلَ الْوَقْفَ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ إذَا كَانَ حَاظِرًا لِمَا اسْتَبَاحَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِعْلَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَحْكُمُ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَلَا أَلُومُ فَاعِلَهُ. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا هُوَ الْإِبَاحَةُ الَّتِي أَنْكَرْتهَا، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بِالْوَقْفِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ وَجْهِهِ هُوَ نَفْسُ الْمُخَالَفَةِ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ فَعَلَهُ لَمْ يَقِفْ فِيهِ، فَالْقَوْلُ بِالْوَقْفِ فَاسِدٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: وَأَنْتَ إذَا فَعَلْته عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ فَلَسْت تَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ فَعَلَهُ نَدْبًا، أَوْ إيجَابًا، فَتَكُونَ قَدْ خَالَفْته. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَبَيَّنَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ مِنَّا الْحَاجَةَ إلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ: عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَجَازَ لَنَا فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَبَيَّنَهُ، فَإِذَا جَازَ أَنْ لَا يُبَيِّنَ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، جَازَ أَنْ لَا يُبَيِّنَ مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ وَالْإِيجَابِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَائِزٌ لَهُ أَنْ لَا يُبَيِّنَ الْمُبَاحَاتِ كُلَّهَا، إذْ لَيْسَ بِنَا حَاجَةٌ إلَيْهَا فِي دِينِنَا، إذْ لَا نَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهَا ثَوَابًا، وَلَا بِتَرْكِهَا عِقَابًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وَأَمَّا النَّدْبُ، وَالْوَاجِبُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ بَيَانُهُ، لِأَنَّ مِنَّا الْحَاجَةَ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ، لِنَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَلِئَلَّا نُوَاقِعَ الْمَحْظُورَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي التَّرْكِ، كَقَوْلِنَا فِي الْفِعْلِ، فَمَتَى رَأَيْنَا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ تَرَكَ فِعْلَ شَيْءٍ وَلَمْ نَدْرِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَرَكَهُ، قُلْنَا: تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِبَاحَةِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْنَا، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَنَا: أَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ التَّأَثُّمِ بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا تَرْكُهُ حِينَئِذٍ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ: عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ دُونَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 [بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَحْكَامِ أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَام] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُكْمِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنْ يَرِدَ فِعْلُهُ مَوْرِدَ بَيَانِ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي الْإِيجَابَ، أَوْ النَّدْبَ، أَوْ الْإِبَاحَةَ، فَيَكُونَ حُكْمُ فِعْلِهِ تَابِعًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ، فَإِنْ اقْتَضَتْ الْجُمْلَةُ الْإِيجَابَ كَانَ فِعْلُهُ وَاجِبًا، وَإِنْ اقْتَضَتْ النَّدْبَ كَانَ فِعْلُهُ نَدْبًا، وَكَذَلِكَ إنْ اقْتَضَتْ الْإِبَاحَةَ كَانَ فِعْلُهُ فِي ذَلِكَ مُبَاحًا، وَذَلِكَ: لِأَنَّهُ إذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا فَعَلَهُ، فَيَكُونُ تَابِعًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ، عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. فَأَمَّا وُقُوعُ الْبَيَانِ بِفِعْلِهِ فِيمَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَنَحْوُ فِعْلِهِ لِأَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، هُوَ بَيَانُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] وَفِعْلُهُ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ بَيَانُ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَفِعْلُهُ لِبَيَانِ جُمْلَةٍ يَقْتَضِي النَّدْبَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وقَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] وَلَيْسَ الْخَيْرُ كُلُّهُ حَتْمًا، وَلَا الْإِحْسَانُ وَاجِبًا فِيمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، مِنْ صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ، أَوْ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ، وَنَحْوِهِمَا، مَفْعُولٌ بِالْآيِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، إذَا لَمْ تَكُنْ الْجُمْلَةُ الَّتِي هَذَا بَيَانٌ عَنْهَا مُقْتَضِيَةً لِلْوُجُوبِ، وَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مِنْ اسْتِخْرَاجِ حَقٍّ مِنْ رَجُلٍ لِغَيْرِهِ، وَمِنْ عُقُوبَةِ رَجُلٍ عَلَى فِعْلٍ كَانَ مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] فَمَا وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وَمِنْ أَفْعَالِهِ مَا يُقَارِنُهُ أَمْرٌ مِنْهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ لُزُومَ فِعْلِهِ لَنَا، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَكَقَوْلِهِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلُهُ: «أَقِيمُونِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ» فَيَقْتَضِي هَذَا الْقَوْلُ لُزُومَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ، وَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِهِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي وُجُوبِ أَفْعَالِهِ فِيهَا، لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ عَلَى وَصْفٍ، وَهُوَ: أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا رَأَيْنَاهُ صَلَّى، فَنَحْتَاجُ أَنْ نَعْلَمَ كَيْفَ صَلَّى: مِنْ نَدْبٍ، أَوْ فَرْضٍ، فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْعَادَةِ: مِنْ نَحْوِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالنَّوْمِ، وَنَحْوِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ «كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ يَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيَخِيطُ الثَّوْبَ» فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَنْفَكُّ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَالْحَاجَةُ إلَى فِعْلِهَا ضَرُورَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيهَا، لِاسْتِحَالَةِ لُزُومِهِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَخَصْفُ النَّعْلِ، وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ، قَدْ عُلِمَ بِظَاهِرِ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إيجَابَهُ عَلَيْنَا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ يَرِدُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قُرْبَةً، مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ بِهِ مِنْ التَّوَاضُعِ، وَتَرْكِ الْكِبْرِ، وَمُسَاوَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الثَّوَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا فَعَلَهُ، أَوْ قَالَهُ، لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، وَيُدَاوَمَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سُنَنِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ جَادَّتُهُ الَّتِي يَكُونُ الْمُرُورُ فِيهَا. وَسُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهَيْنِ: قَوْلٌ وَفِعْلٌ. فَأَمَّا الْقَوْلُ: فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَائِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ: مِنْ حُكْمِ الْأَقْوَالِ، وَالْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا. وَالْفِعْلُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلٌ يَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيَدُلُّنَا عَلَى حُكْمِهِ، عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، لِنَفْعَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ. وَالثَّانِي: تَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَى فَاعِلٍ يَرَاهُ يَفْعَلُ فِعْلًا عَلَى وَجْهٍ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ مِنْهُ، فِي تَجْوِيزِ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَإِنْ رَآهُ يَفْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ رَآهُ يَفْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ نَدْبًا، وَكَذَلِكَ الْإِبَاحَةُ عَلَى هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُ أَنْ يُقِرَّ أَحَدًا عَلَى خِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا بَعَثَهُ دَاعِيًا إلَيْهِ، وَآمِرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، فَلَوْ كَانَ مَا رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فِعْلِ مَنْ شَاهَدَهُ مُنْكَرًا لَأَنْكَرَهُ، وَوَقَفَهُ عَلَى مَا يَجُوزُ مِنْهُ، مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي تَرْكِهِ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ وَصَفْنَا شَأْنَهُ، دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ إيقَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَحْكَامُ السُّنَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ، وَنَدْبٌ، وَلَيْسَ يَكَادُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ لَفْظُ السُّنَّةِ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ مَعْنَى السُّنَّةِ: أَنْ يَفْعَلَ، أَوْ يَقُولَ، لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، وَيُدَاوَمَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَقَّ بِهِ الثَّوَابُ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ. فَأَمَّا الْفَرْضُ: فَهُوَ مَا كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ. وَالْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَصَلَاةُ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْفَرْضَ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقُولَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْفَرْضِ قَدْ يُخَالِفُ مَعْنَى الْوَاجِبِ: أَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ الْفَرْضِ فِيمَا لَا يَمْتَنِعُ فِيهِ إطْلَاقُ الْوَاجِبِ، لِأَنَّا نُطْلِقُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ مُجَازَاةُ الْمُحْسِنِينَ، وَلَا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى الْفَرْضِ فِي الْأَصْلِ: هُوَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِالْجَزَاءِ الْوَاقِعِ فِي السُّنَّةِ وَنَحْوِهَا فَشِبْهُ مَا لَزِمَ وَثَبَتَ بِذَلِكَ الْأَثَرُ، وَالْوُجُوبُ فِي الْأَصْلِ هُوَ السُّقُوطُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] يَعْنِي سَقَطَتْ، وَيُقَالُ: وَجَبَتْ الشَّمْسُ إذَا سَقَطَتْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ وَاجِبِ يَعْنِي سَاقِطٍ، فَجَعَلَ مَا لَزِمَ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي سَقَطَ، وَيَثْبُتُ فِي الْمَوْضِعِ، فَكَانَ مَعْنَى الْفَرْضِ أَثْبَتَ مِنْهُ، لِأَنَّ هُنَاكَ أَثَرًا لَا يَزُولُ، وَالسَّاقِطُ فِي الْمَوْضِعِ فَقَدْ زَالَ عَنْ الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ يَحْصُلُ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الْفَرْضُ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أَثْبَتَ مِنْ الْوُجُوبِ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْفَرْضَ هُوَ مَا كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ اللُّزُومِ، وَالثُّبُوتِ. وَالْفَرْضُ، أَيْضًا التَّقْدِيرُ. مِنْهُ: فَرَائِضُ الْمَوَارِيثِ، وَفَرَائِضُ الْإِبِلِ فِي الصَّدَقَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ الَّذِي هُوَ اللُّزُومُ مِنْ هَذَا أَيْضًا، كَأَنَّهُ قُدِّرَ لَهُ شَيْءٌ مَنَعَ تَرْكَهُ، وَمُجَاوَزَتَهُ، إلَى غَيْرِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ هَلْ كَانَ يَسُنُّ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَانَ يَسُنُّ (مِنْ) طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ: - فَقَالَ قَائِلُونَ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْكُمُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . وَقَالَ آخَرُونَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ جُعِلَ لَهُ (أَنْ يَقُولَ) مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ سُنَّتِهِ وَحْيًا، وَبَعْضُهَا إلْهَامًا، وَشَيْءٌ يُلْقَى فِي رَوْعِهِ، كَمَا (قَالَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ فِي رَوْعِي: أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا يَقُولُهُ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا، وَتُرَدُّ الْحَوَادِثُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ النُّصُوصِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جُعِلَ لَهُ أَنْ يَقُولَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] عُمُومُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ جَمَاعَةِ الْمَرْدُودِ إلَيْهِمْ، وَفِيهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَجَلِّهِمْ وَيَدُلَّ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، ثُمَّ قَالَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ حَكَمَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَمَا خُصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فِيهَا دُونَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. وَيَدُلُّ عَلَيْهَا أَيْضًا: أَنَّ دَرَجَةَ الْمُسْتَنْبِطِينَ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ الْعُلُومِ، أَلَا تَرَى: أَنَّ الْمُسْتَنْبِطَ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ الْحَافِظِ غَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ، فَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَحْرِمَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْضَلَ دَرَجَاتِ الْعِلْمِ الَّتِي هِيَ دَرَجَةُ الِاسْتِنْبَاطِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَيْهِ: قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَلَا يَخْلُو الْمَعْنَى فِيهِ: مِنْ أَنْ يَكُونَ مُشَاوَرَتُهُ إيَّاهُمْ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَطَيُّبًا لِنُفُوسِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، فَأَمَرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيُقَرِّبَ وَجْهَ الرَّأْيِ فِيهِ، وَلِيَزْدَادَ (بَصِيرَةً فِي رَأْيِهِ إنْ) كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي أَنَّ فَرْضَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ (رَكَعَاتٍ) وَلَا فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَا فِي سَائِرِ مَا فِيهِ النُّصُوصُ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ يَكُونُ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ (فَلَغْوٌ سَاقِطٌ، لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا) أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي الْمَنْصُوصِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، عَلِمُوا أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَا فَائِدَةَ، ثَبَتَ الْوَجْهُ الثَّانِي. وَأَيْضًا: فَقَدْ شَاوَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَصْحَابَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، أَلَا تَرَى: «أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ النُّزُولَ دُونَ بَدْرٍ قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَرَأْيٌ رَأَيْته يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَمْ وَحْيٌ؟ فَقَالَ: بَلْ رَأْيٌ رَأَيْته. فَقَالَ: إنِّي أَرَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ فَفَعَلَ» «وَشَاوَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فِي أَسَارَى بَدْرٍ» . «وَرَأَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْخَنْدَقِ نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، فَكَتَبَ الْكِتَابَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ فِيهِ وَحَضَرَ الْأَنْصَارُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأْيٌ رَأَيْته؟ أَمْ وَحْيٌ؟ فَقَالَ: بَلْ رَأْيِي. فَقَالُوا: فَإِنَّا لَا نُعْطِيهِمْ شَيْئًا. وَكَانُوا لَا يَطْمَعُونَ فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهَا ثَمَرَةً إلَّا قِرًى، أَوْ مُشْرًى، فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ» ؟ «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ أَكَانَ يُفْطِرُك؟ فَكَذَلِكَ الْقُبْلَةُ» «وَقَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَتَقْضِيَنه أَكَانَ يُجْزِي؟ قَالَتْ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَلَمَّا «أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ بِمَا رَأَى فِي أَمْرِ الْأَذَانِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ الْوَحْيِ» ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ. فَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَجْتَهِدُ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ» ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ وَبَيْنَهُ فِي حَوَادِثِ الْأَحْكَامِ، (وَمِمَّا فَعَلَهُ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَاتَبَتَهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ} [التوبة: 43] وَقَالَ تَعَالَى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 2] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ إغْفَالِهِ، وَعَاتَبَهُ عَلَيْهِ) . وَمِمَّا لَمْ يُعَاتَبْ عَلَيْهِ وَأُمِرَ فِيهِ بِتَرْكِ اجْتِهَادِهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعَثَ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنْك إلَّا رَجُلٌ مِنْك، فَأَخَذَهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَدَفَعَهَا إلَى عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ» ، «وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ فَجَاءَ جَبْرَائِيلُ فَقَالَ لَهُ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا بَعْدُ، وَأَمَرَهُ بِالْمُضِيِّ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ» . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ خَطَأَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَكْلِ الشَّجَرَةِ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ (فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ جَازَ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ لِغَيْرِهِ) . مِنْ الصَّحَابَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 مُخَالَفَتُهُ، لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فَكُلُّ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِهِ، وَجَازَ لَهُ مُخَالَفَةُ غَيْرِهِ فِيهِ، وَفِي اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَهُ فِيمَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا وَحْيًا وَتَنْزِيلًا. قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ قَوْلًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَأَغْفَلَ مَوْضِعَ الصَّوَابِ نَبَّهَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَلِّيَهُ مَوْضِعَ إغْفَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ} [التوبة: 43] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] فَإِذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يُوَافِقُنَا: عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ يَثْبُتُ عِنْدَنَا ذَلِكَ أَيْضًا بِالدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ إذَا انْعَقَدَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُخَالِفَهُمْ، كَذَلِكَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَيَكُونُ لِاجْتِهَادِهِ مَزِيَّةٌ لَا يَحِقُّ مِنْ أَجْلِهَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُخَالِفَهُ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] فَإِنَّ فِيهِ جَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} [النجم: 1] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ مَعْنَاهُ الْقُرْآنُ إذَا نَزَلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَمَّا كَانَ مَصْدَرُهُ عَنْ الْوَحْيِ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِهِ، فَدَلَّ عَلَيْهِ - جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادٌ فَهُوَ عَنْ وَحْيٍ، لِأَنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ بِاسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَمَا تَوَقَّفَ فِي كَثِيرٍ (مِمَّا يُسْأَلُ) عَنْهُ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّهُ، جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَوَقُّفُهُ وَانْتِظَارُهُ لِلْوَحْيِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ، وَلَا غَلَبَةُ ظَنٍّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَتَوَقَّفَ فِيهِ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ يَقْوَى طَمَعُهُ فِي مِثْلِهِ: أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ فَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْحُكْمِ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ أُوحِيَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ، بِأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ الِاجْتِهَادَ إذَا سُئِلَ عَنْهُ وَيَنْتَظِرَ الْوَحْيَ فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ (مَجِيءِ) السَّمْعِ: - فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ الْوَاقِعَةِ عَنْ قَصْدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ فِي الْعَقْلِ: مُبَاحٌ، وَوَاجِبٌ، وَمَحْظُورٌ. فَالْمُبَاحُ: مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمُكَلَّفُ بِفِعْلِهِ ثَوَابًا، وَلَا بِتَرْكِهِ عِقَابًا. وَالْوَاجِبُ: مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ، وَبِتَرْكِهِ الْعِقَابَ. وَالْمَحْظُورُ: مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الْعِقَابَ، وَبِتَرْكِهِ الثَّوَابَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي (حُكْمِ) الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ. فَقَالَ قَائِلُونَ: هِيَ كُلُّهَا مُبَاحَةٌ، إلَّا مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ، أَوْ عَلَى وُجُوبِهِ. فَمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ: الْكُفْرُ، وَالظُّلْمُ، وَالْكَذِبُ، وَنَحْوُهَا، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَحْظُورَةٌ فِي الْعَقْلِ. وَمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى وُجُوبِهِ: التَّوْحِيدُ، وَشُكْرُ الْمُنْعِمِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مُبَاحٌ، قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِنَا مُبَاحٌ: أَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ ثَوَابًا، عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَدَا مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى وُجُوبِهِ مِنْ نَحْوِ: الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَنَحْوِهِمَا فَهُوَ مَحْظُورٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُقَالُ فِي الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ: إنَّهَا مُبَاحَةٌ (وَلَا يُقَالُ) : إنَّهَا مَحْظُورَةٌ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ تَقْتَضِي مُبِيحًا، وَالْحَظْرَ يَقْتَضِي حَاظِرًا، وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ: لَا تَبِعَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 عَلَى فَاعِلِ شَيْءٍ مِمَّا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ: مِنْ نَحْوِ الظُّلْمِ وَالْكُفْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَنَقُولُ: إنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ: ثَلَاثَةُ أَنْحَاءٍ. مِنْهَا: وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّغْيِيرُ (وَالتَّبْدِيلُ) نَحْوُ: الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَوُجُوبِ الْإِنْصَافِ. وَمِنْهَا: مَا هُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ، مَحْظُورٌ، لَا يَتَبَدَّلُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ، نَحْوُ: الْكُفْرِ، وَالظُّلْمِ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ. وَمِنْهَا مَا هُوَ ذُو جَوَازٍ فِي الْعَقْلِ: يَجُوزُ إبَاحَتُهُ تَارَةً، وَحَظْرُهُ أُخْرَى، وَإِيجَابُهُ أُخْرَى، عَلَى حَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ مَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ وَمَضَارِّهِمْ. فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهُوَ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ أَكْثَرَ مِمَّا يُجْتَلَبُ بِفِعْلِهِ مِنْ النَّفْعِ، وَيَجُوزُ مَجِيءُ السَّمْعِ تَارَةً بِحَظْرِهِ، وَتَارَةً بِإِبَاحَتِهِ، وَأُخْرَى بِإِيجَابِهِ، عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا وَصَفْنَا لِفَاعِلِهَا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ مَعَانٍ. إمَّا: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لَا لِيَنْفَعَ أَحَدًا، وَهَذَا عَبَثٌ وَسَفَهٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ، أَوْ يَكُونُ خَلَقَهَا لِيَضُرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ، وَهَذَا أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْمَنَافِعُ، وَ (لَا) الْمَضَارُّ. فَثَبَتَ أَنَّهُ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَأْتِي لَهُمْ ذَلِكَ مِنْهَا، مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ضَرَرٍ أَعْظَمَ مِمَّا يُجْتَلَبُ بِهِ مِنْ النَّفْعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَهَا لِيَسْتَدِلَّ بِهَا الْمُكَلَّفُونَ كَانَ لَهُمْ الِاسْتِدْلَال بِهَا، وَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ، كَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَأَتَّى لَهُمْ فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُمْ إتْيَانُهَا. دَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّا لَمَّا وَجَدْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْفُسَنَا دَلَائِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى حَظْرِهَا لَمَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِبَاحَتِهَا، لِأَنَّ مُوجِبَ دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْقَلِبُ، فَعَلِمْنَا: أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حَظْرِهَا. وَلَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً لَمَا أَخْلَاهَا مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ حَظْرَهَا، وَقُبْحَ مُوَاقَعَتِهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَأَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِيهَا، لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ فِعْلِهِ تَبِعَةٌ - فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَلِّيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ تَبِعَةً، لِيَنْتَهِيَ عَنْهُ، هَذَا حُكْمُ الْعَقْلِ، وَ (قَدْ) أَكَّدَ السَّمْعُ هَذَا الْمَعْنَى (بِقَوْلِهِ تَعَالَى) : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: 115] الْآيَةَ. فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا. أَوْ مَحْظُورَةً، أَوْ بَعْضُهَا مَحْظُورٌ، وَبَعْضُهَا مُبَاحٌ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: جَمِيعُهَا، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا عَلَى الْإِنْسَانِ: الْحَرَكَةُ، وَالسُّكُونُ، وَالْقِيَامُ، وَالْقُعُودُ، وَالِاضْطِجَاعُ، وَأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِأَنْ: يَخْلُوَ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا: أَنَّ بَعْضَهَا مُبَاحٌ، ثُمَّ الْبَعْضُ الْآخَرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا، فَلَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ الْمُبَاحِ، فَلَمَّا عَدِمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ: عَلِمْنَا أَنَّ الْبَعْضَ مُسَاوٍ لِلْمُبَاحِ (فِي بَابِ فَقْدِ الدَّلِيلِ عَلَى حَظْرِهِ وَمَا سَاوَى الْمُبَاحَ) فِي هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ مُبَاحٌ. فَثَبَتَ: أَنَّ الْجَمِيعَ مُبَاحٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وَأَيْضًا: فَإِنَّ فِي حَظْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَكْلِيفًا وَمَشَقَّةً تَدْخُلُ عَلَى النَّفْسِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِنْسَانِ إدْخَالُ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابِ نَفْعٍ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ يُوجِبُ ذَلِكَ، فَقَبُحَ إلْزَامُهُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْفَرْضِ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّمَسُّكِ بِمَا فِي الْمَعْقُولِ إيجَابُهُ، وَمِنْ أَجْلِهِ حَسُنَ إيجَابُهَا، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَلِّيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِهِ، إنْ كَانَ مَحْظُورًا. فَدَلَّ عَلَى (أَنَّ) مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ مِمَّا لَمْ يَرِدْ السَّمْعُ بِإِيجَابِهِ وَحَظْرِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي تَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ تَلَفَ النَّفْسِ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ إذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى نَفْعٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُعْلَمْ: أَنَّ لَهُ نَفْعًا فِي تَرْكِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْلُ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ، وَهِيَ: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُلْكُ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي عَقْلِ كُلِّ عَاقِلٍ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إلَّا بِإِذْنِهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورًا لِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ، نَحْوُ: أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ حَائِطِهِ، وَيَقْعُدَ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ، وَيُسْرِجَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ قَبِيحًا مِنْ أَجْلِ وُقُوعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ - عَلِمْنَا أَنَّ: الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَالْمُسْتَدِلُّ عَلَى حَظْرِ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْغَيْرِ، وَأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُخْطِئٌ. فَقَدْ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَنَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ حُكْمُ (انْتِفَاعُ الْوَاحِدِ) مِنَّا بِظِلِّ حَائِطِ غَيْرِهِ، وَبِضَوْءِ سِرَاجِهِ، وَالِاسْتِصْبَاحِ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الْمَالِكُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِانْتِفَاعِ الْمُنْتَفِعِ مِنَّا بِهَا، وَلَا ضَرَرَ يَلْحَقُنَا بِهَا أَعْظَمَ مِمَّا نَرْجُوهُ مِنْ النَّفْعِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْنَا فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 ضَرَرٌ فِي الدِّينِ لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تَوْقِيفٍ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَنَا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِيمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا لِأَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، كَمَا احْتَجْنَا نَحْنُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَنْفَعَ أَنْفُسَنَا بِضَرَرِ غَيْرِنَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نُوصِلَهُ بِهِ نَفْعًا أَعْظَمَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يُبِيحَهُ لِي (مَالِكُهُ) وَمَالِكُ الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرْته وَبَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا: أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إتْلَافَ مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّ حَائِطِ الْإِنْسَانِ وَالْقُعُودِ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ إتْلَافُ شَيْءٍ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: إتْلَافُهُ إيَّاهَا لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ مِلْكِ مَالِكِهَا (لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكٌ لَهَا) قَبْلَ الْإِتْلَافِ وَبَعْدَهُ، إذْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إعَادَتِهَا إلَى مَا كَانَتْ، فَلَمْ يَخْرُجْ بِالْإِتْلَافِ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْحَائِطُ وَالسِّرَاجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِانْتِفَاعِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى كَانَ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِظِلِّ حَائِطِهِ وَالْقُعُودِ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ هُوَ: أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ، وَلِهَذَا فِيهِ نَفْعٌ. فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ كَانَ لَهُ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى مَالِكِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ (حُكْمُهَا حُكْمَ) مَا وَصَفْنَا، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ جِهَةٍ: أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا إتْلَافًا، وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ، مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنِّي لَا أَقُولُ: إنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَلَا مَحْظُورَةٌ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ تَقْتَضِي مُبِيحًا، وَالْحَظْرَ يَقْتَضِي حَاظِرًا، فَإِنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ إطْلَاقَ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ (وَالْحَظْرِ) وَوَافَقَ فِي الْمَعْنَى، حِينَ قَالَ: لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهَا، لِأَنَّ هَذَا هُوَ صُورَةُ الْمُبَاحِ، إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ: إنَّهُ وَاجِبٌ، قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ، مِنْ نَحْوِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَوُجُوبِ الْإِنْصَافِ، (وَأَنْ لَا يَقُولَ: إنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَالظُّلْمَ وَالْكَذِبَ مَحْظُورٌ، قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَقْتَضِي مُوجِبًا، وَالْحَظْرَ يَقْتَضِي حَاظِرًا. فَإِنْ قَالَ: الْمُوجِبُ لِاعْتِقَادِ الْإِيمَانِ، وَالْحَاظِرُ لِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، الَّذِي أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: فَهَلَّا قُلْت مِثْلَهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ؟ لِأَنَّ الْمُبِيحَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي خَلَقَهَا) لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، ثُمَّ لَمْ يُقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى حَظْرِهَا. فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ مَا لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ مُبَاحًا، لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَشْيَاءُ مُبَاحَةً لِلْبَهَائِمِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالسَّاهِي. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا: إنَّ حَدَّ الْمُبَاحِ مَا لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ، وَيَكُونُ فِيمَا ذَكَرْت، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ، وَالسَّاهِي فِعْلُهُ غَيْرُ وَاقِعٍ عَنْ قَصْدِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ، ثُمَّ جَاءَ السَّمْعُ بِتَأْكِيدِ مَا كَانَ فِي الْعَقْلِ إبَاحَتُهُ، وَهُوَ: قَوْله تَعَالَى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] وَقَالَ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65] وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] وَقَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ. . .} [الأعراف: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} [النحل: 11] الْآيَةَ وَقَالَ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ. فِي آيٍ أُخَرَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ: حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ لَهَا رَحْمَةً لَكُمْ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ (مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ) وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَمَا إنِّي لَوْ قُلْت: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ، اُسْكُتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] » وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ السَّمْنِ وَالْفِرَاءِ وَالْجُبْنِ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 [بَابٌ الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ، لَا يَسَعُ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ خِلَافُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُلِّ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً، كَمَا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُ سَائِرِ الْأُمَمِ حُجَّةً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَعْرِفَةُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ. فَأَمَّا الْعَقْلُ: فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ مِنْ أُمَّتِنَا عَلَى خَطَأٍ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأُمَمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ فِي اللُّغَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا طَرَقَتْ إحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 يَعْنِي: هُمْ عُدُولٌ. فَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّةَ بِالْعَدَالَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ: قَبُولَ قَوْلِهَا، وَصِحَّةَ مَذْهَبِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، فَجَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، كَمَا جُعِلَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذِهِ الصِّفَةَ إلَّا وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ، وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ، كَمَا أَنَّهُ (لَمَّا) وَصَفَ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أَفَادَ بِهِ: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَشَهَادَتُهُ صَحِيحَةٌ. وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مَذْكُورٌ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] فَثَبَتَ: أَنَّهَا إذَا قَالَتْ قَوْلًا فِي الشَّرِيعَةِ لَزِمَ مَنْ بَعْدَهَا، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَوَاجِبٌ (عَلَى) هَذَا أَنْ يُحْكَمَ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ، بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَيُجْعَلَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةً. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحْكُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ (بِالْعَدَالَةِ فِي عَيْنِهِ) وَإِنَّمَا حَكَمَ بِهَا لِجَمَاعَةِ الْأُمَّةِ، وَأَفَادَ: أَنَّ جَمَاعَتَهَا تَشْتَمِلُ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا تَقُولُ إلَّا الْحَقَّ، فَيَكُونُ (قَوْلُهُمْ) حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. وَيَجُوزُ هَذَا الْإِطْلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ وَصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِيَالِهِ بِالْعَدَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] وَمَعْنَاهُ: أَنَّ قَوْمًا مِنْكُمْ قَالُوهُ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَتَلَهَا بَعْضُكُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] مَعْنَاهُ جَعَلْنَا مِنْكُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الْعَادَةِ أَيْضًا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: بَنُو هَاشِمٍ حُكَمَاءُ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فُقَهَاءُ، وَالْعَرَبُ (تُقْرِي الضَّيْفَ وَتَحْمِي الدِّيَارَ) وَتَمْنَعُ الْجَارَ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ: مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ جُمْلَةَ الْأُمَّةِ تَشْتَمِلُ عَلَى عُدُولٍ شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ؛ إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَهُمْ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّ إجْمَاعَهَا حُجَّةٌ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ اللَّهُ شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ إذَا شَهِدُوا لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الرَّسُولَ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ إخْبَارًا لِصِحَّةِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَزِمَهُمْ قَبُولُ قَوْلِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ شَهَادَةً صَحِيحَةً لَازِمَةً لِلْأُمَّةِ بِنَفْسِ الْقَوْلِ دُونَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ عَلَى يَدِهِ. وَكَذَلِكَ (الْأُمَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ) قَوْلُهَا حُجَّةً وَصِدْقًا إلَّا بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ: أَنَّهَا لَا تَقُولُ إلَّا الْحَقَّ، مِنْ غَيْرِ جِهَةِ وَصْفِهَا بِالشَّهَادَةِ. قِيلَ لَهُ: الَّذِي أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ: هُوَ الَّذِي حَكَمَ لِلْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ تَخْلُ الْأُمَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا قَدْ صَارَ حَقًّا وَصِدْقًا، بِدَلِيلٍ غَيْرِ قَوْلِهَا، وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ لَهَا بِذَلِكَ، وَشَهَادَتُهُ لَهَا بِهِ، وَلَوْ قَدْ جَازَ عَلَى الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا الْخُرُوجُ عَنْ صِفَةِ الْعَدَالَةِ وَصَارَتْ كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا - لَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ عُدُولًا وَشُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُكْمِهَا وَصِفَتِهَا. فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا عُدُولٌ لَا يَقُولُونَ إلَّا حَقًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَوْمًا نَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي إيجَابِ قَبُولِ شَهَادَتِهَا دَلَالَةٌ عَلَى حَقِيقَةِ صِدْقِهَا، لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ مِنَّا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَتِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقْطَعَ عَلَى غَيْبِهِمَا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ لَيْسَ فِي لُزُومِ قَبُولِ شَهَادَتِهَا حُكْمٌ بِصِدْقِهَا، وَلَا الْقَطْعُ عَلَى غَيْبِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنُصَّ لَنَا عَلَى (وُجُوبِ) قَبُولِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَلَمْ يَحْكُمْ لَهُمَا بِالْعَدَالَةِ، وَإِنَّمَا أَمَرَنَا فِي الْجُمْلَةِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ عُدُولٍ عِنْدَنَا، وَمَنْ فِي غَالِبِ ظَنِّنَا أَنَّهُمْ عُدُولٌ وَالظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَنَا الْقَطْعُ عَلَى غَيْبِهِمَا، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ لِشَاهِدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ - لَقَطَعْنَا عَلَى غَيْبِهِمَا، وَحَكَمْنَا بِصِدْقِهِمَا، وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ بَعْدَهَا، عَلَى مَعْنَى: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ (عَلَى) مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَمَتَى وَجَدْنَاهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى شَيْءٍ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْعُدُولَ الَّذِينَ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ قَدْ قَالَتْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهَا صِدْقٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْأُمَّةَ شُهَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَكُونُوا عُدُولًا، فَيَكُونُونَ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى: أَنَّهُمْ عُدُولٌ فِي الدُّنْيَا. قِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَدَحَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الدُّنْيَا مَا جَازَ أَنْ يُوصَفُوا بِهَا فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي الدُّنْيَا صِفَةَ مَدْحٍ وَثَوَابٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا فِي الْآخِرَةِ. وَأَيْضًا لَمَّا جَعَلَ لِلْأُمَّةِ فِي كَوْنِهَا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ كَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي (وَكَوْنِهِ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مُسْتَحِقًّا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا. وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْأُمَّةِ فِيمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْأُمَّةَ شُهَدَاءُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَتْ شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا - لَجَازَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَهَادَتِهِمَا. وَأَيْضًا: فَلَمَّا لَمْ يُخَصِّصْ وَصْفَهَا بِذَلِكَ حَالًا دُونَ حَالٍ اقْتَضَى عُمُومُ الْآيَةِ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَفِيهِمْ مَنْ عَبَدَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ. وَكَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ الْأُمَّةِ تَضْيِيعُ الشَّهَادَةِ، كَمَا جَازَ مِنْ بَعْضِ مَنْ خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ تَرْكُهَا. قِيلَ لَهُ: لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي الْأُمَّةِ - لَجَازَ فِي الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِثْلُهُ، فَلَمَّا كَانَ وَصْفُهُ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى قَبُولَ شَهَادَتِهِ، وَلُزُومَ قَوْلِهِ، كَانَتْ الْأُمَّةُ مِثْلَهُ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ - لَمْ يَجُزْ فِي الْأُمَّةِ مِثْلُهُ، وَفَارَقَ الْعِبَادَةَ مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ بِالشَّهَادَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ (لَمَّا) وَصَفَ الْأُمَّةَ بِالْعَدَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فَجَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ بَعْدَ (وَصْفِهِ إيَّاهُمْ) بِالْعَدَالَةِ. فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْوَصْفُ لَهُمْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِذَلِكَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24] يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ إرَادَتِهِ خَلْقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ وُقُوعِ الْحُكْمِ لَهُمْ بِالْعِبَادَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَسْتَشْهِدْهُمْ (عَلَى النَّاسِ) إلَّا وَقَوْلُهُمْ مَقْبُولٌ، وَشَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَشْهِدَ مَنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ عَبَثٌ، وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فَإِنَّهُ إخْبَارٌ أَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا لِخَلْقِهِ إيَّاهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ، لِيَسْتَحِقُّوا بِهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ تَرَكُوهَا هُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 وَأَيْضًا: لَمَّا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ عَبَدَ. وَوِزَانُ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْأُمَّةِ (أَنْ يَكُونَ) فِيهِ عُدُولٌ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ، غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الْآيَةَ فَقَدْ أَوْجَبَ بِهِ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَظَرَ مُخَالَفَتَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] (وَفِي هَذَا) وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِاتِّبَاعِهِمْ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ، وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا وَصَوَابًا، ثُمَّ أَكَّدَ بِإِلْحَاقِهِ بِتَارِكِ اتِّبَاعِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أُلْحِقَ الذَّمُّ بِتَارِكِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إذَا شَاقَّ الرَّسُولَ مَعَ ذَلِكَ (لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ) {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ بِالْأَمْرَيْنِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ، دُونَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ؟ . قِيلَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِعْلٌ مَذْمُومٌ - لَمَا قَرَنَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ، فَلَمَّا قَرَنَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَأُلْحِقَ الذَّمُّ بِفَاعِلِهِ - دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ فِعْلٌ مَذْمُومٌ عَلَى الِانْفِرَادِ لَمَا جَمَعَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَمَّهُ عَلَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الذَّمَّ لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ إذَا شَاقَّ الرَّسُولَ مَعَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 {وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] قَدْ دَلَّ (عَلَى) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَذْمُومٌ عَلَى حِيَالِهِ، يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ، وَإِنْ جَمَعَهَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] سَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَنْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً، وَبَيْنَ مَنْ اتَّخَذَهَا مِنْ دُونِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَدَلَّ عَلَى (أَنَّ مُخَالِفَ الْمُؤْمِنِينَ تَارِكٌ لِلْحَقِّ) كَمُخَالِفِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} [آل عمران: 110] فَشَهِدَ لِلْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْخِصَالِ، وَلَوْ جَازَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ لَمَا كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا - عَلَى الْمُنْكَرِ، وَتَرَكُوا الْمَعْرُوفَ، وَقَدْ أَمَّنَنَا اللَّهُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، بِوَصْفِهِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْمَعْنَى وَصْفُهُ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان: 15] وَفِي الْأُمَّةِ لَا مَحَالَةَ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُ جَمَاعَتِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مُنِيبِينَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: قَوْله تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] وقَوْله تَعَالَى: {وتُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} [آل عمران: 110] . فَإِنْ قِيلَ: فَأَوْجَبَ اتِّبَاعَ الْوَاحِدِ إذَا أَنَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ لَهُ: لَا يُعْلَمُ فِي الْوَاحِدِ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا حَكَمَ لَهُ بِهَا مِنْ جِهَةِ الظَّاهِر، فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا جُمْلَةُ الْأُمَّةِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ. فَإِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ الْمُنِيبِينَ الَّذِينَ فِيهَا قَدْ قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ - فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ. ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ: الْأَخْبَارُ الَّتِي قَدْ ثَبَتَ وُرُودُهَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ مِنْ جِهَاتٍ: جِهَاتٍ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى صِدْقٍ بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَهَادَتِهِ لِلْأُمَّةِ بِصِحَّةِ إجْمَاعِهَا، وَلُزُومِ اتِّبَاعِهَا. مِنْهَا: «خُطْبَةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْجَابِيَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. قَالَ فِيهَا: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقِيَامِي فِيكُمْ، فَقَالَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ، حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَيَحْلِفَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ، فَمَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 قَالَ: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ» وَأَنَّهُ قَالَ: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي، ثُمَّ لَمْ يَزِدْ فِيهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالْمُنَاصَحَةُ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا يَعْصِمُنِي مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامُهُمْ» فَهَذِهِ أَخْبَارٌ ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ، قَدْ وَرَدَتْ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا وَهْمًا أَوْ كَذِبًا، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرِ، وَقَدْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ شَائِعَةٌ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ: يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي لُزُومِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَيَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهَا، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ، وَلَا رَدُّهُ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ قَدْ رَوَاهَا جَمَاعَةٌ وَوَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِ طُرُقِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 وَكَثْرَةِ رِوَايَتِهَا مُتَوَافِقَةٌ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِ التَّوَاتُرِ إذَا أَخْبَرَتْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ أَمْرٍ شَاهَدُوهُ، فَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقِ نَحْوِ قَافِلَةِ الْحَجِّ إذَا انْصَرَفَتْ فَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ حَجَّ، أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ عَلَى خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا (ذَكَرَهُ) وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ قَدْ رَوَوْهُ بِحَضْرَةِ جَمَاعَاتٍ وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ بِحَضْرَتِهِمْ تَوْقِيفٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُمْ عَلَى لُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ. فَدَلَّ (صِحَّتُهُ عَلَى صِحَّةِ) مَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِهِ فِي الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ الْخَطَأُ فِي اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ لَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمْ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا كَانَ أَسْوَدَ فَجَمِيعُهُمْ سُودٌ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنْسَانًا فَجَمِيعُهُمْ نَاسٌ، فَكَذَلِكَ إذَا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ الضَّلَالُ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَبَيْنَ مَنْ (لَا) يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَنَجَا مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ - لَجَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْن قَادِرٍ وَقَادِرٍ (فَيَصِيرَانِ) عَاجِزَيْنِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ بَصِيرٍ وَبَصِيرٍ (فَيَصِيرَانِ) أَعْمَيَيْنِ. قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْقَاعِدَةُ خَطَأٌ لَا يُوَافِقُك عَلَيْهَا الْخَصْمُ (لِأَنَّهُ يَقُولُ لَك: إنِّي) إنَّمَا أُجَوِّزُ الْخَطَأَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ فِي حَالٍ لَا يُطَابِقُهُ الْبَاقُونَ عَلَى الْخَطَأِ. فَأَمَّا مَعَ مُطَابَقَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 الْآخَرِينَ (فَإِنِّي لَا) أُجَوِّزُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْخَطَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَيَصِيرُ الْكَلَامُ بَيْنَكُمَا فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ وَيَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُنْتَقَضَةٌ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ أَنَّ حَجَرًا لَا يَرْفَعُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَشَرَةِ رِجَالٍ إنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا أَنْ لَا يَجُوزَ مِنْهُمْ رَفْعُهُ، وَإِنْ كَانَ لُقْمَةً مِنْ خُبْزٍ إذَا كَانَتْ بِانْفِرَادِهَا لَا تُشْبِعُ وَجَبَ أَلَّا تُشْبِعَ، وَإِنْ أَكَلَ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ. وَإِنْ كَانَ جَرْعَةً مِنْ الْمَاءِ إذَا لَمْ تَرْوِ يَجِبُ أَنْ لَا تَرْوِيَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ (مَاءٍ) وَهَذَا فَاسِدٌ. وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِمَّنْ يَقُولُ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ لِلتَّوَاتُرِ حُكْمًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْبِرَيْنِ إذَا كَانَ خَبَرُهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّا لَمْ نُثْبِتْ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ جَوَازُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خَطَأٍ إلَّا أَنَّ السَّمْعَ مَنَعَ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ» وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ: اللَّهُ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى (جَوَازِ) اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الضَّلَالِ، وَرُجُوعِهَا عَنْ الْإِسْلَامِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُهُ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ» ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْرَارَ تَكْثُرُ فِيهِمْ فَجَازَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْغَالِبَ الْأَشْرَارُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَالِحُونَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إذَا جَاءَتْ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ زَالَ التَّكْلِيفُ وَقَبَضَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ حُجَّةٌ، (وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا) أَبُو الْحَسَنِ، وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: الْفِقْهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ (مَا فِي الْقُرْآنِ) وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ (مُتَوَاتِرٌ) . عَنْ رَسُولِ اللَّه (مَشْهُورٌ) ، وَمَا أَشْبَهَهَا، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا أَشْبَهَهُ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَذَكَرَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَجَعَلَهُ أَصْلًا وَحُجَّةً، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَذَكَرَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَمَا أَشْبَهَهُ، (وَإِنَّمَا عَنَى: أَنَّ الصَّحَابَةَ) إذَا اخْتَلَفَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ جَمِيعِ أَقَاوِيلهمْ وَيَبْتَدِعَ قَوْلًا لَمْ يَقُلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ (صِحَّةَ) إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ: أَنَّ الْآيَ الَّتِي قَدَّمْنَا ذَكَرَهَا مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَهِيَ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ كَهِيَ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] عَامٌّ فِي أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ قَدْ انْتَظَمَ: أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمْ عِنْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا كَانَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاهِدًا عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان: 15] وقَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَوْلٌ عَامٌّ فِي أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ (وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ) . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ الَّتِي يَتَنَاوَلُ ظَاهِرُهَا جَمِيعَ الْأُمَّةِ. أَوْ يُقَالُ هِيَ: مَخْصُوصَةٌ فِي الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِطَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى سَائِرِ النَّاسِ وَإِلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْآيُ الَّتِي تَلَوْتهَا فِي إيجَابِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَعْقُولِ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ فِي تَنَاوُلِهَا أَهْلَ سَائِرِ الْأَعْصَارِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُخَصَّ بِهَا الصَّحَابَةُ - لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ دُونَ طَائِفَةٍ وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ. فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، وَأَنَّ (إجْمَاعَ) أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 بَعْدَهُمْ، وَجَمِيعُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ يُوجِبُ صِحَّةَ إجْمَاعِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، لِأَنَّهُ لَا يُخَصِّصُ فِي أَمْرِهِ إيَّانَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةً مِنْ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، بَلْ عَمَّ سَائِرَ الْجَمَاعَاتِ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ» لِأَنَّ قَوْلَهُ: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ» لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ. أَوْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ أَهْلَ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ. وَأَنَّهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لَمْ يَكُونُوا عَلَى ضَلَالٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِضَمِّ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إلَيْهِمْ فِي نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى ضَلَالٍ مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ، عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ: أَنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ اجْتِمَاعٌ عَلَى ضَلَالٍ. وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا بِلَا دَلَالَةٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ» قَدْ نَفَى بِهِ أَنْ يَضِلَّ كُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ بِضَلَالٍ وَاحِدٍ. وَنَفَى بِهِ أَيْضًا أَنْ يَضِلُّوا، كُلُّهُمْ، بِأَنْ يَضِلَّ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِضَرْبٍ مِنْ الضَّلَالِ غَيْرِ ضَلَالَةِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى. هَذَا كُلُّهُ مُنْتَفٍ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ» وَإِفَادَتُهُ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ لَا تَزَالُ مُتَمَسِّكَةً بِالْحَقِّ إلَى وَقْتِ حُدُوثِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ لَكُمْ الْقَوْلُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا (اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ لَهُمْ، وَإِذَا اجْتَمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ) وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَكُنْ مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ فِي لُزُومِ صِحَّتِهِ لَهُ وَلِأَهْلِ عَصْرِهِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَهُوَ تَابِعِيٌّ قَدْ أَدْرَكَ فِيمَا يَحْكِي (أَرْبَعَةً) مِنْ الصَّحَابَةِ: أَنَسًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى، وَآخَرَ قَدْ ذَهَبَ عَلَيَّ اسْمُهُ، فَجَازَ لَهُ مُزَاحَمَةُ التَّابِعِينَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِيمَا قَبْلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ بَعْدَ سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا لَحِقَ أَيَّامَهُمْ وَهُوَ مِنْ " أَهْلِ " الْفُتْيَا جَازَ لَهُ مُخَالَفَتُهُمْ وَالْقَوْلُ مَعَهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 [بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَا يَكُونُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ] ُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَيَكُونُ عَنْ اسْتِخْرَاجِ فَهْمِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ، فَمِنْهُ مَا عُلِمَ وَجْهُ التَّوْقِيفِ فِيهِ. وَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ، لِعَدَمِ النَّقْلِ فِيهِ، وَيَكُونُ أَيْضًا عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ. فَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الَّذِي عَلِمْنَا كَوْنَهُ عَنْ تَوْقِيفٍ، فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ، وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا صَدَرَ إجْمَاعُهُمْ عَنْ التَّوْقِيفِ الْمَذْكُورِ فِيهَا. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْآيِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى حُكْمِهَا. وَمِنْهُ مَا هُوَ عَنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ مَا وَرَدَ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي أَخْبَارِ الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ، فَمِمَّا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ: رَجْمُ الْمُحْصَنِ. اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 عَلَيْهِ، إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ، وَلَيْسُوا عِنْدَنَا بِخِلَافٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَالَفَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ. وَمِمَّا وَرَدَ مِنْ التَّوْقِيفِ مِنْ طَرِيقِ الْأَفْرَادِ وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَعْنَاهُ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي إحْدَى الْيَدَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي إحْدَى الرِّجْلَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فِي إحْدَى الْعَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ، وَأَنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» «وَمَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ. وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ الْإِجْمَاعَاتِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا مَعَهَا تَوْقِيفٌ قَدْ كَانَتْ صَدَرَتْ لَهُ عَنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، تَرَكَ النَّاسُ نَقْلَهُ، اكْتِفَاءً بِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ، وَفَقْدِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الْوَاقِعُ عَنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ نَعْلَمُهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ لِمَعْنَى التَّوْقِيفِ وَاتِّبَاعِ الْبَاقِينَ إيَّاهُ، فِي نَحْوِ مَا رُوِيَ (أَنَّ بِلَالًا وَنَفَرًا مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ كَانُوا سَأَلُوا عُمَرَ قِسْمَةَ السَّوَادِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَرَاجَعُوهُ فِيهِ مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ يَوْمًا: قَدْ وَجَدْت فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] إلَى قَوْله تَعَالَى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] إلَى أَنْ قَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] ثُمَّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَقَالَ: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ، فَقَدْ جَعَلَ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِيهِ الْحَقَّ، وَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، وَلَوْ قَسَمْت السَّوَادَ بَيْنَكُمْ لَتَدَاوَلَهُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْكُمْ، وَبَقِيَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ) فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ عَرَفُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 صِحَّةَ احْتِجَاجِهِ بِهَا، وَإِبَانَتِهِ عَنْ مَوْضِعِ الدَّلَالَةِ مِنْهَا، عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، فَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ، وَتَابَعُوهُ عَلَى رَأْيِهِ. وَنَحْوُ إجْمَاعِهِمْ: عَلَى أَنَّ عَمَّةَ الْأَبِ وَخَالَتَهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عَمَّةُ أُمِّهِ وَخَالَتُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْمَنْصُوصِ فِي تَحْرِيمِهِ: الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ، ثُمَّ كَانَتْ أُمُّ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي التَّحْرِيمِ، كَذَلِكَ عَمَّةُ الْأَبِ وَخَالَتُهُ بِمَنْزِلَةِ عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ، وَنَحْوُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلصَّحَابَةِ حِينَ خَالَفُوهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ: لَأُقَاتِلَن مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» . فَقَالَ: إنَّمَا قَالَ: عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَهَذَا مِنْ حَقِّهَا فَعَرَفَ الْجَمِيعُ صِحَّةَ اسْتِخْرَاجِهِ لِمَعْنَى التَّوْقِيفِ، (وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ وَرَدَ فِيهِ، وَلَا اسْتِخْرَاجِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ) فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ كَانَ تَوْقِيفًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادًا، نَحْوُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّتَيْنِ: أُمِّ الْأُمِّ، وَأُمِّ الْأَبِ، إذَا اجْتَمَعَتَا السُّدُسَ، وَأَنَّ لِبِنْتِ الِابْنِ نِصْفَ الْمِيرَاث إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدُ الصُّلْبِ. وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى تَأْجِيلِ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَالْأَغْلَبُ مِنْ أَمْرِهِ: أَنَّهُ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَكَذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ: عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ عَلَى نِصْفٍ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَأَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ: كَالْوِلَادَةِ وَنَحْوِهَا. وَمِمَّا عَلِمْنَا وُقُوعَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ: حَدُّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ فَقَالَ عَلِيٌّ: " إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْفِرْيَةِ ثَمَانُونَ " وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (مَا أَحَدٌ أُقِيمُ عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 حَدًّا) فَيَمُوتُ مِنْهُ فَأَدِيَهُ (لِأَنَّ الْحَقَّ قَتَلَهُ) إلَّا حَدُّ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ وَضَعْنَاهُ بِآرَائِنَا) فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسَاتِ، فَإِنْ كَانَ الصَّحَابَةُ قَدْ اتَّفَقَتْ عَلَى إثْبَاتِ حَدِّ الْخَمْرِ قِيَاسًا فَهَذَا إبْطَالٌ لِأَصْلِكُمْ فِي نَفْيِكُمْ إثْبَاتَ الْحُدُودِ قِيَاسًا. قِيلَ لَهُ: الَّذِي نَمْنَعُهُ وَنَأْبَاهُ مِنْ ذَلِكَ: هُوَ أَنْ نَبْتَدِئَ إيجَابَ حَدٍّ بِقِيَاسٍ، فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ قَدْ وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، فَيُتَحَرَّى فِيهِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَاسْتِعْمَالُ اجْتِهَادِ السَّلَفِ فِي حَدِّ الْخَمْرِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ ضَرَبَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ» . وَرُوِيَ: أَنَّهُ (ضَرَبَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ بِنَعْلِهِ ضَرْبَتَيْنِ إنَّمَا تَحَرَّوْا فِي) اجْتِهَادِهِمْ مُوَافَقَةَ أَمْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَجَعَلُوهُ ثَمَانِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَنَقَلُوا ضَرْبَهُ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ إلَى السَّوْطِ، كَمَا يَجْتَهِدُ الْجَلَّادُ فِي الضَّرْبِ، وَكَمَا يَخْتَارُ السَّوْطَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْجَلْدِ اجْتِهَادًا، فَالِاجْتِهَادُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَائِعٌ فِيمَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا (عَلَيْهِ) هُوَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ - فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ، فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إثْبَاتَ الْقِيَاسِ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا قَوْلَ السَّلَفِ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهِ، وَعِلْمَهُمْ بِالْآثَارِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ، وَطَرِيقُهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَزَعِ إلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَ فَقْدِ النُّصُوصِ، فَتَهَوَّرُوا فِي إقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ تَبِعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ الَّذِينَ لَا نَبَاهَةَ لَهُمْ، وَلَا رَوِيَّةَ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ، وَلَا يُؤْنَسُ بِوِفَاقِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا صَدَرَ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ وَمُنَازَعَةٌ، عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ فِي قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْمَنَازِلِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمْ إذَا تَشَاوَرُوا فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الرَّأْيَ وَالِاجْتِهَادَ وَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا فَإِذَا وَجَدْنَاهُمْ مُتَّفِقِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ كَانَ مِنْهُمْ تَقَدُّمًا (فَقَدْ عَلِمْنَا) : أَنَّ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ الْحُكْمِ ظَاهِرًا جَلِيًّا لَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى اسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ، فَيَنْوُوا فِي هِمَمِهِمْ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ، وَيَسْبِقُ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَيَحْتَجُّ بِهِ فَيَتْبَعُهُ الْبَاقُونَ، فَلَا يَحْصُلُ هُنَاكَ خِلَافٌ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ رَأْيًا، وَمَصْدَرُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ الْحُكْمِ غَامِضًا خَفِيًّا فِي الِابْتِدَاءِ، فَيَخْتَلِفُونَ، ثُمَّ يَتَجَلَّى لِلْجَمِيعِ بِاسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ، وَكَثْرَةِ الْخَوْضِ، فَيُصْدِرُونَ عَنْ اتِّفَاقٍ، ثُمَّ لَا يُنْقَلُ إلَيْنَا مَعَ ذَلِكَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ قَدْ أَغْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَنَقْلُ الْخِلَافِ وَالْمُنَازَعَةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ جَازَ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ عَنْ اجْتِهَادٍ وَلَا يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ إلَّا حَقًّا وَصَوَابًا لَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْلَى مَرْتَبَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 وَالدَّلِيلُ (عَلَى) ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَاتَبَهُ فِي أَسَارَى بَدْرٍ، وَأَنْزَلَ {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ} [التوبة: 43] وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَازَ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْخَطَأِ عَلَى الْأُمَّةِ فِيمَا نَقُولُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَجَبْت عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ اجْتِهَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقَعُ فِيهِ خَطَأٌ، لِأَنَّ مَعَاصِيَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلَوْ كَانَتْ صَغَائِرَ - مَغْفُورَةٌ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهَا فِي شَيْءٍ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ، وَيَلْزَمُهُمْ فِيهِ الِاتِّبَاعُ وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ ظَهَرَتْ مَعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - (لِلنَّاسِ) لَكَانَ فِيهِ تَنْفِيرٌ عَنْ الطَّاعَةِ، وَإِيحَاشٌ عَنْ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ إلَى صِحَّةِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ: إنَّا نَقُولُ: إنَّ اجْتِهَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ، وَلَا نَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ مُجْتَمِعَةً، كَمَا نَقُولُ: إنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ، لَا أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَوَاتِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا مُجْتَمِعَةً، وَكَمَا نَقُولُ: فُلَانٌ أَقْوَى مِنْ إخْوَةِ فُلَانٍ وَهُمْ عَشْرَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى] الْإِجْمَاعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، لِحَاجَةِ الْجَمِيعِ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ إجْمَاعِهِمْ: (عَلَى) أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعٌ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحِجِّ الْبَيْتِ، وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَتَحْرِيمِ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَنَحْوِهِنَّ، فَهَذَا إجْمَاعٌ قَدْ تَسَاوَى الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِيهِ. وَالْإِجْمَاعُ الْآخَرُ: مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَاصَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ، لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ، إذْ لَيْسَ بَلْوَاهَا بِهِ عَامَّةً. وَذَلِكَ كَنَحْوِ: فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ، وَمَا يَجِبُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مِنْ الْحَقِّ، وَتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْأَخِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، مِمَّا لَمْ يَكْثُرْ بَلْوَى الْعَامَّةِ بِهِ، فَعَرَفَتْهُ الْخَاصَّةُ، وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ: مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ إجْمَاعِهِ مُعْتَبَرًا، بِأَنْ نَعْرِفَ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، أَوْ أَنْ يَظْهَرَ الْقَوْلُ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَيَنْتَشِرَ فِي كَافَّتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ خِلَافٍ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَكِيرَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ مَوْقُوفَةً عَلَى وُجُودِ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِوِفَاقِ الْآخَرِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرْطَ الْإِجْمَاعِ لَمَا صَحَّ إجْمَاعٌ أَبَدًا، إذْ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَحْكِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ قَوْلَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ انْعَقَدَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى شَيْءٍ، إنْ شِئْت مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شِئْت مِمَّنْ بَعْدَهُمْ. فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا صِحَّةُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ (بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَامْتَنَعَ وُجُودُ الْإِجْمَاعِ) بِإِثْبَاتِ قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَسْأَلَةٍ، عَلِمْنَا: أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ. أَلَا تَرَى إلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ: بِأَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكِيَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهِ، إلَّا مَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ (مِنْ تَحْرِيمِهِنَّ) وَتَرْكِ الْبَاقِينَ الْخِلَافَ فِيهِ. فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ. انْتِشَارُ الْقَوْلِ (عَمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ) مَعَ سَمَاعِ الْبَاقِينَ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي تَرْكِ النَّكِيرِ وَعَدَمِ إظْهَارِ الْخِلَافِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوِفَاقِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتْرُكُوا (النَّكِيرَ) مَهَابَةً، أَوْ تَقِيَّةً، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ. فَإِذًا لَيْسَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، كَمَا رُوِيَ: " أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الصَّحَابَةَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا يَدْعُوهَا، فَفَزِعَتْ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَالُوا: إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ، وَلَمْ تُرِدْ إلَّا الْخَيْرَ وَمَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا، وَعَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ أَبَا الْحَسَنِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: إنْ كَانَ هَذَا جَهْدَ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَإِنْ كَانُوا قَارَبُوك فَقَدْ غَشُّوك، أَرَى عَلَيْك الدِّيَةَ. فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَنْتَ صَدَقْتنِي) " فَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ سَاكِتًا مُضْمِرًا لِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ سُلُوكُهُ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عُمَرُ أَيْضًا بِسُكُوتِهِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ. ذَكَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ (ذَكَرَ) مَسْأَلَةَ الْعَدْلِ، وَاحْتَجَّ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 بِأَنَّ مَنْ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضٍ إلَى فَرْضٍ فَفَرْضُهُ قَائِمٌ، وَمَنْ كَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ (فَرْضٍ) لَا إلَى فَرْضٍ أَدْخَلْت النُّقْصَانَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقُلْت: هَلَّا ذَكَرْته لِعُمَرَ؟ فَقَالَ: إنَّهُ كَانَ أَمِيرًا مَهِيبًا، فَأَخْبَرَ: أَنَّ مَهَابَتَهُ كَانَتْ مَانِعَةً لَهُ مِنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قِصَّةُ عُمَرَ فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْت. مِنْ قِبَلِ: أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَسْكُتْ إلَى أَنْ أَبْرَمُوا الْأَمْرَ وَفَرَغُوا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا سَكَتَ لِيَنْظُرَ فِي جَوَابِ الْقَوْمِ ثُمَّ لَمَّا أَجَابَ الْقَوْمُ، أَقْبَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَأَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلِيٌّ بِشَيْءٍ، وَعَسَى (لَوْ) قَدْ كَانَ عُمَرُ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ قَوْلَهُمْ، أَوْ أَنْ يَقِفَ فِي الْحُكْمِ، أَنْ يُخْبِرَهُ وَلَا يَسْكُتَ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَجْعَلُ تَرْكَ إظْهَارِ الْخِلَافِ حُجَّةً إذَا نُشِرَتْ الْمَقَالَةُ، وَظَهَرَتْ، وَاسْتَمَرَّ الْقَائِلُونَ بِهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ لَا يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا خِلَافٌ، فَأَمَّا مَا دَامُوا فِي مَجْلِسِ التَّشَاوُرِ وَالِارْتِيَاءِ فِيهَا فَجَائِزٌ - أَنْ يَكُونَ السَّاكِتُ نَاظِرًا فِي الْمَسْأَلَةِ، مُرَوِّيًا فِيهَا، لَمْ يَتَّجِهْ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ، فَإِذَا اسْتَمَرَّتْ الْأَيَّامُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْ خِلَافًا مَعَ الْعِنَايَةِ مِنْهُمْ بِأَمْرِ الدِّينِ وَحِرَاسَةِ الْأَحْكَامِ، عَلِمْنَا (أَنَّهُمْ إنَّمَا) لَمْ يُظْهِرُوا الْخِلَافَ لِأَنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَهُمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ كَانَ يُظْهِرُ هَذَا الْخِلَافَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّمَا مَنَعَتْهُ مَهَابَةُ عُمَرَ مِنْ مُحَاجَّتِهِ، كَمَا يَهَابُ الْأَحْدَاثُ ذَوِي الْأَسْنَانِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمْنَعُهُ مَهَابَةُ عُمَرَ مِنْ الْخِلَافِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُقَدِّمُهُ وَيَسْأَلُهُ مَعَ سَائِرِ مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ فَضْلِ فِطْنَتِهِ، وَنَفَاذِ بَصِيرَتِهِ، وَكَانَ يَمْدَحُهُ وَيَقُولُ: غُصْ يَا غَوَّاصُ، وَيَقُولُ: شَنْشَنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ. يَعْنِي شَبَّهَهُ بِالْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ وَدَهَائِهِ. وَمَتَى كَانَ النَّاسُ فِي تَقِيَّةٍ مِنْ عُمَرَ فِي إظْهَارِ الْخِلَافِ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ؟ وَهُوَ قَدْ كَانَ يَسْتَدْعِي مِنْهُمْ الْكَلَامَ فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ كَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكْتَفِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ بِتَرْكِ النَّاسِ النَّكِيرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «أَقَصُرَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ. فَحِينَئِذٍ أَتَمَّ الصَّلَاةَ» . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ (فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ، لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ) فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إظْهَارُ النَّكِيرِ عَلَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، فَلَيْسَ إذَنْ فِي سُكُوتِ الْقَوْمِ وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى الْقَائِلِينَ فِي الْحَادِثَةِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ عَلَى الِانْفِرَادِ يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجَامِعَهُ إظْهَارُ الْخِلَافِ، وَعَامَّةُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ هَذَا سَبِيلُهَا، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إنَّ تَرْكَهُمْ لِإِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ مَعَ انْتِشَارِ الْقَوْلِ وَاسْتِمْرَارِ الْأَيَّامِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ. فَأَمَّا قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ: فَإِنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ تَرَكُوا مُخَالَفَتَهُ وَلَمْ يُظْهِرُوا النَّكِيرَ عَلَيْهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَلَعَلَّ عِيسَى إنَّمَا، أَرَادَ: أَنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ لَا تَعْتَرِضُ عَلَى مَا قُلْنَا فِي الْإِجْمَاعِ، مِنْ قِبَلِ: أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ لَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِيبَهُ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْقَوْلِ خِلَافٌ عَلَيْهِ أَوْ وِفَاقٌ لَهُ: (أَحَقٌّ مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ) ، لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الْقَوْمِ، هَلْ هُمْ تَارِكُونَ لِلنَّكِيرِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَيَسْتَدِلُّ بِتَرْكِهِمْ الْخِلَافَ عَلَيْهِ، عَلَى صِحَّةِ خَبَرِهِ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الِاسْتِفْهَامَ بِالْقَوْلِ، وَقَدْ قُلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ: إنَّ تَرْكَ إظْهَارِ الْخِلَافِ إنَّمَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ إذَا انْتَشَرَ الْقَوْلُ، وَظَهَرَ، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْقَاتٌ يُعْلَمُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَأَظْهَرَ الْخِلَافَ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَى غَيْرِ مَقَالَتِهِ. إذْ كَانَ قَدْ اسْتَوْعَبَ مُدَّةَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ. وَأَمَّا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِنْكَارُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ فَهُوَ صَحِيحٌ. وَلَمْ نَجْعَلْ نَحْنُ تَرْكَ النَّكِيرِ حُجَّةً فِي الْإِجْمَاعِ دُونَ تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ، بَعْدَمَا مَضَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 وَقْتُ ظُهُورِ الْقَوْلِ وَانْتِشَارِهِ مُدَّةً لَوْ كَانَ هُنَاكَ قَائِلٌ بِخِلَافِهِ لَكَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مُدَّةَ نَظَرِهِ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى قَوْلٍ يَقُولُ بِهِ إنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ، فَإِذْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ فِي الْقَوْلِ الَّذِي قَدْ اسْتَفَاضَ وَظَهَرَ مِنْ بَعْضِ الْأُمَّةِ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ وَمَا عَلَيْهِ طَبَائِعُ النَّاسِ إذَا تَشَاوَرُوا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَقَالَ فِيهِ أَعْلَامُهُمْ وَأُولُو الْأَلْبَابِ مِنْهُمْ قَوْلًا وَسَكَتَ الْبَاقُونَ، أَنَّ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمُوَافَقَةً لِلْقَائِلِينَ بِهِ (وَأَنَّهُ) لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَهُمْ لِأَظْهَرَ الْخِلَافَ إذَا كَانَ ذَلِكَ (أَمْرًا) يُهِمُّهُمْ وَيَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ دِينًا تُضِيفُهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَدَّاهُمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ فَهُوَ أَوْلَى، بِأَنْ يَكُونَ تَرْكُهُمْ إظْهَارًا لِخِلَافٍ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَفَاوُتِ طَبَائِعِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَوَانَى هِمَّتُهُمْ عَلَى تَرْكِ إظْهَارِ خِلَافٍ هُمْ لَهُ مُضْمِرُونَ، كَمَا أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ إنَّ الْإِمَامَ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ (إنْسَانٌ) بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْضُرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْجَامِعَ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِذَلِكَ أَنْ يَتْرُكُوا إظْهَارَ النَّكِيرِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ عَلَى السُّكُوتِ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ: أَنَّ السَّلَفَ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ: أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَهُمْ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِمْ، فَيُضْمِرُ خِلَافَهُمْ وَيُسِرُّهُ، وَلَا يُظْهِرُهُ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ: أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إجْمَاعٌ تَلْزَمُ حُجَّتُهُ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 بَعْدِهِمْ. فَوَجَبَ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْقَوْلِ وَانْتِشَارِهِ: دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ. وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْإِجْمَاعُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَمَا صَحَّ إجْمَاعٌ أَبَدًا، إذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ يُضَافَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِقَوْلٍ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ: عَلَى (أَنَّهَا قَدْ قَالَتْهُ وَلَفَظَتْ بِهِ) وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِيهِ عَلَى ظُهُورِ الْقَوْلِ فِيهِمْ، مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ لَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ: الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ وَيَنْقَطِعُ بِهِ الْعُذْرُ: هُوَ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَمَوْضِعِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ: هُوَ الشَّهْرُ التَّاسِعُ، مِنْ ذَلِكَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَا عَدَا هَذَا فَلَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ بِإِيجَابِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْت: أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ، هَلْ لَقِيت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَسْلَافِهِمْ وَأَخْلَافِهِمْ فَأَخْبَرُوك (بِذَلِكَ) ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. أَكْذَبَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَإِنْ قَالَ: لَا. قِيلَ لَهُ: فَلِمَ قَضَيْت بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ عَلِمْته إلَّا مِنْ حَيْثُ اسْتَفَاضَ ذَلِكَ مِنْ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ؟ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَهَلَّا جَعَلْت هَذَا عِيَارًا فِي أَمْثَالِهِ، مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ وَيَنْتَشِرْ؟ ثُمَّ لَا يُوجَدُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ خِلَافٌ فِيهِ فَنُثْبِتُهُ إجْمَاعًا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 [بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَنْ يَنْعَقِدُ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ] ُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا نَعْرِفُ عَنْ أَصْحَابِنَا كَلَامًا فِي تَفْصِيلِ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ، وَكَيْفَ صِفَتُهُمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا بِاتِّفَاقِ فِرَقِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، مَنْ كَانَ مُحِقًّا، أَوْ مُبْتَدِعًا ضَالًّا، بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّلَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الضَّلَالِ، لِأَنَّ الْحَقَّ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ. وَإِنَّمَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ: إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ، الَّذِينَ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُمْ، وَلَا ضَلَالُهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ لِمَنْ أَلْزَمَنَا قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ مِنْ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فَجَعَلَ الشُّهَدَاءَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 النَّاسِ وَالْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَالُوهُ، وَشَهِدُوا بِهِ، الَّذِينَ وَصَفَهُمْ أَنَّهُمْ وَسَطٌ، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ، وَقَدْ قِيلَ: الْوَسَطُ الْخِيَارُ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] يَعْنِي خَيْرُهُمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْعَدْلَ الْخِيَارُ، وَالْخِيَارَ الْعَدْلُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الِاعْتِدَادِ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وَقَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] . فَأَلْزَمَنَا اتِّبَاعَ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ، وَالِاقْتِدَاءَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَبِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ. وَأَهْلُ الضَّلَالِ وَالْفِسْقِ بِخِلَافِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُمْ، وَمَتَى أَجْمَعَتْ فِرَقُ الْأُمَّةِ كُلِّهَا عَلَى أَمْرٍ، عَلِمْنَا: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، دُونَ (أَهْلِ) الضَّلَالِ وَالْفَاسِقِينَ. فَدَلَّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِمْ، إذْ كَانُوا لَوْ وَافَقُوهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّبَعِينَ وَلَا مُقْتَدًى بِهِمْ. وَلَا كَانَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ: أَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي قَدْ شَمِلَهَا الْوَصْفُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَدَالَةِ، وَلُزُومِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَجْلِ مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ الْأَصْلِ. لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ، وَسَائِرِ فِرَقِ الضَّلَالَةِ، لِمَا قَدْ ثَبَتَ مِنْ ضَلَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَمِمَّا يُوجِبُ أَيْضًا أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي الْإِجْمَاعِ: أَنَّ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّمْعِ. وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْأُصُولَ السَّمْعِيَّةَ لَمْ يَصِلْ إلَى عِلْمِ فُرُوعِهَا. وَالْخَوَارِجُ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ قَدْ أَكْفَرَتْ السَّلَفَ الَّذِينَ نَقَلُوا الدِّينَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 أَخْبَارَهُمْ وَنَقْلَهُمْ لَهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ عُدِمَ الْعِلْمَ بِهَا، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلَا الِاخْتِلَافِ، لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِأُصُولِ الشَّرْعِ الَّتِي عَلَيْهَا مَبْنَى فُرُوعِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ كُنْت لَا تَعْتَدُّ بِمَنْ ثَبَتَ ضَلَالُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا تَعُدُّ خِلَافَهُ خِلَافًا لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ ضَلَالِهِ وَفِسْقِهِ، فَاَلَّذِي يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: أَنْ لَا تَعْتَدَّ بِخِلَافِ (مَنْ ثَبَتَ) فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ فِسْقُهُ لَا يَكُونُ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مِمَّنْ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ، وَأَنَابَ إلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُ، وَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهُوَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا فُتْيَاهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ تُجَوِّزُونَ عَلَى هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي انْعَقَدَ بِهَا الْإِجْمَاعُ: الِانْتِقَالَ عَنْ حَالِ الْعَدَالَةِ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ؟ قِيلَ لَهُ: مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِي لُزُومِ قَوْلِهِمْ امْتَنَعَ خُرُوجُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ إلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، لَمَّا كَانَ حُجَّةً عَلَى أُمَّتِهِمْ، لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِمْ التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ وَالِانْتِقَالُ عَنْ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا؟ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، إذَا قَامَ غَيْرُهُمْ بَدَلًا مِنْهُمْ، لِئَلَّا تَخْلُوَ الْأُمَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِيمَانِ، قَائِمُونَ بِحُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّتِي هِيَ الْإِجْمَاعُ، وَجَعَلُوا انْتِقَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَخْلُو فِي الْحَالَيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شُهَدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَعْرِفُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَرْتَضِ بِطُرُقِ الْمَقَايِيسِ وَوُجُوهِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ: كَدَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَالْكَرَابِيسِيِّ، وَأَضْرَابِهِمَا مِنْ السُّخَفَاءِ (الْجُهَّالِ) ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا كَتَبُوا شَيْئًا مِنْ الْحَدِيثِ، وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِوُجُوهِ النَّظَرِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ وَالْحَوَادِثِ إلَى الْأُصُولِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، لِجَهْلِهِ بِبِنَاءِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُصُولِهَا مِنْ النُّصُوصِ، وَقَدْ كَانَ دَاوُد يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ، وَمَشْهُورٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (بَلْ عَلَى الْعُقُولِ) ، وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِنَا دَلَائِلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى تَوْحِيدِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَبَرِ، وَلَمْ يَدْرِ الْجَاهِلُ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ صِحَّةِ خَبَرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِهِ وَخَبَرِ مُسَيْلِمَةَ وَسَائِرِ الْمُتَنَبِّئِينَ وَالْعِلْمِ بِكَذِبِهِمْ إنَّمَا هُوَ الْعَقْلُ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ، وَالْأَعْلَامِ وَالدَّلَائِلِ، الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْرِفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَمَنْ كَانَ هَذَا مِقْدَارَ عَقْلِهِ وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؟ وَمِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ؟ وَهُوَ مُعْتَرِفٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إنِّي مَا أَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الدَّلَائِلِ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، فَهُوَ أَجْهَلُ مِنْ الْعَامِّيِّ، وَأَسْقَطَ مِنْ الْبَهِيمَةِ، فَمِثْلُهُ لَا يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ إذَا قَالُوا قَوْلًا يُخَالِفُهُمْ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ. وَنَقُولُ أَيْضًا: فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أُصُولَ السَّمْعِ وَطُرُقَ الِاجْتِهَادِ (وَ) الْمَقَايِيسِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 الْفِقْهِيَّةِ: إنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَا حَظٍّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، (وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ، لِأَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ) لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ السَّمْعِيَّةِ، فَمَنْ كَانَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفْنَا مِنْ فَقْدِ الْعِلْمِ بِأُصُولِ السَّمْعِ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَا حَظٍّ فِي عُلُومٍ أُخَرَ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذَا الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْأُصُولَ وَرَدَّ الْفُرُوعِ إلَيْهَا، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خِلَافًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِقْدَارِ مَنْ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ جَمَاعَةٍ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ اعْتِقَادِهِمْ، وَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى صِدْقٍ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ هَذِهِ صِفَتُهَا عَلَى قَوْلٍ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَثْبُتُ بِهِ، ثُمَّ خَالَفَ عَلَيْهَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ أَنْ يُظْهِرُوا خِلَافَ مَا يَعْتَقِدُونَ، وَلَا نَعْلَمُ يَقِينًا: أَنَّ خَبَرَهُمْ فِيمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى صِدْقٍ، لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ، إذَا أَظْهَرَتْ الْجَمَاعَةُ إنْكَارَ قَوْلِهِمْ، وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُمْ خِلَافًا، وَإِنْ سَوَّغَتْ الْجَمَاعَةُ لِلنَّفَرِ الْيَسِيرِ خِلَافَهَا وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، لَمْ يَكُنْ مَا قَالَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ إجْمَاعًا، وَإِنْ خَالَفَتْ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ جَمَاعَةٌ مِثْلُهَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا فِي مَجْرَى الْعَادَةِ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا وَصْفُ اعْتِقَادِهَا إلَّا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي عَيْنِهِ: أَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْأَخْبَارِ، إنَّ مِثْلَ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَخْبَرَتْ عَنْ اعْتِقَادِهَا لِلْإِسْلَامِ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ فِيهَا مُسْلِمِينَ. كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالرُّومَ إذَا أَخْبَرُوا عَنْ اعْتِقَادِهِمْ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُهَا. فَاخْتَلَفَتْ الْجَمَاعَتَانِ اللَّتَانِ وَصْفُهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا قَالُوا، أَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِقَوْلِ إحْدَى الْجَمَاعَتَيْنِ إجْمَاعٌ، إذَا لَمْ يَكُنْ يَثْبُتُ ضَلَالُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَنَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إذَا خَالَفَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي وَصَفْتُمْ حَالَهَا الْعَدَدُ الْيَسِيرُ وَإِنْ كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وَاحِدًا، كَانَ خِلَافُهُ عَلَيْهَا خِلَافًا صَحِيحًا، وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ خِلَافِهِ إجْمَاعٌ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَمَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْقَوْلُ الْأَمْرَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ دُونَ الْوَاحِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ: إذَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ شَيْئًا وَقَالَ الْوَاحِدُ خِلَافَهُ. وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ - لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ الْوَاحِدَ مُنْفَرِدًا عَنْ الْجَمَاعَةِ مَعْنًى، فَلَوْ وَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ مِثْلِهِ فِيمَا لَمْ تُسَوِّغْ الْجَمَاعَةُ فِيهِ خِلَافَهَا، لَمَا انْعَقَدَ إجْمَاعٌ أَبَدًا عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّ الْقَوْلَ إذَا انْتَشَرَ وَظَهَرَ فِي أَهْلِ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّا نُجَوِّزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ، أَوْ بَلَغَتْهُمْ فَلَمْ يُظْهِرُوا الْخِلَافَ، لِأَنَّ مِثْلَهُ جَائِزٌ مِنْ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْعَدَدِ الْيَسِيرِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ الْجَمَاعَاتِ الْمُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ. فَإِذَا كَانَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ إظْهَارَهُمْ لِهَذَا الْخِلَافِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ إجْمَاعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا حَالَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَسَرَّ الْخِلَافَ وَلَمْ يُظْهِرْ، أَوْ لَا يَكُونُ حُجَّةً، فَإِنْ كَانَ حُجَّةً لَهُ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِنْ أَظْهَرَ الْخِلَافَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ إجْمَاعٌ أَصْلًا، لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ: بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ قَدْ وَافَقَ الْجَمَاعَةَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَضِلَّ الْقَائِلُ بِهِ، أَوْ يَكُونَ مُخْطِئًا فِيهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا: أَنْ يَكُونَ الْجَمَاعَةُ فِي حَيِّزِ الضَّلَالِ أَوْ الْخَطَأِ، وَالْوَاحِدُ فِي حَيِّزِ الصَّوَابِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ حُجَّةً، لِوُقُوعِ الصَّوَابِ فِي خَبَرِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْقَطْعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ (بِأَنَّهُ) مِمَّنْ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ مِنْهُ، عَلِمْنَا: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي قَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ دُونَ الْجَمَاعَةِ. وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ تَرْتَدَّ الْجَمَاعَةُ وَيَبْقَى الْوَاحِدُ عَلَى الْإِيمَانِ. وَلَوْ جَازَ وُقُوعُ هَذَا بَطَلَتْ الشَّرِيعَةُ لِعَدَمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فِي نَقْلِهَا. وَلَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْبَاقِي مَحْكُومًا لَهُ بِاسْتِوَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَلَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ بِأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ فِي الْإِجْمَاعِ. وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ لَا يَرْتَكِبُهُ ذُو بَصِيرَةٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّفَرَ الْيَسِيرَ يَجُوزُ (أَنْ يَكُونَ) بَاطِنُهُمْ خِلَافَ ظَاهِرِهِمْ، وَأَنْ (لَا) يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْإِيمَانِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَجَائِزٌ أَيْضًا: أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا صِحَّةَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي يُخَالِفُونَ بِهَا عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ: بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ، وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا: أَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ فِي صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ، وَكَمَا تَعْلَمُ يَقِينًا: أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ بِهِ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فَوَجَبَ اتِّبَاعُ مَنْ عُلِمَ الْحَقُّ فِي حَيِّزِهِ وَنَاحِيَتِهِ، دُونَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالضَّلَالُ مِنْهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ دَلَالَةً مِمَّا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: فِي إثْبَاتِ خِلَافِ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ الْجَمَاعَةُ. قِيلَ لَهُ: لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ: عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اخْتَلَفَتْ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِمْ تَقْلِيدُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ بِلَا نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، فَصَارَ شَرْطُ مُسَاعَدَةِ الدَّلِيلِ لِقَوْلِهِ مُضْمِرًا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ، وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ: عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا قَالَتْ قَوْلًا وَانْفَرَدَ عَنْهَا الْوَاحِدُ وَالنَّفَرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 الْيَسِيرُ: أَنَّهُمْ شُذُوذٌ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ سَائِغٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ فِي اتِّبَاعِ أَحَدِهِمْ، عَلَى حَسَبِ مَا يَقُودُهُ إلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ جَمِيعًا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَوْلَهُ: (فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ) يَنْفِي جَوَازَ اتِّبَاعِ الْوَاحِدِ وَتَرْكَ الْجَمَاعَةِ، فَوَجَبَ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ) مَحْمُولًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا يَكُونُ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهَا، وَفِي الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَسُوغُ لِكُلِّ وَاحِدٍ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَكَانَ مَنْ اقْتَدَى بِوَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُصِيبًا بِاقْتِدَائِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي أُمُورٍ، تَحَزَّبُوا فِيهَا، وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَخَرَجُوا إلَى الْقِتَالِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَلَمْ يُسَوِّغُوا الْخِلَافَ فِيهِ. فَدَلَّ: عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، فَيَجْتَهِدُ النَّاظِرُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ، غَيْرَ خَارِجٍ عَنْهَا، وَلَا مُبْتَدِعٍ مَقَالَةً لَمْ يَقُولُوا بِهَا. وَنَظِيرُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ خِلَافِ الْوَاحِدِ فِيمَا لَمْ يُسَوِّغْ الْجَمَاعَةُ خِلَافَهُ عَلَيْهَا: فَنَحْوُ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ فِي الصَّرْفِ يُجِيزُ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هَذَا الْقَوْلَ، فَرَجَعَ عَنْهُ. وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَإِنْكَارِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ أَنَّ قَاضِيًا (قَضَى) بِجَوَازِ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، أَبْطَلْت قَضَاءَهُ، لِأَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ سِوَى ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى بُطْلَانِهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَاضِيًا جَعَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، أَبْطَلْت قَضَاءَهُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ سِوَى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَدْ أَجْمَعَتْ: عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَرُوِيَ أَيْضًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 فِيهِ حَدِيثٌ «فِي قِصَّةِ مَوْلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَعَلَ نِصْفَ مِيرَاثِهِ لِبِنْتِهِ، وَنِصْفَ مِيرَاثِهِ لِابْنَةِ حَمْزَةَ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذِهِ مِنْ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي أَنْكَرَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ خِلَافَهُمْ فِيهِ. فَأَمَّا مَا سَوَّغُوا فِيهِ خِلَافَ الْوَاحِدِ إيَّاهُمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ نَكِيرٌ عَلَيْهِ: فَنَحْوُ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي مَنْعِ الْعَوْلِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَامْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فِي أَنَّهُ لَا يُزَادُ بَنَاتُ الِابْنِ عَلَى تَكْمِلَةِ الثُّلُثَيْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَأَنَّهُ لَا يُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى جَدٍّ، فَأَظْهَرُوا خِلَافَ الْجَمَاعَةِ (بِحَضْرَتِهَا) ، وَلَمْ تُنْكِرْهُ الْجَمَاعَةُ عَلَيْهِمْ، وَسَوَّغُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ الْخِلَافِ، وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْكِ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَسَمِعْت بَعْضَ شُيُوخِنَا يَحْكِي عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي - وَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ مِمَّنْ جَالَسَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ - فَذَكَرَا أَنَّ أَبَا حَازِمٍ كَانَ يَقُولُ: إنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ كَانَ اجْتِمَاعُهَا حُجَّةً، لَا يَتَّسِعُ خِلَافُهَا فِيهِ، وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ: لَمْ يُعْتَدَّ بِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ خِلَافًا فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 الْأَرْحَامِ، وَحَكَمَ بِرَدِّ أَمْوَالٍ قَدْ كَانَتْ حَصَلَتْ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُعْتَضِدِ بِاَللَّهِ: عَلَى أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. فَرَدَّهَا إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَبِلَ الْمُعْتَضِدُ فُتْيَاهُ وَأَنْفَذَ قَضَاءَهُ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى الْآفَاقِ. وَبَلَغَنِي: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ كَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعُدُّ زَيْدًا خِلَافًا عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِذَا لَمْ أَعُدَّهُ خِلَافًا فَقَدْ حَكَمْت بِرَدِّ الْمَالِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ. فَقَدْ نَفَذَ قَضَايَ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِالْفَسْخِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 [فَصْلٌ ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ جَمَاعَةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ لِلْقَائِلِ بِالْإِجْمَاعِ] فَصْلٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَقَالَ قَائِلُونَ: إذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ جَمَاعَةٍ كَبِيرَةٍ، أَوْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ وَانْتَشَرَ وَاسْتَفَاضَ فِي عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ لِلْقَائِلِ بِهِ - فَهُوَ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا حَتَّى يَكُونَ الْقَائِلُونَ بِهِ الْجُمْهُورَ الْأَعْظَمَ، وَيَكُونُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ عَدَدٌ قَلِيلٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُونَ نَفَرًا يَسِيرًا، وَالسَّاكِتُونَ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ، فَلَيْسَ يَنْعَقِدُ بِهَذَا إجْمَاعٌ، وَإِنْ تَرَكَتْ الْجَمَاعَةُ إظْهَارَ الْخِلَافِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِهِ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ وَالسَّاكِتُونَ نَفَرًا يَسِيرًا: هَذَا إجْمَاعٌ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يُظْهِرُوا مُخَالَفَةَ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْمَقَالَةِ وَظُهُورِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ ظُهُورَ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الْقَائِلَةِ بِهِ، وَانْتِشَارَهُ فِي الْبَاقِينَ مِنْ غَيْرِ إظْهَارٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ خِلَافًا، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْإِجْمَاعِ وُجُودَ الْقَوْلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ، وَفِي وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ بُطْلَانُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي قَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّتِهِ، وَلُزُومِ حُجَّتِهِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ اللَّه تَعَالَى بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَيَأْمُرَنَا بِلُزُومِهِ (وَاعْتِبَارِهِ) ثُمَّ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ، وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ. فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ صَحَّ الثَّانِي، وَهُوَ: أَنَّ شَرْطَهُ ظُهُورُ الْقَوْلِ فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ. ثُمَّ لَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ خِلَافٌ عَلَى الْقَائِلِينَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ وَنَفَرًا يَسِيرًا، وَانْتَشَرَ قَوْلُهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِخِلَافِهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ وَتَرْكِ إظْهَارِهِ، إذْ لَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ قَوْلِهِمْ وَمَعْلُومٌ: أَنَّ عَادَاتِ النَّاسِ وَتَعَارُفَهُمْ، أَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمْ عَلَى كِتْمَانِ خِلَافٍ هُمْ مُعْتَقِدُونَ لَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ. فَهَذَا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُمْ بَعْدَ انْتِشَارِ الْمَقَالَةِ وَظُهُورِهَا فِيهِمْ مُوَافَقَةٌ مِنْهُمْ لِلْقَائِلِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي وَقْتِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ] ِ اخْتَلَفَ (الْعُلَمَاءُ) فِي وَقْتِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ. فَقَالَ قَائِلُونَ: إذَا أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَثْبُتْ إجْمَاعٌ مَا دَامُوا بَاقِينَ، حَتَّى يَنْقَرِضَ أَهْلُ الْعَصْرِ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يَظْهَرُ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ وَلَا مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ ثَانٍ مُخَالَفَتُهُمْ. انْقَرَضَ أَهْلُ الْعَصْرِ، أَوْ لَمْ يَنْقَرِضُوا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَكَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ مِنْ قِبَلُ: إنَّ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةَ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ قَدْ أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ مِنْ وَقْتٍ، وَلَا حَالٍ مِنْ حَالٍ. فَثَبَتَ حُجَّةُ إجْمَاعِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، بِمُقْتَضَى الْآيِ الدَّالَّةِ عَلَى حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ - لَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ أَبَدًا، لِأَنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ إذَا أَجْمَعُوا ثُمَّ لَا يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ مَا دَامُوا أَحْيَاءَ فَجَائِزٌ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ مَنْ يُسَوَّغُ لَهُ الْقَوْلُ مَعَهُمْ، وَالْخِلَافُ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جَوَازِ الِاعْتِرَاضِ بِخِلَافِهِ، كَمَا كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وَالْحَسَنُ، فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ يُفْتُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ، وَيُخَالِفُونَهُمْ، وَيُسَوِّغُ الصَّحَابَةُ لَهُمْ ذَلِكَ، كَمَا سَوَّغُوا خِلَافَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا: أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِانْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ هُنَاكَ مِنْ التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ فِي حُكْمِهِمْ، وَفِي مِثْلِ حَالِهِمْ فِي جَوَازِ إعْرَاضِهِ بِالْخِلَافِ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَالُوهُ. فَإِنْ كَانَ (ذَلِكَ) كَذَلِكَ، فَوَاجِبٌ أَلَّا يَصِحَّ (ذَلِكَ) الْإِجْمَاعُ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يُلْحَقُ بِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ مَنْ يُخَالِفُ، عَلَيْهِمْ وَيُعْتَدُّ بِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْصَارِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا ثَبَتَتْ عِنْدَنَا حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ بِمَا قَدَّمْنَا، عَلِمْنَا: أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ، انْقَرَضَ أَهْلُ الْعَصْرِ، أَوْ لَمْ يَنْقَرِضُوا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ بَعْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ: أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَيْضًا: فَلَمَّا ثَبَتَ: أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَحَيْثُمَا وُجِدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي جِهَةِ الدَّلَالَةِ، وَوُجُوبِ الْحُجَّةِ، لِأَنَّ حُجَجَ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَائِلَهُ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِالْأَزْمَانِ وَالْأَوْقَاتِ: كَنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَمَّا كَانَا حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا فِيمَا لَا يُوجِبَانِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. وَأَيْضًا: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ صَحِيحًا قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ: لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ خَطَأً وَضَلَالًا، وَقَدْ أَمِنَّا وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وقَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وَسَائِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ» وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ عَنْ وَقْتٍ، وَلَوْ جَازَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى خَطَأٍ قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ - لَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا مَعَ انْقِرَاضِهِمْ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ خَالَفَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ (أَنَّهُ قَالَ) : (أَجْمَعَ رَأْيِ وَرَأْيُ عُمَرَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ: أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا التَّسْوِيَةُ فِي الْعَطَاءِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا إجْمَاعٌ قَطُّ، لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ، وَقَالَ لَهُ: أَتَجْعَلُ مَنْ لَا سَابِقَةَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كَذِي السَّابِقَةِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ إجْمَاعٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ. وَأَمَّا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ: فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ (وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ رَأَيْت: أَنْ أَرِقَّهُنَّ) ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: (رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ دَلِيلٌ أَنَّهُ) رَأَى جَوَازَ بَيْعِهِنَّ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ رَقِيقًا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، مِثْلُ الرَّهْنِ، وَالْمُسْتَأْجَرَة، وَهِيَ عِنْدَنَا رَقِيقٌ، وَلَا نَرَى بَيْعَهَا. