الكتاب: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية المؤلف: عمرُ بنُ عليِّ بنِ موسى بنِ خليلٍ البغداديُّ الأزجيُّ البزَّارُ، سراجُ الدينِ أبو حفصٍ (المتوفى: 749هـ) المحقق: زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت الطبعة: الثالثة، 1400 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية البزار، أبو حفص الكتاب: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية المؤلف: عمرُ بنُ عليِّ بنِ موسى بنِ خليلٍ البغداديُّ الأزجيُّ البزَّارُ، سراجُ الدينِ أبو حفصٍ (المتوفى: 749هـ) المحقق: زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت الطبعة: الثالثة، 1400 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الْفَصْل الأول فِي ذكر منشأه وعمره وَمُدَّة عمره رضى الله عَنهُ وأرضاه أما مولده فَكَانَ كَمَا اخبرني بِهِ غير وَاحِد من الْحفاظ انه ولد فِي حران فِي عَاشر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وست مئة وَبَقِي بهَا إِلَى أَن بلغ سبع سِنِين ثمَّ انْتقل بِهِ وَالِده رَحمَه الله إِلَى دمشق المحروسة فَنَشَأَ بهَا أتم إنْشَاء وازكاه وأنبته الله احسن النَّبَات واوفاه وَكَانَت مخايل النجابة عَلَيْهِ فِي صغره لائحة وَدَلَائِل الْعِنَايَة فِيهِ وَاضِحَة اخبرني من أَثِق بِهِ عَن من حَدثهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أَن الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ فِي حَال صغره كَانَ إِذا أَرَادَ الْمُضِيّ إِلَى الْمكتب يَعْتَرِضهُ يَهُودِيّ كَانَ منزله بطريقه بمسائل يسْأَله عَنْهَا لما كَانَ يلوح عَلَيْهِ من الذكاء والفطنة وَكَانَ يجِيبه عَنْهَا سَرِيعا حَتَّى تعجب مِنْهُ ثمَّ انه صَار كلما اجتاز بِهِ يُخبرهُ بأَشْيَاء مِمَّا يدل على بطلَان مَا هُوَ عَلَيْهِ فَلم يلبث أَن اسْلَمْ وَحسن إِسْلَامه وَكَانَ ذَلِك ببركة الشَّيْخ على صغر سنه وَلم يزل مُنْذُ أبان صغره مُسْتَغْرق الْأَوْقَات فِي الْجهد وَالِاجْتِهَاد وَختم الْقرَان صَغِيرا ثمَّ اشْتغل بِحِفْظ الحَدِيث وَالْفِقْه والعربية حَتَّى برع فِي ذَلِك مَعَ مُلَازمَة مجَالِس الذّكر وَسَمَاع الْأَحَادِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 والْآثَار وَلَقَد سمع غير كتاب على غير شيخ من ذَوي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة الْعَالِيَة أما دواوين الْإِسْلَام الْكِبَار ك مُسْند احْمَد وصحيح البُخَارِيّ وَمُسلم وجامع التِّرْمِذِيّ وَسنَن أبي دَاوُود السجسْتانِي وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَالدَّارَقُطْنِيّ فَإِنَّهُ رَحمَه الله وَرَضي عَنْهُم وَعنهُ فَإِنَّهُ سمع كل وَاحِد مِنْهَا عدَّة مَرَّات وَأول كتاب حفظه فِي الحَدِيث الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ للْإِمَام الْحميدِي وَقل كتاب من فنون الْعلم إِلَّا وقف عَلَيْهِ وَكَانَ الله قد خصّه بِسُرْعَة الْحِفْظ وإبطاء النسْيَان لم يكن يقف على شَيْء أَو يستمع لشَيْء غَالِبا الا وَيبقى على خاطره أما بِلَفْظِهِ أَو مَعْنَاهُ وَكَانَ الْعلم كَأَنَّهُ قد اخْتَلَط بِلَحْمِهِ وَدَمه وسائره فَإِنَّهُ لم يكن لَهُ مستعارا بل كَانَ لَهُ شعارا ودثارا لم يزل آباؤه أهل الدِّرَايَة التَّامَّة والنقد والقدم الراسخة فِي الْفضل لَكِن جمع الله لَهُ مَا خرق بِمثلِهِ الْعَادة ووفقه فِي جَمِيع أمره لإعلام السَّعَادَة وَجعل مآثره لإمامته من اكبر شَهَادَة حَتَّى اتّفق كل ذِي عقل سليم انه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 مِمَّن عني نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله أَن الله يبْعَث على رَأس كل مئة سنة من يجدد لهَذِهِ الْأمة أَمر دينهَا فَلَقَد احيا الله بِهِ مَا كَانَ قد درس من شرائع الدّين وَجعله حجَّة على أهل عصره أَجْمَعِينَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الْفَصْل الثَّانِي فِي غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته وسعة نَقله فِي فَتَاوِيهِ ودروسه البديهية ومنصوصاته أما غزارة علومه فَمِنْهَا ذكر مَعْرفَته بعلوم الْقُرْآن الْمجِيد واستنباطه لدقائقه وَنَقله لأقوال الْعلمَاء فِي تَفْسِيره واستشهاده بدلائله وَمَا أودعهُ الله تَعَالَى فِيهِ من عجائبه وفنون حكمه وغرائب نوادره وباهر فَصَاحَته وَظَاهر ملاحته فَإِنَّهُ فِيهِ من الْغَايَة الَّتِي ينتهى اليها وَالنِّهَايَة الَّتِي يعول عَلَيْهَا وَلَقَد كَانَ إِذا قريء فِي مَجْلِسه آيَات من الْقُرْآن الْعَظِيم يشرع فِي تَفْسِيرهَا فينقضي الْمجْلس بجملته والدرس برمتِهِ وَهُوَ فِي تَفْسِير بعض آيَة مِنْهَا وَكَانَ مَجْلِسه فِي وَقت مُقَدّر بِقدر ربع النَّهَار يفعل ذَلِك بديهة من غير أَن يكون لَهُ قَارِئ معِين يقْرَأ لَهُ شَيْئا معينا يبيته ليستعد لتفسيره بل كَانَ من حضر يقْرَأ مَا تيَسّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَيَأْخُذ هُوَ فِي القَوْل على تَفْسِيره وَكَانَ غَالِبا لَا يقطع إِلَّا وَيفهم السامعون أَنه لَوْلَا مُضِيّ الزَّمن الْمُعْتَاد لاورد أَشْيَاء أخر فِي معنى مَا هُوَ فِيهِ من التَّفْسِير لَكِن يقطع نظرا فِي مصَالح الْحَاضِرين وَلَقَد أمْلى فِي تَفْسِير {قل هُوَ الله أحد} مجلدا كَبِيرا وَقَوله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} نَحْو خمس وَثَلَاثِينَ كراسة وَلَقَد بَلغنِي انه شرع فِي جمع تَفْسِير لَو أتمه لبلغ خمسين مجلدا أما مَعْرفَته وبصره بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأقواله وأفعاله وقضاياه وَوَقَائعه وغزواته وسراياه وبعوثه وَمَا خصّه الله تَعَالَى من كراماته ومعجزاته ومعرفته بِصَحِيح الْمَنْقُول عَنهُ وسقيمه وَبَقِيَّة الْمَنْقُول عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي أَقْوَالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم واحوالهم وأحوال مجاهداتهم فِي دين الله وَمَا خصوا بِهِ من بَين الامة فَإِنَّهُ كَانَ رَضِي الله عَنهُ من أضبط النَّاس لذَلِك وأعرفهم فِيهِ وأسرعهم استحضارا لما يُريدهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ قل أَن ذكر حَدِيثا فِي مُصَنف أَو فَتْوَى أَو اسْتشْهد بِهِ أَو اسْتدلَّ بِهِ إِلَّا وَعَزاهُ فِي أَي دواوين الْإِسْلَام هُوَ وَمن أَي قسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 من الصَّحِيح أَو الْحسن أَو غَيرهمَا وَذكر اسْم رِوَايَة من الصَّحَابَة وَقل أَن يسْأَل عَن اثر إِلَّا وَبَين فِي الْحَال حَاله وَحَال أمره وذاكره وَمن أعجب الْأَشْيَاء فِي ذَلِك أَنه فِي محنته الأولى بِمصْر لما أَخذ وسجن وحيل بَينه وَبَين كتبه صنف عدَّة كتب صغَارًا وكبارا وَذكر فِيهَا مَا احْتَاجَ إِلَى ذكره من الْأَحَادِيث والْآثَار وأقوال الْعلمَاء وَأَسْمَاء الْمُحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم وَعزا كل شئ من ذَلِك إِلَى ناقليه وقائليه بِأَسْمَائِهِمْ وَذكر أَسمَاء الْكتب الَّتِي ذكر فِيهَا وَأي مَوضِع هُوَ مِنْهَا كل ذَلِك بديهة من حفظه لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده حِينَئِذٍ كتاب يطالعه ونقبت واختبرت واعتبرت فَلم يُوجد فِيهَا بِحَمْد الله خلل وَلَا تغير وَمن جُمْلَتهَا كتاب الصارم المسلول على شاتم الرَّسُول وَهَذَا من الْفضل الَّذِي خصّه الله تَعَالَى بِهِ وَمِنْهَا مَا منحه الله تَعَالَى من معرفَة اخْتِلَاف الْعلمَاء ونصوصهم وَكَثْرَة أَقْوَالهم واجتهادهم فِي الْمسَائِل وَمَا رُوِيَ عَن كل مِنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 من رَاجِح ومرجوح ومقبول ومردود فِي كل زمَان وَمَكَان وبصره الصَّحِيح الثاقب الصائب للحق مِمَّا قَالُوهُ ونقلوه وَعَزوه ذَلِك إِلَى الْأَمَاكِن الَّتِي بهَا أودعوه حَتَّى كَانَ إِذا سُئِلَ عَن شئ من ذَلِك كَأَن جَمِيع الْمَنْقُول عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَالْعُلَمَاء فِيهِ من الاولين والآخرين مُتَصَوّر مسطور بإزائه يَقُول مِنْهُ مَا شَاءَ الله ويذر مَا يَشَاء وَهَذَا قد اتّفق عَلَيْهِ كل من رَآهُ أَو وقف على شئ من علمه مِمَّن لَا يُغطي عقله الْجَهْل والهوى وَأما مؤلفاته ومصنفاته فَإِنَّهَا اكثر من أَن أقدر على إحصائها أَو يحضرني جملَة أسمائها بل هَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ غَالِبا أحد لِأَنَّهَا كَثِيرَة جدا كبارًا وصغارا وَهِي منشورة فِي الْبلدَانِ فَقل بلد نزلته إِلَّا وَرَأَيْت فِيهِ من تصانيفه فَمِنْهَا مَا يبلغ إثني عشر مجلدا ك تَلْخِيص التلبيس على أساس التَّقْدِيس وَغَيره وَمِنْهَا مَا يبلغ سبع مجلدات ك الْجمع بَين الْعقل وَالنَّقْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَمِنْهَا مَا يبلغ خمس مجلدات وَمِنْهَا منهاج الاسْتقَامَة والاعتدال وَنَحْوه وَمِنْهَا مَا يبلغ ثَلَاث مجلدات ك الرَّد على النَّصَارَى وَشبهه وَمِنْهَا مجلدان ك نِكَاح الْمُحَلّل وَإِبْطَال الْحِيَل وَشرح العقيدة الأصبهانية وَمِنْهَا مُجَلد وَدون ذَلِك وَهَذَانِ القسمان من مؤلفاته فَهِيَ كَثِيرَة جدا لَا يمكنني استقصاؤها لَكِن اذكر بَعْضهَا إستئناسا كتاب تَفْسِير سُورَة الاخلاص مُجَلد كتاب الْكَلَام على قَوْله عز وَجل الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى كتاب الصارم المسلول على شاتم الرَّسُول مُجَلد كتاب الْفرْقَان الْمُبين بَين الطَّلَاق وَالْيَمِين كتاب الْفرق بَين أَوْلِيَاء الرَّحْمَن وأولياء الشَّيْطَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كتاب اقْتِضَاء الصِّرَاط الْمُسْتَقيم مُخَالفَة أَصْحَاب الْجَحِيم كتاب الْكَلم الطّيب كتاب إِثْبَات الْكَمَال كتاب الرَّد على تأسيس التَّقْدِيس كتاب الْجمع بَين الْعقل وَالنَّقْل كتاب نقض أَقْوَال المبتدعين كتاب الرَّد على النَّصَارَى كتاب منهاج الاسْتقَامَة كتاب إبِْطَال الْحِيَل وَنِكَاح الْمُحَلّل كتاب شرح العقيدة الاصبهانية كتاب الفتاوي كتاب الدّرّ الْمُلْتَقط كتاب أَحْكَام الطَّلَاق كتاب الرسَالَة كتاب اعْتِقَاد الْفرْقَة النَّاجِية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 كتاب رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام كتاب تَقْرِير مسَائِل التَّوْحِيد كتاب الاستغاثة والتوسل كتاب الْمسَائِل الحموية كتاب الْمسَائِل الجزرية كتاب الْمسَائِل المفردة وَلَا يَلِيق هَذَا الْمُخْتَصر بِأَكْثَرَ من هَذَا الْقدر من مؤلفاته وَإِلَّا فَيمكن تعداد مَا ينيف على المأتين لَكِن لم نر الإطالة بِذكرِهِ وَأما فَتَاوِيهِ ونصوصه وأجوبته على الْمسَائِل فَهِيَ اكثر من أَن اقدر على إحصائها لَكِن دون بِمصْر مِنْهَا على أَبْوَاب الْفِقْه سَبْعَة عشر مجلدا وَهَذَا ظَاهر مَشْهُور وَجمع أَصْحَابه اكثر من أَرْبَعِينَ ألف مَسْأَلَة وَقل أَن وَقعت وَاقعَة وَسُئِلَ عَنْهَا إِلَّا وَأجَاب فِيهَا بديهة بِمَا بهر واشتهر وَصَارَ ذَلِك الْجَواب كالمصنف الَّذِي يحْتَاج فِيهِ غَيره إِلَى زمن طَوِيل ومطالعة كتب وَقد لَا يقدر مَعَ ذَلِك على إبراز مثله أَخْبرنِي الشَّيْخ الصَّالح تَاج الدّين مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الدوري انه حضر مجْلِس الشَّيْخ رضى الله عَنهُ وَقد سَأَلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 يَهُودِيّ عَن مسأله فِي الْقدر قد نظمها شعرًا فِي ثَمَانِيَة أَبْيَات فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا فكر لَحْظَة يسيرَة وانشأ يكْتب جوابها وَجعل يكْتب وَنحن نظن انه يكْتب نثرا فَلَمَّا فرغ تَأمله من حضر من أَصْحَابه وَإِذا هُوَ نظم فِي بَحر أَبْيَات السُّؤَال وقافيتها تقرب من مائَة وَأَرْبَعَة وَثَمَانِينَ بَيْتا وَقد ابرز فِيهَا من الْعُلُوم مَا لَو شرح بشرح لجاء شَرحه مجلدين كبيرين هَذَا من جملَة بواهره وَكم من جَوَاب فَتْوَى لم يسْبق إِلَى مثله وَأما ذكر دروسه فقد كنت فِي حَال إقامتي بِدِمَشْق لَا أفوتها وَكَانَ لَا يهييء شَيْئا من الْعلم ليلقيه ويورده بل يجلس بعد أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فيحمد الله ويثني عَلَيْهِ وَيُصلي على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صفة مستحسنة مستعذبة لم اسمعها من غَيره ثمَّ يشرع فَيفتح الله عَلَيْهِ إِيرَاد عُلُوم وغوامض ولطائف ودقائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وفنون ونقول واستدلالات بآيَات وَأَحَادِيث وأقوال الْعلمَاء وَنصر بَعْضهَا وَتبين