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا أَفَادَ بِقَوْلِهِ: رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ: أَنَّ لِلْمَوْلَى وَطْأَهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَأَخْذَ أَكْسَابِهَا، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَرِقَّاءِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت: أَنْ أَبِيعَهُنَّ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَحْفُوظُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: رَأَيْت أَنْ أَبِيعَهُنَّ: إنَّمَا هُوَ لَفْظُ الرَّاوِي، حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ، لَمَّا ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ (أَنْ) أَرِقَّهُنَّ: يُوجِبُ جَوَازَ بَيْعِهِنَّ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ جَائِزٌ لَهُمْ خِلَافُهُمْ، فَهَلَّا جَوَّزْت لَهُمْ الْخِلَافَ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِمْ إيَّاهُمْ؟ ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَجُوزُ خِلَافُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ، الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَةُ الصَّحَابِيِّ، مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ (إجْمَاعٌ) ، فَإِذَا حَصَلَ الْإِجْمَاعُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْخِلَافِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ - فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ أَبَدًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ جَعَلْت قَوْلَ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ؟ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُونَ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ حُجَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِمْ فِيهَا - لَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ الْمُخَالِفِ حُجَّةً (عَلَى الْآخَرِينَ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نَجْعَلْ قَوْلَ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ فِي الْجَمَاعَةِ حُجَّةً) عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَ (لَوْ) لَمْ يَكُونُوا قَدْ وَافَقُوا الْجَمَاعَةَ بَدِيًّا، لَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 [فَصْلٌ إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ طَائِفَةٌ وَبِالْقَوْلِ الْآخَرِ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِثْلُهَا] فَصْلٌ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ طَائِفَةٌ، وَبِالْقَوْلِ الْآخَرِ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِثْلُهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مِمَّنْ يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِخِلَافِهَا، وَلَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ مِنْهَا، ثُمَّ انْقَرَضَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَبَقِيَتْ الْأُخْرَى - فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَكَرَ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي شَيْءٍ جَرَوْا فِيهِ إلَى تَأْثِيمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلَمْ يُسَوِّغُوا اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِيهِ، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْبَاقِيَةَ يَكُونُ إجْمَاعُهَا حُجَّةً، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُتَمَسِّكَةَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو مِنْهَا زَمَانٌ، وَهِيَ قَدْ شَهِدَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي انْقَرَضَتْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا حَقًّا وَصَوَابًا، وَوَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي انْقَرَضَتْ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا سَوَّغُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ، وَأَبَاحُوا فِيهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِبَقَاءِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، قَالَ: لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا قَدْ أَجْمَعُوا بَدِيًّا عَلَى تَسْوِيغِ الِاخْتِلَافِ، وَوَسَّعُوا فِيهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ لَا يَسَعُ خِلَافُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّمَا بُنِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَصْلِهِ: فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الْخِلَافِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ. وَسَنَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي خِلَافِ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ] ِ إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْكَثْرَةِ فِي حَدٍّ يَنْعَقِدُ بِمِثْلِهَا الْإِجْمَاعُ لَوْ لَمْ يُخَالِفْهَا مِثْلُهَا. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ إجْمَاعَ الْأَكْثَرِ وَهُمْ الْحَشْوُ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: لَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ إجْمَاعٌ، وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ. وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْحَقَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْقَلِيلِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِي حَدٍّ مَتَى أَخْبَرَتْ عَنْ اعْتِقَادِهَا لِلْحَقِّ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهَا، وَقَعَ الْعِلْمُ بِاشْتِمَالِ خَبَرِهَا عَلَى صِدْقٍ، عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَثْنَى عَلَى الْقَلِيلِ، وَمَدَحَهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 وَآيَاتٌ نَحْوُهَا يَذُمُّ فِيهَا الْكَثِيرَ، وَيَمْدَحُ الْقَلِيلَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. قِيلَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ» ، وَقَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ الْعِلْمُ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْزِعُهُ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً» فِي أَخْبَارٍ نَحْوِهَا، تُوجِبُ تَصْوِيبَ الْأَقَلِّ، وَتَقْلِيلَ الْأَكْثَرِ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَا، وَيَجِبُ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ ارْتَدَّ أَكْثَرُ النَّاسِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنَعُوا الصَّدَقَةَ، وَكَانَ الْمُحِقُّونَ - الْأَقَلَّ، وَهُمْ الصَّحَابَةُ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِمَامَةِ مُعَاوِيَةُ وَيَزِيدَ وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 مُلُوكِ بَنِي مَرْوَانَ، وَالْأَقَلُّ كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ: أَنَّ الْحَقَّ كَانَ مَعَ الْأَقَلِّ، دُونَ الْأَكْثَرِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» . وَقَالَ: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» وَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ إجْمَاعِ الْأَكْثَرِ. قِيلَ لَهُ: فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْفِرْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا جَمَاعَةٌ، فَلِمَ اعْتَبَرْت الْأَكْثَرَ؟ وَلَا دَلَالَةَ فِي الْخَبَرِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ» يَعْنِي إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمَا، وَلُزُومِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ» فَأَخْبَرَ أَنَّ لُزُومَ الْجَمَاعَةِ: إنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا إلَّا الْوَاحِدُ، وَالْعَدَدُ الْيَسِيرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» مَعْنَاهُ: مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي أُصُولِ اعْتِقَادَاتِهَا، فَلَا تُنْقِضُوهُ وَتَصِيرُوا إلَى خِلَافِهِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِقَوْلٍ بَاطِلٍ فَقَدْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ، إمَّا فِي جُمْلَةِ اعْتِقَادِهَا، أَوْ فِي تَفْصِيلِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] ِ (زَعَمَ قَوْمٌ) مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُسَوِّغُ لِأَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرُ النَّاسِ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ جَمِيعَ الْآيِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] خِطَابٌ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الِاسْمِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَقَوْلُهُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان: 15] قَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سَائِرَ الْأُمَمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ (بِهَا) عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وقَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] إنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، لَمَّا كَانَتْ مُبْهَمَةً، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، لَجَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَ الْكُوفَةِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيهَا. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، لَمَا خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَمِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، دَعَا سَائِرَ الْأَمْصَارِ إلَى اعْتِبَارِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ. دَلَّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ، لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، بَلْ إجْمَاعُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ ظَاهِرٌ فِي تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِأَهْلِ سَائِرِ الْأَمْصَارِ مَعَهُمْ، وَأَجَازُوا لَهُمْ مُخَالَفَتَهُمْ إيَّاهُمْ. فَقَدْ حَصَلَ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةً، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ، كَمَا أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ لَمَّا كَانَ حُجَّةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَوَجَبَ اعْتِبَارُ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَمَعْلُومٌ: أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَجْهَلُ النَّاسِ، وَأَقَلُّهُمْ عِلْمًا، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْآنَ إجْمَاعُ مَنْ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ: أَصْحَابُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 قِيلَ لَهُ: أَفَتَعْتَبِرُ إجْمَاعَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ. فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَاعْتَبِرْ إجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا الْعِلْمَ عَمَّنْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَأَيْضًا: فَلَيْسَ يَخْلُو إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مِنْ أَنْ تَكُونَ صِحَّتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَوْضِعِ، أَوْ بِالرِّجَالِ ذَوِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَوْضِعِ، فَالْمَوْضِعُ مَوْجُودٌ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَوْضِعِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ. وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ. (وَإِنْ اُعْتُبِرَ) بِالرِّجَالِ دُونَ الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ الَّذِينَ نَزَلُوا الْكُوفَةَ هُمْ عُمْدَةُ أَهْلِ (عِلْمِ) الدِّينِ وَأَعْلَامُهُ. مِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَآخَرُونَ، مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: إنَّهُ نَزَلَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ، فِيهِمْ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، فَلِمَ خَصَصْت بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مَنْ أَخَذَ عَمَّنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ؟ دُونَ مَنْ أَخَذَ عَمَّنْ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَسَائِرَ الْأَمْصَارِ؟ وَلِخَصْمِك أَنْ يُعَارِضَك فَيَقُولَ: إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، دُونَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، وَهُمْ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاؤُهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا خَصَصْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهَا دَارُ السُّنَّةِ وَدَارُ الْهِجْرَةِ، وَلِأَنَّ سَائِرَ النَّاسِ عَنْهُمْ أَخَذُوا، كَمَا كَانَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ، لِأَنَّهُمْ عَنْهُمْ أَخَذُوا. قِيلَ لَهُ: فَتَعْتَبِرُ إجْمَاعَ (أَهْلِ) الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ثَبَتُوا بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَخْرُجُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 عَنْهَا دُونَ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا، وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ؟ أَوْ تَعْتَبِرُ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ كَانُوا بَعْدَ الصَّحَابَةِ؟ فَإِنْ قَالَ: أَعْتَبِرُ إجْمَاعَهُمْ خَاصَّةً فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَبَعْدَهُمْ، وَلَا أَعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهَا، قَالَ قَوْلًا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُهُ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يُجْعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، (وَعَبْدُ اللَّهِ) بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَنُظَرَاؤُهُمْ، خِلَافًا، وَكَفَى بِهَذَا خِزْيًا لِمَنْ بَلَغَهُ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي الْأَصْلِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّمَا اعْتَبَرْت إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ الصَّحَابَةِ فَهَلَّا اعْتَبَرْت إجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ انْتَقَلُوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ . وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ سَائِرَ النَّاسِ لَمَّا أَخَذُوا عَنْهُمْ (وَجَبَ) لُزُومُ اتِّبَاعِهِمْ، كَمَا لَزِمَ التَّابِعِينَ اتِّبَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْهُمْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ تَابِعِي أَهْلِ الْكُوفَةِ أَخَذُوا عَمَّنْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَاعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَدَحَهُمْ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَفِي مُدِّهِمْ» ، وَقَالَ: «مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» ، وَقَالَ: «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» ، وَقَالَ: «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» ، فَإِذَا كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ دَعَا لَهُمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَمَدَحَهُمْ - وَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو لَهُمْ وَلَا يَمْدَحُهُمْ إلَّا وَهُمْ مُؤْمِنُونَ. قِيلَ لَهُ: وَمَا فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ مِمَّا يُوجِبُ كَوْنَ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً، وَكَيْفَ وَجْهُ تَعَلُّقِ صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الثَّلْجُ» ، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخِلَافِ (عَلَيْهِمْ) إرَادَتُهُمْ بِسُوءٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الصَّحَابَةُ حِينَ اخْتَلَفَتْ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي اجْتَهَدُوا فِيهَا آرَاءَهُمْ قَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِسُوءٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّمَا دَعَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُهَاجِرِينَ وَأَنْصَارًا، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ كُنْت إنَّمَا جَعَلْت إجْمَاعَ هَؤُلَاءِ حُجَّةً، فَهَذَا مَا لَا تَنَازُعَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَدْت إجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت بَعْدَ ذَهَابِ الصَّحَابَةِ؟ . (وَمَعْنَى) قَوْلِهِ: «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» : إنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ، هَاجَرَ إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ دُونِ الشِّرْكِ، فَلَمَّا زَالَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ زَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَعْدَ زَوَالِ الْهِجْرَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ فِي قَبِيلَتِهِ وَحَيِّهِ وَبَلَدِهِ، وَلَا يُهَاجِرَ إلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَامًّا فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ الْآنَ. وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَهْلَ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ الْكِبَارِ وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الدِّينِ، وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ، وَعَدَمِ الْخَيْرِ مَا اسْتَوْلَى عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الدَّجَّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكًا شَاهِرًا سَيْفَهُ» وَهَذَا يَدُلُّ: عَلَى حِرَاسَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهُمْ، وَأَنَّهُ قَدْ أَبَانَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ مَزِيَّةٌ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 قِيلَ لَهُ: وَمَا فِي هَذَا مَا يُوجِبُ مَا ذَكَرْت، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَحْرُوسَةً سَوَاءٌ صَارَ أَهْلُهَا إلَى الضَّلَالِ، أَوْ ثَبَتُوا عَلَى الْحَقِّ؟ كَمَا حَرَسَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَكَانُوا مُشْرِكِينَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهَا بِأَنَّ عَلَى أَنْقَابِهَا الْمَلَائِكَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَصَرَهَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حِرَاسَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا بِالْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَهَا، فَيَكُونُ حُكْمُ الْخَبَرِ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ اخْتِلَافِ السَّلَفِ] إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى أَقَاوِيلَ مَعْلُومَةٍ، لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ: أَنْ يَخْرُجَ عَنْ جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ، وَيُبْدِعَ قَوْلًا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي ذِكْرِ أَقْسَامِ أُصُولِ الْفِقْهِ. فَقَالَ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَشْبَهَهُ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان: 15] وقَوْله تَعَالَى: {ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ فِي الْخُرُوجِ عَنْ أَقَاوِيلِ الْجَمْعِ، اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُخَالَفَةُ مَنْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِدَلَالَةِ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ: أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، فَلَوْ جَازَ إبْدَاعُ قَوْلٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَأَنَّ مَا قَالُوهُ خَطَأٌ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ جَوَازَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ، وَذَلِكَ مَأْمُونٌ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا ذَكَرْت (لَا) يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ: أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ مُصِيبِينَ، وَمَنْ يَقُولُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ أَيْضًا مُصِيبًا، إذَا كَانُوا حِينَ اخْتَلَفُوا فَقَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ. قِيلَ لَهُ: مَا ذَكَرْت مِنْ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ: لَا يَعْصِمُ الْقَائِلَ مِمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 أَلْزَمْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَقَدْ أَجْمَعُوا: عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا خَطَأٌ، سَوَاءٌ كَانُوا مُصِيبِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ، أَوْ بَعْضُهُمْ مُصِيبًا، وَبَعْضُهُمْ مُخْطِئًا، كَمَا لَوْ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، بِأَنَّ مَا عَدَاهُ خَطَأٌ، وَإِنْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَالْإِلْزَامُ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَلِمَنْ قَالَ: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ: قَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ قَدْ عُرِفَتْ، فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمْ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَخِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ أَوْلَى، فَلَوْ قَالَ بَعْدَهُمْ قَائِلٌ: إنِّي أَجْعَلُ الْمَالَ لِلْأَخِ دُونَ الْجَدِّ، كَانَ مُخْطِئًا فِي قَوْلِهِ، مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ، وَلَوْ سَاغَ مَا قَالَ هَذَا السَّائِلُ، لَسَاغَ مُخَالَفَةُ إجْمَاعِهِمْ الْوَاقِعِ عَنْ اجْتِهَادٍ، لِأَنَّهُمْ حِينَ اجْتَهَدُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُبِيحًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ، كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْخُرُوجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ إذَا كَانَ إجْمَاعُهُمْ: عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ - إلَّا مَا قَالُوهُ - مَانِعًا مِنْ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي التَّابِعِيِّ هَلْ يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى الصَّحَابَةِ] قَالَ أَصْحَابُنَا: التَّابِعِيُّ الَّذِي قَدْ صَارَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا، يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ عَلَى الصَّحَابَةِ، كَأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ خِلَافُ الصَّحَابِيِّ إلَّا لِصَحَابِيٍّ مِثْلِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ سَوَّغَتْ لِلتَّابِعِينَ مُخَالَفَتَهُمْ، وَالْفُتْيَا بِحَضْرَتِهِمْ، وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِمْ، مَعَ إظْهَارِهِمْ لَهُمْ الْمُخَالَفَةَ فِي مَذَاهِبِهِمْ، أَلَا تَرَى: أَنَّ عَلِيًّا وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَدْ وَلَّيَا شُرَيْحًا الْقَضَاءَ، وَلَمْ يَعْتَرِضَا عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ، مَعَ إظْهَارِهِ الْخِلَافَ عَلَيْهِمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا وَلَّوْهُمْ الْحُكْمَ لِيَحْكُمُوا بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى شُرَيْحٍ، (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي السُّنَّةِ فَاجْتَهِدْ رَأْيَك) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ، وَلَا الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، وَخَاصَمَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى شُرَيْحٍ وَرَضِيَ بِحُكْمِهِ، حِينَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ، وَشَاوَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَعْبَ بْنَ سَوْرٍ، وَأَمَرَهُ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فِي الْكَوْنِ عِنْدَهَا، فَجَعَلَ لَهَا كَعْبٌ قِسْمًا وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعٍ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: (تَذَاكَرْت أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عِدَّةَ الْحَامِلِ، الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 زَوْجُهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " آخِرُ الْأَجَلَيْنِ " وَقُلْت أَنَا: عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي) وَذَكَرَ إبْرَاهِيمُ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: (كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَدَعَاهُمْ، قَالَ: فَصَنَعَ لَنَا مَرَّةً طَعَامًا، فَجَعَلَ يَسْأَلُ وَيُفْتِي فَكَانَ يُخَالِفُنَا، فَمَا كَانَ يَمْنَعُنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّا (كُنَّا) عَلَى طَعَامِهِ) ، وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ فَرِيضَةٍ، فَقَالَ: (سَلُوا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي) وَسُئِلَ أَنَسٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: (سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ) . وَأَيْضًا: كَانَ التَّابِعِيُّ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَمِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِدْرَاكِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَكَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحَابِيِّ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا جَازَ لِلصَّحَابِيِّ الْخِلَافُ عَلَى مِثْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِي التَّابِعِيِّ: وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، وَهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَةُ الصَّحَابِيِّ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَخْصُوصُونَ بِالْفَضْلِ دُونَهُمْ، وَقَدْ مَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ» وَقَالَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» ، وَقَالَ: «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُمْ لَمْ يَجُزْ: أَنْ يُسَاوِيَهُمْ أَحَدٌ فِي مَنْزِلَةٍ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْفَضْلُ فَمُسَلَّمٌ لَهُمْ، إلَّا أَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي ذَكَرْت لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 فِي مَنْعِ خِلَافِ الْمَفْضُولِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مُتَفَاضِلُونَ، وَأَفْضَلُهُمْ: الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ سَوَّغُوا مَعَ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ لِمَنْ دُونَهُمْ مَعَهُمْ، وَمُخَالَفَتَهُمْ، مِثْلِ: ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَوْ كَانَ الْفَضْلُ مُوجِبًا لَهُمْ التَّفَرُّدَ بِالْفُتْيَا - لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَقُولَ: مَعَهُمَا مِنْ دُونِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ التَّابِعِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مَزِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِمَ بِمُشَاهَدَتِهِ مَصَادِرَ قَوْلِهِ وَمَخَارِجَهُ، وَمِنْ بَعْدِهِمْ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ، فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يُزَاحِمُوهُمْ. قِيلَ لَهُ: مَا (عَرَفَهُ الصَّحَابِيُّ) بِالْمُشَاهَدَةِ، قَدْ عَرَفَهُ التَّابِعِيُّ بِسَمَاعِهِ مِمَّنْ نَقَلَهُ إلَيْهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الصَّحَابِيِّ فِي هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي، إطْلَاقِ لَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمٍ يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ لِيَشْتَرِكَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَلُزُومِ حُكْمِهِ، إلَّا وَذَلِكَ اللَّفْظُ مَتَى نُقِلَ يُفِيدُ الْغَائِبَ مَا أَفَادَهُ الشَّاهِدُ، وَلَا يَجُوزُ: أَنْ يُخَصَّ الشَّاهِدُ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ وَمَخَارِجِ اللَّفْظِ، بِمَا لَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ، إذَا نُقِلَ عَنْهُ، إلَّا وَحُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الشَّاهِدِ، وَمَخْصُوصٌ بِهِ، دُونَ الْغَائِبِ. فَأَمَّا إذَا أَرَادَ (عُمُومَ الْحُكْمِ) فِي الْفَرِيقَيْنِ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَمَخَارِجِ اللَّفْظِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا. فَرُبَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» فَجَعَلَ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ الْغَائِبَ أَفْقَهَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِمَعْنَى خِطَابِهِ مِنْ السَّامِعِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ، لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ الْفُتْيَا مَعَ مُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَيْسَ مُشَاهَدَتُهُ إذًا عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الِاخْتِصَاصِ بِالْفُتْيَا، وَمَنَعَ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ الْقَوْلَ مَعَهُ، وَلَمَّا لَمْ يُمْنَعْ التَّابِعِيُّ: أَنْ يَقُولَ فِي الْفُتْيَا، وَيَجْتَهِدَ رَأْيَهُ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ الصَّحَابَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ] ِ إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ وَانْقَرَضُوا، ثُمَّ أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالَ بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ - فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَيَسَعُ كُلَّ أَحَدٍ خِلَافُهُ بِبَعْضِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالَ بِهَا أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: فَإِنْ كَانَ خِلَافًا يُؤَثِّمُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي يُسْقِطُ الْخِلَافَ الْأَوَّلَ. وَإِنْ كَانَ خِلَافًا يُؤَثِّمُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَسَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهِ فَإِنَّ إجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ لَا يُسْقِطُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي حُجَّةٌ لَا يَسَعُ مَنْ بَعْدَهُمْ خِلَافُهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - فِي قَاضٍ حَكَمَ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا: إنِّي أُبْطِلُ قَضَاءَهُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ، ثُمَّ أَجْمَعَ بَعْدَ ذَلِكَ قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَهَاؤُهُمْ (عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُورَثُ، لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَهَائِهِمْ) فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فَكُلُّ أَمْرٍ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ جَمِيعًا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَتَرْكِ قَوْلِ الْآخَرِ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَحَدٌ، إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَعَمِلَ بِهِ عَامِلٌ الْيَوْمَ وَقَضَى بِهِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِقَاضٍ وَلِيَ هَذَا أَنْ يُجِيزَهُ، وَلَكِنْ يَرُدُّهُ وَيَسْتَقْبِلُ فِيهِ الْقَضَاءَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَدْ بَانَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ هَذَا عِنْدَهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ، بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُ اخْتِلَافٌ فِي بَابِ وُجُوبِ فَسْخِ قَضَاءِ الْقَاضِي (بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ) وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إجَازَةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، لَا يَدُلُّ عَلَى: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَصَلَ فِي مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيهِ إجْمَاعًا صَحِيحًا، يَلْزَمُ صِحَّتُهُ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ اتِّبَاعُهُ، إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ: أَنَّهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِخِلَافِهِ، فَكَانَ يَذْكُرُ لِذَلِكَ وَجْهًا ذَهَبَ عَنِّي حِفْظُهُ، وَاَلَّذِي يَقُولُهُ فِي ذَلِكَ: إنَّ مَنَازِلَ الْإِجْمَاعَاتِ مُخْتَلِفَةٌ كَمَنَازِلِ النُّصُوصِ، يَكُونُ بَعْضُهَا آكَدَ مِنْ بَعْضٍ، وَيُسَوَّغُ الِاجْتِهَادُ فِي تَرْكِ بَعْضِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي تَرْكِ بَعْضٍ. أَلَا تَرَى: أَنَّ النَّصَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ حُجَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي مَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ حُجَّتُهُمَا جَمِيعًا عِنْدَنَا ثَابِتَةً، كَذَلِكَ حُكْمُ الْإِجْمَاعَاتِ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ، وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ فِي بَابِ فَسْخِ قَضَاءِ الْقَاضِي، بِخِلَافِ أَحَدِهِمَا وَمَنْعِهِ ذَلِكَ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ، أَوْ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إجْمَاعٌ قَدْ سَبَقَهُ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ سَوَّغَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ الِاجْتِهَادَ فِيهِ وَأَبَاحُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ، فَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي مَنْعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي خِلَافِهِ لَا يُفْسَخُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ عَصْرٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ، فَيُفْسَخُ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ لَا يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي رَدِّهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُخَالِفُ فِيهِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ - هُمْ شُذُوذٌ عِنْدَنَا - لَا نَعُدُّهُمْ خِلَافًا، فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا: (أَنَّهُ) لَيْسَ فِي مَنْعِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسْخُ قَضَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ - دَلَالَةٌ: عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ إجْمَاعًا صَحِيحًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنَّ سَائِرَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ يُوجِبُ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ الْحَادِثِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وقَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وقَوْله تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان: 15] مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَلُزُومِ حُجَّتِهِ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى (صِحَّتِهِ وَلُزُومِ) حُجَّتِهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَلَوْ جَازَ إجْمَاعُ أَهْلِ عَصْرٍ عَلَى قَوْلٍ يَجُوزُ الشَّكُّ فِي تَصْوِيبِهِ وَالْوُقُوفُ عَلَى اتِّبَاعِهِ، لَبَطَلَ وُقُوعُ الْعِلْمِ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) تَعَالَى، مُتَمَسِّكِينَ بِالْحَقِّ غَيْرِ مُبْطِلِينَ وَلَا ضَالِّينَ، وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا اخْتَلَفُوا وَسَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهِ، صَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الِاخْتِلَافِ، وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، فَقَدْ صَارَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ - حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَقْتٍ، فَهُوَ ثَابِتٌ أَبَدًا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ، وَالنَّسْخُ مَعْدُومٌ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قِيلَ لَهُ: تَسْوِيغُهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ مَعْقُودٌ بِبَقَاءِ الْخِلَافِ وَعَدَمِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا: أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ: أَنَّ تَسْوِيغَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ مُضَمَّنٌ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 أَلَا تَرَى: أَنَّهُمْ لَوْ اخْتَلَفُوا، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ كَانَ إجْمَاعُهُمْ قَاطِعًا لِاخْتِلَافِهِمْ بَدْءًا، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ اخْتِلَافٌ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْإِجْمَاعَاتِ إنَّمَا حَصَلَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَلَا تَرَى: أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا اخْتَلَفُوا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَانْحَسَمَ ذَلِكَ الْخِلَافُ، وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى قِتَالِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعُهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ قَاطِعًا لِلْخِلَافِ السَّابِقِ لَهُ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ قِسْمَةِ السَّوَادِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ قِسْمَتِهِ، فَكَانَ إجْمَاعًا صَحِيحًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مُخَالَفَتُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ يَقْطَعُ الِاخْتِلَافَ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِانْقِرَاضِ أَهْلِ الْعَصْرِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْتَبِرُ انْقِرَاضَ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ يَأْبَى أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ إجْمَاعًا صَحِيحًا يَلْزَمُ حُجَّتُهُ، لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ مِنْ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ هَذَا الْإِجْمَاعُ عِنْدَهُمْ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ. وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ انْعِقَادَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ الِاخْتِلَافِ مُضَمَّنٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ فِي الْمُجْتَهِدِ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِمْضَاءِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ (بَعْدَ ذَلِكَ) ، وَكَانَ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ مُضَمَّنًا بِبَقَاءِ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى قَوْلٍ آخَرَ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَكَانَتْ صِحَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلُزُومُ حُكْمِهِ مَوْقُوفًا عَلَى بَقَاءِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِهِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ تَسْوِيغَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ، فَمَتَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَوْلٍ مِنْهَا زَالَ الْخِلَافُ، وَثَبَتَتْ حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ. ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو الْقَائِلُ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يُحِيلَ وُجُودَ إجْمَاعٍ بَعْدَ اخْتِلَافٍ كَانَ فِي الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَيَمْنَعَ كَوْنَهُ، أَوْ يُجِيزَ وُقُوعَهُ، إلَّا أَنَّهُ (لَا) تَثْبُتُ حُجَّتُهُ، وَلَا يُرْفَعُ (الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ بِهِ) ، فَإِنْ أَحَالَ وُجُودَ إجْمَاعٍ بَعْدَ اخْتِلَافٍ كَانَ فِي عَصْرٍ مُتَقَدِّمٍ، فَإِنَّا نُوجِدُهُ، ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ، وَإِنْ كَانَ يُجِيزُ وُجُودَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُجَّتُهُ، فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ نَفْيَ صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا صِحَّةُ الْقَوْلِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، وَمَا كَانَ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَعْصَارِ، وَلَوْ جَازَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْخَطَأِ فِي عَصْرٍ، لَجَازَ اجْتِمَاعُهَا عَلَى الْخَطَأِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ. وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ عَلِمْت بُطْلَانَهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَّةِ، لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا فِي ثُبُوتِ حُجَّتِهِمَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ حُجَجِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِهِ، إلَّا فِيمَا يَجُوزُ (نَسْخُهُ) وَتَبْدِيلُهُ. وَالْإِجْمَاعُ مِمَّا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ فِيهِ، لِأَنَّا إنَّمَا نَعْتَبِرُهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي بَعْدَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ صَوَابًا، وَيُسَوَّغُ الْخِلَافُ عَلَيْهِ بِأَحَدِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 سَبَقُوهُمْ بِهِ، كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الِاجْتِهَادِ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ جَائِزٌ لَهُ الْقَوْلُ بِمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ الْمَذْهَبِ الَّذِي أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. قِيلَ لَهُ: وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَبَطَلَتْ حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ رَأْسًا، لِأَنَّ كُلَّ إجْمَاعٍ يَحْصُلُ عَلَى قَوْلٍ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي خِلَافُهُ، وَيَكُونُ كُلُّهُ جَائِزًا، وَلَا يُقَدَّمُ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ صَوَابٌ كَمَا قُلْت فِي الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا، وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا مَا وَعَدْنَا إيجَادَهُ مِنْ حُصُولِ إجْمَاعَاتٍ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ شَائِعٍ فِي عَصْرٍ مُتَقَدِّمٍ. فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا نُبَيِّنُ بِهِ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ أَبَى وُجُودَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ عُمَرَ فِي الْمَرْأَةِ تُزَوَّجُ فِي عِدَّتِهَا: (إنَّ مَهْرَهَا (يُجْعَلُ) فِي بَيْتِ الْمَالِ) ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ: الْمَهْرُ لَهَا، بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَهَذَا قَدْ كَانَ خِلَافًا مَشْهُورًا فِي السَّلَفِ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ: عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ إذَا وَجَبَ فَهُوَ لَهَا، لَا يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَمِنْهُ: قَوْلُ (ابْنِ) عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسٌ، فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ: عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ بَعْدَ هَذَا الِاخْتِلَافِ، أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. فَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي آخَرِينَ: (أَجَلُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا) . وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: (عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ) ، وَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ مُنْتَشِرًا ظَاهِرًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ حَاجَّ فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِيهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (مَنْ شَاءَ بَاهَلْته) : أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] : نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ: أَنَّ عِدَّتَهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَطَاوُسٌ: أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ مُبْهَمَةٌ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، (وَمُجَاهِدٌ) : هُنَّ كَالرَّبَائِبِ، لَا يَحْرُمْنَ إلَّا بِالْوَطْءِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا تَزَوَّجَ بِأُمِّهَا، وَإِنْ مَاتَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ الْأُمَّ، وَهَذَا أَيْضًا كَانَ مِنْ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي السَّلَفِ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ: عَلَى أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ، وَقَالَ عَلِيٌّ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدٌ، وَشُرَيْحٌ: بَيْعُ الْأَمَةِ لَا يُفْسِدُ نِكَاحَهَا، وَقَالَ (ابْنُ) مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَجَابِرٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ: بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ: عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَا يُفْسِدُ نِكَاحَهَا. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، تَفُوقُ الْإِحْصَاءَ، وَيَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا، وَإِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا أَهْلَ الْأَعْصَارِ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالُوا بِهَا، فَلَوْ جَازَ مُخَالَفَتُهُمْ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ (لَخَرَجَ إجْمَاعُهُمْ) مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسَعُ خِلَافُهُ، وَلَا نَأْمَنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَطَأٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ فِي أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهَا، مِمَّا كَانَ السَّلَفُ اخْتَلَفُوا فِيهَا. فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا: لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَسَوَّغُوا فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 الِاجْتِهَادَ، وَأَنَّهُمْ سَوَّغُوا مَا لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ: إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً مَا لَمْ يَحْصُلْ خِلَافٌ، فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَهُمْ خِلَافٌ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حَيْثُمَا وُجِدَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى: كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إنَّهُ حُجَّةٌ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ خِلَافٌ. وَأَمَّا تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَيُقَالُ: إنَّ الِاجْتِهَادَ سَائِغٌ، مَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ، أَوْ إجْمَاعٌ فَإِذَا وُجِدَ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ سَقَطَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي أَمْرِ الْجَنِينِ، حَتَّى لَمَّا أَخْبَرَهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ بِنَصِّ السُّنَّةِ. قَالَ: (كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِرَأْيِنَا، وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وَكَذَلِكَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ، فَإِنَّمَا جَوَازُ اجْتِهَادِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ مُضَمَّنٌ بِعَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ اجْتَهَدَ ثُمَّ وَجَدَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا بِخِلَافِهِ تَرَكَ اجْتِهَادَهُ، وَصَارَ إلَى مُوجِبِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَتَسْوِيغُهُمْ الْخِلَافَ فِيهِ، مَعْقُودٌ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ: وَهُوَ أَنْ (لَا) يَحْصُلَ بَعْدَهُ إجْمَاعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 [بَابٌ فِي وُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ] بَابٌ فِي وُقُوعِ الِاتِّفَاقِ (عَلَى التَّسْوِيَةِ) بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا (أَجْمَعَ) أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمِ شَيْئَيْنِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ حُكْمِهِمَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ عِيسَى فَقَالَ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ فِي وُجُوبِ تَوْرِيثِهِمَا، أَوْ حِرْمَانِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَالْخَالَةُ، فَمَنْ وَرَّثَ الْخَالَ وَرَّثَ الْخَالَةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَرَّثَ الْعَمَّةَ وَرَّثَ الْخَالَةَ، وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْ أَحَدَهُمَا وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ لِبَيْتِ الْمَالِ، لَمْ يُوَرِّثْ الْآخَرَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْجَمِيعِ، وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ الْخُرُوجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ جَمِيعًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ لِإِجْمَاعِهِمْ: عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا قَالُوا، فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إحْدَاثُ مَذْهَبٍ غَيْرِ مَذَاهِبِهِمْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ صَحَّ الْقَوْلُ بِلُزُومِ إجْمَاعِهِمْ، وَأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ وَلَا يَعْدُوهُمْ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا، لِحُصُولِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى التَّسْوِيَةِ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا سَوَّوْا بَيْنَهُمْ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَتَحْتَاجُ أَنْ نَطْلُبَ الدَّلِيلَ (فِي إيجَابِ التَّسْوِيَةِ أَوْ جَوَازِ التَّفْرِيقِ. قِيلَ لَهُ: فَقُلْ مِثْلَهُ فِي كُلِّ إجْمَاعٍ وَقَعَ مِنْهُمْ، إنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ فَتَحْتَاجُ أَنْ تَنْظُرَ فِي الدَّلِيلِ) فَإِنْ صَحَّ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ، وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ، وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ الْإِجْمَاعِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ] إذَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى حُكْمِ شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ مَعْنًى فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ فَاخْتَلَفُوا عِنْدَ حُدُوثِهِ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بَعْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ: نَحْوُ احْتِجَاجِ مَنْ يَحْتَجُّ فِي الْمَاءِ إذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْ طَعْمَهُ وَلَوْنَهُ وَلَا رَائِحَتَهُ: أَنَّهُ طَاهِرٌ، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى طَهَارَتِهِ قَبْلَ حُدُوثِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، (فَنَحْنُ) عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يُزِيلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ، وَكَمَنْ يُجِيزُ لِلْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ الْمُضِيَّ فِيهَا. وَيَحْتَجُّ: أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى صِحَّةِ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ فِي بَقَاءِ صَلَاتِهِ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَمَنْ احْتَجَّ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ بَيْعِهَا. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا (عِنْدَنَا) مَذْهَبٌ سَاقِطٌ، مَتْرُوكٌ، لَا يَرْجِعُ الْقَائِلُ بِهِ إلَى تَحْصِيلِ دَلَالَتِهِ مَتَى حُقِّقَتْ عَلَيْهِ مَقَالَتُهُ، ذَلِكَ: (أَنَّهُ) لَا يَخْلُو: مِنْ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَقَعَ الْخِلَافُ، إنَّمَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَلُزُومُهُ لِأَجْلِ وُقُوعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 الِاتِّفَاقِ، أَوْ لِدَلِيلٍ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ إنَّمَا ثَبَتَ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْخِلَافُ مِنْ أَجْلِهِ لِلْإِجْمَاعِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ وَلَا إجْمَاعَ فِيهِ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَعْنَى، فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَهُ؟ وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ خَطَأٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. فَيُقَالُ فِيهِ: نَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ قَدْ زَالَ، فَإِنْ بَنَيْت مَوْضِعَ الْخِلَافِ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْمَنْصُوصِ، فَأَرِنَا وَجْهَ بِنَائِهِ، مَقْرُونًا بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا حَكَمْت بَدْءًا فِي حَالِ مَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ، بِدَلَالَةٍ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ. قِيلَ لَهُ: فَأَظْهِرْ تِلْكَ الدَّلَالَةَ حَتَّى تُنَوِّرَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لَهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ كَإِيجَابِهَا لَهُ (قَبْلَهُ) حَكَمْنَا لَهُ (بِحُكْمِهِ) ، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْلَيْت قَوْلَك مِنْ دَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ، وَحَصَلْت فِيهِ عَلَى دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ. وَعَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ يُمْكِنُ عَكْسُهَا عَلَى الْقَائِلِ بِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ، فَيَلْزَمُهُ بِهَا ضِدُّ مُوجِبِ حُكْمِهَا الَّذِي رَامَ إثْبَاتَهُ. فَلَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ مِنْهَا. نَحْوُ قَوْلِهِ فِي الْمَاءِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ (فِيهِ) : إنَّهُ عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ حُلُولِهَا فِيهِ، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ، فَنَقْلِبَ عَلَيْهِ، هَذَا فِي الْمُحْدِثِ إذَا تَوَضَّأَ بِهَذَا الْمَاءِ، أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعْنَا قَبْلَ طَهَارَتِهِ بِهَذَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِطَهَارَةٍ صَحِيحَةٍ، وَاخْتَلَفْنَا بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ، هَلْ صَحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ فَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِي بَقَاءِ الْحَدَثِ وَامْتِنَاعِ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى زَوَالِ حَدَثِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا: (عَلَى) أَنَّ فَرْضَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفْنَا إذَا بَنَى عَلَيْهَا بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 بَقَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ. فَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَجَازَ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ: إنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهَا فِي حَالِ الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَلَا تَزُولُ عَنْ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّافِيَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَنَقُولُ لَهُ: فَأَقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِك لِلنَّفْيِ، لِأَنَّ اعْتِقَادَك لِنَفْيِ الْحُكْمِ: هُوَ إثْبَاتُ حُكْمٍ. فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ هَذَا الِاعْتِقَادُ؟ فَإِنَّك لَا تَأْبَى مِنْ إيجَابِ (الدَّلِيلِ) عَلَى الْمُثْبِتِ. وَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، كَذَلِكَ نَقُولُ لِلْقَائِلِ: بِأَنَّا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ: إنَّك قَدْ أَثْبَتّ حُكْمًا لِغَيْرِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ، فَهَلُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، إلَى أَنْ نَرْجِعَ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي فَيَلْزَمُك مَا أَلْزَمْنَاهُ، وَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ: مِنْ فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا كَانَتْ الْحَالُ الْأُولَى يَقِينًا، لَمْ يَجُزْ لَنَا بَعْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ: أَنْ نَزُولَ عَنْهَا بِالشَّكِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ (فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى. قِيلَ لَهُ: الْيَقِينُ غَيْرُ مَوْجُودٍ بَعْدَ وُجُودِ الشَّكِّ) فَقَوْلُك لَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ خَطَأٌ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِزَوَالِ حُكْمٍ قَدْ عَلِمْنَاهُ يَقِينًا بِغَيْرِ يَقِينٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَقَدْ كَانَ كُفْرُهُنَّ يَقِينًا، فَأَزَالَهُ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْيَقِينِ بِزَوَالِهِ، لِأَنَّ إظْهَارَهُنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِيَقِينٍ أَنَّهُنَّ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} [التوبة: 102] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَحَكَمَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَإِزَالَةِ حُكْمِ الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُهُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ مِنَّا بِحَقِيقَتِهَا، إلَّا مَا أَظْهَرُوا مِنْ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فِي قَوْمٍ آخَرِينَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة: 95] فَأُمِرْنَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِتَوْبَتِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمٍ آخَرِينَ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] فَوَقَفَ أَمْرُهُمْ مَعَ إظْهَارِهِمْ التَّوْبَةَ، فَحَكَمَ فِي هَؤُلَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى الظَّاهِرِ. وَمَنْعِ قَبُولِ تَوْبَةِ آخَرِينَ. وَوَقْفِ أَمْرٍ فَرِيقٍ آخَرَ، فَلَمْ يَأْمُرْ بِأَنْ يُحْمَلُوا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ يَقِينًا، وَأَمَرَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ: عَلَى الْحُقُوقِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَغَيْرِهِمَا. مِمَّا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدَّمِ، وَالْمَالِ، وَشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَلَا تُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، وَالْمَالُ كَانَ يَقِينًا، فَأَزَالَ ذَلِكَ الْيَقِينَ بِمَا لَيْسَ بِيَقِينٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِبَاحَتِهَا، وَتَرْكِ مَسْأَلَةِ الْفُقَهَاءِ عَمَّا بُلِيَ بِهِ مِنْ النَّازِلَةِ. فَإِنْ احْتَجَّ الْقَائِلُ بِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّاكِّ فِي الْحَدَثِ: أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ طَهَارَتَهُ الَّتِي كَانَتْ، وَلَا يَزُولُ عَنْهَا بِالشَّكِّ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ الشَّاكَّ فِي صَلَاتِهِ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ» ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ الشَّاكَّ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَتَهُ عَلَى مَا كَانَتْ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا: مِنْ وُجُوبِ الْبِنَاءِ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى الَّتِي قَدْ ثَبَتَتْ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْخِلَافِ، وَبَقَاءِ حُكْمِهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى زَوَالِهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَائِمَةٌ، فَوَجَبَ عِنْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ، فَإِنْ وَجَدْنَا عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ دَلِيلًا مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 الْإِجْمَاعِ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ وَوُجُوبُ مُسَاوَاتِهِ لَهُ بَنَيْنَاهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا اعْتَبَرْنَاهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِ، فَحَكَمْنَا بِمَا يُوجِبُهُ كَسَائِرِ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَأَمَّا الشَّاكُّ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَدَثِ، وَالشَّاكُّ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَلَيْسَ عَلَى مَا شَكَكْنَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ أَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ، فَحُكْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِيهِ) مِنْ ذَلِكَ بِإِلْغَاءِ الشَّكِّ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَاتَّبَعْنَاهُ، وَلَمْ يَجُزْ لَنَا رَدُّ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إلَيْهِ. وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ: مَا نَقُولُهُ فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ، فَمَتَى عَدِمْنَا التَّوْقِيفَ وَقَفْنَا عِنْدَ الْإِجْمَاعِ، وَأَلْغَيْنَا الْمُخْتَلَفَ فِيهِ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى اعْتِبَارِ مِقْدَارِهِ بِمَقَادِيرَ غَيْرِهَا فِي الْأُصُولِ، مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا نَقُولُهُ فِي مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَفِي مِقْدَارِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ: إنَّهُ يَجُوزُ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، وَإِلْغَاءُ الْخِلَافِ وَتَبْقِيَتُهُ عَلَى الْأَصْلِ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا: طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ، أَوْ الْإِيقَافُ، وَقَدْ عَدِمْنَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ] ُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: كَثِيرًا مِمَّا أَرَى لِأَبِي يُوسُفَ فِي إضْعَافِ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ: الْقِيَاسُ كَذَا، إلَّا أَنِّي تَرَكْته لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ الْآثَرُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ (كَانَ) يَرَى " أَنَّ " تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمَّا أَنَا فَلَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْمَذْهَبُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُحْفَظُ عَنْهُ ذَلِكَ، إنَّمَا الَّذِي يُحْفَظُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ لَهُمْ، وَإِذَا اجْتَمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ يُوجَدُ نَحْوُ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: (إنَّ الْقِيَاسَ) فِيمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَقْتَ صَلَاةٍ: أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ (عَنْ عَمَّارٍ: أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَضَى) ، فَتَرَكُوا الْقِيَاسَ لِفِعْلِ عَمَّارٍ، وَكَانَ أَبُو عُمَرَ الطَّبَرِيُّ يَحْكِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ: أَنَّ قَوْلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، يُتْرَكُ لَهُ الْقِيَاسُ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ، قَالَ: وَكَانَ يُحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّ قِيَاسَ الصَّحَابِيِّ أَرْجَحُ مِنْ قِيَاسِنَا وَأَقْوَى، لِعِلْمِهِمْ بِأَحْوَالِ الْمَنْصُوصَاتِ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي كَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ مُخْبَرِهِ. كَذَلِكَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنْ اجْتِهَادِنَا - وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى رَأَيْنَا. قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ نَصًّا وَتَوْثِيقًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَهُ اجْتِهَادًا، فَصَارَ لَهُ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِ، وَتَرْكِ قَوْلِنَا لِقَوْلِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَتَرْكُ رَأْيِهِ لِقَوْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى اجْتِهَادَ نَفْسِهِ (وَرَوَى دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ) ، عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ،، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: بِأَنَّ هَذَا عِنْدَهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ يُقَلِّدُهُ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ بِوُجُوهِ الْقِيَاسِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ، فَيَكُونُ تَقْلِيدُهُ إيَّاهُ ضَرْبًا مِنْ الِاجْتِهَادِ، يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ مَنْ قَلَّدَهُ أَقْوَى وَأَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يُقَوِّي مَا حَكَيْنَاهُ: مِنْ حِجَاجِ أَبِي سَعِيدٍ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ، وَيَكُونُ لِتَقْدِيمِ قِيَاسِ الصَّحَابِيِّ وَاجْتِهَادِهِ عَلَى اجْتِهَادِنَا فَضْلُ مَزِيَّةٍ بِمُشَاهَدَتِهِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِ النُّصُوصِ، وَمَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَعِلْمِهِ بِتَصَارِيف الْكَلَامِ، وَوُجُوهِ الْخِطَابِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا عِلْمُنَا وَمَعْرِفَتُنَا، فَيَكُونُ قِيَاسُهُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِنَا. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا: بِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرَ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا، إذَا اتَّفَقَا عَلَى قَوْلٍ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ: عَلَى أَنَّهُمَا إذَا خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَقْلِيدُهُمَا فَخَصَصْنَاهُ مِنْ اللَّفْظِ،، وَبَقِيَ حُكْمُهُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا إذَا أَجْمَعَا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يُخَالِفْهُمَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمَا، وَإِذَا لَزِمَ تَقْلِيدُهُمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا - لَزِمَ. تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا، وَأَحَدُ الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَيَدُلُّ أَيْضًا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِ هُدًى، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْهُدَى لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلِلْقِيَاسِ مَدْخَلٌ فِي إثْبَاتِهِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُجَّةً، لَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُخَالَفَتُهُ، كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا حُجَّةً يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمَا. فَقِيلَ لَهُ: بِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ الْجَمَاعَةِ مَعَ كَوْنِ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً عَلَيْنَا. فَمَا أَنْكَرَتْ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُجَّةً، وَيَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ حُجَّةً عَلَيْنَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ، فَأَجَابَ بِأَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِلْجَمَاعَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَنَظِيرُ مَا قُلْنَا: أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَشِذَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَيُخَالِفُهُمْ بَعْدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 مُوَافَقَتِهِ إيَّاهُمْ، فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ، وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَلَا يُنْقِضُهُ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَلَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ، فَلِذَلِكَ جَازَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَتُهُ. قَالَ: وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى تَقْلِيدِهِ وَاتِّبَاعِ قَوْلِهِ. (أَلَا تَرَى: أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَصَبْت الْحَقَّ، أَوْ كَلَامًا نَحْوَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ، وَلَكِنْ لَمْ آلُ عَنْ الْحَقِّ) وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فِي قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا (فِي الْجَدِّ) : لَيْسَ رَأْيِي حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ، فِي نَفْيِ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمْ. فَإِذَا لَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ عَلَى النَّاسِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ: أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ إنَّمَا مَنَعَتْ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فَأَخْبَرُوا: أَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فِيهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ دُونَ التَّقْلِيدِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَرَى قَبُولَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، (لَازِمًا) فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ، وَالِاجْتِهَادِ. وَيُعْزِي ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا، وَيَذْكُرُ مَسَائِلَ قَالُوا فِيهَا بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ وَلُزُومِ قَبُولِ قَوْلِهِ، نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ (إذَا قَعَدَ الرَّجُلُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ) وَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ: أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ (وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَغَيْرِهِ (فِي أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِمِقْدَارِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ) . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ وَكَانَ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفَ أَوْ الِاتِّفَاقَ، ثُمَّ وَجَدْنَا الصَّحَابِيَّ قَدْ قَطَعَ بِذَلِكَ وَأَثْبَتَهُ، دَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ: عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوْقِيفًا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ تَخْمِينًا وَتَظَنُّنًا، فَصَارَ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ إنَّمَا يَلْزَمُ قَبُولُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْوَاحِدِ فِيهِ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ تَوْقِيفًا. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى إثْبَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالرَّأْيِ وَأَنَّ طَرِيقَهُ التَّوْقِيفُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، لَيْسَ عَلَى جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ (بَيْنَ) قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، فَيَكُونُ مَوْكُولًا إلَى الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأٌ، كَمَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ، الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَمَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، وَمِقْدَارِ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ، لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ، كَذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ تُثْبِتُونَ أَنْتُمْ مَقَادِيرَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ: ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَقَالَ فِي الْغُلَامُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 إذَا لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهُ مَا لَمْ تَمْضِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَلَا تَوْقِيفَ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ (شَيْءٍ مِنْ) هَذِهِ الْمَقَادِيرِ، وَلَا اتِّفَاقَ، فَأَثْبَتُوهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ. وَإِذَا كَانَ الرَّأْيُ وَالِاجْتِهَادُ يَدْخُلُ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ، لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ قَالَتْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ. فَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَوْقِيفٌ. قِيلَ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لَا عَلَى، جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي قَدْ عُرِفَ، أَوْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَوَكَّلَ حُكْمَ الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا إلَى آرَائِنَا وَمَا يُؤَدِّينَا إلَيْهِ اجْتِهَادُنَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي ذَكَرْنَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ لَا يُوجِبَانِ حَدَّ الزِّنَا (مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وَلَا حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ، وَلَا يَدُلَّانِ عَلَى مَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَلَا عَلَى مَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، لِأَنَّهَا كُلُّهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأَةٌ. كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي حَكَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَذَمِّ التَّقْلِيدِ] ِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَإِثْبَاتِ حُجَجِ الْعُقُولِ. فَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: النَّظَرُ وَاجِبٌ، وَحُجَجُ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ، تُعْرَفُ بِهَا صِحَّةُ الْمَذَاهِبِ مِنْ فَاسِدِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ: لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي تَصْحِيحِ شَيْءٍ وَلَا إفْسَادِهِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ صِحَّةُ الْمَذَاهِبِ وَفَسَادُهَا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ، وَمَشْهُورٌ عَنْ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بَلْ عَلَى الْعُقُولِ. وَمَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِ: أَنَّ حُجَّةَ الْعُقُولِ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْقَائِلُونَ بِنَفْيِ حُجَجِ الْعُقُولِ إنَّمَا يَنْفُونَهَا بِالْقَوْلِ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعُقُولِ فِي إثْبَاتِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَوْ فِي نَفْيِهَا وَالْحِجَاجُ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ صُورَتُهُ فِي عُقُولِ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ، إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَامِضٌ خَفِيٌّ. فَالْجَلِيُّ مِنْهُ: لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ الشَّكُّ فِيهِ، وَلَا إيرَادُ شُبْهَةٍ عَلَى نَفْسِهِ فِي نَفْيِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 وَالْخَفِيُّ مِنْهَا: قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ شُبْهَةٌ يَتْبَعُهَا النَّاظِرُ، فَيَذْهَبُ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ، وَأَكْثَرُ مَا يَعْرِضُ هَذَا لِمَنْ نَظَرَ فِي الْفُرُوعِ قَبْلَ إحْكَامِ الْأُصُولِ، أَوْ لَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ وَلَا تَعْرِضُ لَهُ شُبْهَةٌ: فِي أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَخْلُوَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَا فَاسِدَيْنِ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَحِيحًا وَالْآخَرُ فَاسِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِقَادُ لِصِحَّتِهِمَا جَمِيعًا، كَنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ (فِي هَذِهِ السَّاعَةِ) . وَقَالَ آخَرُ: لَيْسَ هُوَ فِي هَذِهِ الدَّارِ (فِي هَذِهِ السَّاعَةِ) إنَّهُمَا جَمِيعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صَادِقَيْنِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَادِقًا وَالْآخَرُ كَاذِبًا، وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ طَرِيقُهُ الْعَقْلُ. وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ لَا يَشْتَرِكُونَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْخَبَرِ وَاقِعٌ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَمَنْ نَفَى هَذَا فَهُوَ كَنَافِي عُلُومِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَاتِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ مَا يَدُقُّ وَيَلْطُفُ، فَيَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّأَمُّلِ. كَالشَّخْصِ إذَا رَأَيْنَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَكَالْهِلَالِ إذَا طَلَبْنَاهُ، فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ، وَرُبَّمَا كَانَ إدْرَاكُهُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيقِ الشَّدِيدِ، وَكَذَلِكَ عُلُومُ الْعَقْلِ: فِيهَا جَلِيٌّ، وَفِيهَا خَفِيٌّ. وَيُبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا: أَنَّ الْعِلْمَ يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ، كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَاتِ، وَكَالْعِلْمِ يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادَاتِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَبِيلُ إدْرَاكِهَا الْعَقْلُ (لَكَانَ الْإِنْسَانُ وَالْبَهِيمَةُ) بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ إلَّا مَا تَعْلَمُهُ الْبَهِيمَةُ إذَا كَانَتْ عُلُومُهُ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تُؤَدِّيهِ إلَيْهِ حَوَاسُّهُ. وَتَبَيَّنَ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ حُجَجِ الْعُقُولِ ضَرُورَةٌ إذْ كُلُّ مَنْ نَفَاهَا فَإِنَّمَا يَنْفِيهَا بِحُجَجِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 الْعُقُولِ، وَبِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَيَحْتَجُّ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ بِالْعُقُولِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ لِلتَّقْلِيدِ بِالتَّقْلِيدِ نَفْسِهِ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةً لِنَفْسِهَا، فَإِنَّمَا يَفْزَعُ إلَى مَعْنًى غَيْرِ التَّقْلِيدِ، فَيَقُولُ: إنَّ (النَّظَرَ بِدْعَةٌ، وَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الْحِيرَةِ، وَإِلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَقَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ الْمُقَلِّدَ وَالنَّافِي لِلنَّظَرِ إنَّمَا يُثْبِتُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْفِيهِ، كَمَا أَنَّ النَّافِيَ لِعُلُومِ الْحِسِّ إنَّمَا يَرُومُ نَفْيَهَا بِحِجَاجٍ وَنَظَرٍ هُوَ دُونَ عُلُومِ الْحِسِّ فِي مَنْزِلَةِ الثَّبَاتِ وَالْوُضُوحِ، فَيَقُولُ: إنَّمَا أَبْطَلَتْ عِلْمَ الْحِسِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي النَّوْمِ مَا (لَا) يَشُكُّ فِي حَقِيقَتِهِ وَصِحَّتِهِ، كَرُؤْيَتِهِ لِمَا يَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ، ثُمَّ لَا يَجِدُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ لَهُ حَقِيقَةً، وَكَمَا يَرَى الْإِنْسَانُ السَّرَابَ، فَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مَاءٌ، ثُمَّ إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وَكَالْمَرِيضِ يَجِدُ الْعَسَلَ مُرًّا، فَلَمْ آمَنْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَحْسُوسَاتِ، فَيَرُومُ إبْطَالَ (عُلُومِ) الْحِسِّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. كَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ: إنَّمَا يَفْزَعُ فِي إثْبَاتِ التَّقْلِيدِ وَإِبْطَالِ النَّظَرِ، إلَى النَّظَرِ وَالْحِجَاجِ، فَيُنَاقِضُ فِي مَذْهَبِهِ، وَيَهْدِمُ مَقَالَتَهُ بِحِجَاجِهِ. وَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِالتَّقْلِيدِ وَالنَّافِي لِحُجَجِ الْعُقُولِ: أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بِحُجَّةٍ، فَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَقَدْ حَكَمَ عَلَى مَذْهَبِهِ بِالْفَسَادِ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي إثْبَاتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " حَدُّ الْبُلُوغِ " فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَا يَكُونُ بَالِغًا، وَقَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً يَكُونُ بَالِغًا، فَهَذَانِ الطَّرَفَانِ قَدْ عَلِمْنَا حُكْمَهُمَا يَقِينًا، وَوَكَّلَ حُكْمَ مَا بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ حَدِّ الْبُلُوغِ إلَى اجْتِهَادِنَا، إذَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ إجْمَاعٌ، فَأَوْجَبَ عِنْدَهُ اجْتِهَادُهُ: أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْبُلُوغِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ قَوْلِهِ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْغُلَامِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ إنَّهُ (قَدْ) ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فَذَكَرَ هَاهُنَا حَالًا لَا يُنْتَظَرُ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] فَمَنَعَ إمْسَاكَ مَالِ الْيَتِيمِ بَعْدَ بُلُوغِ رُشْدِهِ، فَكَانَ هَذَانِ الطَّرَفَانِ اللَّذَانِ هُمَا: حَالُ الصَّغِيرِ، وَحَالُ بُلُوغِ الرُّشْدِ (مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا، وَوَكَّلَ حَدَّ بُلُوغِ الرُّشْدِ) إلَى اجْتِهَادِنَا. فَكَانَ عِنْدَهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، لِأَنَّ مِثْلَهُ (يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ) جَدًّا. وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ أَشُدَّهُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ، وَلِوَلَدِهِ وَلَدٌ، فَكَذَلِكَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ (وَ) فَارَقَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي مُدَّةِ نَفْيِ الْوَلَدِ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ سُكُوتَهُ سَاعَةً وَسَاعَتَيْنِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَفْيِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، وَاعْتَبَرَ مُدَّةَ النِّفَاسِ الَّذِي هُوَ حَالُ الْوِلَادَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا نَظِيرُ الِاجْتِهَادِ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، فَيَثْبُتُ مَقَادِيرُ الْقِيَمِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ لِمَا يَبْتَاعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ النَّقْصِ بِالْجِرَاحَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ فِي شَيْءٍ. وَإِنْ قَالَ: أَثْبَتَهُ بِحُجَّةٍ. قِيلَ لَهُ: فَمَا تِلْكَ الْحُجَّةُ؟ فَإِنْ ادَّعَى نَصًّا، أَوْ اتِّفَاقًا، فَلَمْ يَجِدْهُ، وَإِنْ فَزِعَ إلَى التَّقْلِيدِ، وَقَالَ: حُجَّتِي فِي إثْبَاتِهِ هُوَ التَّقْلِيدُ نَفْسُهُ، فَقَدْ أَبْطَلَ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 لِنَفْسِهَا، وَهُوَ إنَّمَا (يَسْأَلُ عَنْ) التَّقْلِيدِ لِمَ قُلْت: إنَّهُ حُجَّةٌ. فَإِنْ قَالَ: هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْك فِي قَوْلِك بِحُجَجِ الْقَوْلِ، لِأَنَّا نَقُولُ لَك: أَثْبِتْ حُجَّةَ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْت: أُثْبِتُهَا بِغَيْرِ الْعَقْلِ، قُلْنَا لَك: فَأَظْهِرْهُ. وَإِنْ قُلْت: أُثْبِتُهَا بِالْعَقْلِ، فَفِي هَذَا نُوزِعْت، وَإِنَّمَا جَعَلْت الْمَسْأَلَةَ دَلِيلًا لِنَفْسِهَا. قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي هَذَا: أَنَّ اعْتِرَاضَك بِهِ احْتِجَاجٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَمُنَاظَرَةٌ مِنْك فِي إفْسَادِ الْمَذْهَبِ، وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتٌ مِنْك لِحُجَّةِ الْعَقْلِ، فَأَنْتَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْت نَفْيَهَا أَثْبَتّهَا، وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك، عَلَى أَنَّا نُجِيبُك إلَى سُؤَالِك، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا لَك بِحَقِّ النَّظَرِ. فَنَقُولُ: إنَّا أَثْبَتْنَا دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ: ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَرْتَابُ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ. وَمِنْهُ غَامِضٌ خَفِيٌّ، فَوَصَلْنَا إلَى عِلْمِ الْخَفِيِّ مِنْهُ بِالْجَلِيِّ، وَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ الْخَفِيِّ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُولِ إلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ، وَعَرَضَهُ عَلَى الْجَلِيِّ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ. فَمَا صَحَّحَهُ صَحَّ، وَمَا نَفَاهُ انْتَفَى، كَمَا نَقُولُ فِي الْمَحْسُوبَاتِ: إنَّا أَثْبَتْنَا عُلُومَهَا بِالْحِسِّ، وَإِنْ احْتَجْنَا فِي الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِ آلَةِ الْحِسِّ. أَلَا تَرَى: أَنَّ مَنْ بَيْنِ يَدَيْهِ طَعَامٌ، لَا يَدْرِي حُلْوٌ هُوَ أَمْ حَامِضٌ: أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِ آلَةِ الْحِسِّ فِيهِ دُونَ ذَوْقِهِ، حَتَّى يَعْرِفَ طَعْمَهُ. كَذَلِكَ الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ: مِنْهَا مَا هُوَ جَلِيٌّ، يُعْتَبَرُ بِهِ الْخَفِيُّ مِنْهُ، وَيُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ. وَيُقَالُ لَهُ فِي النَّظَرِ وَمُوجِبِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ: خَبَرُنَا عَنْ قَوْلِك بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ، هُوَ مَذْهَبٌ قَدْ عَلِمْت صِحَّتَهُ، أَوْ لَمْ تَعْلَمْهَا. فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ صِحَّتَهُ، فَقَدْ قَضَى عَلَى اعْتِقَادِهِ بِالْفَسَادِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 اعْتِقَادُ صِحَّةِ (شَيْءٍ) وَلَا يَدْرِي هَلْ صَحِيحٌ أَمْ فَاسِدٌ. وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت صِحَّتَهُ. قِيلَ لَهُ: فَعَلِمْته بِدَلِيلٍ أَمْ بِلَا دَلِيلٍ؟ فَإِنْ قَالَ: عَلِمْته بِلَا دَلِيلٍ. قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ عَلِمْت صِحَّتَهُ؟ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْته بِدَلِيلٍ. قِيلَ لَهُ: فَقَدْ تَرَكْت التَّقْلِيدَ وَلَجَأْت إلَى النَّظَرِ، فَهَلَّا نَظَرْت فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدْت فِيهِ غَيْرَك فَاسْتَدْلَلْت عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ؟ وَقَدْ اسْتَغْنَيْت عَنْ التَّقْلِيدِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، كَمَا أَثْبَتَّ التَّقْلِيدَ ضَرُورَةً، فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُضْطَرَّ إلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إثْبَاتُهُ، وَلِخَصْمِهِ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يُعَارِضَهُ فَيَدَّعِيَ عِلْمَ الضَّرُورَةِ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَوُجُوبِ النَّظَرِ، وَعَلَى أَنَّ مَا كَانَ الْعِلْمُ بِهِ ضَرُورَةً، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ إذَا تَسَاوَوْا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ. وَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِالتَّقْلِيدِ: قَدْ وَجَدْنَا الْقَائِلِينَ بِالتَّقْلِيدِ مُخْتَلِفِي الْمَذَاهِبِ، مُتَضَادِّي الِاعْتِقَادَاتِ عَلَى حَسَبِ تَقْلِيدِهِمْ لِمَنْ اتَّبَعُوهُ. فَأَيُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَضَادَّةِ الصَّحِيحُ؟ وَأَيُّهَا الْفَاسِدُ؟ إذْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا كُلُّهَا فِي الصِّحَّةِ. فَإِنْ قَالَ: مَذْهَبِي هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْلَى بِأَنْ يُقَلَّدَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَذْهَبِي صَحِيحًا، وَمَذْهَبُ غَيْرِي فَاسِدًا. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ صَارَ مَنْ قَلَّدْته مَذْهَبُك أَوْلَى بِأَنْ يُقَلَّدَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَلَّدَهُ خَصْمُك؟ . فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْرَعُ وَأَزْهَدُ، وَأَظْهَرُ صَلَاحًا. قِيلَ لَهُ: فَتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ وَاعْتِقَادَ الْبَاطِلِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ قَدْ أَمِنْت جَوَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَكَمَ لَهُ بِصِحَّةِ غَيْبِهِ، وَأَنَّ بَاطِنَهُ كَظَاهِرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ لِأَحَدٍ، إلَّا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنْ قَالَ: يَجُوزُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ الضَّلَالِ، وَاخْتِيَارُ الْخَطَأِ، وَالْعُدُولُ عَنْ الصَّوَابِ. قِيلَ لَهُ: فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَسْت تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ مُبْطِلًا فِي تَقْلِيدِك إيَّاهُ، وَاعْتِقَادِك مَذْهَبَهُ، فَلَسْتَ إذًا عَلَى عِلْمٍ مِنْ صِحَّةِ قَوْلِك وَبُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] . وَأَيْضًا: فَإِنَّك إذَا قَلَّدْت مَنْ لَا تَعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ، فَقَدْ جَعَلْت مَنْزِلَتَهُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْلَى بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْخَطَأِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا بَعْدَ إظْهَارِ الْأَعْلَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَجَعَلَهَا حُجَّةً عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ، فَكَانَ عَلَيْك فِي هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّك جَعَلْت مَنْزِلَةَ مَنْ قَلَّدْته بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَجِبْ اتِّبَاعُهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ - فَمَنْ دُونَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَك صِحَّةَ حُجَجِ الْعُقُولِ: أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ فَهُوَ يَجِدُ نَفْسَهُ يَفْزَعُ إلَى النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُ، مَعْرِفَتِهِ الْحِسَّ وَالْخَبَرَ، كَمَا يَجِدُهَا تَفْزَعُ إلَى الْحَوَاسِّ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِسُّ، وَإِلَى الِاسْتِخْبَارِ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْخَبَرُ. فَلَوْلَا أَنَّ النَّظَرَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى عُلُومٍ عَقْلِيَّةٍ - لَمَا كَانَتْ تَفْزَعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا تَفْزَعُ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الذَّوْقَ إلَى الشَّمِّ، وَلَا فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمَاعُ إلَى الذَّوْقِ، وَإِنَّمَا تَفْزَعُ فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ الطُّعُومِ إلَى الذَّوْقِ، وَفِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْأَلْوَانِ إلَى الْبَصَرِ، وَفِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ إلَى الِاسْتِمَاعِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ: أَنَّ النَّظَرَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ، كَالْحِسِّ، قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِيَارًا وَسَبَبًا إلَى الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ أُمُورٍ بِهِ تُدْرَكُ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ، لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، حَتَّى الْعَامِّيُّ الْغُفْلُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ طَلَبُ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ، يَفْزَعُ إلَى النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ، كَمَا يَفْزَعُ إلَى الْحِسِّ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِسُّ، وَإِلَى الْخَبَرِ فِيمَا (طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ) الْخَبَرُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 وَالنَّافِي لِلنَّظَرِ وَحُجَجِ الْعُقُولِ، كَالنَّافِي لِعُلُومِ وَصِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ. لَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: (قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ، كَمَا جَعَلَ فِي طِبَاعِهِمْ الْحَوَاسَّ وَسَمَاعَ الْأَخْبَارِ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْحُمْقِ: إنَّمَا قُلْت بِالتَّقْلِيدِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، لِأَنَّهُمْ أَمَرُونَا بِالِاتِّبَاعِ، وَنَهَوْنَا عَنْ الِابْتِدَاعِ وَاتِّبَاعِ الرَّأْيِ. قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي هَذَا، أَنَّهُ تَخَرُّصٌ عَلَى السَّلَفِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَعْمَلُوا النَّظَرَ وَالرَّأْيَ فِي حَوَادِثِ أُمُورِهِمْ، وَلَا يَجْهَلُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ، وَأَحْسَبُ: أَنَّا قَدْ سَلِمْنَا لَك مَا ادَّعَيْته عَلَى السَّلَفِ. فَخَبِّرْنَا مِنْ أَيْنَ ثَبَتَ عِنْدَك لُزُومُ تَقْلِيدِ السَّلَفِ فِيمَا ذَكَرْت؟ فَإِنْ قَالَ: لِأَنِّي قَدْ عَلِمْت: أَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ. قِيلَ: وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ عِنْدَك صِحَّةُ الْكِتَابِ (وَالسُّنَّةِ) ؟ فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى إثْبَاتِ النَّظَرِ وَحُجَجِ الْعُقُولِ، لِأَنَّ بِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّاتُ بِالدَّلِيلِ، وَالْأَعْلَامُ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَهُوَ لَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ بِتَقْلِيدِ السَّلَفِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ، فَهُوَ مِمَّا اتَّبَعَ الدَّلَائِلَ، وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتُ النَّظَرِ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ عَلَى صِحَّتِهِ دَلَالَةٌ. وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا فِي الْعُقُولِ مِنْ نَفْيِ التَّقْلِيدِ وَإِثْبَاتِ (النَّظَرِ) ، بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ: {فَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ، وَالِاعْتِبَارُ هُوَ: النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ. وَقَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 24] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] وَأَمَرَ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُحَاجَّةِ الْكَافِرِ حَتَّى بُهِتَ الْكَافِرُ وَانْقَطَعَ، وَأَخْبَرَ عَنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76] إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191] . وَاحْتَجَّ فِي إبْطَالِ قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ وَالْمَجُوس بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 وَاحْتَجَّ عَلَى أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ بِقَوْلِهِ: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] إلَى قَوْله تَعَالَى {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] فَأَدْحَضَ مَقَالَتَهُمْ، وَأَبَانَ عَنْ فَسَادِهَا بِأَنَّ هَذَا (لَوْ كَانَ) مِنْ طَبْعِ التُّرْبَةِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ - لَجَاءَتْ الطُّعُومُ مُتَسَاوِيَةً مُتَّفِقَةً، وَلَمْ يَتْرُكْ لِمُلْحِدٍ تَأَمَّلَهُ شُبْهَةً، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فَدَلَّهُمْ بِخَلْقِهَا ابْتِدَاءً، عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى إعَادَتِهَا بَعْدَ إفْنَائِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] فَحَثَّهُمْ عَلَى النَّظَرِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ، مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَلَوْ كَانَ الدِّينُ بِالتَّقْلِيدِ لَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَمَوَاضِعُ الْفِكْرِ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ: مِنْ الْآيِ، الَّتِي فِيهَا الْحِجَاجُ، وَالنَّظَرُ، وَالْأَمْرُ بِالِاعْتِبَارِ، وَالْفِكْرِ. كَثِيرَةٌ يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا، وَإِلَى هَذَا دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى أَنْ قُبِضَ. وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ، قَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ، خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، نَقْلًا مُتَوَاتِرًا مُتَّصِلًا، كَمَا نَقَلُوا دُعَاءَهُ إيَّاهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ. وَإِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلُوا مَعَهُ دُعَاءَهُ إيَّاهُمْ إلَى الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ. فَمَنْ أَنْكَرَ حُجَجَ الْعُقُولِ وَدَلَائِلَهَا، فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 تَعَالَى، أَوْ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَنَا) بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، كَانَ أَمْرُهُ بِهِ مَقْرُونًا بِالْأَمْرِ (بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَعَلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أَمْرَهُ إيَّانَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ، لَمْ يَحْدُثْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَائِلُ لَمْ تَكُنْ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهَا قَبْلَ أَمْرِهِ إيَّانَا بِالنَّظَرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا، فَعَلِمْنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ خَلَقَهَا فَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْعُقَلَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَجَاءَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَدْعُو إلَى تَرْكِ التَّقْلِيدِ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] فَحَكَمَ بِضَلَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَرْجِعُوا فِي مَذَاهِبِهِمْ إلَى حُجَّةٍ تُصَحِّحُهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ الْمُقَلِّدِ. وَذَمَّ مَنْ احْتَجَّ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] وَجَعَلَ اللَّهُ تَارِكِي النَّظَرِ بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ، وَبِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ. فَقَالَ تَعَالَى: {إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ، وَصَيَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ، مِثْلُ الْبَهِيمَةِ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 مَا خُوطِبَ بِهِ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحْوِجْ إلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَغْنَانَا عَنْهَا بِالسَّمْعِ، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِحُجَجِ الْعُقُولِ وَدَلَائِلِهَا، وَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَكْذِيبِ مُسَيْلِمَةَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ وَالنَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَلَا يَتَأَتَّى فِعْلُهُ لِمَخْلُوقٍ، وَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ مُسَيْلِمَةُ مَخَارِيقَ وَحِيَلَ لَا تَعُوزُ أَحَدًا صَرْفُ هِمَّتِهِ إلَيْهِ إلَّا فَعَلَ مِثْلَهُ وَأَضْعَافَهُ. وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يُضَاهِي قَوْلَ دَاوُد فِي قَوْلِهِ: إنِّي عَرَفْت اللَّهَ بِالْخَبَرِ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مُقِرٌّ: أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى، لِزَعْمِهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى عِلْمِ ذَلِكَ، إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَلَا وُصُولَ إلَى عِلْمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ إلَّا بِالْعَقْلِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذِبِ الْمُتَنَبِّي. وَعَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْرِفَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُرْسِلَ، وَيَعْلَمَ النَّبِيَّ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنِّي عَرَفْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَبَرِ، لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ خِذْلَانٍ لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ، وَمِنْ جَهَالَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا نِهَايَةٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَعْرِفُ دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِانْضِمَامِ الْخَبَرِ إلَيْهَا، وَمَتَى لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا الْخَبَرُ لَمْ تَكُنْ الْعُقُولُ مُفْضِيَةً إلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ادَّعَيْت أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِدَلَائِل الْعَقْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا صَحِيحًا، أَوْ فَاسِدًا، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ، لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَلَا فَسَادُهُ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَاسِدًا أَوْ كَاذِبًا، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجِبَ الْعِلْمَ (بِمُخْبِرِهِ لِأَنَّ مُخْبِرَهُ كَذَبَ، وَالْخَبَرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ أَيْضًا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ) ، لِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 يَكُنْ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ (لَا) يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ خَبَرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُ خَبَرِهِ، إذَا لَمْ تُرَاعَ صِحَّتُهُ فِي انْضِمَامِهِ إلَى دَلَائِلِ الْعُقُولِ. وَإِنْ كَانَ شَرْطُ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَصِدْقًا، فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ فَسَادِهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَيَحْتَاجُ أَوَّلًا أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَقَدْ أُوجِبَ اسْتِعْمَالُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ، وَقَدْ اسْتَغْنَى الْعَقْلُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ عَنْ خَبَرٍ يُضَادُّهُ، فَتَنَاقَضَ قَوْلُك، وَظَهَرَ تَجَاهُلُك. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ فِي الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، عَلَى مَا كَلَّفَنَا الْعِلْمُ بِهِ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ انْضِمَامِ خَبَرٍ إلَيْهِ. وَإِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ قَبْلَ أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] إلَى قَوْله تَعَالَى: {إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79] ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ مُكَلَّفٍ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] إلَى قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَسْت أَقُولُ: إنَّ الْخَبَرَ وَالْعَقْلَ مَعًا يُحْدِثَانِ لِي الْعِلْمَ بِمُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ عِنْدَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَلَكِنِّي أَقُولُ: إنَّ الْخَبَرَ يُنَبِّهُ عَلَى النَّظَرِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ دَلَائِلِ الْعَقْلِ، وَلَوْلَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ لِي سَبِيلٌ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّنَبُّهُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، شَرْطُهُ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ صِدْقُهُ مَعْلُومًا، أَوْ جَائِزًا، لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ. وَأَيُّ خَبَرٍ كَانَ وَقَعَ بِهِ التَّنَبُّهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وَإِنْ كَانَ شَرِيطَةُ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ (مَعْلُومًا صِحَّتُهُ) عِنْدَك، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُك أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَهُ إلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَادَ عَلَيْك الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَلَى مَنْ قَالَ: إنِّي لَا أَعْلَمُ التَّوْحِيدَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَإِنْ جَازَ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّنْبِيهُ، خَبَرَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ، لِوُجُودِ التَّنْبِيهِ فِي الْحَالَيْنِ، فَلَيْسَ يُفِيدُك الْخَبَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، إلَّا مَا يُفِيدُك الْخَوَاطِرُ الْمُنَبِّهَةُ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، فَقَدْ اسْتَغْنَى بِالْخَوَاطِرِ عَنْ الْخَبَرِ، إذْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْلُو مِنْهُ، لِمَا يُرَى مِنْ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَا يُشَاهِدُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا صُنْعَ لَهُ فِيهَا، وَمَنْ لَمْ تُزْعِجْهُ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ وَلَمْ تَبْعَثْهُ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، فَخَبَرُ الْمُخْبِرِ لَهُ بِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ. فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ وُجُودُ الْمُخْبِرِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ: أَنَّ الْعُلُومَ إلْهَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ لَا يُوَصِّلَانِ إلَى عِلْمٍ يَرِدُ، لِنَصِّ الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلَ بِهِ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَقُولُ: قَدْ أُلْهِمْت الْعِلْمَ بِإِبْطَالِ الْإِلْهَامِ. وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: مِنْ أَيْنَ حَكَمَ بِأَنَّ مَا سَبَقْت إلَى اعْتِقَادِهِ هُوَ عِلْمٌ حَتَّى قَضَيْت بِأَنَّهُ إلْهَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ظَنًّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهَلَّا يُمْكِنُك الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ ضِدَّ مَقَالَتِك، وَيَدَّعِي أَنَّهُ إلْهَامٌ؟ فَإِنْ ادَّعَى دَلَالَةً أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ - فَقَدْ تَرَكَ الْقَوْلَ بِالْإِلْهَامِ، وَرَجَعَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ. وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ - فَهُوَ وَخَصْمُهُ فِي الدَّعْوَى سَوَاءٌ. وَإِلَى ذَلِكَ يَئُولُ عَاقِبَةُ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 [بَابٌ الْقَوْلُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ] بَابٌ الْقَوْلُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نَفْيِهِ لِمَا نَفَاهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَا فِي السَّمْعِيَّاتِ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الْمُثْبِتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا نَفَاهُ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَلَى كُلِّ مَنْ نَفَى شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ، وَعَلَى إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ، وَذَلِكَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ سَوَاءٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا، فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُثْبِتٌ لِوُجُودِ اعْتِقَادِ (صِحَّةِ ذَلِكَ) . فَاقْتَضَى أَصْلُهُ وُجُوبَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ فِي إسْقَاطِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي - فَهُوَ مِنْ حَيْثُ يَرُومُ إسْقَاطَ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي، فَقَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ لِذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ، قَدْ قَضَى لِخَصْمِهِ بِإِسْقَاطِ الدَّلَائِلِ عَنْهُ فِي نَفْيِ قَوْلِهِ، لِأَنَّ خَصْمَهُ نَافٍ لِصِحَّةِ مَقَالَتِهِ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ إذًا فِي نَفْيِهِ مَقَالَتَهُ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَا دَلَالَةَ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِ: بِأَنَّ النَّفْيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَيُوجِبُ هَذَا تَنَاقُضَ الْقَوْلَيْنِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 لِأَنَّهُ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ (فِي نَفْيِهِ) لِمَا نَفَاهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى خَصْمِهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ. وَيُقَالُ لِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ: إذَا نَفَيْت حُكْمًا خُولِفْت فِي نَفْيِهِ، وَزَعَمْت أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فَهَلْ عَلِمْت صِحَّةَ مَا نَفَيْته؟ فَإِنْ قَالَ: قَدْ عَلِمْت (أَنَّ) مَا نَفَيْته فَهُوَ مُنْتَفٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قِيلَ لَهُ: بِمَ عَلِمْته وَخَصْمُك بِإِزَائِك يُخَالِفُك فِيهِ، وَمَنْ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بُرْهَانٍ. فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ حَقًّا. قِيلَ لَهُ: فَلِمَ اعْتَقَدْته مَنْفِيًّا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَإِنْ جَازَ لَك أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّةَ مَا لَا تَعْلَمُهُ حَقًّا وَصَوَابًا إذَا كُنْت نَافِيًا، وَلَا تُلْزِمُ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتَ مَا لَا تَعْلَمُهُ ثَابِتًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ؟ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ حَقًّا، كَانَ لَا دَلِيلَ عَلَى مَنْ نَفَى حَدَثَ الْعَالَمِ، وَنَفَى إثْبَاتَ الصَّانِعِ، وَلَجَازَ لَهُ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ ذَلِكَ، وَتَرْكُ النَّظَرِ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ أَوْ نَفْيِهِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ نَفَى مَا طَرِيقُهُ الْعَقْلُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ دَلَالَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ. فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ فِيهِ: بِأَنَّ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى إثْبَاتِ الْمُثْبِتِ، وَنَفْيِ الْمُنْتَفِي بِمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ الْعَقْلُ. فَلِمَ يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا السَّمْعِيَّاتُ فَطَرِيقُهَا السَّمْعُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي إثْبَاتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مِنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ، وَمَنْ ادَّعَى إثْبَاتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُثْبِتٍ. فَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِهَذَا الْقَوْلِ: إنَّك وَإِنْ كُنْت نَافِيًا لِلْحُكْمِ الَّذِي نَازَعَك فِيهِ خَصْمُك، فَإِنَّك مُثْبِتٌ لِصِحَّةِ اعْتِقَادِك بِأَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْك، وَإِنَّ نَفْيَ هَذَا الْحُكْمِ وَاجِبٌ. وَهَذَا شَيْءٌ طَرِيقُهُ السَّمْعُ، فَلِمَ ثَبَتَ اعْتِقَادُك كَذَلِكَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك: إنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْمُثْبِتِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنَّ طَرِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ أُصُولُهَا السَّمْعَ - فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ فِي أُصُولِهَا دَلَائِلَ عَلَى فُرُوعِهَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَقَدْ جَرَتْ مَجْرَى الْعَقْلِيَّاتِ فِي وُجُوبِ دَلَائِلِهَا عَلَى الْمَنْفِيِّ وَالْمُثْبَتِ مِنْهَا، فَهَلَّا أَوْجَبْت إقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَيْت كَمَا أَوْجَبْتهَا عَلَى إثْبَاتِ مَا أَثْبَتّ؟ . وَأَيْضًا: فَإِنَّك قَدْ اسْتَدْلَلْت عَلَى النَّفْيِ بِمَا ذَكَرْته: مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ النَّفْيُ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السَّمْعُ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَقَدْ نَاقَضْت فِي قَوْلِك: إنَّ النَّافِيَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: هَلْ عَلِمْت: أَنَّ مَا نَفَيْت مِنْ ذَلِكَ لَا دَلِيلَ عَلَى إثْبَاتِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْته؟ فَإِنْ قَالَ عَلِمْته بِدَلَالَةٍ. قِيلَ لَهُ: فَأَنْتَ إنَّمَا نَفَيْته بِدَلَالَةٍ، فَأَظْهِرْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ. وَقَدْ تَرَكْتَ مَعَ ذَلِكَ أَصْلَك لِإِقْرَارِك بِأَنَّ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلًا. فَإِنْ قَالَ: لَسْت أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. قِيلَ لَهُ: فَنَفَيْتَهُ بِجَهْلٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْك بِنَفْيِ الدَّلَالَةِ، فَهَلَّا أَثْبَتَّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِدَلَالَتِهِ؟ وَكَيْفَ صَارَ النَّفْيُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى مِنْ الْإِثْبَاتِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. فَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] فَعَنَّفَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مَنْفِيًّا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ: أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، فَلَمْ يُخَصِّصْ بِالْبَيَانِ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ (لَمْ) يُرِدْ بِهِ وُقُوعَ الْبَيَانِ فِي الْجَمِيعِ نَصًّا. وَإِنَّمَا أَرَادَ نَصًّا وَدَلِيلًا، وَلَمْ يُخَصِّصْ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. فَهَلَّا طَلَبْت دَلَالَةَ النَّفْيِ فِي الْكِتَابِ: كَدَلَالَةِ الْإِثْبَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي اسْتِدْرَاكِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ، فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَالنَّافِي مُنْكِرٌ، فَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَالْمُثْبِتُ مُدَّعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. قِيلَ: لَوْ اكْتَفَيْنَا بِهَذَا الْخَبَرِ (فِي) دَحْضِ مَقَالَتِك، وَفَسَادِ أَصْلِك، كَانَ كَافِيًا، لِأَنَّك مُدَّعٍ لِنَفْيِ الْحُكْمِ بِإِنْكَارِك لَهُ، وَمُدَّعٍ لِبُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك الْمُثْبِتِ لِمَا نَفَيْت، وَمُدَّعٍ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وَمُدَّعٍ لِصِحَّةِ اعْتِقَادِك بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فِيمَا نَفَيْت مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ حَيْثُ كُنْت مُدَّعِيًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ عَلَيْك إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعَاوِيك هَذِهِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى» . فَإِنْ تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَقَالَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا فِي يَدَيْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 رَجُلٍ فَجَحَدَهُ: إنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي فِي يَدِهِ بَيِّنَةٌ، إذْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ مِثْلُهُ فِي مُنْكِرِ الْحُكْمِ وَالْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ رَضِينَا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَيْضًا، فَأَنْتَ مُثْبِتٌ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَأَلْزِمْ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ كُنْت مُدَّعِيًا لِإِثْبَاتِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا، وَلِمَ صِرْت بِإِسْقَاطِ الدَّلَالَةِ عَنْك أَوْلَى مِنْ حَيْثُ كَانَ مُثْبِتًا؟ وَأَسْقَطْت عَنْ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُنْكِرًا؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ، إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا لِمِلْكِ صَاحِبِهِ، وَمُدَّعِيًا لِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيِّنَةَ عَلَى الَّذِي لَيْسَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ ظَاهِرَةُ يَدِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيِّنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ شَهَادَةِ ظَاهِرَةِ الْيَدِ، وَالْخَارِجُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لَهُ، فَاحْتَاجَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى بَيِّنَةٍ، وَأَمَّا الْمُتَنَازِعَانِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِهِ، فَلَيْسَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لَهُ، فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ مُدَّعِي الْمِلْكِ: أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَهُمَا يَدَّعِيَانِهِ، فَيُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِدَعْوَى صَاحِبِهِ، إذْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ (لَهُ) . وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخَلِّ الْمُنْكِرَ مِنْ يَمِينٍ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ، لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْخُصُومَةِ، فَهَلْ تُوجِبُ أَنْتَ عَلَى مُنْكِرِ الْحُكْمِ سَبَبًا يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ غَيْرَ نَفْيِهِ إيَّاهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ يَجِيءُ مَسَائِلُ تُشَاكِلُ هَذَا الْبَابَ فِي إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي جَمِيعًا، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الَّذِي انْتَحَلَهُ قَدْ انْطَوَى تَحْتَ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي النَّفْيَ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَالْإِثْبَاتُ إنْ كَانَ مُثْبَتًا، فَيَبْنِي الْقَائِلُ بِهِ مَقَالَتَهُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 الْجُمْلَةِ الَّتِي تَفَرَّدَتْ. فَيَقُولُ: لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ مَا سُمِّيَ تَحْرِيمُهُ، أَوْ لَمْ يَثْبُتْ نَفْيُ مَا أَرَدْت نَفْيَهُ، إذَا نَفَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِنَفْيِ أَحْكَامٍ هَذَا مِنْهَا، أَوْ يُعَلِّقُهُ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ، إذَا رَامَ إثْبَاتَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ الْمُثْبِتَ وَالنَّافِيَ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْبَابِ، مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى مَا نَفَاهُ أَوْ أَثْبَتَهُ، إلَّا أَنَّ دَلَالَتَهُ فِي ذَلِكَ: هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَسْنَدَ إلَيْهَا مَقَالَتَهُ، عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا. نَظِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ لَنَا: لِمَ أَبَحْتُمْ أَكْلَ الْأَرْنَبِ؟ لَجَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ؛ إذْ كَانَ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةَ فِي مِثْلِهِ، فَمَنْ رَامَ الْعُدُولَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَإِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْهُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ خَطَرِهِ، فَإِذَا عَلَّقَهُ بِهَذَا الْأَصْلِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَظْرِ، وَيَحْتَاجُ مُثْبِتُ الْحَظْرِ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ادَّعَى، فَلَا يَحْتَاجُ الْقَائِلُ بِالْإِبَاحَةِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ الْمَسْئُولُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي إبَاحَتَهُ - لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَفَتَثْبُتُ إبَاحَتُهُ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ أَجَزْتُمْ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ؟ فَقُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ، وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ الْبُيُوعَ بِلَفْظٍ عَامٍّ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَمَنْ ادَّعَى الْحَظْرَ وَإِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، كَانَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ، وَإِلَّا فَالْحُكْمُ الْإِبَاحَةُ وَالْجَوَازُ، كَانَ هَذَا كَلَامًا صَحِيحًا، وَلَوْ اقْتَصَرَ الْمَسْئُولُ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى أَصْلٍ مِنْ عُمُومٍ أَوْ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ، لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْقَوْلُ (بِهِ) ، إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْإِثْبَاتِ. لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ أَجَزْتُمْ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ؟ جَازَ أَنْ تَقُولَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ النِّكَاحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فَمَنْ ادَّعَى حَظْرَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِخْرَاجَهُ مِنْ الْعُمُومِ، احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ، وَإِلَّا فَأَنَا مُعْتَصِمٌ بِالظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ خَصْمَهُ يَقُولُ (لَهُ) : فَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ. فَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِيهِ، وَيَحْتَاجُ الْمَسْئُولُ حِينَئِذٍ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَصِحُّ لِلْقَائِلِ فِيهِ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَسَادُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ صِحَّتُهُ؛ إذْ عَلَّقَهُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَيَكُونُ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ، هُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ، وَإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ. (وَ) مَنْ رَامَ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ، احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ، وَمَنْ اعْتَصَمَ بِالْأَصْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أَكْثَرَ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِمَّا يُضَاهِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بِعَيْنِهِ: إثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ، فَجَائِزٌ عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ لِمَنْ أَثْبَتَ مِقْدَارًا قَدْ دَخَلَ فِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ، أَنْ يَقُولَ: أَثْبَتْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَائِلُ عَلَى إثْبَاتِ مَا سِوَاهُ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، إذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ تَوْقِيفًا، وَلَا اتِّفَاقًا، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ. نَظِيرُ ذَلِكَ: إنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ. (فَقِيلَ لَنَا لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ؟) جَازَ لَنَا أَنْ نَعْتَصِمَ فِيهِ بِمَوْضِعِ الِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمِقْدَارَيْنِ يَكُونَانِ حَيْضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 وَنَقُولُ: إنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ اتِّفَاقٌ وَلَا تَوْقِيفٌ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ فَتَسُومُنَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَيَقُولُ لَك خَصْمُك: قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ تَرَى فِيهِ الدَّمَ، فَلَا أَزُولُ عَنْ هَذَا الِاتِّفَاقِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ مِثْلِهِ. فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمًا وَأَحَدًا، حَسْبَمَا ذَكَرْته مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ تُؤْمَرْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى جِهَةِ الْقَطْعِ مِنَّا بِكَوْنِ ذَلِكَ الدَّمِ حَيْضًا، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهَا أَمْرًا مُرَاعًا، وَالثَّلَاثَةُ وَالْعَشَرَةُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهَا حَيْضٌ، لَا عَلَى جِهَةِ الْمُرَاعَاةِ وَالتَّرَقُّبِ بِحَالٍ ثَانِيَةٍ. أَلَا تَرَى: إنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ أَوَّلِ صَلَاةِ حَضَرَ وَقْتُهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُؤْيَةُ الدَّمِ) هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوَقْتِ حَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ أَمْرُنَا إيَّاهَا بِذَلِكَ مُرَاعًا وَمُتَرَقَّبًا بِهِ حَالًا ثَانِيَةً عِنْدَ مُخَالِفِينَا، كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي رُؤْيَةِ الدَّمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا صَارَتْ ثَلَاثَةً، فَقَدْ حَصَلَ الْيَقِينُ بِوُجُودِ الْحَيْضِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَلِذَلِكَ جَازَ لَنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ، وَنَنْفِيَ مَا سِوَاهُ، مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ وَلَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقٌ. وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَيْضِ: مُدَّةُ أَقَلِّ السَّفَرِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَنَّ أَقَلَّ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، مِنْ بَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْإِفْطَارِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ، وَهَاتَانِ الْمُدَّتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، فَجَازَ لَنَا الْوُقُوفُ عِنْدَهُمَا، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى اعْتِبَارِهِمَا وَنَفْيِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 مَا عَدَاهُمَا، مِمَّا يُوجِبُ خِلَافًا، لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِيهِ، وَامْتِنَاعِ جَوَازِ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ مُدَّةُ الْحَمْلِ قَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهَا تَكُونُ سَنَتَيْنِ، وَمَا زَادَ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوَقُّفٌ، وَلَا حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقٌ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ. وَمِثْلُهُ: مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، أَنَّ الْعَشَرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِيهَا، وَمَا دُونَهَا، فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ (إلَّا بِتَوْقِيفٍ) فَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ. وَمِثْلُهُ: أَنَّ نَصْبَ الْأَمْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ لِإِيجَابِ الزَّكَوَاتِ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، أَوْ الِاتِّفَاقِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي مِلْكٍ إذَا انْفَرَدَ عَنْ الْيَدِ، هَلْ يَكُونُ نِصَابًا صَحِيحًا، أَوْ لَا يَكُونُ النِّصَابُ الصَّحِيحُ إلَّا بِانْضِمَامِ الْيَدِ إلَى الْمِلْكِ، جَازَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، فِي كَوْنِهِمَا جَمِيعًا شَرْطًا فِي ثُبُوتِ النِّصَابِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ بِانْفِرَادِ الْمِلْكِ عَنْ الْيَدِ، نَحْوُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ مَنْ وَرِثَ دَيْنًا، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إذَا قَبَضَهُ فِيمَا مَضَى، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ حَوْلٌ بَعْدَ الْقَبْضِ، إذْ كَانَ اجْتِمَاعُ الْيَدِ وَالْمِلْكِ (عِنْدَ الْجَمِيعِ) نِصَابًا صَحِيحًا. وَاخْتَلَفُوا عِنْدَ انْفِرَادِ الْمِلْكِ عَنْ الْيَدِ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، وَنَفْيُ مَا عَدَاهُ، إذْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ. وَمِثْلُهُ مَا قَالَ فِي السِّخَالِ: إنَّهُ لَا صَدَقَةَ فِيهَا، لِأَنَّ النِّصَابَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، وُجُودُ السِّنِّ وَالْمِقْدَارِ، وَانْفِرَادُ الْمِقْدَارِ عَنْ السِّنِّ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ نِصَابًا، فَلَمْ يَثْبُتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ. وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، مِنْ إيجَابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّخَالِ وَالْمَسَانِّ إذَا اجْتَمَعَا، هَلْ يَكْمُلُ بِهِمَا نِصَابٌ؟ وَقَدْ أَثْبَتَ نِصَابًا مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ. قِيلَ لَهُ: لَا نَأْبَى (إثْبَاتَهُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ إذَا كَانَ هُنَاكَ تَوْقِيفٌ يَقْتَضِي إثْبَاتَهُ، وَإِنَّمَا أَبَيْنَا) إثْبَاتَهُ مِنْ غَيْرِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ، وَمَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ لِلْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ. وَالتَّوْقِيفُ الْمُوجِبُ لِمَا وَصَفْنَا: مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: فِي صَدَقَةِ الْمَوَاشِي وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا» وَلِأَنَّ أَسْمَاءَ الْمِقْدَارِ الَّذِي عَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُجُوبَ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَأَمَّا إذَا انْفَرَدَتْ السِّخَالُ عَنْ الْمَسَانِّ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهَا هَذَا الِاسْمُ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ فَلَمْ يَثْبُتْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: أَنْ تَجْعَلَ الْجَمْعَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَرْبَعِينَ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى صِحَّةِ انْعِقَادِهَا بِأَرْبَعِينَ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا دُونَهَا، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ. وَهَذَا أَيْضًا مَا لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاتِّفَاقِ أَوْ التَّوْقِيفِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الثَّلَاثَةِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهَا. فَأَثْبَتْنَاهَا، وَمَا زَادَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا التَّوْقِيفُ فِي جَوَازِهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ فَنَفَرَ النَّاسُ إلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا اثْنَا عَشَرَ» وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتْرُكْ الْجُمَعَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ. وَلَوْ كَانُوا قَدْ عَادُوا إلَى الصَّلَاةِ لَذَكَرَ. فَدَلَّ أَنَّهُ صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَإِذَا جَازَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ جَازَتْ بِثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّهُ قَدْ رُوِيَ: أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهَا، صَلَّاهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَثَبَتَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَوَازُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 [بَابُ الْكَلَامِ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ] [فَصْلٌ فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ] ِ فَصْلٌ: فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ، الْعِلَّةِ، وَالْقِيَاسِ، وَالِاجْتِهَادِ. الدَّلِيلُ: هُوَ الَّذِي إذَا تَأَمَّلَهُ النَّاظِرُ الْمُسْتَدِلُّ أَوْصَلَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، وَسُمِّيَ دَلِيلًا لِأَنَّهُ كَالْمُنَبِّهِ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْمُشِيرِ لَهُ إلَيْهِ، وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهَادِي الْقَوْمِ وَدَلِيلِهِمْ الَّذِي يُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ، فَإِذَا تَأَمَّلُوهُ وَاتَّبَعُوهُ أَوْصَلَهُمْ إلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَؤُمُّونَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: إنَّ (فِي) السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَائِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا تُوصِلُ الْمُتَأَمِّلَ بِحَالِهَا إلَى الْعِلْمِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الدَّلِيلُ هُوَ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ هُوَ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ، فَيَقُولُونَ عَلَى هَذَا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُطْلِقُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَلِيلٌ، وَلَا يَدْعُوهُ بِأَنْ يَقُولَ: يَا دَلِيلُ، إلَّا أَنْ يُقَيِّدُوهُ، فَيُرِيدُوا بِهِ الْمُنَجِّيَ مِنْ الْهَلَكَةِ، عَلَى مَعْنَى الدَّلِيلِ الَّذِي يُنَجِّيهِمْ بِهِدَايَتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 فَيَقُولُونَ: يَا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ، يَا هَادِيَ الْمُضَلِّينَ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54] يَعْنِي يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ دَلَّنَا عَلَى نَفْسِهِ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ. فَيُقَيِّدُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، إذَا وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ (بِهِ) . الْمُنَجِّي وَالْمُبَيِّنُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ، لِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الدَّلِيلِ مَوْجُودٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَقَدْ يَقُولُ النَّاسُ لِلْأَعْلَامِ الْمَنْصُوبَةِ لِمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ - نَحْوُ الْأَمْيَالِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْبَادِيَةِ -: إنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَلَا يُسَمُّونَ الَّذِي بَنَاهَا هُنَاكَ دَلِيلًا، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْمُتَأَمِّلُ لَهَا دَلِيلًا، دُونَ الْوَاضِعِ لَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى (صِحَّةِ) مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِي: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ الدَّلَالَةَ، وَالْأَعْلَامُ الْمَنْصُوبَةُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَيَقُولُ السَّائِلُ لِلْمُجِيبِ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِك؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَنْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِك؟ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا: أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ الْمُتَأَمِّلَ لَهُ وَالنَّاظِرَ فِيهِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ: أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ عِلْمُك بِالشَّيْءِ وَوُجُودُك لَهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا؟ جَازَ أَنْ يُقَالَ عِلْمِي بِكَذَا، وَوُجُودِي لِكَذَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وَصْفِ الدَّلِيلِ شَيْءٌ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا، وَلَا أَضْعَفُ، لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِ الْأَجْسَامِ؟ لَمْ يَصِحَّ (أَنْ يَقُولَ) : عِلْمِي بِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ الْحَوَادِثِ. بَلْ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِهَا أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ الْحَوَادِثِ. وَيُوجِبُ هَذَا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمَحْسُوسَاتُ مَعْلُومَةً مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، لِعِلْمِنَا بِهَا وَوُجُودِنَا إيَّاهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ (هَذَا) الْقَائِلِ هُوَ الدَّلِيلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ الدَّلِيلُ مُوجِبًا لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَلَا سَبَبًا لِوُجُودِهِ، وَكَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ وَيُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ، لَيْسَ هُوَ سَبَبًا لِوُجُودِ الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ الَّذِي يُوصَلُ إلَى عِلْمِهِ بِدَلَالَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ، فَهِيَ الْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَ حُدُوثِهِ يَحْدُثُ الْحُكْمُ. فَيَكُونُ وُجُودُ الْحُكْمِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِهَا، وَمَتَى لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ، هَذِهِ قَضِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَأَصْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ، لَمَّا كَانَ بِحُدُوثِهَا يَتَغَيَّرُ حَالُ الْمَرِيضِ، سُمِّيَتْ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْدُثُ بِحُدُوثِهَا الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ عِلَلًا، لِأَنَّ حُدُوثَهَا يُوجِبُ حُدُوثَ أَوْصَافٍ وَأَحْكَامٍ، لَوْلَاهَا لَمْ تَكُنْ. نَحْوُ قَوْلِنَا: حُدُوثُ السَّوَادِ فِي الْجِسْمِ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ، وَحُدُوثُ الْحَرَكَةِ فِيهِ عِلَّةٌ لِكَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا. وَنَقُولُ فِي الدَّلِيلِ: إنَّ اسْتِحَالَةَ تَعَرِّي الْجِسْمِ مِنْ الْحَوَادِثِ دَلَالَةٌ عَلَى حُدُوثِهِ، وَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً لِحُدُوثِهِ، فَإِنَّ الْحَدَثَ دَلَالَةٌ عَلَى مُحْدِثِهِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهَا عِلَّةٌ لِمُحْدِثِهِ. فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا حَظُّهُ إيصَالُ النَّاظِرِ فِيهِ وَالْمُتَأَمِّلِ لَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْمَدْلُولِ. وَأَنَّ الْعِلَّةَ سَبَبٌ لِوُجُودِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. فَقَدْ تُسَمَّى الْعِلَّةُ دَلِيلًا عَلَى مَا هِيَ (عِلَّةٌ) لَهُ، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَأَمُّلُهَا مُوصِلًا إلَى الْعِلْمِ بِمَا هُوَ عِلَّةٌ لَهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ دَلِيلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ عِلَّةً. وَالِاسْتِدْلَالُ: هُوَ طَلَبُ الدَّلَالَةِ وَالنَّظَرُ فِيهَا، لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ. (وَالْقِيَاسُ: أَنْ يُحْكَمَ لِلشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي عِلَّتِهِ الْمُوجِبَةِ لِحُكْمِهِ) . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 أَحَدُهُمَا: يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ. وَهُوَ النَّظَرُ فِي دَلَائِلِ الْعَقْلِيَّاتِ، إذَا نَظَرَ فِيهَا مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ. وَكَثِيرٌ مِنْ دَلَائِلِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ، قَدْ كُلِّفْنَا فِيهَا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يُوجِبُ غَلَبَةَ الرَّأْيِ وَأَكْبَرَ الظَّنِّ، وَلَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ. وَذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ، وَلَمْ يُكَلَّفْ فِيهَا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، إذْ لَمْ يَنْصِبْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ (بِهِ) ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، تَشْبِيهًا لَهُ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِيَّاتِ وَدَلَائِلِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ. وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ عَلَى عِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ الْمَقِيسِ، وَهِيَ عِلَلُ الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا. وَالثَّانِي: قِيَاسُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُصُولِهَا مِنْ النُّصُوصِ، وَمَوَاضِعِ الِاتِّفَاقِ، وَغَيْرِهَا. فَمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ، فَلَيْسَ بِعِلَّةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلَّةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، هِيَ مَا كَانَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ، يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا. وَعِلَلُ الشَّرْعِ الَّتِي يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ سَائِرَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقِيسُ بِهَا أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ، قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، إذْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَلُ هِيَ بَعْضَ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ حُدُوثِ الْحُكْمِ، غَيْرَ مُوجِبَةٍ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ سِمَاتُ وَأَمَارَاتُ الْأَحْكَامِ، يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهَا، كَدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِهَا، فَلَا تَكُونُ مُوجِبَةً لَهَا، لِوُجُودِنَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَإِنَّمَا هِيَ سِمَةٌ وَعَلَامَةٌ، جُعِلَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 أَمَارَةً لِلْحُكْمِ، فَجَائِزٌ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً لَهُ فِي حَالٍ، وَلَا تُجْعَلَ أَمَارَةً لَهُ فِي أُخْرَى. كَذَلِكَ عِلَلُ الشَّرْعِ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ هَذِهِ سَبِيلُهَا. وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ: فَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِيمَا يَقْصِدُهُ الْمُجْتَهِدُ (وَ) يَتَحَرَّاهُ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَائِمٌ يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (عَلَيْهِ) دَلِيلٌ قَائِمٌ، لَا يُسَمَّى الِاسْتِدْلَال فِي طَلَبِهِ اجْتِهَادًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ: إنَّ عِلْمَ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، لَا يُقَالُ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْمٌ قَدْ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ وَفِي عَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِمَا كُلِّفَ الْإِنْسَانُ فِيهِ غَالِبَ ظَنِّهِ، وَمَبْلَغَ اجْتِهَادِهِ، دُونَ إصَابَةِ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ، فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ، وَهُوَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ غَالِبُ ظَنِّهِ، وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، مِمَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ دَلَائِلُ قَائِمَةٌ كُلِّفْنَا بِهَا: إصَابَةَ الْحَقِيقَةِ، لِظُهُورِ دَلَائِلِهِ، وَوُضُوحِ آيَاتِهِ. وَاسْمُ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ يَنْتَظِمُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ عَلَى عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ، أَوْ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، فَيُرَدُّ بِهَا الْفَرْعُ إلَى أَصْلِهِ، وَتَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا. وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ - وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا - مِنْ قِبَلِ أَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا عَارِيَّةً (مِنْهُ) وَكَانَتْ كَالْأَمَارَةِ، وَكَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا عَلَامَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 لِلْحُكْمِ: الِاجْتِهَادِ،، وَغَالِبُ الظَّنِّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَنَا الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ. وَالضَّرْبُ الْآخَرُ مِنْ الِاجْتِهَادِ: هُوَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ يَجِبُ بِهَا قِيَاسُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، كَالِاجْتِهَادِ فِي تَحَرِّي جِهَةِ الْكَعْبَةِ لِمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا، وَكَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَالْحُكْمِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ، وَالْمُتْعَةِ، وَنَحْوِهَا. فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاجْتِهَادِ، كُلِّفْنَا فِيهِ الْحُكْمَ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ غَالِبُ الظَّنِّ، مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ يُقَاسُ بِهَا فَرْعٌ عَلَى أَصْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ ذِكْرِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ. وَيَصِحُّ إطْلَاقُ (لَفْظِ) الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ جَمِيعًا، لِأَنَّا قَدْ (نَقُولُ) : اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَمِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ، أَنَّهُ لَا يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ لَكُلِّفْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى نَصْبَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا، ثُمَّ كُلِّفْنَا فِيهَا إصَابَةَ مَدْلُولِهَا. وَإِنَّمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ، وَوُرُودُ الْعِبَارَةِ فِيهِ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ، تَارَةً بِحَظْرٍ، وَأُخْرَى بِالْإِبَاحَةِ، وَأُخْرَى بِالْإِيجَابِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا فِيهَا مِنْ الْمَصَالِحِ. فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إيجَابٍ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ إذَا كُلِّفْنَا حُكْمَهُ، فَنَكُونُ حِينَئِذٍ مُتَعَبِّدِينَ فِيهِ بِإِصَابَةِ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ، وَيَكُونُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ (وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 [بَابُ الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُوصَلُ بِهَا إلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تُسْتَدْرَكُ أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِخْرَاجُ دَلَالَةٍ مِنْ مَعْنَى التَّوْقِيفِ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. وَالْآخَرُ: الِاجْتِهَادُ، وَهُوَ فِيمَا لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: اسْتِخْرَاجُ عِلَّةٍ مِنْ أَصْلٍ يُرَدُّ بِهَا عِلَّةُ الْفَرْعِ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ قِيَاسًا. وَالْآخَرُ: الِاجْتِهَادُ وَمَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ، لَا عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِدْلَال عَلَى الْحُكْمِ بِالْأُصُولِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ احْتِجَاجِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ خَالَفَهُ الصَّحَابَةُ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، فَقَالَ: (لَأُقَاتِلَنَّ) مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. فَقَالُوا: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إلَّا بِحَقِّهَا» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا مِنْ حَقِّهَا) . فَتَبَيَّنُوا صِحَّةَ اسْتِخْرَاجِهِ وَرَجَعُوا (إلَى قَوْلِهِ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ عُمَرَ عَلَى الزُّبَيْرِ وَبِلَالٍ، وَنَفَرٍ مَعَهُمَا، حِينَ سَأَلُوهُ قِسْمَةَ السَّوَادِ وَرَاجَعُوهُ فِيهِ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] إلَى قَوْله تَعَالَى {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وقَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فَلَوْ قَسَّمْت السَّوَادَ بَيْنَكُمْ كَانَتْ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَبَقِيَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ فَعَرَفُوا صِحَّةَ اسْتِدْلَالِهِ، وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ. وَكَذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ الصَّوْمَ، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ إبَاحَةً لِلْجِمَاعِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَصَادَفَ فَرَاغُهُ مِنْ الْجِمَاعِ طُلُوعَ الْفَجْرِ، أَنَّهُ يُصْبِحُ جُنُبًا، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ صِيَامِهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، فَكَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً فِي أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَنْفِي صِحَّةَ الصَّوْمِ. وَنَحْوُهُ: اسْتِدْلَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ثُمَّ قَالَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فَجَعَلَ الْحَمْلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَنَحْوُهُ: قَوْلُ مُعَاذٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ حُبْلَى: إنْ يَكُنْ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ، فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ وَجْهُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ أَعْلَمَ مِنْ مُعَاذٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ حَمْلِهَا مَا عَلِمَ مُعَاذٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا، لِأَنَّ ظُهُورَ الْحَمْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْحَمْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْلَا مُعَاذٌ هَلَكَ عُمَرُ. قِيلَ لَهُ: عَنَى لَوْلَا إخْبَارُهُ إيَّاهُ أَنَّهَا حُبْلَى لَرَجَمَهَا، فَيَتْلَفُ وَلَدُهَا، كَمَا يَقُولُ مَنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ قَتْلُ رَجُلٍ خَطَأً: فَقَدْ هَلَكْتُ، وَهُوَ لَمْ يَأْثَمْ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُهُ اسْتِعْظَامًا لِمِثْلِ هَذَا. وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] ، فَعُلِمَ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَبِ (وَنَحْوُ) قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . فَدَلَّ حِينَ وَعَظَهَا فِي تَرْكِ الْكِتْمَانِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَفِي طُهْرِهَا وَحَيْضِهَا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ لَمَا وَعَظَهَا بِالْكِتْمَانِ. (وَنَحْوُ) قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] ، لَمَّا وَعَظَهُ فِي الْبَخْسِ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِيمَا قَالَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فَدَلَّ عَلَى (أَنَّ) أَمْرَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْمُدَايَنَةِ: اسْتِيثَاقٌ لِمَا يُخْشَى مِنْ الْجُحُودِ فِي الْعَاقِبَةِ، فَلَمْ يَجِبْ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ يَخْتَلِفَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَعُقُودُ الْمُدَايَنَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ: وَمِنْهَا مَا هُوَ أَغَمْضُ وَأَلْطَفُ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ يُفْضِي مَعَ ذَلِكَ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ لَمَّا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْ الدَّلَائِلِ، فَإِنَّا قَدْ كُلِّفْنَا فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ. وَأَمَّا قِسْمُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى قِيَاسٍ، وَإِلَى غَالِبِ الظَّنِّ، وَإِلَى الِاسْتِدْلَالِ (بِالْأُصُولِ) ، فَإِنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ هُوَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ، فَيَكُونُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ (أَنَّهُ) أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ، فَيَحْكُمُ لَهَا بِحُكْمِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا: أَنَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ اخْتَلَفَتْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى ضَرْبَيْنِ، فَسَوَّغُوا الْخِلَافَ وَالتَّنَازُعَ فِي أَحَدِهِمَا، وَهِيَ مَسَائِلُ الْفُتْيَا، وَأَنْكَرُوهُ فِي الْآخَرِ، وَخَرَجُوا مِنْهُ إلَى التَّلَاعُنِ، وَالْبَرَاءَةِ، وَنَصْبِ الْحَرْبِ، وَالْقِتَالِ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْحُكْمِ كَانَ قَائِمًا قَدْ كُلِّفُوا فِيهِ إصَابَةَ الْحَقِيقَةِ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الذَّاهِبَ عَنْهُ ضَالٌّ آثِمٌ تَارِكٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ لَمْ يَخْرُجُوا فِيهِ إلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، إنْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 [بَابُ ذِكْرِ الدَّلَالَةِ عَلَى إثْبَاتِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ] ِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نَبْدَأُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ بِالْكَلَامِ عَلَى مُخَالِفِينَا فِي الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ. ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. ثُمَّ نَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَذَاهِبَ أَصْحَابِنَا فِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي إجَازَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عَلَى النَّظَائِرِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا نَفَاهُ وَحَظَرَهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ. إلَى أَنْ نَشَأَ قَوْمٌ ذُو جَهْلٍ بِالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَلَا تَوَقِّيَ لِلْإِقْدَامِ عَلَى الْجَهَالَةِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ الْبَشِعَةِ، الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا الصَّحَابَةَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَخْلَافِهِمْ. فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَفَى الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إبْرَاهِيمَ النَّظَّامَ وَطَعَنَ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِمْ بِالْقِيَاسِ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَإِلَى ضِدِّ مَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِمْ، بِتَهْوِيرِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ بِهَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ تَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَفَرٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْبَغْدَادِيِّينَ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَطْعَنُوا عَلَى السَّلَفِ كَطَعْنِهِ، وَلَمْ يَعِيبُوهُمْ لَكِنَّهُمْ ارْتَكَبُوا مِنْ الْمُكَابَرَةِ، وَجَحْدِ الضَّرُورَةِ أَمْرًا شَنِيعًا، فِرَارًا مِنْ الطَّعْنِ عَلَى السَّلَفِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 فِي قَوْلِهِمْ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ فِي الْحَوَادِثِ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّطِ وَالصُّلْحِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَعَلَى جِهَةِ بَوْنِ الْمَسَائِلِ، لَا عَلَى وَجْهِ قَطْعِ الْحُكْمِ وَإِبْرَامِ الْقَوْلِ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُمْ قَدْ حَسَّنُوا مَذْهَبَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ، وَتَخَلَّصُوا مِنْ الشَّنَاعَةِ الَّتِي لَحِقَتْ النَّظَّامَ بِتَخْطِيئِهِ السَّلَفَ. ثُمَّ تَبِعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ الْحَشْوِ مُتَجَاهِلٌ لَمْ يَدْرِ مَا قَالَ هُوَ، وَلَا مَا قَالَ هَؤُلَاءِ، وَأَخَذَ طَرَفًا مِنْ كَلَامِ النَّظَّامِ، وَطَرَفًا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ مُتَكَلِّمِي (بَغْدَادَ مِنْ) نُفَاةِ الْقِيَاسِ، فَاحْتَجَّ بِهِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، مَعَ جَهْلِهِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْفَرِيقَانِ، مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَمُبْطِلِيهِ، وَقَدْ كَانَ (مَعَ ذَلِكَ) يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا حَظَّ لَهُ فِي إدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، فَأَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْبَهِيمَةِ، بَلْ هُوَ أَضَلُّ مِنْهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44] . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْحَقِّ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ وَفُرُوعِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَالْمَعْرُوفُ إنَّمَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِغَالِبِ (الظَّنِّ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وَالرَّأْيِ، إذْ لَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى قَدْرِ الْحَالِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُرْضَعُ وَالْمُرْضِعَةُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] وَلَيْسَ لِمَا يَقَعُ التَّرَاضِي عَلَيْهِ حَدٌّ مَعْلُومٌ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ، لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ، وَالْمُشَاوَرَةُ لَا تَقَعُ فِي شَيْءٍ فِيهِ تَوْقِيفٌ أَوْ اتِّفَاقٌ، أَوْ دَلِيلٌ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِخْرَاجُ رَأْيٍ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ. وَمِنْ ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وَلَا سَبِيلَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُتْعَةِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ، (لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَمَنْ غَابَ عَنْ الْكَعْبَةِ لَا يَصِلُ إلَى التَّوَجُّهِ إلَيْهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَغَالِبِ الظَّنِّ) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَهَذَا الْخَوْفُ إنَّمَا هُوَ عَلَى غَالِبِ مَا يَسْتَوْلِي عَلَى قُلُوبِنَا مِنْهُ، وقَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] وَإِصْلَاحُ مَالِ الْيَتِيمِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَحَرِّي الِاحْتِيَاطِ فِي تَمْيِيزِهِ وَحِفْظِهِ وَإِحْرَازِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِغَالِبِ الظَّنِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ، فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ (مِنْهُ) بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَخْتَارُ مِنْ آرَائِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِيَنْفِيَ عَنْهُ الْفَظَاظَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَرْجِعُ إلَى آرَائِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَنْزِلُ بِهِ الْوَحْيُ. قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى آرَائِهِمْ - بِاعْتِبَارِ الصَّوَابِ مِنْهَا - بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ، لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُشَاوَرُونَ ثُمَّ لَا يُلْتَفَتُ إلَى رَأْيِهِمْ، زَادَ ذَلِكَ فِي وَحْشَتِهِمْ وَانْخِزَالِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ يَرْتَفِعُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا. إذْ هُوَ بِالْهُزْءِ وَالِاسْتِخْفَافِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِمَا يُوجِبُ تَطْيِيبَ النُّفُوسِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُهُمْ أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ، مِنْ حَيْثُ كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْوَحْيَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيُظْهِرُوا آرَاءَهُمْ، وَمَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ، فَيَجْتَهِدُ مَعَهُمْ، وَيَخْتَارُ الصَّوَابَ عِنْدَهُ مِنْهَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: «أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ، قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ مَنْزِلًا يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْمَنْزِلَ الَّذِي نَزَلْتَهُ؟ أَبِأَمْرِ اللَّهِ هُوَ فَنُسَلِّمُ لِأَمْرِ اللَّهِ. أَمْ بِالرَّأْيِ وَالْمَكِيدَةِ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ بِالرَّأْيِ فَقَالَ: أَرَى أَنْ تُبَادِرَ إلَى الْمَاءِ، فَتَنْزِلَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ الْمُشْرِكُونَ إلَيْهِ فَقَبِلَ ذَلِكَ» . وَكَذَلِكَ «يَوْمَ الْأَحْزَابِ، لَمَّا عَزَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ يُعْطِيَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَقَوْمًا مَعَهُ نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِنُوا قُرَيْشًا عَلَيْهِ، قَالَتْ الْأَنْصَارُ: أَرَأْيٌ رَأَيْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْ وَحْيٌ؟ فَقَالَ بَلْ رَأْيٌ. رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدٍ، فَرَأَيْتُ أَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 أَدْفَعَهُمْ عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ مَا» فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: وَاَللَّهِ مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ فِيهَا، وَنَحْنُ عَلَى الشِّرْكِ، إلَّا قِرًى أَوْ شِرًى، فَكَيْفَ نُعْطِيهِمْ الْآنَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا بِالسَّيْفِ، فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَهِدُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُهُمْ فِي أُمُورٍ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهَا وَحْيٌ. ثُمَّ يَجْتَهِدُ مَعَهُمْ، فَيَخْتَارُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ صَوَابًا. لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالُوا لَهُ: أَرَأْيٌ هُوَ أَمْ وَحْيٌ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَلْ هُوَ رَأْيٌ) وَيُبَيِّنُ وَجْهَ اجْتِهَادِهِ وَغَالِبَ ظَنِّهِ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ «عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك تُوَجِّهُنِي فِي الْأَمْرِ فَأَكُونَ فِيهِ كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ. أَمْ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ؟ فَقَالَ: الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَاهُ الْغَائِبُ» فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، لَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ حُكْمُ الشَّاهِدِ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَاهِدًا فِي كُلِّ حَالٍ، عَالِمًا بِالْعَوَاقِبِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ كَانَ يَكِلُهُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَرَأْيِهِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] وَهَذَا الْخَوْفُ إنَّمَا هُوَ فِي غَالِبِ الظَّنِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِمَا يُؤْثِرُهُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَوْقَاتِهِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وَالِابْتِلَاءُ وَإِينَاسُ الرُّشْدِ إنَّمَا يَكُونَانِ بِالِاجْتِهَادِ، وَغَالِبِ الظَّنِّ عَلَى حَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَزْمِ الْيَتِيمِ وَحِفْظِهِ لِأَمْوَالِهِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] وَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 ذَلِكَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَذَى حَدٌّ مَعْلُومٌ يُصَارُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ أَذًى. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وَهَذَا الْوَعِيدُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَكَذَلِكَ الْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] وَهَذَا الْخَوْفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَيَانِهِ صَلَاحًا فِي غَالِبِ رَأْيِهِمَا، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] مَعْنَاهُ مَا يَرَاهُ صَلَاحًا لَهُمْ فِي اجْتِهَادِ رَأْيِهِ، وَمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ أَدْعَى إلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَأَنْفَى لِلتَّنَافُرِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وَحُكْمُ الْعَدْلَيْنِ بِالْمِثْلِ، هُوَ إنَّمَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26] وَإِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ مِقْدَارُ الْكِفَايَةِ وَسَدِّ الْخَلَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] . وَالْعَدْلُ الَّذِي بَيْنَهُمَا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 الِاجْتِهَادِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] الْآيَةَ. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ - غَيْرَ الرَّافِضَةِ - أَنَّ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ إنَّمَا يَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِاجْتِهَادِ الْمُسْلِمِينَ وَآرَائِهِمْ، فِيمَنْ يَرَوْنَهُ مَوْضِعًا لِلْخِلَافَةِ لِفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّنَازُعَ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، إذْ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التَّنَازُعَ وَالِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقَعَانِ فِي الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ. فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، وَسُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ بِاسْتِخْرَاجِ حُكْمِهِ مِنْهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الرَّدَّ إلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَنَصِّ السُّنَّةِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ التَّنَازُعَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ، لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ مِنْ أَمْرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّك تَجْعَلُ تَقْدِيرَ الْآيَةِ عَلَى الْوَضْعِ: أَنْ اتَّبِعُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَهَذَا وَاجِبٌ فِي حَالِ التَّنَازُعِ وَغَيْرِهَا. فَتَخْلُوا الْآيَةُ مِنْ فَائِدَةِ ذِكْرِ التَّنَازُعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّك خَصَّصْتَ الْأَمْرَ بِالرَّدِّ فِيمَا قَدْ نُصَّ عَلَيْهِ، دُونَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي وُجُودَ الرَّدِّ فِي الْحَالَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، فَلَا جَائِزَ لِأَحَدٍ تَخْصِيصُهُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى حَالِ وُجُودِ النَّصِّ دُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 غَيْرِهِ. فَثَبَتَ أَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ وُجُوبَ الرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّبَاعِ مُوجَبِهَا نَصًّا وَدَلِيلًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَيْضًا: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، فَأَمَرَ بِاسْتِنْبَاطِ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ " أُولِي الْأَمْرِ " إنَّهُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا، وَقِيلَ: إنَّهُمْ أُولُو الْعِلْمِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ أُولِي الْعِلْمِ مُرَادُونَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ أُمَرَاءَ السَّرَايَا إنْ لَمْ يَكُونُوا ذَوِي عِلْمٍ بِالِاسْتِنْبَاطِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا هَذَا فِي أَمْرِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ} [النساء: 83] قِيلَ لَهُ: إنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ أَمْرَ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. فَإِذَا جَازَ الِاسْتِنْبَاطُ فِيهِ لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ، جَازَ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، يَقُولُ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا أَدَّانِي إلَيْهِ قِيَاسِي فَهُوَ حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى (عَلَيَّ) ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا عِلْمُ الظَّاهِرِ، كَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَكَالشَّهَادَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 شَيْءٍ} [النحل: 89] قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . فَإِذْ لَمْ نَجِدْ فِيهِ كُلَّ حُكْمٍ مَنْصُوصًا، عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ، وَمُودَعٌ فِي النَّصِّ، نَصِلُ إلَيْهِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مَا نَزَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مَسْطُورًا. وَالْآخَرُ: بَيَانُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يَحْتَاجُ مِنْهُ إلَى الْبَيَانِ. وَالثَّالِثُ: التَّفَكُّرُ فِيمَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاحْتَجَّ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ رَدَّ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَى نَظِيرِهَا مِنْ الْأُصُولِ يُسَمَّى اعْتِبَارًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى: ابْتِدَاءُ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] فَأَخْبَرَ عَنْ ظَنِّهِمْ الْكَاذِبِ، أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ وَالذُّلِّ وَالْخِذْلَانِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالْمَعْنَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ اُحْكُمُوا لِمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، لِئَلَّا يُقْدِمُوا عَلَى مِثْلِ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ، فَيَسْتَحِقُّوا مِثْلَ مَا اسْتَحَقُّوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ أَنْ تَحْكُمَ لِلشَّيْءِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي مَعْنَاهُ، الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ اسْتِحْقَاقُ حُكْمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِبَارُ: هُوَ التَّفَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ. قِيلَ لَهُ: هُوَ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ تَفَكُّرٌ فِي رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا. أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: قَدْ اعْتَبَرْت هَذَا الثَّوْبَ بِهَذَا الثَّوْبِ، إذَا قَوَّمْتَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ. فَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّك رَدَدْته إلَيْهِ، وَحَكَمْت لَهُ بِمِثْلِ حُكْمِهِ، إذْ كَانَ مِثْلَهُ وَنَظِيرَهُ. وَحَكَى لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: رَأَيْت الْقَاشَانِيَّ وَابْنَ سُرَيْجٍ قَدْ صَنَّفَا فِي الْقِيَاسِ نَحْوَ أَلْفِ وَرَقَةٍ، هَذَا فِي نَفْيِهِ، وَهَذَا فِي إثْبَاتِهِ، اعْتَمَدَ الْقَاشَانِيُّ فِيهِ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] ، وَاعْتَمَدَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي إثْبَاتِهِ (عَلَى) قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فِي قَتْلِهِمْ أَوْ فِدَائِهِمْ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بِالْفِدَاءِ، وَأَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بِالْقَتْلِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَأَشْبَهْتَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وَأَمَّا أَنْتَ يَا عُمَرُ، فَإِنَّكَ أَشْبَهْتَ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قَالَ {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] » وَوَافَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتِهَادَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ الْفِدَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لَمَا شَاوَرَ فِيهِ أَحَدًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَاتَبَهُ فِي أَخْذِهِ الْفِدَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلَى قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِدَاءَ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا. قِيلَ لَهُ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَبَى بَعْضُهُمْ مَا ذَكَرْتَ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ، وَالْكَلَامُ فِي صِحَّةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خُرُوجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا، لِأَنَّهُ كَلَامٌ بَيْنَ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، بَعْدَ تَسْلِيمِ جَوَازِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَالْخَبَرُ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُخْطِئًا فِي الْفِدَاءِ، فَعُمَرُ مُصِيبٌ فِي الْإِشَارَةِ بِالْقَتْلِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَاتِبْهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ فِي اسْتِعْمَالِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ. وَمِنْهُ: حَدِيثُ قِصَّةِ الْأَذَانِ، «وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهْتَمَّ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ لَهَا النَّاسَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ، وَذَكَرُوا لَهُ شَبُّورَ الْيَهُودِ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ وَقَالَ: هَذَا مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ، وَذَكَرُوا لَهُ النَّاقُوسَ، فَقَالَ: هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى، ثُمَّ أُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَذَانَ، فَجَاءَ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَقِّنْهَا بِلَالًا» ، فَشَاوَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فِي جِهَةِ إعْلَامِ النَّاسِ بِالصَّلَاةِ. فَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي الرَّايَةِ، وَقَوْمٌ فِي الشَّبُّورِ، وَقَوْمٌ فِي النَّاقُوسِ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اجْتِهَادِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ «تَحْكِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ بِمَا يَرَاهُ صَلَاحًا، فَحَكَمَ فِيهِمْ بِقَتْلِ الرِّجَالِ، وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» . فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ وَسَنُبَيِّنُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَدَلَالَةُ الْخَبَرِ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ تَحْكِيمُهُ إيَّاهُ بِمَبْلَغِ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَأَنْ يَكُونَ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ، غَيْرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 قَادِحٍ فِي صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْأَصْلِ وَعَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْت غَلَطٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ كَانَ حَكَمَ فِيهِمْ بِالْجِزْيَةِ أَنْ لَا يُجِيزَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِقْ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُجِزْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَجَازَ حُكْمَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَى الْحُكْمِ بِمَا يَرَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا حَكَّمَ سَعْدًا، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حُكْمَهُ سَيُوَافِقُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ أَبَاحَ لَهُ الِاجْتِهَادَ قِيلَ لَهُ: فَكَذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُمْ الِاجْتِهَادَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيُوَافِقُونَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ بِكَتْبِ الْكِتَابِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ الْكَاتِبُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا كَذَّبْنَاكَ وَلَكِنْ اُكْتُبْ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ اُمْحُ رَسُولَ اللَّهِ، وَاكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا كُنْتُ لِأَمْحُوَهَا، فَمَحَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجْتِهَادَهُ فِي تَرْكِ مَحْوِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا قَصَدَ تَعْظِيمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبْجِيلَ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَرَأَى أَنْ لَا يَمْحُوَهُ هُوَ لِيَمْحُوَهُ غَيْرُهُ فَكَانَ ذَلِكَ طَاعَةً مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: (قَدْ) فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك مَحْوَهَا لَمَحَاهَا بِيَدِهِ وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا هَرَبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الصُّلْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 بَعَثَتْ قُرَيْشٌ رَجُلَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلُوهُ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ لَهُمْ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ قَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَحَدَهُمَا وَهَرَبَ الْآخَرُ رَاجِعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلَ أَبُو بَصِيرٍ. وَلَحِقَ أَبُو بَصِيرٍ بِسِيفِ الْبَحْرِ وَلَحِقَ بِهِ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَجَعَلُوا يُغِيرُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ» . وَكَانَ فِعْلُ أَبِي بَصِيرٍ ذَلِكَ، وَمَنْ صَارَ مَعَهُ، اجْتِهَادًا وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الَّذِي كَتَبَ إلَى مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْحَقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، بِغَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُمَرَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَبِي بَصِيرٍ قَتْلَهُ الرَّجُلَ، وَلَا لَحَاقَهُ بِسِيفِ الْبَحْرِ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ (لَحِقَ بِهِ) . وَمِنْ ذَلِكَ " أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمَّا قُتِلُوا بِمُؤْتَةِ، وَكَانُوا أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَ الْقَوْمُ بِلَا أَمِيرٍ اجْتَمَعُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ، فَانْحَازَ بِهِمْ، فَصَوَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذَلِكَ) مِنْ فِعْلِهِمْ " وَكَانَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْ آرَائِهِمْ لَا بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ إلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا بَعْدَ وَفَاتِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا فِي كُلِّ عَصْرٍ - إذَا خَلَوْا مِنْ إمَامٍ - عَلَى أَغْلَبِ رَأْيِهِمْ فِي الْأَفْضَلِ وَالْأَصْلَحِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ يُوَلِّي أُمَرَاءَ السَّرَايَا وَالْقُضَاةَ وَجُبَاةَ الصَّدَقَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أُمُورِ الدِّينِ لَا تَوْقِيفَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِرُشْدِهِ، وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ قَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَسَعُ الشَّكُّ فِيهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ بِمَجْمُوعِهَا، تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَصِيرُ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ، لِامْتِنَاعِ جَوَازِ الْغَلَطِ وَالْكَذِبِ فِي جَمِيعِهَا. وَالْجِهَةُ الْأُخْرَى: أَنَّهَا مُسْتَفِيضَةٌ فِي الْأُمَّةِ، قَدْ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ. فَمِنْ (ذَلِكَ) مَا رُوِيَ «أَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ رَجَعَ عَلَيْهِ سَيْفُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَتَلَهُ، فَشُكَّ فِي أَمْرِهِ، وَهَابُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَ سَلَمَةُ أَخُوهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: مَاتَ جَاهِدًا مُجَاهِدًا لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ» وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، أَنَّهُ يَضْرِبُ الْعَدُوَّ فَأَخْطَأَهُمْ. فَلَمْ يُعَنِّفْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَعِبْ الْقَوْمَ الَّذِينَ تَهَيَّبُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، بِاجْتِهَادِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ (حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، وَأُنَاسًا مَعَهُ، فِي طَلَبِ قِلَادَةٍ أَضَلَّتْهَا عَائِشَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ» فَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَلَاتِهِمْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، إذْ لَمْ يَكُنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ التَّيَمُّمُ فَصَلَّوْا بِاجْتِهَادِهِمْ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ نَجْدَانَ عَنْ «أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: بَدَوْتُ بِالْإِبِلِ فَكُنْتُ أَعْزُبُ عَنْ الْمَاءِ. وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ، فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ لَهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ، وَقَالَ: التُّرَابُ كَافِيكَ عَشْرَ حِجَجٍ، فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ» فَكَانَ يُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ اجْتِهَادَهُ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهُورٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ اجْتَهَدَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَلَا خِلَافَ فِي سُقُوطِ الِاجْتِهَادِ مَعَ النَّصِّ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِعَادَةِ. وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ عَدَمِهِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَجْتَهِدْ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، لِأَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] ، يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ وَيَحْتَمِلُ اللَّمْسَ بِالْيَدِ، وَكَانَ عُمَرُ (وَعَبْدُ اللَّهِ) بْنُ مَسْعُودٍ، يَرَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا: اللَّمْسُ بِالْيَدِ، وَكَانَا لَا يَرَيَانِ التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ. وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولَانِ: الْمُرَادُ بِهَا الْجِمَاعُ. وَيَرَيَانِ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 مَوْضِعٌ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِاجْتِهَادٍ وَقِيلَ: وُجُوبُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْجُنُبِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصٌّ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ. قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْقَوْلُ فِيهِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ أَبَا ذَرٍّ. وَمِنْهُ حَدِيثُ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ تَيَمَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَصَلَّى بِهِمْ، لِأَنَّهُ خَافَ ضَرَرَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ صَلَّى بِنَا وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِهِمْ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ قَالَ: خَشِيتُ إنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، وَقَدْ سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عَمْرٍو الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ الْمَاءَ وَالْعُدُولِ عَنْهُ إلَى التُّرَابِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَصْحَابِهِ أَيْضًا الِاجْتِهَادَ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ، إذَا كَانَتْ الْحَالُ عِنْدَهُمْ وَفِي اجْتِهَادِهِمْ غَيْرَ مَخْفِيَّةٍ. وَمِنْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ «أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ لَهُ: بِمَاذَا أَهَلَلْتَ. فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى، فَعَلَ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، فَلَا أُحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ» . فَكَانَا مُجْتَهِدَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ عِنْدَهُمَا، عَلَى تَحَرِّي مُوَافَقَةِ إهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 وَمِنْهُ حَدِيثُ «أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَفْطَرْنَا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ» فَأَفْطَرُوا عَلَى غَالِبِ ظُنُونِهِمْ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً فَلُبِسَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: يَا أُبَيّ، أَصْلَيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا مَنَعَك» فَأَخْبَرَ، أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتْ الصَّلَاةُ. فَجَاءَ بِلَالٌ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأُقِيمُ؟ . قَالَ: نَعَمْ. فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّلَاةِ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَكَ، وَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا انْصَرَفَ. قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إذْ أَمَرْتُكَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، أَنْ يُصَلِّيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ مِنْ التَّصْفِيقِ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ ضُرُوبًا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ. أَحَدُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا غَابَ أَقَامُوا رَجُلًا مَكَانَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَصَلَّوْا خَلْفَهُ، ثُمَّ حِينَ صَفَّقَ النَّاسُ بِاجْتِهَادِهِمْ؛ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ بَدْءًا بِاجْتِهَادِهِ، ثُمَّ لَمَّا أَكْثَرُوا التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ حِينَ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، فَأَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَك، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى بِاجْتِهَادِهِ؛ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ لِغَيْرِ عَمَلِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ، بَعْدَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَهُ) بِالثَّبَاتِ، لِأَنَّهُ غَلَبَ فِي رَأْيِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرِ إيجَابٍ، وَرَأَى التَّأْخِيرَ أَوْلَى تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَقَدَّمَ أَمَامَهُ كَإِعْظَامِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَمْحُوَ ذِكْرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ «جَيْشِ الْخَبَطِ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ وَجَدُوا حُوتًا مَيِّتًا عَلَى السَّاحِلِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ أَكْلِهِ وَقَالُوا: هُوَ مَيْتَةٌ. ثُمَّ قَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ، فَكُلُوا، فَأَكَلُوا، فَلَمَّا قَدِمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَازَهُ لَهُمْ» وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وَمِنْهُ حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَحُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَنَادَاهُمْ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: أَلَا إنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ. مَرَّتَيْنِ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ رُكُوعًا إلَى الْكَعْبَةِ» وَكَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي اسْتِدَارَتِهِمْ إلَى الْكَعْبَةِ فِي صَلَاتِهِمْ. وَمُجْتَهِدِينَ فِي تَرْكِهِمْ اسْتِئْنَافَ الصَّلَاةِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ «أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعٌ، قَالَ: فَرَكَعْتُ دُونَ الصَّفِّ، وَمَشَيْتُ إلَى الصَّفِّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» فَأَجَازَ اجْتِهَادَ أَبِي بَكْرَةَ فِي رُكُوعِهِ دُونَ الصَّفِّ وَمَشْيِهِ إلَيْهِ. ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَرْكَعَ دُونَ الصَّفِّ، وَأَجَازَ لَهُ الرَّكْعَةَ الَّتِي فَعَلَهَا بِاجْتِهَادِهِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ «مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سُبِقُوا بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوا فَأُخْبِرُوا، فَدَخَلُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَدَءُوا بِالْفَائِتِ، ثُمَّ تَابَعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَقِيَ. حَتَّى جَاءَ مُعَاذٌ وَقَدْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ فَتَابَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 وَتَرَكَ الْفَائِتَ حَتَّى قَضَاهُ بَعْدَ فَرَاغِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ، فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا» فَاجْتَهَدَ مُعَاذٌ فِي تَرْكِ الْفَائِتِ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَازَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُ، وَجَعَلَهُ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ صَحَّ هَذَا، فَإِنَّ مُعَاذًا اجْتَهَدَ فِي تَرْكِ النَّصِّ، لِأَنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ قَضَاءُ الْفَائِتِ، ثُمَّ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، وَأَنْتُمْ لَا تُجِيزُونَ الِاجْتِهَادَ فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَدْ) كَانَ سَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ تَرَكَهُمْ وَمَا فَعَلُوا، لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا. وَكَانَ جَائِزًا أَيْضًا تَرْكُ الْفَائِتِ عِنْدَهُ فَكَانُوا مُخَيَّرِينَ، فَاخْتَارَ مُعَاذٌ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرْكَ الْفَائِتِ، وَكَانَ وَجْهُ اجْتِهَادِهِ: مَا بَيَّنَ أَنَّهُ مَا كَانَ لِيَجِدَهُ عَلَى حَالٍ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهَا، فَسَنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَاسْتَحْسَنَ قَصْدَ مُعَاذٍ فِيهِ، وَتَحَرِّيَهُ لِمُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ حَالٍ، فَلَمْ يُصَادِفْ اجْتِهَادُ مُعَاذٍ مُخَالَفَةَ (نَصِّ) النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ الْقَرَظِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: «أَنَّ بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُؤْذِنَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَقِيلَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَائِمٌ، فَنَادَى بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ.» فَأُقِرَّتْ فِي تَأْذِينِ الْفَجْرِ، وَكَانَ قَوْلُ بِلَالٍ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ. وَمِنْهُ مَا رُوِيَ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا الَّذِي أَحْدَثْتُمْ؟ فَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّنَاءَ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا: إنَّا نَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ» وَكَانَ الْقَوْمُ أَحْدَثُوا الِاسْتِنْجَاءَ بِآرَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، لَمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ. وَمِنْهُ مَا رَوَى الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ «مُعَاذٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ، قَالَ: كَيْفَ تَقْضِي؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ رَسُولُ اللَّهِ» ، فَأَجَازَ لَهُ الِاجْتِهَادَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا رَوَاهُ عَنْ قَوْمٍ مَجْهُولِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ. قِيلَ لَهُ: لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ إضَافَتَهُ ذَلِكَ إلَى رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ تُوجِبُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 تَأْكِيدَهُ، لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَيْهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، إلَّا وَهُمْ ثِقَاتٌ مَقْبُولُو الرِّوَايَةِ عَنْهُ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ، وَاسْتَفَاضَ، وَاشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى رُوَاتِهِ، وَلَا رَدٍّ لَهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَصِيرَ مُرْسَلًا، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا مَقْبُولٌ. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرُهُ» . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا عَمْرُو، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: فَعَلَامَ أَقْضِي؟ قَالَ: إنْ أَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ اجْتَهَدْتَ فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ فِيهِ كَذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» وَلَا يُوصَلُ إلَى مَعْرِفَةِ أَعْلَمِ الْمُتَقَارِبِينَ بِالسُّنَّةِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «الشَّاكِّ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَكْثَرِ ظَنِّهِ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 وَمِنْهُ «قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ حِينَ جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ يَشْفَعُ فِيهِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعَتِهِ، رَجَاءَ أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ بِقَتْلِهِ» وَكَانَ فِعْلُ عُثْمَانَ ذَلِكَ اجْتِهَادًا، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. " وَحَدِيثُ «عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: أَنْتَ إمَامُ قَوْمِكَ، فَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ» ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ قَدْ يَعْرِفُ مِنْ اسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي مَا لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاقِلِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبَاحَةِ الْمُعَالَجَةِ وَاسْتِعْمَالِ الطِّبِّ وَالْأَدْوِيَةِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ كُلِّهِ (الِاجْتِهَادُ وَالرَّأْيُ) فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى اخْتِلَافِ مُتُونِهَا وَطُرُقِهَا تُوجِبُ التَّوْقِيفَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَارِدًا مِنْ طَرِيقِ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ، وَإِنَّهَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ مِنْ حَيْثُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا كَذِبًا، أَوْ غَلَطًا، أَوْ وَهْمًا، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي أَقْسَامِ التَّوَاتُرِ، وَشَبَّهْنَاهُ بِالْمُقْبِلِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ الْجَامِعِ: أَنَّ إخْبَارَهُمْ عَنْ فِعْلِهِمْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، تَشْتَمِلُ عَلَى صِدْقٍ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مَعَ كَثْرَتِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُتَوَافِيَةً عَلَى تَوْقِيفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ، فَقَدْ أَوْجَبَتْ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا مِنْ وُجُوهِ التَّوْقِيفِ بِذَلِكَ، وَمَنْ خَالَفَهَا بَعْدَ سَمَاعِهَا، فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إبَاحَتَهُ لِلِاجْتِهَادِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَاعْتِبَارِهِ بِنَظِيرِهِ فِي الْحُكْمِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي إبَاحَتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، حُذِفَتْ أَسَانِيدُهَا كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ، وَلِأَنَّهَا أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ «أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْأَجْرِ، يَتَصَدَّقُونَ وَيَصُومُونَ، قَالَ: وَأَنْتُمْ قَدْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَصَدَّقُونَ، وَنَحْنُ لَا نَتَصَدَّقُ. قَالَ: وَأَنْتَ فَلَكَ صَدَقَةٌ: رَفْعُك الْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَثَبَاتُك عَنْ الْإِثْمِ صَدَقَةٌ، وَعَوْنُك الضَّعِيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صَدَقَةٌ. وَمُبَاضَعَتُك امْرَأَتَك صَدَقَةٌ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَأْتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ جَعَلْتُمُوهَا فِي حَرَامٍ أَكُنْتُمْ تَأْثَمُونَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ، وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ؟» فَقَايَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَلَّهُ بِذِكْرِ الْمَحْظُورِ عَلَى مَا قَابَلَهُ مِنْ الْمُبَاحِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ. وَقَدْ اعْتَرَضَ النَّظَّامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ، وَلَوْ كَانَ الْمُبَاحُ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ، لَكَانَ لَا فِعْلَ إلَّا مَحْظُورًا، أَوْ نَافِلَةً، وَلَبَطَلَ الْقِسْمُ الْمُبَاحُ. فَيُقَالُ لَهُ: مَا تُنْكِرُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهِ الْأَجْرُ (إذَا قَصَدَ) بِهِ الْعِفَّةَ، وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْحَرَامِ، وَشُكْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى تَمْكِينِهِ إيَّاهُ مِنْ الْحَلَالِ، وَلِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ الِاغْتِسَالِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ، فَيَكُونُ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْوَطْءِ الْمَقْصُودِ بِهِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَالْمُقَارِنَةُ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، هُوَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ دُونَ مَا يَقْصِدُ بِهِ التَّلَذُّذَ الَّذِي لَا يُجَامِعُهُ هَذِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 الْأَسْبَابُ، فَلَا يَكُونُ فِي إيجَابِهِ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِهَذَا الْوَطْءِ مَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الْخَبَرِ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هَهُنَا وَطْءٌ آخَرُ مُبَاحٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ، فَلَا يَبْطُلُ الْقِسْمُ الْمُبَاحُ مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى مَا بَنَيْتَ مِنْ الْقَاعِدَةِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ تَقْضِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَحُجَّ عَنْهُ وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يَجْزِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: إنْ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاقْضُوا اللَّهَ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» . وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ إثْبَاتُ الْمُقَايَسَةِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الرَّدِّ إلَى النَّظَائِرِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ أَيُفَرَّقُ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَقَضَاهُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالتَّجَاوُزِ» . فَقَايَسَهُ، وَأَرَاهُ مَوْضِعَ الشَّبَهِ وَالنَّظِيرِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إنَّ فِيهَا أَوْرَقًا. قَالَ: فَأَنَّى تَرَاهُ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» فَقَايَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَدَّهُ إلَى أَمْرٍ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ، مِنْ نَظِيرِ مَا سَأَلَ عَنْهُ، وَنَبَّهَهُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِحُكْمِهِ. وَمِنْهُ: حَدِيثُ «عُمَرَ قَالَ هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ: فَفِيمَ إذًا» فَقَايَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَدَّهُ إلَى نَظِيرِهِ، ثُمَّ نَبَّهَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّدِّ. وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هَذَا أَوَانُ ذَهَابِ الْعِلْمِ، فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكِتَابُ اللَّهِ بَيْنَنَا؟ وَاَللَّهِ لَنُقْرِئَنَّهُ أَبْنَاءَنَا وَلَيُقْرِئَنَّهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ بْنَ لَبِيدٍ، إنْ كُنْتُ لَأَعُدّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَلَيْسَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي يَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَهَلْ أَغْنَى عَنْهُمَا؟» فَنَبَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى اعْتِبَارِنَا بِهِمْ، مَعَ كَوْنِ الْكِتَابِ فِي أَيْدِينَا (وَ) رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ: كَيْفَ تَقْضِيَانِ بَيْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 النَّاسِ؟ قَالَا: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ أَتَاكُمَا مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَا: بِالسُّنَّةِ. قَالَ: فَإِنْ أَتَاكُمَا مَا لَيْسَ فِي السُّنَّةِ؟ قَالَا: نَقِيسُ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ، فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ، قَالَ: أَصَبْتُمَا» . وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُلُّ قَوْمٍ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فِي مَصْلَحَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَزِرُونَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» ، وَيَتَبَيَّنُ الْحَقُّ بِالْمُقَايَسَةِ بِالْعَدْلِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ «عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ لَهَا: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ فَقُلْتُ: إنِّي حَائِضٌ. فَقَالَ: إنْ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» فَنَبَّهَهَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَأَنَّهَا فِي سَائِرِ أَعْضَائِهَا بِمَنْزِلَةِ الطَّاهِرِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ «أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا جُنُبٌ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَذَهَبْت فَاغْتَسَلْت، ثُمَّ جِئْت. فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ» فَنَبَّهَهُ عَلَى أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 الْجَنَابَةَ لَا تُوجِبُ نَجَاسَتَهُ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ أَجْلِهَا مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِنْهُ، بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَعْنِي كَيْفَ ذَهَبَ عَلَيْك هَذَا الِاعْتِبَارُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ الِاعْتِبَارِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهَا، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ فِي غَيْرِهَا، وَمَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ جَوَازُهُ مَقْصُورًا عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، إذْ يَمْتَنِعُ فِي حُجَّةِ الْعَقْلِ، أَنْ يُبِيحَ اللَّهُ تَعَالَى الِاجْتِهَادَ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَبَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَحْظُرَهُ فِيمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَى مَوْضِعِهِ، فَيُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بَيْنَنَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ. قِيلَ لَهُ: كَثِيرٌ مِنْ الْآيِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا، غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالٍ وَلَا شَرْطٍ. مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ، فَصَارَ لِلْجِنْسِ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَحْنُ مُخَاطَبُونَ بِهِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِشَيْءٍ دُونَنَا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَقَدْ بَيَّنَّا (أَنَّ) الْمُرَادَ بِهِ الرَّدُّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نَصًّا) وَدَلِيلًا، (وَذَلِكَ) مُطْلَقٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَهُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَا كَانَ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وَمِمَّا يُوجِبُهُ أَيْضًا مِنْ السَّنَدِ: حَدِيثُ مُعَاذٍ، وَتَصْوِيبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ فِي اسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا اتِّفَاقٌ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. وَأَيْضًا: فَقَدْ صَحَّ عَنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ، بِحَيْثُ لَا مَسَاغَ لِلشَّكِّ فِيهِ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَأَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، وَيَسْتَعْمِلُ الْقِيَاسَ، وَيَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ، لَا يَتَنَاكَرُونَهُ، وَلَا يَمْنَعُونَ إنْفَاذَ الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ بِهِ. وَكَذَلِكَ حَالُ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مُسْتَفِيضًا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ (وَقَدْ) وَقَعَ الْعِلْمُ لَنَا بِوُجُودِهِ مِنْهُمْ، كَعِلْمِنَا بِوُجُودِ الْخِلَافِ كَانَ بَيْنَهُمْ فِي كَثِيرٍ (مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْنَا الْقَوْلَ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ) : أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَوْلَا عِلْمُهُمْ بِتَوْقِيفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إيَّاهُمْ) عَلَيْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ (مِنْهُمْ) مُتَقَرِّرًا مَعْلُومًا (عِنْدَهُمْ) مِنْ شَرِيعَتِهِ، قَدْ تَلَقَّوْهُ عَنْهُ وَعَرَفُوهُ مِنْ (دِينِهِ) لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى الْقَوْلِ بِهِ هَذَا الْإِطْبَاقَ، حَتَّى لَا يُوجَدَ فِيهِمْ مُنْكِرٌ لَهُ، وَلَا مُتَوَقِّفٌ مُتَهَيِّبٌ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا تَلَقَّوْهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْقِيفًا، كَمَا عَلِمْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْلِيَةِ إمَامٍ يَنْصِبُونَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُمْ تَلْقَوْا وُجُوبَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ تَوْقِيفًا، وَأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ مِنْ مِنْهَاجِ شَرِيعَتِهِ وَأَرْكَانِ دِينِهِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَوَافَقَتْ هِمَمُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ إجْمَاعَهُمْ، حُجَّةٌ لَا يَسَعُ خِلَافُهُ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْهُ، عَلَى مَا سَلَفَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 مِنَّا الْقَوْلُ فِيهِ. وَقَدْ اسْتَقَرَّ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ (حُجَّةٌ) بِمَا قَدَّمْنَا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَالرُّجُوعِ إلَى النَّظَرِ وَالْمَقَايِيسِ، فِي (اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهَا) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ؟ قِيلَ لَهُ: هُوَ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ، وَطَرِيقَتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ، فَقَالُوا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشَرَّكَةِ، فَلَمْ يَرَ عُمَرُ التَّشْرِيكَ أَوْلَى، فَقَالَ لَهُ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ: هَبْ (أَنَّ) أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَيْسَ أُمُّنَا أُمَّ الَّذِينَ وَرَّثَتْهُمْ؟ فَتَرَكَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ، وَرَأَى التَّشْرِيكَ حِينَ قَايَسُوهُ. فَقِيلَ لَهُ: لَمْ تُشَرِّكْ بَيْنَهُمْ الْعَامَ الْأَوَّلَ، وَشَرَّكْتَ الْعَامَ. فَقَالَ: (ذَاكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا قَضَيْنَا) . وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَرَامِ عَلَى أَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةٍ: جَعَلَهَا بَعْضُهُمْ رَجْعِيًّا، وَبَعْضُهُمْ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَبَعْضُهُمْ ثَلَاثًا، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ يَمِينًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِيَّةِ، وَالْبَتَّةِ وَالْبَائِنِ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْكِنَايَاتِ. وَفِي الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ، وَفِي الْكَلَالَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: (أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي) . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا: (أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ) . وَقَالَ عَلِيٌّ: (أَجْمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: أَنْ لَا يُبَعْنَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ رَأَيْت أَنْ أُرِقَّهُنَّ) ، فَأَخْبَرَ عَنْ رَأْيِهِ، وَرَأْيِ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، لِأَنَّ التَّوْقِيفَ لَا يَكُونُ رَأْيًا. وَمِنْهَا أَيْضًا اخْتِلَافُهُمْ: فِي الْمُكَاتَبِ، وَالْمُدَبَّرِ، وَفِي تَفْضِيلِ أُرُوشِ الْأَصَابِعِ، وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَرَى التَّسْوِيَةَ فِي الْعَطَاءِ، وَكَانَ عُمَرُ يَرَى التَّفْضِيلَ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَرَى التَّسْوِيَةَ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي طَرِيقُهَا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَمِلَهُ هَذَا الْكِتَابُ، وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى ذِي مَعْرِفَةٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى عَقْدِ الْبَيْعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ بِآرَائِهِمْ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَصًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مُعْظَمُ أَمْرِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ. وَلَمَّا قَالَتْ الْأَنْصَارُ: (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَمَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى جَوَازِ الشُّورَى، لِأَنَّ الشُّورَى لَا تَجُوزُ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ نَصٌّ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنُصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَأَنَّهُ وَكَلَهُمْ إلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ لِمَنْ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لَهَا، وَصَلَاحًا لِلْكَافَّةِ، وَعَلِمْنَا حِينَ عَقَدُوهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 لِأَبِي بَكْرٍ بِاجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ إلَّا وَقَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْقِيفٌ لَهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ نَصْبَ إمَامٍ بِاجْتِهَادِ آرَائِهِمْ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ جَعَلَهَا شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، وَرَضِيَتْ السِّتَّةُ وَالْجَمَاعَةُ بِذَلِكَ، لَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ رَأْيٍ مِنْهُ، وَالشُّورَى إنَّمَا هِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الرَّأْيِ، وَتَوْلِيَةُ مَنْ يَرَوْنَ ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ اجْتَهَدَ السِّتَّةُ فَجَعَلُوا الْأَمْرَ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَلَى أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْهَا وَيَخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى (بِاجْتِهَادِهِ، ثُمَّ رَأَى) عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَنْ يَتَّبِعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَاجْتِهَادِ رَأْيِي، وَعَرَضَهُ عَلَى عُثْمَانَ فَقَبِلَهُ عَلَى مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِ، فَرَأَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يُوَلِّيَهُ (مَنْ عَمِلَ فِيهِ) بِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِأَنَّهُ رَأَى النَّاسَ قَدْ صَلَحُوا عَلَى سِيرَتِهِمَا، وَفُتِحَتْ الْفُتُوحُ فِي أَيَّامِهِمَا، وَوُجِدَتْ فِيهِمْ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَرَأَى مَوْعُودَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ صَحَّ فِيهِمْ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَاتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى جَوَازِ الشُّورَى، وَاتَّفَقَتْ أَيْضًا فِي جَعْلِ الْأَمْرِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي أُمُورٍ أُخَرَ. فَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ، (وَإِنْ خَالَفَ بِهِ رَأْيَ غَيْرِهِ، بَلْ سَوَّغُوا لِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْهُمْ رَأْيَهُ) وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَأَجْمَعُوا بِاجْتِهَادِهِمْ عَلَى وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الْمَعْلُومَةِ، وَعَلَى وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ، وَعَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ. وَالْقَضَايَا الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا بِاجْتِهَادِ آرَائِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ الشَّكُّ فِيهَا، أَوْ أَنْ يَعْرِضَ فِيهَا رَيْبٌ لِذِي فَهْمٍ وَدِرَايَةٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 وَشَبَّهَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْجَدَّ بِنَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ جَدْوَلٌ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنْهُ شُعْبَتَانِ، وَشَبَّهَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِغُصْنٍ نَبَتَ مِنْ شَجَرَةٍ، ثُمَّ نَبَتَ مِنْ الْغُصْنِ غُصْنَانِ.) وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ إلَى أَبِي مُوسَى: وَقِسْ الْأَمْرَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَلَسْنَا نَقْضِي، وَلَسْنَا هُنَاكَ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ قَضَاءٌ، فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاجْتِهَادُ فِي إدْرَاكِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عِنْدَهُمْ سَائِغًا، لَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمَا جَازَ مِنْهُمْ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَى الْقَائِلِ بِهِ، وَكَانَ لَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافٌ، فَيَقُولَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَيَنْفِيَهُ بَعْضُهُمْ، كَسَائِرِ مَا اخْتَلَفُوا مِمَّا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ نَكِيرٌ عَلَى الْقَائِلِ بِهِ فَلَمَّا تَوَافَوْا كُلُّهُمْ عَلَى تَجْوِيزِهِ - إمَّا رَجُلٌ قَدْ يَسْتَعْمِلُهُ وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ، وَإِمَّا رَجُلٌ لَمْ يُنْكِرْهُ، إذْ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ قَوْلٌ فِي الْمَسَائِلِ - ثَبَتَ بِذَلِكَ إجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِيمَا طَرِيقُ الْحَقِّ فِيهِ وَاحِدٌ، وَلَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ، خَرَجُوا مِنْهُ إلَى اللَّحْنِ وَالْبَرَاءَةِ، وَنَصْبِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، كَنَحْوِ اخْتِلَافِهِمْ (فِي إنْشَاءِ) حَرْبِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَقِتَالِ الْخَوَارِجِ، لَمَّا كَانَ الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدًا، وَكَانَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَائِمًا بَارِزًا، لَمْ يُسَوِّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَنْزِلَةُ هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ كَمَنْزِلَةِ الْخِلَافِ فِي الْجَدِّ، وَالْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِيَّةِ، وَالْحَرَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَدَلَّ مَا وَصَفْنَا عَلَى انْعِقَادِ اتِّفَاقِ السَّلَفِ، عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: فَقَاضٍ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ حَكَمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ» . قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي (هَذَا) : إنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ حَكَمَ لِمَنْ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ بِالْجَنَّةِ، وَلَوْلَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَأْمُورٌ بِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فِي اجْتِهَادِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمَا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ، لِأَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ مَحْظُورًا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ عَلَى مُسَبَّبِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَمَى مُسْلِمًا مَحْظُورَ الدَّمِ، فَأَصَابَ كَافِرًا حَرْبِيًّا: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ. لِكَوْنِ السَّبَبِ الَّذِي عَنْهُ كَانَ مَحْظُورًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الَّذِي أَخْطَأَ: إنَّهُ فِي النَّارِ، فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا نُجِيزُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ. وَعَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ، فِي تَقْسِيمِنَا اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَالْآخَرُ: خَارِجٌ عَنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ وَدَاخِلٌ فِي الْأُمُورِ الَّتِي كُلِّفُوا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ. فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَعِيدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ إنَّمَا خَرَجَ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ فِيمَا قَدْ قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَظَهَرَتْ حُجَّتُهُ فَأَخْطَأَهُ، كَخَطَأِ الْخَوَارِجِ وَأَضْرَابِهِمْ، فَهُمْ فِي النَّارِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ. فَقَالَ: هَذَا الْحَرُورِيُّ مُجْتَهِدٌ وَهُوَ فِي النَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: (مَرَّ بِي أَنَسٌ وَقَدْ بَعَثَهُ زِيَادٌ) إلَى أَبِي بَكْرَةَ يُعَاتِبُهُ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَدَخَلْنَا عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَأَبْلَغَهُ عَنْهُ، وَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: أَلَمْ أَسْتَعْمِلْ عُبَيْدَ اللَّهِ عَلَى فَارِسَ؟ أَلَمْ أَسْتَعْمِلْ رَوَّادًا عَلَى دَارِ الرِّزْقِ؟ أَلَمْ أَسْتَعْمِلْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَلَى الدِّيوَانِ وَبَيْتِ الْمَالِ؟ فَقَالَ (أَبُو بَكْرَةَ) : هَلْ زَادَ عَلَى أَنْ أَدْخَلَهُمْ النَّارَ قَالَ أَنَسٌ: لَا أَعْلَمُهُ إلَّا مُجْتَهِدًا، فَقَالَ الشَّيْخُ: أَقْعِدُونِي إنِّي لَا أَعْلَمُهُ إلَّا مُجْتَهِدًا، فَأَهْلُ حَرُورَاءَ قَدْ اجْتَهَدُوا، فَأَصَابُوا أَمْ أَخْطَئُوا؟ قَالَ الْحَسَنُ فَرَجَعْنَا مَخْصُومِينَ " فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ مِنْ وَعِيدِ الْمُخْطِئِ فِي اجْتِهَادِهِ، فِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَجْتَهِدَ - وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ - جَاهِلًا بِالْأُصُولِ، أَوْ حَافِظًا لَهَا جَاهِلًا بِطُرُقِ الِاجْتِهَادِ، وَوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ. فَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الِاجْتِهَادُ. وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ: قَالَ: فَقُلْت مَا هَذَا الَّذِي اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ قَالَ: كَانَ قَوْلُهُ: إذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَقْضِيَ أَنْ لَا يَقْضِيَ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَعَمَّ الْجَمِيعَ إذَا أَخْطَئُوا. قِيلَ لَهُ: خَصَصْنَاهُ فِيمَنْ ذَكَرْنَا، لِلدَّلَائِلِ الَّتِي قَدَّمْنَا فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ، وَبِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، وَبَيْنَ مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ فِيهِ إبَاحَةَ الِاجْتِهَادِ، وَالْحُكْمَ بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لِلْمُصِيبِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَاسْتَفْتَى جَمَاعَةً كَانُوا مَعَهُ فِي التَّيَمُّمِ، فَقَالُوا: مَا نَرَى لَك إلَّا الْغُسْلَ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرُهُ، فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ؟» وَرُوِيَ فِي خَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ «قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِيَةِ الْجَنِينِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: كَيْفَ تَدِي مَنْ لَا أَكَلَ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا صَاحَ، فَاسْتَهَلَّ. فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ النَّبِيُّ: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ وَقَضَى فِيهِ بِالْغُرَّةِ» ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ مُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِاجْتِهَادِ. قِيلَ لَهُ: نَحْنُ لَا نُجِيزُ الِاجْتِهَادَ مَعَ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلَا مَعَ دَلِيلٍ قَائِمٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ: فَإِنَّهُمْ أَشَارُوا عَلَى الْمَرِيضِ بِالْغُسْلِ مَعَ خَوْفِ التَّلَفِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. أَلَا تَرَى: أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فَرَضِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَهُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ التَّيَمُّمَ، لِخَوْفِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ مَعَهُ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَلٍ: فَإِنَّ الْقَائِلَ فِيهِ اعْتَرَضَ عَلَى النَّصِّ بَعْدَ سَمَاعِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوجِبُ الْغُرَّةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ مُنْكَرًا، مَرْدُودًا. فَإِنْ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَتَسْوِيغِهِمْ لَهُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ مِنْ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فِيهِ. فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ ظَهَرَ مِنْهَا النَّكِيرُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الِاجْتِهَادِ، وَخَرَجُوا فِيهِ إلَى التَّلَاعُنِ، وَإِلَى اسْتِعْظَامِ الِاجْتِهَادِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي) وَقَالَ عُمَرُ (أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْجَدِّ أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ) ، وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقُلْ فِي الْجَدِّ) وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى، نَزَلَتْ بَعْدَ الطُّولَى) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ) وَقَالَ: (أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ، يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ، وَلَا يَجْعَلُ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ؟) . وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ خَادِمًا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَتْهُ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. فَقَالَتْ: (بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ أَخْبِرِي) زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِهِ (إنْ لَمْ يَتُبْ) وَهَذَا غَايَتُهُ النَّكِيرُ وَالْوَعِيدُ. وَقَالَ عَلِيٌّ: (لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ، لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ ظَاهِرَ الْخُفِّ) . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ) وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (قُرَّاؤُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ) وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: (لَا أَقِيسُ شَيْئًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 بِشَيْءٍ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي) وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: أَوَّلُ (مَنْ قَاسَ) إبْلِيسُ، وَإِنَّمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِالْمَقَايِيسِ وَقَالَ أَشْعَثُ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لَا يَكَادُ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا بِرَأْيِهِ وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: (لَعَلَّك مِنْ الْقَائِسِينَ) وَتَذَاكَرُوا الْقِيَاسَ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ الشَّعْبِيِّ فَقَالَ: إنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَحْلَلْتُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمْتُمْ الْحَلَالَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ الشَّعْبِيُّ لَا يَقِيسُ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ لَا يُفْتِي بِرَأْيِهِ. الْجَوَابُ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ السَّلَفِ، الْقَوْلُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَاسْتِعْمَالِ الْمَقَايِيسِ، فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي يَعْجِزُ الْكِتَابُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا سَمِعَهَا الشَّكُّ فِيهَا. - فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مِمَّا ذَكَرْت، فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَثَبَتَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِالِاجْتِهَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، فَإِنْ صَحَّ عَنْهُ مَا رَوَيْت مِنْ قَوْلِهِ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِرَأْيِي، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ، إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مَنْعُ الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ أَوْ دَلِيلِهِ، وَلَسْنَا نُجِيزُ الِاجْتِهَادَ فِي مِثْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ: أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْجَدِّ أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقُلْ فِي الْجَدِّ، فَإِنَّمَا مُرَادُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ فِي الْجَدِّ لَطِيفُ الْمَعْنَى، غَامِضُ الْمَسْلَكِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْقَوْلُ فِيهِ، إلَّا لِمَنْ كَانَ بَارِعًا مُتَقَدِّمًا فِي النَّظَرِ، عَالِمًا بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ وَالِاسْتِدْلَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا قَدْ قَالَا فِي الْجَدِّ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمَا لَمْ يُرِيدَا بِذَلِكَ مَنْعَ أَنْفُسِهِمَا وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 الْقَوْلِ فِي الْجَدِّ بِالِاجْتِهَادِ. وَإِنَّمَا أَرَادَا بِذَلِكَ، مَنْ تَقْصُرُ مَنْزِلَتُهُ عَنْ الْقَوْلِ فِيهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي شَيْءٍ ذَكَرَهُ لَهُ، أَنَّهُ أَفْتَى بِهِ، فَقَالَ لَهُ: لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَأَوْجَعْتُك. وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الطُّولَى، فَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُبَاهَلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَالَفَهُ فِي تَارِيخِ السُّورَتَيْنِ، وَالصَّحَابَةُ لَمْ تُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي حُكْمِهِمَا، فَقَالَا بِاسْتِعْمَالِ الْآيَتَيْنِ، وَجَعَلَا عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا - إذَا كَانَتْ حَامِلًا - أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ، وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَلَمْ تَكُنْ الْمُبَاهَلَةُ الْمَذْكُورَةُ هَهُنَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَتَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي تَارِيخِهِمَا، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فِي تَارِيخِهِمَا، إلَّا أَنَّهُ دَعَا مَنْ خَالَفَهُ إلَى اعْتِبَارِ آخِرِهِمَا نُزُولًا، فِيمَا وَرَدَتْ فِيهِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ. فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ يُوجِبُ الْمُبَاهَلَةَ لِمَنْ أَنْكَرَ مَا قَالَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْجَدَّ أَبًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وقَوْله تَعَالَى: {يَا آدَمَ} [البقرة: 33] وَلَمْ يُوجِبْ الْمُبَاهَلَةَ لِمَنْ خَالَفَهُ فِي الْحُكْمِ، إنْ أَوْجَبَهَا لِمَنْ خَالَفَهُ فِي التَّسْمِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ فَإِنَّمَا نَبَّهَهُ بِهِ عَلَى وُضُوحِ الدَّلَالَةِ فِي إلْحَاقِ الْجَدِّ بِحُكْمِ الْأَبِ، وَهُوَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ابْنِ الِابْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِإِنْكَارٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَإِنَّمَا قَالَتْهُ عِنْدَنَا تَوْقِيفًا لَا اجْتِهَادًا، لِأَنَّ مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ لَا يَلْحَقُ فَاعِلَهُ فِيهِ الْوَعِيدُ. وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ زَيْدًا أَقَامَ بَعْدَ قَوْلِهَا عَلَى ذَلِكَ الْبَيْعِ. وَعَلَى أَنَّ إنْكَارَ عَائِشَةَ عَلَى زَيْدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ لِمَا عَرَفَتْ مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ كَانَتْ قَالَتْهُ تَوْقِيفًا فَهُوَ مَا قُلْنَا، وَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهِ هَهُنَا. وَإِنْ قَالَتْهُ اجْتِهَادًا، فَقَدْ اسْتَعْمَلَتْ الِاجْتِهَادَ فِي إبْطَالِ ذَلِكَ الْبَيْعِ، وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ فِيهِ عَلَى زَيْدٍ، فَأَنْتَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْت أَنْ تُثْبِتَ عَنْهَا نَفْيَ الِاجْتِهَادِ. فَقَدْ أَثْبَتَّ قَوْلَهَا بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ يَصِيرُ حِينَئِذٍ الْكَلَامُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، أَوْ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَهَذَا الْبَابُ لَا مَدْخَلَ لِمُبْطِلِي الِاجْتِهَادِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ. وَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي رَدِّ التَّوْقِيفِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ، لِأَنَّهُ يُلَاقِي الْأَرْضَ بِمَا عَلَيْهَا (مِنْ) طِينٍ، وَتُرَابٍ، وَقَذَرٍ (وَلَا يُلَاقِيهَا، ظَاهِرُهُ) إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ الْقِيَاسَ، لِأَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ ظَاهِرَ الْخُفِّ دُونَ بَاطِنِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُرَادُهُ نَفْيَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ. فَإِنَّهُ لَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذَمُّ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ يَنْصَرِفُ الْقَوْلُ فِيهَا إلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمًا يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَقَوْمٌ آخَرُونَ يَقُولُونَ: لِلْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولُوا بِآرَائِهِمْ، وَبِمَا يَسْنَحُ فِي أَوْهَامِهِمْ، وَيَخْطِرُ بِبَالِهِمْ فِي الْبَابِ الَّذِي فِيهِ الْحَادِثَةُ، مِنْ غَيْرِ احْتِذَاءٍ مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ، وَلَا رَدٍّ عَلَى نَظِيرٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وَقَوْمٌ يَجْتَهِدُونَ قَبْلَ حِفْظِ الْأُصُولِ وَإِتْقَانِهَا. فَانْصَرَفَ ذَمُّ مَنْ ذَمَّ الرَّأْيَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا أَرَادَ مَنْ قَالَ بِالرَّأْيِ قَبْلَ حِفْظِ الْأُصُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، قَوْلُهُ: إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ. فَخَصَّ بِالذَّمِّ مَنْ تَرَكَ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْفَظَهَا، وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا، وَفَاعِلُ ذَلِكَ مَذْمُومٌ عِنْدَنَا، غَيْرُ مُسَوَّغٍ لَهُ الِاجْتِهَادُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقِيسُ (شَيْئًا) بِشَيْءٍ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي، فَإِنَّ مَسْرُوقًا قَدْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، مَشْهُورٌ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ: يُجْعَلُ مَا فَضَلَ عَنْ الثُّلُثَيْنِ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَخَرَجَ خَرْجَةً إلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ وَهُوَ يَرَى أَنْ يُشَرِّكَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ. فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ: (مَا رَدَّكَ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ؟ أَلَقِيتَ أَحَدًا هُوَ أَوْثَقُ فِي نَفْسِك مِنْهُ؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنْ لَقِيتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدْتُهُ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرَجِّحْ قَوْلَ زَيْدٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ إلَيْهِ إلَّا بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ، أَوْجَبَا ذَلِكَ عِنْدَهُ. وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: (لَا) أَقِيسُ شَيْئًا بِشَيْءٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُفْتِي، لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي، لَمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْفُتْيَا جَائِزَةً، وَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى التَّوَقِّي، لِمَا قَدْ كَفَاهُ غَيْرُهُ. كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: (أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ يُسْتَفْتَى، إلَّا وَدَّ أَنَّ صَاحِبَهُ كَفَاهُ) . مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَقِيسُ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: (أَكَانَ هَذَا؟ فَقَالَ السَّائِلُ: لَا. فَقَالَ: أَجِمْنَا حَتَّى يَكُونَ) . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ، وَأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ إنَّمَا عُبِدَا بِالْمَقَايِيسِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَقَايِيسَ الْفَاسِدَةَ، الَّتِي لَمْ يَقَعْ بِنَاؤُهَا عَلَى أُصُولٍ صَحِيحَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْمَقَايِيسَ الصَّحِيحَةَ. وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ جَائِزًا، وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ يَحْكِي عَنْ إبْرَاهِيمَ، الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حَدَثِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَأَنَّهُمَا كَانَا كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ، وَالتَّغْيِيرِ بِالْحَرَكَةِ وَالزَّوَالِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] إلَى آخِرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 الْقِصَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ الْمَقَايِيسَ الَّتِي (لَا) يَقَعُ بِنَاؤُهَا عَلَى أُصُولٍ صَحِيحَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ: إنْ أَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ، أَحْلَلْتُمْ الْحَرَامَ، وَحَرَّمْتُمْ الْحَلَالَ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَقِيسُ، فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقِيَاسَ جَائِزًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَسْنَا نُجِيزُ الْقِيَاسَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا نُجِيزُهُ، فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ قِيَاسًا يُحَرِّمُ مَا أَبَاحَهُ النَّصُّ، أَوْ يُبِيحُ مَا حَرَّمَهُ النَّصُّ، (وَذَلِكَ) لِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّعْبِيِّ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى، وَجُلُّ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ إنَّمَا أَخَذُوا طَرِيقَةَ الْقِيَاسِ عَنْهُ، وَعَنْ أَمْثَالِهِ، وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ يَرَى الْقِيَاسَ إلَّا كَعِلْمِنَا بِأَنَّ حَمَّادًا، وَالْحَكَمَ، وَبَعْدَهُمَا ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانُوا يَرَوْنَ الْقِيَاسَ جَائِزًا فِي الْحَوَادِثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: (الْقَضَاءُ عَلَى ثَلَاثَةٍ: آيَةٍ مُحْكَمَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مُتَّبَعَةٍ أَوْ رَأْيِ مُجْتَهِدٍ.) وَقَالَ الْفُرَاتُ بْنُ أَحْنَفَ: (قَضَى الشَّعْبِيُّ عَلَى رَجُلٍ، فَقِيلَ لَهُ: اقْضِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ، فَقَالَ إنَّمَا أَقْضِي بِرَأْيِي) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 وَذَكَرَ أَبُو حُصَيْنٍ: أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَضَى بِقَضِيَّةٍ ثُمَّ قَالَ: مَا أَدْرِي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ وَلَكِنْ لَمْ آلُ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقِيسُ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ (عَنْهُ) أَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ آثَارٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلَ الْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِالْمَعْنَى، كَانَ عِنْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ كَانَ حِفْظُ الْآثَارِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: إنَّهُ كَانَ لَا يَقِيسُ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَفَاذُهُ فِي الْقِيَاسِ، كَنَفَاذِ غَيْرِهِ. كَمَا رُوِيَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَأَبَا الضُّحَى، كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَذَاكَرُونَ، فَإِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ رِوَايَةٌ رَمَوْا إبْرَاهِيمَ بِأَبْصَارِهِمْ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ فِي الْقِيَاسِ أَنْفَذَ مِنْهُ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ أَحْفَظَ لِلْآثَارِ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَا يَقِيسُ، وَهُوَ يَعْنِي أَنَّ حِفْظَ الْآثَارِ، كَانَ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ صَاحِبُ آثَارٍ، وَ (فُلَانٌ) صَاحِبُ قِيَاسٍ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا يَقُولَانِ بِالْآثَارِ وَالْقِيَاسِ. فَنُسِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى أَغْلَبِ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْحَوَادِثِ، وَأَقَاوِيلُهُمْ فِيهَا، إنَّمَا كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَالصُّلْحِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ نَدْرِ الْمَسَائِلِ. لَا (عَلَى) جِهَةِ قَطْعِ الْحُكْمِ وَإِبْرَامِ الْقَضَاءِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 قِيلَ لَهُ: الَّذِينَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَقَاوِيلَهُمْ، كَانُوا عَالِمِينَ بِفَصْلِ مَا بَيْنَ التَّوَسُّطِ وَالصُّلْحِ، وَبَيْنَ فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَإِبْرَامِ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فُقَهَاءَ، عَارِفِينَ بِمَعَانِي الْكَلَامِ، وَوُجُوهِهِ (وَقَدْ) نَقَلُوا إلَيْنَا قَضَايَاهُمْ، وَقَطْعَهُمْ لِلْحُكْمِ، بِالْأَقَاوِيلِ الَّتِي ذَهَبُوا إلَيْهَا. فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: (إنَّ ذَلِكَ كَانَ) عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْخُصُومِ، لَجَازَ مِثْلُهُ فِي نَقْلٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَضَايَاهُ، لِأَنَّ النَّاقِلِينَ لَهَا قَدْ بَيَّنُوا أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، وَإِبْرَامِ الْحُكْمِ، وَهُمْ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ، فِي مِثْلِ حَالِهِمْ الْغَلَطُ، وَاشْتِبَاهُ أَمْرِ الْقَضَاءِ، وَالصُّلْحِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى لَا يَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا، عَلِمْنَا سُقُوطَ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ مِثْلَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ فِي الْحَوَادِثِ. وَمَا عِلْمُ النَّاقِلِينَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ لَمْ تَكُنْ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَإِلْزَامِ الْحُكْمِ إلَّا كَعِلْمِنَا بِأَقَاوِيلِ فُقَهَائِنَا، وَجَوَابَاتِ مَسَائِلِهِمْ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَأَنَّهُمْ أَجَابُوا فِيهَا عَلَى أَنَّهَا أَجْوِبَةُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَأَحْكَامُهَا، دُونَ غَيْرِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيمَا نَقَلُوا إلَيْنَا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ، عِبَادَاتٍ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا مَدْخَلَ لِلصُّلْحِ وَالتَّوَسُّطِ فِيهَا، نَحْوُ: مَسَائِلِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، مِمَّا لَا يَجُوزُ الِاصْطِلَاحُ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ الْوَاجِبِ. أَجَابَ فِيهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِجَوَابِهِ فِيهَا، عَلَى وَجْهِ إبْرَامِ الْحُكْمِ، وَإِلْزَامِ الْقَضِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ هَذَا السُّؤَالِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا صَدْرًا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. وَنَذْكُرُ الْآنَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ حُجَجِ الْعُقُولِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ الْعِبَادَاتِ (قَدْ) تَرِدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنْحَاءٍ ثَلَاثَةٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وَاجِبٌ فِي الْعَقْلِ: فَيَرِدُ الْعَقْلُ بِإِيجَابِهِ، تَأْكِيدًا لِمَا كَانَ فِي الْعَقْلِ مِنْ حَالِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ التَّوْحِيدِ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَالْإِنْصَافِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَالثَّانِي: مَحْظُورٌ فِي الْعَقْلِ: فَيَرِدُ الشَّرْعُ بِحَظْرِهِ، تَأْكِيدًا لِمَا كَانَ فِي الْعَقْلِ مِنْ حُكْمِهِ، قَبْلَ وُرُودِهِ، نَحْوُ: الْكُفْرِ، وَالظُّلْمِ، وَالْكَذِبِ، وَسَائِرِ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعُقُولِ، وَهَذَانِ الْبَابَانِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ فِيهِمَا خِلَافَ مَا فِي الْعَقْلِ. وَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا، لَيْسَ فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ وَلَا إيجَابُهُ، إلَّا عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ حَالُهُ: مِنْ حُسْنٍ، أَوْ قُبْحٍ، وَفِي الْعَقْلِ تَجْوِيزُ كَوْنِهِ مِنْ حَيِّزِ الْوَاجِبِ، أَوْ الْمَحْظُورِ، أَوْ الْمُبَاحِ. فَإِذَا حَظَرَهُ السَّمْعُ عَلِمْنَا قُبْحَهُ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ أَوْ أَبَاحَهُ، عَلِمْنَا حُسْنَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَنَا التَّصَرُّفَ فِي الْمُبَاحَاتِ بِحَسَبِ رَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا فِي اجْتِلَابِ الْمَنَافِعِ لِأَنْفُسِنَا بِهَا، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهَا، نَحْوُ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَاتِ، وَالرِّحْلَةِ لِلْأَسْفَارِ، طَلَبًا لِلْمَنَافِعِ فِي زِرَاعَةِ الْأَرَضِينَ، وَأَكْلِ الْأَطْعِمَةِ، وَالتَّعَالُجِ، وَالْأَدْوِيَةِ، عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِنَا. وَالْغَالِبُ فِي ظُنُونِنَا: أَنَّا نَجْتَلِبُ بِهَا نَفْعًا، وَلَوْ غَلَبَ فِي ظُنُونِنَا أَنَّا لَا نَجْتَلِبُ بِهَا نَفْعًا، أَوْ (نَدْفَعُ) بِهَا ضَرَرًا، لَكَانَ تَصَرُّفُنَا فِيهَا قَبِيحًا، وَعَبَثًا، وَسَفَهًا، ثُمَّ كَانَتْ إبَاحَتُهُ ذَلِكَ لَنَا عَلَى (هَذِهِ الْوُجُوهِ) مَصْلَحَةً، وَدَلَالَةً عَلَى حُسْنِهِ، مَعَ كَوْنِ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنْ التَّصَرُّفِ مَوْكُولَةً إلَى اجْتِهَادِنَا، وَمَقْصُورَةً عَلَى مَبْلَغِ آرَائِنَا، وَغَالِبِ ظُنُونِنَا. وَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَنَا، وَيَكْفِيَنَا الْمُؤْنَةَ فِيهِ، كَمَا كَفَانَا أَكْثَرَ أُمُورِنَا الَّتِي حَاجَتُنَا إلَيْهَا ضَرُورَةٌ. وَلَكِنَّهُ وَكَلَ ذَلِكَ إلَى آرَائِنَا وَاجْتِهَادِنَا، لِمَا عَلِمَ لَنَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وَالتَّشَبُّهِ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَلِيُشْعِرَنَا أَنَّ ثَوَابَهُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالسَّعْيِ وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْجَنَّةِ، الَّتِي لَا تَعَبَ فِيهَا وَلَا نَصَبَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمُبَاحَاتِ الَّتِي قَدْ عَلِمْنَا تَعَلُّقَهَا بِالْمَصَالِحِ كَتَعَلُّقِ الْمَحْظُورَاتِ، وَالْوَاجِبَاتِ، مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ، وَالتَّبْدِيلُ، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِنَا، وَغَالِبِ ظُنُونِنَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، إذْ كَانَ أَكْبَرُ الْمَصَالِحِ، مَا كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي سَائِرِ حَوَادِثِ أَمْرِ الدِّينِ، مِمَّا لَمْ يَنُصَّ لَنَا فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ تَتَّفِقْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ وَافَقَنَا خُصُومُنَا مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ غَالِبُ الظَّنِّ، فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ، وَمَا يُقَاتِلُونَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِي غَالِبِ ظُنُونِنَا، أَنَّهُ إلَى قُوَّةِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ أَمْرِهِ، وَوَهَنِ الْكُفْرِ، وَسُقُوطِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُمُورِ الدِّينِ. فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي بَعْضِهِ، كَانَ الْجَمِيعُ بِمَثَابَتِهِ. كَمَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ مَا وَصَفْنَا فِي بَعْضِ أُمُورِ الْحَرْبِ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ، كَانَ جَمِيعُهُ بِمَنْزِلَةِ بَعْضِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا ذَكَرْنَا، اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَصَدَ رَجُلًا بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ. أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ، اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِهِ. فَإِنْ غَلَبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 فِي) ظَنِّهِ أَنَّهُ مَازِحٌ لَاعِبٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ قَتْلُهُ. وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ قَاصِدٌ قَتْلَهُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ. فَكَانَ حُكْمُ جَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِهِ مَنُوطًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَإِذَا جَازَ الْحُكْمُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي مِثْلِهِ فَمَا دُونَهُ أَحْرَى بِجَوَازِ ذَلِكَ فِيهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَدْرَكَةً مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ، أَوْ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ. وَمِنْ جِهَةِ مَعَانٍ مُودَعَةٍ فِيهَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْأَحْكَامِ بِهَا، فَلَمَّا وَجَدْنَا الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَرِدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهَا، فِي أُمُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ جَارِيًا فِي أَغْيَارِهَا (لِمُشَارَكَتِهَا) لَهَا فِي مَعَانِيهَا. نَحْوُ قَوْلِهِ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] عُلِمَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ السَّبِّ وَالضَّرْبِ. وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124] وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ} [آل عمران: 75] فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ (بِهِ) مَقْصُورًا بِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ حُكْمًا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ. عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَجِبُ بِالنَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ يَجِبُ بِالْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حُكْمِهِ فِي أَشْخَاصٍ (بِأَعْيَانِهَا) ، وَأُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُعَلَّقْ الْحُكْمُ فِيهَا بِاسْمِ عُمُومٍ. وَكَانَ الْحُكْمُ جَارِيًا عَلَى مَعَانٍ مُودَعَةٍ فِي النَّصِّ، نَحْوُ: حُكْمُهُ بِالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ. وَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ. (وَحُكْمُهُ فِي الْفَأْرَةِ إذَا مَاتَتْ فِي سَمْنٍ: أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامِدًا أُلْقِيَتْ وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا أُرِيقَ) ، وَنَحْوُ رَجْمِهِ مَاعِزًا حِينَ زَنَى وَتَخْيِيرِهِ بَرِيرَةَ حِينَ أُعْتِقَتْ وَلَهَا زَوْجٌ، (وَأَمْرِهِ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ حِينَ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ) ، ثُمَّ كَانَ كَحُكْمِ الزَّيْتِ: حُكْمُ السَّمْنِ إذَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ، وَكَانَ الْعُصْفُورُ بِمَنْزِلِهِ الْفَأْرَةِ إذَا مَاتَ فِيهَا، وَكَانَ حُكْمُ غَيْرِ مَاعِزٍ مِنْ الزُّنَاةِ الْمُحْصَنِينَ: حُكْمَ مَاعِزٍ، وَكَانَ حُكْمُ غَيْرِ بَرِيرَةَ، وَغَيْرِ ابْنِ عُمَرَ: حُكْمَ مَا وَرَدَ فِيهِ الْأَثَرُ، وَنُصَّ عَلَيْهِ، لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِاسْمِهِ، ثَبَتَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مُودَعٌ فِي النَّصِّ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَإِجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، مِنْ الْمَعَانِي مَا يَكُونُ جَلِيًّا ظَاهِرًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ خَفِيًّا غَامِضًا. فَالْجَلِيُّ مِنْهَا: نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا، مِمَّا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ. (وَالْخَفِيُّ مِنْهَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ) فَحَيْثُمَا وَجَدْنَا الْمَعْنَى وَجَبَ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْمِ وَبِالْعَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ، وَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِهِ، حَيْثُ وُجِدَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ وُرُودِ الْحُكْمِ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ: الْحُكْمُ بِمِثْلِهِ فِي غَيْرِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 مِنْ الْأَشْخَاصِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْجَمِيعَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرِيعَةِ، مُتَسَاوُونَ فِيهَا، إلَّا مَنْ خَصَّتْهُ الدَّلَائِلُ بِشَيْءٍ دُونَ سَائِرِهِمْ. وَقَدْ عَقَلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ حُكِمَ بِهِ فِي شَخْصٍ، فَهُوَ لَازِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ. فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَجَبَ مَا ذَكَرْت (لَا) مِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى. قِيلَ لَهُ: لَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمُ الْوَاقِعُ فِي شَخْصٍ فِي سَائِرِ الْأَشْخَاصِ مِنْ حَيْثُ ذَكَرْت، (دُونَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى) وَإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَنْ شَارَكَهُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ، لَيْسَ هُوَ حُكْمًا فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ حُكْمَهُ فِي السَّمْنِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ، لَيْسَ هُوَ فِيمَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ حُكْمَهُ بِرَجْمِ مَاعِزٍ، لَيْسَ هُوَ حُكْمًا فِي سَائِرِ النَّاسِ، مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الزِّنَا. وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي بَرِيرَةَ بِالتَّخْيِيرِ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ، إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَاعْتِبَارِهِ بِهِ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ وُجُوبُ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ الْأَحْكَامِ، مِنْ حَيْثُ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِيمَا اسْتَشْهَدْتَ بِهِ. وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا ثَبَتَ تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ بِالْمَعَانِي عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي وَصَفْنَا لَزِمَ اعْتِبَارُهَا فِي أَغْيَارِهَا مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى، كَمَا وَافَقْنَا خُصُومَنَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ: أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى، فَحَيْثُمَا وُجِدَ الْمَعْنَى وَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَمِنْ حَيْثُ وُجِدَ سَاوَاهُ غَيْرُهُ فِي الْمَعْنَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَجَازَ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى وَإِجْرَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَوَادِثِ، أَجَازَهُ فِي جَمِيعِهَا، مِمَّا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنِّي أُجِيزُ اعْتِبَارَ الْمَعَانِي وَالْقِيَاسَ عَلَيْهَا فِي الطَّلَاقِ دُونَ الْعَتَاقِ، وَفِي الصَّلَاةِ دُونَ الزَّكَاةِ، لَكَانَ قَوْلُهُ سَاقِطًا مَرْذُولًا. كَذَلِكَ مَنْ أَجَازَ اعْتِبَارَ الْمَعَانِي، وَأَجْرَى الْحُكْمَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنَعَ فِي بَعْضِهَا، مِمَّا شَارَكَهُ فِي الْمَعْنَى، فَقَوْلُهُ سَاقِطٌ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ حُجَجِ الْعُقُولِ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ قَوْمٌ عُقَلَاءُ (قَدْ) أَثْبَتُوا حُجَجَ الْعُقُولِ، وَأَحْكَامَهَا. فَأَمَّا مَنْ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْبَهِيمَةِ وَقَالَ: بَلْ عَلَى الْعُقُولِ. وَنَفَى أَنْ تَكُونَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ دَلَائِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ جَدِيرٌ بِالتُّهْمَةِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ دُسُسِ الْمُلْحِدِينَ وَالزَّنَادِقَةِ، فِي الصَّرْفِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَعَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِثْلُهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِحُجَجِ الْعُقُولِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَابِهِ. ثُمَّ يَلْزَمُ اعْتِبَارُهُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِعُمُومِ الْآيَاتِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَالرَّدُّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حُكْمَ الْحَادِثَةِ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ، عَلِمْنَا وُجُوبَ الرَّدِّ إلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، إذْ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِنْ حُكِمَ بِهَا فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِفُ هُوَ بِلُزُومِهِ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ مِنْ الْعُمُومِ وَظَوَاهِرِ الْأَسْمَاءِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ: بِأَنَّهُ مَا مِنْ حَادِثَةٍ، إلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ. إمَّا بِحَظْرٍ، أَوْ إبَاحَةٍ، أَوْ إيجَابٍ، فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ الْحُكْمُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ النَّصِّ، فَيُرَدُّ إلَى النَّصِّ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ. فَلَمَّا امْتَنَعَ وُجُودُ النَّصِّ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ - لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهَا - لَمَا كَانَتْ حَوَادِثَ، وَلَكَانَتْ أُصُولًا، وَلِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ نُصُوصًا، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّصِّ فِيهَا، إذْ كَانَتْ الْحَوَادِثُ لَا غَايَةَ لَهَا (يُحِيطُ عِلْمُنَا) (بِهَا) - ثَبَتَ أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ كُلَّهَا لَيْسَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 ثُمَّ لَا يَخْلُو بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَدْرَكًا مِنْ جِهَةِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، (وَمَا) يَسْبِقُ إلَى الْوَهْمِ، مِنْ غَيْرِ رَدٍّ إلَى أَصْلٍ، أَوْ الْوَقْفِ فِيهَا، أَوْ رَدِّهَا إلَى الْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِالْمَعَانِي الَّتِي جُعِلَتْ عَلَمًا لِأَحْكَامِهَا، عَلَى مَا قَالَ الْقَائِسُونَ. وَالْقَوْلُ بِالْوَقْفِ وَالتَّخْمِينِ: بَاطِلٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ. فَثَبَتَ وُجُوبُ رَدِّهَا إلَى الْأُصُولِ بِالْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا، وَجُعِلَتْ عَلَمًا لِلْحُكْمِ فِيهَا، فَيُحْكَمُ لَهَا بِحُكْمِهَا، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي نَقُولُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَلَى وَجْهَيْنِ. نَصٍّ جَلِيٍّ، وَنَصٍّ خَفِيٍّ. فَأَمَّا الْجَلِيُّ: فَهُوَ الَّذِي يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَأَمَّا الْخَفِيُّ: فَهُوَ الَّذِي يُدْرَكُ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَالْفِكْرِ، وَالنَّظَرِ. فَتَكُونُ أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ مَأْخُوذَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَدْ اسْتَغْنَيْنَا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ. قِيلَ لَهُ: أَدَلُّ مَا فِي هَذَا: أَنَّ قَوْلَك بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ مُتَنَاقِضٌ فَاسِدٌ. لِأَنَّ النَّصَّ فِي اللُّغَةِ: الْمُبَالَغَةُ فِي إظْهَارِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَصَصْت الْحَدِيثَ إلَى فُلَانٍ، يَعْنِي أَظْهَرْت أَصْلَهُ وَمَخْرَجَهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَنُصُّ الْحَدِيثَ إلَى أَهْلِهِ ... فَإِنَّ الْأَمَانَةَ فِي نَصِّهِ وَيَقُولُونَ: نَصَصَتْ الدَّابَّةُ فِي السَّيْرِ، إذَا بَالَغَتْ فِي إظْهَارِ مَا فِي وُسْعِهَا، وَطَاقَتِهَا مِنْ ذَلِكَ. وَ (مِنْهُ) الْمِنَصَّةُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْجَالِسَ عَلَيْهَا يَكُونُ ظَاهِرًا لِلْحَاضِرِينَ. فَإِذَا كَانَ النَّصُّ هُوَ الْإِظْهَارَ وَالْإِبَانَةَ، تَنَاقَضَ قَوْلُ الْقَائِلِ: نَصٌّ خَفِيٌّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: ظَاهِرٌ خَفِيٌّ. وَوَاضِحٌ غَامِضٌ. وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فَاسِدٌ. فَبَانَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: نَصٌّ خَفِيٌّ. ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا (لَهُ) اللَّفْظَ، لَمْ يَضُرَّنَا ذَلِكَ، فِيمَا أَرَدْنَا إثْبَاتَهُ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ النَّصُّ الْخَفِيُّ، طَرِيقَ إدْرَاكِهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ عَلَى مَا قُلْنَا، أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ يُفْضِي (بِالنَّظَرِ) إلَى الْعِلْمِ بِهِ. فَإِنْ كَانَ مُدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ الَّذِي قُلْنَا. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ يُفْضِي بِالنَّاظِرِ إلَى (الْعِلْمِ) بِهِ. فَأَيْنَ كَانَتْ الصَّحَابَةُ عَنْهُ حِينَ نَظَرُوا فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَاخْتَلَفُوا فَلَمْ يُعَنِّفْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِيهَا، وَلَمْ يَدْعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إلَى اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهَا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، بَلْ إنَّمَا فَزِعُوا إلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، عَلِمْنَا بِهِ بُطْلَانَ قَوْلِكَ. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى - وَلَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ - لَكَانَ سَبِيلُ الْمُخْطِئِ فِيهِ - عِنْدَ الصَّحَابَةِ - سَبِيلَ الْمُخْطِئِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي خَرَجُوا فِيهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْخَطَأِ إلَى اللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ، وَإِلَى التَّحَزُّبِ فِي الْقِتَالِ. فَلَمَّا لَمْ نَجِدْهُمْ فِيهَا كَذَلِكَ، ثَبَتَ بُطْلَانُ قَوْلِك: إنَّ النَّصَّ الْخَفِيَّ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ النَّصَّ الْخَفِيَّ، هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] عُقِلَ بِهِ النَّهْيُ عَمَّا فَوْقَهُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] عُلِمَ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَبِ، وَنَظَائِرَ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْمَعَانِي مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِيهِ (خِلَافٌ بَيِّنٌ، وَلَوْ كَانَ النَّصُّ الْخَفِيُّ الَّذِي ادَّعَيْته لِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، لَمَا وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ) بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِنَا إلَى الرُّجُوعِ إلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَصَارَ الْمُدَّعِي النَّصَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 الْخَفِيَّ إنَّمَا عَبَّرَ بِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ مَنْ ادَّعَى: أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ مُسْتَدْرَكَةٌ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: خَبِّرْنَا عَنْ اعْتِبَارِك هَذَا الدَّلِيلَ دُونَ غَيْرِهِ. أَقُلْته بِنَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ؟ فَإِنْ ادَّعَى فِيهِ نَصًّا، أَوْ إجْمَاعًا، طُولِبَ بِإِيجَادِهِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ. وَ (إنْ) قَالَ: قُلْته بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ. قِيلَ (لَهُ) : فَعَنْهُ سُئِلْتَ، فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَّهُ؟ وَعَلَى أَنَّهُ يُطَالَبُ بِإِظْهَارِهِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إثْبَاتِهِ، لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الصَّحَابَةُ. فَإِنْ قَالَ: قُلْتُهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ. قِيلَ (لَهُ) : فَخَبِّرْنَا عَمَّا لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، هَلْ يَجُوزُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمَعَانِي اللُّغَةِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَوْضُوعَ لُغَاتِهِمْ، وَلَا دَلَالَاتِهَا وَإِنْ قَالَ: لَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّمَا سَأَلْتُكُمْ عَمَّنْ عَرَفَ مَوْضُوعَ اللُّغَةِ وَدَلَالَاتِهَا، وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ. فَإِنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ بَيْنَ مَنْ ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. قِيلَ لَهُ: فَلِمَ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، مَعَ وُجُودِ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا؟ وَخَبِّرْنِي عَنْ النَّصِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، هَلْ يَجُوزُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِي مَعْنَاهُ، وَمُوجَبِ حُكْمِهِ، بَيْنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وَالْعَارِفِينَ بِمَعَانِيهِ، وَدَلَالَاتِ لَفْظِهِ؟ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلِمْنَا بِذَلِكَ بُطْلَانَ قَوْلِك. وَلَوْ كَانَ مَا قُلْت صَحِيحًا، لَكَانَتْ الصَّحَابَةُ أَوْلَى بِاعْتِبَارِهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ، وَلَوْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ لَنَبَّهَهُ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ، فَكَانَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي مَعْرِفَتِهِ وَاسْتِدْرَاكِ حُكْمِهِ، إذْ كَانَ لِذَلِكَ سَبَبًا مُسْتَدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَدَلَالَةِ الْخِطَابِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُرِيَنَا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْحَوَادِثِ. كَالْمُكَاتَبِ إذَا أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ، وَكَالْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِيَّةِ، وَغَيْرِهَا، مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، دَلِيلًا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ، إنَّمَا عَبَّرَ عَنْ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. فَأَخْطَأَ فِي تَسْمِيَتِهِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ تَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الْمُخْتَلِفَةَ، وَالْمَعَانِيَ الْمُتَغَايِرَةَ. قِيلَ لَهُ: فَقَدْ وَافَقْتنَا عَلَى إثْبَاتِ الِاجْتِهَادِ فِي إدْرَاكِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، لِأَنَّا كَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ. وَحَصَلَ خِلَافُك لَنَا فِي الْعِبَارَةِ. فَإِنْ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ: أَنْ يُتْرَكَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي الْعَقْلِ، قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ. فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْعَقْلِ أُقِرَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يُوجِبُ حَظْرَهُ أَوْ إيجَابَهُ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ، وَمَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» . قِيلَ لَهُ: فَاسِدٌ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ إلَى أُصُولِهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقَوْله تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وقَوْله تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ، وَاسْتِعْمَالِ السَّلَفِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي حُكْمِ الْحَوَادِثِ: مِنْ نَحْوِ الْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِيَّةِ، وَالْحَرَامِ، وَالْبَتَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: اُتْرُكُوهَا زَوْجَتَهُ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْظُرُوا فِي حُكْمِ اللَّفْظِ. ثُمَّ هَهُنَا مَسَائِلُ لَا بُدَّ فِيهَا (مِنْ) اجْتِهَادِ الرَّأْيِ: كَنَحْوِ تَحَرِّي الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ عَنْهَا، وَكَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى مَقَادِيرِهَا، وَقِيَمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ، وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ. وَعَلَى أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مُنَاقِضٌ فِي قَوْلِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ رَدَّ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ حُكْمٌ مِنْهُ فِي الْحَادِثَةِ بِغَيْرِ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ فِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ مِنْ سَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا اعْتِرَاضَاتِهِمْ، مِمَّنْ يَقُولُ مِنْهُمْ بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ، أَوْ بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. وَمَنْ يَقُولُ بِتَرْكِ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ، وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، فِي مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ، فَيُكَابِرُونَ وَيُسَمُّونَهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَصْدًا مِنْهُمْ إلَى الْخِلَافِ، وَلِيُذْكَرُوا فِي الْمُخْتَلِفِينَ، وَكَذَلِكَ لَا نَجِدُ أَحَدًا مِمَّنْ يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ إلَّا وَهُوَ يَسْتَعْمِلُهَا ضَرُورَةً، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا أَوْ يَعْلَمُهُ وَيُكَابِرُ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَنْفِي خَبَرَ الْوَاحِدِ فَإِنَّمَا يَنْفِيهِ بِالْقَوْلِ، فَإِذَا فَتَّشْتَ مَذَاهِبَهُ وَجَدْتَهُ يَسْتَعْمِلُ أَخْبَارَ الْآحَادِ وَيَقُولُ بِهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 [فَصْلٌ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مُبْطِلُو الْقِيَاسِ] فَصْلٌ. فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مُبْطِلُو الْقِيَاسِ مِنْ (جِهَةِ) ظَاهِرِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] فَزَعَمُوا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادَ الرَّأْيِ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] قَالُوا: مَنْ حَرَّمَ أَوْ حَلَّلَ بِغَيْرِ نَصٍّ فَقَدْ شَمِلَهُ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] . وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفْضِي بِقَائِسِهِ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، فَهَذَا بَاطِلٌ. الْجَوَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّ قَوْلَهُ {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ،؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَدْرَكٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: نَصٍّ، أَوْ دَلَالَةٍ، وَالْقَائِسُونَ إنَّمَا تَبِعُوا الدَّلَائِلَ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِنَصْبِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَحْكَامِهِ، فَلَيْسَ مُتَّبِعُ الدَّلِيلِ مُتَقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُقْلَبُ هَذَا عَلَيْهِمْ. فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْقِيَاسِ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنُصَّ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 وَكُلُّ قَوْلٍ رَجَعَ عَلَى قَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ يُرِيدُ بِهِ إلْزَامَ خَصْمِهِ فَهُوَ سَاقِطٌ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] فَإِنَّمَا خَطَرَ بِهِ الْقَوْلُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فِيمَا كَانَ قَائِلُهُ كَاذِبًا (بِهِ) ، وَلَيْسَ هَذِهِ صِفَةَ الْقَائِسِينَ؛ لِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ بِإِبَاحَةِ الْقِيَاسِ، وَمَا يُوجِبُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ. ثُمَّ يَصِيرُ الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ: فِي أَنَّ الْقِيَاسَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ صَادِقًا، أَوْ لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَيَكُونُ الْقَائِلُ بِإِبَاحَتِهِ كَاذِبًا، وَسَقَطَ اعْتِرَاضُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَجَعَ عَلَيْهِ حَسْبَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى،؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ نَصًّا فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْقِيَاسَ حَرَامٌ. فَهُوَ قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْكَذِبَ بِنَفْيِهِ الْقِيَاسَ عَلَى قَضِيَّتِهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] فَإِنَّ الْقَائِسِينَ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا يَقُولُ: إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا سَقَطَ عَنْهُ هَذَا السُّؤَالُ،؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا أَدَّى إلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَا أَدَّانِي إلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْعِلْمِ، مَعَ تَجْوِيزِي الْخَطَأَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَنَحْوِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَمْ يَنْفَكَّ الْقَائِسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِعِلْمٍ مِنْ حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. (وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا: إبْطَالُ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالشَّهَادَاتِ،؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ) . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا: إبْطَالُ الِاجْتِهَادِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ، وَفِي سَائِرِ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَوَكَلَهُ إلَى اجْتِهَادِنَا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ. وَنَقْلِبُ هَذَا عَلَيْهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ. فَيُقَالُ لَهُ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُبْطِلَةً لِقَوْلِك بِنَفْيِ الْقِيَاسِ،؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَك دَلِيلٌ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ عَلِمْت يَقِينًا بُطْلَانَ الْقِيَاسِ. قَالَ لَك الْقَائِسُونَ مِثْلُهُ فِي بُطْلَانِ قَوْلِك، فَيُسَاوُونَك فِي دَعْوَاك، وَيَصِيرُ سُؤَالُك سَاقِطًا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فَإِنَّ الْقِيَاسَ مِمَّا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ، وَهُوَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهُ،؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِخْبَارَ عَنْ حُكْمِ كُلِّ حَادِثَةٍ نَصًّا فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَصًّا وَدَلِيلًا. فَلَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ مُوجَبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا. وَيَنْقَلِبُ هَذَا أَيْضًا عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَهُمْ: خَبِّرُونَا عَنْ قَوْلِكُمْ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ، أَهُوَ فِي الْكِتَابِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ خَالَفْتُمْ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاتَّبَعْتُمْ غَيْرَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. فَإِنْ قَالَ: هُوَ فِي الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ قَامَتْ دَلَالَتُهُ فِيهِ. قِيلَ: مِثْلُهُ فِي (نَفْيِ) إثْبَاتِهِ. وَيَصِيرُ الْكَلَامُ بَيْنَنَا حِينَئِذٍ فِي اعْتِبَارِ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِهِ، أَوْ إثْبَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْآيَةِ حَظٌّ فِي الِاعْتِرَاضِ بِهَا عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وَاحْتَجَّ بَعْضُ مُبْطِلِي الْقِيَاسِ: بِأَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ، لَمْ تَثْبُتْ إلَّا مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ مِنْهَا شَيْءٌ، إلَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ. قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ الْعَقْلِيَّاتِ،؛ لِأَنَّ أُصُولَهَا ثَابِتَةٌ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ السَّمْعِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ،؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْمُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ دَلِيلُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ مَعْرِفَةُ الْبَارِي تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحْسُوسَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ تَعَالَى مَحْسُوسًا، فَانْتَقَضَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ. وَلَمَا جَازَ أَنْ تَثْبُتَ لَنَا مَعْرِفَةُ الْبَارِي تَعَالَى مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسَاتِ عِلْمَ اضْطِرَارٍ، وَالْعِلْمُ بِالْبَارِي تَعَالَى عِلْمَ اكْتِسَابٍ، جَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ أُصُولُ الشَّرْعِ مَأْخُوذَةً مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ، وَيَكُونَ فُرُوعُهَا مَعْلُومَةً مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالسَّمْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ مُنَاقِضٌ فِي احْتِجَاجِهِ بِهَذَا فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ،؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ الْقِيَاسَ حُكْمٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ السَّمْعِ، فَمِنْ حَيْثُ رَامَ بِمَا ذَكَرَ نَفْيَ الْقِيَاسِ فَقَدْ أَثْبَتَهُ، وَنَاقَضَ (فِي) احْتِجَاجِهِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا احْتَجَجْت فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بِقِيَاسٍ عَقْلِيٍّ، وَلَسْت آبِي الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ. قِيلَ: وَكَذَلِكَ إثْبَاتُنَا لِلْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ، لِمَا فِي الْأُصُولِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَلُزُومِ الْقَوْلِ بِهِ. وَاحْتَجَّ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى مَقَادِيرِ الْعُقُولِ،؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ فِي أَشْيَاءَ مُشْتَبِهَةٍ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَفِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِأَحْكَامٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 مُشْتَبِهَةٍ. (وَكَذَلِكَ حَكَمَ فِي أَشْيَاءَ مُشْتَبِهَةٍ بِأَحْكَامٍ مُشْتَبِهَةٍ، وَفِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ) مِنْهَا: إبَاحَةُ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ عَدَدٍ. وَحَصْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ، وَحَرَّمَ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ الْحُرَّةِ الشَّوْهَاءِ، وَأَبَاحَهُ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ الْحَسْنَاءِ. وَأَوْجَبَ الصَّدَقَةَ فِي السَّوَائِمِ، وَأَسْقَطَهَا عَنْ الْعَوَامِلِ، وَحَرَّمَ التَّفَاضُلَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ، وَأَبَاحَهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَسَوَّى بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي إيجَابِهِ رُبُعَ الْعُشْرِ فِيهِمَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ صَدَقَةِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا. قَالَ: فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي أَشْيَاءَ مُشْتَبِهَةٍ، وَبِأَحْكَامٍ مُشْتَبِهَةٍ فِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِأَحْكَامٍ مُشْتَبِهَةٍ (فِي أَشْيَاءَ مُشْتَبِهَةٍ) ، وَبِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، لَمْ يَكُنْ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى أَصْلٍ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِبَاهُ وَالتَّسْوِيَةُ، بِأَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى أَصْلٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ الِاخْتِلَافُ. فَيُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا.؛ إذْ لَيْسَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحُكْمِ بِالْمِثْلِ وَالنَّظِيرِ. وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَثَ التَّنَازُعُ فِي مَسْأَلَةِ فَرْعٍ، حَمَلْنَاهَا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَبْلَ التَّنَازُعِ، وَبَقَّيْنَاهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَهُ، وَلَمْ نَنْقُلْهَا عَنْ ذَلِكَ (الْحُكْمِ) بِاخْتِلَافٍ. الْجَوَابُ: إنَّ مَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: اسْتِعْمَالُ قِيَاسٍ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ، وَقَائِلُهُ مُنَاقِضٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَعَا إلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ وُقُوعَ التَّنَازُعِ فِيمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ، يُوجِبُ رَدَّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ (حَالُهُ) قَبْلَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ، وَقَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، حَتَّى يَقُومَ دَلَالَةُ الْحَظْرِ، وَلَزِمَ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا يَحْظُرَ الْقِيَاسُ عَنْهُ وُقُوعَ التَّنَازُعِ، وَأَنْ يُبِيحَهُ حَتَّى يَقُومَ دَلَالَةُ الْحَظْرِ فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا اعْتَبَرْت فِي هَذِهِ الْأُصُولِ قِيَاسًا عَقْلِيًّا، لِأَنِّي حِينَ تَأَمَّلْتُ مَوْضُوعَهَا، فَوَجَدْتهَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت، عَلِمْت أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْهَا. قِيلَ لَهُ: فَاقْبَلْ مِنَّا (مِثْلَهُ) إذَا قُلْنَا لَك: إنَّ قِيَاسَنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قِيَاسٌ عَقْلِيٌّ، لِوُجُودِ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَوَاضِعِهِ. وَأَمَّا ذِكْرُهُ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ الْمُشْتَبِهَةِ، وَ (اتِّفَاقِ) أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَلَا مَعْنَى لَهُ،؛ لِأَنَّا لَمْ نَقْبَلْ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَتْ الْمَسَائِلُ فِي صُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا وَأَسْمَائِهَا، وَلَا أَوْجَبْنَا الْمُخَالَفَةَ بَيْنَهَا، مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَتْ فِي: الصُّوَرِ، وَالْأَعْيَانِ، وَالْأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِيَاسُ بِالْمَعَانِي الَّتِي جُعِلَتْ أَمَارَاتٍ لِلْحُكْمِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، فَنَعْتَبِرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا. ثُمَّ لَا نُبَالِي بِاخْتِلَافِهَا، وَلَا اتِّفَاقِهَا مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ غَيْرِهَا. نَظِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ التَّفَاضُلَ فِي: الْبُرِّ بِالْبُرِّ، مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ، وَفِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، مِنْ جِهَةِ الْوَزْنِ، اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَحْظُورَةَ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ مَعَ الْجِنْسِ، فَحَيْثُ وُجِدَا أَوْجَبَا تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَبِيعَانِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ كَالْجِصِّ - وَهُوَ مَكِيلٌ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبُرِّ، مِنْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 حَيْثُ شَارَكَهُ فِي كَوْنِهِ مَكِيلًا، وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَكَالرَّصَاصِ - هُوَ مَوْزُونٌ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الذَّهَبِ، فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي أَوْصَافٍ أُخَرَ، فَمَتَى عُقِلَ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ، وَجُعِلَ عَلَامَةً لَهُ، وَجَبَ اعْتِبَارُهُ حَيْثُ وُجِدَ. أَلَا تَرَى: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَجَمَ مَاعِزًا حِينَ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَكَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْفِعْلِ، إذَا كَانَ الْفَاعِلُ عَلَى وَصْفٍ، كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ جَارِيًا فِي الْفَاعِلِينَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، إذَا كَانُوا مُحْصَنِينَ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ، وَفَرَّقَ (فِيهِ) بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ. عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ التَّنَجُّسِ مُجَاوَرَتُهُ لِلنَّجَاسَةِ، أُجْرِيَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الزَّيْتِ، وَالشَّيْرَجِ، وَسَائِرِ مَا تُجَاوِرُهُ النَّجَاسَاتُ. كَذَلِكَ تُرَدُّ الْفُرُوعُ إلَى الْأُصُولِ، بِالْمَعَانِي الَّتِي بِهَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ، فَيَكُونُ تَابِعًا لِلْمَعْنَى حَيْثُ وُجِدَ، إلَّا أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ، مِنْهَا مَا يَكُونُ جَلِيًّا ظَاهِرًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ خَفِيًّا غَامِضًا، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ لَوْ جَازَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ: مِنْ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، دُونَ الْآخَرِ، لَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْفِقْهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ، أَوْ يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الصَّوْمِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى إذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ، كَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا لِلْحُكْمِ، لَزِمَ اعْتِبَارُهُ فِي جَمِيعِ مَا وُجِدَ فِيهِ، وَسَقَطَ بِهَذَا سُؤَالُ السَّائِلِ فِي الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ،؛ إذْ لَمْ يُجْعَلْ الْخِلَافُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْحُكْمِ، وَلَا الْوِفَاقُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّفَاقِ فِي الْحُكْمِ. وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالسَّبَبِ الَّذِي قَدْ جُعِلَ أَمَارَةً لِلْحُكْمِ، وَعَلَمًا لَهُ، وَذَلِكَ يُعْلَمُ بِاسْتِبَارِ أَمْرِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 فَالْمُعْتَرِضُ بِمَا وَصَفْنَا جَاهِلٌ بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ (الشَّرْعِ) ، وَهَذِهِ الَّتِي نَسَبَهَا عِلَّةُ الْحُكْمِ جَارِيَةٌ عِنْدَنَا مَجْرَى الِاسْمِ إذَا عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ، فَيَجْرِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ حَيْثُ وُجِدَ. وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَا تَحْتَ الِاسْمِ مُخْتَلِفًا، وَاخْتِلَافُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ فِيمَا شَمِلَهُ الِاسْمُ، نَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، وَمَا سَقَتْ السَّمَاءُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَاخْتِلَافُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ فِيمَا شَمِلَهُ الِاسْمُ، نَحْوُ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ، لِشُمُولِهِ جَمِيعَهَا فِي كَوْنِهِ عَلَامَةَ الْحُكْمِ. كَذَلِكَ الْعِلَّةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْقِيَاسُ، جُعِلَتْ عَلَامَةً لِلْحُكْمِ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي سَائِرِ مَا وُجِدَتْ فِيهِ، مِنْ مُخْتَلِفٍ وَمُتَّفِقٍ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا (فِي) الِاسْمِ، وَسَنَذْكُرُ إنْ - شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - (فِيمَا بَعْدُ) كَيْفِيَّةَ وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لِلْأَحْكَامِ وَأَمَارَاتٌ لَهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا مِثَالًا لِنُبَيِّنَ بِهِ إغْفَالَ الْمُعْتَرِضِ بِمَا ذَكَرْنَا حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِسِينَ، وَجَهْلَهُ بِمَذَاهِبِهِمْ. وَهَذِهِ الْأَسْئِلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، إنَّمَا هِيَ لِقَوْمٍ مُتَكَلِّمِينَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ سَرَقَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْحَشْوِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا بِمَا لَا أَحْسِبُهُ عَرَفَ مَعْنَاهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ، فَنَاقَضَ فِي اسْتِعْمَالِهِ لَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. إلَّا أَنْ يَقُولَ: إنِّي إنَّمَا قَلَّدْت فِي هَذَا الْحِجَاجِ مَنْ تَقَدَّمَنِي مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَنَقُولُ لَهُ: فَهَلَّا قَلَّدْتنَا فِي جَوَازِهِ دُونَ مَنْ اخْتَرْت تَقْلِيدَهُ فِي نَفْيِهِ؟ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ بِتَقْلِيدِهِمْ،؛ لِأَنَّهُ مَعَهُمْ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي اعْتِقَادِ أُصُولِ الدِّينِ؛ إذْ كَانَ لَوْ قَصَدَ قَاصِدٌ إلَى أَنْ لَا يَعْتَقِدَ إلَّا شَرَّ الْمَذَاهِبِ وَأَقْبَحَهَا وَأَشْنَعَهَا، ثُمَّ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِيهِ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَهُ فِي سُوءِ الِاخْتِيَارِ، وَقُبْحِ الِاعْتِقَادِ (إلَّا بِخِذْلَانِ اللَّهِ إيَّاهُ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْحُكْمِ هِيَ الْعَلَامَةَ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ، فَكَيْفَ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ؟ ، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ طَرِيقُ اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الِاجْتِهَادَ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ: الْكَيْلُ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْأَكْلُ، وَعِنْدَ آخَرِينَ الْقُوتُ وَالِادِّخَارُ، عَلَى حَسَبِ رُجْحَانِ أَحَدِ (هَذِهِ) الْمَعَانِي فِي نَفْسِهِ، كَمَا يَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُونَ (فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، فَيُؤَدِّي بَعْضَهُمْ اجْتِهَادُهُ إلَى نَاحِيَةِ الشَّرْقِ، وَبَعْضَهُمْ إلَى نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبْ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا بُطْلَانَ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا، كَذَلِكَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ) فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ عِلْمُ الْحُكْمِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ. وَعَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الْعَقْلِيَّةَ عِلَلُهَا مُوجِبَةٌ لِأَحْكَامِهَا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُسْتَدِلِّينَ، عَلَيْهَا، وَلَمْ يَدُلَّ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا عَلَى بُطْلَانِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُك: إنَّ هُنَاكَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لِلْحُكْمِ، وَإِنَّ هَذَا كَلَامٌ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، فَلَا يُجْعَلُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ هُنَاكَ عِلَّةً لِحُكْمٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ جَعَلَ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ قَالَ: إنَّ هُنَاكَ عِلَلًا لِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَسَنُبَيِّنُهُ إذَا انْتَهَيْنَا إلَى الْقَوْلِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ: بِأَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْقَائِسِينَ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ إلَّا بَعْدَ إحَاطَةِ عِلْمِهِ بِسَائِرِ الْأُصُولِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يَصِحُّ لَهُ دَعْوَى إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِسَائِرِ الْأُصُولِ، حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْقَائِلِينَ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمُوجِبِي الْعَمَلِ بِهَا، وَإِذَا لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 يُحِطْ عِلْمًا بِالْأُصُولِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَشْبَهِ.؛ إذْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ هُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَطَلَ الْقِيَاسُ عَلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ، لِتَعَذُّرِ وُجُودِ عِلْمِ الْأُصُولِ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْ الْقَائِسِينَ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مَوْجُودًا غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ. الْجَوَابُ: إنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ، أَوْ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، (أَوْ بِوُجُوبِ) رَدِّ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَى أَصْلِ (مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَا) ، قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرِ؛ إذْ كَانَ مُبْطِلُو الْقِيَاسِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِي الْعِبَارَةِ عَنْهَا، وَإِنْ آلَ قَوْلُهُمْ عِنْدَ التَّحْصِيلِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَنَقُولُ: إنَّ هَذَا الْحِجَاجَ - إنْ صَحَّ - أَبْطَلَ مَذْهَبَ كُلِّ قَائِلٍ فِي الْحَوَادِثِ بِشَيْءٍ، كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ دَعْوَى الْإِحَاطَةِ لِجَمِيعِ الْأُصُولِ حَسْبَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى مُثْبِتِي الْقِيَاسِ، فَلَا يَأْمَنُ - إذَا كَانَ ذَلِكَ - أَنْ يَسْتَعْمِلَ النَّصَّ الْخَفِيَّ، وَهُنَاكَ نَصٌّ جَلِيٌّ. وَقَدْ غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ، أَوْ يَسْتَعْمِلَ حُكْمَ الدَّلِيلِ مَعَ النَّصِّ الَّذِي قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ، أَوْ يَرُدَّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهَا قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرِ، وَهُنَاكَ نَصٌّ قَدْ نَقَلَ حُكْمَهَا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْقَوْلُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ عَلَى حَسَبِ مَا رَامَ بِهِ إبْطَالَ الْقِيَاسِ، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ اعْتَرَضَ بِمَا ذُكِرَ عَلَى الْقِيَاسِ، مُفْسِدٌ لِأَصْلِهِ، هَادِمٌ لِمَقَالَتِهِ، وَكُلُّ سُؤَالٍ رَجَعَ إلَى سَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ رَامَ بِهِ إلْزَامَ خَصْمِهِ، فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ أَصْلِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 وَمَعَ هَذَا فَإِنَّا نُجِيبُهُ - وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ (لَهُ) - لِحَقِّ النَّظَرِ. فَنَقُولُ: إنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْقِيَاسُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، مَنْ قَدْ حَفِظَ أَكْثَرَ الْأُصُولِ وَعَرَفَهَا، وَعَرَفَ طُرُقَ الْمَقَايِيسِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ إلَى الْأُصُولِ، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ جَازَ، لَهُ الْقِيَاسُ - وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُصُولِ - وَلَمْ يُكَلَّفْ حِينَئِذٍ حُكْمَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْحَادِثَةَ إلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ الَّتِي تَحْضُرُهُ وَتَخْطِرُ بِبَالِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ رَأْيِهِ، وَحُضُورِ ذِهْنِهِ، كَمَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي تَحَرِّي الْقِبْلَةِ لِمَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ حَالَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ مُتَفَاوِتٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْأَعْمَى مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَهُوَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعَلَامَاتِ، الَّتِي يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الِاجْتِهَادُ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ، عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ، قَدْ يَجُوزُ لِمَنْ عَرَفَ أَكْثَرَ الْأُصُولِ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، فَيَقِيسُ حِينَئِذٍ عَلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ فِي عِلْمِهِ وَمَا يَحْضُرُهُ. وَإِنْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ، بِأَنَّ الْقَائِسِينَ فَرِيقَانِ: مَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، وَمَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَعَظُمَ مَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ؛ يَعْذُرُ الْمُخْطِئَ لِلْحُكْمِ، وَيُوجِبُ لَهُ الْأَجْرَ، فَضْلًا (عَنْ) أَنْ يَجْعَلَ فِعْلَهُ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، الْمُبَاحَةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْأَجْرَ. فَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَعَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَأَوْجَبَ تَنَافِيَ أَحْكَامِهِ وَتَضَادَّهَا، لِتَحْرِيمِ بَعْضِهِمْ مَا يُحِلُّهُ الْآخَرُ، وَتَحْلِيلِ بَعْضِهِمْ مَا يُحَرِّمُهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا سَأَلَ هَذَا قَالَ: إنِّي قُلْتُ لِامْرَأَتِي: أَنْتِ عَلَيَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 حَرَامٌ، فَقَالَ لَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْك، فَإِذَا سَأَلَ الْآخَرَ (قَالَ) : هِيَ مُبَاحَةٌ لَك، عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُبِيحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يُوجِبُ تَضَادَّ أَحْكَامِهِ وَتَنَافِيهَا. فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ أَصْلَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ يَنْبَغِي أَنْ نَضْبِطَهُ، حَتَّى تَزُولَ عَنْك فِيهِ الشُّبْهَةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَتَكْفِينَا وَنَفْسَك فِيهِ الْمُؤْنَةُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَائِسِينَ إنَّمَا يُجِيزُونَ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت، فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ، وَفِيمَا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ فِيهِ بِالْحَظْرِ تَارَةً، وَبِالْإِبَاحَةِ أُخْرَى، وَيَجُوزُ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمُتَعَبِّدِينَ، كَمَا حَظَرَ عَلَى الْحَائِضِ الصَّلَاةَ، وَالصَّوْمَ، وَأَوْجَبَهُمَا عَلَى الطَّاهِرِ، وَجَعَلَ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفَرْضَ الْمُقِيمِ أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ مَا يَجُوزُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْمَسَائِلِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لَمْ يَقَعْ فِي آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ تَضَادٌّ وَلَا تَنَافٍ،؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فَإِنَّمَا تَعَبَّدَ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَتَعَبَّدَ هَذَا بِالْحَظْرِ، وَهَذَا بِالْإِبَاحَةِ، عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ اسْتَوَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ جِهَةُ الْحَظْرِ، وَجِهَةُ الْإِبَاحَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ تُسَاوِي الْجِهَتَيْنِ فِيهِمَا كَانَ مُخْبِرًا، فِي أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ أَيَّهُمَا، فَيُنْفِذَهُ، وَيَمْضِيَ عَلَيْهِ، وَسَنُوَضِّحُ الْقَوْلَ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا انْتَهَيْنَا إلَى الْكَلَامِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا الْمُسْتَفْتِي: فَإِنَّهُ إذَا أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِالْحَظْرِ، وَآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ الْمُفْتِيَ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَذْهَبِهِ عَلَى جِهَةِ إطْلَاقِ الْقَوْلِ فِيهِ، غَيْرَ مُضَمَّنٍ بِشَرِيطَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إنْ اخْتَرْت فُتْيَايَ وَأَلْزَمْتَهَا نَفْسَك فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ حَرَامٌ عَلَيْك. وَإِنْ اخْتَرْت فُتْيَا مَنْ يُفْتِيكَ بِالْإِبَاحَةِ، فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَك، فَيَكُونُ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ، أَحَدُ شَيْئَيْنِ: مِنْ حَظْرٍ، أَوْ إبَاحَةٍ، وَهُوَ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ قَوْلِ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ (مُعْتَبَرًا فِي حَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ) فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلَانِ فِعْلَ الْمُبَاحِ لَهُ ذَلِكَ: مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالنَّظَرِ، وَالْوَطْءِ، وَنَحْوِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وَالْوَطْءُ الَّذِي (أُبِيحَ) لَهُ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ (لِفُتْيَا هَذَا غَيْرُ الْوَطْءِ الَّذِي حُظِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ) لِفُتْيَا الْآخَرِ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَطْءَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، عِنْدَ قَبُولِهِ فُتْيَا هَذَا، هُوَ الْوَطْءُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْلِيلُ عِنْدَ قَبُولِهِ فُتْيَا الْآخَرِ، وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ إجَازَةِ تَعَلُّقِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَنَظِيرُهُ: أَنَّ سُجُودًا وَاحِدًا يَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى، إذَا أُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَمَعْصِيَةً إنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ السُّجُودَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ غَيْرُ السُّجُودِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِبَاحَةُ. (وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا، وَكَانَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ، أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ، غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِبَاحَةُ) ، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيمَا ذَكَرْنَا، مِنْ تَعَلُّقِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِفِعْلَيْنِ، أَوْ تَعَلُّقِهِمَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَلَيْسَ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُسْتَفْتِي: هَذِهِ الْمَرْأَةُ حَرَامٌ عَلَيْك، فَيُطْلِقَ لَهُ الْقَوْلَ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا قَدْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِمْ: أَنَّ مُخَالِفِيهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مُقِيمُونَ عَلَى فُرُوجٍ مَحْظُورَةٍ، وَغَاصِبُونَ لِأَمْوَالٍ مُحَرَّمَةٍ فِيمَا أَفْتَوْا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا،؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ، لَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَخَرَجُوا فِيهِ إلَى اللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ، كَمَا خَرَجُوا إلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَسُغْ الِاجْتِهَادُ فِيهِ. فَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْخِلَافَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا، حَسْبَ إنْكَارِهِمْ فِي غَيْرِهَا، عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ ذَهَبَ إلَيْهِ قَائِلٌ مِنْهُمْ، فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَقَدْ سَوَّغَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ الْخِلَافَ، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ (أَنَّهُ) غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ فُتْيَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي وَصَفْنَا، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّضَادِّ وَالتَّنَافِي، إذَا كَانَ جَائِزًا وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: إنْ اخْتَرْت قَوْلَ فُلَانٍ فَهَذَا مَحْظُورٌ عَلَيْك، وَإِنْ اخْتَرْت قَوْلَ فُلَانٍ فَهُوَ مُبَاحٌ لَك، كَمَا قَالَ: إنْ سَافَرْت فَفَرْضُك رَكْعَتَانِ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ لَك فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ أَقَمْت فَفَرْضُك أَرْبَعٌ، وَمَحْظُورٌ عَلَيْك الْإِفْطَارُ، وَكَمَا يَقُولُ لِلْمُكَفِّرِ عَنْ يَمِينِهِ: إنْ كَفَّرْت بِالطَّعَامِ فَهُوَ فَرْضُك دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَفَّرْت بِالْعِتْقِ فَهُوَ فَرْضُك دُونَ غَيْرِهِ، وَالْكِسْوَةِ. فَإِنْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِيمَا بَيَّنَّا: أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَعْتِقْ عَبْدِي فُلَانًا؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِلْمَأْمُورِ عِتْقُ سَائِرِ عَبِيدِهِ السُّودِ، لِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِلَالِ، وَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْقُولِ مِنْ خِطَابِنَا فِي تَعَارُفِنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى، لَوْ نَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ، بِأَنْ يَقُولَ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ التَّفَاضُلَ فِي الْبُرِّ،؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ، أَنْ لَا يَجُوزَ لَنَا تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْأَرُزِّ، لِأَجْلِ وُجُودِ الْكَيْلِ فِيهِ. الْجَوَابُ: إنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَائِلَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِاعْتِبَارِ أَوَامِرِهِ وَرَدِّ مَا لَمْ يَنُصَّ (لَنَا) عَلَيْهِ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى فِي أَمْرِهِ مَوْضِعَ النَّصِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَائِلَ مِنَّا ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَبَثُ، وَوَضْعُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَإِذَا قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدِي (فُلَانًا) ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ، لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا صِحَّةُ اعْتِلَالِهِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِعِتْقِهِ. فَلَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُهُ،؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي يُقَاسَ بِهَا سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةً صَحِيحَةً، تَكُونُ عَلَمًا لِلْحُكْمِ، وَأَمَّا مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْعِلَلِ، أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ، فَإِنَّهَا عِلَلٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ أَمَرَنَا مَعَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِهَا، وَرَدِّ النَّظَائِرِ إلَيْهَا، بِمَا أَقَمْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، فَلَزِمَ إجْرَاءُ اعْتِلَالِهِ فِي مَعْلُولَاتِهِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْعَبَثِ، وَلَا وَضْعُ الْكَلَامِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ تَجْرِي إلَى غَرَضٍ مَحْمُودٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلُهُ لِلنَّصِّ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي نَظَائِرِهِ، مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّعْلِيلِ، وَصَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. . وَسَأَلَ دَاوُد الْقَائِسِينَ سُؤَالًا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ، فَقَالَ: خَبِّرُونِي (عَنْ الْقِيَاسِ) ، أَصْلٌ أَمْ فَرْعٌ؟ فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنْ كَانَ فَرْعًا فَفَرْعٌ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْقِيَاسُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْقَائِسِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِفِعْلِ الْقَائِسِ: إنَّهُ أَصْلٌ، أَوْ فَرْعٌ، كَمَا لَا يُقَالُ لِقِيَامِهِ، وَقُعُودِهِ، وَسُكُوتِهِ، وَحَرَكَتِهِ: إنَّهُ أَصْلٌ، أَوْ فَرْعٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِعْلُ الْقَائِسِ: أَنَّك تَقُولُ: قَاسَ فُلَانٌ قِيَاسًا، فَتَجْعَلُهُ فِعْلًا لَهُ. كَمَا تَقُولُ: قَعَدَ قُعُودًا، وَقَامَ قِيَامًا. وَإِنَّمَا وَجْهُ تَصْحِيحِ السُّؤَالِ، أَنْ يَقُولَ: خَبِّرْنِي عَنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، أَوْ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ، هَلْ هُوَ أَصْلٌ أَمْ فَرْعٌ؟ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ: إنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ لِمَا بُنِيَ عَلَيْهِ، وَفَرْعٌ عَلَى مَا بُنِيَ عَلَيْهِ، فَأَصْلُهُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ، وَفَرْعُهُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ سَائِرُ مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ الْقِيَاسِيَّةِ، الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ. وَيُقَالُ لَهُ: خَبِّرْنَا عَنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي زَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، أَصْلٌ هُوَ أَمْ فَرْعٌ؟ وَيُسْحَبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ. الَّذِي سَأَلَ فِي الْقِيَاسِ. فِيمَا أَجَابَ بِهِ فَهُوَ جَوَابُ الْقَائِسِينَ فِي الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 [بَابٌ فِي ذِكْرِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ إلَّا بِرَدِّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ، بِمَعْنًى يَجْمَعُهُمَا، وَيُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ حُكْمِهِمَا وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ عَلَى عِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] ، وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ» وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْآخَرُ: الْقِيَاسُ بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ، مَدْلُولٍ عَلَيْهَا، كَعِلَّةِ الرِّبَا، وَنَحْوِهَا، وَسَنُبَيِّنُ فِيمَا بَعْدُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَعْنًى - جَمَعَ حُكْمَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَغَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ - قِيَاسًا، سَوَاءٌ كَانَ الْجَمِيعُ بِنَظَرٍ، أَوْ اسْتِدْلَالٍ، أَوْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ فَحْوَى النَّصِّ. فَيَجْعَلُ مَنْعَ ضَرْبِ الْأَبَوَيْنِ وَشَتْمِهِمَا قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَيَجْعَلُ مَنْعَ جَوَازِ الْعَمْيَاءِ فِي الْأُضْحِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. وَيَجْعَلُ حُكْمَ الزَّيْتِ حُكْمَ السَّمْنِ فِي مَوْتِ الْفَأْرَةِ فِيهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ الْأَثَرِ فِي السَّمْنِ. وَيَجْعَلُ رَجْمَ غَيْرِ مَاعِزٍ قِيَاسًا عَلَى مَاعِزٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا عُقِلَ بِوُرُودِ اللَّفْظِ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي النَّصِّ بِعَيْنِهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ وَجَبَ فِيهِ لِلْمَعْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 الْمَوْجُودِ فِي النَّصِّ (الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ) فِيهِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْقِيَاسُ الْجَلِيَّ، وَيُسَمَّى مَا يُوصَلُ (فِيهِ) إلَى الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، الْقِيَاسُ الْخَفِيَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ عِنْدَنَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَفْتَقِرُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ النَّظَرِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَالتَّأَمُّلِ بِحَالِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا، بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْجَمْعِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مَوْجُودَةً فِيمَا سَمَّوْهُ قِيَاسًا جَلِيًّا،؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَعْقُولٌ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ فِي أَغْيَارِهِ، مِمَّا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ قَبْلَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ يَعْقِلُ ذَلِكَ الْعَامِّيُّ الْغُفْلُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا الْقِيَاسُ، وَعَسَى لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ. وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ الْقِيَاسِ، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا كَانَ مَعْقُولًا مِنْ فَحْوَى النَّصِّ، فَلَيْسَ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ. وَيَصِحُّ عِنْدَنَا الِاسْتِدْلَال بِمَا ذَكَرْت عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قِيَاسًا، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ: مِمَّا لَيْسَ بِقِيَاسٍ عِنْدَنَا، وَكَثِيرٌ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ يَقُولُونَ بِهِ مَعَ نَفْيِهِمْ الْقِيَاسَ، أَنْ يَتَسَاوَى حُكْمُ الشَّيْئَيْنِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يَرِدَ أَثَرٌ بِحُكْمٍ فِي بَعْضِ مَا ثَبَتَ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَيُفِيدَنَا مَا (قَدْ) عَقَلْنَا مِنْ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا بَدْءًا، أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ الْأَثَرُ مُسَاوٍ لِمَا وَرَدَ فِيهِ، فِيمَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُمَا مِنْ وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ حُكْمِهِمَا. وَذَلِكَ نَحْوُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ نَاسِيًا فِي عَدَمِ وُقُوعِ الْإِفْطَارِ بِهِمَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ: أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، فَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ فِي أَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، فَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْجِمَاعَ نَاسِيًا لَا يُفْسِدُهُ، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْأَصْلِ، فِي كَوْنِهِمَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، فَمِنْ حَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ فِي حَالِ النِّسْيَانِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، أَفَادَ فِي الْجِمَاعِ مِثْلَهُ، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا: فِي أَنَّ الزَّيْتَ، وَالسَّمْنَ، وَالشَّيْرَجَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْأَصْلِ، فِي بَابِ جَوَازِ أَكْلِهَا إذَا كَانَتْ طَاهِرَةً، وَمُتَسَاوِيَةً فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ أَكْلِهَا فِي حَالِ النَّجَاسَةِ، فَكَانَ الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي مَوْتِ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ، قَدْ أَفَادَ فِي الزَّيْتِ مِثْلَهُ، وَكَذَلِكَ الْفَأْرَةُ الْمَيِّتَةُ، وَالْعُصْفُورُ الْمَيِّتُ، لَمَّا تَسَاوَيَا فِي الْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ النَّجَاسَةِ، ثُمَّ وَرَدَ الْأَثَرُ فِي الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ فِي السَّمْنِ، أَفَادَ الْعُصْفُورُ الْمَيِّتُ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» قَدْ أَفَادَ النَّهْيَ عَنْ التَّغَوُّطِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ. وَأَفَادَ نَهْيَ غَيْرِ الْبَائِلِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ، مِنْ طَرِيقِ عِلْمِنَا تُسَاوِي أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ عِنْدَ حُصُولِهَا فِي الْمَاءِ، لِتَسَاوِي أَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ فِي لُزُومِ اجْتِنَابِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِقِيَاسٍ. لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَسَاوِيهِمَا مِنْ جِهَةِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، قَبْلَ وُرُودِ هَذَا الْخَبَرِ، فَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ لَمْ تَنْزِلْ الْمُسَاوَاةُ الْقَائِمَةُ فِي عُقُولِنَا قَبْلَ وُرُودِهِ، وَعَلَى هَذَا وُجُوبُ كَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ،؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ وُجُوبُ مُسَاوَاةِ جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ. فَلَمَّا وَرَدَ النَّصُّ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ، أَفَادَ عِلْمَنَا قَبْلَ ذَلِكَ بِمُسَاوَاةِ الْمُخْطِئِ لَهُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وَكَذَلِكَ الْقَيْءُ وَالرُّعَافُ وَسَائِرُ الْأَحْدَاثِ لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ وَرَدَ الْأَثَرُ فِي جَوَازِ الطَّهَارَةِ وَالْبِنَاءِ مَعَهُمَا عَلَى الصَّلَاةِ، إذَا وَقَعَا فِيهَا، عَقَلْنَا بِذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَسْبِقُ الْمُصَلِّيَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَانْفَصَلَ حُكْمُ مَا يَقَعُ مِنْ الْآدَمِيِّ مِنْ الشَّجَّةِ وَنَحْوِهَا عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ فِعْلِ الْآدَمِيِّ، وَفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا بَابٌ لَطِيفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَا، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ بِطَرِيقَتِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَحْكُومِ فِيهَا، وَمُسَاوَاةِ أَغْيَارِهَا لَهَا،، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا، مِمَّا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ قِيَاسًا عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ آنِفًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 [بَابُ ذِكْرِ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ (الْقِيَاسِ) فِي دَفْعِ النَّصِّ سَوَاءٌ كَانَ النَّصُّ (ثَابِتًا) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، أَوْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي دَفْعِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ، الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَمُدَّةِ النِّفَاسِ، (وَمُدَّةِ السَّفَرِ) ، وَالْإِقَامَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ. وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ عَلَى جِهَةِ رَدِّ (الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ) نَحْوُ تَقْدِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ، وَمِقْدَارِ الْمُتْعَةِ، وَتَحَرِّي الْكَعْبَةِ، وَنَحْوِهَا. وَلَا يَسُوغُ الْقِيَاسُ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ، وَلَا الْكَفَّارَاتِ، وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْقِيَاسِ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَثَرِ الْمَخْصُوصِ مِنْ جُمْلَةِ مُوجَبِ الْقِيَاسِ، إلَّا عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَمَّا امْتِنَاعُ جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي دَفْعِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ: فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلِأَنَّ النَّصَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وَالْإِجْمَاعَ يُوقِعَانِ الْعِلْمَ بِمُوجَبِهِمَا، وَالْقِيَاسَ لَا يُوقِعُ الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ، فَلَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْمَقَادِيرُ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى (فَقَدْ) قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِيمَا سَلَفَ. وَأَمَّا الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ: فَإِنَّ مِنْ الْكَفَّارَاتِ مَا هِيَ عُقُوبَةٌ، نَحْوُ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ أَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا مَعَ الْمَأْثَمِ، وَتُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ، فَكَانَتْ كَالْحُدُودِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَنَحْوِهَا، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ (فِي شَيْءٍ) مِنْهَا. أَمَّا مَا كَانَ عُقُوبَةً، فَلِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُدُودِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ قِيَاسًا، لِمَا نُبَيِّنُهُ. وَأَمَّا مَا لَيْسَتْ بِعُقُوبَةٍ: فَلِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَادِيرِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا. وَأَمَّا مَا كَانَ عُقُوبَةً مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ إثْبَاتُهَا قِيَاسًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ هَذَا بِضَرْبٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ مَقَادِيرَ عِقَابِ الْإِجْرَامِ، لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ عَلَى الْإِجْرَامِ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَقَادِيرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ لَا يُحْصِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَلَا سَبِيلَ إذَنْ إلَى عِلْمِ مِقْدَارِ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْعِقَابِ بِالْإِجْرَامِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهَا قِيَاسًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَثْبَتُّمْ الْحُدُودَ بِالِاسْتِحْسَانِ فَضْلًا عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا (فِي بَيْتٍ، فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ مِنْهُ، وَشَهِدَ آخَرَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ مِنْهُ) أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُحَدَّ، وَيُحَدُّ اسْتِحْسَانًا، وَكُتُبُكُمْ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا أَصَّلْت مِنْ نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُك: إنَّا أَثْبَتْنَا الْحُدُودَ بِالِاسْتِحْسَانِ، فَلَيْسَ كَمَا ظَنَنْت، وَالْأَصْلُ الَّذِي عَقَدْنَاهُ فِي نَفْيِ إثْبَاتِ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ صَحِيحٌ، لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْتَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّا إنَّمَا أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا: لَا تَثْبُتُ الْحُدُودُ قِيَاسًا (أَنَّا) لَا نَبْتَدِئُ إيجَابَ حَدٍّ بِقِيَاسٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، فَلَا نُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا فِي غَيْرِ الزِّنَا قِيَاسًا، كَمَا أَثْبَتْنَا تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي غَيْرِ الْبُرِّ قِيَاسًا عَلَيْهِ، وَلَا نُثْبِتُ حَدَّ السَّرِقَةِ فِي غَيْرِ السَّرِقَةِ، مِنْ نَحْوِ (الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ وَالْخَائِنِ وَالْغَاصِبِ قِيَاسًا عَلَى السَّارِقِ، وَلَا نُثْبِتُ حَدَّ الْقَذْفِ) مِنْ نَحْوِ التَّعْرِيضِ قِيَاسًا، وَلَا نُثْبِتُ كَفَّارَةَ رَمَضَانَ فِي غَيْرِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ قِيَاسًا عَلَى الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ (كَانَ) بَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَوْجَبَهَا فِي الْإِفْطَارِ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، قِيَاسًا عَلَى رَمَضَانَ، وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبَ حَدَّ الْقَذْفِ فِي التَّعْرِيضِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحُدُودِ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إيجَابُ حَدٍّ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال عَلَى مَوَاضِعِ الْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنْ أَوْجَبَ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الزَّانِي، فَإِنَّ مِنْ الزُّنَاةِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَنَحْنُ مَتَى اسْتَعْمَلْنَا الْقِيَاسَ فِي إيجَابِ حَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّمَا نَسْتَدِلُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْآيَةِ وَأُرِيدَ بِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الزُّنَاةِ الْمَخْصُوصِينَ مِنْ الْآيَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ مَتَى اسْتَعْمَلْنَا الْقِيَاسَ فِي إثْبَاتِهَا، فَإِنَّمَا يَقَعُ الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَيَكُونُ الْحَدُّ حِينَئِذٍ مُوجَبًا بِالْآيَةِ، وَنَسْتَدِلُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي (لَمْ) يُرْوَ بِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَوْجَبْتُمْ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْآكِلِ فِي رَمَضَانَ قِيَاسًا عَلَى الْمُجَامِعِ. وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُجَامِعِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ (هَذَا) كَمَا ظَنَنْتَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ لَفْظٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْطَرْتُ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ» وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ جِهَةِ الْإِفْطَارِ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ. وَأَيْضًا: فَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ غَيْرُ مَا رُوِيَ فِي الْمُجَامِعِ، لَمَا كَانَ إيجَابُنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْأَكْلِ (مِنْ) جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يُوجِبُهَا عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ غَيْرِ مَعْذُورٍ، وَالشَّافِعِيَّ يُوجِبُهَا بِالْإِيلَاجِ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَفِي الْبَهِيمَةِ أَيْضًا. وَالْخَبَرُ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي جِمَاعِ الْمَرْأَةِ فِي الْفَرْجِ، وَنُوجِبُهَا نَحْنُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مَأْثَمُهُ بِالْإِفْطَارِ فِيهِ مِثْلَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ. فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى غَيْرَ مَا وَرَدَ الْأَثَرُ بِهِ، تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، وَاحْتَجْنَا إلَى طَلَبِ الْمَعْنَى عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ، ثُمَّ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَأْثَمِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَأْثَمُهُ مِثْلَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ، لِمَا اجْتَرَمَهُ مِنْ الْمَأْثَمِ، ثُمَّ وَجَدْنَا مَأْثَمَ الْآكِلِ مِثْلَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ، وَأَكْثَرُ الدَّلَائِلِ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ، أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، هُوَ حُصُولُ الْإِفْطَارِ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَأْثَمِ. فَأَثْبَتْنَا الْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِمَا وَصَفْنَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ قِيَاسًا فِي إثْبَاتِ الْكَفَّارَةِ وَلَا غَيْرِهَا. وَأَمَّا امْتِنَاعُ جَوَازِ قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَحَكَيْنَا مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي " السِّيَرِ " فِي هَذَا الْبَابِ. فَكَرِهْتُ إعَادَتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا فِيمَا تَقَدَّمَ امْتِنَاعَ جَوَازِ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ، وَامْتِنَاعَ جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، الَّذِي لَمْ (يَثْبُتْ خُصُوصُهُ) . وَامْتِنَاعَ إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ قِيَاسًا: (فَإِنَّ) الْأَصْلَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَمِنْهَا: أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ كَقَوْلِك حَيَوَانٌ، وَجِنٌّ، وَإِنْسٌ، وَرَجُلٌ، وَفَرَسٌ، وَخَمْرٌ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَأْخُوذٌ مِنْ اللُّغَةِ. وَمِنْهَا: أَسْمَاءُ الْأَشْخَاصِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِهِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ، لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَا يُفِيدُ فِيهِ مَعْنًى، وَإِنَّمَا هُوَ لَقَبٌ لُقِّبَ بِهِ، لِتَعْرِيفِهِ وَتَمْيِيزِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَقَوْلِك: زَيْدٌ، وَعَمْرٌو، وَخَالِدٌ. وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِاللُّغَةِ، وَلَا بِمَوْضُوعَاتِ أَهْلِهَا وَاصْطِلَاحِهِمْ. لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ مَا شَاءَ، غَيْرَ مَحْظُورٍ بِذَلِكَ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَسْمَاءٌ هِيَ أَوْصَافٌ لِلْمُسَمَّى بِهَا، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمَوْصُوفِينَ (بِهَا) ، أَوْ أَحْوَالٍ يَكُونُونَ عَلَيْهَا، أَوْ صِفَاتٍ يَكُونُونَ بِهَا. كَقَوْلِك: قَائِمٌ، وَقَاعِدٌ، وَمُؤْمِنٌ، وَكَافِرٌ، وَأَحْمَرُ، وَأَسْوَدُ، وَحَيٌّ، وَقَادِرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْأَسْمَاءِ يُفِيدُ أَوْصَافًا فِي الْمُسَمَّى (بِهَا) ،، أَوْ أَسْمَاءً أُخَرَ، وَهِيَ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ، وَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا يَرِدُ بِهِ التَّوْقِيفُ. نَحْوُ الْكَافِرِ، وَالْمُؤْمِنِ، وَالْمُنَافِقِ. وَنَحْوُ: الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالرِّبَا، وَنَحْوِهَا. هَذِهِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ، قَدْ وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ لَمَعَانٍ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لَهَا فِي اللُّغَةِ. فَمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ اسْمًا إلَّا بِمُوَاصَفَاتِ أَهْلِهَا، وَاصْطِلَاحِهِمْ عَلَيْهَا، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إذَا سَمِعَهَا عَرَفَ الْمُرَادَ بِهَا، وَبِمَوْضُوعِهَا. وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ اسْمًا لِأَجْلِ اللُّغَةِ. وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الَّتِي هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُسَمَّى بِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ. سَبِيلُهَا الِاصْطِلَاحُ، وَمُوَاضَعَةُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى مَعَانِيهَا فِي الْأَصْلِ. وَمِنْ حُكْمِهَا أَنْ لَا يُشْكِلَ مَعَانِيهَا عِنْدَ سَمَاعِهَا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ. وَأَمَّا أَسْمَاءُ الْأَشْخَاصِ - وَهِيَ الْأَلْقَابُ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ وَصْفُهَا بِاللُّغَةِ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا - فَلَيْسَ طَرِيقُهَا اللُّغَةَ، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِيمَا قَصَدْنَاهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْإِتْبَاعُ وَالسَّمَاعُ، أَوْ غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَتَسَمَّى بِمَا شَاءَ مِنْهَا. وَأَمَّا أَسْمَاءُ الشَّرْعِ فَسَبِيلُهَا التَّوْقِيفُ. وَهِيَ تَجْرِي فِي بَابِهَا مَجْرَى أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فِي بَابِ أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ سَبِيلُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوهَا كَمَا عَرَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ. ، وَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَكَانَ مَعْلُومًا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ سَمَّى الْمَاءَ خُبْزًا، أَوْ سَمَّى الذَّهَبَ نُحَاسًا، أَوْ سَمَّى الْفَرَسَ بَعِيرًا، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ اسْمًا لَهُ، (لَا) فِي لُغَةٍ، وَلَا فِي شَرْعٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 قُلْنَا: لَا يَخْلُو الْمُثْبِتُ لِلْأَسْمَاءِ قِيَاسًا: مِنْ أَنْ يُثْبِتَهَا عَلَى أَنَّهَا تَصِيرُ اسْمًا لِمُسَمَّيَاتِهَا فِي اللُّغَةِ، أَوْ الشَّرْعِ. فَإِنْ كَانَ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ ذَلِكَ قِيَاسًا إنَّمَا يَصِيرُ اسْمًا لُغَوِيًّا، فَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللُّغَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ وَتَصِيرُ مِنْ اللُّغَةِ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِهَا، وَمُوَاصَفَاتِهِمْ عَلَيْهَا، حَتَّى يَشْتَرِكَ فِي مَعْرِفَتِهَا سَائِرُ أَهْلِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لَا يَعْرِفُهُ اسْمًا لِلْمُسَمَّى بِهِ إلَّا الْقَائِسُ الَّذِي أَدَّاهُ قِيَاسُهُ بِزَعْمِهِ إلَى إثْبَاتِهِ، فَبَطَلَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمُثْبَتُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ اسْمًا لُغَوِيًّا، إنْ كَانَ مَا يُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ يَصِيرُ اسْمًا شَرْعِيًّا، وَإِنَّ سَبِيلَ أَسْمَاءِ الشَّرْعِ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ، كَمَا يَشْتَرِكُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِأَسْمَاءِ اللُّغَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّرْعِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْقَائِسُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ مَا يُثْبِتُهُ الْقَائِسُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ خَارِجًا عَنْ هَذَا الْحَدِّ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ اسْمًا شَرْعِيًّا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَصِيرُ اسْمًا لَهُ عِنْدَ هَذَا الْقَائِسِ دُونَ مَنْ لَمْ يَقِسْ، وَمَا اخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي إثْبَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ، لَا يَكُونُ اسْمًا لِلشَّيْءِ الْمُسَمَّى بِهِ، مَعَ كَوْنِهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأُمُورِ الشَّرْعِ وَأُصُولِهِ، وَإِثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ مِنْ أُصُولِهِ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا مَشْهُورًا مُتَعَالَمًا مُدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، الَّذِي يَشْتَرِكُ (الْجَمِيعُ فِيهِ) ، دُونَ الْقِيَاسِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا كَانَتْ أَسْمَاءُ اللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةُ لِلْأَجْنَاسِ، وَالْمُشْتَقَّةُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُسَمَّيْنَ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَهْلِهَا، قَدْ عَرَفُوهَا مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ وَالتَّلَقِّي، دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ مُدْرَكٌ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، وَضَرْبٌ مِنْ طَرِيقِ الدَّلِيلِ. فَهَلَّا جَوَّزْتَ مِثْلَهُ فِي الْأَسْمَاءِ؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 قِيلَ لَهُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ فِيهَا أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ، فَيَكُونَ بَعْضُهُمْ مُتَعَبِّدًا بِحَظْرِ شَيْءٍ، وَآخَرُ مُتَعَبِّدًا فِي تِلْكَ الْحَالِ بِإِبَاحَتِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُتَعَبِّدًا فِي حَالٍ بِالْحَظْرِ، وَفِي حَالٍ أُخْرَى بِالْإِبَاحَةِ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْعِبَادَاتِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، يَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِي حُكْمِهِ، وَبَعْضُهَا مَدْلُولًا عَلَيْهِ، مُسْتَدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ. فَمَنْ أَدَّاهُ قِيَاسُهُ إلَى الْحَظْرِ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ أَدَّاهُ قِيَاسُهُ إلَى الْإِبَاحَةِ. وَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ تَكْلِيفُ بَعْضِ النَّاسِ تَسْمِيَةَ شَيْءٍ بِاسْمٍ، وَتَكْلِيفُ آخَرِينَ أَنْ يُسَمُّوا ذَلِكَ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَأَنْ لَا تُسَمِّيَهُ بِالِاسْمِ الَّذِي كُلِّفَ الْآخَرُ تَسْمِيَتَهُ بِهِ، وَلَا وُجُوبُ تَسْمِيَتِهِ فِي حَالٍ، وَحَظْرُهَا فِي أُخْرَى، مَعَ تَسَاوِي أَحْوَالِ الْمُسَمَّيَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ: الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، قَدْ تَسَاوَى النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي تَسْمِيَتِهَا عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا، وَلَمْ يُكَلَّفْ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يُسَمِّيَهَا صَلَاةً، وَبَعْضُهُمْ أَنْ لَا يُسَمِّيَهَا صَلَاةً، مَعَ اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِيهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفْ أَحَدٌ أَنْ يُسَمِّيَهَا الْيَوْمَ صَلَاةً، وَلَا يُسَمِّيَهَا بِهَا غَدًا. وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَاءِ الشَّرْعِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى أَسْمَاءِ اللُّغَةِ. فَلَوْ أَنَّ إنْسَانًا سَمَّى الْمَاءَ خَمْرًا، وَسَمَّى الْفَرَسَ رَجُلًا، لَمَا صَارَ ذَلِكَ اسْمًا لَهَا فِي اللُّغَةِ، سَوَاءٌ (قَالَهُ قِيَاسًا) ، أَوْ وَضْعًا، مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ. كَذَلِكَ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، لَا يَصِيرُ بِمَا يُثْبِتُهُ فِيهَا قِيَاسًا اسْمًا لَهُ؛ إذْ كَانَ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْقَائِسُ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَعَالَمًا مَشْهُورًا عِنْدَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِذَلِكَ قِيَاسًا، أَوْ وَضْعًا مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ، فِي بَابِ أَنَّهُ يَصِيرُ اسْمًا لَهُ فِي الْحَالَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 فَإِنْ قِيلَ: أَسْمَاءُ الْأَلْقَابِ لَيْسَتْ مُسْتَحَقَّةً لِمُسَمَّيَاتِهَا فِي اللُّغَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهَا ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ اسْمًا صَحِيحًا، فَمَا أَنْكَرْت مِنْ مِثْلِهِ فِي إثْبَاتِ أَسْمَاءِ الشَّرْعِ قِيَاسًا؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ أَسْمَاءَ الْأَلْقَابِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِأَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهَا لَيْسَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الْقِيَاسَ، بَلْ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ وَضْعَهَا، فَيُسَمِّيَ نَفْسَهُ وَفَرَسَهُ وَغُلَامَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا، مِنْ غَيْرٍ قِيَاسٍ، فَهَلْ تُجِيزُ مِثْلَهُ فِي أَسْمَاءِ الشَّرْعِ وَأَسْمَاءِ اللُّغَةِ، (فَتُثْبِتُهَا وَضْعًا) مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ، ثُمَّ تَصِيرُ اسْمًا لِلْمُسَمَّى بِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَمَا حَاجَتُك إلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِهَا، وَقَدْ اسْتَغْنَيْتَ عَنْهُ، أَوْ جَائِزٌ لَك أَنْ تَبْتَدِئَهَا وَضْعًا مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْهَذَيَانِ، لِأَنَّ مَا يَبْتَدِئُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْأَسْمَاءِ (لِأَجْنَاسٍ، أَوْ شَرْعٍ) لَا يَصِيرُ اسْمًا لِلْمُسَمَّى بِهِ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَثْبَتُّمْ أَسْمَاءَ الْأَوْصَافِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُسَمَّيْنَ بِهَا قِيَاسًا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي اللُّغَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: قَامَ فَهُوَ قَائِمٌ. وَقَعَدَ فَهُوَ قَاعِدٌ، فَهَذَا سَمَاعٌ لَيْسَ بِقِيَاسٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا وَجَدْنَا الْعَصِيرَ لَا يُسَمَّى خَمْرًا، قَبْلَ حُدُوثِ الشِّدَّةِ فِيهِ، ثُمَّ وَجَدْنَاهُ يُسَمَّى خَمْرًا، عِنْدَ وُجُودِهَا، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا يَزُولُ عَنْهَا اسْمُ الْخَمْرِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ، وَحُدُوثِ الْحُمُوضَةِ وَجَبَ اعْتِبَارُ الِاسْمِ بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهَا. يُسَمَّى كُلُّ مَا حَدَثَ فِيهِ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الشِّدَّةِ خَمْرًا، فَيُوجِبُ هَذَا أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرًا. ثُمَّ يَعُمُّ الْجَمِيعَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ لَمَا صَارَ ذَلِكَ اسْمًا لِغَيْرِ الْخَمْرِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 إذْ كَانَ سَبِيلُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، أَنْ يَشْتَرِكَ أَهْلُهُمَا فِي مَعْرِفَتِهَا،؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ: هُوَ السِّمَةُ وَالْعَلَامَةُ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ عِنْدَ السَّامِعِينَ لَهَا، مِنْ اللُّغَةِ، أَوْ الشَّرْعِ، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ مَا ذَكَرْته سِمَةً لِمَا سَمَّيْته بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا الشَّرْعِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عِنْدَهُمْ الْمُسَمَّى بِهِ مِمَّا سِوَاهُ. لَمْ يَثْبُتْ اسْمًا. وَعَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ مُنْتَقِضٌ عَلَى قَائِلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْبُرُّ مُحَرَّمًا فِيهِ التَّفَاضُلُ حِينَ كَانَ مَأْكُولًا، فَيُسَمَّى كُلُّ مَأْكُولٍ بُرًّا، فَيَكُونُ الْأَرُزُّ مُحَرَّمًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَأْكُولَاتِ، وَمَنْ بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ صَارَ فِي حَيِّزِ الْمَجَانِينِ وَخَرَجَ مِنْ حُدُودِ الْعُقَلَاءِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا هُوَ لِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَ (مَا) لَيْسَ بِحُكْمٍ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَلَيْسَتْ التَّسْمِيَةُ حُكْمًا قَدْ تَعَبَّدْنَا بِهِ إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ تَعَبُّدٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّسْمِيَةِ (فَحَسْبُ) ، دُونَ حُكْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى بِهِ، فَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ لِأَجْلِ الْمَعْنَى لَا لِنَفْسِهَا، كَنَحْوِ الْمُؤْمِنِ، وَالْكَافِرِ، وَالْمُنَافِقِ، وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلْمَدْحِ، أَوْ الذَّمِّ. لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ قِيَاسًا، لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ فِي الْأَسْمَاءِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قِيَاسَ الْأَسْمَاءِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، أَوْ لِغَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ لِلْأَحْكَامِ، فَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا الدَّلَائِلَ عَلَى أَحْكَامِهِ، وَعَلَّقَهَا بِأَسْمَاءٍ ثَابِتَةٍ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، بِتَوْقِيفٍ مِنْهُ، أَوْ دَلَالَةٍ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ قِيَاسًا، لِأَجْلِ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ. وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ الْأَسْمَاءِ لِغَيْرِ الْأَحْكَامِ فَهَذَا مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّك إنَّمَا تُثْبِتُهُ اسْمًا لِلْقَائِسِ دُونَ غَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَنْ ابْتَدَأَ وَضْعَ اسْمٍ بِنَفْسِهِ فَسَمَّى بِهِ شَيْئًا، نَحْوُ أَنْ يُسَمِّيَ الرَّجُلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 فَرَسًا، فَهَذَا مَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ ابْتَدَأَ وَضْعَ اسْمٍ لِشَيْءٍ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ هَهُنَا بِبَغْدَادَ فِي حُدُودِ الْمَجَانِينِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عُقَلَاءُ، مِمَّنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ النَّحْوِ، يَدَّعُونَ جَوَازَ قِيَاسِ الْأَسْمَاءِ، فَيَنْظُرُونَ إلَى أَصْلِ الِاسْمِ فِي اللُّغَةِ، وَإِلَى اشْتِقَاقِهِ، فَيَقِيسُونَ عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ. وَلَقَدْ بَلَغَنِي: أَنَّهُ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَا اشْتِقَاقُ الْجِرْجِيرِ، وَمَا أَصْلُهُ؟ قَالَ: إنَّمَا سُمِّيَ جِرْجِيرًا؛ لِأَنَّهُ يَتَجَرْجَرُ إذَا خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ، يَعْنِي يَتَحَرَّكُ. قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِحْيَتُك جِرْجِيرًا؛ لِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْقَارُورَةَ إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّهَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا مَا يُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ قَاسَ عَلَى هَذَا كُلَّ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، فَسَمَّى جَوْفَ الْإِنْسَانِ قَارُورَةً، وَسَمَّى الْبَحْرَ قَارُورَةً، وَكَانَ النَّاسُ يَنْسُبُونَ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ إلَى الْهَوَسِ وَالْجُنُونِ، وَيَحْكُونَ عَنْهُ وَعَنْ أَمْثَالِهِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ عَلَى جِهَةِ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَتَعَجُّبِ النَّاسِ مِنْ بَلَهِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 [فَصْلٌ مَا خُصَّ بِالْأَثَرِ مِنْ جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ] فَصْلٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْكِي: أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَا خُصَّ بِالْأَثَرِ مِنْ جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ الْأَصْلِيَّ الَّذِي وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَخْصِيصِهِ أَوْلَى، (إلَّا أَنْ) يَكُونَ الْأَثَرُ مُعَلَّلًا، فَيُقَاسَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، أَوْ يَتَّفِقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، فَيُقَاسَ عَلَيْهِ نَظَائِرُهُ، وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ: إنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأَصْلِ. وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ أَنْ لَا تَكُونَ الْقَهْقَهَةُ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ حَدَثٌ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ حَدَثًا فِي غَيْرِهَا، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَلَّا تَكُونَ حَدَثًا فِيهَا، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهَا، لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهَا، ثُمَّ لَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهَا الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَفِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي خَصَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ إنَّمَا وَرَدَ فِي صَلَاةٍ فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ. وَمِثْلُهُ: مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهِ. وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَنْبِذَةِ لِأَنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ. فَوَرَدَ الْأَثَرُ مُخَصِّصًا لَهُ مِنْ جِهَةِ مُوجَبِ الْقِيَاسِ. فَتَرَكَ الْقِيَاسَ فِيمَا وَرَدَ فِيهَا الْأَثَرُ، وَحَمَلَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهَا الْأَثَرُ عَلَى الْأَصْلِ. وَمِثْلُهُ: مَا وَرَدَ مِنْ الْأَثَرِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مَعَ الْأَكْلِ نَاسِيًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُفْسِدَ صَوْمَهُ، وَسَلَّمَ لِلْأَثَرِ مَا وَرَدَ فِيهِ، وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ الْأَكْلَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا، وَلَا الْكَلَامَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 وَالْجِمَاعَ فِيهَا نَاسِيًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُمْ يُوجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ النَّاسِي وَالْعَامِدِ وَالْمَعْذُورِ (وَغَيْرِهِ) فِي بَابِ إفْسَادِ هَذِهِ الْقُرَبِ بِوُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهَا. إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ، وَحَمَلُوا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ الْأَثَرُ عَلَى الْقِيَاسِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ: إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ، وَأَجَازُوا لَهُ الْبِنَاءَ بَعْدَ الطَّهَارَةِ. وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وُجُوبَ الْحَدَثِ إذَا كَانَ مِنْ فِعْلِ آدَمِيٍّ، نَحْوُ أَنْ يَشُجَّهُ إنْسَانٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ» فَإِنَّمَا خَصَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ آدَمِيٍّ فَلَمْ يَقِسْهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ احْتَلَمَ فِي صَلَاتِهِ أَوْ فَكَّرَ فَأَمْنَى: إنَّهُ يَغْتَسِلُ وَلَا يَبْنِي، وَقَالُوا: إنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ أَنْ يَبْنِيَ. وَاسْتُحْسِنَ أَلَّا يَبْنِيَ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ مَعَ حَدَثٍ، ثُمَّ سَلَّمُوا جَوَازَ الْبِنَاءِ مَعَ الْحَدَثِ لِلْأَثَرِ، وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ فَكَانَتْ الْجَنَابَةُ مَحْمُولَةً عَلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ إذْ لَمْ يَرِدْ فِيهَا أَثَرٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قِسْت عَلَى الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ: الْبَوْلَ، وَالْغَائِطَ، وَسَائِرَ مَا يَخْرُجُ مِنْ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، إذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ. وَقِسْت الْمُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا عَلَى الْآكِلِ نَاسِيًا. قِيلَ لَهُ: لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْته قِيَاسًا، وَإِنْ سَوَّيْنَا بَيْنَ الرُّعَافِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِ إذَا سَبَقَهُ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ مِنْ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَعْمَلَ الْخَبَرَ سَوَّى بَيْنَ (جَمِيعِ) ذَلِكَ فِي بَابِ جَوَازِ الْبِنَاءِ بَعْدَ تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ سَوَّى بَيْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 الْجَمِيعِ فِي مَنْعِ الْبِنَاءِ، فَلَمَّا صَحَّ عِنْدَنَا الْخَبَرُ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا، إنَّمَا جَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ الْآكِلِ نَاسِيًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُفْطِرْهُ بِالْأَكْلِ، لَمْ يُفْطِرْهُ بِالْجِمَاعِ. فَلَمَّا صَحَّ عِنْدَنَا الْأَثَرُ فِي تَرْكِ الْإِفْطَارِ بِهِ كَانَ الْجِمَاعُ مِثْلَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمِ الْآكِلِ وَالْمُجَامِعِ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَسْبِقُ الْمُصَلِّيَ، وَبَيْنَ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ، لَيْسَ بِقِيَاسٍ عِنْدَنَا، لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ: مِنْ أَنَّهُ (قَدْ ثَبَتَ) أَنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ. فَإِذَا وَرَدَ الْخَبَرُ فِي أَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا لَا يُفْطِرُ، فَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حُكْمِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْأَصْلِ، فِي بَابِ أَنَّ عَدَمَهُمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرُوا مِنْ تَرْكِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَخْصُوصِ مَا قَالُوا فِي الِاسْتِصْنَاعِ: إنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُمْ لَا يُجَوِّزُهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فِي غَيْرِ السَّلَمِ. وَأَجَازُوهُ لِمُشَاهَدَتِهِمْ فُقَهَاءَ السَّلَفِ غَيْرَ مُنْكِرِيهِ عَلَى فَاعِلِيهِ مَعَ شُهْرَتِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ فِي الْعَامَّةِ حِينَئِذٍ، فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهِ. ثُمَّ لَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ فِي الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا، فِيمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ مِنْ النَّاسِ بِاسْتِصْنَاعِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ إذْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي الْأَصْلِ مَانِعًا (مِنْهُ) فَمَا خُصَّ مِنْ جُمْلَةِ مُوجَبِ الْقِيَاسِ بِأَثَرٍ، أَوْ اتِّفَاقٍ، فَكَانَ مُسَلَّمًا لَهُ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ: أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِمَا قَدَّمْنَا، فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، فَإِذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الْقِيَاسِ الْأَصْلِيُّ فِي لُزُومِ إجْرَاءِ عِلَّتِهِ فِي مَعْلُولَاتِهِ، وَالْحُكْمِ لِلْفَرْعِ بِحُكْمِ أَصْلِهِ، إلَّا بِأَثَرٍ، أَوْ اتِّفَاقٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَارَ الْأَثَرُ الْمُخَصِّصُ لِمُوجَبِ الْقِيَاسِ أَصْلًا، فَهَلَّا قِسْت عَلَيْهِ نَظَائِرَهُ مِمَّا هُوَ فِي عِلَّتِهِ؟ قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَتْ الْأُصُولُ الْأُخَرُ تَمْنَعُ مِنْهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ الْأَثَرَ الْوَارِدَ فِي التَّخْصِيصِ قَدْ جَوَّزَهُ. فَلِمَ جَعَلْت الْمَانِعَ أَوْلَى مِنْ الْمُجَوِّزِ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ مَزِيَّةً فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى قِيَاسِ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ الْمُخَصِّصُ لَهُ، وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَالْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْقِيَاسِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّا لَوْ قِسْنَا عَلَى الْأَثَرِ فِيمَا وَصَفْت لَعَارَضَهُ قِيَاسُ الْأُصُولِ، فَلَا يُثْبِتُ قِيَاسُ الْأَثَرِ مَعَ مُعَارَضَتِهِ قِيَاسَ الْأَصْلِ (لَهُ) الْمُوجَبَ بِضِدِّ حُكْمِهِ، وَكَأَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَسْقُطَا، وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، فِيمَا عَدَا الْأَثَرَ قَبْلَ وُرُودِهِ، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا عَارَضَهُ قِيَاسُ الْأُصُولِ، فَهُوَ أَيْضًا يُعَارِضُ قِيَاسَ الْأُصُولِ، فَيَتَعَارَضَانِ عَلَى مَا ذَكَرْت، فَيُوجِبُ ذَلِكَ بُطْلَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ بِالْآخَرِ. وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ قِيَاسِ الْأَصْلِ أَيْضًا. (قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لَا يُبْطِلُهُ مُعَارَضَتُهُ قِيَاسُ الْمَخْصُوصِ إيَّاهُ. فَيَكُونُ قِيَاسُ الْأَصْلِ مُبْطِلًا لِقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ، وَلَا يَكُونُ قِيَاسُ الْمَخْصُوصِ مُبْطِلًا لِقِيَاسِ الْأَصْلِ، وَكَانَ ثَابِتًا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ) . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَتْرُكُونَ أَنْتُمْ الْقِيَاسَ إلَى قِيَاسٍ آخَرَ وَهُوَ أَحَدُ ضُرُوبِ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَكُمْ، فَهَلَّا أَجَزْت تَرْكَ الْقِيَاسِ الْأَصْلِيِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَثَرِ الْمُخَصِّصِ لَهُ؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ، مِنْ قِبَلِ تَرْكِ الْقِيَاسِ إلَى قِيَاسٍ آخَرَ، إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ (مَبْنِيًّا عَلَى أُصُولٍ تُوجِبُهُ، فَيَتَسَاوَيَانِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْأُصُولِ عَلَيْهِمَا. ثُمَّ يَخْتَصُّ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ) بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ يُوجِبُ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِهِ دُونَ الْآخَرِ. وَأَمَّا مَسْأَلَتُنَا فَإِنَّمَا هِيَ فِي قِيَاسٍ تُوجِبُهُ الْأُصُولُ، مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الْأَصْلِ. ثُمَّ يَرِدُ أَثَرٌ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْقِيَاسِ، فَيَخُصُّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ جُمْلَتِهِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ تَسْلِيمُ مَا خَصَّهُ الْأَثَرُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ قِيَاسُ أُصُولٍ أُخَرَ غَيْرِ مَا يُرِيدُ (فِيهِ) قِيَاسَهُ عَلَى الْأَثَرِ، فَكَانَ حُكْمُ الْقِيَاسِ الْأَصْلِيِّ ثَابِتًا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا، غَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ لِمَا بَيَّنَّا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ: إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ، وَأَنْ لَا يَتَحَالَفَا، وَتَرَكْتُمْ الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ فِي إيجَابِ التَّحَالُفِ وَالتَّرَادِّ، ثُمَّ قِسْتُمْ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافَ فِي الْإِجَارَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ (الشَّيْخُ) أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: الْقِيَاسُ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ لِاسْتِحْقَاقِ مِلْكِ الْعَيْنِ بِوَجْهٍ يَدَّعِيهِ، يُخَالِفُهُ الْآخَرُ فِيهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا هُوَ قِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ، وَهُنَاكَ أَصْلٌ آخَرُ يُوجِبُ التَّحَالُفَ وَالتَّرَادَّ غَيْرُ الْأَثَرِ. فَإِنَّمَا ذَكَرُوا أَحَدَ وَجْهَيْ الْقِيَاسِ. وَالْكَلَامُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا خُرُوجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَلَكِنَّا أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ: الْقِيَاسُ عِنْدِي كَذَا، أَنَّ الْأُصُولَ مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْقِيَاسِ، فَالسُّؤَالُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطٌ عَنَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يُجِيبُ عَنْ سُؤَالِ الْإِجَارَةِ مَعَ تَسْلِيمِهِ لِصِحَّةِ السُّؤَالِ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ إيجَابَ التَّحَالُفِ. وَإِنَّمَا خُصَّ حَالُ الْإِحْلَافِ بِالْأَثَرِ؛ لِأَنَّا لَمْ نُوجِبْ التَّحَالُفَ فِي الْإِجَارَةِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، بَلْ الْقِيَاسُ نَفْسُهُ يُوجِبُهُ فِي الْإِجَارَةِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى،؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 الْمَنَافِعِ كَأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ. إذْ لَمْ يُمْلَكْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ حَالًّا فَحَالًّا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا. فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ مِلْكُ الْمَنَافِعِ لِلْمُسْتَأْجِرِ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فِي حَالٍ ثَانِيَةٍ، صَارَ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ، وَهُوَ يَجْحَدُ الْبَيْعَ، فَتَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ إذَا لَمْ تَثْبُتْ بَعْدَ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنَافِعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ لَا يَقَعُ بِهَا تَسْلِيمُ الْمَنَافِعِ، فَصَارَ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ادَّعَى فِي شِرَاءِ عَبْدٍ يَجْحَدُهُ الْبَائِعُ، فَيَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ مَوْجُودَةٌ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي بِاتِّفَاقِهِمَا جَمِيعًا، وَالْبَائِعُ مُعْتَرِفٌ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ. فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي. وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَاجْعَلْ الْأَثَرَ الْوَارِدَ فِي تَخْصِيصِ الْقِيَاسِ أَصْلًا تَقِيسُ عَلَيْهِ نَظَائِرَهُ، كَمَا اعْتَبَرْت الْقِيَاسَ الْأَصْلِيَّ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْقِيَاسِ، وَتَخْصِيصِهِ عَلَى جِهَةِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَكَمَا تَقُولُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ فَتُلْحِقُهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، لِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ يُوجِبُهُ بِذَلِكَ الْأَثَرِ لِمَا كَانَ أَصْلًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ الَّذِي خَصَّهُ الْأَثَرُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ، فَقَدْ تَجَاذَبَ الْفَرْعَ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَوْجَبَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ. وَالْآخَرُ: مَا يُوجِبُهُ الْأَثَرُ؛ إذْ هُوَ أَصْلٌ. قِيلَ لَهُ: لَوْ اعْتَبَرْنَا مَا ذَكَرْت كَانَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَهَادَةَ سَائِرِ الْأُصُولِ لِقِيَاسِهَا أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ الْمَخْصُوصِ لِقِيَاسِهِ؛ إذْ كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَصْلَيْنِ مِنْ الْقِيَاسِ أَرْجَحَ وَأَقْوَى فِي النَّفْسِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ أَصْلٌ وَاحِدٌ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: أَنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، مَعَ وُرُودِ الْأَثَرِ الْمُخَصِّصِ لَهُ، وَقِيَاسَ الْمَخْصُوصِ لَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَقِيَاسٌ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا: أَنْ (لَا نَقِيسَ) عَلَى الْمَخْصُوصِ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّلًا لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلَّةً مَنْصُوصًا عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ، كَمَا أَنَّ حُكْمًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ حُكْمٍ مُسْتَنْبَطٍ. فَصَارَ لِوُرُودِ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ مَزِيَّةً لَيْسَتْ لِلْقِيَاسِ الْأَصْلِيِّ، فَصَارَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْهُ. وَأَمَّا إذَا وَرَدَ الْأَثَرُ الْمُخَصِّصُ لِلْقِيَاسِ مُعَلَّلًا، فَإِنَّ أَبَا الْحَسَنِ كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ. نَحْوُ مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ، وَإِنَّهَا مِنْ سَاكِنِي الْبُيُوتِ» . وَاعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الْفَأْرَةِ، وَالْحَيَّةِ، وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، وَقَوْلَهُ: إنَّهَا مِنْ سَاكِنِي الْبُيُوتِ، يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا وَجَبَ إجْرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَظَائِرِهِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّعْلِيلَ يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ عِلَّةَ الْحُكْمِ، وَإِجْرَاءَهُ عَلَيْهِ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ. وَلَكَانَ يَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ عِلَلَ الْعَقْلِيَّاتِ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيُفِيدُهُ، فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ بِتَعْلِيلِ مَعْنًى، عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ مِنَّا اعْتِبَارُهُ فِي نَظَائِرِهِ، وَإِجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ. وَقَدْ قَالَ النَّظَّامُ وَهُوَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ: إنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ، يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ، وَلَمْ يُجْعَلْ وُجُوبُ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، بَلْ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِي إيجَابِ الْحُكْمِ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، مُعْتَبَرًا بِهِ. وَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهُ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّعْلِيلِ، وَيَجْعَلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فِي كَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قِيَاسُ سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ عَلَى نَبِيذِ التَّمْرِ، فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» ؛ لِأَنَّ نَبِيذَ الزَّبِيبِ زَبِيبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ. وَيَلْزَمُك أَنْ تَقِيسَ الْأَكْلَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ، وَقِيَاسُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْآكِلِ نَاسِيًا، لِتَعْلِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَكْلَ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ (بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْعَمَهُ، وَسَقَاهُ) وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمُكْرَهِ، وَفِي الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، وَاَلَّذِي يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، فَأَكَلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَطْعَمَهُمْ وَسَقَاهُمْ، حِينَ أَبَاحَ لَهُمْ الْأَكْلَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ نَبِيذَ التَّمْرِ، غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نَبِيذِ الزَّبِيبِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ مَنْ يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ يَجْعَلُ مُرَادَ قَوْلِهِ «ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» أَنَّ أَصْلَ التَّمْرِ (طَيِّبٌ) وَالْمَاءُ طَاهِرٌ، فَلَا يَمْنَعُ مَا عَرَضَ فِي الْمَاءِ وَالتَّمْرِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ إلَى النَّبِيذِ مِنْ جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ. وَهَذَا الِاعْتِلَالُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ لَجَازَ الْوُضُوءُ بِالْخَلِّ لِطِيبِ (الْأَصْلِ) الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَطَهَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ، وَلَجَازَ الْوُضُوءُ بِالْمَرَقِ،، لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَهَذَا قِيَاسٌ مَدْفُوعٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ نَقُولُ فِي قَوْلِهِ «إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ» عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: «ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ: إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ، لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ فِي الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا، فَلَمْ يُجْرِهِ أَحَدٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إبَاحَةَ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ مَرِيضٍ، أَوْ مُسَافِرٍ، أَوْ حَائِضٍ، أَنْ لَا يُفْطِرَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ، لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِهِ (مِنْ) نَظَائِرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ أَنَّ النِّسْيَانَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ الْأَكْلُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَتْ هَذِهِ عِلَّةً لِلْمَنْعِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ. قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْمَرَضَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَعْلِيلَ النِّسْيَانِ، فَلَمْ يَجِبْ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 [بَابُ ذِكْرِ الْأُصُولِ الَّتِي يُقَاسُ عَلَيْهَا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ وَصَحَّ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ، فَجَائِزٌ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا فِيهِ الْمَعْنَى أَصْلًا ثَابِتًا بِتَوْقِيفٍ وَاتِّفَاقٍ، أَوْ بِدَلَالَةِ غَيْرِهِمَا، فَالْقِيَاسُ وَاجِبٌ عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَلَى إجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَعَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، بَعْدَ أَنْ لَا مُخَصِّصَ لِلْقِيَاسِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ. يَجُوزُ الْقِيَاسُ أَيْضًا عَلَى حُكْمٍ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ. وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا جَوَازُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ بِالدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ فِي جَوَازِ وُقُوفِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ لَهُ مُجِيزٌ. فَمِنْ حَيْثُ وَقَفَ أَحَدُهُمَا إذَا عَقَدَ بِغَيْرِ أَمْرِ مَالِكِهِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْآخَرِ. لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، كَمَا نَقُولُ فِي إفْسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ إذَا اشْتَرَكَا فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، قِيَاسًا عَلَى إفْسَادِهَا إذَا قَامَ قُدَّامَ الْإِمَامِ. وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ قِيَامَهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ يُفْسِدُهَا، وَإِنْ خَالَفَنَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، فَجَائِزٌ لَنَا أَنْ نَبْنِيَ هَذَا الْفَرْعَ عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِيهِ. وَتَكُونُ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَامَ مَقَامًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَهُ بِحَالٍ، مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِالنَّهْيِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَمَا نَبْنِي تَحْرِيمَ النَّسَاءِ بِوُجُودِ الْكَيْلِ، أَوْ الْجِنْسِ عَلَى أَصْلِنَا فِي اعْتِبَارِهِمَا فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى حُكْمٍ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي الْأَصْلِ. . فَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا الْأُصُولَ (الَّتِي يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، فَالْوَجْهُ أَنْ نَذْكُرَ مَتَى تُقَاسُ الْحَادِثَةُ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ الْأَصْلُ) أَوَّلًا فِي كَوْنِهِ مَعْلُولًا، ثُمَّ يُقَاسُ. أَوْ لَا اعْتِبَارَ بِذَلِكَ، وَيُقَاسُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، كَانَ لِي أَنْ أَقِيسَ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ أَصْلًا لَيْسَ بِمَعْلُولٍ، وَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ. قِيلَ لِأَبِي الْحَسَنِ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَهُنَا أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَأَصْلًا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. فَمَا أَنْكَرْتَ مِمَّنْ قَالَ: إنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ سَائِغٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأُصُولِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَصْلٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا دَلِيلٌ يَدُلُّنَا عَلَى أَصْلٍ مِنْ الْأُصُولِ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ، إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ وُجُوبِ الْقِيَاسِ فِي الْجُمْلَةِ. فَلَوْ أَنَّا تَوَقَّفْنَا عَنْ الْقِيَاسِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَصْلٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ. لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا، وَمَا أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ، فَهُوَ فَاسِدٌ،؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيَاسِ قَدْ صَحَّ فِي الْجُمْلَةِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي مَسَائِلَ، وَبَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ. وَفِي إجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ أَصْلًا مَعْلُولًا. وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتُ أَصْلٍ مَعْلُولٍ عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 فَأَجَابَ: بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَدَّ الْمَسْأَلَةَ إلَى أَصْلٍ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ الْآخَرُ، فَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَعْلُولٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الَّذِي سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ يَقُولُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، مَعْنَاهُ عِنْدِي: أَنَّ الْفَقِيهَ لَا يَحْتَاجُ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ، أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنْ عَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ، وَاعْتِبَارِهَا بِنَظَائِرِهَا مِنْهَا، حِينَ يَجِدُ أَصْلًا مَعْلُولًا لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا. بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَرْضُهَا عَلَى سَائِرِ الْأُصُولِ، وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَشْبَهِ مِنْهَا، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ. أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُولٍ، فَلَا يَرُدَّ الْحَادِثَةَ إلَيْهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ الْأُصُولِ مَا قَدْ قَامَتْ دَلَالَتُهُ أَنَّهُ مَعْلُولٌ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، (إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الِاتِّفَاقِ) ، أَوْ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، فَمِمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ: تَحْرِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّفَاضُلَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ، وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ مَعْلُولٌ، بِمَعْنًى يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي أَغْيَارِهِ، وَحَمْلُ مَا سِوَاهُ عَلَيْهِ، مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي عِلَّتِهِ، وَدَلَالَةُ فَحْوَى الْخِطَابِ (بِهِ) ظَاهِرَةٌ فِي كَوْنِهِ مُعَلِّلًا لِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ اللَّفْظِ. «فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» فَلَمَّا مَنَعَ التَّفَاضُلَ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ فِيمَا ذُكِرَ وَأَبَاحَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى مِنْ أَجْلِهِ وَقَعَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى يَجِبُ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ، وَاعْتِبَارُهُ فِي نَظَائِرِهِ، فَوَجَبَ حِينَئِذٍ طَلَبُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمٌ لِلْحُكْمِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ. وَنَحْوُهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ» فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى بِهِ تَعَلَّقَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، مِنْ أَجْلِهِ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ، وَوَجَبَ طَلَبُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. وَمِنْ الْأُصُولِ مَا يَكُونُ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ «إنَّهَا مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» «وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَرِيرَةَ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» . ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْوَاجِبَ عَرْضُهَا عَلَى الْأُصُولِ، وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَشْبَهِ مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَصْلُ مِنْ جِنْسِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمٌ لِلْحُكْمِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إنَّ الْحَادِثَةَ إذَا تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ فَرَدُّهَا إلَى مَا قَرُبَ مِنْهَا، وَإِلَى مَا هُوَ مِنْ بَابِهَا وَمِنْ جِنْسِهَا، أَوْلَى مِنْ رَدِّهَا إلَى مَا بَعُدَ مِنْهَا، وَإِلَى خِلَافِ جِنْسِهَا. وَلِذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الِاعْتِكَافِ: (إنَّهُ) لَمَّا كَانَ لَبْثًا فِي مَكَان، وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ هُوَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ: قِيَاسًا. فَعَارَضُونَا بِالصَّوْمِ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قُرْبَةً بِمُضَامَّةِ النِّيَّةِ إيَّاهُ. فَهَلَّا كَانَ الْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَى الِاعْتِكَافِ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً هُوَ النِّيَّةَ، حَسْبَ مَا قُلْنَا فِي الصَّوْمِ؟ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ إذَا أَلْزَمَ مِثْلَ هَذَا يَقُولُ: إنَّ رَدَّ الِاعْتِكَافِ إلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ؛ إذْ كَانَ الِاعْتِكَافُ لَبْثًا كَالْوُقُوفِ، وَمَا وَجَدْنَا لِهَذَا نَظِيرًا مِنْ جِنْسِهِ، فَحَمْلُهُ عَلَيْهِ (وَرَدُّهَا إلَيْهِ) (أَوْلَى مِنْ رَدٍّ) إلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وَكَانَ الَّذِي اُعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْإِمْسَاكِ: هُوَ النِّيَّةُ، وَالنِّيَّةُ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ، وَاَلَّذِي اُعْتُبِرَ فِي كَوْنِ الْوُقُوفِ قُرْبَةً: هُوَ الْإِحْرَامُ، وَهُوَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ شَرْطُ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ أَوْلَى مِنْ شَرْطِ النِّيَّةِ؛ إذْ كَانَ الصَّوْمُ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْ الِاعْتِكَافِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَبْثٌ فِي مَكَان. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ أَنَّا إذَا اخْتَلَفْنَا فِي عَدَدِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الطَّهَارَةِ كَانَ قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ مِنْ نَحْوِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَمَسْحِ التَّيَمُّمِ فِي كَوْنِهِ مَرَّةً أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَسْحِ إلَى مَسْحٍ هُوَ مِنْ بَابِهِ وَمِنْ جِنْسِهِ، أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى غَسْلٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِهِ. وَنَحْوُهُ إذَا اخْتَلَفْنَا فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ، فَرَدُّوهُ إلَى ثِيَابِ الْبِذْلَةِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ، كَانَ رَدُّنَا إيَّاهُ إلَى السَّبَائِكِ، وَالنُّقَرِ، أَوْلَى فِي بَابِ إيجَابِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثِّيَابُ. وَكَقَوْلِهِمْ: فِي أَنَّ أَكْثَرَ الطَّوَافِ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ، قِيَاسًا عَلَى قِيَامِ أَكْثَرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ مَقَامَ الْجَمِيعِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ (إذَا كَانَتْ أَرْكَانُ الْحَجِّ: الْإِحْرَامَ) ، وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ، ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَلْحَقْهُ فَسَادٌ، وَقَامَ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَلَمْ يَقِيسُوا فِعْلَ أَكْثَرِ الطَّوَافِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ عَلَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ: (أَنَّ) أَكْثَرَهَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ؛ إذْ كَانَ رَدُّ الطَّوَافِ إلَى مَا هُوَ فِي بَابِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْإِحْرَامِ، أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى مَا لَيْسَ مِنْ بَابِهِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ فِي الْحَادِثَةِ: إذَا كَانَتْ مِنْ أَصْلٍ مُخَالِفٍ لِأَصْلٍ آخَرَ فِي مَوْضُوعِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي (يُخَالِفُ) لِأَصْلِ الْحَادِثَةِ فِي مَوْضُوعِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرَدَّ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي خَالَفَ أَصْلَ الْحَادِثَةِ رَأْسًا، كَقَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ: إنَّ عَلَيْهِ دَمًا، وَقَدَّرُوا الرُّبُعَ اجْتِهَادًا، مَعَ كَوْنِ الرَّأْسِ عُضْوًا بِنَفْسِهِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَ حَلْقِهِ رُبُعَ الرَّأْسِ، وَبَيْنَ حَلْقِ رُبُعِ أَحَدِ الْإِبِطَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الْبَدَنِ عُضْوًا نَظِيرَهُ، فَصَارَ أَخَفَّ حُكْمًا مِنْ الرَّأْسِ الَّذِي لَا مُشَارِكَ لَهُ فِي الْبَدَنِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَهُمْ كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ، فِي أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ مَا لَهُ مِنْهَا نَظِيرٌ، وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْهَا، فِي أَنَّ كَشْفَ الرُّبُعِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، فَكَانَ يَمْنَعُ قِيَاسَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ الْإِحْرَامِ فِي أَحْكَامِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ يَسِيرَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ لَا حُكْمَ لَهُ، وَأَنَّ يَسِيرَ الْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَخْلُو مِنْ إيجَابِ شَيْءٍ. فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُ أَحْكَامِهِمَا فِي الْأَصْلِ، امْتَنَعَ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ وَالْمَعَانِي، فَإِذَا اخْتَلَفَ (أَحْكَامُ) الْأَصْلَيْنِ فِي مَوْضُوعِهِمَا اسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ عِلِّيَّتِهِمَا الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقُ الْحُكْمَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ الْمُوجِبِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ. قَالَ: وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ قِيَاسُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الْحَلْقِ، وَلَا كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي اعْتِبَارِ الرُّبُعِ فِيمَا يَذْهَبُ مِنْ الْأُذُنِ، وَالْعَيْنِ، أَوْ الذَّنَبِ، بَلْ اعْتَبَرُوا فِيهَا بَقَاءَ الْأَكْثَرِ، وَمَنَعُوا قِيَاسَهُ عَلَى الْحَلْقِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ لِمَا وَصَفْنَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، (وَمُحَمَّدٌ) ، فِيمَنْ جَامَعَ مِرَارًا فِي إحْرَامِهِ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ، أَنَّهُ يَجِبُ لِكُلِّ جِمَاعٍ دَمٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ دَمٌ وَاحِدٌ، مَا لَمْ يُكَفِّرْ، قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَرُدَّاهَا عَلَى كَفَّارَةِ رَمَضَانَ، لِمُخَالَفَةِ كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ لِكَفَّارَةِ رَمَضَانَ فِي مَوْضُوعِهِمَا فِي الْأَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 أَلَا تَرَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ لَا يُسْقِطُهَا الْعُذْرُ، وَأَنَّ كَفَّارَةَ رَمَضَانَ لَا تَجِبُ مَعَ الْعُذْرِ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُمَا فِي الْأَصْلِ، لَمْ تُرَدَّ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قِيَاسِنَا الْخُلْعَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْلَيْهِمَا،؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَوْضُوعِ أَحْكَامِهِمَا،؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ دَمُ الْعَمْدِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الدَّمِ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَيَجُوزُ إسْقَاطُهُ فِي الْمَرَضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَيَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا تَجْرِي مِثْلُهَا فِي الْبِيَاعَاتِ. فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفَا فِي مَوْضُوعِ أَحْكَامِهِمَا فِي الْأَصْلِ، سَاغَ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا قَدَّمْنَا حِكَايَتَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ: هُوَ ضَرْبٌ مِنْ تَرْجِيحِ الْعِلَلِ إذَا عَارَضَتْهَا عِلَلٌ غَيْرُهَا، فَيَكُونُ إلْحَاقُهَا بِجِنْسِهَا، وَ (مَا) هُوَ مِنْ بَابِهَا، وَفِي حُكْمِهَا أَوْلَى. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْقِيَاسِ مَقْصُورًا عَلَى رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا، دُونَ غَيْرِهِ (فَلَا، بَلْ) الْقِيَاسُ جَائِزٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَادِثَةُ، وَعَلَى مَا يُعَدُّ مِنْهَا بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ. وَمَسَائِلُ أَصْحَابِنَا واعتلالاتهم تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْقَائِسِينَ يَمْنَعُ مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ. وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَرُدُّ الْوَطْءَ الْكَثِيرَ الْوَاقِعَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى جِهَةِ الرَّفْضِ، وَالْإِحْلَالِ، فِي بَابِ وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ عَلَى الْوَطْءِ الْكَثِيرِ الْوَاقِعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، لَمَّا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَجِبْ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (جَوَازَ) قَضَاءِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أَكَانَ يَجْزِي عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ» وَرَدَّ إبَاحَةَ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ إلَى الْمَضْمَضَةِ، وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 فَإِنْ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْقَائِسِينَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي اعْتِبَارِ الْحَادِثَةِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا، عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا، كَانَ سَائِغًا، وَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهًا يُقَوِّي فِي النَّفْسِ رُجْحَانَ الْعِلَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ تَرَكَ اعْتِبَارَ الْجِنْسِ وَاعْتَبَرَ الْمَعْنَى عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَوِّيًا لِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ، وَ (إنْ) لَمْ يَرُدَّهُ إلَى جِنْسِهِ كَانَ جَائِزًا، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّ طَرِيقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِ الِاجْتِهَادُ، وَغَالِبُ الظَّنِّ. فَمَنْ اعْتَبَرَهَا بِبَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا سَاغَ لَهُ (ذَلِكَ) عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ عَلَمُ الْحُكْمِ، وَأَمَارَتُهُ، وَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْحَادِثَةِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 [بَابُ وَصْفِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَيْفَ اسْتِخْرَاجُهَا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ وَصْفًا لِلْأَصْلِ الْمَعْلُولِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ لَازِمًا لِلْأَصْلِ لَا يُزَايِلُهُ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ لَازِمًا، بَلْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ فِيهِ. فَمِنْ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلْأَصْلِ: مَا هِيَ عِلَّةٌ فِيهِ، نَحْوُ صِفَةِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ أَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ، وَكَوْنِ دَمِ عِرْقٍ صِفَةً لَازِمَةً لِسَائِرِ الدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، مَا خَلَا الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْوَصْفَ عِلَّةً لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ. وَمِمَّا لَا يَكُونُ وَصْفًا لَازِمًا لِلْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ الصِّفَةُ عَلَى حَسَبِ عَادَةِ النَّاسِ فِي التَّعَامُلِ بِهِ: الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لَازِمَةً لِلْأَصْلِ الْمَعْلُولِ. إذْ جَائِزٌ أَنْ يَتْرُكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بِهِمَا كَيْلًا، أَوْ وَزْنًا. وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ مَا هَذَا وَصْفُهُ مِنْ الْمَعْلُولِ، وَبَيْنَ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلْأَصْلِ مِمَّا لَا يُفَارِقُهُ، وَلَيْسَ لِكَوْنِ هَذَا الْوَصْفِ غَيْرَ مُفَارِقٍ لَهُ مِنْ مَزِيَّةٍ عَلَى الْآخَرِ فِي بَابِ الْعِلَلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُخَالِفَنَا قَدْ جَعَلَ الشِّدَّةَ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ؟ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَيَصِيرَ خَلًّا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ يَكُونُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ وَأَكْثَرَ، وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا وَاحِدًا. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَوْصَافِهِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ. فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ ذَاتَ أَوْصَافٍ فَجَمِيعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّ كُلَّ وَصْفٍ مِنْهَا عِلَّةٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ. وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَصْفٍ مِمَّا ذَكَرْنَا عِلَّةً، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِانْفِرَادِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 فَمِنْ الْعِلَلِ الَّتِي تَكُونُ ذَاتَ أَوْصَافٍ، نَحْوُ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ، إذَا أَرَدْنَا قِيَاسَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ التَّفَاضُلِ، فَنَقُولُ: إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وُجُودُ زِيَادَةِ كَيْلٍ فِي جِنْسٍ. فَكَانَتْ زِيَادَةُ الْكَيْلِ مَعَ الْجِنْسِ بِمَجْمُوعِهَا عِلَّةً لِفَسَادِ الْبَيْعِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْجِنْسَ عَلَى الِانْفِرَادِ عِلَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا الْكَيْلَ عَلَى الِانْفِرَادِ لِمَا وَصَفْنَا. وَنَظِيرُهُ: قَوْلُنَا فِي سُؤْرِ السِّبَاعِ الَّتِي يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهَا إنَّهُ نَجَسٌ، قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ، لَا لِحُرْمَتِهِ وَيُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ. فَالْعِلَّةُ هَهُنَا ذَاتُ أَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ لَا لِحُرْمَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ فِي الْعَادَةِ، وَمَتَى أَخْلَلْت شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ لِمَجْمُوعِهَا عِلَّةً لِتَحْرِيمِ السُّؤْرِ. وَمِمَّا يَكُونُ الْعِلَّةُ فِيهِ وَصْفًا (وَاحِدًا) مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ. قَوْلُنَا: إنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، وَالْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، فَكَانَ هَذَا الْوَصْفُ الْوَاحِدُ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ النَّسَاءِ، وَكَانَ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةً لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ. وَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَاتٌ لِلْأَحْكَامِ، وَعَلَامَاتٌ لَهَا، لَا عَلَى جِهَةِ إيجَابِهَا لَهَا كَإِيجَابِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ لِأَحْكَامِهَا عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهَا فِي ذِكْرِ وَصْفِ الْعِلَلِ، فَإِنَّمَا تُعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهَا حَسَبَ تَعَلُّقِهَا بِالْأَسْمَاءِ، فَيَكُونُ الِاسْمُ (عَلَمًا لِوُجُوبِ) الْحُكْمِ، لَا عَلَى جِهَةِ إيجَابِهِ لَهُ. كَذَلِكَ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ هَذِهِ سَبِيلُهَا، وَمِنْ أَجْلِ مَا ذَكَرْنَا جَازَ وُجُودُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ - الَّتِي هِيَ عِلَلُ الْأَحْكَامِ - عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ (حُكْمُ) عِلَلِ الشَّرْعِ مَقْصُورًا عَلَى مَوْضِعِ النَّصِّ، وَالِاتِّفَاقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 غَيْرَ مُتَعَدٍّ إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ،؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ بِهَذَا الْوَصْفِ لَمْ تَكُنْ عِلَلًا. وَعِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ عِلَلِ الشَّرْعِ مَا لَا يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ وَلَا يُفَارِقُ الْمَنْصُوصَ، أَوْ الِاتِّفَاقَ. نَحْوُ قَوْلِهِمْ: إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنَّهُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ، وَقَوْلِهِمْ: إنَّ أَوْلَادَ الْمَاشِيَةِ ضُمَّتْ إلَى أُمَّهَاتِهَا، إذَا حَدَثَتْ فِي الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهَا مِنْهَا، وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْرِفُ عِلَلَ الْأَحْكَامِ وَمَعَانِيَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ وَاضِحُ الْفَسَادِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ إنَّمَا تُسْتَخْرَجُ لِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ بِهَا، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مُسْتَغْنٍ بِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّصِّ عَنْ اسْتِخْرَاجِ عِلَّةٍ لِإِيجَابِهِ، فَلَا مَعْنَى لِاسْتِخْرَاجِهَا لَهُ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ لَوْ كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا لَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْقِيَاسِ وَاسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ، فَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالنَّصِّ، فَلَا مَعْنَى لِاسْتِخْرَاجِ عِلَّتِهِ، وَإِنَّمَا تُسْتَخْرَجُ الْعِلَّةُ مِنْ النَّصِّ لِلْفَرْعِ، لَا لِنَفْسِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ عِلَلَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تُسْتَخْرَجُ لِلْقِيَاسِ بِهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَكُلُّ عِلَّةٍ لَا يَقَعُ بِهَا قِيَاسٌ فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ، فَلَا مَعْنَى لَهَا إذَنْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَجَازَ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ، فَإِذَنْ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ سَاقِطٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّتِهِ، كَمَا سَقَطَ فِي اسْتِخْرَاجِ حُكْمِهِ. وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ إنَّمَا كَانُوا يَجْتَهِدُونَ آرَاءَهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ فِي الْحَوَادِثِ، وَلَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 يَكُونُوا يَجْتَهِدُونَ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَلِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ لِغَيْرِهَا إلَيْهَا. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ، وَلَتَكَلَّمُوا فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَلِ النُّصُوصِ، وَإِنْ لَمْ يَقِيسُوا بِهَا، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي عِلَلِ الْقِيَاسِ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ اخْتِلَافُهُمْ وَأَقَاوِيلُهُمْ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ، وَوُجُوهِ اسْتِخْرَاجَاتهمْ. فَدَلَّ تَرْكُهُمْ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي اعْتِبَارِهِ فَائِدَةٌ وَلَا مَعْنًى. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعِلَلَ إنَّمَا تُسْتَخْرَجُ (لَأَغْيَارِ الْأَصْلِ) . فَأَمَّا الْأَصْلُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الْعِلَّةُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ جَمِيعَ أَوْصَافِهَا؛ لِأَنَّهَا (لَا) تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا. فَكَذَلِكَ (غَيْرُ) جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهَا بَعْضَ أَوْصَافِهَا الَّذِي لَا تَتَعَدَّى (بِهِ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَكِيمِ وَالسَّفِيهِ: أَنَّ الْحَكِيمَ تَتَعَلَّقُ أَفْعَالُهُ بِأَغْرَاضٍ مَحْمُودَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالُهُ مُتَعَلِّقَةً بِأَغْرَاضٍ مَحْمُودَةٍ، مِنْ حَيْثُ كَانَ حَكِيمًا لَا يَجُوزُ مِنْهُ الْعَبَثُ، (وَتِلْكَ) الْأَغْرَاضُ هِيَ الْعِلَلُ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى أُصُولَهَا. قِيلَ لَهُ: مِنْ هَهُنَا أُتِيتَ، وَذَلِكَ لِأَنَّك حِينَ جَهِلْتَ عِلَلَ الْمَصَالِحِ، وَعِلَلَ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ تَنْفَصِلْ عِنْدَك إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى، أَجْرَيْتَهُمَا مَجْرًى وَاحِدًا. وَعِلَلُ الْمَصَالِحِ لَيْسَتْ هِيَ الْعِلَلَ الَّتِي يُقَاسُ عَلَيْهَا. أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ، وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ صَاحِبَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لَمَّا فَعَلَ تِلْكَ الْأَفَاعِيلَ الَّتِي اسْتَنْكَرَ مُوسَى ظَاهِرَهَا مِمَّا لَمْ يَقِفْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى عِلَلِهَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالرَّأْيِ، وَلَمْ يَعْلَمْهَا إلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ حِينَ بَيَّنَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ} [الكهف: 79] {وَأَمَّا الْغُلَامُ} [الكهف: 80] {وَأَمَّا الْجِدَارُ} [الكهف: 82] وَعِلَلُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا هِيَ أَوْصَافٌ فِي الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ، وَالْمَصَالِحُ نَفْسُهَا هِيَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَقَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ وُرُودِ النَّصِّ: أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا حِكْمَةً وَصَوَابًا، وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ. وَعِلَلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ إنَّمَا هِيَ فِي الْمُتَعَبَّدِينَ لَا فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِهَا لَفَسَدْنَا، وَإِذَا تَعَبَّدَنَا بِهَا صَلُحْنَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلَلِ الْأَحْكَامِ فِي شَيْءٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَلُ الَّتِي نَسْتَخْرِجُهَا مِمَّا لَا يَتَعَدَّى هِيَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَثْمَانًا، لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُمَا أَثْمَانًا إنَّمَا كَانَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَكَوْنُ الْأَوْلَادِ مِنْ الْأُمَّهَاتِ لَيْسَتْ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ، وَأَنْتَ إذَا اسْتَخْرَجْتَ عِلَّةَ النُّصُوصِ فَإِنَّمَا تَسْتَخْرِجُهَا لِتَجْعَلَهَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةُ الْأَحْكَامِ عِلَّةَ الْمَصْلَحَةِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ، لَمَّا كَانَ عِنْدَكَ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ أَبَدِيًّا مَوْجُودًا، وَأَنْ لَا يَصِحَّ إبَاحَةُ التَّفَاضُلِ فِيهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا؛ لِأَنَّ عِلَلَ الْمَصَالِحِ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا. وَقَدْ عَلِمْنَا وُجُودَ كَوْنِهِ مَأْكُولًا مَعَ إبَاحَةِ التَّفَاضُلِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِلَلَ الْأَحْكَامِ لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّ عِلَلَ الْأَحْكَامِ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ أَوْصَافًا لِلْأُصُولِ الْمُقْتَضَبِ مِنْهَا الْعِلَلُ. وَعِلَلُ الْمَصَالِحِ إنَّمَا هِيَ مَعَانٍ فِي الْمُتَعَبَّدِينَ لَا فِي الْأُصُولِ الْمُتَعَبَّدِ بِهَا، وَتِلْكَ الْمَعَانِي لَا نَعْلَمُهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي تَعَبَّدَنَا بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 فَإِنْ قَالَ: قَوْلُكُمْ: إنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّةٍ لَا تَعْدُو النَّصَّ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ أَنَّهُ نَعْلَمُ (أَنَّ) اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَقَدْ اسْتَفَدْنَا مَعْنًى لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْعِلَّةُ لَمْ نَسْتَفِدْهُ. وَنَسْتَحِقُّ بِالتَّوَصُّلِ إلَى هَذَا الْعِلْمِ ثَوَابًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ فَائِدَتَنَا فِيهِ. قِيلَ لَهُ: أَتَعْنِي بِقَوْلِك: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّحْرِيمِ لَا مَحَالَةَ، أَوْ عَنَيْتَ أَنَّ الْمَعْنَى (قَدْ) كَانَ يَجُوزُ وُجُودُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ نَصًّا. فَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ مِنْ طَرِيقِ الْحِكْمَةِ، وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ لَا يُحَرِّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى. قِيلَ لَهُ: فَقَدْ أَجَزْتَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَ الْعَبَثِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى إذَا لَمْ يَقْتَضِ التَّحْرِيمَ، وَلَمْ يُوجِبْهُ مِنْ طَرِيقِ الْحِكْمَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنِّي حَرَّمْته لِأَجْلِ الْمَعْنَى، كَمَا لَا يَجُوزُ، أَنْ يَقُولَ: حَرَّمْته لِأَجْلِ أَنِّي خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، (إذْ لَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالْحُكْمِ) فَإِنْ قَالَ: يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى فُرُوعِهَا مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَك غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ جَعَلْتهَا عِلَلًا لَهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ تِلْكَ عِلَلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَنَا، وَلَا نُعَلِّقُ وُجُوبَ الْحَقِّ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَاتٌ كَالْأَسْمَاءِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَأَنْتَ حِينَ عَلَّلْت النَّصَّ، فَإِنَّمَا رُمْتَ إثْبَاتَ عِلَلِهِ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا عَلَامَةٌ؛ لِأَنَّ مَا قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالنَّصِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ تَكُونُ عَلَامَةً لِحُكْمِهِ. فَإِنْ قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّيْءَ مِنْ أَجْلِهِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 قُلْنَا لَهُ: فَهَذِهِ عِلَلُ الْمَصَالِحِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ مَعَانِيَ (فِي) الْمُتَعَبَّدِينَ. مِنْ أَجْلِهَا، وَجَبَ أَنْ يَتَعَبَّدُوا بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ؛ إذْ كَانُوا بِهَا يَصْلُحُونَ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهَا لَفَسَدُوا عِنْدَهُ، وَلَا تَكُونُ تِلْكَ أَمَارَاتٍ لِلْأَحْكَامِ. فَقَوْلُك: إنَّ فَائِدَةَ الْعِلَلِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى أَنِّي أَعْلَمُ اللَّهَ لِمَ حَرَّمَهَا، كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّمَا احْتَجْنَا إلَى الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُخَالِفِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ عِلَلِ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، وَإِنَّمَا يُقَلِّدُونَ فِيهَا قَوْمًا جُهَّالًا مِثْلَهُمْ. ثُمَّ يُعَارِضُونَ عَلَى عِلَلٍ جَارِيَةٍ فِي فُرُوعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا بِعِلَلٍ يَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ غَيْرِ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى فَرْعٍ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُوجِبَةٌ لِمِثْلِ الْحُكْمِ الَّذِي تَنَازَعُوهُ فِي الْفُرُوعِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ مُعَارِضًا لِتِلْكَ الْعِلَلِ الصَّحِيحَةِ، الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى مَوَاضِعِ الْخِلَافِ، فَيَنْتَظِمُونَ بِهِ الْخَطَأَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِلَالُهُمْ بِعَلَّةٍ لَا تَعْدُو مَوْضِعَ النَّصِّ، أَوْ الِاتِّفَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَوْ صَحَّ عِلَّةً لَمَا عَارَضَ اعْتِلَالَ الْخَصْمِ لِأَنَّهُمَا (حِينَئِذٍ) يُوجِبَانِ حُكْمًا وَاحِدًا، إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْأُخْرَى فِيمَا يُوجِبُهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِنَا: فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، إذَا تَفَاضَلَا: إنَّهُمَا وُجُودُ زِيَادَةٍ فِي جِنْسٍ، فَيُعَارِضُونَ عَلَيْهَا بِأَنْ يَقُولُوا: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَنَّهُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ، وَكَوْنُهُمَا أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ لَا تَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ، وَإِذَا عَلَّلْنَا وُجُوبَ ضَمِّ الْأَوْلَادِ إلَى الْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ مَالٍ فِي الْحَوْلِ عَلَى نِصَابٍ. قَالُوا: الْعِلَّةُ فِي الْأَوْلَادِ أَنَّهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ، فَيَجْعَلُونَ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَى عِلَّةً لِلْحُكْمِ. وَيَرُومُونَ بِهِ مُعَارَضَتَنَا فِي اعْتِلَالِنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 بِمَا وَصَفْنَا، وَهَذَا خَطَأٌ وَجَهْلٌ مُفْرِطٌ. ، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا فَائِدَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعِلَلَ تُقْتَضَبُ لِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا حُكْمٌ مَعْلُولٌ بِالنَّصِّ. قَالُوا: فَائِدَتُهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَنَا لِمَ حَرَّمَهُ، فَيَعْدِلُونَ عَنْ بَعْضِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ عِلْمَنَا بِذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمَ الَّذِي تَنَازَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا نَحْتَاجُ أَنْ يُعَارِضَنَا بِعِلَّةٍ تُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ بِضِدِّ مُوجَبِ عِلَّتِنَا، وَإِلَّا كَانَتْ مُعَارَضَةً سَاقِطَةً. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ جَعَلَ عِلَّةَ الْمَسْأَلَةِ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهَا (لَا يَعْدُوهَا، وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَ عِلَّتَهَا جَمِيعَ أَوْصَافِهَا فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهَا جَمِيعَ أَوْصَافِهَا) ؛ لِأَنَّهَا (لَا) تَعْدُوهَا، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَوْصَافِهَا عِلَّةً (لَهَا) ، مِمَّا لَا يَعْدُوهَا. وَأَمَّا وَجْهُ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقِيَاسِ بِهَا، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ تَشَابُهَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي صُورَتِهِمَا وَذَوَاتَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا، مَا دَامَ يَجِدُ لَهُ شَبَهًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ اشْتِبَاهَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: كَنَحْوِ قَوْلِ الْأَصَمِّ: فِي أَنَّ تَرْكَ الْقَعْدَةِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا (لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقَعْدَةِ الْأُولَى لَا يُفْسِدُهَا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 قَالَ: وَلَا شَيْءَ أَشْبَهُ بِالْقَعْدَةِ مِنْ قَعْدَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا، هُمَا مَفْعُولَتَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَوَجَبَ قِيَاسُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَكَقَوْلِهِ: فِي نَفْيِهِ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى نَفْيِ إيجَابِ سَائِرِ الْأَذْكَارِ الْمَفْعُولَةِ مِنْ الصَّلَاةِ، كَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى، وَذِكْرِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَنَحْوِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهَا ذِكْرٌ مَفْعُولٌ فِي الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَذْكَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَكَقَوْلِهِ: إنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ (لَيْسَ بِفَرْضٍ، لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ) سَائِرَ التَّكْبِيرَاتِ الْمَفْعُولَةِ بَعْدَهَا فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ فَرْضًا، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَشْبَهُ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ مِنْ سَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ الْمَفْعُولَةِ فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا عِنْدَنَا إنَّمَا نَعْتَبِرُهُ مَا وَجَدَ فِي الْأُصُولِ شَبَهًا لِلْحَادِثَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ تَجِدْ لِلْحَادِثَةِ شَبَهًا فِي الْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَوْصَافٍ أُخَرَ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ: إنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهَا الْجِنَايَةُ عَلَى الْحُرِّ، فَمَا وَجَبَ فِي الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ وَجَبَ فِي الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ. قَالَ: وَهُوَ يُشْبِهُ الْحُرَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعِبَادَةُ، وَفِي قَتْلِهِ الْكَفَّارَةُ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبِيدِ. وَيُشْبِهُ الْبَهِيمَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سِلْعَةٌ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَأَنَّ عَلَى مُتْلِفِهِ الْقِيمَةَ. فَاعْتَبَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الشَّبَهَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُضَارِعُ قَوْلَ الْأَصَمِّ مِنْ وَجْهٍ، وَيُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 فَمُوَافَقَتُهُ الْأَصَمَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ ظَاهِرَ الشَّبَهِ، وَعَدَّدَ وُجُوهَهُ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ، كَمَا ذَكَرَ الْأَصَمُّ ظَاهِرَ الشَّبَهِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا. وَيُخَالِفُ قَوْلَ الْأَصَمِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصَمَّ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ مِنْ جِهَةِ أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ، وَذَوَاتِهَا، وَصُوَرِهَا، وَجَمَعَ بَيْنَ حُكْمِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ. وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ عَدَّ أَحْكَامَ الْحُرِّ وَأَحْكَامَ الْبَهِيمَةِ، فَجَعَلَ الْعَبْدَ مُشْبِهًا لِلْحُرِّ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ، وَمُشْبِهًا لِلْبَهِيمَةِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ فِي الْأَحْكَامِ، لَا فِي الْأَعْيَانِ وَالصُّوَرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَعْتَبِرُ كَثْرَةَ الشَّبَهِ فِي الْأَحْكَامِ. فَمَا أَشْبَهَ الْحَادِثَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي أَحْكَامِهَا، أَوْلَى مِمَّا أَشْبَهَهَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ كُلَّمَا كَثُرَتْ جِهَاتُ الشَّبَهِ كَانَ الْحُكْمُ لِلْكَثْرَةِ عِنْدَهُمْ. نَحْوُ قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ إيجَابَ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ دُونَ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ - زَعَمَ - يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ، وَيَجِبُ بِهِ الْهَدْيُ، وَيُوجِبُ الْحَدَّ إذَا صَادَفَ غَيْرَ مِلْكٍ وَلَا شِبْهٍ، وَيُوجِبُ الْغُسْلَ. فَلَمَّا كَانَتْ الْأَحْكَامُ الْمُعَلَّقَةُ بِالْجِمَاعِ أَكْثَرَ مِنْهَا بِالْأَكْلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ إذْ كَانَ الْأَكْلُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ فَحَسْبُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْجِمَاعِ دُونَ غَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهِ، أَوْلَى. وَيُحْكَى عَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا قِيَاسَ لِقَائِسٍ إلَّا عَلَى أَصْلٍ مَعْلُومٍ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّهُ إنَّمَا اعْتَبَرَ إجْمَاعَ الْقَائِسِينَ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مَعْلُولًا، وَمَتَى لَا يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ لَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِنُفَاتِ الْقِيَاسِ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ. وَقَالَ جُلُّ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ النَّظَّارِينَ: إنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِي لَحَاقِ الْحَادِثَةِ بِأُصُولِهَا بِتَشَابُهِهَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ وَأَمَارَتُهُ، يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ طَلَبُهُ وَتَتَبُّعُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْمَعْنَى بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَجَبَ إجْرَاؤُهُ فِي فُرُوعِهِ، وَالْحُكْمُ لَهَا بِحُكْمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى شَبَهًا مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الِاسْمِ؛ إذْ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ أَنْ يُرَدَّ الْفَرْعُ إلَى الْأَصْلِ بِالِاسْمِ، إذَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ، فَيَكُونُ الِاسْمُ حِينَئِذٍ عَلَمَ الْحُكْمِ، وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ وَأَمَارَتُهُ، (وَنُسَمِّيهِ عِلَّةً) مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالتَّوَقُّفِ عَلَيْهِ. وَالْآخَرُ: بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَهُوَ طَرِيقَةُ أَبِي الْحَسَنِ الَّتِي كَانَ يَسْلُكُهَا، وَيَعْتَبِرُهَا فِي الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَهِيَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 [بَابٌ فِي ذِكْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْقِيَاس مَعْلُولًا] بَابٌ فِي ذِكْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مَعْلُولًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ يُعْلَمُ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا قَوْلُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، فِي نَفْيِ الْعِلَّةِ، أَوْ قَوْلُ مُثْبِتِيهِ فِي إثْبَاتِهَا، فَلَمَّا صَحَّ عِنْدَنَا وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَصِحَّتِهِ، وَبُطْلَانِ قَوْلِ نُفَاتِهِ، ثُمَّ أَجْمَعَ مُثْبِتُوهُ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مَعْلُولًا، صَارَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُوجِبًا لِصِحَّتِهِ، وَقَدْ يَثْبُتُ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِالتَّوَقُّفِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَبِفَحْوَى النَّصِّ وَبِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَا ثَبَتَ مَعْلُولًا بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ، فَهُوَ خَبَرُ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ، وَمَا ثَبَتَ مَعْلُولًا بِالتَّوْقِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ» «وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَرِيرَةَ: مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَمَا يُعْلَمُ بِفَحْوَى النَّصِّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى بِهِ تَعَلَّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، وَبِزَوَالِهِ زَالَ. وَكَقَوْلِهِ فِي السَّمْنِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ: «إنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا» دَلَّنَا فَحْوَى خِطَابِهِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى بِهِ تَعَلَّقَ حُكْمُ النَّجَسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وَمِنْهَا مَا يُسْتَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا، بِدَلَائِلِ الْأُصُولِ، نَحْوُ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ، وَامْتِنَاعِهِ بِخُرُوجِ الْعَرَقِ، وَالدَّمْعِ (وَالْبُزَاقِ) ، وَنَحْوِهَا. فَيَدُلُّنَا ذَلِكَ عَلَى انْتِقَاضِهَا بِخُرُوجِ الْبَوْلِ مُعَلَّلٍ، يَجِبُ اعْتِبَارُهُ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ، فَيُحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى اعْتِبَارِ تَصْحِيحِ الْمَعْنَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 [بَابٌ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاس] بَابٌ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ بَعْضَ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ كَانَتْ هِيَ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا، وَكَأَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَعْلُولًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَاقْتِضَابِ الْعِلَلِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا احْتَجْنَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْقِيَاسِ إلَى طَلَبِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، وَتَبَيُّنِ مِمَّا لَيْسَ بِعِلَّةٍ لَهُ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ عَلَى حِيَالِهِ عِلَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَقِضُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ أَوْصَافِ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ، وَأَنَّهُ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ وَأَنَّهُ مَأْكُولٌ، وَأَنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرٌ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، وَأَنَّهُ حَبٌّ وَأَنَّهُ شَيْءٌ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ جِسْمٌ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ عَلَى حِيَالِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ عِلَّةَ الْحُكْمِ أَيَّ وَصْفٍ شَاءَ الْقَائِسُ جَعْلَهُ عِلَّةً. هَذَا مُمْتَنِعٌ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَاجِبٌ إذَنْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ بَعْضَ أَوْصَافِهِ، إمَّا وَصْفٌ وَاحِدٌ، أَوْ وَصْفَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ، أَوْ نَحْوُهَا، بَعْدَ أَنْ لَا يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْوَصْفُ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ وَأَمَارَتُهُ - وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ (عِلَّةٌ لَهُ) - لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ اقْتِضَابُ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، وَجَعْلُهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ (كَهُوَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ) ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَلَّمَ لِمُدَّعِي الْحُكْمِ دَعْوَاهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، كَذَلِكَ مُدَّعِي الْعِلَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى دَعْوَاهُ لَهَا دُونَ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهَا مِنْ وُجُوهِ (الدَّلَائِلِ، فَالْعِلَلُ) مُخْتَلِفَةٌ: فَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا. فَيَجِبَ اعْتِبَارُهَا فِي نَظَائِرِهَا، كَمَا اعْتَبَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْله تَعَالَى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قِسْمَةِ السَّوَادِ فَحِينَ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِلَالِ عَرَفُوا صِحَّةَ اسْتِدْلَالِهِ، وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102] فَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي إبَاحَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا ذَكَرَ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ لِاسْتِغْفَالِنَا عَنْ التَّأَهُّبِ لِقِتَالِهِمْ. فَلَوْ قَاتَلْنَا الْبُغَاةَ وَالْخَوَارِجَ جَازَ لَنَا صَلَاةُ الْخَوْفِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي الْمُشْرِكِينَ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْبُغَاةِ وَالْمُحَارِبِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 نَحْوُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» «وَقَوْلُهُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ، وَلَيْسَتْ الْحَيْضَةَ فَتَوَضَّئِي» . فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: «إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ» ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَأَعْلَمَهَا: أَنَّ الَّذِي بِهَا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ، وَهُوَ دَمُ عِرْقٍ. قِيلَ لَهُ: لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: إنَّهَا لَيْسَتْ الْحَيْضَةَ، فَلَمَّا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: «إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ» ، عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَفَادَهَا بِذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِالْحَيْضَةِ. وَالثَّانِي: تَعْلِيلُهُ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ بِأَنَّهَا دَمُ عِرْقٍ، لِيُعْتَبَرَ فِي نَظَائِرِهِ. وَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ مَا كَانَ لِقَوْلِهِ " إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ " مَعْنًى، وَلَا فَائِدَةٌ مَعَ قَوْلِهِ: إنَّهَا لَيْسَتْ الْحَيْضَةَ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ، التَّنْبِيهَ عَلَى الْعِلَّةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عِلَّةٌ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، وَرَدُّ نَظَائِرِهَا إلَيْهَا، حَتَّى يَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ، خَارِجٌ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» فَعَلَّلَ الْهِرَّةَ لِمَعْنًى يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي أَشْبَاهِهِمَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: النَّاسُ فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّعْلِيلِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ نَصًّا عَلَى (كُلِّ) مَا فِيهِ الْعِلَّةُ، وَيُجْرِيهِ مَجْرَى لَفْظِ الْعُمُومِ. وَالنَّظَّامُ مِمَّنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ. وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ قَالَ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَاعِزُ؛ لِأَنَّهُ ذُو أَرْبَعٍ، عَقَلْنَا مِنْ اللَّفْظِ تَحْرِيمَ كُلِّ ذِي أَرْبَعٍ) . وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، وَلَا النَّصِّ فِي جَمِيعِ مَا فِيهِ الْعِلَّةُ. فَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 وَأَمَّا مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ مِنْهَا: فَإِنَّهُ يَجْعَلُ وُجُودَ هَذَا التَّعْلِيلِ وَعَدَمَهُ سَوَاءً، وَيَجْعَلُ الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَى مَوْضِعِ النَّصِّ، مِمَّا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ، دُونَ مَا يُوجَدُ فِيهِ الْعِلَّةُ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إلْحَاقَ مَا يُوجَدُ فِيهِ الْعِلَّةُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، إنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، لَا مِنْ طَرِيقِ، النَّصِّ وَالْعُمُومِ،؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ. وَقَوْلُهُ: فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّهَا دَمُ عِرْقٍ، لَمْ يَتَنَاوَلْ الِاسْمُ مِنْهُ إلَّا دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ، لَيْسَ بِعُمُومٍ فِي غَيْرِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ، دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ، وَلَيْسَ لِأَنَّ غَيْرَهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا مَعَهُ؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ قَائِمٍ مَذْكُورًا مَعَهُ لِمُشَارَكَتِهِ إيَّاهُ فِي الْقِيَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ مَا فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعِلَلَ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ، لَهَا عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّا فِي حُكْمِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. فَمَتَى انْفَصَلَ الْحُكْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَلَّلًا بِوَصْفٍ مِنْ (الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ) ، عَلِمْنَا: أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا اعْتِبَارَهُ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ، وَإِجْرَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي نَظَائِرِهِ. وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْوَصْفِ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ لَنَا: هَذَا الْوَصْفُ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخِطَابِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضْعُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَمَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ، فَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنْهُ إجْرَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَاعْتِبَارَهُ بِهِ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ: أَنْ تَنْحَصِرَ عِلَلُ الْقَائِسِينَ عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ، ثُمَّ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ سَائِرِ الْوُجُوهِ، إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا مِنْهَا، فَيَكُونَ فَسَادُ مَا عَدَاهُ مِنْ الْوُجُوهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَحَدَ الْوُجُوهِ دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ كَوْنِهِ عِلَّةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هُنَاكَ عِلَّةً قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ، وَأَجْمَعُوا (عَلَى) أَنْ لَا عِلَّةَ فِي الْأَصْلِ إلَّا إحْدَى مَا عَلَّلُوا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا فَاسِدًا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْأَصْلَ مَعْلُولٌ بِعِلَّةٍ يَجِبُ بِهَا الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَمَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا عِلَّةَ هُنَاكَ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا صَحِيحَةً عَلَى اخْتِلَافِهَا، فَإِذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ سَائِرِهَا مَا عَدَا الْوَاحِدَةَ مِنْهَا، صَحَّتْ الْوَاحِدَةُ الَّتِي لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهَا. وَهَذَا كَمَا نَقُولُهُ أَيْضًا فِي الْمَذَاهِبِ وَأَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ: إنَّهُمْ مَتَى اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ، ثُمَّ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ سَائِرِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ إلَّا وَاحِدًا مِنْهَا، كَانَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى فَسَادِ سَائِرِ الْأَقَاوِيلِ غَيْرَ الْوَاحِدِ مِنْهَا، دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. نَحْوُ قَوْلِنَا فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا: إنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ، ثُمَّ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى، فَسَادِ الْقَوْلِ بِالْقُرْعَةِ، وَعَلَى فَسَادِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْقَائِفِ، وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُوقَفُ الْأَمْرُ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، صَحَّ الْقَوْلُ الرَّابِعُ، وَهُوَ أَنَّهُ وَلَدُهُمَا ثَابِتُ النَّسَبِ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الْعِلَلِ إذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ. وَمِمَّا كَانَ يَعْتَبِرُ أَبُو الْحَسَنِ فِي صَحِيحِ الْعِلَلِ وَهُوَ أَصَحُّ الْوُجُوهِ عِنْدَنَا فِيمَا طَرِيقُهُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، أَنْ يَنْظُرَ إلَى عِلَلِ الْقَائِسِينَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا فَمَا تَعَلَّقَ بِهَا الْأَحْكَامُ، وَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأُصُولِ. فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأُصُولِ. نَظِيرُ ذَلِكَ: أَنَّا إذَا اخْتَلَفْنَا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ عِنْدَ وُجُودِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَعْلُولَةِ، مِنْ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَجَدْنَا اعْتِبَارَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَوْلَى، لِتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، أَوْ فَسَادِهِ، دُونَ الْقُوتِ وَالِادِّخَارِ، وَدُونَ الْأَكْلِ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا. وَإِنَّمَا وَجَبَ اعْتِبَارُ تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ، (لِأَنَّ الْعِلَلَ هِيَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 الْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ لِلْأَحْكَامِ فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ. وَعِلَلُ الشَّرْعِ هِيَ الَّتِي جُعِلَتْ عَلَمًا لِلْحُكْمِ) ، فَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْبَابِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهُوَ أَوْلَى بِكَوْنِهِ عِلَّةً مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ؛ إذْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُقْتَضِيَةً لِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَنَّ الْبُرَّ بِالْبُرِّ لَوْ تَفَاضَلَا فِي الْجَوْدَةِ فِي كَوْنِهِمَا مَأْكُولَيْنِ، أَوْ مُقْتَاتَيْنِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ حُكْمٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، وَلَا فِي فَسَادِهِ، إذَا تَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ. وَلَوْ تَسَاوَيَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَتَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ، لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ، فَعَلِمْت أَنَّ سَائِرَ الْأَوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا مُخَالِفُونَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالزِّيَادَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْجِنْسِ مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُنَا: إنَّ اعْتِبَارَ الْخَارِجِ النَّجَسِ أَوْلَى بِإِيجَابِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ، مِنْ اعْتِبَارِ السَّبِيلِ، لِوُجُودِنَا الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْخَارِجِ، وَالسَّبِيلُ وَاحِدٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْخَارِجِ النَّجَسِ أَوْلَى لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ (بِهِ) ، دُونَ السَّبِيلِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ إحْدَى دَلَائِلِ صِحَّةِ الْعِلَلِ وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، فَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهَا. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا فِي عِلَلِ الشَّرْعِ. وَيَقُولُ: إنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ دَلِيلًا فِي عِلَلِ الْعَقْلِيَّاتِ. قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّا وَجَدْنَا الْمُخْتَلِفِينَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْلَال عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الصَّحِيحَةَ وَاحِدَةٌ (مِنْهَا) ، مَعَ وُجُودِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فِي جَمِيعِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (وَ) هَذَا الَّذِي مُنِعَ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْنَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 الْعِلَلِ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ، وَفِي مَعَانٍ قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لِلْحُكْمِ، مَعَ وُجُودِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: إنَّ وُجُودَ الشِّدَّةِ فِي الْخَمْرِ عِلَّةٌ فِي تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهَا، كَانَ قَائِلًا قَوْلًا فَاسِدًا، قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى فَسَادِهِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ تَكْفِيرَ مُسْتَحِلِّ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ لِوُجُودِ الشِّدَّةِ فِيهَا. وَقَدْ يُمْكِنُ مِنْ نَصْبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ لِتَكْفِيرِ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ: أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهَا بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَصِيرَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِدَّةٌ، لَمْ يُكَفَّرْ مُسْتَحِلُّهُ، ثُمَّ لَمَّا حَدَثَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ كَانَ مُسْتَحِلُّهُ كَافِرًا، ثُمَّ إذَا صَارَتْ خَلًّا وَزَالَتْ الشِّدَّةُ زَالَ الْحُكْمُ بِتَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ، فَكَانَ حُكْمُ تَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الشِّدَّةِ، مَوْجُودًا بِوُجُودِهَا، (وَ) مَعْدُومًا بِعَدَمِهَا، مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِتَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ: إذَا اخْتَلَفْنَا فِي الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا. فَأَجَازَهُ مُخَالِفُونَا قِيَاسًا عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، وَجَعَلُوا الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ ذَلِكَ كَوْنَهَا بِكْرًا، وَمَنَعْنَا نَحْنُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهَا، وَرَدَدْنَاهُ إلَى الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا (بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ) . وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِنَا: بِأَنَّا وَجَدْنَا الْبُلُوغَ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِهِ الْوِلَايَةُ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَلَمْ نَجِدْ لِلْبَكَارَةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ عِلَّتُنَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، لِمَا لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ فِي الْأُصُولِ وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا، وَكَانَ رَدُّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ إلَى الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ، أَوْلَى مِنْ رَدِّهَا إلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 فَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّهُ يُزَوِّجُهَا قِيَاسًا عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، بِعِلَّةِ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ، كَانَتْ عِلَّتُنَا صَحِيحَةً، لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، مِنْ مِنْ أَنَّ الصِّغَرَ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهَا ثَيِّبًا تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ اسْتِحْقَاقُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا بِالصِّغَرِ، وَزَوَالُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا بِالْبُلُوغِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الصِّغَرِ أَوْلَى عِلَّةً فِيمَا وَصَفْنَا؛ إذْ كَانَ جَوَازُ عَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا النِّكَاحَ ضَرْبًا مِنْ الْوِلَايَةِ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ عِلَلِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَالٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِكَوْنِ الْمَعْنَى عِلَّةً؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، يَجُوزُ عِنْدَنَا فِيهَا التَّخْصِيصُ، كَتَخْصِيصِ الِاسْمِ، وَتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا، وَاعْتِبَارُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ - بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا - هُوَ عِنْدِي وَجْهٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِسِينَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ. وَقَدْ كُنْت أَرَى أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ يَسْتَعْمِلُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَكَثِيرٌ مِمَّا فِي فَحْوَى النَّصِّ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى. أَلَا تَرَى: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّمْنِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ «إنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا» ، قَدْ دَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُجَاوَرَةَ النَّجَاسَةِ، هِيَ عِلَّةُ التَّنْجِيسِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَاوَرَتْ السَّمْنَ الْجَامِدَ أَمَرَ بِإِلْقَائِهَا وَمَا حَوْلَهَا مِمَّا جَاوَرَهَا، دُونَ مَا لَمْ يُجَاوِرْهَا، وَلَمَّا جَاوَرَ الْمَائِعَ، أَوْ عَامَّتَهُ أَمَرَنَا بِإِرَاقَةِ الْجَمِيعِ. فَعَلَّقَ حُكْمَ التَّنَجُّسِ بِمُجَاوَرَتِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَأَزَالَهُ بِزَوَالِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّقَ الْحُكْمَ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» بَعْدَ ذِكْرِهِ لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ. دَلَّ بِوُجُودِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْكَيْلُ وَالْجِنْسُ، أَوْ الْوَزْنُ وَالْجِنْسُ، عَلَى أَنَّهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ عِنْدَ وُجُودِ زِيَادَةِ الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ، وَدَلَّ لِإِبَاحَةِ التَّفَاضُلِ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا عِلَّةُ الْجَوَازِ. فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِوُجُودِ الْمَعْنَى وَأَزَالَهُ بِزَوَالِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ حَكَيْتَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ: أَنَّ أَحَدَ مَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَلِ، أَنْ يَكُونَ لِلْمَعْنَى تَأْثِيرٌ فِي الْأُصُولِ، وَيُعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَهَلْ هُوَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَوْجُودًا بِوُجُودِهِ مَعْدُومًا (بِعَدَمِهِ) . قِيلَ لَهُ: بَيْنَهُمَا فَصْلٌ، وَهُوَ لَطِيفٌ يَنْبَغِي أَنْ نَتَنَاوَلَهُ، وَذَلِكَ (أَنَّهُ) يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُهُ فِي الْأُصُولِ مِنْ غَيْرِ اقْتِصَارٍ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي اقْتَضَتْ الْعِلَّةُ مِنْهُ، حَسْبَ مَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الثُّيُوبَةِ وَالْبَكَارَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ بِهَا فِي النِّكَاحِ، أَوْ زَوَالِهَا وَوُجُوبِ اعْتِبَارِ الصِّغَرِ، وَالْبُلُوغِ، فِي بَابِ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ، أَوْ زَوَالِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ حُكْمِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ لِأَجْلِ الصِّغَرِ، وَزَوَالِهَا عَنْهُ بِالْكِبَرِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَمَا ذَكَرْته مِنْ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَعْنَى، وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لَنَا الْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَمَّا وَجَدْت الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا وَالثَّيِّبَ الْكَبِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا، عَلِمْت أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْوِلَايَةِ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ، هِيَ الْبَكَارَةُ لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهَا. فَيُعَارِضَهُ خَصْمُهُ بِأَنْ يَقُولَ: لَمَّا وَجَدْت الثَّيِّبَ الْكَبِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا الْأَبُ، وَالْبِكْرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 الصَّغِيرَةَ يُزَوِّجُهَا، دَلَّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مَنْعِ تَزْوِيجِ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ، فَيَكُونُ دَلِيلُهُ عَلَى صِحَّةِ (عِلَّتِهِ) وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَزَوَالَهُ بِزَوَالِهَا، فَقَدْ تَعَارَضَتْ الْعِلَّتَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَا يُمْكِنُ خَصْمَنَا أَنْ يُعَارِضَنَا فِي اسْتِدْلَالِنَا عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُودِ تَأْثِيرِهَا فِي الْأُصُولِ، وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا، بِمِثْلِ اسْتِدْلَالِنَا، فَتَصِيرُ حِينَئِذٍ عِلَّتُنَا أَوْلَى، فَبَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مِمَّا كَانَ يَأْبَاهُ فَرْقٌ (وَاضِحٌ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَنْ قَالَ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ، أَعْنِي وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعَهُ بِارْتِفَاعِهَا لَا يَصِحُّ لَهُ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُجِيزُ وُجُودَ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى عِلَّةً لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ بِعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اعْتَبَرَ هَذَا قَالَ لَهُ خَصْمُهُ: لَمَّا وَجَدْت الْحُكْمَ مَعْدُومًا مَعَ وُجُودِهِ وَمَوْجُودًا مَعَ عَدَمِهِ عَلِمْت أَنَّ مَا ذَكَرْته لَيْسَ بِعِلَّةٍ قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى دَلَالَةً صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ، وَيَكُونَ الْحُكْمُ جَارِيًا عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ (فَإِذَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ) امْتَنَعْنَا مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَسَادُ الدَّلَالَةِ، كَمَا يَقُولُ مُخَالِفُنَا: إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وُجُودُ الشِّدَّةِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَعَدَمِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَيُجْرِي هَذِهِ الْعِلَّةُ فِي النَّبِيذِ، ثُمَّ وَجَدْنَا حُكْمَ التَّكْفِيرِ مُتَعَلِّقًا بِالْخَمْرِ عِنْدَ وُجُودِ الشِّدَّةِ، وَزَائِلًا بِزَوَالِهَا، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ كَوْنَ الشِّدَّةِ عِلَّةً لِتَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ، مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الَّتِي اسْتَدْلَلْت بِهَا عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِكَ، كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَازَ عِنْدَنَا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، جَازَ تَخْصِيصُ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَمِنْ حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الَّذِي هِيَ مُقْتَضَبَةٌ مِنْهُ، جَازَ تَخْصِيصُهَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ اعْتِبَارِهَا فِيمَا لَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّا إنَّمَا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي الْأَصْلِ، وَوُجُودُ دَلَائِلِ تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ مُخْتَلِفَةٌ، لَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ وَاحِدٌ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّمَا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي الْأَصْلِ. وَأَمَّا مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِهِ عِلَّةً، فَإِنَّا (لَا) نَعْتَبِرُهُ عِلَّةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ ذَلِكَ: أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ قَدْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعِلَّةِ، وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعَهُ بِارْتِفَاعِهَا، وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْقَائِسِينَ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَتَى تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ مُتَضَادَّتَانِ فِيمَا تُوجِبَانِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَإِحْدَاهُمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُكْمُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي حَكَيْته عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مِنْ وُجُودِ تَأْثِيرِهِ فِي الْأُصُولِ، وَالْأُخْرَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهَا، أَنَّ مَا شَهِدَ لَهُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَكَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ التَّرْجِيحِ، مُوجِبًا لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ جَرْيَ الْعِلَّةِ فِي مَعْلُولَاتِهَا دَلَالَةً عَلَى صِحَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ (يُعَضِّدْهَا) دَلَالَةٌ غَيْرُهُ وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَنَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ، لَا يَرْجِعُ الْقَائِلُ بِهِ إلَّا إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ الَّذِي يُعَلِّلُهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّعَلُّلِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ دَعَاوَى إحْدَاهَا: دَعْوَى لِلْمَذْهَبِ الَّذِي يُخَالِفُهُ فِيهِ خَصْمُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 وَالثَّانِيَةُ: دَعْوَاهُ الْعِلَّةَ الَّتِي خِلَافُ خَصْمِهِ إيَّاهُ فِيهَا (كَهُوَ) فِي نَفْسِ الْمَقَالَةِ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَرَنَ إلَى دَعْوَاهُ الثَّانِيَةِ دَعْوَى تَالِيَةً تَجْعَلُهَا حُجَّةً لِمَقَالِهَا، لِزَعْمِهِ أَنَّهُ حِينَ قَالَ: فَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ بِهَا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، قَدْ خَالَفَ خَصْمَهُ فِيهَا، وَهِيَ دَعْوَى ثَالِثَةٌ، لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا لِيَصِحَّ الْمَذْهَبُ. فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ، وَتَحْصِيلُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ هَذِهِ أَنِّي ادَّعَيْتُ دَعْوَى أُخْرَى مِثْلَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالسُّؤَالُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ الثَّالِثَةِ كَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى؛ لِأَنَّ الدَّعَاوَى لَا تَصِحُّ بِأَنْفُسِهَا، إنَّمَا تَصِحُّ بِدَلَائِلِهَا. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَضْرِبُ بِهَذَا مَثَلًا وَيَقُولُ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: لِمَ سَرَقْتَ الْيَوْمَ؟ فَيَقُولُ: لِأَنِّي سَرَقْتُ أَمْسِ. وَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مِثْلِهِ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ، لَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى دَعْوَى الْعِلَّةِ نَفْسِهَا. فَيَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِي: أَنِّي قُلْته بِهَا. وَلَوْ جَازَ هَذَا، لَجَازَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ الَّذِي طُولِبَ بِتَصْحِيحِهِ. فَيَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِي دَعْوَايَ: أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ وَخَبْطٌ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى مِثْلِهِ إلَّا غَبِيٌّ. فَإِنْ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْعِلَّةِ فِي فُرُوعِهَا وَعَدَمَ انْتِقَاضِهَا بِدَفْعِ الْأُصُولِ لَهَا، وَفَقْدَ مُقَاوَمَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى لَهَا مُوجِبَةٍ الْحُكْمَ بِخِلَافِ مَا يُوجِبُهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَانْتَقَضَتْ، وَدَفَعَتْهَا الْأُصُولُ، وَقَاوَمَهَا مِنْ الْعِلَلِ مَا يُوجِبُ فَسَادَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَكَانَ اتِّسَاقُهَا وَعَدَمُ دَفْعِ الْأُصُولِ لَهَا وَمُقَاوَمَةُ عِلَلٍ أُخْرَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 إيَّاهَا، هِيَ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِصِحَّتِهَا، فَلَمْ نَكُنْ فِيمَا ادَّعَيْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ الْعِلَّةِ مُقْتَصَرِينَ عَلَى الدَّعْوَى حِين عَضَّدْنَاهَا بِدَلَالَةٍ غَيْرِهَا وَهِيَ مَا وَصَفْنَا. قِيلَ لَهُ: قَوْلُك: إنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهَا أَصْلٌ غَلَطٌ ثَانٍ، بَلْ الْأُصُولُ كُلُّهَا تَدْفَعُهَا؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ الَّتِي هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاتِّفَاقُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ، قَدْ حَكَمَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلٍ لَمْ يُعَضِّدْهُ قَائِلُهُ بِدَلَالَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] وَقَوْلُك: إنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى دَعْوَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا، بَلْ يَقُولُ خَصْمُك: إنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى: (إذْ لَا دَلَالَةَ لَك عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ دَعْوَاك لَهَا، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمَا أَخْلَى اللَّهُ تَعَالَى) مِنْ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا. فَصَارَتْ حَقِيقَةُ قَوْلِك هَذَا: إنَّ الدَّلَالَةَ لَمْ تَقُمْ عَلَى فَسَادِهَا، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الدَّلَالَةَ لَمْ تَقُمْ عَلَى فَسَادِهَا دَعْوَى لَيْسَ بِدَلَالَةٍ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَفَأَقَمْتَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَهَلُمَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ. ، وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ هَهُنَا دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّتِهَا غَيْرَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى فَسَادِهَا. (قِيلَ لَهُ: فَقُلْ مِثْلَهُ فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ، إنَّهُ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ، وَقَدْ اسْتَغْنَيْت عَنْ ذِكْرِ الْعِلَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَسُغْ لَك هَذَا فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ، فَالْعِلَّةُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّك مُدَّعٍ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَك عَلَى صِحَّتِهَا. وَقَدْ حَكَمَتْ الْأُصُولُ: بِأَنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، فَلَمَّا عَرِيَتْ عِلَّتُك هَذِهِ مِنْ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا، دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ اتِّسَاقَهَا وَعَدَمَ مُقَاوَمَةِ أُخْرَى لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّتِهَا. فَإِنَّا قَدْ قُلْنَا: إنَّ الْأُصُولَ قَدْ دَفَعَتْهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ مِثْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ. فَيَقُولَ: إنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِي أَنَّهُ مُتَّسِقٌ لَا يَدْفَعُهُ أَصْلٌ، وَلَا يُقَاوِمُهُ مَذْهَبٌ غَيْرُهُ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْمَذْهَبِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعِلَّةِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ دَعْوَى الْمَذْهَبِ يُقَاوِمُهَا الْخَصْمُ بِضِدِّهَا. قِيلَ: وَدَعْوَى الْعِلَّةِ يُقَاوِمُهَا دَعْوَى الْخَصْمِ أَنَّهَا عِلَّةٌ فَاسِدَةٌ، وَأَنَّ مَذْهَبِي صَحِيحٌ، فَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِكَ. أَلَا تَرَى: أَنَّ جَرْيَ الْعِلَّةِ فِي مَعْلُولِهَا إنَّمَا هُوَ دَعْوَاك، وَقَوْلُك غَيْرُ مَقْرُونٍ بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّك إذَا سُئِلَتْ عَنْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ فَقُلْت: إنَّهُ مَأْكُولٌ جِنْسٌ، فَاسْتَدْلَلْت عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جَارٍ فِي مَعْلُولِهِ، كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ، أَنِّي قُلْت فِي الْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ (وَالْعَدَسِ) وَالْأَرُزِّ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ، فَلَمْ تَحْصُلْ مِنْهَا إلَّا عَلَى الدَّعْوَى. وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الدَّعَاوَى يَكْفِي فِي مُعَارَضَتِهَا قَوْلُ الْخَصْمِ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ادَّعَيْتَ، لَا فِي هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْتَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ كَالْمَذْهَبِ نَفْسِهِ. إذَا خَالَفَك خَصْمُك فِيهِ، كَانَ خِلَافُهُ إيَّاكَ مُعَارِضًا لِقَوْلِك، وَمُقَاوِمًا لِمَذْهَبِك، إذَا لَمْ تُعَضِّدْهُ بِدَلَالَةٍ، فَتَحْصُلُ أَنْتَ وَهُوَ عَلَى الدَّعْوَى. وَيُقَالُ لَهُ: أَلَيْسَ الْقَائِلُونَ بِعِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا قَدْ أَجْرَى كُلٌّ مِنْهُمْ عِلَّتَهُ فِي مَعْلُولِهَا، فَوَاجِبٌ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا صَحِيحَةً، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ قَدْ حَصَلَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ هَذِهِ الْعِلَلِ هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، ثُمَّ قَدْ قَاوَمَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ صَاحِبَتَهَا فِي بَابِ جَرْيِهَا فِي مَعْلُولِهَا، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعْوِزُ خَصْمَك فِي كُلِّ عِلَّةٍ تَعْتَلُّ بِهَا وَتَقْتَصِرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْت، أَنْ يَنْصِبَ عِلَّةً بِإِزَاءِ عِلَّتِك مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ بِضِدِّ مُوجَبِ عِلَّتِك، مُعَارِضَةً لَهَا وَيُجْرِيهَا فِي مَعْلُولِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 وَيَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِي جَرْيُهَا فِي مَعْلُولِهَا. وَلَا يَنْفَكُّ حِينَئِذٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ تُسَوِّغَ لَهُ ذَلِكَ، فَتُصَحَّحَ الْعِلَّتَانِ جَمِيعًا، وَهُمَا تُوجِبَانِ حُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَيَلْزَمَك الْقَوْلُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَاعْتِقَادُ وُجُوبِ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا هُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَحْكَامِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَيُقَالُ لَهُ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا التَّضَادِّ وَالِاخْتِلَافِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَمَا أَدَّى إلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ؛ إذْ لَا يُسَوِّغُ لَهُ ذَلِكَ. فَيَقُولُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهَا بِجَرْيِهَا فِي مَعْلُولِهَا، فَهَذَا التَّضَادُّ الَّذِي ذَكَرْنَا ضَرْبٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتِلَافٌ ثَانٍ هُوَ مُنْتَفٍ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، دُونَ جَمِيعِهَا، لَمْ (يَجْرِ) الْجَمِيعُ مَجْرَى عِلَّتِهِ فِي مَعْلُولِهَا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الصَّحِيحَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ مَجْرَى الْعِلَّةِ فِي مَعْلُولِهَا عَلَامَةٌ لِصِحَّتِهَا، لَمَّا قَاوَمَتْهَا عِلَّةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يُقَاوِمُهُ الْبَاطِلُ، حَتَّى لَا يَنْفَصِلَ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] فَمَتَى وَجَدْنَا فِي مَذْهَبٍ هَذَا الِاخْتِلَافَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَحْنُ لَوْ اسْتَدْلَلْنَا بِالْآيَةِ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَكَانَتْ كَافِيَةً فِي إفْسَادِهَا، فَقَدْ بَانَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 أَحَدُهَا: أَنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَرْجِعْ فِي إثْبَاتِهِ إلَّا إلَى دَعْوَى. وَالْآخَرُ: أَنَّ الْأُصُولَ قَدْ حَكَمَتْ بِفَسَادِ كُلِّ قَوْلٍ لَا دَلَالَةَ لِقَائِلِهِ عَلَى صِحَّتِهِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ وَالْمَقَالَاتِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . وَمِنْ أَشْكَالِ ذَلِكَ: مَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعِلَّتَيْنِ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمًا وَاحِدًا، وَإِحْدَاهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْأُخْرَى: إنَّ أَعَمَّهُمَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، فَيَقْتَصِرُ فِي تَصْحِيحِ أَعَمِّهِمَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَضِّدَهُ بِدَلَالَةٍ. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ فِي عِلَّةِ الْأَكْلِ: إنَّهَا أَعَمُّ مِنْ عِلَّةِ الْمُقْتَاتِ الْمُدَّخَرِ لِأَنَّ كُلَّ مُقْتَاتٍ مَأْكُولٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَأْكُولٍ مُقْتَاتًا، وَنَحْوُ مَا نَقُولُهُ فِي عِلَّةِ بَعْضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ، وَعِلَّةِ مَنْ يَعْتَبِرُهَا بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ السَّبِيلِ فَعِلَّتُنَا أَعَمُّ، وَلَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إنَّ عِلَّتَنَا أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَعَمَّ، مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقْرُنَهَا بِدَلَالَةٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي إنْكَارِ الِاحْتِجَاجِ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ بِجَرْيِهَا فِي مَعْلُولِهَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ، إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الدَّعْوَى فِي زِيَادَةِ الْمَعْلُولَاتِ الَّتِي ادَّعَاهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَضِّدَهَا بِدَلَالَةٍ، فَقَوْلُهُ سَاقِطٌ. بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ أَخَصَّهُمَا أَوْلَى، جَازَ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى خَصْمِهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُودِ حُكْمِ الْأَخَصِّ، وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَعَمِّ، مَعَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِهَا، وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْقَائِلَ بِالْأَعَمِّ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ادَّعَاهَا، فَإِذَا صَحَّحَتْهَا الدَّلَالَةُ، صَحَّ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ عُمُومِهَا، مَا لَمْ يَعْرِضْ فِيهَا مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ حُكْمِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْقَوْلُ بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ وَاجِبٌ، كَوُجُوبِ الْقَوْلِ بِأَعَمِّ اللَّفْظَيْنِ إذَا أَوْجَبَا حُكْمًا وَاحِدًا. قِيلَ لَهُ: لَعَمْرِي إنَّ (الْقَوْلَ) بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ وَاجِبٌ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّتِهَا، فَأَمَّا اعْتِبَارُ أَعَمِّهَا قَبْلَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، فَقَوْلٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 سَاقِطٌ مَرْذُولٌ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَعَمِّ اللَّفْظَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ: أَنَّ الْأَعَمَّ اسْمٌ لِلْخَاصِّ وَلِغَيْرِهِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ. وَنَظِيرُهُ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْأَعَمَّ فِيمَا ذَكَرَهُ عِلَّةٌ بِدَلَالَةٍ تُوجِبُهُ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ. وَمِمَّا يُغَالِطُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: إنَّ عِلَّةَ الْأَكْلِ أَوْلَى مِنْ عِلَّةِ الْكَيْلِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ التَّمْرَةَ بِالتَّمْرَتَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ، وَيُوجِبُ مِنْ الْحُكْمِ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجِبُهُ الْآخَرُ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَّا إلَى دَعْوَى حَسْبَ مَا بُيِّنَ فِي إفْسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِجَرْيِ الْعِلَّةِ، وَالْقَائِلِينَ بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مُفَارِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ يَعُمَّانِ أَكْثَرَ الْمَأْكُولَاتِ وَكَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْكُولَةٍ: كَأَنْوَاعِ الطِّيبِ، وَالْأَصْبَاغِ، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَسَائِرِ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فَيُوجِبُ حُكْمَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي سَائِرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاعْتِبَارِ إنْ صَحَّ احْتَجْنَا أَنْ نَعُدَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَنَعُدَّ الْمَأْكُولَاتِ، فَنَنْظُرَ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَنْوَاعًا فَيَكُونُ أَوْلَى، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ سَاقِطٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. وَعَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ فِي مِثْلِ هَذَا بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ لَغْوٌ لَا مَعْنَى لَهُ؛ إذْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَامَّةً فِي نَوْعِهَا جَارِيَةً فِي مَعْلُولِهَا، فَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَعَمَّ مِنْ الْأُخْرَى فِي بَابِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 [بَابُ الْقَوْلِ فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى وَاتِّفَاقِهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى الْوَاحِدِ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ، كَتَعَلُّقِ إيجَابِ كَفَّارَةِ رَمَضَانَ وَدَمِ الْإِحْرَامِ بِالْجِمَاعِ، (وَكَتَعَلُّقِ) تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَكَتَعَلُّقِ إبَاحَةِ الْمَنْكُوحَةِ بِذَلِكَ الْعَقْدِ بِعَيْنِهِ، وَكَإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ بِوُجُودِ الْحَيْضِ وَحَظْرِ وَطْئِهَا. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ لَمَّا كَانَتْ أَمَارَاتٍ لِلْأَحْكَامِ عَلَى حَسْبِ مَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَةً فِيهَا، لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يُجْعَلَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ عَلَامَةً لِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَالِاسْمِ لَمَّا كَانَ عَلَامَةً لِلْحُكْمِ الْمُضَمَّنِ بِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْوَاحِدُ عَلَمًا لِتَحْرِيمِ شَيْءٍ، وَعَلَمًا لِإِبَاحَةِ شَيْءٍ آخَرَ. أَلَا تَرَى: أَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ قَدْ صَارَ عَلَمًا لِإِبَاحَةِ قَتْلِ الْحَرْبِيِّ، وَعَلَمًا لِتَحْرِيمِ التَّوَارُثِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَيَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ عِلَلُ الشَّرْعِ جَارِيَةٌ هَذَا الْمَجْرَى لَا يَمْتَنِعُ فِيهِ كَوْنُ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وَجَائِزٌ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْأَحْكَامِ لِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ. أَلَا تَرَى الْبَيْعَ قَدْ يَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَيَفْسُدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَلِأَنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، أَوْ مَجْهُولٍ، وَقَدْ يَجِبُ الْقَتْلُ لِلرِّدَّةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالْكُفْرِ، وَلِمَعَانٍ أُخَرَ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ مُعَلَّقُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ لِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَكَقَوْلِنَا أَيْضًا: إنَّ النَّسَاءَ يُحَرَّمُ بِوُجُودِ الْجِنْسِ، عَلَى حِيَالِهِ، وَيُحَرَّمُ أَيْضًا بِوُجُودِ الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى ذَوِي فَهْمٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 بَابٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ تَكُونُ الْعِلَّةُ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ عَلَى شَرَائِطَ تَتَقَدَّمُهُمَا، فَلَا يَكُونُ لِلْعِلَّةِ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ مُوجِبَةً لَهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِنَا: إنَّ الزِّنَا يُوجِبُ الرَّجْمَ مَعَ شَرْطِ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْصَانِ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِهِ مَعَ الزِّنَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ عُقُوبَةٌ، وَالْإِحْصَانَ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْعِقَابُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ: الْبُلُوغُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالدُّخُولُ، وَلَيْسَ هَذِهِ الْمَعَانِي مِمَّا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الرَّجْمَ يُسْتَحَقُّ بِالزِّنَا لَا بِغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ إلَّا بِوُجُودِ الْإِحْصَانِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْفَصْلَ بَيْنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ، وَبَيْنَ مَا لَا يُوجِبُهُ،، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي إيجَابِهِ: أَنَّ مَا يَجِبَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِهِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ عِنْدَ تَقَدُّمِ تِلْكَ الشَّرَائِطِ، وَأَنَّ مَا لَا يَجِبُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ لَيْسَ هُوَ الْمُوجِبَ لَهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْإِحْصَانَ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ، حَتَّى لَمَّا وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَجَبَ الرَّجْمُ، وَلَوْ وُجِدَ مِنْهُ الزِّنَا قَبْلَ الْإِحْصَانِ، ثُمَّ أُحْصِنَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ لَمْ يَجِبْ الرَّجْمُ، فَعَلِمْت أَنَّ وُجُوبَ الرَّجْمِ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ الزِّنَا دُونَ وُجُودِ الْإِحْصَانِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ أَصْحَابُنَا عَلَى شُهُودِ (الْإِحْصَانِ ضَمَانًا عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَأَوْجَبُوهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 عَلَى شُهُودِ الزِّنَا؛ إذْ كَانُوا هُمْ الْمُوجِبِينَ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ شُهُودُ) الْإِحْصَانِ مُوجِبِينَ لَهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اُحْتِيجَ فِي إثْبَات الزِّنَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ، وَالنَّفْيُ فِي إثْبَاتِ الْإِحْصَانِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا مِنْ مَذْهَبِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَصْلِهِمْ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ دُونَ وُجُودِ غَيْرِهِ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا لَهُ: قَوْلُهُمْ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَمْسِ، فَيَقْضِي الْقَاضِي عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ، ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ آخَرَانِ: أَنَّ عَبْدَهُ كَانَ جَنَى أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ، وَأَنَّ الْمَوْلَى عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ، فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ وَجَعَلَهُ مُخْتَارًا، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ: أَنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ عَلَى شُهُودِ الْجِنَايَةِ، وَضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ الدِّيَةَ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ مِمَّا لَمْ يُلْزِمْ بِهِ الدِّيَةَ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا بِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ، غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا عَلَى الْمَوْلَى، فَلَمَّا وُجِدَتْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْجِنَايَةِ، أَلْزَمَهُ الدِّيَةَ. وَقَالُوا: لَوْ كَانَ شُهُودُ الْجِنَايَةِ شَهِدُوا أَوَّلًا بِالْجِنَايَةِ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَا، ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ: أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ، أَنَّ شُهُودَ الْعِتْقِ يَضْمَنُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّ لُزُومَهَا تَعَلَّقَ بِشَهَادَتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ شُهُودِ الْجِنَايَةِ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلدِّيَةِ، ثُمَّ لَمَّا وُجِدَتْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْعِتْقِ أَلْزَمَهُ بِهَا الدِّيَةَ، فَعَلَّقُوا وُجُوبَ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ دُونَ مَا هُوَ شَرْطٌ فِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 [بَابٌ فِي ذِكْرِ الْأَوْصَافَ الَّتِي تَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ تَكُونُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَصْفًا لَازِمًا لِلْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِنَا: إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ وُجُودُ الْجِنْسِ. وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا غَيْرَ لَازِمٍ لِلْأَصْلِ، لَكِنَّهُ يَتْبَعُ عَادَةَ النَّاسِ فِي التَّعَامُلِ بِهِ كَقَوْلِنَا: إنَّ كَوْنَهُ مَكِيلًا عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ النَّسَاءِ أَيْضًا، وَكَوْنَهُ مَكِيلًا لَيْسَ هُوَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالتَّعَامُلِ كَيْلًا، وَكَاعْتِلَالِنَا لِإِيجَابِ الْعُشْرِ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ الْخُضَرِ وَنَحْوِهَا بِعِلَّةِ أَنَّهَا يُقْصَدُ الْأَرَضُونَ بِزِرَاعَتِهَا، قِيَاسًا عَلَى الْحِنْطَةِ، وَكَوْنُهُ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ إنَّمَا هُوَ عَادَةٌ جَارِيَةٌ مِنْ النَّاسِ فِيهَا وَلَيْسَ هُوَ صِفَةً لَازِمَةً لِنَفْسِ الْمَزْرُوعِ. وَقَدْ تَكُونُ الْعِلَّةُ نَفْسَ الِاسْمِ، كَقَوْلِنَا: إنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مَرَّةً قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ مِنْ نَحْوِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَمَسْحِ التَّيَمُّمِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَسْحٌ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ لِلْمُحْرِمَيْنِ إذَا قَتَلَا صَيْدًا: أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءً كَامِلًا، بِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ فِيهَا صَوْمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] فَسَمَّاهُ كَفَّارَةً، فَاشْتَبَهَتْ كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأِ، لَمَّا كَانَتْ كَفَّارَةً فِيهَا صَوْمٌ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ، فَالْقِيَاسُ (صَحِيحٌ بِالِاسْمِ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ الِاعْتِلَالُ بِالِاسْمِ إذَا لَمْ يَعْدُ إلَى فَرْعٍ، كَمَا لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 يَصِحُّ الِاعْتِلَالُ بِشَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ إذَا لَمْ يَعْدُ إلَى فَرْعٍ، وَكَانَ مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَكُونُ الْعِلَّةُ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْأَصْلِ فَتُنْصَبُ عِلَّةً لِلْفَرْعِ يَجِبُ فِيهِ الْحُكْمُ الْمُتَنَازَعُ بِوُجُودِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُحْرِمَيْنِ إذَا قَتَلَا صَيْدًا، وَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قَاتِلِ الْخَطَأِ بِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ فِيهَا صَوْمٌ، وَهَذَا جَمِيعًا حُكْمَانِ. وَكَقَوْلِنَا: إنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَزْوِيجِ أُخْتِ امْرَأَتِهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ، بِعِلَّةِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ، قِيَاسًا عَلَى مَنْعِ تَزْوِيجِهَا زَوْجًا آخَرَ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً، وَتَحْرِيمُ الْأُخْتَيْنِ وَالزَّوْجَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ، فِيهِمَا حُكْمٌ وَاحِدٌ، عِلَّتُهُمَا كَوْنُهَا مُعْتَدَّةً، وَكَوْنُهَا مُعْتَدَّةً إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ. وَكَقَوْلِنَا: إنَّ الْمَنِيَّ نَجَسٌ لِأَنَّ خُرُوجَهُ يُوجِبُ نَقْضَ الطَّهَارَةِ (قِيَاسًا عَلَى انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ، وَكَانَ انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ عِلَّةً لِكَوْنِهِ نَجَسًا، وَانْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ) حُكْمٌ. وَقَدْ تَشْتَمِلُ الْعِلَّةُ عَلَى أَوْصَافٍ بَعْضُهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْأَصْلِ، وَالْآخَرُ حُكْمٌ، وَالْآخَرُ وَصْفٌ عَارِضٌ فِيهِ، كَقَوْلِنَا: إنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ مِنْ الْجُرْحِ إلَى مَوْضِعِ الصِّحَّةِ عِلَّةٌ لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ خَارِجٌ نَجَسٌ، فَكَوْنُهُ دَمَ عِرْقٍ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ، وَكَوْنُهُ خَارِجًا وَصْفٌ عَارِضٌ فِيهِ، وَكَوْنُهُ نَجَسًا إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ، لَيْسَ هُوَ وَصْفًا لَهُ لَازِمًا وَلَا عَارِضًا. وَقَدْ يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى أَوْصَافٍ بَعْضُهَا حُكْمٌ وَبَعْضُهَا عَادَةٌ، كَقَوْلِنَا: فِي عِلَّةِ نَجَاسَةِ سُؤْرِ السَّبُعِ: إنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ، لَا لِحُرْمَتِهِ، وَيُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ، قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ، فَقَوْلُنَا: مُحَرَّمُ الْأَكْلِ حُكْمٌ، وَقَوْلُنَا: يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْ سُؤْرِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَادَةِ. وَقَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى وَصْفَيْنِ هُمَا جَمِيعًا حُكْمٌ، كَقَوْلِنَا: إنَّ النَّسَاءَ مُحَرَّمٌ فِي الْحَدِيدِ بِالنُّحَاسِ،؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَعَيَّنُ. فَقَوْلُنَا: أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ حُكْمٌ. وَقَوْلُنَا: مِمَّا يَتَعَيَّنُ حُكْمٌ أَيْضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 [بَابُ الْقَوْلِ فِي مُخَالَفَةِ عِلَّةِ الْفَرْعِ لِعِلَّةِ الْأَصْلِ] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُ الْأَصْلِ الَّذِي مِنْهُ تُقْتَضَبُ الْعِلَّةُ مُتَعَلِّقًا بِمَعْنًى. وَتَكُونُ عِلَّةُ الْفَرْعِ غَيْرَ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، هَذَا جَائِزٌ فِي عِلَلِ الشَّرْعِيَّاتِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِنَا: إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَرُزِّ أَنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ، قِيَاسًا عَلَى (الْبُرِّ) ، وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مُوجَبًا فِي الْبُرِّ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْبُرَّ إنَّمَا وَجَبَ فِيهِ هَذَا الْحُكْمُ بِالنَّصِّ لَا بِهَذَا الْمَعْنَى؛ إذْ كَانَ دُخُولُهُ تَحْتَ النَّصِّ مُغْنِيًا عَنْ تَعْلِيلِهِ لِإِيجَابِ حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا اقْتَضَيْنَا هَذَا الِاعْتِلَالَ لِلْفَرْعِ الَّذِي لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْلَا الْفَرْعُ لَكَانَ ذِكْرُ (هَذَا) الِاعْتِلَالِ لِلْأَصْلِ لَغْوًا لَا مَعْنَى لَهُ، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ أَصْلٍ (ثَبَتَ) بِنَصٍّ أَوْ اتِّفَاقٍ، فَإِنَّا مَتَى قِسْنَا عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ، أَوْ اقْتَضَيْنَاهَا، فَحُكْمُ الْأَصْلِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّصِّ، أَوْ الِاتِّفَاقِ، وَحُكْمُ الْفَرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ. وَقَدْ يَعْرِضُ مِثْلُ هَذَا كَثِيرًا مِمَّا ثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ غَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، نَحْوُ قَوْلِنَا: إنَّ مُحَاذَاةَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ تُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ: أَنَّهُ قَدْ قَامَ مَقَامًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَهُ بِحَالٍ، مَعَ (اخْتِصَاصِهِ بِالنَّهْيِ) قِيَاسًا عَلَى إفْسَادِ صَلَاةِ مَنْ قَامَ قُدَّامَ الْإِمَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا فَسَادُ صَلَاتِهِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعِلَّةِ بِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَالْعِلَّةُ الَّتِي بِهَا أَفْسَدْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 صَلَاةَ مَنْ صَلَّى قُدَّامَ الْإِمَامِ، لَيْسَتْ بِهَذِهِ،، وَإِنَّمَا هِيَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِائْتِمَامِ بِالْإِمَامِ وَاتِّبَاعِهِ، فَمَنْ صَلَّى قُدَّامَ الْإِمَامِ غَيْرَ مُؤْتَمٍّ بِهِ وَلَا مُتَّبِعٍ لَهُ عِنْدَنَا فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي بِهَا أَثْبَتْنَا حُكْمَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، غَيْرُ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا ثَبَتَ حُكْمُ الْفَرْعِ الْمَقِيسِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا: قَوْلُهُمْ فِي رَجُلَيْنِ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى عَبْدٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ وَقَبَضَهُ. وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ، وَلَمْ يُوَقِّتْ الْبَيِّنَتَانِ، أَوْ بَيِّنَةُ الشِّرَاءِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَارِيخِ الْعَقْدَيْنِ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ، يُوجِبُ الْحُكْمَ بِوُقُوعِ الْعَقْدَيْنِ مَعًا، وَمَتَى حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مَعًا، سَبَقَ وُقُوعُ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ،؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالْهِبَةَ لَا تُوجِبُهُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَكَانَتْ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِالْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ، مَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ قَالُوا: لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الرَّهْنِ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْهِبَةِ، وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَاتُ بِالْقَبْضِ، فَإِنَّ الرَّهْنَ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَبْضَ، وَالرَّهْنُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ فِي بَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ضَمَانِ الْيَدَيْنِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ ضَمَانُ الثَّمَنِ، فَقَاسُوا الرَّهْنَ عَلَى الْبَيْعِ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِغَيْرِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ، لِكَوْنِ الْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ. وَنَحْوُهُ إذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَاءِ الْعَبْدِ مِنْ مَالِكِهِ، وَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ، فَيَكُونُ الْعِتْقُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ قَبْضًا، فَصَارَ كَإِقَامَةِ رَجُلَيْنِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا بِالْقَبْضِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الْقَبْضِ أَوْلَى، ثُمَّ جَعَلُوا التَّدْبِيرَ مِثْلَ الْعِتْقِ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى مِنْ الشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْضٌ، بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، كَمَا لَا يَلْحَقُ الْعِتْقَ، فَالْعِلَّةُ الَّتِي قَاسُوا بِهَا التَّدْبِيرَ عَلَى الْعِتْقِ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى مِنْ الشِّرَاءِ غَيْرُ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِ الْعِتْقِ فِي الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ الشِّرَاءِ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَلَمًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 سَلَفَ غَيْرَ مُوجِبَةٍ (لَهُ) ، ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ إيجَابُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِمَعْنًى، ثُمَّ يُجْعَلُ بَعْضُ أَوْصَافِهِ عَلَمًا لِحُكْمٍ آخَرَ يُقَاسُ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ، إنَّمَا صَارَتْ عِلَلًا عَلَى حَسْبِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَةَ الْأَحْكَامِ، وَالنُّكْتَةُ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْأَمْرِ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي عِلَلًا عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي قَدَّمْنَا، أَنَّهَا (لَمَّا) لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ أَمَارَاتٍ لَهَا، عَلَى حَسْبِ مَا يَنْصِبُهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَارَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَوْصَافِ عَلَامَةً لِحُكْمٍ، ثُمَّ تَكُونَ بَعْضُ أَوْصَافِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَامَةً لِحُكْمٍ آخَرَ غَيْرِهِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِهِ. وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَجَزْنَا تَخْصِيصَ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ وُجُودِهَا، فَلِذَلِكَ امْتَنَعْنَا مِنْ اقْتِضَابِ عِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ، وَلَا تَتَجَاوَزُ مَوْضِعَ النَّصِّ، أَوْ الِاتِّفَاقِ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَامَةً لِحُكْمِهِ؛ إذْ كَانَ مَا يَثْبُتُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَكُونُ بَعْضُ أَوْصَافِهِ عَلَامَةً لَهُ مُقَيَّدًا لِلْحُكْمِ فِيهِ. وَمَنْ خَالَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهَا لِجَهْلِهِ بِمَعَانِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَظَنِّهِ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مِنْ تَجْوِيزِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِيهَا، فَمَنَعُوا تَخْصِيصَهَا وَأَجَازُوا كَوْنَ عِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى الْفَرْعَ وَلَا تَتَجَاوَزُ مَوْضِعَ النَّصِّ، وَمَنَعُوا وُجُوبَ حُكْمِ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ، وَحُكْمِ الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا؛ إذْ كَانَ هَذَا الْفَرْعُ مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَلَوْ قَدْ كَانُوا عَرَفُوا مَعَانِيَ مَا نُسَمِّيهِ عِلَلًا نُوجِبُ بِهَا قِيَاسَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لَخَفَّتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِمْ فِي فَهْمِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 [بَابٌ فِيمَا يُضَمُّ إلَى غَيْرِهِ فَيُجْعَلَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةَ الْحُكْمِ] ِ وَمَا (لَا) يُضَمُّ إلَيْهِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ وَصْفٍ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً (مِنْ) الْوُجُوهِ الَّتِي يَثْبُتُ عِلَلُ الشَّرْعِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ، فَإِنْ رَامَ أَحَدٌ ضَمَّ وَصْفٍ آخَرَ إلَيْهِ حَتَّى يَكُونَا بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَيْنِ بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةُ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا دُونَ أَحَدِهِمَا. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِنَا: إنَّ الْعِلَّةَ فِي وُجُوبِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ كَوْنُهُ نَجَسًا خَارِجًا بِنَفْسِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، لِلدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْبَوْلِ مَعَ مَا وَصَفْت: أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ، قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً إلَى مَا ذَكَرْت، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لِلسَّبِيلِ تَأْثِيرًا فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي زَوَالِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ كَوْنُهُ مَشْرُوطًا مَعَ مَا وَصَفْنَا. وَكَذَلِكَ إذَا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ كَوْنُهُ مَكِيلَ جِنْسٍ، فَقَالَ لَنَا: مَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ كَوْنَهُ مَكِيلًا مَأْكُولَ جِنْسٍ، لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ الْأَكْلَ مُتَعَلِّقًا بِهِ حُكْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فَغَيْرُ جَائِزٍ ضَمُّ الْأَكْلِ إلَيْهِمَا مَعَ اسْتِغْنَائِهِمَا عَنْهُ فِي كَوْنِهِمَا عِلَّةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِيمَا يَعْتَبِرُهُ الْمُخَالِفُ، فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي يُرِيدُ ضَمَّهُ إلَى الْعِلَّةِ مِمَّا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ، فَلَمْ تَسْتَقِمْ الْعِلَّةُ إلَّا بِضَمِّهِ إلَيْهَا، ضَمَمْنَاهُ إلَيْهَا، وَاَلَّذِي يَجِبُ ضَمُّهُ إلَى غَيْرِهِ وَجَعْلُهُمَا عِلَّةً هُوَ مَا لَا تَسْتَقِيمُ الْعِلَّةُ إلَّا بِهِ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِوُجُودِهِ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ قَوْلُ قَائِلٍ لَوْ قَالَ: إنَّ الْعِلَّةَ فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ: أَنَّ السَّبُعَ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَالْهِرَّ أَكْلُهُمَا مُحَرَّمٌ وَسُؤْرُهُمَا طَاهِرٌ، فَاحْتَجْنَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى تَقْيِيدِ الْعِلَّةِ بِوَصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَأْثِيرٌ فِي الْأَحْكَامِ. وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَا لِحُرْمَتِهِ، وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ،؛ لِأَنَّا لَوْ اقْتَصَرْنَا عَلَى قَوْلِنَا مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَا لِحُرْمَتِهِ لَزِمَ عَلَيْهِ سُؤْرُ الْهِرِّ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَا لِحُرْمَتِهِ، فَاحْتَجْنَا إلَى تَقْيِيدِهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ (لَا) يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ، وَإِنَّمَا صَحَّ إلْحَاقُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فِي صِحَّةِ كَوْنِ الْجَمِيعِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، لِتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ سُؤْرَ الْكَلْبِ نَجَسٌ، وَسُؤْرَ الْهِرِّ طَاهِرٌ، وَلَمْ يَفْتَرِقَا فِي الْحُكْمِ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكَلْبَ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِ الْهِرِّ. وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ سُؤْرُهُ نَجَسٌ وَسُؤْرُ الْإِنْسَانِ طَاهِرٌ، مَعَ كَوْنِهِمَا مُحَرَّمَيْ الْأَكْلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْكَلْبِ لِنَجَاسَتِهِ، وَتَحْرِيمَ أَكْلِ الْإِنْسَانِ لِحُرْمَتِهِ، لَا لِنَجَاسَتِهِ، فَاعْتَبَرَ شُرُوطَ الْعِلَلِ وَمَا يَصِحُّ ضَمُّهُ إلَيْهَا مِمَّا لَا يَصِحُّ بِمَا وَصَفْنَا. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا تَرَكْنَا. وَمِمَّا يُشَاكِلُ مَا قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي دَعْوَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى مَضْمُومِ دَعْوَى الْخَصْمِ، الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي يَدَّعِيه عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ. وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِمَا، وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِمَا، فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُرَاعَى الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ عِلَّةَ الْحُكْمِ، هَلْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ لِأَجْلِ وُجُودِهِ وَزَائِلًا بِزَوَالِهِ؟ أَوْ كَانَ وُجُوبُ ذَلِكَ الْمَعْنَى غَيْرَهُ؟ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودًا لِبَعْضِ الْمَعَانِي، وَيَكُونُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 الْحُكْمُ مَوْجُودًا بِوُجُودِ مَعْنًى غَيْرِهِ، وَزَائِلًا بِزَوَالِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَانِي (الَّتِي) قَارَنَتْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ الَّذِي اعْتَبَرَ ذَلِكَ فِيهِ، فَيَجْعَلُ الْخَصْمُ وُجُودَ الْحُكْمِ وَزَوَالَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ، دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ الْمُخَالِفِ فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَاعْتِلَالٍ: بِأَنَّهُ مُفْطِرٌ بِالْأَكْلِ، فَيَجْعَلُ إفْطَارَهُ بِالْأَكْلِ عِلَّةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ يُفْطِرَانِ بِالْأَكْلِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا مَعْذُورٌ وَذَاكَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، وَلَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الْأَكْلِ. وَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ بِالْأَكْلِ عِلَّةٌ فِي ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَسُقُوطِهَا عَنْ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إذَا أَفْطَرَا بِالْأَكْلِ، فَعَلِمْت أَنَّ كَوْنَهُ مُفْطِرًا بِالْأَكْلِ عِلَّةٌ لِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ، لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ، وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ. وَنَحْنُ مَتَى اعْتَبَرْنَا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ مَا ادَّعَاهُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مِنْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُمَا مِنْ أَنَّهُمَا مُفْطِرَانِ بِأَكْلٍ، لَيْسَ كَمَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْذُورَانِ فِيهِ، وَالْعُذْرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إسْقَاطِ كَفَّارَةِ رَمَضَانَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أَفْطَرَا بِجِمَاعٍ لَمْ يَلْزَمْهُمَا كَفَّارَةٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَعَلِمْت أَنَّ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْحَالِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْإِفْطَارِ بِالْأَكْلِ، وَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُرِيَنَا أَنَّ حُصُولَ الْإِفْطَارِ بِالْأَكْلِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ، إنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي جَعَلْتهَا أَصْلًا فِي ذَلِكَ إنَّمَا سَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا لِمَعْنًى غَيْرِ الْأَكْلِ. فَبَانَ بِذَلِكَ سُقُوطُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ (تَعَلُّقِ) وَسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ، لِوُجُودِنَا الْحُكْمَ مَوْجُودًا بِوُجُودِهِ وَمَعْدُومًا بِعَدَمِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 وَكَانَ كَذَلِكَ إنْ قَالَ: اتَّفَقْنَا أَنَّ مَنْ بَلَعَ حَصَاةً لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ بِدَلَالَةِ أَنَّ الْجِمَاعَ يُوجِبُهَا، وَالْأَكْلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوجِبُهَا فَصَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْأَكْلِ زَائِلًا بِزَوَالِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ غَلِطْتَ فِي دَعْوَاك أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِوُجُودِ الْحُكْمِ وَزَالَ بِزَوَالِهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى آخَرَ (قَارَنَ الْأَكْلَ وَزَالَ بِزَوَالِهِ لَا بِالْمَعْنَى) الَّذِي ادَّعَيْت؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي اسْتَشْهَدْت بِهِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَوْصَافٍ، ثُمَّ وَجَدْنَا الْحُكْمَ قَدْ يَجِبُ بِوُجُودِ وَصْفَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ وَيَزُولُ بِزَوَالِهَا، فَلَيْسَ لَك أَنْ تَجْعَلَ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، إلَّا وَلِخَصْمِك أَنْ يُعَلِّقَهُ بِوَصْفٍ آخَرَ وَبِبَاقِي الْأَوْصَافِ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي بَلَعَ الْحَصَاةَ قَدْ اشْتَمَلَ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَلَى وَصْفَيْنِ. أَحَدُهُمَا؛ أَنَّهُ أَكَلَ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَأْثَمَهُ دُونَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ، وَدُونَ مَأْثَمِ آكِلِ الطَّعَامِ، فَلَسْتَ بِأَسْعَدَ بِجَعْلِك الْأَكْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنْ خَصْمِك بِجَعْلِهِ حُصُولَ إفْطَارِهِ بِمَأْثَمٍ، دُونَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ عِلَّةً فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عِلَّةً صَحِيحَةً لِتَعَدِّيهَا إلَى فَرْعٍ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ غَيْرِ مَعْذُورٍ، ثُمَّ يُعَارِضُك فِي اسْتِدْلَالِك بِمِثْلِ دَلَالَتِك عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ، وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ، فَلَا تَحْصُلُ حِينَئِذٍ إلَّا عَلَى دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ فِي قَوْلِك: إنَّ الْحُكْمَ كَانَ مَوْجُودًا (بِوُجُودِ الْأَكْلِ) عَلَى الْإِطْلَاقِ، مَعْدُومًا بِعَدَمِهِ، ثُمَّ يَنْفَصِلُ خَصْمُك مِنْك، وَيُسْقِطُ مُعَارَضَتَك إيَّاهُ، فَإِنَّ لِلْمَعْنَى الَّذِي اعْتَبَرَهُ فِي مِقْدَارِ الْمَأْثَمِ تَأْثِيرًا فِي إيجَابِ الْحُكْمِ، وَلِزَوَالِهِ تَأْثِيرٌ فِي زَوَالِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجَامِعَ فِي الْفَرْجِ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِحُصُولِ إفْطَارِهِ بِمِقْدَارٍ مِنْ الْمَأْثَمِ، وَأَنَّ الْمُجَامِعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، لِقُصُورِ مَأْثَمِهِ عَنْ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ، وَأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُجَامِعِ فِي الْفَرْجِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِاخْتِلَافِهِمَا (فِي) مِقْدَارِ الْإِثْمِ، وَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَأْثَمِ الَّذِي مِقْدَارُهُ مِقْدَارُ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِفْطَارُ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْأَكْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ: احْتِجَاجُ الْمُخَالِفِ فِي الْمُخْتَلِعَةِ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ بِأَنَّهَا بَائِنَةٌ مِنْهُ، أَوْ بِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا. وَيَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى وُقُوعِهِ قَبْلَ الْبَيْنُونَةِ، وَاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ، أَوْ أَنَّهَا لَا يَلْحَقُهَا ظِهَارُهُ. فَأَنْتَ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ إذَا كَانَ خَصْمُك مُجِيبًا إنْ شِئْت عَارَضْته عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي صِحَّةِ اسْتِدْلَالِهِ، فَنَنْصِبُ إيقَاعَ عِلَّةٍ بِإِزَائِهَا وَنَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا بِمِثْلِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: مَا أَنْكَرْت أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُعْتَدَّةً (مِنْهُ عَنْ طَلَاقٍ، وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ إيقَاعَ بَقِيَّةِ طَلَاقِهَا بِدَلَالَةِ اتِّفَاقِنَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً) مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ كَانَ زَوْجُهَا مَالِكًا لِإِيقَاعِ بَقِيَّةِ طَلَاقِهَا، بِعِلَّةِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْعِلَّةِ: أَنَّهَا مَتَى انْقَضَتْ عِلَّتُهَا لَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقُهُ، لِزَوَالِ الْعِلَّةِ الَّتِي وَصْفُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَمَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً لَحِقَهَا طَلَاقُهُ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ (وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ) ، فَإِذَا عَارَضْته بِذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ اعْتِلَالُهُ وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ رَامَ حِينَئِذٍ تَرْجِيحَ عِلَّتِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُنْتَقِلًا عَنْ اسْتِدْلَالِهِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ هَذَا ضَرْبًا مِنْ الِانْقِطَاعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ بَدْءًا تَصْحِيحَ عِلَّتِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ غَيْرَ مُضَمَّنٍ، بِمَعْنًى غَيْرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وَإِذَا رَامَ تَرْجِيحَ اعْتِلَالِهِ بَعْدَ مُعَارَضَتِك إيَّاهُ بِمَعْنًى آخَرَ، فَقَدْ تَرَكَ الِاسْتِدْلَالَ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنًى غَيْرِهِ، مِمَّا يُوجِبُ عِنْدَهُ تَرْجِيحَ عِلَّتِهِ، اعْتِرَافًا مِنْهُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فِي جِهَةٍ لِلدَّلَالَةِ وَتَصْحِيحِ الْمَقَالَةِ. ، وَإِنْ شِئْنَا نَظَرْنَا فِي جِهَةِ اسْتِدْلَالِهَا هَلْ هُوَ عَلَى مَا ادَّعَى أَمْ لَا؟ وَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا فِي حَقِّ النَّظَرِ. فَنَقُولُ لَهُ: مَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا ذَكَرْت تَعَلَّقَ بِالْبَيْنُونَةِ فَحَسْبُ؟ وَلِمَ قُلْت: إنَّ امْتِنَاعَ وُقُوعِ طَلَاقِهِ مُتَعَلِّقٌ بِزَوَالِ النِّكَاحِ، وَوُقُوعَ الْبَيْنُونَةِ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِهِ، مَعْدُومٌ مَعَ عَدَمِهِ؟ وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ وُقُوعِ (الطَّلَاقِ) بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُتَعَلِّقًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَبِزَوَالِ جَمِيعِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَيَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعِدَّةِ يُوجِبُ بَقَاءَ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ. وَوُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ (لَمْ يَمْنَعْ بَقَاءَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مِنْ نَحْوِ لُزُومِ نَسَبِ وَلَدٍ لَوْ جَاءَتْ بِهِ، وَوُجُوبِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ. وَلَمْ يَكُنْ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ) تَأْثِيرٌ فِي زَوَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَيَكُونُ اعْتِلَالُهَا بِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَوْلَى (مِنْ الْحُكْمِ) الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِوُجُودِهِ، وَمَعْدُومٌ بِعَدَمِهِ (لَوْ) تَعَلَّقَ لَمَا وَجَدْنَا لِبَقَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ التَّأْثِيرِ فِي بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ تَأْثِيرٌ فِي رَفْعِهَا. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِبُطْلَانِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي رَفْعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَعَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي بُطْلَانِ الطَّلَاقِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وَكَانَ اسْتِدْلَالُنَا بِمَا وَصَفْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ عَنْ الطَّلَاقِ أَوْلَى، لِمَا وَصَفْنَا. وَمِثْلُهُ: قَوْلُ مَنْ خَالَفْنَا فِي الْمُجَاوَزَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ إذَا قُتِلَ خَطَأً، وَاعْتِلَالِهِ بِأَنَّهُ مَالٌ كَالدَّابَّةِ، وَالثَّوْبِ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مَالًا وَجَبَ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَأَنَّ الْحُرَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَمْ يُجَاوَزْ بِهِ الدِّيَةَ. وَقُلْنَا نَحْنُ لَا نُجَاوِزُ بِهِ دِيَةَ الْحُرِّ، أَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَ آدَمِيٍّ مِنْ جِهَةِ الْجِنَايَةِ، وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ مُخَالِفٌ لِضَمَانِ الْأَمْوَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَاتِلَهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ، وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَأَنَّ كَوْنَهُ مَالًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ وَالْقِصَاصِ؛ إذْ كَانَ إتْلَافُهُ مِنْ طَرِيقِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَوَازِ مُجَاوَزَةِ الدِّيَةِ بِقِيمَتِهِ، فَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى؛ إذْ كَانَ كَوْنُهُ مَالًا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْ قَاتِلِهِ فِي الْخَطَأِ، وَالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ كَوْنِهِ مَالًا، وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ فِي الدَّابَّةِ الْمُتْلَفَةِ، فَعَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِكَوْنِهِ مَالًا (دُونَ) مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ ضَمَانَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى جِهَةِ ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ، (وَضَمَانَ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْوَجْهِ ضَمَانُ الْجِنَايَاتِ) ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ مُعْتَبَرَةً بِدِيَةِ الْحُرِّ فِي مَنْعِ مُجَاوَزَتِهَا وَنُقْصَانِهَا عَنْ الدِّيَةِ، لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ بَابِ الْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّ دِيَاتِ الْأَحْرَارِ قَدْ تَنْقُصُ، وَلَا يُزَادُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُؤَقَّتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ، وَأَنَّ دِيَةَ الْجَنِينِ خَمْسُمِائَةٍ، فَعَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 [بَابُ الْقَوْلِ فِي تَعَارُضِ الْعِلَلِ وَالْإِلْزَامِ وَذِكْرِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَكُونُ تَعَارُضُ الْعِلَّتَيْنِ إلَّا عَلَى وَجْهِ مُنَافَاةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِحُكْمِ الْأُخْرَى، وَهُوَ كَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا لِضِدِّ حُكْمِ الْآخَرِ، وَمَتَى، لَمْ يَكُنْ الْخَبَرَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَمْ يَكُونَا مُتَعَارِضَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّتَيْنِ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمًا وَاحِدًا فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا صَحِيحَتَيْنِ، فَتَجْرِيَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجَبِهَا. ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَارِيَةً فِي فُرُوعٍ لَا تَجْرِي الْأُخْرَى فِيهَا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْأُخْرَى، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَا صَحِيحَتَيْنِ جَمِيعًا، وَتَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ، وَهِيَ مِثْلُ الْخَبَرَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا حُكْمٌ وَاحِدٌ فَيُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا، نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ» «وَنَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» فَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ فِي أَعْيَانِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَا مُتَعَارِضَيْنِ لِإِيجَابِهِمَا حُكْمًا وَاحِدًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ» فَهُوَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ. وَرُوِيَ فِي (خَبَرٍ) آخَرَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» فَنَسْتَعْمِلُهَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مُتَعَارِضَيْنِ. كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ الْعِلَّتَيْنِ يَجْرِي عَلَى هَذَا السَّبِيلِ. وَنَظِيرُهُ الْعَكْسُ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمًا وَاحِدًا، وَتَعَلَّقَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعْلُومَاتٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأُخْرَى، لِاخْتِلَافِ الْقَائِسِينَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ مُدَّخَرٌ فِي جِنْسٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَكْلُ مَعَ الْجِنْسِ. فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مُتَعَارِضَةً، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا مَعْلُومَاتٌ (لَيْسَتْ لِلْأُخْرَى) ، وَلَوْ كُنَّا خَلَّيْنَا، وَإِيَّاهَا، لَمَا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عِلَّةً صَحِيحَةً مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا فِي فُرُوعِهَا إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ مِثْلُهَا (كَانَ جَائِزًا، وَلَمْ تَكُنْ مُتَعَارِضَةً) ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَقُولَ: إذَا وَجَدْتُمْ الْكَيْلَ مَعَ الْجِنْسِ، فَحَرِّمُوا التَّفَاضُلَ، وَحَرِّمُوا أَيْضًا الْمُقْتَاتَ وَالْمُدَّخَرَ مَعَ الْجِنْسِ، وَحَرِّمُوا أَيْضًا كُلَّ مَأْكُولِ جِنْسٍ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَعَارُضًا لَمَا صَحَّ وُرُودُ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعَارُضًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 تُوجِبُ حُكْمًا وَاحِدًا، إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الصَّحِيحَةَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَلَوْلَا الِاتِّفَاقُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. وَمِمَّا تَكُونُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ فِيهِ أَعَمَّ مِنْ الْأُخْرَى فَلَا يَتَعَارَضَانِ إذَا كَانَا يُوجِبَانِ حُكْمًا وَاحِدًا. فَنَحْوُ اعْتِلَالِنَا لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ بِنَفْسِهَا إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَلَا يَصِحُّ لِمُخَالِفِنَا أَنْ يُعَارِضَنَا عَلَيْهَا، بِأَنْ يَقُولَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْبَوْلِ أَنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ اقْتَضَبَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الَّذِي تُوجِبُهُ عِلَّتِي، فَهُمَا يُوجِبَانِ حُكْمًا وَاحِدًا، فَلَيْسَا إذًا مُتَعَارِضَتَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهَذَا، فَنَحْنُ نَقُولُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَنُصَحِّحُهُمَا، فَنُوجِبُ نَقْضَ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ السَّبِيلِ. وَنُوجِبُهُ أَيْضًا بِخُرُوجِهَا مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، كَمَا قُلْنَا بِالْخَبَرَيْنِ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَأَكْثَرُ مُعَارَضَاتِ الْمُخَالِفِينَ أَنَّا عَلَى اعْتِلَالِنَا بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاعْتِلَالِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ مُعَارَضَةً، وَهَذَا جَهْلٌ مِمَّنْ يَظُنُّهُ بِوُجُوهِ الْمُعَارَضَاتِ. وَكَثِيرًا مَا يُعَارِضُونَ أَيْضًا بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ (غَيْرِ) مُوجِبَةٍ لِحُكْمٍ، فَيُعَارِضُونَ بِهَا عِلَّةً مُوجِبَةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ، مُتَعَدِّيَةً إلَى فُرُوعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا نَحْوُ قَوْلِنَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ: أَنَّهُ مَوْزُونُ جِنْسٍ. فَيَقُولُونَ: مَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهَا أَنَّهُ أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وَنَحْوُ قَوْلِنَا إذَا نَحْنُ عَلَّلْنَا (فِي) الْأَوْلَادِ فِي وُجُوبِ ضَمِّهَا إلَى الْأُمَّهَاتِ، بِأَنَّهَا زِيَادَةُ مَالٍ فِي الْحَوْلِ عَلَى نِصَابٍ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْفَائِدَةِ. فَيَقُولُونَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ (فِي الْأَوْلَادِ) أَنَّهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ. وَنَحْوُ قَوْلِنَا: إنَّ عِتْقَ بَرِيرَةَ إنَّمَا أَوْجَبَ لَهَا الْخِيَارَ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا بِالْعِتْقِ. فَيَقُولُونَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَارَضَةِ، لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ عِلَّةً لَا تَتَعَدَّى الْأَصْلَ الْمَعْلُولَ فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ، فَهَذَا سَاقِطٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ: أَنَّ مِثْلَهُمْ يَكُونُ عِلَّةً، لَمَا كَانَتْ مُعَارَضَةً لِمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ (لَهُمْ) : نُصَحِّحُ الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا، وَنَسْتَعْمِلُهَا، فَنُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِمَا؛ إذْ لَيْسَ يَمْتَنِعُ إيجَابُ حُكْمٍ وَاحِدٍ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُعَارَضَةُ أَنْ تَنْصِبَ عِلَّةً بِإِزَاءِ عِلَّةِ الْحُكْمِ، تُوجِبُ حُكْمًا بِضِدِّ مُوجَبِ عِلَّتِهِ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ مُعَارَضَةً صَحِيحَةً إذَا وَقَعَتْ عَلَى شُرُوطِهَا الَّتِي سَبِيلُ الْمُعَارَضَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا، نَحْوُ أَنْ نَقُولَ فِي عِلَّةِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْقَيْءِ لَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ، فَيَكُونُ هَذَا مُعَارَضَةً صَحِيحَةً عَلَى اعْتِلَالِنَا بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ بِنَفْسِهَا إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ قَبُولُهَا، وَالنَّظَرُ فِيهَا، وَحَمْلُهَا عَلَى شُرُوطِهَا الَّتِي تَصِحُّ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَا: فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِنَاظِرٍ قَبُولُهَا وَلَا الِاشْتِغَالُ بِهَا فِي التَّمَسُّكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عِلَّتِهِ الَّتِي اعْتَلَّ بِهَا. . وَلَا تَصِحُّ الْمُعَارَضَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا عَارَضَ بِهِ فِي وَزْنِ اعْتِلَالِ الْمُعْتَلِّ، وَفِي عُرُوضِهِ. فَإِنْ اعْتَلَّ الْمُجِيبُ بِعِلَّةٍ لَمْ يُعَضِّدْهَا بِدَلَالَةٍ جَازَ لِلسَّائِلِ مُعَارَضَتُهُ بِعِلَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ بِضِدِّ مُوجَبِ حُكْمِهَا، وَلَا يَقْرُنُهَا بِدَلَالَةٍ، وَيَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي اعْتِلَالِهِ، فَيَحْتَاجُ الْمُجِيبُ حِينَئِذٍ إلَى الِانْفِصَالِ مِمَّا عَارَضَهُ بِهِ السَّائِلُ، إمَّا أَنْ يَقْرُنَ عِلَّتَهُ بِدَلَالَةٍ تُبَيِّنُ بِهَا مِمَّا عَارَضَ بِهِ، أَوْ يُفْسِدَ اعْتِلَالَ السَّائِلِ بِضَرْبٍ مِنْ الضُّرُوبِ الَّتِي تَفْسُدُ بِهَا الْعِلَلُ. وَالْأَوْلَى بِالسَّائِلِ مُطَالَبَةُ الْمُجِيبِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْمُعَارَضَةِ قَبْلَ إظْهَارِ الْمُجِيبِ دَلَالَتَهُ عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِهِ. فَإِنْ عَارَضَهُ عَلَى دَعْوَاهُ الْعِلَّةَ بِعِلَّةٍ ادَّعَاهَا جَازَ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَارَضَ عَلَى الْمَذْهَبِ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى (صِحَّتِهِ بِمَذْهَبٍ) يُضَادُّهُ، فَلَا يَجِدُ بُدًّا حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى خَصْمِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ، دُونَ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ. وَإِنْ قَرَنَ الْمُجِيبُ عِلَّتَهُ بِدَلَالَةٍ لَمْ تَصِحَّ لِلسَّائِلِ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِعِلَّةٍ مَقْرُونَةٍ بِدَلَالَةٍ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ مُعَارَضَةً. وَلِلْمُجِيبِ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا وَلَا يَشْتَغِلَ بِهَا، فَإِنْ قَبِلَهَا كَانَ انْفِصَالُهُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ: إنَّ عِلَّتِي مَقْرُونَةٌ بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهَا، وَعِلَّتَك غَيْرُ مَقْرُونَةٍ بِدَلَالَةٍ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا، وَمَتَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قَدَّمْنَا، لَزِمَ الْمُجِيبَ حِينَئِذٍ الِانْفِصَالُ مِمَّا عُورِضَ بِهِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ يُبَيِّنُ بِهِ " أَنَّ " اعْتِلَالَهُ أَوْلَى مِنْ اعْتِلَالِ خَصْمِهِ. . وَوُجُوهُ التَّرْجِيحِ مُخْتَلِفَةٌ: فَمِنْهَا: أَنَّ الْمُجِيبَ إذَا اعْتَلَّ بِعِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، فَعَارَضَهُ السَّائِلُ بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: عِلَّتِي أَوْلَى،؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَعِلَّتُك مُسْتَنْبَطَةٌ، وَلَا حَظَّ لِلِاسْتِنْبَاطِ مَعَ النَّصِّ، وَذَلِكَ نَحْوُ مُعَارَضَةِ الْمُخَالِفِ لَنَا عَلَى عِلَّةِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِظُهُورِ النَّجَاسَةِ. فَإِنَّ قَلِيلَ الْقَيْءِ لَا يَنْقُضُهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ، وَيَحْتَجُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِهِ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا خَرَجَتْ مِنْ السَّبِيلِ أَوْجَبَتْ نَقْضَ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ الْبَوْلُ، وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ لَمْ تُوجِبْهُ، وَهُوَ يَسِيرُ الْقَيْءِ. فَيُقَالُ: إنَّ اعْتِلَالَنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ: «إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ» ، فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْت فَتَسْقُطُ مُعَارَضَتُهُ. وَنَحْوُهُ إذَا اعْتَلَّ فِي مَنْعِ خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، بِأَنَّ الزَّوْجَ كُفْءٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَصَارَ كَسَائِرِ عُقُودِ النِّكَاحِ، إذَا وَجَبَ فِيهَا الْكَفَاءَةُ، وَلَا يَجِبُ الْخِيَارُ. فَنَقُولُ: إنَّ اعْتِلَالَ مَنْ اعْتَلَّ لِإِيجَابِ الْخِيَارِ بِأَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا بِالْعِتْقِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، «وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَرِيرَةَ: مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» ، فَكَانَتْ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلِاسْتِنْبَاطِ مَعَ النَّصِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِحُكْمٍ مُسْتَنْبَطٍ مَعَ حُكْمٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْعِلَلُ. . وَمَتَى تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ إحْدَاهُمَا: قَدْ قَامَتْ دَلَالَتُهَا مِنْ جِهَةِ مَا لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ فِي الْأُصُولِ وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا. وَالْأُخْرَى: دَلَالَتُهَا وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهَا ، فَإِنَّ مَا طَرِيقُ إثْبَاتِهَا تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ (بِهَا) وَتَأْثِيرُهَا فِي الْأُصُولِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْأُولَى تَشْهَدُ لَهَا الْأُصُولُ، وَشَهَادَةُ الْأُصُولِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِمَّا ذُكِرَ؛ إذْ لَيْسَتْ فِي وَزْنِهَا وَمَنْزِلَتِهَا. . وَتَرْجِيحُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِمَا ضِدُّهُ الْعُمُومُ لَهَا يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا يُنَافِي الْعُمُومَ وَيَخُصُّهُ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ أَصْلٌ، وَهُوَ شَاهِدٌ بِصِحَّةِ هَذَا الِاعْتِلَالِ، فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا يُنَافِي الْعُمُومَ وَيُضَادُّهُ. وَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مُوجِبَةً لِرَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَا قَرُبَ مِنْهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِهَا، وَالْأُخْرَى تُوجِبُ رَدَّهَا إلَى مَا بَعُدَ مِنْهَا وَمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَإِنَّ مَا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا وَمَا قَرُبَ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، وَيَكُونُ هَذَا ضَرْبًا مِنْ التَّرْجِيحِ، نَحْوُ حَمْلِنَا لِمَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى سَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ، بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَسْحٌ، وَمَوْضُوعَهُ التَّخْفِيفُ، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ مِنْ بَابِ الْمَسْحِ، وَمِنْ جِنْسِهِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ. وَمَتَى تَعَارَضَ قِيَاسَانِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَوْلٌ مِنْ صَحَابِيٍّ لَا يُعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ مِنْ نُظَرَائِهِ، جَازَ أَنْ يُرَجَّحَ الَّذِي مَعَهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَيَكُونُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَبْلَ هَذَا: أَنَّهُ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، إذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ، فَإِذَا عَاضَدَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ، كَانَ لِمَا عَاضَدَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْآخَرِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَرَى أَيْضًا تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ، إذَا كَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الَّذِي يُعَضِّدُهُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ، إذَا عَارَضَ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ، وَيَكُونُ لِهَذَا الْقِيَاسِ ضَرْبٌ مِنْ الرُّجْحَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» . وَقَدْ يَقْوَى أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ بِأَنْ يُعَضِّدَهُ أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا لِضَعْفِ مُخَرِّجِهِ، فَإِذَا عَاضَدَ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ صَارَ لِهَذَا الْقِيَاسِ مَزِيَّةٌ وَرُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ بِهَذَا الْخَبَرِ، فَيَكُونُ أَوْلَى. وَإِذَا اعْتَلَّ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ (بِعِلَّةٍ) لِحُكْمٍ، وَاعْتَلَّ الْآخَرُ (بَعْدَ ذَلِكَ لِحُكْمٍ) بِعِلَلٍ مِنْ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الْحُكْمَ الَّذِي عَضَّدَتْهُ عِلَّتَانِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ شَهِدَتْ لَهَا أُصُولٌ كَثِيرَةٌ، وَالْأُخْرَى شَهِدَ لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْعِلَّةَ الْوَاحِدَةَ مُعَارِضَةً لِلْعِلَلِ الْكَثِيرَةِ، وَلَا يُوجِبُ التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ يَحْتَمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ. وَإِذَا تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ إحْدَاهُمَا مُثْبِتَةٌ، وَالْأُخْرَى نَافِيَةٌ، فَلَا مَزِيَّةَ لِلْمُثْبِتَةِ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى لِأَجْلِ الْإِثْبَاتِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يَطْلُبَ وَجْهَ التَّرْجِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ لِأَنَّ نَفْيَهُ الْحُكْمَ هُوَ حُكْمٌ مِنْ النَّافِي، وَإِثْبَاتُ اعْتِقَادٍ مِنْهُ بِصِحَّةِ نَفْيِهِ، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا: إنَّ النَّافِيَ وَالْمُثْبِتَ مُتَسَاوِيَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ. وَمَتَى اعْتَدَلَ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ الْقِيَاسَانِ جَمِيعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ ضِدَّ الْآخَرِ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى وُجُودَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إذَا كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ الْحُكْمِ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، اسْتَحَالَ أَنْ يُخْلِيَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُجْتَهِدَ مِنْ أَنْ يَغْلِبَ فِي ظَنِّهِ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا، فَيَصِيرَ إلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إجَازَةِ ذَلِكَ، وَيَجْعَلُهُ بِالْخِيَارِ، يَحْكُمُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ مِنْ قَائِلِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا مِثْلَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي الْمُتَحَرِّي لِجِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَفِي الشَّاكِّ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الِاجْتِهَادِ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ، وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْأُمُورِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا، فَيَعْتَدِلُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ، حَتَّى لَا يَكُونَ عِنْدَهُ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَزِيَّةٌ. وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ كَانَ الْمُجْتَهِدُ بِالْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ شَاءَ، كَأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِمِثْلِهِ. فَقِيلَ لَهُ: (اُحْكُمْ) فِي ذَلِكَ بِأَيِّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَحْبَبْتَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ إذَا اسْتَوَتْ الْجِهَاتُ عِنْدَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّ الْجِهَاتِ شَاءَ. وَمَنْ يَأْبَى هَذَا الْقَوْلَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ يُوجِبُ حَظْرًا، وَالْآخَرُ إبَاحَةً، وَاسْتَوَى عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الْقِيَاسَانِ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ: الْحَظْرُ. وَمُوجَبَ الْقِيَاسِ الْآخَرِ: الْإِبَاحَةُ. فَلَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَانَ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ. فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْقِيَاسِ الْآخَرِ مَعَهُ مُوجِبًا لِلتَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ هُوَ مِنْ مُوجَبِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ، (فَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يُوجِبُ تَخْيِيرًا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَارُضِ) الْقِيَاسَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا عِنْدَهُ إطْرَاحُهُمَا، وَطَلَبُ دَلَالَةِ الْحُكْمِ (مِنْ) غَيْرِهِمَا، كَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا نَزَلَا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 وَمَنْ يَقُولُ بِالتَّخْيِيرِ فِي الْقِيَاسِ إذَا تَعَارَضَا مِمَّنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ يَقُولُ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهَا مِثْلَ ذَلِكَ. وَمَنْ أَوْجَبَ التَّخْيِيرَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إذَا اخْتَارَ الْمُجْتَهِدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ تَبَيَّنَ لَهُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ، ثُمَّ اُخْتُصِمَ إلَيْهِ فِي مِثْلِهَا، وَاسْتُفْتِيَ فِيهَا، وَحَالُهُ فِي الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ رُجْحَانٍ حَصَلَ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ يَمْضِي عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِرُجْحَانٍ يَبِينُ لَهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ (لَهُ) ذَلِكَ لَجَازَ لَهُ إذَا اسْتَفْتَاهُ رَجُلَانِ يُفْتِي أَحَدَهُمَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَيُفْتِي الْآخَرَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْحَالِ، وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ. وَأَهْلُ التَّمْيِيزِ يَعُدُّونَهُ ضَرْبًا مِنْ التَّنَقُّلِ فِي الرَّأْيِ، وَضَعْفِ الْعَزِيمَةِ. وَمُضِيُّهُ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ وَمُلَازَمَتُهُ الْمِنْهَاجَ الْوَاحِدَ حَسَنٌ فِي آرَاءِ الْعُقَلَاءِ مِنْ التَّنَقُّلِ فِي الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ التَّنَقُّلَ، فَقَدْ صَارَ لِلْقَوْلِ الْمَحْكُومِ بِهِ بَدْءًا هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الرُّجْحَانِ، كَانَ أَوْلَى بِالثَّبَاتِ عِنْدَهُ. وَلَا يَصِحُّ الْإِلْزَامُ عَلَى عِلَّةٍ مَنْصُوصَةٍ لِحُكْمٍ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَ مَا جُعِلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةً لَهُ. نَظِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ جَعَلَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ كَيْلًا فِي الْجِنْسِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ إيجَابُ الْعُشْرِ فِي كُلِّ مَكِيلِ جِنْسٍ. وَمَنْ جَعَلَ عِلَّةَ نَقْضِ الطَّهَارَةِ (خُرُوجَ النَّجَاسَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْزَمَ عَلَيْهَا وُجُوبُ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحُكْمَ الْمَنْصُوصَ عَلَى الْعِلَّةِ نَقْضَ الطَّهَارَةِ) وَوُجُوبُ الطَّهَارَةِ حُكْمٌ (آخَرُ) ، (غَيْرُ) نَقْضِهَا، بَلْ لَوْ جَعَلَ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ عِلَّةً لِإِيجَابِ الطَّهَارَةِ (عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 الْإِطْلَاقِ) لَزِمَهُ إيجَابُ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةً لِإِيجَابِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْغُسْلُ طَهَارَةٌ، وَيَلْزَمُهُ إيجَابُهُ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ. وَإِذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ الْإِبِلِ عَفْوًا، وَجَعَلْنَا كَوْنَهَا عَفْوًا عِلَّةً لِامْتِنَاعِ تَغَيُّرِ الْفَرْضِ بِهَا، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَلْزَمَ عَلَيْهَا أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ، قَدْ يُحْجَبُونَ وَلَا يَرِثُونَ،؛ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا كَوْنَ الْوَاحِدَةِ عَفْوًا لَا شَيْءَ فِيهَا عِلَّةً لِتَغَيُّرِ فَرْضِ الزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِيمَا أُلْزِمَ، وَلَا حُكْمُهَا. فَهَذَا إلْزَامٌ سَاقِطٌ لَا يَلْجَأُ إلَيْهِ إلَّا جَاهِلٌ بِالنَّظَرِ. وَكَثِيرٌ مِنْ إلْزَامَاتِ الْمُخَالِفِينَ تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى. وَإِنَّمَا الَّذِي نَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إسْقَاطِهَا تَحْقِيقُ الْمَعْنَى، فَإِنَّهَا مَتَى حَقَّقَتْ الْمَعْنَى فِيهَا اضْمَحَلَّتْ، وَإِذَا اقْتَضَتْ عِلَّةً لِحُكْمٍ مُقَيَّدَةً بِوَصْفٍ، أَوْ شَرْطٍ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهَا إيجَابُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُطْلَقًا، غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، أَوْ الشَّرْطِ. نَظِيرُ ذَلِكَ: أَنَّا إذَا جَعَلْنَا بَيْعَهُ لِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ عِلَّةً لِفَسَادِ بَيْعِ مَا فِي الذِّمَّةِ حَالًا، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ الْوَصْفُ الَّذِي جَعَلَ الْعِلَّةَ لَهُ، وَإِذَا جَعَلْنَا خُرُوجَ النَّجَاسَةِ عِلَّةً لِإِيجَابِ نَقْضِ الْوُضُوءِ، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهَا إيجَابُ الْغُسْلِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَا أَشْبَهَهُ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إذَا جَعَلْنَا وُقُوعَ الْأَكْلِ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ عِلَّةً فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَنْ الصَّائِمِ لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ قِيَاسُ الْمُتَكَلِّمِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا الْأَكْلِ نَاسِيًا فِيهَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا سُقُوطُ قَضَاءِ الصَّوْمِ، وَالْعِلَّةَ وُقُوعُ الْأَكْلِ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ عِلَّةٍ نَصَبْنَاهَا لِحُكْمٍ، فَإِنَّهُ (لَا يَلْزَمُنَا عَلَيْهَا حُكْمٌ مِنْ أَصْلٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ فِي مَوْضُوعِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 أَلَا تَرَى: أَنَّهُ إذَا أَفْسَدْنَا بَيْعًا؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ مَجْهُولٌ) (لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ) إفْسَادُ النِّكَاحِ لِجَهَالَةِ الْمَهْرِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَبْطَلْنَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ إبْطَالُ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ مَعْدُومَةً، وَإِذَا أَسْقَطْنَا عَنْ الْحَائِضِ قَضَاءَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهَا إسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّوْمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 [بَابُ ذِكْرِ وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا فِي تَقْسِيمِ الْوُجُوهِ الَّتِي مِنْهَا تُسْتَدْرَكُ أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ فَقُلْنَا: إنَّهَا تُسْتَدْرَكُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ، فَالْحَقُّ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ. وَالْآخَرُ: مَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ يُفْضِي بِالْمُجْتَهِدِ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ. وَإِنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْقِيَاسُ. وَالْآخَرُ: الِاجْتِهَادُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، مِنْ غَيْرِ رَدِّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ، كَمَا قُلْنَا فِي تَحَرِّي الْقِبْلَةِ وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ، وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ، وَتَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ، وَمَهْرِ الْمِثْلِ، وَنَحْوِهَا. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِدْلَال عَلَى الْحُكْمِ بِالْأُصُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَكَيْفِيَّتَهُمَا. وَنَذْكُرُ الْآنَ الْوَجْهَ الثَّالِثَ، وَطُرُقَهُ، وَوُجُوهَهُ مُخْتَلِفَةً، إلَّا أَنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جُمْلَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَعْتَبِرُهُ. فَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحَيْضُ، لِأَنَّهُ نَقَلَهَا إلَى الشُّهُورِ عِنْدَ عَدَمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا مَا يَغْلِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا، لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْفَقْرِ بَعْدَ إخْبَارِهِ بِكَوْنِهِمْ ذَوِي أَمْوَالٍ قَبْلَ إخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَلَبَتِهِمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي مِلْكِهِمْ بَعْدَ غَلَبَتِهِمْ عَلَيْهَا لَمَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ؟» حِينَ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَنْزِلُ دَارَك؟ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ لِنَجَاسَةِ «سُؤْرِ الْكَلْبِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ سُؤْرِهِ» ، وَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ غَسْلُ الْأَوَانِي تَعَبُّدًا مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ، إذْ لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَصْلًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ يُغْسَلُ سَبْعًا» قَدْ دَلَّ عَلَى النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ اسْمَ التَّطَهُّرِ فِي الْأُصُولِ لَا يُطْلَقُ (فِي الْأَوَانِي إلَّا مِنْ) النَّجَاسَةِ. وَمِنْ دَلَائِلِ الْأُصُولِ: مَا كَانَ يَقُولُ فِي أَنَّ كُفْرَ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِهَا لَمَنَعَ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَالْوَثَنِيَّةِ، وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَالْمُرْتَدَّةِ، إذْ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى (فِي) نَفْسِ الْمَوْطُوءَةِ. وَنَحْوُ: إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ لِفِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ أُلْحِقَ بِهِ مَا كَانَ فِي بَابِهِ، وَاعْتُبِرَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا نَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مُدْرِكَ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ، وَجَازَ لَهُ الِاعْتِدَادُ بِهَا، وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا، وَمُدْرِكَهُ فِي أَقَلِّ أَفْعَالِهَا غَيْرُ مُدْرِكٍ لَهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَرَ عَنْهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ: أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 وَإِنْ نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ عَلَيْهَا: أَنَّهَا مَاضِيَةٌ، وَإِنْ أَتَى بِأَكْثَرِ أَفْعَالِهَا. كَمَا أَنَّ مُدْرِكَ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِدَادُ بِهَا. كَمَا قَالُوا فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا إذَا عَقَدَهَا بِسَجْدَةٍ: إنَّهُ يَعْتَدُّ بِهَا، وَيَبْنِي عَلَيْهَا السَّادِسَةَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَقَلِّ حُكْمٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ. فَجَعَلُوا الْحُكْمَ لِأَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ، اسْتِدْلَالًا بِمُدْرِكِ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِهَا. وَجَعَلُوا الْأَقَلَّ كَالْكُلِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْجَوَازِ وَإِنَّمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى حُكْمِ الِاعْتِدَادِ بِالرَّكْعَةِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَجَعَلُوا أَكْثَرَ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ، اسْتِدْلَالًا بِقِيَامِ أَكْثَرِ أَرْكَانِ الْحَجِّ مَقَامَ جَمِيعِهَا فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ، وَلَمْ يَرُدُّوهُ إلَى أَصْلٍ، وَلَا رَدُّوا الصَّلَاةَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مِنْ بَابِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَنَحْوُ قَوْلِنَا: إنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ مَا يَمْنَعُهُ نَفْسُ النِّكَاحِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، ثُمَّ كَانَ حَالُ عِدَّتِهَا فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ زَوْجٍ آخَرَ إلَيْهِ، كَحَالِ بَقَاءِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ عِدَّتِهَا فِي بَابِ مَنْعِ الزَّوْجِ تَزْوِيجَ أُخْتِهَا بِمَنْزِلَةِ حَالِ بَقَاءِ عَقْدِهَا. فَهَذَا وَنَظَائِرُهُ ضُرُوبٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِلَّةٍ، وَلَا قِيَاسَ يَكْتَفِي فِيهِ بِذِكْرِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْ الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ بِالْأُصُولِ وَقَدْ يُمْكِنُ فِي أَكْثَرِهَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ بِعِلَّةٍ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَصْلِ، وَيَكُونُ أَقْطَعَ لِلشَّغَبِ. وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ سَائِغٌ، وَإِنْ خَالَفَك فِيهِ مُخَالِفٌ طَالَبَك بِحَمْلِهِ عَلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ، كَانَ لَك أَنْ (لَا) تُجِيبَهُ إلَيْهِ، وَتَقُولَ: إنَّ هَذَا عِنْدِي جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ (وَضَرْبٌ مِنْ) ضُرُوبِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ خَالَفْتنِي فِيهِ فَلْيَكُنْ الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ، وَيَكُونُ فِي الِاشْتِغَالِ بِتَصْحِيحِهِ خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا. وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ، إنَّمَا هُوَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْأُصُولِ، فَأَمَّا مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ دَلَائِلِ الْخِطَابِ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ، لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى قِيَاسٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 [بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِحْسَانِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَكَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ مُخَالِفِينَا فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ حِينَ ظَنُّوا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ حُكْمٌ مِمَّا يَشْتَهِيه الْإِنْسَانُ وَيَهْوَاهُ، أَوْ يَلَذُّهُ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَى قَوْلِنَا فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 فَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] وَرُوِيَ: أَنَّهُ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ بِمَا يَسْتَحْسِنُ، فَإِنَّ الْقَوْلَ (بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ شَيْءٌ يُحْدِثُهُ لَا عَلَى مِثَالِ مَعْنًى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 سَبَقَ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى مَا أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَتَعَسَّفُوا الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دِرَايَةٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ قُضَاةِ مَدِينَةِ السَّلَامِ، مِمَّنْ كَانَ يَلِي الْقَضَاءَ بِهَا فِي أَيَّامِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ، قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ بْنَ جَابِرٍ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ هَذَا رَجُلًا كَثِيرَ الْعِلْمِ، قَدْ صَنَّفَ كُتُبًا مُسْتَفِيضَةً فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُولُ بِإِثْبَاتِهِ. (قَالَ فَقُلْتُ) لَهُ: مَا الَّذِي أَوْجَبَ عِنْدَكَ الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَمَا كُنْت قَائِلًا بِإِثْبَاتِهِ؟ فَقَالَ: قَرَأْتُ إبْطَالَ الِاسْتِحْسَانِ لِلشَّافِعِيِّ فَرَأَيْتُهُ صَحِيحًا فِي مَعْنَاهُ، إلَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، فَصَحَّ بِهِ عِنْدِي بُطْلَانُهُ. وَجَمِيعُ مَا يَقُولُ فِيهِ أَصْحَابُنَا بِالِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوهُ مَقْرُونًا (بِدَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ) لَا عَلَى جِهَةِ الشَّهْوَةِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَوُجُوهُ دَلَائِلِ الِاسْتِحْسَانِ مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي عَمِلْنَاهَا فِي شَرْحِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَهُنَا جُمْلَةً، نُفْضِي بِالنَّظَرِ فِيهَا إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْدَ تَقْدِمَةٍ بِالْقَوْلِ فِي جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ (مَا حَسَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى) بِإِقَامَتِهِ الدَّلَائِلَ عَلَى حُسْنِهِ مُسْتَحْسَنًا، جَازَ لَنَا إطْلَاقُ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ فِيمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِصِحَّتِهِ. وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى فِعَالِهِ، وَأَوْجَبَ الْهِدَايَةَ لِفَاعِلِهِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 18] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى سَيِّئٌ» فَإِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا هَذَا اللَّفْظَ أَصْلًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَمْنَعْ إطْلَاقُهُ بَعْضَ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 بِصِحَّتِهِ عَلَى جِهَةِ تَعْرِيفِ (الْمَعْنَى) وَإِفْهَامٍ هُوَ الْمُرَادُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ اسْمًا لِمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَوَاجِبٌ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَا قَامَتْ دَلَالَةُ صِحَّتِهِ اسْتِحْسَانًا، حَتَّى يُسَمَّى النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَجَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِحْسَانًا. قِيلَ لَهُ: إنَّ جَمِيعَ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَكُلُّ مَا قَامَتْ دَلَالَةُ صِحَّتِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مُسْتَحْسَنٌ لَا مَحَالَةَ، لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ مَقْصُورًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، دُونَ بَعْضٍ لِاخْتِصَاصِ، كُلِّ مَعْنًى سِوَاهُ بِأَسْمَاءٍ مَعْرُوفَةٍ. فَلِمَا احْتَاجُوا فِيمَا عَرَفُوهُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إلَى اسْمٍ يُفِيدُونَ بِهِ السَّامِعَ الْمَعْنَى (الَّذِي) اخْتَارُوا لَهُ هَذَا اللَّفْظَ دُونَ غَيْرِهِ، مَعَ مَا وَجَدُوا لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ سَمَّى أَصْحَابُنَا عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ اسْتِحْسَانًا وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَتْ الْأَسْمَاءُ مَحْظُورَةً عَلَى أَحَدٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِفْهَامِ بَلْ لَا يَسْتَغْنِي أَهْلُ كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ إذَا اخْتَصُّوا بِمَعْرِفَةِ دَقِيقِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَطِيفِهِ وَغَامِضِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَرَادُوا الْإِبَانَةَ عَنْهَا وَإِفْهَامَ السَّامِعِينَ لَهَا (مِنْ) أَنْ يَشْتَقُّوا لَهَا أَسْمَاءً، وَيُطْلِقُوهَا عَلَيْهَا عَلَى جِهَةِ الْإِفَادَةِ وَالْإِفْهَامِ، كَمَا وَضَعَ النَّحْوِيُّونَ أَسْمَاءً لِمَعَانٍ عَرَفُوهَا وَأَرَادُوا إفْهَامَهَا غَيْرَهُمْ، فَقَالُوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 الْحَالُ، وَالظَّرْفُ، التَّمْيِيزُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَكَمَا قَالُوا فِي الْعَرُوضِ: الْبَسِيطُ، وَالْمَدِيدُ، وَالْكَامِلُ، وَالْوَافِرُ. وَكَمَا أَطْلَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ اسْمَ الْعَرَضِ، وَالْجَوْهَرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي عَرَفُوهَا وَأَرَادُوا الْعِبَارَةَ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ، إذْ كَانَ الْغَرَضُ فِيهِ الْإِبَانَةُ وَالْإِفْهَامُ لِلْمَعْنَى بِأَقْرَبِ الْأَسْمَاءِ مُشَاكَلَةً وَأَوْضَحِهَا دَلَالَةً عَلَيْهِ. ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو لِغَائِبٍ الِاسْتِحْسَانُ مِنْ أَنْ يُنَازِعَنَا فِي اللَّفْظِ أَوْ فِي الْمَعْنَى. فَإِنْ نَازَعَنَا فِي اللَّفْظِ، فَاللَّفْظُ مُسَلَّمٌ لَهُ، فَلْيُعَبِّرْ هُوَ بِمَا شَاءَ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُنَازَعَةِ فِي اللَّفْظِ وَجْهٌ، لِأَنَّ لِكُلِّ (وَاحِدٍ أَنْ يُعَبِّرَ عَمَّا عَقَلَهُ مِنْ الْمَعْنَى) بِمَا شَاءَ مِنْ الْأَلْفَاظِ، لَا سِيَّمَا بِلَفْظٍ يُطْلَقُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ. وَقَدْ يُعَبِّرُ الْإِنْسَانُ عَنْ الْمَعْنَى بِالْعَرَبِيَّةِ تَارَةً وَبِالْفَارِسِيَّةِ أُخْرَى فَلَا نُنْكِرُهُ. وَقَدْ يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: (قِيسُوا الْقَضَاءَ مَا صَلُحَ النَّاسُ، فَإِذَا فَسَدُوا فَاسْتَحْسِنُوا) وَأَنَّهُ قَالَ: (مَا وَجَدْتُ الْقَضَاءَ إلَّا مَا يَسْتَحْسِنُ النَّاسُ) وَلَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَطْلَقَ أَيْضًا لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ. وَاسْتَعْمَلَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ، فَسَقَطَ بِمَا قُلْنَا الْمُنَازَعَةُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ، أَوْ مَنْعِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وَإِنْ نَازَعَنَا فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّمَا لَمْ يُسَلِّمْ خَصْمُنَا تَسْلِيمَ الْمَعْنَى لَنَا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، بَلْ تَضَمَّنَ لِجَمِيعِ الْمَعَانِي الَّتِي يَذْكُرُهَا مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا: إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِثْبَاتُهُ بِحُجَّةٍ (وَبَيَانُ وُجْهَةٍ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 [بَابُ الْقَوْلِ فِي مَاهِيَّةِ الِاسْتِحْسَانِ وَبَيَانِ وُجُوهِهِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ يَكْتَنِفُهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَةُ الرَّأْيِ فِي إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اجْتِهَادِنَا وَآرَائِنَا، نَحْوُ تَقْدِيرِ مُتْعَةِ الْمُطَلَّقَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] ، فَأَوْجَبَهَا عَلَى مِقْدَارِ يَسَارِ الرَّجُلِ وَإِعْسَارِهِ، وَمِقْدَارُهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَغْلَبِ الرَّأْيِ وَأَكْبَرِ الظَّنِّ. وَنَظِيرُهَا أَيْضًا: نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَعْرُوفِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمِثْلُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقِيمَةُ أَوْ النَّظِيرُ مِنْ النَّعَمِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ (فِيهِ) ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْعَدْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِي مَقَادِيرِهَا نَصٌّ، وَلَا اتِّفَاقٌ، وَلَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَتَعْدِيلُهُمَا وَالْحُكْمُ بِتَزْكِيَتِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وَنَظَائِرُهَا) فِي الْأُصُولِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْهَا (مِثَالًا) يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ. فَيُسَمِّي أَصْحَابُنَا هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الِاجْتِهَادِ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْهُمْ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي قَسَّمْنَا عَلَيْهِ الْكَلَامَ بَدْءًا مِنْ ضَرْبَيْ الِاسْتِحْسَانِ: فَهُوَ تَرْكُ الْقِيَاسِ إلَى مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَرْعٌ يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ يَأْخُذُ الشَّبَهَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَجِبُ إلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، لِدَلَالَةٍ تُوجِبُهُ، فَسَمَّوْا ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا (إذْ لَوْ) لَمْ يَعْرِضْ لِلْوَجْهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ شَبَهٌ مِنْ الْآخَرِ يَجِبُ إلْحَاقُهُ بِهِ. وَأَغْمَضُ مَا يَجِيءُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، وَأَدَقُّهَا مَسْلَكًا: مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَوَقَفَ هَذَا الْمَوْقِفَ، لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إلَى إنْعَامِ النَّظَرِ، وَاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ فِي إلْحَاقِهِ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إنَّ لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَهُمْ يُنَبِّئُ عَنْ تَرْكِ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، لَوْلَاهُ لَكَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ ثَابِتًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْهُمَا: فَهُوَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ. وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِمَّا قَسَّمْنَا عَلَيْهِ الْكَلَامَ آنِفًا، فَنَقُولُ: إنَّ نَظِيرَ الْفَرْعِ الَّذِي يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتَقُولُ: قَدْ حِضْت، أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُصَدَّقَ حَتَّى يُعْلَمَ وُجُودُ الْحَيْضِ مِنْهَا، أَوْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ، إلَّا أَنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنُوقِعُ الطَّلَاقَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ بَعْضُ الْقِيَاسِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُصَدَّقَ، فَإِنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِأَصْلٍ مُتَّفَقٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 عَلَيْهِ، أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُصَدَّقُ فِي مِثْلِهِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ دَخَلْتهَا بَعْدَ الْيَمِينِ، أَوْ كَلَّمْت زَيْدًا، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ، أَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ، وَلَا تَطْلُقُ، حَتَّى يُعْلَمَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ، فَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْأَصْلِ يُوجِبُ أَنْ لَا تُصَدَّقَ فِي وُجُودِ الْحَيْضِ الَّذِي جَعَلَهُ الزَّوْجُ شَرْطًا لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ. وَكَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت، فَإِنْ عَبْدِي حُرٌّ، أَوْ قَالَ: فَامْرَأَتِي الْأُخْرَى طَالِقٌ، فَقَالَتْ: قَدْ حِضْت وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ، وَلَمْ تَطْلُقْ الْمَرْأَةُ الْأُخْرَى، فَقَدْ أَخَذَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ شَبَهًا مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْأُصُولِ لَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ تَلْحَقَ بِهَا، وَيُحْكَمُ لَهَا بِحُكْمِهَا، إلَّا أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ لَهَا أَصْلٌ آخَرُ مَنَعَ إلْحَاقَهَا بِالْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَأَوْجَبَ إلْحَاقَهَا بِالْأَصْلِ الثَّانِي دُونَهُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وَرُوِيَ عَنْ السَّلَفِ: أَنَّهُ أَرَادَ: مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: (مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ ائْتُمِنَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا) دَلَّ وَعْظُهُ إيَّاهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 وَنَهْيُهُ لَهَا عَنْ الْكِتْمَانِ، عَلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِي بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَبَلِ، وَشُغْلِهَا بِهِ، وَوُجُودِ الْحَيْضِ وَعَدَمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] فَوَعَظَهُ وَنَهَاهُ عَنْ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ، عُلِمَ أَنَّ الْمَرْجِعَ إلَى قَوْلِهِ فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ. فَصَارَتْ الْآيَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا أَصْلًا فِي قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ، إذَا قَالَتْ: أَنَا حَائِضٌ، وَتَحْرِيمُ وَطْئِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنَّهَا إذَا قَالَتْ: قَدْ طَهُرْت، حَلَّ لِزَوْجِهَا قُرْبُهَا. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي، صُدِّقَتْ فِي ذَلِكَ، وَانْقَطَعَتْ رَجْعَةُ الزَّوْجِ عَنْهَا، وَجُعِلَ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ كَالْبَيِّنَةِ فِي بَابِ إسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجِ عَنْهَا وَانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ مَعْنًى يَخُصُّهَا، وَلَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا. فَيُوجِبُ عَلَى ذَلِكَ إذَا قَالَ الزَّوْجُ إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: قَدْ حِضْتُ أَنْ تُصَدَّقَ فِي بَابِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، كَمَا صُدِّقَتْ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعَ إنْكَارِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى يَخُصُّهَا، أَعْنِي: (أَنَّ) الطَّلَاقَ وَالْحَيْضَ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا. فَفَارَقَ أَمْرَ الْحَيْضِ إذَا عُلِّقَ بِهِ الطَّلَاقُ، الدُّخُولُ، وَالْكَلَامُ، وَسَائِرُ الشُّرُوطِ، لِأَنَّ هَذِهِ مَعَانٍ قَدْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ (قَالُوا) : إنَّهَا لَا تُصَدَّقُ عَلَى وُجُودِ الْحَيْضِ إذَا عَلَّقَ (بِهِ طَلَاقَ غَيْرِهَا، أَوْ عَلَّقَ) بِهِ عِتْقَ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ (قَوْلُهَا) كَالْبَيِّنَةِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخُصُّهَا دُونَ غَيْرِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 أَلَا تَرَى: أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ: قَدْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ (أُخْتَهَا) كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا تُصَدَّقُ هِيَ عَلَى بَقَاءِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ غَيْرِهَا، وَتَكُونُ عِدَّتُهَا بَاقِيَةً فِي حَقِّهَا، وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا، فَصَارَ كَقَوْلِهَا: قَدْ حِضْتُ. (وَلَهُ) حُكْمَانِ. أَحَدُهُمَا: فِيمَا يَخُصُّهَا وَيَتَعَلَّقُ بِهَا، وَهُوَ طَلَاقُهَا وَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، جُعِلَ قَوْلُهَا فِيهِ كَالْبَيِّنَةِ. وَالْآخَرُ: فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا، أَوْ (فِي) عِتْقِ الْعَبْدِ، فَصَارَتْ فِي هَذَا الْحَالِ شَاهِدَةً كَإِخْبَارِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ، وَكَلَامِ زَيْدٍ، إذَا عَلَّقَ بِهِ الْعِتْقَ أَوْ الطَّلَاقَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُك إذَا جَعَلْت قَوْلَهَا كَالْبَيِّنَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَصَدَّقْتهَا فِيهِ فِي بَابِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ، حَتَّى تُصَدَّقَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى غَيْرِهَا. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا كَالْبَيِّنَةِ فِي حَالٍ، وَلَا يَكُونُ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ فِي وَجْهٍ آخَرَ. قِيلَ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهَا هَذَانِ الْحُكْمَانِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا. وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْأُصُولِ: مِنْهَا أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ، حَكَمْنَا بِشَهَادَتِهِمْ فِي بَابِ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، وَلَمْ نَحْكُمْ بِهَا فِي إيجَابِ الْقَطْعِ، وَامْتِنَاعِ جَوَازِ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْقَطْعِ لَمْ يَمْنَعْ إيجَابَ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْمَالِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ أَنَّ امْرَأَتَهُ هَذِهِ أُخْتَهُ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ أُمِّهِ، وَهِيَ مَجْهُولَةُ النَّسَبِ، وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا. وَلَمْ نَحْكُمْ بِالنَّسَبِ، فَأَثْبَتْنَا حُكْمَ إقْرَارِهِ مِنْ وَجْهٍ وَأَبْطَلْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْأُصُولِ وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ بَعْضُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 الْقِيَاسِ فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ إلْحَاقُهُ بِأَصْلٍ آخَرَ وَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ، دُونَ الْحَلِفِ بِدُخُولِ الدَّارِ، فَسُمِّيَ الِاسْتِحْسَانُ قِيَاسًا فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ لَعَمْرِي كَذَلِكَ فِيمَا بَيَّنَّاهُ. وَمِنْ نَظِيرِهِ أَيْضًا: الْمَشْيُ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهَا. أَلَا تَرَى: «أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى حَتَّى صَارَ فِي الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَامَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فَأَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِهَا. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فَمَرَّتْ بَهِيمَةٌ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَصِقَ بِالْحَائِطِ فَمَرَّتْ الْبَهِيمَةُ خَلْفَهُ» ، فَكَانَ الْمَشْيُ الْيَسِيرُ مَعْفُوًّا عَنْهُ. وَمَعْلُومٌ (مَعَ ذَلِكَ) : أَنَّهُ لَوْ مَشَى فِي صَلَاتِهِ مِيلًا أَوْ نَحْوَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ جَعَلَ كُلَّ خُطْوَةٍ مِنْهَا بِحُكْمِ نَظِيرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَهَا، لَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، وَإِنْ مَشَى مِيلًا قِيَاسًا عَلَى الْمَشْيِ الْيَسِيرِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هُنَا أَصْلٌ آخَرُ قَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَشْيُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ، أَنَّهُ يُفْسِدُهَا، جَعَلُوا الْمَشْيَ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَسْتَدْبِرْ الْقِبْلَةَ فِي حُكْمِ الْخُطْوَةِ وَالسَّيْرِ، وَأَفْسَدُوا الصَّلَاةَ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ سَائِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ: مَسْأَلَةٌ يُشَنِّعُ بِهَا الْمُخَالِفُونَ عَلَى أَصْحَابِنَا، حِينَ قَالُوا فِي قَوْمٍ نَقَبُوا بَيْتًا وَدَخَلُوهُ وَسَرَقُوا مَتَاعًا وَلِيَ بَعْضُهُمْ إخْرَاجَهُ دُونَ الْبَاقِينَ: إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يُقْطَعَ الَّذِي وَلِيَ إخْرَاجَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ. وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنَقْطَعُهُمْ جَمِيعًا. فَيُشَنِّعُوا عَلَيْهِمْ حِينَ اسْتَحْسَنُوا إيجَابَ الْقَطْعِ، وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْحُدُودِ دَرْؤُهَا بِالشُّبُهَاتِ. وَذَهَبَ عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي الْحَدِّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى إيجَابِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 وَأَمَّا وَجْهُ اسْتِحْسَانِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّمَا هُوَ قِيَاسًا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْعُ الَّذِي يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ. وَأَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ. فَأَمَّا الْأَصْلُ الَّذِي سَمَّاهُ قِيَاسًا: فَهُوَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ قَوْمًا لَوْ اجْتَمَعُوا فَأَكْرَهُوا امْرَأَةً حَتَّى زَنَى بِهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، أَنَّ الْحَدَّ عَلَى الَّذِي وَلِيَ الزِّنَا مِنْهُمْ، دُونَ مَنْ أَعَانَ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ عَلَى مَنْ وَلِيَ إخْرَاجَ الْمَتَاعِ، دُونَ مَنْ ظَاهَرَ فِيهِ وَأَعَانَ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ. ثُمَّ وَجَدُوا أَصْلًا آخَرَ يَقْتَضِي إلْحَاقَ السَّارِقِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ قُطَّاعُ الطُّرُقِ الَّذِينَ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ عَلَى جِهَةِ الِامْتِنَاعِ، وَالتَّظَاهُرِ، ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ مَنْ وَلِيَ الْقَتْلَ، وَأَخَذَ الْمَالَ، وَحُكْمُ مَنْ ظَاهَرَ، وَأَعَانَ عَلَيْهِ، وَاشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الْآيَةَ، لِأَجْلِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَوَصَّلُوا إلَى أَخْذِ الْمَالِ، وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَلَى جِهَةِ الِامْتِنَاعِ وَالْمُحَارَبَةِ. كَذَلِكَ السَّارِقُ لَمَّا اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَهُوَ انْتِهَاكُ الْحِرْزِ وَأَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِسْرَارِ، وَجَبَ أَلَّا يَخْتَلِفَ حُكْمُ مَنْ وَلِيَ إخْرَاجَ الْمَتَاعِ، وَحُكْمُ مَنْ ظَاهَرَ فِيهِ، وَأَعَانَ عَلَيْهِ، فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِهَذَا الْأَصْلِ الَّذِي فِيهِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي السَّبَبِ وَالتَّظَاهُرِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْهُ بِالزَّانِي. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ جَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَغَنِمُوا غَنَائِمَ، أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَانِ: مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ وَمَنْ أَعَانَ، فَاسْتَوَوْا جَمِيعًا فِي الْحُكْمِ عِنْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ حَصَلَتْ الْغَنَائِمُ، وَهُوَ الْمَنَعَةُ وَالْمُظَاهَرَةُ عَلَى الْقِتَالِ، فَصَارَتْ مَسْأَلَةُ السَّرِقَةِ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِمَسْأَلَةِ الزِّنَا الَّتِي إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهَا بِوُجُودِ الْفِعْلِ دُونَ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِهِ، وَيَحْصُلُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 وَلَيْسَ الْغَرَضُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِاحْتِجَاجُ لِلْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ مِثَالًا لِمَسَائِلِ الِاسْتِحْسَانِ الَّتِي تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى لِيَكُونَ غَيْرُهُ فِيمَا سِوَاهُ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ تَفُوتُ الْإِحْصَاءَ. (وَ) فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ كِفَايَةٌ. وَرُبَّمَا جَاءَتْ مَسَائِلُ يَذْكُرُونَ فِيهَا الْقِيَاسَ (وَ) الِاسْتِحْسَانَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ فَيَتْرُكُونَ الِاسْتِحْسَانَ. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ - فِيمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ فِي ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَا - فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ: شَرَطْت طُولَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ، شَرَطْت طُولَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَتَحَالَفَا وَيَتَرَادَّا السَّلَمَ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ: وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ. فَذَكَرُوا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ جَمِيعًا، ثُمَّ تَرَكُوا الِاسْتِحْسَانَ وَأَخَذُوا بِالْقِيَاسِ. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ: أَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّوْبِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَرْوِيٌّ وَقَالَ الْآخَرُ: هَرَوِيٌّ أَوْ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: جَيِّدٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: رَدِيءٌ، أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، وَيَتَرَادَّانِ، لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ عَلَى صِفَةٍ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِنْسِ اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَةِ وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، إذْ كَانَ السَّلَمُ عَقْدًا عَلَى صِفَةٍ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي مِقْدَارِ الذَّرْعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 الْمَشْرُوطِ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، إذْ كَانَ الذَّرْعُ صِفَةً. وَالسَّلَمُ عَقْدٌ عَلَى صِفَةٍ، فَوَجَبَ بِالتَّحَالُفِ وَالتَّرَادِّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي قَالَ: بِهِ نَأْخُذُ. وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي ذَكَرَهُ: فَإِنَّ وَجْهَهُ أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا شَرَطَ مِنْ مِقْدَارِ ذَرْعِهِ. وَقَالَ الْبَائِعُ: شَرَطَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: شَرَطَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ، وَلَا يَتَرَادَّانِ فَكَانَ هَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْقِيَاسِ (إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي أَخَذَ بِهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ) الَّذِي سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا، وَكَانَ إلْحَاقُ مَسْأَلَةِ السَّلَمِ بِاخْتِلَافِهَا فِي الْجَوْدَةِ وَالْجِنْسِ، أَوْلَى مِنْهَا بِمَسْأَلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي ذَرْعِ الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّرْعَ لَمَّا كَانَ صِفَةً، وَكَانَتْ صِفَةُ الْأَعْيَانِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا الْعَقْدُ بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَوَجَدَهُ أَقَلَّ كَانَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِ (نُقْصَانِ الذَّرْعِ، وَلَوْ وَجَدَهُ أَكْثَرَ كَانَ جَمِيعُهُ لَهُ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ بِحُسْبَانِ) زِيَادَةِ الذَّرْعِ. فَعَلِمْت أَنَّ الذَّرْعَ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَلَمْ يَكُنْ اخْتِلَافُهُمَا فِي الذَّرْعِ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِيهِ التَّحَالُفُ وَالتَّرَادُّ. وَأَمَّا السَّلَمُ: فَلَمَّا كَانَ عَقْدًا عَلَى صِفَةٍ، وَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الذَّرْعِ اخْتِلَافًا فِي الصِّفَةِ صَارَ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ، (وَ) فِي الْجَوْدَةِ، وَالرَّدَاءَةِ، وَكَانَ إلْحَاقُهُمَا بِهَذِهِ أَوْلَى مِنْهَا بِالِاخْتِلَافِ فِي ذَرْعِ الْعَيْنِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي شَرْطِ جِنْسِ الْعَيْنِ، أَوْ فِي شَرْطِ جَوْدَتِهِ وَرَدَاءَتِهِ لَا تُوجِبُ التَّحَالُفَ، وَإِنَّمَا تَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي السَّلَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 يُوجِبُ التَّحَالُفَ إذْ كَانَ عَقْدًا عَلَى صِفَةٍ، وَأَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَتَى اخْتَلَفَا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَجَبَ التَّحَالُفُ، وَالتَّرَادُّ، إذْ كَانَ الْفَسْخُ مُمْكِنًا فِيهِ. وَمِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الِاسْتِحْسَانَ وَأَخَذُوا بِالْقِيَاسِ: قَوْلُهُمْ - فِيمَنْ قَرَأَ سَجْدَةً مِنْ آخِرِ السُّورَةِ، فَرَكَعَ بِهَا -: إنَّ رَكْعَتَهُ تُجْزِيه مِنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تُجْزِيه. قَالُوا: وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ، فَذَكَرُوا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ، (وَتَرَكُوا الِاسْتِحْسَانَ لِلْقِيَاسِ، وَلَهُمْ مَسَائِلُ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ، يَتْرُكُونَ مِنْهَا الِاسْتِحْسَانَ) لِلْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ فِي مِثْلِهَا تَنْبِيهُ الْمُتَعَلِّمِ عَلَى أَنَّ لِلْحَادِثَةِ شَبَهًا بِأَصْلٍ آخَرَ، قَدْ كَانَ يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِهِ إلَّا أَنَّ إلْحَاقَهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ أَوْلَى. وَرُبَّمَا ذَكَرُوا الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ فَيَتْرُكُونَهُ، وَيَرْجِعُونَ إلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ، وَيُسَمُّونَ قِيَاسَ الْأَصْلِ اسْتِحْسَانًا. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ - فِيمَنْ احْتَلَمَ فِي الصَّلَاةِ -: إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَبْنِيَ، إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَاسْتَحْسَنَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَيَسْتَقْبِلَ. وَالْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ: هُوَ قِيَاسُ الْحَدَثِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِأَنْ قَاسَ عَلَى الْأَثَرِ. وَجَوَازُ الْبِنَاءِ مَعَ الْحَدَثِ اسْتِحْسَانٌ تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ، فَلَوْ قَاسَ عَلَى الْأَثَرِ (لَجَازَ) الْبِنَاءُ مَعَ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَدَثَ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ. وَإِنَّمَا تَرَكُوا (فِيهِ الْقِيَاسَ) لِلْأَثَرِ، وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدَثِ دُونَ الْجِنَايَةِ، فَسَلَّمُوا لِلْأَثَرِ مَا وَرَدَ فِيهِ، وَحَمَلُوا الْبَاقِيَ عَلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ، فَسُمِّيَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ اسْتِحْسَانًا لَمَّا تُرِكَ بِهِ قِيَاسًا آخَرَ قَدْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ لَوْلَا مَا وَصَفْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي هُوَ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِأَحَدِ النَّظِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَأْخُذُ الشَّبَهَ مِنْهُمَا، وَهَذَا الضَّرْبُ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَلَا تَرْكُهَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ ذَلِكَ لَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الْحَادِثَةِ عَلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَيَانُ وُجُوهِ الضَّرْبِ الْآخَرِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ، الَّذِي هُوَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إنَّ الِاسْتِحْسَانَ الَّذِي هُوَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، أَنَّا مَتَى أَوْجَبْنَا حُكْمًا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِهِ عَلَمًا لِلْحُكْمِ، وَسَمَّيْنَاهُ عِلَّةً لَهُ، فَإِنَّ إجْرَاءَ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَعْنَى وَاجِبٌ حَيْثُمَا وُجِدَ، إلَّا مَوْضِعًا تَقُومُ الدَّلَالَةُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَجَبَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهِ، فَسَمَّوْا تَرْكَ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ اسْتِحْسَانًا. وَقَدْ يُتْرَكُ (حُكْمُ) الْعِلَّةِ تَارَةً بِالنَّصِّ، وَتَارَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَتَارَةً بِقِيَاسٍ آخَرَ يُوجِبُ فِي الْحَادِثَةِ حُكْمًا سِوَاهُ، وَإِلْحَاقُهَا بِأَصْلٍ غَيْرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 وَنَظِيرُ تَرْكِهِ بِالنَّصِّ: مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّغِيرِ يَمُوتُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ: ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لِأَنَّ الْحَمْلَ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ، وَاسْتَحْسَنَ أَنْ يَجْعَلَ عِدَّتَهَا وَضْعَ الْحَمْلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَسَمَّى تَرْكَ الْقِيَاسِ لِلْعُمُومِ اسْتِحْسَانًا. وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا يَصِحُّ لَك مَا ادَّعَيْت فِي ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الْقِيَاسِ لِلْعُمُومِ، لِأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَرِدْ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَلَمْ نَجِدْ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ذِكْرًا فِي الْآيَةِ، فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ مِنْ أَجْلِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَنْت، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ يَنْتَظِمُ الْمُطَلَّقَةَ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا (وَ) إنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ فِي الْمُطَلَّقَاتِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ (حُكْمِ) الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، اعْتَبَرَ جَمِيعُهُمْ وَضْعَ الْحَمْلِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، فَصَحَّ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ عُمُومِ آيَةِ الْحَمْلِ فِي تَرْكِ الْقِيَاسِ فِيمَا وَصَفْنَا. وَمِمَّا خَصُّوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ وَتَرَكُوا فِيهِ حُكْمَ الْعِلَّةِ: قَوْلُهُمْ فِي الْأَكْلِ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ: إنَّ الْقِيَاسَ يَقْضِي، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُمْ وَجَدُوا سَائِرَ الْعِبَادَاتِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا إذَا تُرِكَتْ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ، أَوْ الْعَمْدِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْأَكْلَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي حَالِ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ، وَالْحَلْقُ، وَاللُّبْسُ فِي الْإِحْرَامِ. وَكَمَا لَا تَخْتَلِفُ نِيَّةُ الصَّوْمِ فِي تَرْكِهَا سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، فَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ فُرُوضِهِ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ، كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهَا، (كَمَا لَا وُضُوءَ فِيهَا) فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَدَثًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ نَقْضِ الطَّهَارَةِ فِي حَالِ وُجُودِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ، إذْ لَا حَظَّ لِلنَّظَرِ مَعَ الْأَثَرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إجَازَتِهِ الْوُضُوءَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْوُضُوءُ بِهِ، لِزَوَالِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ، كَنَبِيذِ الزَّبِيبِ، وَشَرَابِ الْعَسَلِ، وَالْخَلِّ، وَالْمَرَقِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهِ. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ لَوْ تَقَصَّيْنَاهَا لَطَالَ بِهَا الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ مِنْهَا أَمْثِلَةً تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ بِالْإِجْمَاعِ: فَنَظِيرُهُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ نَسَاءً، وَلَا الْحَدِيدَ بِالنُّحَاسِ، وَلَا شَيْئًا مِنْ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ، وَلَا الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ، وَلَا الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ نَسَاءً. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا وَلَا مَوْزُونًا، نَحْوُ الثِّيَابِ الْمَرْوِيَّةِ بِالثِّيَابِ الْهَرَوِيَّةِ، فَصَارَ وُجُودُ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ: عِلَّةً لِتَحْرِيمِ النَّسَاءِ. وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عِلَّةً صَحِيحَةً فِي مَوْضِعِهَا، لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا. وَلَيْسَ، هَذَا مَوْضِعُ بَيَانِ صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِلَالِ، فَلَوْ لَزِمُوا سَبِيلَ الْقِيَاسِ وَمَا يَقْتَضِيه هَذَا الِاعْتِلَالُ، لَوَجَبَ تَحْرِيمُ النَّسَاءِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، بِسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ فِي نَظَائِرِهَا. إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ وَأَجَازُوهُ، إذْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ هُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا بِيَاعَاتِ النَّاسِ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ النَّسَاءِ فِيهَا بِسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ أَيْضًا: مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ مُلَاقَاةَ النَّجَاسَةِ (لِلْمَاءِ تُوجِبُ الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهِ، فَقَالُوا فِي الْإِنَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: إنَّ الْمَاءَ مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ النَّجَاسَةِ) ، لِمُلَاقَاتِهِ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَلَا لَوْنُهُ، وَلَا رَائِحَتُهُ، فَلَوْ لَزِمُوا طَرِيقَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 الْقِيَاسِ وَأَجْرَوْا الْحُكْمَ عَلَى الْعِلَّةِ، لَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَطْهُرَ الثَّوْبُ الَّذِي تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ، أَوْ الْبَدَنُ أَوْ الْأَوَانِي أَبَدًا، وَإِنْ غُسِلَ خَمْسِينَ مَرَّةً، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَاءَ الْأَوَّلَ يُلَاقِي نَجِسًا، فَيَتَنَجَّسُ، ثُمَّ يَزُولُ بَعْدَ مُلَاقَاتِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَحُصُولِ حُكْمِهَا فِيهِ. فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ حُكْمُ هَذَا الْمَاءِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الثَّوْبِ، فَلَا يَطْهُرُ، كَذَلِكَ الْمَاءُ الثَّانِي يُلَاقِي مَاءً نَجِسًا، فَلَا تَزُولُ إلَّا بَعْدَ مُلَاقَاتِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَانْتِقَالِ حُكْمِهَا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَمَا بَعْدَهُ، (وَإِنْ كَثُرَ) إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ، وَحَكَمُوا بِطَهَارَتِهِ إذَا زَالَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى طَهَارَتِهِ إذَا صَارَ بِهَذَا الْحَدِّ، فَهَذَا وَجْهٌ مِمَّا تُرِكَ الْقِيَاسُ فِيهِ، وَحُكْمٌ مُوجِبٌ الْعِلَّةَ بِالْإِجْمَاعِ. وَمِمَّا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ، وَخَصُّوا الْحُكْمَ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِعَمَلِ النَّاسِ: مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّ عُقُودَ الْإِجَارَاتِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» فَصَارَتْ أَبْدَالُ الْمَعْلُومِ مِنْ الْمَنَافِعِ كَأَبْدَالِ الْوُجُودِ مِنْ الْأَعْيَانِ، فِي بَابِ اعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً فِي الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا - إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا أَوْ دَارًا -: إنَّ الْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُدَّةِ كَهِيَ إلَى مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ، فَلَمْ يُجِيزُوهَا بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ، وَلَا عَلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ. فَلَوْ لَزِمُوا هَذَا الِاعْتِبَارَ وَأَعْطَوْا الْعِلَّةَ حَقَّهَا مِمَّا يَقْتَضِيه مِنْ الْحُكْمِ وَيُوجِبُهُ، لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِنْسَانِ دُخُولُ الْحَمَّامِ حَتَّى يُبَيِّنَ مِقْدَارَ مَا يُعْطِي مِنْ الْأُجْرَةِ، وَمِقْدَارَ لُبْثِهِ فِي الْحَمَّامِ، وَمَا يَصُبُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَاءِ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ، وَاتَّبَعُوا عَمَلَ النَّاسِ، وَإِجَازَتَهُمْ لَهُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: عَمَلَ النَّاسِ: أَنَّ السَّلَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ قَدْ كَانُوا يُشَاهِدُونَ النَّاسَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ نَكِيرٌ عَلَى فَاعِلِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ إجَازَةً مِنْهُمْ لَهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 وَإِقْرَارًا لَهُمْ عَلَيْهِ، إذْ كَانُوا هُمْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ، كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ خَارِجًا عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ الَّذِي وَصَفْنَا. وَنَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا: قُعُودُ الْإِنْسَانِ فِي سِمَايَةٍ وَإِعْطَاءِ الْمَلَّاحِ مَقْطَعَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ مَوْضِعِ الْعُبُورِ وَلَا بَيَانِ مِقْدَارِ مَا يُعْطِيه. وَمِثْلُهُ أَيْضًا: شِرَاءُ الْبَقْلِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا يُعْطِي فِيهِ مَقْطَعَةٍ، فَيَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لِمِقْدَارِ مَا يَأْخُذُ أَوْ يُعْطَى. وَكَذَلِكَ أَجَازُوا أَنْ يَشْتَرِيَ أَرْطَالَ لَحْمٍ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْ الْقَصَّابِ، فَيُعْطِيَ الدَّرَاهِمَ وَيَأْخُذَ اللَّحْمَ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، حَتَّى يُسَمَّى فِيهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا وَصَفْنَا. وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ: الِاسْتِصْنَاعُ، وَهُوَ: أَنْ يَسْتَصْنِعَ عِنْدَ الرَّجُلِ خُفَّيْنِ، أَوْ نَعْلَيْنِ، أَوْ قَلَنْسُوَةً، أَوْ نَحْوَهَا، وَيُسَمِّي الثَّمَنَ، وَيَصِفُ لَهُ الْعَمَلَ. فَكَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ خُفًّا مَوْصُوفًا، أَوْ قَلَنْسُوَةً، أَوْ نَحْوَهَا، مِمَّا لَيْسَ عِنْدَهُ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ، وَأَجَازُوهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَمَلِ النَّاسِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ بِالْقِيَاسِ، فَنَحْوُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - فِي رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنْ يَعْتِقَهُ: إنَّ الشِّرَاءَ فَاسِدٌ إنْ أَعْتَقَهُ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِيمَةُ، لِوُقُوعِ الْبَيْعِ عَلَى فَسَادٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 وَمَتَى أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا بَعْدَ الْقَبْضِ، كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، فَلَوْ أَجْرَى حُكْمَ الْعَبْدِ الْمَشْرُوطِ عِتْقُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ. إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ، وَقَاسَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ثَابِتٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَهُوَ: الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ: اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَعْتَقَهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَعَتَقَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ عِتْقُ الْعَبْدِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُلْزِمَةٍ فِي نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ شَرْطَ عِتْقِ الْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ الْمُعْتَقِ عَلَى مَالٍ. وَفَارَقَ سَائِرَ الشُّرُوطِ سِوَاهُ، مِثْلُ شَرْطِهِ فِي الْجَارِيَةِ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ فَيَسْتَوْلِدَهَا الْمُشْتَرِي، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا دُونَ الثَّمَنِ الْمَشْرُوطِ. إذْ لَمْ يَكُنْ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى مَالٍ أَصْلٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، فَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ، إذَا تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُشْتَرِي وَكَانَتْ الشُّرُوطُ الْمُفْسِدَةُ، لِلْبُيُوعِ مُقْتَصَرًا بِهَا عَلَى مَا عَدَا الْعِتْقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 [بَابُ الْقَوْلِ فِي تَخْصِيصِ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَخْصِيصُ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَعِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبَاهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ، وَالشَّافِعِيُّ. وَاَلَّذِي حَكَيْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ، أَخَذْنَاهُ عَمَّنْ شَاهَدْنَاهُمْ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمَذْهَبِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ يَعْزُونَهُ إلَيْهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، يَحْكُونَهُ عَنْ شُيُوخِهِمْ الَّذِينَ شَاهَدُوهُمْ، وَمَسَائِلُ أَصْحَابِنَا وَمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ مَقَالَتِهِمْ فِيهَا تُوجِبُ ذَلِكَ. وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَشُيُوخِنَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، إلَّا بَعْضَ مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 كَانَ هَهُنَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي عَصْرِنَا مِنْ الشُّيُوخِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ. وَلَهُ مَنَاكِيرُ - فِي هَذَا الْبَابِ - فِي أَجْوِبَةِ مَسَائِلِهِمْ، لَا تُخَيَّلُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى رِيَاضَةٍ بِفِقْهِهِمْ، إنْ كَانَ مَا يَحْكِيه لَيْسَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ. نَحْوُ قَوْلِهِ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ فِي تَمْرٍ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ فَلَمْ يَسْتَحِلْ نَبِيذًا، وَكَانَ حُلْوًا، وَإِنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ الْمَطْبُوخِ الْمُسْتَحِيلِ إلَى حَالِ الشِّدَّةِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ عِنْدَهُ. وَمَذَاهِبُهُمْ فِي تَخْصِيصِ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَهُ إنْكَارُ مُنْكِرٍ، وَلَعَمْرِي إنَّهُ يُمْكِنُ حَصْرُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الِاسْتِحْسَانِ الَّتِي خَصَصْنَا عِلَلَهَا بِمَعَانٍ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهَا التَّخْصِيصُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَذَاهِبِ بِجَوَازِ مَا وَصَفْنَا. وَتَقْيِيدُ الْعِلَّةِ مِمَّا لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ. كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ: إنَّهَا وُجُودُ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، فَمَتَى أَطْلَقْنَا (الْعِلَّةَ) عَلَى هَذَا الْحَدِّ احْتَجْنَا إلَى تَرْكِ الْحُكْمِ، مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، إذَا أَسْلَمَهَا فِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ، فَيَكُونُ فِيهِ تَخْصِيصٌ مِنْ جُمْلَةِ مُوجِبِ الْعِلَّةِ. وَلَوْ قَيَّدْنَاهَا بِأَنْ قُلْنَا: إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ هِيَ: وُجُودُ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، كَانَ حُكْمُهَا حِينَئِذٍ جَارِيًا مَعَهَا مَوْجُودًا بِوُجُودِهَا، وَلَا تُوجَدُ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ عَارِيَّةً مِنْ إيجَابِ حُكْمِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا فِي الِابْتِدَاءِ: إنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ، لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهَا التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنَانِ بِالْعُقُودِ عِنْدَنَا. وَاسْتِعْمَالُ التَّقْيِيدِ وَحَصْرُ الْعِلَلِ بِمَا لَا يَلْزَمُ عَلَيْهَا التَّخْصِيصُ مُمْكِنٌ فِي سَائِرِ الْعِلَلِ الَّتِي خَصُّوا أَحْكَامَهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعْزَى إلَيْهِمْ مَا لَيْسَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ، لِأَجْلِ إمْكَانِ ذَلِكَ، (وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 [بَابُ الِاحْتِجَاجِ لِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ] ُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ عِلَلًا مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَاتٌ مَنْصُوبَةٌ لِإِيجَابِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَسُمِّيَتْ عِلَلًا مَجَازًا، تَشْبِيهًا لَهَا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِأَحْكَامِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا: جَوَازُ وُجُودِهَا عَارِيَّةً مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لَاسْتَحَالَ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْهَا، كَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، لَمَّا كَانَتْ مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا اسْتَحَالَ وُجُودُهَا عَارِيَّةً. فَلَمَّا وَجَدْنَا الْمَعَانِيَ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا عِلَلًا لِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْأَحْكَامُ بِهَا مِنْ حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَارَاتٍ لَهَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ مَا جَعَلَهُ الْقَائِسُونَ عِلَلًا لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ، قَدْ كَانَ مَوْجُودًا فِي تِلْكَ الْأَصْنَافِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلتَّحْرِيمِ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ: أَنَّهَا لَمْ تُوجِبْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ بِأَنْفُسِهَا، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ جُعِلَتْ أَمَارَةً لَهَا. فَلَا يَمْتَنِعُ إذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا: أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةً فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَفِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ، كَمَا جَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ أَمَارَةً لِلْحُكْمِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، وَهَذَا حُكْمٌ جَارٍ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 أَلَا تَرَى: أَنَّ الْمَيْتَةَ الْمُحَرَّمَةَ مَعَ قِيَامِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِيهَا، لَمْ يَمْتَنِعْ إبَاحَتُهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، لِأَجْلِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ لِنَفْسِ الْمَيْتَةِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْمَيْتَةَ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ (مَجِيءِ) الشَّرْعِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، وَإِنَّمَا الْحَظْرُ تَنَاوَلَهَا بِمَجِيءِ الشَّرْعِ، ثُمَّ جَازَ تَخْصِيصُ حَظْرِهَا بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، كَذَلِكَ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنَّهَا مَتَى صَحَّتْ عِلَّةً وَأَمَارَةً لِلْحُكْمِ، فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهَا وَحُكْمُ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فِي بَابِ امْتِنَاعِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ فِيهَا، لِأَنَّ طَرِيقَ اسْتِدْرَاكِهَا وَالْوُصُولِ إلَيْهَا دُونَ السَّمْعِ: إنَّمَا هُوَ الْعَقْلُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ وُرُودَ السَّمْعِ لَمْ يُخْرِجْهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهَا غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا، لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ بِأَنَّهُ مُوجِبٌ لَهُ لِنَفْسِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَحُكْمُهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ، كَهُوَ قَبْلَ وُرُودِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَوَاجِبٌ إذًا أَنْ يَعْتَبِرَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فِي كَوْنِهَا عَلَامَةً لِلْحُكْمِ وَأَمَارَةً لَهُ، عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ لَمَّا كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ: الْعَقْلَ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَعْقُولَةَ مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا الْعَقْلُ أَيْضًا، لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يَعْلَمُهَا، وَلَا يَصِلُ إلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ جَوَازُ التَّخْصِيصِ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْعِلَلُ. وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ: الْعَقْلُ، فَإِنَّ حَظَّ الْعَقْلِ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 لِلْإِيصَالِ إلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا أَمَارَةً لِلْحُكْمِ، ثُمَّ الْعَقْلُ هُوَ الَّذِي يُجِيزُ تَخْصِيصَهُ، كَمَا يُجِيزُ تَخْصِيصَ الْمَسْمُوعِ نَفْسِهِ. أَوَلَا تَرَى: أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَدْ كَانَتْ مَعْقُولَةً مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ مُعَاذًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَوَادِثِ ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ ذَلِكَ جَوَازُ وُرُودِ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ عَلَيْهَا، وَعَلَى أُصُولِهَا الْمَسْمُوعَةِ، وَلَمْ تَصِرْ مِنْ أَجْلِ مَا ذَكَرْت بِمَنْزِلَةِ الْعِلَلِ (الْعَقْلِيَّةِ) الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا التَّبْدِيلُ. فَبَانَ بِمَا وَصَفْت سُقُوطُ هَذَا السُّؤَالِ، وَصَحَّ أَنَّ كَوْنَهَا مُسْتَنْبَطَةً مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّخْصِيصِ فِيهَا. دَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَمَّا كَانَتْ عَلَامَاتٍ وَسِمَاتٍ لِلْأَحْكَامِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهَا، صَارَتْ كَالْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ سِمَاتٌ وَأَمَارَاتٌ لِلْمُسَمَّيَاتِ. فَمِنْ حَيْثُ جَازَ أَنْ يُعَلَّقَ الْحُكْمُ (بِالِاسْمِ) فَيَكُونُ دَلَالَةً عَلَيْهِ، وَعَلَامَةً لَهُ، ثُمَّ جَازَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِعَيْنِهِ عَلَمًا لِحُكْمٍ آخَرَ غَيْرِهِ، مِثْلُ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَمَلَ عَلَى الْيَهُودِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ اسْمُ السَّبْتِ عَلَمًا لِلتَّحْرِيمِ، ثُمَّ أَبَاحَهُ لَنَا، فَصَارَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِعَيْنِهِ عَلَمًا لِلْإِبَاحَةِ، وَجَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَخْصِيصُهَا، مِنْ حَيْثُ جَازَ عَلَيْهَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الْعِلَلُ الَّتِي هِيَ دَلَالَاتُ الْأَسْمَاءِ، هِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَاهَا فِي بَابِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهَا، حَسَبَ جَوَازِهِ فِي الْأَسْمَاءِ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَنْصِبَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوْصَافَ الَّتِي هِيَ عِلَلٌ أَعْلَامًا، لِلْإِبَاحَةِ تَارَةً، وَلِلْحَظْرِ أُخْرَى، عَلَى حَسَبِ إيجَابِهِ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي مِنْهَا اقْتَضَتْ هَذِهِ الْعِلَلُ. فَلَمَّا جَرَتْ هَذِهِ الْعِلَلُ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ (حُكْمُهَا حُكْمَهَا) ، فِي بَابِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهَا، كَجَوَازِهَا فِيهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَارَةً عَلَمًا لِلْحَظْرِ، وَتَارَةً عَلَمًا لِلْإِبَاحَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وَجِهَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَمَّا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى السَّمْعِ، ثُمَّ جَازَ تَخْصِيصُ الْمَسْمُوعِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، فَالْفَرْعُ الَّذِي هُوَ مَبْنِيٌّ (عَلَيْهِ أَوْلَى) بِالْجَوَازِ، إذْ كَانَ الْأَصْلُ آكَدُ مِنْ الْفَرْعِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ رَادَّ الْمَسْمُوعِ نَفْسَهُ يَسْتَحِقُّ التَّكْفِيرَ، وَرَادَّ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، فَعَلِمْتَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ آكَدُ فِي بَابِ ثُبُوتِهِ مِنْ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ. فَمِنْ حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُ الْمَسْمُوعِ، كَانَ تَخْصِيصُ عِلَلِهِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ لَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْعِلَلِ فِيمَا وَصَفْتَ بِالْأَسْمَاءِ، لِأَنَّ الِاسْمَ إنَّمَا جَازَ فِيهِ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ (عِبَارَةً عَنْهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، وَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْمُ) عِبَارَةً عَنْ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعِلَلِ، لِأَنَّ الْعِلَلَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ لِوُجُودِهَا، وَمَتَى لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ عِلَّةً. قِيلَ (لَهُ) : قَدْ رَضِينَا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ إنْ كُنْتَ مِمَّنْ تَعْقِلُ مَعَانِيَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ. فَنَقُولُ: إنَّهُ لَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ مِنْ حَيْثُ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ (جَازَ أَيْضًا تَخْصِيصُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ صَلُحَ أَنْ تَكُونَ أَمَارَةً لِلْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ) أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُجْعَلَ الْعِلَّةُ أَمَارَةً فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ، كَمَا جَازَ فِي الِاسْمِ، فَلَوْ جَعَلْنَا ذَلِكَ ابْتِدَاءً دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِنَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 وَأَمَّا قَوْلُهُ: (إنَّ) الْعِلَّةَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَائِلَهُ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا ظَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. أَنَّهَا بِوُجُودِهَا تَقْتَضِي مُوجِبَاتِ أَحْكَامِهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ظَنَّ لَمَا جَازَ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ تَخْصِيصَ الِاسْمِ إنَّمَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ جَازَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مَقْرُونًا بِاللَّفْظِ، فَجَرَتْ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ مَجْرَى لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ. كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَنُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى تَخْصِيصِهَا. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِلَلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. إذْ كَانَتْ كُلُّهَا أَمَارَاتٍ غَيْرِ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا. وَأَكْثَرُ مُخَالِفِينَا يُجِيزُونَ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَيُنْتَقَضُ (بِهِ عَلَيْهِمْ) جَمِيعُ مَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَيَتَعَاطَوْنَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا مَعْقُولٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، وَالْمُسْتَنْبَطَة لَمْ يُوجِبْهَا السَّمْعُ (وَإِنَّمَا صَحَّتْ بِالِاسْتِنْبَاطِ) ، وَهَذَا لَا يَعْصِمُهُمْ مِمَّا أَلْزَمْنَاهُمْ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُسْتَنْبَطَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّمْعِ. فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا فِيمَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهَا وَهِيَ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ النَّصِّ أَوْلَى بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ. وَعَلَى أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، إنَّمَا عَلِمْنَاهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، لَا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ. أَلَا تَرَى: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ لَا يَعْرِفُونَهُ عِلَّةً، وَلَا يَعْتَبِرُونَهُ فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ، فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِمَّا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وَمُخَالِفُونَا يُجِيزُونَ تَخْصِيصَ دَلَالَاتِ الْقَوْلِ عِنْدَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، فَالْعِلَّةُ أَوْلَى بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْقَى لِلْعِلَّةِ حُكْمٌ فِيمَا لَمْ يَخُصَّ، وَلَا يَبْقَى لِدَلَالَةِ الْقَوْلِ حُكْمٌ فِيمَا خَصُّوهُ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] . وَنَظَائِرُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَابِهِ. . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ تَخْصِيصِ الِاسْمِ وَتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، أَنَّ مَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمَعْنَى عِلَّةً لِلْحُكْمِ وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ، وَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهِ، فَمَتَى وُجِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَلَيْسَ شَرْطُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ مُسَاعِدَةُ الْحُكْمِ لَهُ حَيْثُمَا وُجِدَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ الْعِلَّةِ بِالِاسْمِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ دَلَالَةَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَوْجُودًا بِوُجُودِهِ، وَمَعْدُومًا بِعَدَمِهِ، فَلَيْسَ كُلُّ خُصَمَائِكَ يُسَلِّمُونَهُ لَك، بَلْ قَدْ حَكَيْنَا فِيمَا سَلَفَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي عِلَلِ الشَّرْعِ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَلِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنْ هَذَا أَحَدُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ. وَلِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ دَلَائِلُ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. (فَيَقُولُ: إنِّي) أَعْتَبِرُ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ، مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى تَنَافِي الْأَحْكَامِ وَتَضَادِّهَا، فَمَتَى أَدَّى إلَى ذَلِكَ احْتَجْتُ إلَى طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، كَمَا يَقُولُ مُخَالِفُنَا فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَلِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، فَإِذَا مَنَعَ مِنْهُ لَمْ يَدُلَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الشِّدَّةَ فِي الْخَمْرِ عِلَّةٌ لِلتَّحْرِيمِ، ثُمَّ وُجِدَ الْحُكْمُ، بِوُجُودِهَا، وَزَوَالُهُ بِزَوَالِهَا، ثُمَّ قَدْ وَجَدْنَا الشِّدَّةَ فِي الْخَمْرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ مُسْتَحِلِّهَا (وَيَزُولُ كُفْرُ) الْمُسْتَحِلِّ بِزَوَالِ الشِّدَّةِ، وَلَا نَجْعَلُ الشِّدَّةَ عِلَّةً لِتَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ لِلنَّبِيذِ، مَعَ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَعْنَى وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا، عَلَمٌ لِكَوْنِهِ عِلَّةً مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ، وَكَمَا نَقُولُ جَمِيعًا فِي الْعُمُومِ: إنَّهُ عَلَمٌ لِلْحُكْمِ مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ. وَأَيْضًا: فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اعْتِبَارَ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَعْنَى وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً، إنَّمَا يُسَوَّغُ فِي الْعِلَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصٌ، وَأَمَّا مَا قَامَتْ فِيهِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ فَإِنَّ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الِابْتِدَاءِ غَيْرُ هَذِهِ الْعِبْرَةِ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ وُجُوهِ دَلَائِلِ الْعِلَلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يُوجِبُ تَكَافُؤَ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَتُنَافِيهَا. مِنْ قِبَلِ أَنَّك إذَا اسْتَنْبَطْتَ عِلَّةً فَأَوْجَبْتَ بِهَا حُكْمًا، ثُمَّ جَوَّزَتْ وُجُودَهَا عَارِيَّةً مِنْ الْحُكْمِ، جَازَ لِمُخَالِفِكَ أَنْ يَعْتَبِرَ مَوْضِعَ التَّخْصِيصِ، فَيَجْعَلَهُ أَصْلًا فِي نَفْيِ حُكْمِ عِلَّتِكَ، وَيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ عِلَّةً تُوجِبُ مِنْ الْحُكْمِ ضِدَّ مَا أَوْجَبَهُ عِلَّتُكَ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَكَافُؤِ الْعِلَّتَيْنِ وَبُطْلَانِهِمَا، فَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى ذَلِكَ تَخْصِيصًا. قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ لَا يُجِيزُ وُجُودَ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 وَالْآخَرُ: (قَوْلُ) مَنْ يُجِيزُ وُجُودَهُ. (فَأَمَّا) مَنْ (لَا) يُجِيزُ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ مَعَ مُقَاوَمَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى بِإِزَائِهَا مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ بِضِدِّ مَا يُوجِبُهَا، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَسْت وَاجِدًا ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ: (إنِّي) : أَنْصِبَ عِلَّةً بِإِزَاءِ عِلَّتِكَ أَقِيسُ بِهَا فِي نَفْيِ حُكْمِكَ الَّذِي أَوْجَبَتْهُ عِلَّتُكَ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا ثَبَاتُ الْعِلَلِ مَوْقُوفٌ عَلَى دَلَائِلِهَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَصْحِيحِ عِلَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْ الْأَحْكَامِ. وَلَوْ اسْتَدَلَّ خَصْمُنَا بِمِثْلِ دَلِيلِنَا عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِهِ، كَانَ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ دَلَالَةٍ تُوجِبُ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ (غَيْرُ هَذَيْنِ) الْقَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَلَا بُدَّ (مِنْ) أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِهِ، وَعَلَى صَوَابِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُكَافِئَهُ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ لَزِمَنَا ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ السَّائِلُ لَلَزِمَ مِثْلُهُ جَمِيعَ الْقَائِسِينَ لِنَفَّاتِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا عَلَى هَذَا الْوَضْعِ: نَحْنُ نَنْصِبُ بِإِزَاءِ عِلَلِكُمْ عِلَلًا فِي مُنَافَاةِ مَا أَوْجَبَتْهَا، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُكُمْ الِانْفِصَالُ مِنْهَا، وَلَا مِنْ أَضْدَادِهَا فِيمَا عَارَضْنَاكُمْ بِهِ. فَيَكُونُ مِنْ جَوَابِنَا جَمِيعًا لَهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا نَنْصِبُهُ مِنْ الْعِلَلِ بِإِزَاءِ عِلَّتِنَا يَجُوزُ أَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 تَقُومَ فِي الصِّحَّةِ مَقَامَهَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ وَثَبَاتَهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى الدَّلَائِلِ، وَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْخَصْمِ أَنَّهَا عِلَّةٌ، فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ إلْزَامَهُ خَصْمَهُ. وَأَمَّا مَنْ يُجِيزُ. وُجُودَ عِلَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْفَصِلَ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الَّذِي اعْتَدَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مُخَيَّرًا فِي إمْضَاءِ أَيِّ الْحُكْمَيْنِ شَاءَ دُونَ الْآخَرِ، وَصَارَ هَذَا فَرْضُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. (وَقَالَ) قَائِلٌ مِنْ الْمُخَالِفِينَ: إنْ كُنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ الْعِلَلَ بِالْأَسْمَاءِ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ، فَإِنَّا إنَّمَا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُخَصِّصَ لَهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمَقْرُونِ بِاللَّفْظِ، وَأَنَّ مَا خُصَّ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُرَادَنَا بِاللَّفْظِ. فَهَلْ تَقُولُونَ مِثْلَهُ فِي الْعِلَلِ؟ وَتَجْعَلُونَ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِتَخْصِيصِهَا كَأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لَهَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ فَإِنَّا نُوَافِقُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَطْلَقْتُمْ الْعِلَّةَ ثُمَّ خَصَّصْتُمُوهُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعَهَا، فَهَذَا الَّذِي نُخَالِفُكُمْ فِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَافَقَنَا هَذَا الْقَائِلُ فِي الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَاَلَّذِي أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ: دَلَائِلُنَا الَّتِي ذَكَرْنَا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ الِانْفِصَالُ مِنْهَا وَلَا دَفْعُهَا. وَاَلَّذِي نَقُولُ فِي هَذَا: إنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْعِلَلِ وَبَيْنَ الْأَسْمَاءِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِهَا. وَهُوَ: أَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، كَأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ إلَى لَفْظِ التَّعْلِيلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذَا الْمَعْنَى عَلَامَةٌ لِلْحُكْمِ إلَّا فِي مَوْضِعِ كَذَا، كَمَا نَقُولُ فِي تَخْصِيصِ الِاسْمِ: إنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ كَأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ إلَيْهِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: اقْطَعُوا السُّرَّاقَ، إلَّا سَارِقَ كَذَا. لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَا نَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ الْمَخْصُوصَ كَانَ مُرَادًا بِالْعِلَّةِ. كَمَا لَا نَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ الْمَخْصُوصَ مِنْ الِاسْمِ كَانَ مُرَادًا بِالِاسْمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نُطْلِقُ الْعِلَّةَ فَنَقُولُ: إنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ كَيْتَ وَكَيْتَ، إنْ كَانَ حُكْمُهَا مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، كَمَا أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى قَطْعَ السُّرَّاقِ، وَقَتْلَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ. وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْرِطَ مَوْضِعَ التَّخْصِيصِ مِنْ الْعِلَّةِ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ، كَمَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ فِي أَسْمَاءِ الْعُمُومِ مَقْرُونَةً بِاللَّفْظِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَسْتُ وَاجِدًا أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَّا وَهُوَ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ أَبَاهُ فِي اللَّفْظِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ جَمِيعَ مَنْ يُخَالِفُنَا ذَلِكَ يَقُولُ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: إنَّهُ نَجِسٌ، لِمُلَاقَاتِهِ لِلنَّجَاسَةِ، ثُمَّ قَالُوا فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ إذَا أَصَابَتْهُمَا نَجَاسَةٌ: إنَّهُمَا يَطْهُرَانِ بِمُوَالَاةِ الْغُسْلِ وَصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ مَرُّوا عَلَى الْقِيَاسِ لَمَا طَهُرَا أَبَدًا، لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْمَاءِ لَا يُزَايِلُ الثَّوْبَ إلَّا بَعْدَ مُلَاقَاتِهِ لِمَاءٍ نَجِسٍ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، يَلْزَمُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُجْزِهِ إلَّا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، وَمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ، وَصَبِّ الْمَاءِ. وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا بِكَيْلٍ هِيَ مَأْكُولٌ جِنْسٌ، ثُمَّ أَجَازَ بَيْعَ التَّمْرَةِ بِخَرْصِهَا فِي الْعَرَايَا مِنْ غَيْرِ مُسَاوَاةٍ فِي الْكَيْلِ، مَعَ وُجُودِ عِلَّةِ إيجَابِ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا هَذَا كَلَامٌ فِي جِهَةِ الْمُسَاوَاةِ، وَالْمُسَاوَاةُ مَوْجُودَةٌ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالْخَرْصِ، وَالْمُسَاوَاةُ غَيْرُ الْعَرِيَّةِ بِالْكَيْلِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا فِيمَا كَانَ مَكِيلًا، أَنَّهُ بِالْكَيْلِ، وَفِيمَا كَانَ مَوْزُونًا بِالْوَزْنِ. وَالْخَرْصُ لَا تَحْصُلُ بِهِ مُسَاوَاةٌ، لِأَنَّ الْخَرْصَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَمَا لَا يُوصَلُ إلَى حَقِيقَتِهِ. فَقَوْلُك: إنَّ الْمُسَاوَاةَ تُوجَدُ فِي الْعَرِيَّةِ بِالْخَرْصِ خَطَأٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقِيَاسُ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ قَلِيلِ النَّوْمِ، وَتَرْكُهُ لِلْأَثَرِ. وَقَالَ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ، ثُمَّ تَرَكَ الْقِيَاسَ فِيهِ، وَقَالَ بِإِيجَابِ ضَمَانِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ فِي حَالٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] . قِيلَ لَهُ: هُوَ حَقٌّ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى مَنْعِهِ، غَيْرُ حَقٍّ فِي مَوْضِعٍ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيهِ عَلَى مَنْعِهِ. كَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعُمُومِ حَقٌّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، غَيْرُ حَقٍّ فِي مَوْضِعٍ قَدْ قَامَتْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، وَالْمَنْعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ قَاضِيًا بِفَسَادِهَا، لَمَا اسْتَدْرَكَ عَلَى أَحَدٍ مُنَاقَضَةً فِي عِلَّةٍ يَعْتَلُّ بِهَا، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّمَا خَصَّصَتْهَا لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ شَرْطُ الْمُنَاقَضَةِ فِي عِلَلِ الشَّرْعِ وُجُودَ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَلَيْسَ لَك الِاعْتِرَاضُ بِهِ مَعَ خِلَافِنَا إيَّاكَ فِي أَنَّهُ مُنَاقَضَةٌ، وَلَيْسَ بِمُنَاقَضَةٍ. وَإِنَّمَا يَكُونُ مُنَاقَضًا عِنْدَنَا إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ، وَيُدَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ كَيْتُ وَكَيْتُ، ثُمَّ تُوجِدُهُ (بَعْدَ ذَلِكَ) غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ. فَأَمَّا إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى صِحَّتِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تُوجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ فِيمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، وَيَكُونُ الْمُعْتَلُّ بِهَا (مُنَاقِضًا مُخْطِئًا) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، فَيَتْرُكُ حُكْمَهَا مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ صَحِيحَةٍ تُوجِبُ تَخْصِيصَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَاقَضَةً، وَتَكُونُ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً، وَالْمُعْتَلُّ مُنَاقِضٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 فِي (تَرْكِهِ حُكْمَهَا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ) ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يُوجِبُ مُنَاقَضَةَ الْمُعْتَلِّ بِهَا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ تَخْصِيصِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَعْتَبِرُ مُخَالِفُونَا، وَوُجُودُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَوُجُودُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، مُوجِبًا لِكَوْنِ الْمُحْتَجِّ بِذَلِكَ مُنَاقِضًا. فَلَمَّا لَمْ يُوجِبْ. تَخْصِيصُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُنَاقَضَةً فِي الْحِجَاجِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعِلَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 [بَابُ الْقَوْلِ فِي صِفَةِ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِجُمَلِ الْأُصُولِ: مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَا هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ مِنْهَا، مِمَّا هُوَ مَنْسُوخٌ، وَعَالِمًا بِالْعَامِّ وَالْخَاصِّ مِنْهَا. وَيَكُونَ عَالِمًا بِدَلَالَاتِ الْقَوْلِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَوَضْعِ كُلٍّ مِنْهُ مَوْضِعَهُ، وَحَمْلَهُ عَلَى بَابِهِ. وَيَكُونَ مَعَ ذَلِكَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْعُقُولِ وَدَلَالَاتِهَا، وَمَا يَجُوزُ فِيهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ. وَيَكُونُ عَالِمًا بِمَوَاضِعِ الْإِجْمَاعَاتِ مِنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ قَبْلَهُ. وَيَكُونَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ، وَطُرُقِ الْمَقَايِيسِ الشَّرْعِيَّةِ (وَلَا يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِعِلْمِهِ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَقَايِيسَ الشَّرْعِيَّةَ) مُخَالِفَةٌ لِلْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مُتَوَارَثَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، يَنْقُلُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، فَسَبِيلُهَا أَنْ تُؤْخَذَ عَنْ أَهْلِهَا مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهَا، وَلِهَذَا خَبَطَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَقَايِيسِ الشَّرْعِيَّةِ، ثِقَةً مِنْهُ بِعِلْمِهِ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ، فَتَهَوَّرُوا وَرَكِبُوا الْجَهَالَاتِ وَالْأُمُورَ الْفَاحِشَةَ. فَمَنْ كَانَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفْنَا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ إلَى أَصْلِهَا، وَجَازَ لَهُ الْفُتْيَا بِهَا إذَا كَانَ عَدْلًا. فَأَمَّا إنْ جَمَعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَدْلًا، فَإِنَّ فُتْيَاهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، كَمَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا رَوَاهُ، وَلَا شَهَادَتُهُ إذَا شَهِدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 وَلَيْسَ شَرْطُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ النُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَا ثَبَتَ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ، وَمِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْقَائِسِينَ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِ جَمِيعِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْهُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ مِنْ الْقَائِسِينَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْتَهِدَ، لِفَقْدِ عِلْمِهِ بِالْإِحَاطَةِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَيَرَى تَقْدِيمَهَا عَلَى الْقِيَاسِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، قَدْ اجْتَهَدُوا مَعَ فَقْدِ عِلْمِهِمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى: أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَأَلَ عَنْ أَمْرِ الْجَنِينِ فَأُخْبِرَ بِهِ فَقَالَ: قَدْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 ذَلِكَ بِآرَائِنَا، وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إذَا لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، ثُمَّ أُخْبِرَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا مُوَافِقَةً لِرَأْيِهِ، فَسُرَّ بِهِ سُرُورًا شَدِيدًا. وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ مَجْنُونَةً حَتَّى أَخْبَرَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» . فَتَرَكَ رَأْيَهُ إلَى خَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَرْجُمَ امْرَأَةً جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ التَّزْوِيجِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] . فَجَعَلَ الْحَمْلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ، وَتَرَكَ رَأْيَهُ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُبِيحُ مُتْعَةَ النِّسَاءِ وَالصَّرْفِ، حَتَّى جَاءَتْهُ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِتَحْرِيمِهَا، فَنَزَلَ عَنْ قَوْلِهِ بِهِمَا، وَصَارَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ عَلِمَ جُمَلَ الْأُصُولِ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا الْبَعْضُ، بَعْدَ عِلْمِهِ بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ وَالِاسْتِدْلَالَات الْفِقْهِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الِاجْتِهَادُ حَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَ مَا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ فِي الْبَابِ الَّذِي مِنْهُ الْحَادِثَةُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ بَابِ الرِّبَا، فَحَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي الرِّبَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبُيُوعِ فَكَذَلِكَ. وَقَدْ يُمْكِنُ الْمُجْتَهِدَ حَصْرُ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ، وَالْإِحَاطَةِ بِهَا، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ إذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمَا رُوِيَ فِي بَابٍ وَاحِدٍ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا شَذَّ عَنْهُ، مِمَّا رُوِيَ فِي سَائِرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 الْأَبْوَابِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْحَادِثَةِ فِي شَيْءٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي هَذَا الْبَابِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ جُمِعَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ جَمِيعُ مَا رُوِيَ مِنْ السُّنَنِ فِي الْبَابِ الَّذِي مِنْهُ الْحَادِثَةُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ الْإِحَاطَةُ بِهَا. وَمِنْ بَعْدِهِمْ قَدْ حَصَّلُوا ذَلِكَ، وَجَمَعُوهُ، فَقَرُبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مُتَنَاوَلُهُ، وَسَهُلَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ جَوَّزَتْ الِاجْتِهَادَ لِمَنْ كَانَ حَالُهُ مَا وَصَفْنَا، مِنْ فَقْدِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأُصُولِ، وَلَمْ يُفَرَّقْ أَحَدٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ الَّذِي فِيهِ الْحَادِثَةُ، فَقَدْ حُفِظَ وَجُمِعَ، فَلَيْسَ كَمَا ذَكَرْت، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْت، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مَا ذَكَرْت، كَانَتْ الصَّحَابَةُ أَوْلَى بِطَلَبِ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَمْعِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَقْدَرَ عَلَى جَمْعِ مَا رُوِيَ فِيهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، إذْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ بِالْمَدِينَةِ، لَمَّا كَانَ عُمَرُ يَسْأَلُ عَنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ هَلْ فِيهَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَإِذَا لَمْ يَجِدْهَا عِنْدَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ، حَكَمَ فِيهَا بِرَأْيِهِ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْتُبَ بِهَا إلَى مَنْ بِسَائِرِ الْأَمْصَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَيَسْأَلُهُمْ عَنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لَوْ أَرَادَتْ ذَلِكَ كَانَتْ عَلَيْهِ أَقْدَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَهَا أَقْرَبَ مُتَنَاوَلًا، وَأَسْهَلَ مَأْخَذًا، ثُمَّ (لَمْ يَفْعَلُوهُ وَاجْتَهَدُوا) مَعَ إمْكَانِ ذَلِكَ. عَلِمْنَا أَنَّ شَرْطَهُ لَيْسَ مِمَّا ذَكَرْتَ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ حَفِظَ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَإِنْ أَكْثَرَ سَمَاعُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ (لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ) الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ مِنْ الْفِقْهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّك مَتَى نَظَرْتَ فِي مُصَنَّفَاتِ النَّاسِ فِي أَخْبَارِ الْفِقْهِ، وَمَا جَمَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَجَدْتَ فِي كِتَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لَا تَجِدُهُ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ الْإِنْسَانُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ مِنْ ذَلِكَ، لَمَا حَضَرَ ذِهْنُهُ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِيهِ، وَلَامْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَذْكُرَ جَمِيعَهُ حَتَّى لَا يَشِذَّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَمَعَ تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ حَفِظَ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبْوَابِ، لَمَا جَازَ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِمَا حَفِظَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ فِي جَوَازِ قِيَاسِ الْحَادِثَةِ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا رُوِيَ فِي الْأَبْوَابِ الْأُخَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قِيَاسَ الْحَادِثَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْبَابِ الَّذِي هِيَ مِنْهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّا قَدْ نَقِيسُ الْبَيْعَ عَلَى النِّكَاحِ، وَعَلَى الْكِتَابَةِ، وَنَقِيسُ النِّكَاحَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ، وَنَقِيسُ الْوَطْءَ عَلَى سُكْنَى الدَّارِ، وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ: أَنْ لَا يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ، حَتَّى يُحِيطَ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا وَرَدَ مِنْ النَّصِّ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَغَيْرِهَا، فِي سَائِرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَهَذَا شَيْءٌ مَأْيُوسٌ وُجُودُهُ مِنْ أَحَدِ الْقَائِسِينَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْقِيَاسِ لِمَنْ عَرَفَ جُمَلَ الْأُصُولِ الَّتِي يَكُونُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، لِأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ لَمْ يُكَلَّفْ حُكْمَهُ، وَلَا الْقِيَاسَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْقِيَاسَ عَلَى مَا يَحْضُرُهُ مِنْهَا. وَهَذَا كَمَا نَقُولُ فِي الْمُتَحَرِّي لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ: إنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي لِمُحَاذَاتِهَا، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِسَائِرِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْحُرُوبِ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِيهِ. وَإِنَّمَا شَرَطْنَا مَعَ الْحِفْظِ لِلْأُصُولِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِطَرِيقِ الْمَقَايِيسِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 وَالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ حِفْظَ الْأُصُولِ لَا يُغْنِي فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا عَالِمًا بِكَيْفِيَّةِ وُجُوبِ رَدِّهَا إلَى أُصُولِهَا، وَإِلَى الْأَشْبَهِ بِهَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ قُرَّاءَ الْقُرْآنِ، وَحُفَّاظَ الْأَخْبَارِ لَا يُغْنِيهِمْ مَا حَفِظُوهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَرَدِّهَا إلَى أُصُولِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 [بَابُ الْقَوْلِ فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ] ِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا اُبْتُلِيَ الْعَامِّيُّ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِنَازِلَةٍ، فَعَلَيْهِ مُسَاءَلَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهَا. وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.} [الأنبياء: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . فَأَمَرَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِقَبُولِ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ مِنْ النَّوَازِلِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّتْ الْأُمَّةُ مِنْ لَدُنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ، إلَى يَوْمِنَا هَذَا، إنَّمَا يَفْزَعُ الْعَامَّةُ إلَى عُلَمَائِهَا فِي حَوَادِثِ أَمْرِ دِينِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَخْلُو عِنْدَ بَلْوَاهُ بِالْحَادِثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِهْمَالِ أَمْرِهَا، وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا، وَتَرْكِ أَمْرِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِهَا، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ حَتَّى يَصِيرَ مِنْ حُدُودِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، ثُمَّ يَمْضِي بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، أَوْ يَسْأَلَ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَعْمَلَ عَلَى فُتْيَاهُ، وَيَلْزَمُهُ قَبُولُهَا مِنْهُ. وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلْعَامِّيِّ إهْمَالُ أَمْرِ الْحَادِثَةِ، وَلَا الْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَتَرْكُ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 قَبْلَ حُدُوثِهَا، لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّابِتِ مِنْهَا بِالنَّصِّ وَبِالدَّلِيلِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِوُجُوبِ تَرْكِهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِهَا، إذَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا مُخْتَلِفًا فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَيْسَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي طَوْقِ الْعَامِّيِّ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْأُصُولَ، وَطُرُقَ الِاجْتِهَادِ، وَالْمَقَايِيسَ، حَتَّى يَصِيرَ فِي حَدِّ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنْبَاطُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَعَسَى أَنْ يُنْفِذَ عُمُرَهُ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ غُلَامًا فِي أَوَّلِ حَالِ بُلُوغِهِ، وَامْرَأَةٌ رَأَتْ دَمًا شَكَّتْ فِي أَنَّهُ حَيْضٌ، أَوْ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَقَدْ حَضَرَهُمَا وَقْتَ إمْضَاءِ الْحُكْمِ حَيْثُ لَا يَسَعُ تَأْخِيرُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَقَبُولَ قَوْلِهِمْ فِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ مَسْأَلَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ يَخْلُو إذَا كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَجْتَهِدَ، فَيَسْأَلَ أَوْثَقَهُمْ فِي نَفْسِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ عِنْدَهُ. فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي أَوْثَقِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَأَعْلَمْهُمْ عِنْدَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ فِي حَالِهِمْ، ثُمَّ يُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمْ لَدَيْهِ، وَأَعْلَمَهُمْ عِنْدَهُ. فَإِنْ تَسَاوَوْا عِنْدَهُ، أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطَ (لِدِينِهِ) ، وَهُوَ قَدْ يُمْكِنُهُ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ الْأَفْضَلِ وَالْأَعْلَمِ فِي ظَنِّهِ، وَأَوْثَقِهِمْ فِي نَفْسِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا أَمْكَنَهُ الِاحْتِيَاطُ بِمِثْلِهِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ فَيُقَلِّدَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، إذْ كَانَ لَهُ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاجْتِهَادِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 أَلَا تَرَى: أَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فِي سُلُوكِ أَحَدِ طَرِيقَيْنِ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى سُلُوكِ أَقْرَبِهِمْ إلَى السَّلَامَةِ عِنْدَهُ، وَأَبْعَدِهِمَا مِنْ الْعَطَبِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاجْتِهَادِ. وَكَذَلِكَ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ. وَقَدْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ. كَذَلِكَ الْعَامِّيُّ يَنْبَغِي لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ، إذْ كَانَ فِي وُسْعِهِ (الِاجْتِهَادُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الرِّجَالِ) . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ؟ فَقَالَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ - وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ -: إنَّ لَهُ تَقْلِيدَهُ، وَإِنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. (وَقَدْ رَوَى دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، نَحْوُ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ، وَذَلِكَ (نَحْوُ) قَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِعُثْمَانَ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْبَيْعَةَ، عَلَى أَنْ يَقْضِيَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَأَجَابَهُ (إلَى ذَلِكَ) ، وَعَرَضَ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَقْضِي بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَجْتَهِدُ رَأْيِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ يَرَيَانِ تَقْلِيدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْلَى مِنْ اجْتِهَادِهِ، وَكَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الصَّرْفِ، فَأَجَابَ فِيهَا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَكِنِّي أَكْرَهُهُ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَدْ كَرِهْته إذْ كَرِهْته. فَتَرَكَ رَأْيَهُ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهُ عَنْ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، إذْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مُدَّةٌ يُمْكِنُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ فِيهَا. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إنَّ تَقْلِيدَ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَتَرْكَ رَأْيِهِ لِرَأْيِهِ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي تَقْوِيَةِ رَأْيِ الْآخَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى رَأْيِهِ، لِفَضْلِ عِلْمِهِ وَتَقَدُّمِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِوُجُوهِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَلَمْ يَخْلُ فِي تَقْلِيدِهِ إيَّاهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ، يُوجِبُ عِنْدَهُ رُجْحَانَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ عَلَى قَوْلِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا - عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ بَيْنَ أَنْ يُقَلِّدَهُ لِيَأْخُذَ بِهِ فِي شَيْءٍ اُبْتُلِيَ بِهِ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ غَيْرَهُ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا (فِي كِتَابِ الْحُدُودِ) إنَّمَا ذَكَرَهَا فِي الْقَاضِي إذَا قَلَّدَ غَيْرَهُ فِيمَا كَانَ اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْحُكْمِ، فَأَجَازَ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ فِي تَوْجِيهِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى مَنْ خَاصَمَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْجِيحِ قَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ عَلَى قَوْلِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ رُجْحَانُ هَذَا الْقَوْلِ (ثُمَّ) جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ غَيْرَهُ، وَيَحْكُمَ بِهِ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَ تَقْضِي؟ فَذَكَرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاجْتِهَادَ» وَلَمْ يَذْكُرْ التَّقْلِيدَ. قِيلَ لَهُ: تَقْلِيدُهُ غَيْرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالِاعْتِبَارِ، إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّ رَأْيَهُ أَرْجَحُ مِنْ رَأْيِهِ، وَنَظَرَهُ أَصَحُّ مِنْ نَظَرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 [بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ] ِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَ الِاجْتِهَادُ جَائِزًا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَالٍ. فَأَمَّا إحْدَى الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ يَجُوزُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ، فَهِيَ الْحَالُ الَّتِي كَانَ يَبْتَدِئُهُمْ بِالْمُشَاوَرَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَقَدْ شَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِ الْأَسْرَى، وَغَيْرِهِمْ. فَهَذِهِ الْحَالُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِإِبَاحَتِهِ إيَّاهُ لَهُمْ، وَأَمْرِهِ إيَّاهُمْ بِهِ، وَإِعْلَامِهِ إيَّاهُمْ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: اقْضِ بَيْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 هَذَيْنِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْضِي بَيْنَهُمَا وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَإِنْ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ» وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: مِثْلَ ذَلِكَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْتَهِدُوا بِحَضْرَتِهِ، فَيَعْرِضُوا عَلَيْهِ رَأْيَهُمْ وَمَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ مُبْتَدِئِينَ. فَإِنْ رَضِيَهُ صَحَّ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ. وَقَدْ «اجْتَهَدَ مُعَاذٌ فِي تَرْكِهِ قَضَاءَ الْفَائِتِ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعِهِ إيَّاهُ، فَرَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ، فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا» . وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بِالِانْتِقَالِ عَنْ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلَهُ بِبَدْرٍ، فَقَبِلَ مِنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ اجْتِهَادَهُ. (وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: أَنْ يَلْحَقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ) وَكَانَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ «امْتِنَاعُ عَلِيٍّ مِنْ مَحْوِ اسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ تَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَحَاهُ بِيَدِهِ» . وَمِنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اهْتَمَّ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ لَهَا النَّاسَ أَشَارَ بَعْضُهُمْ بِنَصْبِ رَايَةٍ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ شَبُّورَ الْيَهُودِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ النَّاقُوسَ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ اجْتِهَادَهُمْ، إلَى أَنْ أُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَذَانَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ مُسْتَبِدًّا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَصٌّ (قَدْ نَزَلَ) وَهُوَ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهُ فِي الْحَالِ، فَيَكُونُ فِي إمْضَائِهِ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 [بَابُ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ] ِ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقُولُ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَالْحَادِثَةُ لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ (وَ) قَدْ كُلِّفَ الْقَائِسُونَ إصَابَةَ ذَلِكَ، وَمُخْطِئُهُ مُخْطِئٌ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، إلَّا أَنَّهُ مَأْجُورٌ بِاجْتِهَادِهِ، وَمَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَصَمِّ، وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَبِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ. وَيُحْكَى (عَنْ) ابْنِ عُلَيَّةَ: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَيْنِهِ بِاجْتِهَادِهِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّ أَصْحَابَهُ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَحْكُونَ عَنْهُ. فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ سَمَّيْنَاهُ. وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُونَ: أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ. وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ مِمَّنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ: فَهُمْ الْقَائِلُونَ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، بَلْ هُنَاكَ دَلَائِلُ هِيَ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ مِنْ الْأُصُولِ، يُسَوَّغُ رَدُّ الْحَادِثَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، عَلَى حَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ مُخْتَلِفَةٌ أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهَا. فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: هُنَاكَ مَطْلُوبٌ هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ، يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَتَحَرَّى مُوَافَقَتَهُ فِي اجْتِهَادِهِ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفَ إصَابَتَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ الْوَاسِطِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ، هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ، وَنُسَمِّيه تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ. قَالَ: وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْحَوَادِثِ شَبَّهَهَا بِالْأُصُولِ الَّتِي يَرُدُّ إلَيْهَا مُتَسَاوِيًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ فِي اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، فَالْأَشْبَهُ إنَّمَا هُوَ وَصْفٌ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِهِ، لَا إلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ الْفَرْعُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ مَا أُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ حَكَيْت عَنْهُمْ أَلْفَاظًا مُتَلَبِّسَةً، حَقِيقَتُهَا تَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَنَا، نَذْكُرُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حِكَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ. فَحَكَى هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَلَكِنْ مَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَقَدْ أَدَّى مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْجُورٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَنْزِلَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْفَقِيهَيْنِ إذَا اجْتَهَدَا فِي الْحَادِثَةِ وَاخْتَلَفَا فَكِلَاهُمَا قَدْ أَصَابَ مَا كُلِّفَ، وَكِلَاهُمَا مَأْجُورٌ فِيمَا صَنَعَ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ أَصَابَ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ بِعَيْنِهِ، وَأَخْطَأَ الْآخَرُ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَلَّفَا أَنْ يُصِيبَا الصَّوَابَ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كُلِّفَا ذَلِكَ فَأَخْطَأَ أَحَدُهُمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 أَثِمَ، وَلَكِنَّهُمَا كُلِّفَا أَنْ يَجْتَهِدَا وَيَطْلُبَا، حَتَّى يُصِيبَا الصَّوَابَ بِعَيْنِهِ فِي رَأْيِهِمَا، فَقَدْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كُلِّفَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ فِي وَاحِدٍ. قَالَ: وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ إنَّمَا مُرَادُهُمْ عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْأَشْبَهَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ. قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: هُنَاكَ مَطْلُوبٌ هُوَ أَشْبَهُ بِالْحَادِثَةِ، إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا تَعَبَّدَ بِأَنْ يَحْكُمَ لَهَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، الَّذِي هُوَ أَشْبَهُ بِهِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي ثَبَتَ عِنْدِي مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِ: إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ: أَنَّ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلِّفَ الْمُجْتَهِدُ أَنْ يَتَحَرَّى مُوَافَقَتَهَا، وَهِيَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهَا، وَإِنَّمَا كُلِّفَ مَا فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قَالَ فِيمَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يُصِيبَ الصَّوَابَ بِعَيْنِهِ. قَالَ: وَلَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ فَأَخْطَأَهُ أَثِمَ، وَلَكِنَّهُ كُلِّفَ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَيَطْلُبَ حَتَّى يُصِيبَ الصَّوَابَ بِعَيْنِهِ فِي رَأْيِهِ، فَأَخْبَرَ مُحَمَّدٌ: أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ، لَا الْأَشْبَهُ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا لِلصَّوَابِ بِعَيْنِهِ، إنَّمَا مُرَادُهُ فِيهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُخْطِئًا لِلْأَشْبَهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الدِّينِ، وَلَا خَطَأَ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: إنَّهُ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ، وَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ هُوَ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِهِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ، وَاَلَّذِي كُلِّفَ هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 الْحُكْمُ الْمُتَعَبَّدُ بِهِ، وَالْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ، وَلَا هُوَ حُكْمُهُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ، إذَا لَمْ يُؤَدِّهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا لِمَا كُلِّفَ، مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَا كُلِّفَ غَيْرَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ بَانَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ: أَنَّ الْأَشْبَهَ مِنْ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَبَّهُوهُ بِالْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ الَّتِي أَمَرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهَا هِيَ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَتَهَا، وَالْحُكْمُ الَّذِي عَلَى الْمُجْتَهِدِ إنَّمَا تَحَرِّي مَجْرَوَاتُهَا، وَمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهَا الْكَعْبَةُ. وَشَبَّهَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ بِمَا كُلِّفْنَا فِيهِ اسْتِيفَاءَ الْمَقَادِيرِ، لَمْ نُكَلَّفْ نَحْنُ إصَابَتَهَا، وَالْحُكْمَ الَّذِي عَلَيْنَا فِيهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ اجْتِهَادِنَا، وَغَالِبِ ظَنِّنَا أَنَّهُ الْمِقْدَارُ الْمَأْمُورُ بِاسْتِبْقَائِهِ، وَإِبْقَائِهِ دُونَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَذْهَبِ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ مِنْ الْقَائِلِينَ: إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَإِنَّ خِلَافَهُمْ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ خِلَافٌ عَلَى مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ أَشْبَهُ الْمَطْلُوبِ الْمَظْنُونِ بِالِاجْتِهَادِ، وَعَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ وَالْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ فِي رَأْيِهِ طَرِيقُ الْأُصُولِ إلَى كَيْفِيَّةِ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا، وَغَالِبُ الظَّنِّ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِيَاسِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ. فَجَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ قِيَاسَ الشَّبَهِ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ عِنْدَهُ مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ، وَالْهَيْئَةِ، وَالْحُسْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الشَّبَهَ مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 وَعِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِهَا أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ (عِنْدَهُ) مَا وَافَقَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَيَكُونُ أَشْبَهَ بِهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَا يَكُونُ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرُدُّ الْحَادِثَةَ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْجُمْلَةِ أَشْبَهَ بِالْحَادِثَةِ مِنْ بَعْضٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه الِاجْتِهَادُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي فِيهِ بِالْأَشْبَهِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَفِي غَالِبِ ظَنِّهِ، وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ وَأَمَرَ بِإِنْفَاذِهِ. فَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ لَا يَرَوْنَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا وَاحِدًا مَنْصُوبًا يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْأَشْبَهِ بِالْحَادِثَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلَائِلَ، هِيَ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ مِنْ الْأُصُولِ، يَجِبُ إلْحَاقُ الْحَادِثَةِ بِأَشْبَهِهَا، عَلَى حَسَبِ مَا يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ. وَقَدْ يُؤَدِّي اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى خِلَافِ مَا يُؤَدِّيه اجْتِهَادُ الْآخَرِ، فَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ عَلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْحَادِثَةَ لَهَا شَبَهٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَحْكَامِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا وَاحِدًا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَلَيْسَ لِلْحَادِثَةِ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، تُوجِبُ حُكْمًا وَاحِدًا، يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ يُوَصِّلُ الْقَائِسَ وَالْمُسْتَدِلَّ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ وَيُعْذَرُونَ مَعَ ذَلِكَ الْمُخْطِئِ لَهُ، وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَبِشْرٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الَّذِي كُلِّفَ إصَابَتَهُ، لَكِنَّهُ يَغْلِبُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ الْحُكْمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ فِيمَا سَلَفَ، وَنَحْنُ نُعِيدُهُ لِيَكُونَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ وُجُوبُهُ أَوْ حَظْرُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ. وَذَلِكَ نَحْوُ وُجُوبِ اعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَالْإِنْصَافِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى حَظْرِهِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ، كَالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، وَنَحْوِهِمَا. وَالْأَوَّلُ حَسَنٌ لِنَفْسِهِ، يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَى سَائِرِ الْعُقَلَاءِ. وَالثَّانِي: قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ يَقْتَضِي الْعَقْلُ حَظْرَهُ، فَهَذَانِ الْبَابَانِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِمَا أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ بَعْضُهُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَبَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِنَفْسِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا فِي حَالٍ، وَحَسَنًا فِي حَالٍ أُخْرَى، فَمَتَى أَدَّى إلَى قَبِيحٍ (كَانَ قَبِيحًا) ، لَا يُتَعَبَّدُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وَمَتَى لَمْ يُؤَدِّ إلَى قَبِيحٍ، صَارَ حَسَنًا، يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ. وَهَذَا الْقِسْمُ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ، وَيَجُوزُ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ مِنْهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَيَتَعَبَّدَ آخَرُ مِنْهُمْ بِخِلَافِهِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ. وَيَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِحَظْرِهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَبِيحٍ. وَيَجُوزُ إيجَابُهُ فِي حَالٍ أُخْرَى، لِعِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ فِيهِ. وَيَجُوزُ إبَاحَتُهُ فِي أُخْرَى مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ، إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ. وَهَذِهِ (فِي) الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ: فَلَيْسَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِمَا مَوْكُولًا إلَى آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ عَلَيْهِمَا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً، تُفْضِي بِالنَّاظِرِ فِيهَا إلَى وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا. وَإِنَّمَا نَصَبَ الدَّلَائِلَ (عَلَيْهَا) فِيمَا كُلِّفْنَا عِلْمَهُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا، بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ حَالُهُمَا مِمَّا يَقْتَضِي حَظْرًا (وَ) إيجَابًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ (فِيهَا) بِمَدْلُولِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ فَسْخُ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ إذَا قَضَى فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ عِنْدَنَا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: لَيْسَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمْ مُتَعَبِّدًا بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ، وَغَالِبُ ظَنِّهِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي كَانَ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ لَهُ دَلِيلًا بِعَيْنِهِ عَلَى الْأَشْبَهِ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ، وَيَطْلُبُهُ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لِلْحَادِثَةِ أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا مِنْ الْأُصُولِ، وَأَخْفَى عِلْمَ الْأَشْبَهِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ عَنْهُمْ، تَوْسِعَةً مِنْهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَرَحْمَةً مِنْهُ لَهُمْ، وَنَظَرًا مِنْهُ وَتَخْفِيفًا، لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا إلَّا طَرِيقٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جِئْتُكُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» . وَلَوْ كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُلَمَاءَ الْقِيَاسَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَأَلَّا يَزِيغُوا عَنْهُ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 إصَابَةَ الْأَشْبَهِ بِعَيْنِهِ، لَمْ تَكُنْ السَّلَامَةُ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ يَضِلُّ تَارِكُهُ، وَيَأْثَمُ الْعَادِلُ عَنْهُ. وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ مَتَى كَانَ لِلْحَادِثَةِ وَجْهَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْحُكْمِ، كَانَ ذَلِكَ أَسْهَلَ وَأَوْسَعَ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إصَابَةَ الْأَشْبَهِ (وَلَا الْوُصُولَ) إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، إذْ لَمْ يَنْصِبْ لَهُمْ دَلِيلًا دُونَ غَيْرِهِ، وَجَعَلَ الْحُكْمَ الَّذِي تَعَبَّدَهُمْ بِهِ هُوَ (مَا) كَانَ فِي اجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ، دُونَ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ (هُوَ) الْأَشْبَهُ. وَلَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ دَلَائِلُ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ. فَأَمَّا دَلِيلُهُ مِنْ الْكِتَابِ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، حِينَ غَزَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَرَقَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ نَخْلَهُمْ إرَادَةً مِنْهُ لِغَيْظِهِمْ، وَتَرَكَهَا بَعْضٌ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنَا أَنْ يُغْنِمَنَاهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْوِيبَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] فَكَانُوا مُجْتَهِدِينَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا مِمَّا ذَهَبُوا إلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِمَا، إذْ كَانَ ذَلِكَ مَبْلَغُ اجْتِهَادِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 وَنَظِيرُهُ: مَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ فِي غُزَاةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِيهِ. فَصَوَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَمِيعَ، وَذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا الْعَصْرَ إلَّا هُنَاكَ» . فَأَدْرَكَتْ قَوْمًا مِنْهُمْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَخَافُوا فَوْتَهَا قَبْلَ الْمَصِيرِ إلَى هُنَاكَ، فَاخْتَلَفُوا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُصَلُّوا الْعَصْرَ إلَّا بِهَا» ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا أَمَرَنَا بِذَلِكَ لِتَعْجِيلِ الْمَصِيرِ إلَيْهَا، مِنْ غَيْرِ تَرْخِيصٍ مِنْهُ فِي تَرْكِهَا إلَى خُرُوجِ وَقْتِهَا. فَفَعَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا رَأَى، ثُمَّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَظْهَرَ تَصْوِيبَ الْجَمِيعِ، إذْ كَانُوا فَعَلُوهُ بِاجْتِهَادِ آرَائِهِمْ. وَمِنْ نَحْوِهِ: «مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ، فَصَوَّبَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ صَوَّبَهُمَا جَمِيعًا: أَنَّهُ شَبَّهَ أَبَا بَكْرٍ بِإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّك غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] . وَشَبَّهَ عُمَرَ بِنُوحٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُشَبِّهَهُمَا بِنَبِيَّيْنِ فِي فِعْلِهِمَا، إلَّا وَقَوْلُهُمَا جَمِيعًا صَوَابٌ. وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ بِحَقِيقَةِ النَّظَرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، لَمَا جَازَ تَصْوِيبُهُمَا، إذْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَانَ الْمُصِيبُ مِنْهُمَا عُمَرَ دُونَ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاتَبَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 فِي اسْتِبْقَائِهِمْ، وَأَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] . ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] . قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ (كَانَ) أَبَاحَ لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ لَمَّا شَاوَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] فَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَسْرَى وَأَخْذُ الْغَنَائِمِ. فَلَمْ يَكُنْ الْإِخْبَارُ عَنْ النَّهْيِ مُتَوَجِّهًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي، مِنْهَا: أَنِّي أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِمَنْ قَبْلِي» ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ قُرْبَانًا تَأْكُلُهَا النَّارُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أُحِلَّتْ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْرِكُمْ» . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَوْلَا مَا سَبَقَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُحِلٌّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنَائِمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، لِبَقَائِهَا عَلَى حَالِ التَّحْرِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَلَكِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبَاحَهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ بِأَخْذِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ: قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] وَلَوْ كَانُوا آخِذِينَ لِمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ لَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَبِقَتْلِ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَسْرَى، إذْ كَانَ الْمَنُّ وَأَخْذُ الْفِدَاءِ خَطَأً، خِلَافُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى خِلَافِ حُكْمِهِ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَذَ لَهُمْ مَا أَخَذُوهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ كَتَحْرِيمِهِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ لَمَسَّهُمْ فِي أَخْذِهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَأَخْبَرَ عَنْ مَوْضِعِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، بِإِبَاحَتِهِ أَخْذَهَا، لِئَلَّا يَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ إذَا أَخَذُوهَا. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلًا فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَثْخَنَهُمْ بِقَتْلِهِ رُؤَسَاءَهُمْ وَهَزِيمَةِ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ، جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى، فَكَانَ سَبِيلُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، سَبِيلُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، فِي أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ الْأَسْرَى إلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ، ثُمَّ خَالَفَ بَيْنَ حُكْمِهِ، وَبَيْنَ حُكْمِ سَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ، بِأَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِمَنْ تَقَدَّمَ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْأَسْرَى، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ الْمَنُّ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، أَوْ الْقَتْلُ. وَأَبَاحَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْذَ الْفِدَاءِ. فَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] (بِأَنْ يُفَضَّلَ دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِإِبَاحَةِ أَخْذِ الْفِدَاءِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . كَمَا لَوْ فَعَلَهُ مَنْ قَبْلَكُمْ مَعَ الْحَظْرِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى تَبْقِيَةِ الْأَسْرَى بِالْفِدَاءِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ فِي أُولَئِكَ الْأَسْرَى مَنْ يُسْلِمُ، وَيَحْسُنُ إسْلَامُهُ إذَا اُسْتُبْقِيَ وُفُودِي بِهِ، وَيَنْجُو مِنْ عَذَابِ الْكُفْرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 فَلَمْ يَكُنْ جَائِرًا فِي حُكْمِهِ وَلَا أَمْرِهِ، قَتَلَ مَنْ فِي مَعْلُومِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِ، إذَا كَانَ فِيهِ اقْتِطَاعٌ مِنْهُ لَهُ عَنْ النَّجَاةِ، وَالْوُصُولِ إلَى الثَّوَابِ بِإِمَاتَتِهِ وَقَتْلِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُصِيبًا فِي اسْتِبْقَائِهِمْ، وَأَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ، وَسَقَطَ بِذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى إثْبَاتِ الْعَتْبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَاسْتِبْقَاءِ الْأَسْرَى. وَقَدْ احْتَجُّوا أَيْضًا - كَمَا ذَكَرْنَا - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . فَلَمَّا مَدَحَهُمَا جَمِيعًا بِمَا وَصَفَهُمَا (بِهِ) مِنْ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ، دَلَّ عَلَى تَصْوِيبِهِ لَهُمَا فِي اجْتِهَادِهِمَا. وقَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] تَأَوَّلُوهُ عَلَى إصَابَةِ الْأَشْبَهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَمْ يُكَلِّفْهَا الْمُجْتَهِدَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ (أَيْضًا) : قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» . فَاقْتَضَى هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فَاقْتَدَى هَذَا بِبَعْضِهِمْ وَهَذَا بِبَعْضِهِمْ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُجْتَهِدِينَ مُصِيبِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: «تَحْكِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ، عَلَى أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِمَا يَرَاهُ صَوَابًا» ، فَسَوَّغَ لَهُمْ أَيْضًا حُكْمَهُ فِيهِمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ حُكْمُهُ: مِنْ قَتْلٍ، أَوْ مِنْ اسْتِبْقَاءٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهُ ذَلِكَ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَدْسِ وَالظَّنِّ، وَلَا عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي تَحَرِّي الْأَصْوَبِ وَالْأَوْلَى. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ سَاغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِخْرَاجِ حُكْمِ حَادِثَةٍ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إبْرَامِ الْحُكْمِ: «لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» دَلَّ (عَلَى) أَنَّ حُكْمَهُ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى (فِيهِ) حُكْمٌ غَيْرُهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا فِي حُكْمِهِ، مِنْ حَيْثُ يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَأَمْضَاهُ بِاجْتِهَادِهِ. (وَلَوْ) كَانَ حَكَمَ بِغَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى (أَيْضًا) ، إذْ سَوَّغَ إمْضَاءَ مَا رَآهُ صَوَابًا بِاجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي شَيْئَيْنِ، صَارُوا فِي أَحَدِهِمَا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ، وَإِلَى التَّحَزُّبِ وَالْقِتَالِ وَاللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ. وَهُوَ مَا قَدْ عَلِمْنَا كَوْنَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَكَانُوا فِي الِاخْتِلَافِ الْآخَرِ مُتَسَالِمِينَ غَيْرِ مُنْكِرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ خِلَافَهُ إيَّاهُ فِيهِ، وَهُوَ أَحْكَامُ حَوَادِثِ الْفُتْيَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ افْتِرَاقُ حُكْمِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ إلَى الْبَرَاءَةِ، وَاللَّعْنِ، وَالْقِتَالِ، رَأَوْا أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا مَنْصُوبًا، يُفْضِي إلَى الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِ، وَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَتَرْكُ مُخَالَفَتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وَأَنَّ الْبَابَ الْآخَرَ الَّذِي سَوَّغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَةَ صَاحِبِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مَنْعٍ. رَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى حُكْمِهِ فِيهِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِهِ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْهُ فَلَهُ شَبِيهٌ وَنَظِيرٌ مِنْ الْأُصُولِ يُسَوَّغُ رَدُّهُ إلَيْهِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ، وَيَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ. وَلَمَّا وَجَدْنَا السَّلَفَ يُجِيزُونَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ عَلَيْهِمْ - وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ رَأْيِهِمْ، وَمَذْهَبِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ - وَيُجِيزُونَ فُتْيَاهُمْ فِيهَا فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا تَخْطِئَةٍ. دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا جَمِيعَ ذَلِكَ صَوَابًا مِنْ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَأَنَّ فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَا تَعَبَّدَ بِهِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ كَانَ وَلَّى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْقَضَاءَ وَهُوَ يُخَالِفُهُ فِي الْجَدِّ وَغَيْرِهِ، وَوَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَشُرَيْحًا الْقَضَاءَ، وَهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ رَأْيِهِ وَمَذَاهِبِهِ. وَأَنَّ عَلِيًّا وَلَّى شُرَيْحًا قَضَاءَ الْكُوفَةِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ فِي الْجَدِّ، وَشُرَيْحٌ يُخَالِفُهُ فِي الْجَدِّ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ يَطُولُ شَرْحُهَا. وَاخْتَصَمَ عَلِيٌّ إلَى شُرَيْحٍ مَعَ يَهُودِيٍّ فِي قِصَّةِ الدِّرْعِ، فَقَضَى عَلَيْهِ شُرَيْحٌ لِلْيَهُودِيِّ. فَقَبِلَ قَضَاءَهُ، وَأَجَازَهُ عَلَى نَفْسِهِ، مَعَ خِلَافِهِ إيَّاهُ فِيهِ. فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ، وَقَالَ هَذَا دِينٌ حَقٌّ تُجِيزُونَ أَحْكَامَ قُضَاتِكُمْ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَسْأَلُهُ عَنْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ. فَقَالَ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ، فَأَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْته. فَقَالَ (ابْنُ عَبَّاسٍ) : عُدْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُلُثَ مَا بَقِيَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 وَمَنْ أَعْطَى الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ أَخْطَأَ. فَأَتَيْته، فَقَالَ: لَمْ يُخْطِئْ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ رَأَيْنَاهُ وَشَيْءٌ رَآهُ. وَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (فِي الْمُشْرِكَةِ) : لِمَ (لَمْ) تُشْرِكْ عَامَ أَوَّلَ؟ وَشَرَّكْت الْعَامَ؟ فَقَالَ: ذَاكَ عَلَى مَا فَرَضْنَا وَهَذَا عَلَى مَا فَرَضْنَا. وَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَوْ جَمَعَتْ النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحُكْمِ. فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ أَنَّك إذَا أَخَذْت بِقَوْلِ هَذَا أَصَبْت، وَبِقَوْلِ هَذَا أَصَبْت. فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا اتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ، وَإِنَّمَا تَرَكَ بَعْضُهُمْ النَّكِيرَ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي خَطَئِهِمْ، وَكَانَ خَطَؤُهُمْ مَوْضُوعًا كَالصَّغِيرِ مِنْ الذُّنُوبِ. قِيلَ لَهُ: أَقَلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي مُوَاقَعَتِهَا، وَلَا مَأْجُورٍ فِي فِعْلِهَا، بَلْ هُوَ عَاصٍ، تَارِكٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَعَدَهُ غُفْرَانَهَا بِاجْتِنَابِهِ الْكَبَائِرَ، وَلَمْ يَقْطَعْ وِلَايَتَهُ بِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْجُورٌ فِي اجْتِهَادِهِ، وَمَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْجُورًا فِي اجْتِهَادِهِ الْمُؤَدِّي إلَى خِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَيْفَ يَكُونُ مَعْذُورًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي نَصَبَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ. وَجَعَلَ لَهُ السَّبِيلَ إلَى إصَابَتِهِ. فَإِنَّ بِمَا وَصَفْنَا تَنَاقُضَ هَذَا الْقَوْلِ وَفَسَادَهُ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: إنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ دَلَائِلُ قَائِمَةٌ تُوَصِّلُ النَّاظِرَ فِيهَا إلَى حَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ. فَلِمَ عُذِرُوا فِي تَرْكِ إصَابَةِ مَدْلُولِهَا؟ . وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ حَوَادِثِ الْفُتْيَا وَالْحَوَادِثِ الَّتِي خَرَجُوا فِيهَا إلَى الْقِتَالِ، وَاللَّعْنِ، وَالْبَرَاءَةِ. وَدَلَائِلُ الْجَمِيعِ قَائِمَةٌ. وَكَيْفَ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا (وَ) أَحْكَامُهُمْ فِيمَا (وَصَفْنَا، مِمَّا) (لَا) خِلَافَ فِيهِ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَحْكَامَ حَوَادِثِ الْفُتْيَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَمَّا مَا صَارَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاجْتِهَادِهِ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا تَرَكَ النَّكِيرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَوَادِثِ مَسَائِلِ الْفُتْيَا مَعَ الْخِلَافِ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّا قَالُوهُ عَلَى غَالِبِ ظَنٍّ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ مُخَالِفُوهُمْ يَدَّعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِمْ، فَلِذَلِكَ جَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مُخَالِفِهِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي تَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفُوهُمْ قَدْ أَصَابُوا الْحَقَّ دُونَهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْت أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ عَلَى حُكْمٍ بِعَيْنِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ مُتَظَنِّنًا غَيْرَ عَالِمٍ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَثَبَتَ أَنَّ دَلِيلَ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى حَسَبِ شَبَهِهَا بِالْأُصُولِ، وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، لَيْسَ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ، إذْ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مُكَلَّفٌ لِإِصَابَتِهِ لَمَا أَخْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ دَلَالَةٍ لَهُ يَنْصِبُهَا عَلَيْهِ، وَلَوْ نَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا لَأَفْضَى بِالنَّاظِرِ إلَى الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ، وَلَكَانَ يَكُونُ مُخْطِئُهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْطِئِ لِسَائِرِ مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى إصَابَتَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا، لَمَا خَلَتْ الصَّحَابَةُ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرِ إلَى حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ الْجَمَاعَةُ أَصَابَهُ الْبَعْضُ مِنْهَا وَدَعَا الْبَاقِينَ إلَيْهِ، فَيَتَوَافَوْنَ عَلَى الْقَوْلِ (بِهِ) لِوُقُوعِ الْعِلْمِ لَهُمْ بِمَدْلُولِهِ. فَلَمَّا وَجَدْنَا الْأَمْرَ فِيهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا بَعْدَ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ ثَابِتِينَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ غَيْرَ مُنْكِرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا عُذِرَ الْمُجْتَهِدُ فِي خِطَابِهِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا لِغُمُوضِ دَلَالَةِ الْحُكْمِ وَخَفْيِ نَقْلِهَا، وَلَمْ يُعْذَرْ فِي الْخَطَأِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذُكِرَتْ، لِظُهُورِ دَلَالَتِهَا وَوُضُوحِهَا. قِيلَ لَهُ: فَهَلْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجْتَهِدِ سَبِيلًا إلَى إصَابَةِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَالْحُكْمِ بِمَدْلُولِهَا؟ وَهَلْ كَلَّفَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا بِعَيْنِهَا، وَنَهَاهُ عَنْ الْعُدُولِ عَنْهَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْذُورًا مَنْ كُلِّفَ إصَابَةَ الْحُكْمِ وَجُعِلَ لَهُ السَّبِيلُ إلَيْهِ، فَعَدَلَ عَنْهُ بِتَقْصِيرِهِ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 وَلَوْ جَازَ هَذَا فِيمَا ذَكَرْت لَجَازَ فِي سَائِرِ مَا أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا وَصَفْنَا عِنْدَنَا جَمِيعًا وَعِنْدَ السَّلَفِ غَيْرَ مُعَنَّفٍ فِي خِلَافِهِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ لَهُ دَلَالَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ. وَيُقَالُ لِمَنْ أَبَى مَا قُلْنَا: أَخْبَرْنَا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا، أَتُجِيزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إبْرَامَ الْحُكْمِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ؟ فَإِنْ قَالَ: حَتَّى يَعْلَمَ حَقِيقَةَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ لَهُ: فَالْمُخْتَلِفُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمْ عِنْدَك. أَفَتَقُولُ: إنَّ الْبَاقِينَ أَقْدَمُوا عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَأَمْضَوْا أَحْكَامًا لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ إمْضَاؤُهَا؟ فَإِنْ قَالَ: كَذَلِكَ فَعَلُوا. طَعَنَ فِي السَّلَفِ، وَلَحِقَ بِالنَّظَّامِ وَطَبَقَتِهِ، فِي طَعْنِهِمْ عَلَى الصَّحَابَةِ فِي الطَّعْنِ بِالِاجْتِهَادِ، وَجَوَّزَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى خَطَأٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ إمْضَاءُ مَا أَدَّاهُمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ، لَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِمَا أَمْضَوْهُ مِنْ آرَائِهِمْ. وَأَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ. فَإِذًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إمْضَاءَ الْحُكْمِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا (بِهِ) وَهُوَ غَيْرُ مُصِيبٍ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا أَمَرَ بِهِ، فَوَاجِبٌ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ مُصِيبًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي كُلِّفَهُ مِنْ جِهَةِ اجْتِهَادٍ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِمَا أُمِرَ بِهِ مُخْطِئًا فِيهِ بِعَيْنِهِ. فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي ذَلِكَ مُصِيبٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِإِصَابَتِهِ؟ قِيلَ: وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ أَيْضًا مُسْتَحِيلٌ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ مُوجِبًا بِالِاجْتِهَادِ - وَالِاجْتِهَادُ صَوَابٌ مَأْمُورٌ بِهِ - فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ خَطَأً غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالسَّبَبِ وَمَنْهِيًّا عَنْ مُسَبَّبِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 فَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ هَذَا كَمَنْ قَصَدَ بِرَمْيَتِهِ مُشْرِكًا فَأَصَابَ مُسْلِمًا، فَيَكُونُ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا فِي إصَابَتِهِ الْمُسْلِمَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا وَالِاجْتِهَادُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَحَدُ الْأُصُولِ الَّتِي يُرَدُّ إلَيْهَا حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّامِيَ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِهَادِ فِي التَّسْدِيدِ وَالرَّمْيِ نَحْوُ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالرَّمْيِ، وَالرَّامِي غَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْإِصَابَةِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّمْيِ الَّذِي يُوجِبُ الْإِصَابَةَ، وَبَيْنَ الرَّمْيِ الَّذِي لَا يُوجِبُهَا وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الَّذِي عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي طَالِبِ الْإِصَابَةِ، كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ إنَّمَا الْحُكْمُ الَّذِي كُلِّفَهُ الِاجْتِهَادُ فِي تَحَرِّي مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ. فَإِذَا أَخْطَأَ رَمْيَ الْكَافِرِ، وَأَصَابَ مُسْلِمًا، فَهُوَ غَيْرُ مُخْطِئٍ لِمَا كُلِّفَهُ مِنْ الْحُكْمِ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْمَطْلُوبَ. كَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْمَطْلُوبَ فَقَدْ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ الْحُكْمَ الَّذِي كُلِّفَهُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الدِّينِ، وَلَا خَطَأً فِي الْحُكْمِ كَانَ عَلَيْهِ إصَابَتُهُ. كَمَا أَنَّ خَطَأَ الرَّامِي لَيْسَ خَطَأً لِلْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَطَأٌ لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِرَمْيِهِ مُصِيبٌ لِحُكْمِهِ، مَأْجُورٌ عَلَى فِعْلِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ، مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي اجْتِهَادِهِ، مُصِيبٌ لِحُكْمِهِ مَعَ خَطَئِهِ لِلْمَطْلُوبِ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ بِاجْتِهَادِهِ. كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ رَمْيَ مُؤْمِنٍ فَأَصَابَ كَافِرًا حَرْبِيًّا، كَانَ رَمْيُهُ مَعْصِيَةً (مَعَ إصَابَتِهِ الْكَافِرَ، لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي عَنْهُ كَانَتْ الْإِصَابَةُ مَعْصِيَةٌ) إنْ كَانَ قَتْلُ الْكَافِرِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مَأْمُورًا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ رَامِي الْكَافِرِ إذَا أَصَابَ الْمُسْلِمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 فَقَتَلَهُ، وَكَانَ فِعْلُهُ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ كَمَا كَانَ رَمْيُهُ لِلْمُسْلِمِ مَعْصِيَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ لِلْكَافِرِ بِهَذَا الرَّمْيِ مَعْصِيَةً، لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَك مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ طَاعَةً فَمُسَبَّبُهُ طَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَعْصِيَةً فَمُسَبَّبُهُ مَعْصِيَةٌ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ (مِنْ غَيْرِ) سَبَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَتْلَ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقْصِدَهُ بِالرَّمْيِ وَالْقَتْلِ، كَمَا أَمَرَهُ بِقَصْدِ الْكَافِرِ بِالرَّمْيِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي وُجُوهٍ يَكُونُ قَتْلُهُ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ، وَيُرْجَمُ الزَّانِي، وَيُقْطَعُ السَّارِقُ، بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ (إيقَاعُ) ذَلِكَ بِهِمْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعُقُوبَةِ، بَلْ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالْأَعْوَاضَ الْجَسِيمَةَ، وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِنَا الْكَافِرَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونُ الرَّامِي لِلْكَافِرِ إذَا أَصَابَ مُسْلِمًا مُطِيعًا فِي رَمْيَتِهِ وَإِصَابَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا (وَ) وَلَا يَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ إطْلَاقُ الْقَوْلِ: بِأَنَّ الرَّامِيَ مَأْمُورٌ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إيهَامِ الْخَطَأِ، وَمَا لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ فِي الْمُسْلِمِ. وَأَمَّا إذَا رَمَى الْمُسْلِمَ وَأَصَابَ الْكَافِرَ فَإِنَّ هَذَا الرَّمْيَ مَعْصِيَةٌ. وَإِنْ أَصَابَ بِهِ الْكَافِرَ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْكَافِرِ مَعْصِيَةً فِي أَحْوَالٍ، لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى بِقَتْلِهِ، فَإِذَا كَانَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ قَدْ يَكُونُ طَاعَةً. وَقَتْلُ الْكَافِرِ قَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً، زَالَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْنَا فِي مَسْأَلَتِنَا، بِمَا حَاوَلَ بِهِ السَّائِلُ التَّشْنِيعَ بِتَجْوِيزِنَا كَوْنَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ طَاعَةً، وَعَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي إطْلَاقِ الْعِبَارَةِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِ الْكَافِرِ، أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي اللَّفْظِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهِ خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ، مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَنَيْنَا عَلَيْهِ الْقَوْلَ فِي الْمُسْلِمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ هُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ عِنْدَ اسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا غَمُضَتْ دَلَالَتُهُ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُخْطِئِ لَهُ. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مَوْجُودَةٌ فِي الْأُصُولِ: مِنْهَا أَنَّ الْقَائِمَ فِي صَلَاتِهِ قَدْ يَنْسَى، فَيَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ، وَقَدْ يَسْجُدُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَيُسَلِّمُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ وَجَمْعُ الْبَالِ وَتَرْكُ الْفِكْرِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَيَسْلَمُ مِنْ الْوَهْمِ وَالْخَطَأِ. وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الْمُجْتَهِدِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُعْذَرُ الْمُخْطِئُ فِيهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَبِيلُ مَنْ لَا يُعْذَرُ فِيهِ إذَا أَخْطَأَ، لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ، وَاسْتِوَاءِ الْمُحْتَرِزِ وَغَيْرِهِ فِيهِ. قِيلَ: أَمَّا النَّاسِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي حَالِ النِّسْيَانِ حُكْمُ غَيْرِهِ، وَمَا نَسِيَهُ فَلَيْسَ هُوَ حُكْمُهُ، وَلَا مَأْمُورًا بِهِ سَوَاءٌ كَانَ نِسْيَانُهُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ، أَوْ لَا يُمْكِنُ، وَقَدْ أَدَّى فَرْضُهُ الَّذِي عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي حَالِ النِّسْيَانِ فَرْضُ غَيْرِهِ، وَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ عِنْدَ الذِّكْرِ حُكْمٌ آخَرُ، لَزِمَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي حَالِ النِّسْيَانِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّاسِي وَبَيْنَ مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لَمْ يُكَلَّفْ حُكْمًا غَيْرَهُ. وَلَوْ جَعَلْنَا النَّاسِيَ لِمَا ذَكَرْت أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ لَسَاغَ رَدُّ الْمُجْتَهِدِ إلَيْهِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يَعْقِلُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِي حَالِ النِّسْيَانِ لِمَا هُوَ نَاسٍ لَهُ وَأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الذِّكْرِ حُكْمٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَبِذَلِكَ جَاءَ السَّمْعُ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا: أَخْبِرْنَا عَنْ النَّاسِي الَّذِي وَصَفْت وَذَكَرْت أَنَّهُ لَوْ تَحَفَّظَ لَمَا نَسِيَ، أَتَقُولُ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ وَزَّانَهُ، وَفِي مِثْلِ حَالِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَحَفَّظَ وَبَالَغَ فِي الِاجْتِهَادِ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: فَقَدْ جُعِلَ لَهُ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ مُهْلَةً فِي اسْتِئْنَافِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى، فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَجِدْ نَفْسَهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَّا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي بَابِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَوُجُوبِ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْقَطْعِ بِأَنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِصَابَتِهِ عِنْدَك. فَكَيْفَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ بَعْدَ الْمُبَالَغَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَاسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ؟ كَيْفَ (لَمْ) يَعْلَمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالِ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَك؟ كَمَا تَرَى الْإِنْسَانَ إذَا تَحَفَّظَ وَجَمَعَ بَالَهُ وَفِكْرَهُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى صَلَاتِهِ، لَا يُخْطِئُ وَلَا يَسْهُو. فَلَوْ كَانَ مَا وَصَفْت مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَالْوُصُولِ إلَى إدْرَاكِهِ وَإِصَابَتِهِ عُرُوضُ مَا ذَكَرْت لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَنَا سَبِيلٌ إلَى الْعِلْمِ بِاسْتِيفَاءِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ. (وَ) فِي وُجُودِنَا الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ إلَى قَوْلٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ بِاجْتِهَادِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي كُلِّفَهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّاسِيَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَلَيْسَ إذَا كَانَ خَلْفَهُ مِمَّنْ يَأْتَمُّ بِهِ مَنْ يُرَاعِي أَفْعَالَ صَلَاتِهِ إذَا نَبَّهَهُ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمَهُ مَوْضِعَ إغْفَالِهِ وَنِسْيَانِهِ، فَذَكَرَ وَرَجَعَ إلَى الصَّوَابِ؟ فَخَبِّرْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ حِينَ اخْتَلَفُوا كَيْفَ لَمْ يُنَبِّهْ الْمُصِيبُ مِنْهُمْ الْمُخْطِئَ عَلَى مَوْضِعِ خَطَئِهِ وَإِغْفَالِهِ، فَإِنْ نَبَّهَهُ عَلَيْهِ وَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّوَابِ، كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ خَطَأَهُ كَمَا يَسْتَدْرِكُهُ النَّاسِي إذَا ذُكِّرَ وَنُبِّهَ؟ وَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَى الْمُخْطِئِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَنْسَى إنْسَانٌ بَعْضَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 فُرُوضِ صَلَاتِهِ، وَخَلْفَهُ قَوْمٌ يَأْتَمُّونَ بِهِ، وَيُرَاعُونَهُ، ثُمَّ لَا يُوقِفُونَهُ عَلَى خَطَئِهِ، وَلَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَى مَوْضِعِ إغْفَالِهِ؟ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا وُقُوعُهُ، فَكَيْفَ جَازَ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ مِنْ السَّلَفِ عَلَى تَرْكِ تَوْقِيفِ الْمُخْطِئِ عِنْدَهُمْ، وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَقْبَلْ، وَلَمْ يُرَاجَعْ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَكَيْفَ اتَّفَقُوا عَلَى إجَازَةِ أَحْكَامِ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ، وَسَوَّغُوا لَهُمْ الْفُتْيَا بِهَا، وَإِلْزَامَ النَّاسِ إيَّاهَا، وَأَحْسَبُهُمْ جَعَلُوهُمْ مَعْذُورِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ، فَكَيْفَ أَجَازُوا لَهُمْ إمْضَاءَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِمَائِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ؟ وَمَنْ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى الْعَالِمِ إجَازَةَ خَطَأِ الْجَاهِلِ عَلَى نَفْسِهِ؟ وَكَانَ لَا أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَنْهَوْهُمْ فِي أَنْ يَتَعَدَّوْا أَحْكَامَهُمْ، إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا خَطَأٌ، خِلَافُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُلْزِمُوهَا أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ لَا يُلْزِمُوا النَّاسَ قَبُولَهَا وَإِنْفَاذَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. فَإِنْ نَهَوْهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَأَوْقَفُوهُمْ عَلَى مَوْضِعِ إغْفَالِهِمْ فَلَمْ يَنْتَبِهُوا، وَعَرَّفُوهُمْ مَوْضِعَ الدَّلِيلِ فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ فَأَصَرُّوا عَلَى الْخَطَأِ، كَانَ لَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ سَبِيلُهُمْ سَبِيلُ الْخَوَارِجِ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَمْنَعُونَ قَبُولَ فُتْيَاهُ وَأَحْكَامَهُ الَّتِي هِيَ خَطَأٌ عِنْدَهُمْ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُمْ حِينَ رَأَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يُجِيزُ الصَّرْفَ وَيُبِيحُ الْمُتْعَةَ أَنْكَرُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِحُكْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمَا بِالتَّحْرِيمِ؟ فَلَمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ بِذَلِكَ انْتَهَى عَنْ قَوْلِهِ فِيهِمَا، وَرَجَعَ عَنْهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ صَوَابًا أَنْكَرُوهُ، وَلَمْ يَعْذُرُوهُ؟ وَلَوْ كَانَ سَبِيلُ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَهُمْ إذَا خَالَفَهُمْ كَسَبِيلِ النَّاسِي لِرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، لَمَّا تَرَكُوا مُوَافَقَتَهُ، كَمَا لَا يَتْرُكُ الْمَأْمُومُ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ إذَا نَسِيَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا أَعْطَيْتُمُونَا أَنَّ الْأَشْبَهَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئُهُ مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: نَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ هُنَاكَ أَشْبَهَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، فَلَيْسَ إصَابَةُ الْأَشْبَهِ هِيَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ، إذَا لَمْ يُؤَدِّنَا الِاجْتِهَادُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ هُوَ مَا أَدَّانَا (الِاجْتِهَادُ إلَيْهِ) ، وَغَلَبَ فِي ظَنِّنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَشْبَهُ، وَلَمْ نُكَلَّفْ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ. وَهَذَا كَمَا نَقُولُ فِي الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ: إنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ مُحَاذَاتَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهَا، لِأَنَّهُ يُجْعَلُ لَهُ السَّبِيلُ إلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ تَحَرِّيه وَاجْتِهَادُهُ. وَكَمَا يُسَدِّدُ الرَّجُلَانِ سِهَامَهُمَا نَحْوَ كَافِرٍ فَيُصِيبُ أَحَدُهُمَا وَيُخْطِئُهُ الْآخَرُ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ، وَالْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَلَّفَا الْإِصَابَةَ، إذْ لَمْ يُجْعَلْ لَهُمَا سَبِيلٌ إلَيْهَا وَكَمَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَبَقَ لَهُ عَبْدٌ فَأَرْسَلَ عَبِيدًا لَهُ فِي طَلَبِهِ كَانَ مَعْلُومًا إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ حَكِيمًا، أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إصَابَتَهُ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الِاجْتِهَادَ فِي الطَّلَبِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَطْلُوبَ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ، كَذَلِكَ الْأَشْبَهُ لَهُ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهَا، وَإِنَّمَا كُلِّفَ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهَا بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ، فَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي كُلِّفَهُ لَا غَيْرُهُ. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُصُولِ الشَّرْعِ. مِنْهَا: أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْإِسْلَامَ وَالْإِقْرَارَ بِشَرَائِعِهِ، وَالْتِزَامَ أَحْكَامَهُ كَانَ عَلَيْنَا مُوَالَاتُهُ فِي الدِّينِ، وَإِجْرَاؤُهُ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِ. وَإِنْ كَانَ جَائِزًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُغَيَّبِ أَنْ يَكُونَ مُلْحِدًا مُعَطَّلًا، وَلَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 الْمُغَيَّبِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يُعَرِّفْهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجْرِيهِمْ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِمْ، مَعَ (عِلْمِ) اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُنَافِقُونَ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ مُحِيطًا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ كَانَ الظَّاهِرُ دُونَ الْبَاطِنِ، وَالْحَقِيقَةُ (الَّتِي) هِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ اسْتِشْهَادِ الْعُدُولِ (فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يَكُونُ مَنْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ قَوْمٍ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى) ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْمَغِيبِ غَيْرَ عُدُولٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ كَانَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، وَالْعَضَلُ، وَالْقَادَةُ، وَأَظْهَرُوا لَهُ الْإِسْلَامَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُوَجِّهَ لَهُمْ مَنْ يُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ. فَوَجَّهَ مَعَهُمْ ثَلَاثَةً مِنْ الصَّحَابَةِ: خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي الْأَفْلَحِ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ. فَغَدَرُوا بِهِمْ، وَقَتَلُوا عَاصِمًا، وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَخَذُوا خُبَيْبًا، وَبَاعُوهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ دَسِيسًا مِنْ قَبِيلِ قُرَيْشٍ، ضَمِنُوا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالًا، فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قُنُوتِهِ حِينَ بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ حَالِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْغَيْبَ فِي ضَمِيرِهِمْ، وَمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرِ، فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِغَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ قِصَّةُ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَقِصَّةُ الْعُرَنِيِّينَ حِينَ اسْتَاقُوا الْإِبِلَ وَارْتَدُّوا. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكَلَّفًا فِيهِ لِلْحُكْمِ الظَّاهِرِ، دُونَ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ تَقْدِيرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا كُلِّفَ فِيهِ الظَّاهِرَ وَلَمْ يُكَلَّفْ الْمَغِيبَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالْمُجْتَهِدُ قَدْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى عِلْمِ حَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ قَدْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، لَعَلِمَهُ مَنْ اجْتَهَدَ وَبَالَغَ فِي طَلَبِهِ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُخْطِئُهُ عَاصِيًا، وَلَأَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ الْخِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ فِي حَوَادِثِ الْفُتْيَا، وَلَمَا أَجَازُوا خَطَأَ الْمُخْطِئِ عَلَى سَبِيلِ مَا بَيَّنَّاهُ، ثُمَّ احْتَسَبُوا الْمُخْطِئَ مَعْذُورًا بِاجْتِهَادِهِ فِي خَطَئِهِ. فَكَفَّ عُذْرَ مَنْ عَرَفَ خَطَأَهُ، ثُمَّ أَجَازَ حُكْمَهُ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ مَوْضِعُ الْعُذْرِ مَعَ وُقُوعِ (الْعِلْمِ) بِالْخَطَأِ. وَمِمَّا يَزِيدُ مَا قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ وُضُوحًا وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ، وَإِنَّمَا لَمَّا نَذْكُرُ مَعَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ، أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، وَإِنْ لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 يَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ، أَمْ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ النَّظِيرِ (وَالرَّأْيِ) وَاَلَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ حَتَّى يَعْلَمَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ السَّلَفُ عَالِمِينَ بِخَطَأِ الْمُخْطِئِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ حَاكِمٌ بِخِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَّا (فَسَادَ) ذَلِكَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِاجْتِهَادِهِ إذَا رَفَعَ إلَى حَاكِمٍ يَرَى خِلَافَهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، مَعَ فَقْدِ عِلْمِهِ بِإِصَابَةِ الْمَطْلُوبِ. وَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَصَابَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ أَوْ أَخْطَأَهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخَطَأِ. فَثَبَتَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَهُ مِنْ الْحُكْمِ. وَكَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ إذَا تَحَرَّى مُحَاذَاةَ الْكَعْبَةِ كَانَ مُصِيبًا لِمَا كُلِّفَ. وَكَمَا أَنَّ الرَّامِيَ لِلْكَافِرِ لَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِإِرْسَالِ سَهْمِهِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ كَانَ مَأْمُورًا لِمَا كُلِّفَ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْفَصْلُ بَيْنَ التَّحَرِّي لِلْكَعْبَةِ، وَالرَّمْيِ، وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ تَرْكُ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا فِي حَالِ الْعُذْرِ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْعِتْقِ، وَالطَّلَاقِ، وَنَحْوُهَا تَرْكُ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْكَعْبَةِ، وَلَا عَيْنُ الْكَافِرِ الْمَرْمِيِّ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْحَادِثَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ نَفْسُهُ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ جَوَازِ تَرْكِ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا وَمَا فَصَلْت بِهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، فَإِنَّهُ فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ جَوَازَ تَرْكِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يُوجِبْ جَوَازَ تَرْكِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ مُحَاذَاتِهَا، فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ، وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ كَمَا جَازَ تَرْكُ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ لِلْعُذْرِ، وَكَذَلِكَ جَائِزٌ وُرُودُ الْعِبَارَةِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِمَا يُودِي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ حَيْثُ جَازَ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَمَا جَازَ تَرْكُ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ لِلْعُذْرِ، ثُمَّ لِمَا أُمِرَ بِإِمْضَاءِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ نَفْسَ الْكَعْبَةِ وَالْمَرْمِيِّ لَيْسَ مَأْمُورًا، فَسُؤَالٌ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ سَائِلِهِ بِحَقِيقَةِ مَا يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَةُ الْأَشْبَهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ، وَالْأَشْبَهُ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ (مُوَافَقَتَهُ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهَا لِذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُجْتَهَدِ) غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِالْكَعْبَةِ، وَلَا بِالْكَافِرِ الْمَرْمِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِتَحَرِّي مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ (وَمُحَاذَاةُ الْكَعْبَةِ) هِيَ فِعْلُهُ إذَا فَعَلَهَا، وَمَأْمُورٌ بِالتَّسْدِيدِ نَحْوَ الْكَافِرِ، وَمُحَاذَاتُهُ بِرَمْيَتِهِ، وَذَلِكَ فِعْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْمِيُّ مِنْ فِعْلِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا: اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَهُمْ مُصِيبُونَ لِمَا كُلِّفُوا، وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْ تِلْكَ الْآرَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قِصَرِ رَأْيِهِ عَنْ إصَابَةِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَسَبِيلُ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، سَبِيلُ الِاجْتِهَادِ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 [فَصْلٌ فِي سُؤَالَاتِ مَنْ قَالَ إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَاحْتِجَاجُهُمْ لِذَلِكَ] َ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ، وَقَوْلُ السَّلَفِ، وَالنَّظَرُ. فَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفِقْهِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَابَ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ، وَذَمَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ، وَعَنَّفَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ، وقَوْله تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ النَّهْيَ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ نَهْيًا عَامًّا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. فَدَلَّ أَنَّ مَا أَدَّى إلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ انْتَفَى مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَنَفَاهُ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 أَحْكَامِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . وَقَوْلُ الْقَائِلِينَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ يُوجِبُ جَوَازَ الِاخْتِلَافِ، وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الظَّنِّ وَالْحُكْمِ بِالْهَوَى. وَلَيْسَ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى إلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ وَيَسْتَوْلِي عَلَى رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعِ دَلِيلٍ يُوجِبُ لَهُ الْقَوْلَ بِهِ. الْجَوَابُ: يُقَالُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَابَ أَهْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَنَهَى عَنْهُ، هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ. قِيلَ لَهُمْ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ الْهَادِيَةِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْ هَذَا الذَّمِّ، وَمِنْ مُوَاقَعَةِ هَذَا النَّهْيِ، لِكَثْرَتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ مَسَائِلِ الْفُتْيَا. فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ. فَقَدْ صِرْتُمْ إلَى مَذْهَبِ الطَّاعِنِينَ فِي السَّلَفِ مِنْ سَائِرِ فِرَقِ الضَّلَالَةِ. وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ هَهُنَا فِي تَعَذُّرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ. فَإِذَا كَانَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَعْذُورِينَ وَمَأْجُورِينَ، فَكَيْفَ (يَجُوزُ) أَنْ يَكُونُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِنَا جَمِيعًا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا غَيْرُ مُرَادٍ بِهَا، وَلَا دَاخِلٍ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُوجِبَةً لِذَمِّ الِاخْتِلَافِ عَامًّا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ عِنْدَ الْفَتَاوَى فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ مُسْتَحِقِّينَ لِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَذْمُومِينَ بِاخْتِلَافِهِمْ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ أُسَارَى بَدْرٍ، فَلَمْ يَجْعَلْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ شَمِلَهُمْ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 فَثَبَتَ لِمَا وَصَفْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُجْتَهِدِينَ لَيْسَ مَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مَذْمُومًا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْعِبَادَاتِ الْوَارِدَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ مَذْمُومًا، نَحْوُ اخْتِلَافِ فَرْضِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَاخْتِلَافِ حُكْمِ الطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ فِيهِمَا. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي أَحْكَامِ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعِيبًا وَلَا مَذْمُومًا، بَلْ كَانَ حِكْمَةً وَصَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَنْفِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِهِ، وَأَحْكَامِهِ، هُوَ اخْتِلَافُ التَّضَادِّ وَالتَّنَافِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَسَبِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا سَبِيلُ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ، وَالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُتَعَبِّدٌ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ تَخْطِئَةُ غَيْرِهِ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ. وَإِنْ كَانَ مَا تَعَبَّدَ بِهِ خِلَافُ مَا تَعَبَّدَ بِهِ غَيْرُهُ. كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ تَخْطِئَةُ الْمُقِيمِ فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِهِ لِحُكْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ تَخْطِئَةُ الطَّاهِرَةِ فِيمَا تَعَبَّدَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ الْحُكْمِ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُمْ جَمِيعًا مُصِيبُونَ. وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْأَمَارَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، وَالْأَشْبَاهِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ، وَجَعَلَهَا أَمَارَاتٍ لِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَلَوْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ حَاكِمًا بِالظَّنِّ وَالْهَوَى لَكَانَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ حَاكِمًا بِالْهَوَى، وَلَكَانَتْ الصَّحَابَةُ حِينَ تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى حَاكِمِينَ بِالظَّنِّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 وَلَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى حَاكِمِينَ بِالظَّنِّ، فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ عَمَّنْ وَصَفْنَا وَلَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهُ فِيهِمْ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي الْحَرْثِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] إلَى وقَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] . قَالُوا: فَهَذَا دَلِيلٌ (عَلَى) أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ هُوَ الْمُصِيبُ لِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ دُونَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ: أَنْ لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] دَلِيلٌ (عَلَى) أَنَّ دَاوُد لَمْ يُفَهَّمْهَا، كَمَا أَنْ لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15] دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. وَكَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُبَايِعْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، إذْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَسَقَطَ سُؤَالُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ قَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ حُكْمَهَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا حُكْمُ دَاوُد فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ (بِحُكْمٍ) اسْتَمَدَّهُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُهُ فِي مِثْلِهَا عَلَى لِسَانِ سُلَيْمَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] مَعْنَاهُ: أَنَّا عَلَّمْنَاهُ حُكْمَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، إلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَصَابَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ، وَلَمْ يُصِبْهَا دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَخَصَّ سُلَيْمَانَ) بِالْفَهْمِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُصِيبِينَ لِمَا كُلِّفَاهُ مِنْ الْحُكْمِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا مُصِيبَانِ جَمِيعًا: قَوْله تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . فَأَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَوَصَفَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا مُصِيبِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي تَعَبَّدَا بِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ كَانَ دَاوُد مُصِيبًا لِلْحُكْمِ لِمَ نَقَضَهُ سُلَيْمَانُ حِينَ خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَمَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا بِخِلَافِ حُكْمِ دَاوُد فِيهَا؟ قِيلَ لَهُ: الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَائِمٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد لَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ لِلْقَوْمِ الْحُكْمَ عِنْدَهُ فِيهِ وَلَمْ يُمْضِهِ، حَتَّى لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ قَالَ: الْحُكْمُ عِنْدِي كَيْتَ وَكَيْتَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ، وَنَصَّ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 عَلَيْهَا، فَكَانَ قَوْلُ دَاوُد فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَمَا نَصَّ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ خِلَافُ حُكْمِ دَاوُد قَبْلَ أَنْ يُمْضِيَ دَاوُد مَا رَآهُ فِيهَا. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ فَهَّمَهَا سُلَيْمَانَ، يَعْنِي بِنَصٍّ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ لِدَاوُدَ فِي الْحُكُومَةِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِمَا عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيَّهُ فِي مَوَاضِعَ كَانَ حُكْمُهُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَاد. مِنْهَا: إذْنُهُ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ جَيْشِ الْعُسْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وَالْعَفْوُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 106] وَمِنْهَا: مَا كَانَ مِنْهُ فِي شَأْنِ الْأَسْرَى، وَقَدْ كَانَ فَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ، فَلَمْ يُعَرَّ مِنْ الْخَطَأِ فِيهِ. (قِيلَ لَهُ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْقَفَهُ عَلَى حَقِيقَةِ النَّظِيرِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْخَطَأُ) خَطَأً فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ خَطَأٌ لِلْأَشْبَهِ، وَعُدُولٌ عَنْ حَقِيقَةِ النَّظِيرِ عَلَى مَا قُلْنَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْك} [التوبة: 43] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَنْبًا. وَلَيْسَ يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِ ذَنْبٌ. وَالْعَفْوُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ التَّسْهِيلُ وَالتَّوْسِعَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] يَعْنِي سَهَّلَ عَلَيْكُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 وَاحْتَجُّوا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَعَثَ جَيْشًا قَالَ لَهُمْ: وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ الْحِصْنِ أَوْ الْمَدِينَةِ فَأَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ» قَالُوا: فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ: إنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْمُجْتَهِدِ. وَبِقَوْلِ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ، فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَإِنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، فَإِنْ اجْتَهَدْت فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ» ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ مِثْلَهُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» ، (قَالُوا) : فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُنَبِّئُ عَنْ خَطَأِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُتْيَا، وَهِيَ نَافِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. الْجَوَابُ: أَمَّا حَدِيثُ، بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ» يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي كَانُوا عَرَفُوهُ حِينَ فَارَقُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، لِأَنَّكُمْ لَا تَأْمَنُونَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نُسِخَ بَعْدَ غَيْبَتِكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَدْرُونَ بِهِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ إذَا نَزَلُوا عَلَيْهِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِنَا عِنْدَ نُزُولِهِمْ، فَيَلْزَمُنَا إمْضَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ أَرَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَصْلَحَ: مِنْ قَتْلٍ، أَوْ سَبْيٍ، أَوْ مَنٍّ، وَاسْتِبْقَاءٍ، وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ مَوَاضِعُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْقَوْمِ. فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: فَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْتُمْ الْآنَ قَبْلَ نُزُولِهِمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَإِنَّمَا تَعْلَمُونَهُ إذَا اجْتَهَدْتُمْ فِي أُمُورِهِمْ بَعْدَ نُزُولِهِمْ، وَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَوْمِ أَنَّكُمْ تَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، لَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ. فَيَكُونُ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ التَّعْزِيرِ لَهُمْ مِمَّا (لَمْ) يَكُونُوا يَعْلَمُونَهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونُوا إنَّمَا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا فِيهِمْ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إذَا أَصَابَ الْأَشْبَهَ الْمَطْلُوبَ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ - وَإِصَابَتَهُ بِاجْتِهَادِهِ - (فَلَهُ أَجْرَانِ) وَإِنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ، مُخْطِئًا فِي أَحَدِهِمَا لِلْأَشْبَهِ، لَا لِلْحُكْمِ، إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَشْبَهُ هُوَ الْحُكْمَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَطَأٌ لِلْأَشْبَهِ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ، كَخَطَأِ الرَّامِي لِلْكَافِرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا كَانَ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي أَحَدِهِمَا أَجْرَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ أَجْرًا وَاحِدًا؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخْبِرْ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْأَجْرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْوَعْدِ لَهُ بِالتَّفْضِيلِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا وَعَدَ أَحَدَهُمَا زِيَادَةَ أَجْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقَّهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمَا تَقْصِيرٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَطَلَبُ الْأَشْبَهِ. وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُعِدَّ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ مِنْهُمَا فُتُورٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ، كَمَا هُوَ جَائِزٌ (مُتَعَالَمٌ بَيْنَنَا أَنْ يَقُولَ حَكِيمٌ) مِنْ الْحُكَمَاءِ لِرَجُلَيْنِ: ارْمِيَا هَذَا الْكَافِرَ. فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْكُمَا فَلَهُ دِينَارَانِ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ دِينَارٌ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ (مُمْتَنِعًا وَيَكُونُ) الْفَضْلُ الْمَشْرُوطُ لِلْمُصِيبِ مِنْهُمَا، تَحْرِيضًا لَهُمَا، وَتَطْيِيبًا فِي وُقُوعِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّسْدِيدِ، وَتَحَرِّي إصَابَةِ الْمَرْمَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا. وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَوَقَعَ مِنْهُمَا فُتُورٌ فِي الْمُبَالَغَةِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي ذَلِكَ. كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زِيَادَةِ الْأَجْرِ لِلْمُصِيبِ الْأَشْبَهَ، غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِنَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا وَعَدَ بِهَا تَحْرِيضًا وَحَثًّا عَلَى التَّقَصِّي فِي الِاجْتِهَادِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَحَرِّي الْمَطْلُوبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا سَمَّاهُ أَجْرًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ أَجْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، حِينَ كَانَ الْوَعْدُ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلٍ يَكُونُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] . فَسَمَّى الْجَزَاءَ سَيِّئَةً عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ فِي إيجَابِهِ الْأَجْرَيْنِ لِمَنْ أَصَابَ الْأَشْبَهَ مِنْهُمَا: وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ مُتَعَلِّقَةً بِضَرْبٍ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ، يُصَادِفُ بِهَا مُوَافَقَةَ الْأَشْبَهِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا دُونَهَا مِنْ التَّقَصِّي وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَلَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا لِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَا يُصِيبُ الْأَشْبَهَ مَعَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الضَّرْبَانِ جَمِيعًا مِنْ الِاجْتِهَادِ جَائِزَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِي النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ. إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا: جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ لِلْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ مُسْتَحَقًّا لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ عَلَى حَسَبِ وُقُوعِ زِيَادَةِ اجْتِهَادِهِ عَلَى اجْتِهَادِ الَّذِي قَصَّرَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ. وَهَذَا جَائِزٌ سَائِغٌ، نَحْوُ وُرُودِ الْعِبَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60] فَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُبَاحِ الَّذِي يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، وَأَبَانَ عَنْ مَوْضِعِ الْفَضْلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ، فَأَبَاحَ لَنَا الْإِفْطَارَ، وَأَخْبَرَ بِالْفَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 «وَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً، وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ، ضَاعَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ» . وَأُبِيحَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّاهَا كَانَ أَفْضَلَ. (وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ لَيْسَ عَلَيْهِ إتْيَانُ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَحَضَرَهَا كَانَ أَفْضَلَ) وَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فِي إتْيَانِهَا، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّقَصِّي (فِيهِ) ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَحَرِّي مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ، فَيَتَّفِقُ بِمِثْلِهِ مُصَادَفَةُ الْمَطْلُوبِ، الَّذِي لَوْ انْكَشَفَ أَمْرُهُ لِلْمُجْتَهِدِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ. وَاجْتِهَادُ دُونِهِ: قَدْ أُبِيحَ لِلْمُجْتَهِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَّفِقُ بِمِثْلِهِ مُوَافَقَةَ الْأَشْبَهِ، وَإِنْ ظَنَّ الْمُجْتَهِدُ أَنَّهُ (قَدْ) وَافَقَهُ. فَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا مِنْ الْأَجْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا، كَمَا قُلْنَا فِي نَظَائِرِهِ - الَّتِي وَصَفْنَا - فِي النُّصُوصِ وَالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ بِهَذَا الْخَبَرِ: خَبِّرْنَا عَنْ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى الْخَطَأِ، هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ يَكُونُ مَا أُمِرَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ إذَا فَعَلَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا بِهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى الْخَطَأِ؟ وَإِنْ قَالَ: هُوَ خَطَأٌ وَلَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ. قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ عَلَى خَطَأٍ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ؟ هَذَا خَلْفٌ فِي الْقَوْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ (قَالَ) : «وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ» . قَالُوا: وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، مَا هُنَاكَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْ أَحَدٍ. فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ وُجُوهَ الدَّلَائِلِ فِي الْمَقَايِيسِ مُخْتَلِفَةٌ. فَمِنْهَا: مَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَالْحَقُّ فِيهِ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ. وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدًا، لِوُجُودِ الدَّلَائِلِ (الْمَنْصُوصَةِ عَلَيْهِ) وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ أَعْلَمَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ بِدَلَالَاتِ الْقَوْلِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ، وَأَعْلَمُ بِمَوَاضِعِ النُّصُوصِ مِنْ بَعْضٍ، فَلَيْسَ إذًا فِي كَوْنِ بَعْضِ النَّاسِ أَعْلَمَ مِنْ بَعْضِ مَا يَنْفِي صِحَّةَ قَوْلِنَا. وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ فِي أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: (أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ. وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ) . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ (فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ يَتَحَدَّثُ إلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَأَفْزَعَهَا ذَلِكَ، وَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَالُوا: لَا شَيْءَ عَلَيْك، إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ، وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ هَذَا جَهْدُ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَإِنْ كَانُوا قَارَبُوك فَقَدْ غَشُّوك، أَرَاك قَدْ ضَمِنْت، فَقَبِلَ قَوْلَهُ دُونَهُمْ، وَضَمِنَهُ) . فَقَدْ أَطْلَقَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْمَ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ. وَبِمَا رُوِيَ (أَنَّ عُمَرَ قَضَى بِقَضِيَّةٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَصَبْت أَصَابَ اللَّهُ بِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَدْرِي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ وَلَكِنِّي لَمْ آلُ عَنْ الْحَقِّ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ كَاتِبًا كَتَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَبْوَابِ الْقَضَاءِ، سُئِلَ عَنْهُ، فَكَتَبَ هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ تَعَالَى عُمَرَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَمْحُوَهُ وَيَكْتُبَ: هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ، وَلَوْ كَانَ رَأْيُهُ وَمَا يُؤَدِّيه إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، لَمَا امْتَنَعَ كَأَنَّ يَكْتُبَ هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ. وَبِقَوْلِ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فَمَنْ مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي) . وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ؟ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ، وَلَا يَجْعَلُ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ؟ مَنْ شَاءَ بَاهَلْته عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ) . وَبِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى) نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وَبِقَوْلِ عُمَرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: (أَرَأَيْتَ لَوْ رَأَيْت رَجُلًا عَلَى فَاحِشَةٍ. أَكُنْتَ تُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَكُونَ مَعِي غَيْرِي، قَالَ: فَقُلْتُ: لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَرَأَيْتُ أَنَّك لَمْ تُصِبْ) . وَبِمَا رُوِيَ (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلَ عَنْ صَيْدٍ أَصَابَهُ حَلَالٌ (يَأْكُلُ) مِنْهُ الْمُحْرِمُ؟ فَأَفْتَى بِأَكْلِهِ، ثُمَّ لَقِيَ عُمَرَ، فَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ مِنْ فُتْيَاهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتهمْ بِغَيْرِ هَذَا لَأَوْجَعْتُك) . (وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنَّ شُرَيْحًا يَقْضِي فِي مُكَاتَبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ: أَنَّ الدَّيْنَ وَالْكِتَابَةَ بِالْحِصَصِ، قَالَ: أَخْطَأَ شُرَيْحٌ) ، قَالُوا: فَقَدْ أَجَازَ هَؤُلَاءِ الْخَطَأَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُجِيزُونَهُ عَلَيْهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 الْجَوَابُ: إنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ: إنَّمَا هُوَ إشْفَاقٌ (مِنْهُمَا) أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ آرَائِهِمَا، وَقَدْ كَانُوا يَعْرِضُونَ آرَاءَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ لِيَنْظُرُوا، هَلْ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْحَاضِرِينَ؟ (فَأَخْبَرَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ) هُنَاكَ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ رَأْيِهِمَا، فَاسْتِعْمَالهمَا لِلرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَطَأٌ، مِنْهُمَا وَمِنْ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلرَّأْيِ مَعَ السُّنَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْ الْجَدَّةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، تَسْأَلُهُ عَنْ مِيرَاثِهَا، قَالَ: (مَا أَجِدُ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَسَأَلَ النَّاسَ، فَلَمَّا سَأَلَ أُخْبِرَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمَةً فِي مِيرَاثِهَا) فَأَشْفَقَ حِينَ رَأَى فِي الْكَلَالَةِ مَا رَأَى، أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ بِخِلَافِ رَأْيِهِ. وَيُبَيِّنُ لَك هَذَا: قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا أَعْلَمُ) فَاسْتَعْظَمَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، لَمْ يَكُنْ قَوْلًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ هُوَ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَاجْتِهَادُهُ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِخِلَافِهِ) . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّهُمْ أَخْطَئُوا حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا حَقِيقَةَ النَّظِيرِ عِنْدِي، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَتَهُ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يَرْوِيه الْحَسَنُ، وَالْحَسَنُ لَمْ يُشَاهِدْ (هَذِهِ) الْقِصَّةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا أَدْرِي أَصَبْت أَمْ أَخْطَأْت؟ هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَا أَدْرَى أَصَبْتُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟ وَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْأَشْبَهَ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ، أَمْ لَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 وَأَمَّا امْتِنَاعُ عُمَرَ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ: هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ، فَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَفْظٌ ظَاهِرٌ، يُوهِمُ أَنَّهُ (قَالَ) مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، إذْ كَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِيه. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 106] وَمُرَادُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -: مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَأُوحِيَ بِهِ إلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَا يَتَّقِ اللَّهَ زَيْدٌ؟ وَقَوْلُهُ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْته: أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا. وَذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّ مُخَالِفَهُ فِي الْجَدِّ، تَارِكٌ (لِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى) ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُطْلِقُ ذَلِكَ فِيمَنْ يُخَالِفُ فِي الْجَدِّ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْته، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ: إنَّ مَنْ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الْجَدِّ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُتْيَا، إلَّا قَوْمًا خَارِجِينَ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ. وَظَاهِرُ ذَلِكَ عِنْدَنَا: مِنْ قَوْلِهِ: إنْ أَخْبَرَ عَنْ اسْتِبْصَارِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُصِيبٌ - فِي الْحَقِيقَةِ - النَّظِيرَ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ - إعْلَامًا مِنْهُ لِلسَّامِعِينَ - بِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ، وَلَا نَاظِرٍ. وَلَوْ بَاهَلَ لَكَانَتْ مُبَاهَلَتُهُ مُنْصَرِفَةً إلَى أَنَّ هَذَا عِنْدِي كَذَا، وَهَذَا جَائِزٌ فِيهِ الْمُبَاهَلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. (فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى مُخَالِفِيهِ فِي ذَلِكَ مُخْطِئِينَ لِلْحُكْمِ الَّذِي تَعَبَّدُوا بِهِ) . وَكَذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْته، أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، إنَّمَا (هُوَ) إخْبَارٌ عَنْ عِلْمِهِ بِتَارِيخِ نُزُولِ السُّورَتَيْنِ، وَمَعْنَى الْمُبَاهَلَةِ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ، وَرَاجِعٌ إلَى عِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَوْ قُلْت غَيْرَ هَذَا لَرَأَيْت أَنَّك لَمْ تُصِبْ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّك لَمْ تُصِبْ عِنْدِي حَقِيقَةَ النَّظِيرِ، الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدِي، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قُلْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي فُتْيَاهُ: لَوْ قُلْتُ غَيْرَ هَذَا لَأَوْجَعْتُكَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَهْيَهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفُتْيَا وَالتَّسَرُّعِ فِي الْجَوَابِ، إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا يَسْأَلُ عَنْهُ، مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ مِنْهُ إلَى إمَامِهِ، أَوْ إلَى مُشَاوَرَةِ قَوْمٍ مِنْ ذَوِي الْفِقْهِ. سُؤَالٌ: - وَمِمَّا يَسْأَلُ أَيْضًا: مِنْ أَيْنَ هَذَا الْمَذْهَبُ؟ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ وَتَنَافِيهَا، وَإِلَى مَا يَسْتَحِيلُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا سَأَلَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ عَمَّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَأَجَابَهُ بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ. وَسُئِلَ آخَرُ: فَأَجَابَهُ فِيهَا بِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ: أَنَّ عَلَيْهِ الْمَصِيرَ إلَى قَوْلِ الْمُفْتِينَ، فَيُوجِبُ هَذَا عَلَيْهِ اعْتِقَادَ التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ، فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُونَ عَلَى ذَلِكَ تَجْوِيزَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّيْنِ، فَيَأْمُرَ أَحَدَهُمَا بِإِيجَابِ حَظْرِ الْمَرْأَةِ وَتَحْرِيمِهَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، وَيَأْمُرَ الْآخَرَ بِإِبَاحَتِهَا لَهُ بِعَيْنِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ فَرْجٌ وَاحِدٌ مَحْظُورًا مُبَاحًا، عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي نَبِيَّيْنِ يَأْمُرَانِهِ بِذَلِكَ، لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ نَبِيٌّ وَاحِدٌ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: هَذَا مَحْظُورٌ عَلَيْك، وَمُبَاحٌ لَك فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ، يَمْتَنِعُ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: وَيُوجِبُ تَجْوِيزَ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّبِيَّيْنِ: أَنْ يَكُونَ إنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ فَقَدْ أُبِيحَ لَهُ إذًا مُخَالَفَةُ أَمْرِ أَحَدِ النَّبِيَّيْنِ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ لَوْ وَقَعَ لَهُ دَلِيلُ الْحَظْرِ وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 جَمِيعًا، وَلَمْ يَبِنْ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُ مِنْ الْآخَرِ بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ: أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ (مِنْهُمَا) ، وَأَنَّ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا جَمَاعَةَ أَقَاوِيلَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا خَطَأً، وَالصَّوَابُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ غَيْرِهَا. الْجَوَابُ: أَنَّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا السَّائِلُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا غَلِطَ السَّائِلُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَوْمِ، فَظَنَّ فِيهِ شَيْئًا صَادَفَ ظَنَّهُ غَيْرَ حَقِيقَةِ الْمَذْهَبِ، فَأَخْطَأَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِلْزَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُفْتٍ أَفْتَى بِشَيْءٍ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِي اتِّبَاعَ فُتْيَاهُ وَمَذْهَبِهِ، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: إذَا تَسَاوَى عِنْدَك حَالُ الْفَقِيهَيْنِ، فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي قَبُولِ فُتْيَايَ أَوْ تَرْكِهَا، وَقَبُولِ فُتْيَا غَيْرِي، فَإِنْ أَخَذْتَ بِقَوْلِي، وَاخْتَرْتُهُ فَعَلَيْكَ فِيهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَإِنْ اخْتَرْت قَبُولَ قَوْلِ غَيْرِي - مِمَّنْ يَقُولُ بِضِدِّ مَذْهَبِي - لَمْ يَلْزَمْكَ اتِّبَاعُ قَوْلِي، وَكَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكَ مَا أَفْتَاكَ بِهِ دُونَ فُتْيَايَ. فَإِذَا أَفْتَاهُ الْمُفْتِيَانِ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَإِنْ يُصْدَرْ فُتْيَا (كُلِّ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ قَائِلِهَا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَيَكُونُ الْمُسْتَفْتِي مُخَيَّرًا بَيْنَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ الَّذِي عَلَيْهِ، دُونَ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ الْوَطْءُ الَّذِي يُجَامِعُ قَبُولَهُ مِنْ الْحَاظِرِ مِنْهُمَا، غَيْرُ الْوَطْءِ الَّذِي يُجَامِعُ قَبُولَهُ مِنْ الْمُبِيحِ، إذَا أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِحَظْرِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ، وَأَفْتَاهُ الْآخَرُ بِإِبَاحَتِهِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَعْنًى غَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْآخَرُ، وَهَذَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي النَّبِيَّيْنِ: جَائِزٌ أَنْ يَبْعَثَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: أَحَدُهُمَا بِحَظْرِ شَيْءٍ، وَالْآخَرُ بِإِبَاحَتِهِ، عَلَى شَرِيطَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَلَا يَقُولُ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ النَّبِيَّيْنِ: إنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَحْظُورٌ عَلَيْك حَظْرًا بَاتًّا، بَلْ يَقُولُ لَهُ: إنْ اخْتَرْتَ الْمَصِيرَ إلَى هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 الْقَوْلِ لَزِمَكَ حُكْمُهُ، وَلَك أَنْ لَا تَخْتَارَهُ، وَتَصِيرُ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ الْآخَرِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُك مَا يَخْتَارُهُ، وَيَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِمِثْلِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ وَاحِدٍ أَيْضًا. بِأَنْ يَقُولَ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ بِأَنْ تُلْزِمَ نَفْسَك أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، بِأَنْ يُقَالَ (لَهُ) : أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَجْعَلَهُ طَلَاقًا، أَوْ لَا تَجْعَلَهُ كَذَلِكَ. فَإِنْ جَعَلْتَهُ طَلَاقًا كَانَتْ مُحَرَّمَةً، وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهُ طَلَاقًا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْكَ. كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ مُخَيَّرٌ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا بَيْنَ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُحَرِّمَهَا، فَيَكُونَ عَلَى حَالِهَا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُحَرِّمَ أَمَتَهُ بِالْعِتْقِ، وَبَيْنَ تَرْكِهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالرِّقِّ. وَإِذَا كَانَ جَائِزٌ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، جَازَ أَنْ يَفْرِضَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَيَكُونَ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا خَيَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ نِسَائِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مُخَالَفَةَ أَحَدِ النَّبِيَّيْنِ إذَا صَدَرَ الْأَمْرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُ السَّائِلِ بِذِكْرِ الْمُخَالَفَةِ مُخَالَفَةُ أَمْرِهِ فَلَا، وَإِنْ أَرَادَ مُخَالَفَةَ الْفِعْلِ فَجَائِزٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَقَدَ أَمْرَهُ بِشَرِيطَةِ اخْتِيَارِك لَهُ، دُونَ اخْتِيَارِ (أَمْرِ) النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآخَرِ. فَإِذَا اخْتَارَ أَمْرَ النَّبِيِّ الْآخَرِ، لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ: فَجَائِزٌ إذَا صَادَفَ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُقِيمٌ أَرْبَعًا، كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِعْلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ فِي أَمْرِهِ. وَقَدْ سَأَلُوا فِي نَحْوِ هَذَا، بِأَنْ قَالُوا: أَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ يَكُونَ نَاهِيًا لِلْمَأْمُورِ عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْآخَرِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ مُبِيحٌ، أَوْ أَنْ يَكُونَ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصِيَةً لِلْآخَرِ. فَنَقُولُ لَهُ: إنْ هَهُنَا قِسْمًا ثَالِثًا، قَدْ ذَهَبَ عَلَيْك أَمْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيَّاهُ مَعْقُولٌ بِشَرِيطَةِ اخْتِيَارِ الْمَأْمُورِ إيَّاهُ، فَإِنْ اخْتَارَهُ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ حُكْمِ آخَرَ غَيْرِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ الْآخَرُ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ مَا اخْتَارَهُ، وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْ إمْضَاءِ حُكْمِ آخَرَ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِذَا كَانَ مَصْدَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيَّيْنِ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، سَقَطَ اعْتِرَاضُ السَّائِلِ لِمَا ذُكِرَ، وَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَمِرَّةً عَلَى أَصْلِ الْقَوْمِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ يُوجِبُ إبَاحَتَهَا، وَدَلِيلُ الْحَظْرِ يُوجِبُ حَظْرَهَا، صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ، لَوْ وَرَدَ عَلَى هَذَا النَّصِّ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَقْتَضِ التَّخْيِيرَ. وَإِيجَابُ التَّخْيِيرِ ضِدُّ مُوجِبِ الدَّلِيلِ جَمِيعًا. وَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُمَا ثَابِتَا الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِذَلِكَ عَلَى جِهَةِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ. فَأَمَّا وُرُودُهُمَا مَعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمُحَالٌ. فَكَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الدَّلِيلِ، لِأَنَّهُمَا إذَا وَرَدَا كَذَلِكَ لَا يُوجِبَا تَخْيِيرًا. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ: أَنَّ دَلَائِلَ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لَيْسَتْ مُوجِبَةً لِمَدْلُولَاتِهَا، وَأَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 يَجُوزُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً عَنْ مَدْلُولِهَا، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهَا، عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا جُعِلَتْ عَلَامَةً (لَهَا) وَسِمَةً، كَدَلَالَاتِ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا عُلِّقَ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا، لَمْ يَمْتَنِعْ دَلِيلُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَيَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِي نَفْيِهِ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، مُنَفِّرًا عَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَالْكَلَامُ فِي حُكْمِ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَمَّا صَارَا مُوجِبَيْنِ لِلتَّخْيِيرِ مِنْ مُقْتَضَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ، خَارِجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا. وَمَتَى قُلْنَا لِلْمُسَائِلِ: إنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ حَجْمِ مُوجِبِ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَهُ، سَقَطَ سُؤَالُهُ، وَصَارَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهَا. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ وَجْهَ إيجَابِ التَّخْيِيرِ عِنْدَ تَسَاوِي جِهَةِ الْحَظْرِ وَجِهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ لِلسَّائِلِ بِحَقِّ النَّظَرِ. فَنَقُولُ: قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ رُجْحَانِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْمُوجِبَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ هُوَ الِاجْتِهَادُ، فَمَتَى زَالَ تَرْجِيحُ الِاجْتِهَادِ لَهُ، وَصَارَ الِاجْتِهَادُ مُوجِبًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، اسْتَحَالَ إثْبَاتُ التَّرْجِيحِ مَعَ نَفْيِ الِاجْتِهَادِ لَهُ، وَهُوَ إنَّمَا يَصِيرُ إلَى الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَفْيَ مُوجِبٍ لِلِاجْتِهَادِ، إذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ قَدْ أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ إثْبَاتُ التَّرْجِيحِ، إذَا كَانَ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ يَبْطُلُ. وَلَوْ جَازَ نَفْيُ التَّسْوِيَةِ مَعَ إيجَابِ الِاجْتِهَادِ لَهَا لَجَازَ نَفْيُ الرُّجْحَانِ مَعَ إيجَابِ الِاجْتِهَادِ لَهُ، وَفِي إجَازَةِ ذَلِكَ إبْطَالُ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا، عَلِمْنَا أَنَّ تَسَاوِي جِهَتَيْ الْحَظْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 وَالْإِبَاحَةِ يَقْتَضِي تَخْيِيرًا لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ، فِي أَنْ يُمْضِيَ أَيَّ الِاجْتِهَادَيْنِ شَاءَ، فَيَحْكُمُ بِهِ دُونَ الْآخَرِ، لِاسْتِحَالَةِ جَمْعِهِمَا (جَمِيعًا) فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ، وَيُحِيلُ تُسَاوِي جِهَتَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدَيْنِ. وَمَنْ قَبْلَهُ أَجَازَ ذَلِكَ (وَيَقُولُ: لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ) فِي الْعَادَةِ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ جِهَتَا الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ. وَقَدْ يَتَسَاوَى عِنْدَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ الْجِهَاتُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ، أَوْ فِي فَلَاةٍ فِي غَيْمٍ وَظُلْمَةٍ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فِيمَا وَصَفْنَاهُ، وَقَدْ يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِهِ وَإِحَالَتِهِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا وَتَسَاوِي جِهَاتِ الْإِحْكَامِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَجْهٌ. فَإِنْ قَالَ: فَإِذَا جَوَّزْتُمْ لِلْمُجْتَهِدِ تَسَاوِي الْحُكْمَيْنِ عِنْدَهُ، وَاعْتِدَالَهُمَا فِي نَفْسِهِ، وَأَوْجَبْتُمْ بِهِ التَّخْيِيرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَجَوِّزُوا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي حَالٍ، ثُمَّ يُعْقِبَهُ بِاخْتِيَارِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْعُدُولِ عَنْ الْأَوَّلِ إلَيْهِ، حَتَّى يَخْتَارَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ حَرَامٌ، طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، وَيَخْتَارَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي لَفْظٍ قَدْ اعْتَدَلَ فِيهِ الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ، ثُمَّ يَخْتَارَ بَعْدَ ذَلِكَ إمْسَاكَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَيَخْتَارَ رَدَّ الْعَبْدِ إلَى الرِّقِّ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَلَا فِكْرٍ، وَلَا اجْتِهَادٍ، كَمَا كَانَ لَهُ بَدْءًا أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ، إذَا كَانَا عِنْدَهُ مُتَسَاوِيَيْنِ. فَكَذَلِكَ يَخْتَارُ الثَّانِيَ عَقِيبَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَعُودُ بَعْدَهُ فَيَخْتَارَ الْأَوَّلَ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِاعْتِدَالِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ. وَيَلْزَمُ أَيْضًا عَلَى هَذَا: أَنَّهُ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتَيْنِ، فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ فِي أَحَدِهِمَا وُقُوعَ الْبَيْنُونَةِ، بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَا يَخْتَارَ فِي الْأُخْرَى وَنَوْعِهَا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ، وَأَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا إلَى أَنْ يُوقِفَ، وَيُحَرِّمَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يُحَرِّمَ الْأُخْرَى إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 كَمَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَيْنِ فَيُرَاجِعُ إحْدَاهُمَا، وَلَا يُرَاجِعُ الْأُخْرَى حَتَّى تَبِينَ. وَكَمَا أَنَّ لَهُ إذَا حَنِثَ فِي يَمِينَيْنِ أَنْ يَخْتَارَ فِي إحْدَاهُمَا الْعِتْقَ، وَفِي الْأُخْرَى الْكِسْوَةَ، أَوْ الْإِطْعَامَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيزُوا لَهُ إذَا اسْتَفْتَاهُ رَجُلَانِ فِي الْحَرَامِ: أَنْ يُفْتِيَ أَحَدَهُمَا بِالطَّلَاقِ، وَيُفْتِيَ أَحَدَهُمَا بِأَنَّهُ يَمِينٌ، لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا حَاضِرَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْجَوَابُ: أَنَّهُ مَتَى اخْتَارَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إلَّا بِرُجْحَانٍ يُبَيِّنُ لَهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَالْكَلَامُ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا. وَمَتَى قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ جَائِزٍ، لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ. فَقِيلَ لَنَا: مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ كَسَائِرِ مَا أَلْزَمْنَاكُمْ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؟ فَشَرَعْنَا فِي ذِكْرِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، كَانَ ذَلِكَ اشْتِغَالًا بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى. وَعَلَى أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نُخَلِّي السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ، مِنْ إسْقَاطِ سُؤَالِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، ثُمَّ إذَا فَعَلَ أَحَدَهُمَا سَقَطَ خِيَارُهُ فِي فِعْلِ الْآخَرِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، وَبَيْنَ تَبْقِيَتِهَا عَلَى النِّكَاحِ، وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُطَلَّقَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَتَبِينَ. وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ عِتْقِ عَبْدِهِ، وَبَيْعِهِ، أَوْ تَرْكِهِ. وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ مَا بِيعَ فِي شَرِكَتِهِ، أَوْ جِوَارِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَبَيْنَ أَلَّا يَأْخُذَ، وَلَا يَطْلُبَ، فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ. وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِقَالَةِ، وَالْخُلْعِ، وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُقُودِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، ثُمَّ إذَا وَقَعَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي تَرْكِ إيقَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ، سَقَطَ خِيَارُهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُدُولُ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا فَسْخُ مَا كَانَ أَوْقَعَهُ، مِمَّا كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ قَبْلَ إيقَاعِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ: مُخَيَّرٌ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ يَدْخُلَ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ، فَيُصَلِّي أَرْبَعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 فَإِنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ سَقَطَ خِيَارُهُ، (فَإِذْ قَدْ كُنَّا) وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مَنْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، ثُمَّ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ (إيَّاهُ) (وَأَمْضَاهُ) ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَمْضَاهُ، وَلَا الْعُدُولُ إلَى آخَرَ، فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِوُجُوهِ خِيَارِهِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَالْإِيقَاعِ عَلَى بَقَاءِ خِيَارِهِ فِي فَسْخِ مَا أَوْقَعَ (وَ) الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَسَقَطَ بِذَلِكَ سُؤَالُ السَّائِلِ لَنَا: بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ بَقَاءُ خِيَارِهِ، مَا لَمْ يَحْدُثْ هُنَاكَ عِنْدَهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْعَلَ الْخِيَارَ الَّذِي يَصْدُرُ لَهُ عَنْ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ تَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ، مِمَّا لَا يُمْنَعُ اخْتِيَارُهُ (لِأَحَدِ أَشْيَاءَ) ، مِنْ بَقَاءِ خِيَارِهِ دُونَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكُونُ لَهُ فِيهَا الْخِيَارُ، ثُمَّ إذَا أَوْقَعَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ خِيَارُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْعُدُولُ إلَى الْآخَرِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَذْكُرُ الْمَعْنَى الْمُسْقَطِ لِلْخِيَارِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا لِلسَّائِلِ. نُحِقُّ النَّظَرَ إذْ كَانَ الْفَرْضُ حُصُولُ الْفَائِدَةِ. فَنَقُولُ: إنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ مَعْنًى قَدْ انْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ فِي هَذَا عَلَى أَقَاوِيلَ ثَلَاثَةٍ: مِنْهُمْ: مَنْ أَبَى وُجُودَ تَسَاوِي الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ، (وَيَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ، فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ) وَمِنْهُمْ: مَنْ يَقُولُ يَصِحُّ وُجُودُ تَسَاوِي الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ عَلَى إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِأَحَدِهِمَا، حَتَّى يَبِينَ لَهُ رُجْحَانُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ الْآخَرِ، إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ، يُوجِبُ لَهُ الْعُدُولَ عَنْهُ. فَقَدْ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ، بِامْتِنَاعِ جَوَازِ انْتِقَالِ مَا اخْتَارَهُ عِنْدَ تَسَاوِي جِهَاتِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُ إلَى غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، يُوجِبُ لَهُ الْعُدُولَ إلَيْهِ عَنْ الْأَوَّلِ. فَمَتَى أَجَزْنَا لَهُ التَّقَلُّبَ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ نَظَرٍ وَلَا رُجْحَانٍ، كَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ. وَجِهَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ (أَنَّ) التَّنَقُّلَ فِي الرَّأْيِ وَالِاخْتِيَارِ مَعَ تَقَارُبِ الْحَالِ وَسُرْعَةِ الْمُدَّةِ، فِعْلٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يَدْعُو إلَيْهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلُزُومِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، أَحْسَنُ عِنْدَهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ، وَالسِّيَرِ، وَالسِّيَاسَاتِ، مِنْ التَّنَقُّلِ فِي الْآرَاءِ وَيُسَمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ذَا بَدَوَاتٍ، يَذُمُّونَهُ بِهِ، وَتَقِلُّ الثِّقَةُ بِرَأْيِهِ وَالِاسْتِنَامَةُ إلَى اخْتِيَارَاتِهِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، صَارَ حُصُولُ هَذَا الْمَعْنَى مُوجِبًا لِلْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ ضَرْبًا مِنْ الرُّجْحَانِ، وَوَجْهًا مِنْ الِاخْتِصَاصِ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ الرُّجْحَانِ فِيهِ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ لَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ إيَّاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الرُّجْحَانِ، أَوْجَبَ ذَلِكَ كَوْنَهُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْآخَرَ الْعُدُولُ إلَيْهِ. مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّ التَّنَقُّلَ فِي الرَّأْيِ وَالتَّقَلُّبَ فِي الِاخْتِيَارِ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ وَسُرْعَةِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَهُ، يُوجِبُ الظِّنَّةَ بِصَاحِبِهِ، وَالتُّهْمَةَ لَهُ فِي إيقَاعِ الْهَوَى، وَاخْتِيَارِ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، بِمَا تَسَلَّقَ بِهِ عَلَى إيثَارِهِ الْهُوَيْنَا فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَعَلَى فَسَادِ الْعَقِيدَةِ. وَالْإِنْسَانُ مَنْهِيٌّ عَنْ فِعْلِ مَا يَطْرُقُ عَلَى نَفْسِهِ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَرُبَّمَا تَسَلَّقَ أَيْضًا بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ، مِمَّنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ الْحُكَّامِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 وَالْفُقَهَاءِ، إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالْجَهْلِ بِهِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَيَجْعَلُهُ ذَرِيعَةً إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ، وَاسْتِيكَالِ النَّاسِ بِهِ، كَمَا قَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ يَفْعَلُونَهُ، ثُمَّ يُوهِمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُسَوِّغٌ لَهُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ اجْتِهَادَهُ قَدْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إلَى هَذِهِ الْمُسْتَنْكَرَةِ عَلِمْنَا فَسَادَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ فِي التَّخْيِيرِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ ظِنَّةٌ وَلَا تُهْمَةٌ بِاخْتِيَارِهِ بَعْضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ. وَسَائِرُ الْوُجُوهِ الْمَانِعَةِ ذَلِكَ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ مَعْدُومَةٌ فِيهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ النَّقْلُ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا نَظَرٍ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُخَيَّرَ فِي إيقَاعِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اخْتِيَارُ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ، إلَّا (بِجَاذِبٍ - يَجْذِبُهُ) إلَيْهِ، وَدَاعَ يَدْعُوهُ إلَيْهِ، وَبِمَعْنًى يَتَفَرَّدُ بِهِ مِمَّا سِوَاهُ، كَنَحْوِ مَنْ يَدْعُوهُ دَاعٍ مِنْ نَفْسِهِ إلَى اخْتِيَارِ الطَّعَامِ، لِأَنَّهُ يَرَاهُ أَسْهَلَ مَطْلَبًا (وَأَوْلَى) بِسَدِّ الْجَوْعَةِ. أَوْ اخْتِيَارِ الْعِتْقِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا، أَوْ الْكِسْوَةِ، لِأَنَّهَا تَنْفَعُ فِي وُجُوهٍ لَا يَسُدُّ فِيهَا مَسَدَّهَا غَيْرُهَا، مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالزِّينَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ أَشْيَاءَ مِمَّا يُسَاوِي جِهَاتِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ مُلَازَمَتُهُ وَالثُّبُوتُ عَلَيْهِ، إلَى أَنْ يَثْبُتَ مِنْ رُجْحَانِ الْآخَرِ عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ النَّقْلَ عَنْهُ. وَيَنْفَصِلُ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ تُنْقَلَ الْآرَاءُ وَتُبَدَّلُ الِاخْتِيَارُ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ فِي أَحْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ، غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ. وَالتَّنَقُّلُ فِي اخْتِيَارٍ مِنْهُ يُخْرِجُهُ الِاجْتِهَادُ، لَا يَتَقَارَبُ أَوْقَاتُهَا إذَا كَانَ عَنْ نَظَرٍ وَفَحْصٍ، وَإِذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 ظَهَرَ مِنْهُ التَّنَقُّلُ فِي وَقْتٍ قَرِيبِ الْمُدَّةِ أَوْجَبَ ذَلِكَ سُوءَ الظِّنَّةِ بِهِ، وَالتُّهْمَةَ بِإِيثَارِ الْهَوَى، وَالِانْتِقَالُ عَنْ مَذْهَبٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَ انْتِقَالَهُ، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ الِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ، مِنْ غَيْرِ حَادِثٍ مِنْ نَظَرٍ يَدْعُو إلَيْهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَرْجِعُ عَلَى سَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ سَأَلَ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَالْقَائِلِينَ بِمَا يُسَمِّيه دَلِيلًا، أَوْ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ، مِمَّنْ يَجْعَلُ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، فَمِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ، فَهَذَا السُّؤَالُ عَلَيْهِ (قَائِمٌ) فِي مَذْهَبِهِ، حَسَبَ مَا أَرَادَ إلْزَامَنَا إيَّاهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: خَبِّرْنَا عَنْ الْمُسْتَفْتِي إذَا اسْتَفْتَى رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا عَنْ مَسْأَلَةٍ نَازِلَةٍ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَإِنْ قَالَ: يَنْظُرُ فِي صِحَّةِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي وُجُوهِ دَلَائِلِهِ، فَيُمْضِيهِ وَيَحْكُمُ بِهِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ عَامِّيٌّ جَاهِلٌ، وَلَا يَصِيرُ كَذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْأُصُولِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ غُلَامٌ قَدْ بُلِيَ بِالْحَادِثَةِ فِي أَوَّلِ حَالِ بُلُوغِهِ، أَوْ امْرَأَةٌ (قَدْ) بُلِيَتْ بِحَادِثَةٍ فِي أَمْرِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ بِأَمْرِهَا بِمَا يَتَعَلَّمُ الْأُصُولَ وَالتَّفَقُّهَ فِيهَا، حَتَّى يَصِيرَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ، وَيُهْمِلَا أَمْرَ الْحَادِثَةِ، وَعَسَى أَنْ لَا يَبْلُغَا هَذَا الْحَالَ أَبَدًا. وَهَذَا قَوْلٌ سَاقِطٌ، مَرْذُولٌ، خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَفْتِي قَبُولَ قَوْلِ أَحَدِ الْمُفْتِيَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَهُ فِي اجْتِهَادِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالثِّقَةِ. فَيُقَالُ لِهَذَا السَّائِلِ: فَمَا تَصْنَعُ إذَا اخْتَلَفَا عَلَيْهِ فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِالْحَظْرِ وَالْآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 فَإِنْ قَالَ: هُوَ مُخَيَّرٌ (فِي أَنْ يَأْخُذَ) بِقَوْلِ أَيِّهِمَا شَاءَ. (قِيلَ لَهُ) : فَإِنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ، هَلْ يَسُوغُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى قَوْلِ الْآخَرِ وَنَسْخِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. أَجَازَ مَا أَنْكَرَهُ فِي سُؤَالِهِ إيَّانَا، وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ سُؤَالِهِ. فَإِنْ قَالَ: لَا. قُلْنَا: مِثْلُهُ فِيمَا سَأَلَ، وَسُقُوطُ سُؤَالِهِ أَيْضًا. وَمِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ فِي ذَلِكَ: الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِعَبْدِهِ، كَلِمَةً لَيْسَتْ عِنْدَهُ بِطَلَاقٍ، وَلَا عَتَاقٍ، وَعِنْدَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ أَنَّهَا طَلَاقٌ وَعَتَاقٌ. وَطَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، فَيُوجِبُ قَوْلُكُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ الِامْتِنَاعَ عَلَيْهِ، وَيُوجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إبَاحَةَ وَطْئِهَا، وَيُوجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الِامْتِنَاعَ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِ، وَيُجِيزُ لِلْمَوْلَى اسْتِرْقَاقُهُ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى التَّمَانُعِ وَالْفَسَادِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْعِبَارَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ عَلَى هَذَا، فَعَلَى الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ الِامْتِنَاعُ عَلَيْهِ، حَتَّى يَخْتَصِمَا إلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُمَا اتِّبَاعُ حُكْمِهِ، وَتَرْكُ رَأْيِهِمَا لِرَأْيِهِ (فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ) تَمَانُعٌ، وَلَا فَسَادٌ، وَلَا تَنَافِي فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا تَضَادَّ. ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ فِي رَجُلٍ لَهُ أَمَةٌ مُقِرَّةٌ بِالرِّقِّ، مَعْرُوفَةٌ أَنَّهَا لَهُ (إذَا) أَعْتَقَهَا بِحَضْرَتِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ، وَلَهُ ابْنٌ لَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهَا. أَلَيْسَ مِنْ قَوْلِك وَقَوْلِ النَّاسِ جَمِيعًا: إنَّهُ جَائِزٌ لِلِابْنِ اسْتِرْقَاقُهَا، وَوَطْؤُهَا، وَوَاجِبٌ عَلَيْهَا الِامْتِنَاعُ، فِيهِ فَهَلْ أَوْجَبَ ذَلِكَ تَضَادًّا فِي الْحُكْمِ؟ فَإِذْ كَانَ وُقُوعُ مِثْلِهِ جَائِزًا فِيمَا انْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ، فَمَا أَنْكَرْت مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ تَرْكَ رَأْيِهِ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ. فَهَلَّا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ فِي اجْتِهَادِهِ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ تَرْكُ الصَّوَابِ إلَى غَيْرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 قِيلَ لَهُ: لَمَّا انْعَقَدَ إجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِذَلِكَ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، وَصَارَ حُكْمُهُ حِينَئِذٍ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ دُونَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ الرُّجْحَانِ فِي خِلَافِ قَوْلِهِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ حُكْمُهُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ. وَمِنْ سُؤَالَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، لَمَّا جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَقُولَ: قَوْلِي أَصْوَبُ، وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِي، وَلَمَا كَانَ دُعَاؤُهُ لِلنَّاسِ إلَى قَوْلِهِ بِأَوْلَى مِنْ دُعَائِهِ إلَى قَوْلِ مُخَالِفِيهِ. فَلَمَّا وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إنَّمَا يَدْعُو إلَى قَوْلِ نَفْسِهِ دُونَ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ وَأَصْوَبُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُصِيبُ وَأَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، لَارْتَفَعَتْ الْمُنَاظَرَاتُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يُنَاظِرَ لِيَرُدَّهُ عَنْ صَوَابِهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَرُدَّ غَيْرَهُ عَنْ صَوَابٍ هُوَ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُصِيبًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اخْتِلَافَ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِكَثْرَةِ إصَابَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ. الْجَوَابُ: أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي جَوَازِ تَخْطِئَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمُخَالِفِيهِ وَتَصْوِيبُهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ تَخْطِئَةُ مُخَالِفِهِ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ تَخْطِئَةُ الْمُقِيمِ فِي مُخَالَفَةِ فَرْضِهِ لِفَرْضِهِ. وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلطَّاهِرِ تَخْطِئَةُ الْحَائِضِ، لِأَنَّ فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ فَرْضِ صَاحِبِهِ، كَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّ فَرْضَهُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ تَخْطِئَةُ صَاحِبِهِ فِي اعْتِقَادِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ: قَوْلِي أَوْلَى وَأَصْوَبُ، بَعْدَ أَنْ يَعْتَدَّ بِشَرِيطَةِ مَا عِنْدَهُ فَيَقُولُ: هُوَ عِنْدِي أَصْوَبُ وَأَوْلَى، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَهُ، فَيَقُولُ: هُوَ عِنْدِي أَصْوَبُ، لِأَنَّ فِي اجْتِهَادِي أَنَّ حُكْمَ هَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْأَصْوَبَ وَالْأَوْلَى لِمُخَالِفِي اتِّبَاعُ قَوْلِي، وَلَا الرُّجُوعُ إلَى اجْتِهَادِي، فَلَا يَقُولُ أَيْضًا: إنَّ الْأَصْوَبَ عِنْدَ مَنْ خَالَفَنِي خِلَافُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَأَمَّا دُعَاؤُهُ مُخَالِفِيهِ إلَى قَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى ذَلِكَ: إذَا كَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ قَدْ صَدَرَتْ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى النَّظَرِ وَالْمَقَايِيسِ، وَفِيهِ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَوَائِدِ - مَعَ كَوْنِ الْجَمِيعِ مُصِيبِينَ -. مِنْهَا: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِقْصَاءُ فِي النَّظَرِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْفَحْصِ. وَالثَّانِي: اجْتِهَادٌ دُونَ ذَلِكَ، قَدْ يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّظَرِ أَقْرَبُ إلَى إصَابَةِ الْأَشْبَهِ، وَأَوْلَى بِمُصَادَفَةِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَجْرَيْنِ - عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ - وَأَنَّ مَا دُونَهُ أَبْعَدُ مِنْ مُوَافَقَةِ النَّظِيرِ وَإِصَابَةِ الْمَطْلُوبِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ (إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ) وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ (الْأَجْرَ) الْوَاحِدَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا، جَازَ لِأَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ دُعَاءُ مُخَالِفِهِ إلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَرِ وَاسْتِقْصَاءِ وُجُوهِ الْمَقَايِيسِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ بِهَذَا الْمَحَلِّ، وَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ عِنْدَهُ، فَيَدْعُو إلَى ذَلِكَ، لِيَسْتَحِقَّ الْأَجْرَيْنِ، وَهَذَا وَجْهٌ سَائِغٌ (جَائِزٌ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، لِيَزُولَ عَنْهُ الظِّنَّةُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَإِيثَارِ الْهُوَيْنَا مِنْ غَيْرِ مُقَايَسَةٍ وَلَا نَظِيرٍ، وَأَنَّ مَا انْتَحَلَهُ وَجْهٌ يُسَوِّغُهُ الِاجْتِهَادُ، وَيَجُوزُ اعْتِقَادُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ تُسَاوِي الْعُلَمَاءِ فِي رُتْبَةِ الْعِلْمِ، وَأَنْ لَا يَفْضُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إذْ كُلُّهُمْ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إذَا كَانَ عَلَى مَرَاتِبَ: مِنْهُ: مَا يُصَادِفُ (بِهِ) حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ (وَمِنْهُ مَا يَقْصُرُ دُونَهُ، جَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ مُوَافَقَةً لِلْمَطْلُوبِ) كَانَ أَعْلَى رُتْبَةً فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِلْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ. وَأَيْضًا: فَلَيْسَ الْعِلْمُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى الِاجْتِهَادِ، حَتَّى إذَا تَسَاوَى الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُصِيبٌ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِتَسَاوِيهِمْ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ بِالْأُصُولِ أَنْفُسِهَا، وَمَوَاضِعِ النُّصُوصِ وَالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ أَعْرَفَ بِوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ، وَرَدِّ الْحَوَادِثِ إلَى النَّظَائِرِ وَالْأَشْبَاهِ، وَوُجُوهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعَانِي، وَبِحُكْمِ الْأَلْفَاظِ وَمُقْتَضَاهَا مِنْ الْمَعَانِي. فَإِذَا كَانَتْ مَنَازِلُ الْعُلَمَاءِ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا إسْقَاطُ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ بِتَصْوِيبِنَا الْمُجْتَهِدِينَ، إذَا كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا؟ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُ فِي الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ تَقُولُ: إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَوَاجِبٌ أَنْ تُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ، وَتَجْعَلَ لِلْمُجْتَهِدِ سَبِيلًا إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِمْ طَلَبَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 طَلَبَ مَا لَيْسَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ. قِيلَ لَهُ: (نَقُولُ) : إنَّ الْأَشْبَةَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ صَادَفَهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَمَنْ لَمْ يُصَادِفْهُ بِاجْتِهَادِهِ فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُكَلَّفًا لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي (تَحَرِّي) مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ عِنْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْأَشْبَهَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ. وَلَا يُطْلَقُ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمًا بِالْإِضَافَةِ وَالتَّقْيِيدِ عَلَى الشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَهَذَا كَمَا نَقُولُ لِلْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ، وَلِرَامِي الْكَافِرِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ: بِأَنَّ إصَابَةَ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ، وَإِصَابَةَ الْكَافِرِ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا نُقَيِّدُهُ فَنَقُولُ: هُوَ مُكَلَّفٌ لِلِاجْتِهَادِ وَالِارْتِئَاءِ فِي مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ، وَإِصَابَةِ الْكَافِرِ، فَإِنْ أَصَابَهُمَا كَانَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخْطَأَهُمَا كَانَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَا فَعَلَهُ، لَا غَيْرُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ مُصِيبِينَ لِمَا كُلِّفُوا، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَجْتَهِدَ مُجْتَهِدٌ فَيَعْتَقِدَ أَنَّكُمْ مُخْطِئُونَ فِي إجَازَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، فَيَكُونُ مُصِيبًا، وَأَنْ يَكُونَ الْخَوَارِجُ وَمَنْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَكُمْ مُصِيبًا، إذَا قَالَهُ عَنْ اجْتِهَادِ رَأْيِهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْحَوَادِثِ طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ، وَغَالِبُ الظَّنِّ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ، يَأْثَمُ مُخْطِئُوهُ وَالْعَادِلُ عَنْهُ (وَمِنْهَا: مَا لَا يَجُوزُ) الِاجْتِهَادُ فِيهِ، وَيُخْطِئُ الْقَائِلُ بِهِ، قَوْلُ مَنْ أَبِي جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَنْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَنَا مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ: قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا إبَاحَةُ الدَّمِ بِالِاجْتِهَادِ، وَيَجُوزُ حَظْرُهُ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فِيمَا لَمْ يُنْصَبْ لَنَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ. أَلَا تَرَى: أَنَّا نُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَنُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي حَظْرِهِ، فَيَكُونُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا مُصِيبِينَ. وَإِنَّمَا (لَا) يُسَوَّغُ ذَلِكَ فِيمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيهِ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَيَذْهَبُ ذَاهِبٌ عَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُخْطِئًا، ثُمَّ يَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِيهِ فِي بَابِ الْمَأْثَمِ، وَعِظَمِ الْخَطَأِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه الْوَاقِعُ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ وَافَقَكُمْ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَصْلِ، وَخَالَفَكُمْ فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَزَعَمَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ؟ هَلْ تَجْعَلُونَ مَذْهَبَهُ هَذَا (مِنْ) بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَتُصَوِّبُونَهُ فِيهِ؟ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالْخَطَأِ فِي تَصْوِيبِكُمْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَوْلُهُ صَوَابٌ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَقْتَضِي مِنْكُمْ الْقَوْلَ بِخَطَأِ قَوْلِكُمْ، مِنْ حَيْثُ صَوَّبْتُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ بِتَخْطِئَتِكُمْ. وَإِنْ لَمْ تُسَوِّغُوا لَهُمْ الْقَوْلَ: بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، لَزِمَكُمْ (الْحُكْمُ بِتَأْثِيمِهِمْ) عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمْتُمُوهُ مِنْ نَفْيِ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ رَأْسًا. قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا، وَبَيْنَ مَنْ نَفَى تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيمَا وَصَفْنَا، وَلَا يُسَوَّغُ عِنْدَنَا الِاجْتِهَادُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، كَمَا لَا يُسَوَّغُ فِي نَفْيِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ. وَالْحُكْمُ بِتَأْثِيمِ الْجَمِيعِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الَّتِي دَلَّتْ مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ: هِيَ بِعَيْنِهَا دَالَّةٌ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَالْحُكْمُ بِتَخْطِئَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَتَأْثِيمِهِمَا وَاجِبٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 سُؤَالٌ: إنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ يَخْلُو الْقَائِلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، مِنْ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا، أَوْ لَيْسَ بِطَلَاقٍ؟ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ طَلَاقًا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقَعَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ سَاقِطًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ طَلَاقًا فَكَيْفَ يَصِيرُ طَلَاقًا بِالِاجْتِهَادِ؟ . الْجَوَابُ: إنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَيْسَ طَلَاقًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ طَلَاقًا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْقَوْلِ؟ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ بِحُكْمٍ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيهِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. فَمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ طَلَاقٌ حَكَمَ بِأَنَّهُ طَلَاقٌ، وَمَنْ غَلَبَ فِي رَأْيِهِ غَيْرُ ذَلِكَ كَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا، لَمْ يَجُزْ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ: بِأَنَّهُ طَلَاقٌ إلَّا عَلَى التَّقْيِيدِ وَالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُمْ الْقَوْلَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الطَّلَاقِ بِلَفْظٍ لَيْسَ بِطَلَاقٍ؟ قِيلَ لَهُ: جَائِزٌ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِإِلْزَامِ الطَّلَاقِ بِمَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ تَعَالَى، بِأَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ طَلُقَتْ مِنْهُ، أَوْ بِأَنَّ مَنْ كَذَبَ كَذْبَةً طَلُقَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ. وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَنَا بِأَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ طَلَاقٌ، فَلَيْسَ اللِّعَانُ طَلَاقًا فِي نَفْسِهِ، وَفُرْقَةُ الْمَجْبُوبِ طَلَاقٌ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَفْظٌ مِنْ الزَّوْجِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ. فَإِنْ قَالَ: حُكْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَكُمْ أَمُبَاحَةٌ هِيَ أَمْ مَحْظُورَةٌ؟ قِيلَ: إنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قَدَّمْنَا، (فَلَا نُطْلِقُ الْقَوْلَ: بِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ أَوْ مَحْظُورَةٌ، إلَّا عَلَى الشَّرِيطَةِ الَّتِي قَدَّمْنَا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 فَإِنْ قَالَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الظُّنُونِ، وَمَنْ أَنْكَرَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِشَيْءٍ إلَّا عَلَى حَسَبِ تَعَلُّقِهِ بِاعْتِقَادَاتِ الْمُعْتَقِدِينَ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقٌّ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ وَمُعْتَقِدِهِ، وَلَا حَقِيقَةَ لِشَيْءٍ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الظُّنُونَ قَدْ يَجُوزُ تَعَلُّقُهَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَجَائِزٌ أَنْ يَلْزَمَ كُلُّ ظَانٍّ مِنْهُمْ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ، إذْ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ، وَلِرَمْيِ الْكَافِرِ، وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، وَنَحْوِهَا. وَنَحْوُ رَجُلَيْنِ الْتَقَيَا لَيْلًا فَغَلَبَ فِي ظَنِّ كُلِّ (وَاحِدٍ) مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ قَاصِدٌ لِقَتْلِهِ، قَدْ أُبِيحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَمَلُ عَلَى (مَا غَلَبَ) فِي ظَنِّهِ، وَقَتْلُ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ، وَجَمِيعًا مُطِيعَانِ فِيمَا يَأْتِيَانِهِ، مُصِيبَانِ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا. إذْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ. وَحَقِيقَةُ الْعِلْمِ قَدْ تَعَبَّدَ اللَّهَ تَعَالَى الْحُكَّامُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ عِنْدَ التُّهَمِ، وَإِلْغَاءِ شَهَادَةِ مَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِمْ فِسْقُهُ، فَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَحْكَامًا مُتَعَلِّقَةً بِالظُّنُونِ، قَدْ وَرَدَ (بِهِ نَصُّ) الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. وَاخْتِلَافُ الظُّنُونِ فِيهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي حَقَائِقِهَا. وَأَمَّا الْعُلُومُ فَلَيْسَتْ هَذِهِ سَبِيلَهَا، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ عِلْمَانِ مُتَضَادَّانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا وَاحِدًا، هَذَا مَوْجُودًا وَهَذَا مَعْدُومًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَظُنَّهُ هَذَا مَوْجُودًا، وَيَظُنَّهُ آخَرُ مَعْدُومًا، فَيَصِحُّ وُقُوعُ الظَّنِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 وَلَا يَصِحُّ بِهِ عِلْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي إنْزَالِهِ عَلَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، كَمَا يَصِحُّ ظَنَّانِ مُوجِبَانِ لَهُ حُكْمَ مُخْتَلِفَيْنِ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ (الْوَاحِدِ) حَقِيقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَعِلْمَانِ بِعِلْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. ثُمَّ يُقْلَبُ هَذَا السُّؤَالُ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: خَبِّرْنَا عَنْ الظُّهْرِ أَهِيَ أَرْبَعٌ؟ وَعَنْ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ؟ وَعَنْ النِّسَاءِ هَلْ عَلَيْهِنَّ صَلَاةٌ؟ . فَإِنْ قَالَ: لَا. خَرَجَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. أَخْطَأَ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْجَمِيعِ. فَإِنْ قَالَ: (لَا) يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ بِالْإِضَافَةِ وَالتَّقْيِيدِ، فَيُقَالُ: إنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ عَلَى الْمُقِيمِ، وَرَكْعَتَانِ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، مَحْظُورٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، وَالطَّاهِرُ مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ فَرْضُهَا. وَإِذَا كَانَتْ (هَذِهِ) الْفُرُوضُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا خَالَفَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ بَيْنَ (أَنَّ) أَحْكَامَ الْمُكَلَّفِينَ لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، إلَّا بِتَقْيِيدٍ وَإِضَافَةٍ وَشَرْطٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا. وَلَمْ يَلْزَمْك عَلَى هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الظُّنُونِ وَالْجَاحِدِينَ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مُعْتَقِدِيهَا. فَمَا أَنْكَرْت مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا. فَإِنْ قَالَ: فَهَلْ تَخْلُو هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا، أَوْ حَلَالًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قِيلَ لَهُ: الَّذِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا عَلِمْنَاهُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِينَ، وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ هُوَ حُكْمُهُ عَلَيْنَا بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 فَإِنْ قَالَ: فَإِذَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْحَظْرَ، وَبَعْضُهُمْ الْإِبَاحَةَ، فَقَدْ صَارَ مَحْظُورًا مُبَاحًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَلَا بِأَنَّهُ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ تَعَلَّقَا بِهِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَلَكِنْ يُقَالُ بِتَقْيِيدٍ وَشَرْطٍ: إنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَى هَذَا، وَمُبَاحٌ لِهَذَا، عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَمَا نَقُولُ: فَرْضُ الظُّهْرِ عَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعٌ، وَعَلَى الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ. فَإِنْ قَالَ: إنْ قَالَ الْأَوَّلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَكَانَ مُجْتَهِدًا نَاظِرًا، أَوْ مُسْتَفْتِيًا مُسْتَرْشِدًا، فَاسْتَقَرَّ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ، فَاخْتَارَ الْمُسْتَفْتِي قَبُولَ فُتْيَا مَنْ رَآهُ طَلَاقًا، مَتَى تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً، حِينَ قَالَ الْقَوْلَ، أَوْ حِينَ اسْتَقَرَّ (عِنْدَهُ) حُكْمُ الطَّلَاقِ؟ قِيلَ: إنَّمَا نَحْكُمُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا وَقْتَ فُصِّلَ مِنْ قَائِلِهِ، فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ، مِنْ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ مِنْ يَوْمَئِذٍ، وَمِنْ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ، وَقَطْعِ التَّوَارُثِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَلْزَمَهُ فِي الْمَاضِي مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ يَوْمَ الْقَوْلِ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ أَمْرَهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمِهِ، فَيَكُونُ لَازِمًا لَهُ يَوْمَ الْقَوْلِ. وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ يَوْمئِذٍ بِهَذَا الْقَوْلِ شَيْءٌ، بَلْ نَقُولُ: " إنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْقَوْلِ عَلَى (الشَّرْطِ) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْأُصُولِ. مِنْهَا: الرَّجُلُ يَجْرَحُ الرَّجُلَ فَيَكُونُ حُكْمُ جِرَاحِهِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَئُولُ إلَيْهِ، فَإِنْ آلَتْ إلَى النَّفْسِ حَصَلَ لَهُ (الْقَتْلُ الْآنَ بِالْجِرَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْجَارِحَ لَوْ مَاتَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ كَانَ) حُكْمُ الْقَتْلِ ثَابِتًا عَلَى الْجَارِحِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا يَوْمَ صَارَتْ الْجِرَاحَةُ نَفْسًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: خَبِّرْنِي عَنْ الْمُجْتَهِدِ إذَا اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى شَيْءٍ، أَيَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ؟ أَوْ لَا يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ بِمَعْنًى يُحَدِّدُهُ؟ قِيلَ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُلْزِمَهُ هُوَ نَفْسَهُ. وَالْآخَرُ: أَنْ لَا يَلْزَمَهُ حَتَّى يُلْزِمَهُ هُوَ نَفْسَهُ. فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ (ذَلِكَ) فِي ظَنِّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ: أُنَفِّذُ هَذَا الْحُكْمَ، وَالْتَزَمَهُ، فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ لُزُومِهِ إلَى أَنْ يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ. وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ فِي الْحَالِ مَا يَلْزَمُهُ الِانْصِرَافُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ يُلْزِمُهُ حَاكِمٌ خِلَافَ رَأْيِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَتَرْكُ رَأْيِهِ لَهُ، وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ يَخْتَارُ إلْزَامَهُ نَفْسَهُ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 [بَابُ الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ فِي الِاجْتِهَاد] بَابُ: الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ قَالَ أَبُو (بَكْرٍ) :، اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِثْبَاتِ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ (أَقَاوِيلِ) الْمُخْتَلِفِينَ، فِيمَا سَبِيلُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا. (فَقَالَ) قَائِلُونَ: لَيْسَ لِلْأَشْبَهِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْأَشْبَهُ (مَا يَغْلِبُ) فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ، (وَكُلِّفَ إمْضَاءَ) الْحُكْمِ بِهِ. وَأَمَّا (الْأُصُولُ) فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا أَشْبَهَ بِالْحَادِثَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ رَدُّهَا إلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بُدَّ (مِنْ) أَنْ يَكُونَ لِلْأَشْبَهِ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأُصُولِ، يَتَحَرَّاهَا الْمُجْتَهِدُ، هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ، مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي الرَّدَّ إلَيْهِ. وَقَالُوا بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ (دَائِمًا) ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي بَعْضِهَا لِتَصْحِيحِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ: أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْوَاسِطِيِّ، وَيُسَمِّيه تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ، يَعْنِي أَنَّهُ يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا عَلِمْنَا فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِبَعْضِ الْحَوَادِثِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا، فَنَحْنُ نُجَوِّزُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِهَا، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ الِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الِاجْتِهَادِ، وَحَكَيْنَا أَيْضًا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ: أَنَّ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ مَطْلُوبَةٌ، يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لِإِصَابَتِهَا، وَأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْأَشْبَهُ الْمَطْلُوبُ. لَا يُحْفَظُ عِنْدَهُمْ الْقَوْلُ بِتَجْوِيزِ أَنْ لَا يَكُونَ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا فِي أَنَّ لَهَا مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِمَا يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدُ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ كَشَفَ لِلْمُجْتَهِدِ عَنْ الْأَشْبَهِ بِالنَّصِّ (وَالتَّوْقِيفِ) لَكَانَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ. وَإِنْ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ: (مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى) فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَتَخْصِيصِهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْفَهْمِ، (مَعَ إخْبَارِهِ) بِإِيتَائِهِمَا الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (قَدْ) أَصَابَ شَيْئًا لَمْ يُصِبْهُ (دَاوُد) - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَثَبَتَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ سُلَيْمَانُ كَانَ الْأَشْبَهَ الْمَطْلُوبَ (الَّذِي تَحَرَّيَاهُ) جَمِيعًا بِاجْتِهَادِهِمَا، فَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي فَهْمِ الْحَادِثَةِ، (وَإِصَابَةِ) الْأَشْبَهِ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ لَهُ حَقِيقَةً يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدَانِ فَرُبَّمَا أَصَابَهُ أَحَدُهُمَا، وَأَخْطَأَهُ الْآخَرُ، لَمَا صَحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ، إذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَطَأَ الْحُكْمِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ خَطَأُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ، (أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودَ الشَّبَهِ) . وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَشْبَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْحَادِثَةِ وَبَيْنَ الْأُصُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ أَشْبَهُ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودَ الشَّبَهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَسَقَطَ الِاجْتِهَادُ، وَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 يَكُونُ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ تَابِعًا لِوُجُودِ الشَّبَهِ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَرُدَّ الْحَادِثَةَ إلَى (مَا شَاءَ) مِنْ الْأُصُولِ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، إذْ لَيْسَتْ تَخْلُو الْحَادِثَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا شَبَهٌ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إنَّمَا يَطْلُبُ أَشْبَهَ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ. فَلَوْ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ لَاسْتَحَالَ طَلَبُ الْأَشْبَهِ، مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ تَحَرِّيَ الْكَعْبَةِ. وَلَيْسَ هُنَاكَ كَعْبَةٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ رَمْيَ الْكَافِرِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَرْمًى مَقْصُودًا بِالرَّمْيِ. وَكَذَلِكَ مَتَى اسْتَعْمَلْنَا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَطْلُوبٍ هِيَ الْعَدَالَةُ، وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمْنَا لَيْسَ هُنَاكَ عَدَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَكْلِيفُ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا، كَذَلِكَ لَوْ عَلِمْنَا فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ (لَاسْتَحَالَ تَكْلِيفٌ) فِي طَلَبِهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَشْبَهُ الْأُصُولِ (بِالْحَادِثَةِ عِنْدَهُ) فَظَنَّهُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَظْنُونٍ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ (الْمُجْتَهِدَ لَيْسَ يَتَكَلَّفُ) الِاجْتِهَادَ لِيُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادَهُ إلَى أَنَّهُ ظَانٌّ، لِأَنَّهُ قَدْ (حَصَلَ لَهُ الظَّنُّ) مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ مُتَعَلِّقًا بِمَظْنُونٍ، هُوَ (الْحَقِيقَةُ) الْمَطْلُوبَةُ بِالِاجْتِهَادِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: فِي غَالِبِ ظَنِّي (أَنِّي مُصِيبٍ) لِلظَّنِّ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 غَالِبِ ظَنِّي أَنِّي مُصِيبٌ لِلْحَقِيقَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْءِ (عِنْدَهُ) حَقِيقَةٌ مَطْلُوبَةٌ، فَالِاجْتِهَادُ سَاقِطٌ فِي طَلَبِ مَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الدَّلِيلُ عَلَى الْأَشْبَهِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْقَائِسِينَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ (عِلَّةِ) التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَعْلُومَةِ: مِنْ اعْتِبَارِ الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ، أَوْ الْأَكْلِ، أَوْ الِاقْتِيَاتِ، مَعَ الْجِنْسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدَ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَيْسَ بِأَشْبَهَ بِمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ هِيَ فِي الشَّبَهِ بِالْحَادِثَةِ مُتَسَاوِيَةٌ، لَا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، صَحَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ وُجُودُ مَا يَحْصُلُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ أَشْبَهَ. الْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْأَشْبَهَ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ (كَذَلِكَ) ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا دَائِمًا يُعْتَبَرُ الْأَشْبَهُ مِنْ طَرِيقِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ، وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَشْبَهُ عِنْدَهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا. مِنْ الْأَكْلِ وَالِاقْتِيَاتِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُقَدَّمْ مَا ذَكَرُوهُ فِيمَا وَصَفْنَا، وَسَلِمَ لَنَا الْأَصْلُ الَّذِي قَدَّمْنَا. فَإِنْ قَالَ: إنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي دَلِيلِ الْعِلَّةِ، لَا فِي الْعِلَّةِ نَفْسِهَا، وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْعِلَّةِ لَا عَلَى دَلِيلِهَا. قِيلَ لَهُ: وَهَذَا غَلَطٌ ثَانٍ، لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ إنَّمَا صَارَا عِلَّةً لِأَنَّهُمَا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا، فَإِذَا كَانَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِمَا كَانَا أَشْبَهَ بِالْحَادِثَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالِاقْتِيَاتِ مِنْ بَابِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 فَتَبَيَّنَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْأَشْبَهَ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى الْأَصْلِ الْمَقِيسِ (عَلَيْهِ لَا إلَى) ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِ، هَذَا السُّؤَالَ فِيمَا (يَعْتَبِرُهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ) الْأَشْبَهِ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ. فَيُقَالُ لَهُ: خَبِّرْنَا عَنْ الْكَيْلِ أَوْ الْأَكْلِ أَوْ الِاقْتِيَاتِ، أَيَقُولُ: إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَشْبَهُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرِ (مِنْ بَعْضِهِ) ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ (شَبَهَ الْأَرُزِّ بِالْبُرِّ) فِي كَوْنِهِمَا مَكِيلَيْنِ لِشَبَهِهِ بِهِ فِي كَوْنِهِمَا مَأْكُولَيْنِ وَمُقْتَاتَيْنِ (وَمُدَّخَرَيْنِ) فَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطٌ. فَإِذًا (لَا) اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِحُصُولِ (الْأَشْبَهِ) (غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ) ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْأَشْبَهِ، وَيُعْتَبَرَ وُجُودُ (الشَّبَهِ) فَحَسْبُ. فَيُؤَدِّيك هَذَا إلَى إسْقَاطِ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا، رَدُّ الْحَادِثَةِ إلَى أَيِّ الْأُصُولِ شَاءَ الْقَائِسُ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَهَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ قَدْ جَازَ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ، وَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ عَدَالَةٌ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (حُكْمُ) الْحَوَادِثِ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ لَمْ نَظُنَّ أَنَّ هُنَاكَ عَدَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَكَلُّفَنَا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلِّفَنَا (طَلَبَ) عَدَالَةِ الْفَاسِقِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ بِفِسْقِهِ، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّنَا ظَنَنَّا أَنَّ هُنَاكَ عَدَالَةً فَاجْتَهَدْنَا فِي طَلَبِهَا. فَهَلْ تَقُولُ أَنْتَ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ: إنِّي أَظُنُّ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا فِي الْحَقِيقَةِ؟ . فَإِنْ قُلْت هَذَا: فَقَدْ تَرَكْت قَوْلَك: فِي أَنَّ الْأَشْبَهَ إنَّمَا يَتْبَعُ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ، لَا الْأَصْلَ الْمَطْلُوبَ فِي رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَيْهِ، وَإِنْ أَقَمْت عَلَى قَوْلِك: إنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ لَك الِاسْتِشْهَادُ بِمَسْأَلَةِ الْمُتَحَرِّي فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ، بَلْ كَانَتْ شَاهِدَةً عَلَيْك، مِنْ حَيْثُ لَوْ عَلِمْنَا أَنْ لَا عَدَالَةَ لَمَا صَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 [فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْأَحْكَامِ] فَصْلٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْأَحْكَامِ، هَلْ يُسَمَّى دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: (لَا يُقَالُ: إنَّهُ دِينٌ) لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ لَنَا أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَيْضًا: أَنْ يَقُولَ: إنَّ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى يَحِلُّ تَرْكُهُ وَالْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَوْ جَازَ تَرْكُ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى لَجَازَتْ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ فِيهِ إحْلَالُ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِغَيْرِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ دِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى (وَمَنْ أَبَى إطْلَاقَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الِاسْمِ لَا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ أَصْحَابَ الِاجْتِهَادِ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى) قَدْ فَرَضَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى مَنْ أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَأَنَّ الْعَامِلَ بِهِ عَامِلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَلْزَمُونَا مِنْ إيجَابِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْفُرُوضِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ لَمْ يُلْزِمْهُمْ (ذَلِكَ) . كَذَلِكَ إذَا قُلْنَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ: لَمْ يَلْزَمْنَا، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَمَا عَدَاهُ خَطَأً، فَلَا يُطْلَقُ: أَنَّهُ دِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ خَطَأً، لَيْسَ هُوَ الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ. فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى أَنَّهُ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَلَا وَجْهَ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ: بِأَنَّ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 [بَابُ الْكَلَامِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ] ِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: زَعَمَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ: أَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي الْعَدْلِ وَالْجَبْرِ، وَفِي التَّوْحِيدِ وَالتَّشْبِيهِ، وَالْإِرْجَاءِ وَالْوَعِيدِ، وَفِي الْأَسْمَاءِ، وَالْأَحْكَامِ، وَسَائِرِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. كُلُّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ. إذْ كُلُّ قَائِلٍ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا اعْتَقَدَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَجَمِيعُهُمْ مُصِيبُونَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلِّفَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ رَأْيُهُ، وَلَمْ يُكَلَّفْ فِيهِ عِلْمَ الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى حَسَبِ مَا قُلْنَا فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا مَذْهَبٌ فَاسِدٌ ظَاهِرُ الِانْحِلَالِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَنَّ التَّكْلِيفَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ، (وَكُلُّ مَا) أَجَزْنَا فِيهِ الِاجْتِهَادَ، وَصَوَّبْنَا فِيهِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، فَإِنَّمَا أَجَزْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَأَمَّا الْعَدْلُ وَالْجَبْرُ، وَالتَّوْحِيدُ وَالتَّشْبِيهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ فِيهِ بِجَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ. وَاَلَّذِي كُلِّفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ اعْتِقَادَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَحِيلُ وُرُودُ النَّصِّ بِتَكْلِيفِ بَعْضِ النَّاسِ الْقَوْلَ بِالْعَدْلِ، وَآخَرِينَ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ، وَبِتَكْلِيفِ بَعْضِهِمْ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ، وَآخَرَ الْقَوْلَ بِالتَّشْبِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ، لِتَنَاقُضِ الْقَوْلِ بِهِ، وَاسْتِحَالَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلَّفُوا الْقَوْلَ بِالْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ، مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَعَلَيْهِ الرَّأْيُ، وَجَازَ تَكْلِيفُهُمْ الْقَوْلَ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، لِجَوَازِ وُرُودِ النَّصِّ (بِهِ) ، عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا، مُتَّفِقُونَ قَبْلَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ عَلَى إيجَابِ التَّأْثِيمِ وَالتَّضْلِيلِ بِالْخِلَافِ فِيهَا، فَمَنْ صَوَّبَ الْجَمِيعَ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فَهُوَ خَارِجٌ عَمَّا انْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّا قَدْ عَلِمْنَا حَقِيقَةَ صِحَّةِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ مَعْقُولَةٍ كَدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، إثْبَاتُ الصَّانِعِ الْقَدِيمِ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ لَا يَجُورُ، وَتَثْبِيتُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَنَحْوِهَا. فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَقَامَ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَدِلَّةً تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَدْلُولَاتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ عَنْ الدَّلِيلِ مُصِيبًا، إذْ قَدْ جُعِلَ لَهُ السَّبِيلُ إلَى إصَابَةِ الْحَقِيقَةِ مِنْ جِهَةِ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ. وَأَيْضًا: فَلَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مُتَعَلِّقًا بِالِاعْتِقَادِ. فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ مِنْ الْجَبْرِيِّ وَالْمُشَبِّهِ اعْتِقَادَ مَا اعْتَقَدَهُ، لَكَانَ مُبِيحًا لِلْجَهْلِ بِهِ وَبِصِفَاتِهِ. وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ مِنْهُ إبَاحَةُ الْجَهْلِ بِهِ، وَبِكَوْنِهِ صَانِعًا قَدِيمًا، وَلَوْ جَازَ مِنْهُ إبَاحَةُ الْجَهْلِ لِلْمُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ لَجَازَ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْجَهْلِ (بِهِ) ، فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَقَّ (فِي) وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، وَهُوَ مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَ فِيهِ. وَعَدَلَ عَنْهُ، فَهُوَ ضَالٌّ غَيْرُ مُهْتَدٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 وَأَيْضًا: فَلَا يَخْلُو الْقَائِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يُجَوِّزَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَكْلِيفَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلَيْنِ، حَتَّى يَكُونَ مُكَلِّفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صِحَّةَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَنَظَرُهُ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقَالَتَيْنِ، وَتَضَادِّ الْمَذْهَبَيْنِ، أَوْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الظَّنَّ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ. فَإِنْ كَانَ تَكْلِيفُهُ إيَّاهُمَا مُتَعَلِّقًا بِحَقِيقَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَاحِدَةٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا عِلْمَانِ مُتَضَادَّانِ، فَتَكُونُ مَعْلُومَةً مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْعِلْمَيْنِ. كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ. فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا اسْتِحَالَةَ تَكْلِيفِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، (وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ كَلَّفَهُمَا الظَّنَّ فَحَسْبُ، دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الظَّنِّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ) . وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ وَاحِدَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لِلنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَكَانَ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النَّظَرِ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَى مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مُقَارِنًا لِلنَّظَرِ وَطَلَبِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الظَّنُّ مُبَاحًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِسَبَبِ مَا يَسْتَفْرِغُ مُدَّةَ النَّظَرِ، فَيُؤَدِّيه إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ. وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا: تَكْلِيفُ الظَّنِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، مِنْ جِهَةِ وُرُودِ النَّصِّ بِمِثْلِهِ وَمِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ، وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ ظُهُورِ دَلِيلِ الْحَقِيقَةِ مِنْهَا، وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى تَأْثِيمِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَهُوَ مُتَفَارِقٌ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْقِيَاسِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ مِمَّا طَرِيقُهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، بَلْ حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إمْضَاءُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَسَائِرُ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْجَبْرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالتَّشْبِيهِ قَدْ حَصَلَتْ عَلَى حَقِيقَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ حَقَائِقِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وَمِنْهَا: أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ إنَّمَا يَصِحُّ تَكْلِيفُهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ، كَاخْتِلَافِ فَرْضِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَالْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ. وَلَمَّا امْتَنَعَ وُرُودُ النَّصِّ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ لَمْ يَصِحَّ تَكْلِيفُ اعْتِقَادِهَا عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ إنَّمَا كُلِّفَ مَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى رَأْيِهِ، دُونَ إصَابَةِ الْحَقِيقَةِ، إذْ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الظَّنِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَيَصِحُّ تَكْلِيفُهُمْ ذَلِكَ، دُونَ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَتِهِ. كَمَا كُلِّفَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ الِاعْتِقَادَ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ مِنْ جِهَتِهَا، مَعَ اخْتِلَافِ الْجِهَاتِ وَتَضَادِّهَا، فَكُلِّفَ وَاحِدٌ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهَا فِي جِهَةِ الشِّمَالِ، إذَا غَلَبَ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ، وَكُلِّفَ الْآخَرُ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهَا فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ، عِنْدَ غَلَبَةِ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ، مَعَ تَضَادِّ الْجِهَتَيْنِ، وَاسْتِحَالَةِ وُرُودِ النَّصِّ بِهِمَا، وَالْكَعْبَةُ لَهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَجِهَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يُغَيِّرُهَا عَنْ جِهَتِهَا الَّتِي هِيَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ. وَكَذَلِكَ فَرَضَ عَلَى وَاحِدٍ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ عَدَالَةُ الشُّهُودِ: اعْتِقَادَ عَدَالَتِهِمْ وَإِمْضَاءَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَفَرَضَ عَلَى آخَرَ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ (فِسْقُهُمْ) : اعْتِقَادَ فِسْقِهِمْ، وَإِلْغَاءَ شَهَادَتِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عُدُولًا أَوْ فُسَّاقًا، قَدْ حَصَلَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إحْدَى جِهَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ النَّفَقَاتُ، وَتَقْوِيمُ الْمُسْتَهْلَكَاتِ، وَمَقَادِيرُ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتُ، قَدْ تَخْتَلِفُ آرَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقَائِقَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، قَدْ حَصَلَتْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، إمَّا مُوَافِقَةً لِظَنِّ بَعْضِهِمْ، أَوْ مُخَالِفَةً لِظَنِّ جَمِيعِهِمْ، إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ مَا قَالُوا، وَمَعَ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ بِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي حَصَلَ اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا، فَقَدْ صَحَّ تَكْلِيفُهُمْ الظُّنُونَ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَضَادِّهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ، وَنَحْوِهَا، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَبِّدِينَ بِاعْتِقَادِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَةِ الْمَظْنُونِ، إذْ لَمْ يُكَلَّفُوا الْمَغِيبَ. وَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ إذَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ الشَّيْءَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ كَذَا، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدِي، وَفِي ظَنِّي، فَيَكُونُ صَادِقًا. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يَجُوزُ إنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ، أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ آخَرُ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ جِهَةٌ أُخْرَى: إنَّ هَذِهِ جِهَتُهَا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا عِنْدَهُ لَا إلَى الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَتِهَا. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -: أَنَّهُ أَمَاتَهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ {قَالَ كَمْ لَبِثْت قَالَ لَبِثْت يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259] وَكَانَ صَادِقًا، لِأَنَّ إطْلَاقَهُ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا كَانَ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ. وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] وَكَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ، إذْ كَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ ظُنُونِهِمْ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ، «وَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» وَمَعْنَاهُ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي، فَإِذًا قَدْ جَازَ إطْلَاقُ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ الْمَمْدُوحِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُتَعَلِّقًا بِغَالِبِ ظُنُونِهِمْ، دُونَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ، وَدُونَ حَقِيقَةِ مَظْنُونِهِمْ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ شَيْءٌ وَاسْتَقَرَّ غَلَبَةُ رَأْيِهِ مُتَعَبِّدٌ بِاعْتِقَادِ مَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ، وَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَنَّهُ كَذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ، وَكَانَ إطْلَاقُهُ (سَائِغًا حَائِزًا) بِمَا عِنْدَهُ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ. الْجَوَابُ: أَنَّ مَا قَدَّمْنَا كَافٍ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهُ فِي إسْقَاطِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَفِي إجَازَةِ مَا شَاءَ مِنْهُ هَذَا السَّائِلُ إجَازَةُ إبَاحَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وَلَوْ جَازَ أَنْ يُبِيحَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَيَشْتُمَهُ، وَيَشْتُمَ أَنْبِيَاءَهُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَهَذَا قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلَ بِهَذَا الْقَوْلِ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ أَجَازَ مِثْلَهُ فِي جَمِيعِ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مُعْتَقِدٍ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ مَأْمُورًا بِاعْتِقَادِ مَا اعْتَقَدَهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِمَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ فِيهِ، دُونَ مَا خَالَفَ فِيهِ الْخَارِجُونَ عَنْ الْمِلَّةِ، مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ. فَلَمَّا كَانَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ مُؤَدِّيًا إلَى انْسِلَاخٍ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْمِلَّةِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْأُمَّةِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَ ظُهُورُ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، (وَتَثْبِيتُ الرُّسُلِ) مَانِعًا مِنْ تَصْوِيبِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ - عَلَى اخْتِلَافِهِمْ - وَجَبَ مِثْلُهُ فِي اخْتِلَافِ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَأَفْعَالُهُ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَحَرِّي الْكَعْبَةِ، وَتَعْدِيلِ الشُّهُودِ وَالنَّفَقَاتِ، وَإِثْبَاتِ مَقَادِيرِ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ لِغَالِبِ الظَّنِّ، وَتَكْلِيفِ كُلِّ أَحَدٍ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مَعَ كَوْنِ الْحَقِيقَةِ فِيهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدَةً، وَامْتِنَاعُ وُرُودِ النَّصِّ بِهَا عَلَى حَسَبِ وُجُودٍ لَا اخْتِلَافٍ، فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ (أَنَّهُ) لَيْسَ الْفَرْضُ عَلَى الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ هُوَ ظَنُّهُ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ (الْفَرْضُ عَلَى الْمُتَحَرِّي) الْحَاكِمِ لَيْسَ الْفَرْضَ الَّذِي كُلِّفَ وُجُودَ الظَّنِّ مِنْهُ بِأَنَّ هَذَا عَدْلٌ، أَوْ فَاسِقٌ وَكَذَلِكَ النَّفَقَاتُ وَنَحْوُهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأُمُورٍ أُخَرَ قَدْ أُمِرُوا بِإِمْضَائِهَا عِنْدَ وُجُودِ غَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْهُمْ عَلَى وَصْفٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّنُّ نَفْسُهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ. فَأَمَّا مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ هَذِهِ جِهَةٌ لِلْكَعْبَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَيْهَا، وَمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ عَدَالَةُ الشُّهُودِ، أَمْضَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ قِيمَةَ الثَّوْبِ الْمُسْتَهْلَكِ كَذَا، أَنْ يَلْزَمَهَا مُسْتَهْلِكَةَ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْلَا الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِطَلَبِهَا وَلَا التَّحَرِّي لِجِهَتِهَا. وَمَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِخْبَارِ بِالِاجْتِهَادِ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ (فَالتَّحَرِّي) عَنْهُ سَاقِطٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلْزَامُ حُكْمٍ لِغَيْرِهِ فِي ضَمَانِ مَا احْتَاجَ إلَى التَّقْوِيمِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ. فَعَلِمْت أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُتَعَلِّقٌ بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ، لَا الِاعْتِقَادِ لِلظَّنِّ، وَكُلُّ مَا كُلِّفَ مِنْ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِإِمْضَائِهِ وَغَلَبَ فِي ظَنِّهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ النَّاسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَبَعْضَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَى غَيْرِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا، كَالْخَائِفِ وَنَحْوِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يُكَلِّفَ الْإِنْسَانَ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ هَذَيْنِ، وَيُكَلِّفَ آخَرَ أَنْ لَا يُمْضِيَ حُكْمًا بِشَهَادَتِهِمَا. وَجَائِزٌ أَنْ يُكَلِّفَ بَعْضَ النَّاسِ أَنْ يُلْزِمَ مُسْتَهْلِكَ هَذَا الثَّوْبِ عَشَرَ دَرَاهِمَ، وَيُكَلِّفَ آخَرَ إذَا اخْتَصَمُوا إلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَالْأُمُورُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا صِحَّةُ التَّكْلِيفِ عَلَى اخْتِلَافِهَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْجَمِيعُ مُصِيبِينَ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الظُّنُونِ الْمُخْتَلِفَةِ، إذْ لَيْسَتْ هِيَ الْفُرُوضُ الَّتِي كُلِّفُوهَا، وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا كُلِّفُوا الْفُرُوضَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 عِنْدَ وُجُودِهَا، كَمَا يُكَلَّفُ الْفَرْضُ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَحُضُورُ أَوْقَاتٍ، وَأُمُورٍ لَيْسَتْ هِيَ فِي أَنْفُسِهَا فُرُوضًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ (حُكْمُ) مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَفْعَالِهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كُلِّفُوهُ فِي ذَلِكَ هُوَ الِاعْتِقَادُ لِلشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ، لَا حُكْمَ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْرُهُ، فَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا أَنْ يُبِيحَ اللَّهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَهُمْ اعْتِقَادَ مَا كَلَّفَهُمْ اعْتِقَادَهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ، وَهُوَ الَّذِي صَادَفَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ فَضَلَالٌ وَبَاطِلٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 كَتَبَ فِي آخِرِ النُّسْخَةِ " ح ": فَرَغَ مِنْ نَسْخِ هَذَا الْكِتَابِ الْفُصُولِ لِلرَّازِيِّ بِعَوْنِ اللَّهِ الْمُجَازِي، الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَتِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ مَاضِيٍّ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَتَّعَ بِهِ مُسْتَنْسِخَهُ وَنَاظِرَهُ. الْعَصْرَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، عَامَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ. أَحْسَنَ اللَّهُ عَافِيَتَهُ، وَذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ". وَكَتَبَ فِي آخِرِ النُّسْخَةِ " هـ ": " هَذَا آخِرُ أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الرَّازِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَرَغَ عَنْ كِتَابَتِهِ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَبُو حَنِيفَةَ، أَمِيرُ كَاتِبِ بْنِ أَمِيرِ عُمَرَ الْعَمِيدِ الْمَدْعُوّ بِقِوَامِ الْفَارَابِيِّ الْأَتْقَانِيِّ بِدِمَشْقَ، حَمَاهَا اللَّهُ عَنْ الْآفَاتِ، سِرَارَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَكَانَ تَارِيخُ النُّسْخَةِ الَّتِي كُتِبَتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ مِنْهَا فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ إحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ، وَكَانَ وَفَاةُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. قُوبِلَ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ بِالْأَصْلِ الْمَنْسُوخِ مِنْهُ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ ". تَمَّ دِرَاسَةُ وَتَحْقِيقُ كِتَابِ " الْفُصُولِ فِي الْأُصُولِ " لِلْإِمَامِ الْجَصَّاصِ وَلِلَّهِ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384