صِحَّته أَو تزييف بَعْضهَا وإيضاح حجَّته واستشهاد بأشعار الْعَرَب وَرُبمَا ذكر اسْم ناظمها وَهُوَ مَعَ ذَلِك يجْرِي كَمَا يجْرِي السَّيْل وَيفِيض كَمَا يفِيض الْبَحْر وَيصير مُنْذُ يتَكَلَّم إِلَى أَن يفرغ كالغائب عَن الْحَاضِرين مغمضا عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ كُله مَعَ عدم فكر فِيهِ أَو روية من غير تعجرف وَلَا توقف وَلَا لحن بل فيض الهي حَتَّى يبهر كل سامع وناظر فَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى أَن يصمت وَكنت اراه حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قد صَار بِحَضْرَة من يشْغلهُ عَن غَيره وَيَقَع عَلَيْهِ إِذْ ذَاك من المهابة مَا يرعد الْقُلُوب ويحير الْأَبْصَار والعقول وَكَانَ لَا يذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطّ الا وَيُصلي وَيسلم عَلَيْهِ وَلَا وَالله مَا رَأَيْت أحدا اشد تَعْظِيمًا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا احرص على أَتْبَاعه وَنصر مَا جَاءَ بِهِ مِنْهُ حَتَّى إِذا كَانَ ورد شَيْئا من حَدِيثه فِي مَسْأَلَة وَيرى انه لم ينسخه شَيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 غَيره من حَدِيثه يعْمل بِهِ وَيَقْضِي ويفتي بِمُقْتَضَاهُ وَلَا يلْتَفت الى قَول غَيره من المخلوقين كَائِنا من كَانَ وَقَالَ رَضِي الله عَنهُ كل قَائِل إِنَّمَا يحْتَج لقَوْله لَا بِهِ أَلا الله وَرَسُوله وَكَانَ إِذا فرغ من درسه يفتح عَيْنَيْهِ وَيقبل على النَّاس بِوَجْه طلق بشيش وَخلق دمث كَأَنَّهُ قد لَقِيَهُمْ حِينَئِذٍ وَرُبمَا اعتذر إِلَى بَعضهم من التَّقْصِير فِي الْمقَال مَعَ ذَلِك الْحَال وَلَقَد كَانَ درسه الَّذِي يُورِدهُ حِينَئِذٍ قدر عدَّة كراريس وَهَذَا الَّذِي ذكرته من أَحْوَال درسه أَمر مَشْهُور يوافقني عَلَيْهِ كل حَاضر بهَا وهم بِحَمْد الله خلق كثير لم يحصر عَددهمْ عُلَمَاء ورؤساء وفضلاء من الْقُرَّاء والمحدثين وَالْفُقَهَاء والأدباء وَغَيرهم من عوام الْمُسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الْفَصْل الثَّالِث فِي ذكر مَعْرفَته بأنواع أَجنَاس الْمَذْكُور وَالْمقول وَالْمَنْقُول والمتصور وَالْمَفْهُوم والمعقول أما مَعْرفَته بِصَحِيح الْمَنْقُول وسقيمه فَإِنَّهُ فِي ذَلِك من الْجبَال الَّتِي لَا ترتقي ذروتها وَلَا ينَال سنامها قل أَن ذكر لَهُ قَول الا وَقد احاط علمه بمبتكره وذاكره وناقله واثره أَو راو الا وَقد عرف حَاله من جرح وتعديل بإجمال وتفصيل حكى من يوثق بنقله انه كَانَ يَوْمًا بِمَجْلِس ومحدث يقْرَأ عَلَيْهِ بعض الْكتب الحديثية وَكَانَ سريع الْقِرَاءَة فعارضه الشَّيْخ فِي اسْم رجل فِي سَنَد الحَدِيث قد ذكره القاريء بِسُرْعَة فَذكر الشَّيْخ ان اسْمه فلَان بِخِلَاف مَا قَرَأَ فاعتبروه فوجدوه كَمَا قَالَ الشَّيْخ فَانْظُر الى هَذَا الادراك السَّرِيع والتنبيه الدَّقِيق العجيب وَلَا يقدر على مثله الا من اشتدت مَعْرفَته وَقَوي ضَبطه وَأما مَا وهبه الله تَعَالَى ومنحه بِهِ من استنباط الْمعَانِي من الالفاظ النَّبَوِيَّة والاخبار المروية وابراز الدَّلَائِل مِنْهَا على الْمسَائِل وَتبين مَفْهُوم اللَّفْظ ومنطوقه وايضاح الْمُخَصّص للعام والمقيد للمطلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 والناسخ للمنسوخ وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا وَمَا يحْتَاج فِيهِ اليها حَتَّى كَانَ اذا ذكر آيَة اَوْ حَدِيثا وَبَين مَعَانِيه وَمَا اريد بِهِ اعْجَبْ الْعَالم الفطن من حسن استنباطه ويدهشه مَا سَمعه اَوْ وقف عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَقَد سُئِلَ يَوْمًا عَن الحَدِيث لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ فَلم يزل يُورد فِيهِ وَعَلِيهِ حَتَّى بلغ كَلَامه فِيهِ مجلدا كَبِيرا وَقل ان كَانَ يذكر لَهُ حَدِيث اَوْ حكم فيشاء ان يتَكَلَّم عَلَيْهِ يَوْمه اجْمَعْ الا فعل اَوْ يقْرَأ بِحَضْرَتِهِ اية من كتاب الله تَعَالَى ويشرع فِي تَفْسِيرهَا الا وَقطع الْمجْلس كُله فِيهَا واما مَا خصة الله تَعَالَى بِهِ من مُعَارضَة اهل الْبدع فِي بدعتهم واهل الاهواء فِي اهوائهم وَمَا الفه فِي ذَلِك من دحض اقوالهم وتزييف امثالهم واشكالهم واظهار عوارهم وانتحالهم وتبديد شملهم وَقطع اوصالهم واجوبته عَن شبههم الشيطانية ومعارضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية بِمَا منحه الله تَعَالَى بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 من البصائر الرحمانية والدلائل النقلية والتوضيحات الْعَقْلِيَّة حَتَّى ينْكَشف قناع الْحق وَبَان بِمَا جمعه فِي ذَلِك والفه الْكَذِب من الصدْق حَتَّى لَو ان اصحابها احياء ووفقوا لغير الشَّقَاء لاذعنوا لَهُ بالتصديق ودخلوا فِي الدّين الْعَتِيق وَلَقَد وَجب على كل من وقف عَلَيْهَا وَفهم مَا لَدَيْهَا ان يحمد الله تَعَالَى على حسن توفيقه هَذَا الامام لنصر الْحق بالبراهين الْوَاضِحَة الْعِظَام حَدثنِي غير وَاحِد من الْعلمَاء الْفُضَلَاء النبلاء الممعنين بالخوض فِي اقاويل الْمُتَكَلِّمين لاصابة الثَّوَاب وتمييز القشر من اللّبَاب ان كلا مِنْهُم لم يزل حائرا فِي تجاذب اقوال الاصوليين ومعقولاتهم وانه لم يسْتَقرّ فِي قلبه مِنْهَا قَول وَلم يبن لَهُ من مضمونها حق بل رَآهَا كلهَا موقعة فِي الْحيرَة والتضليل وجلها ممعن بتكلف الادلة وَالتَّعْلِيل وانه كَانَ خَائفًا على نَفسه من الْوُقُوع بِسَبَبِهَا فِي التشكيك والتعطيل حَتَّى من الله تَعَالَى عَلَيْهِ بمطالعته مؤلفات هَذَا الامام احْمَد ابْن تَيْمِية شيخ الاسلام وَمَا اورده من النقليات والعقليات فِي هَذَا النظام فَمَا هُوَ الا ان وقف عَلَيْهَا وفهمها فرآها مُوَافقَة لِلْعَقْلِ السَّلِيم وَعلمهَا حَتَّى انجلى مَا كَانَ قد غشيه من اقوال الْمُتَكَلِّمين من الظلام وَزَالَ عَنهُ مَا خَافَ ان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يَقع فِيهِ من الشَّك وظفر بالمرام وَمن اراد اختبار صِحَة مَا قلته فليقف بِعَين الانصاف الْعرية عَن الْحَسَد والانحراف ان شَاءَ على مختصراته فِي هَذَا الشَّأْن ك شرح الاصبهانية وَنَحْوهَا وان شَاءَ على مطولاته ك تَخْلِيص التلبيس من تأسيس التَّقْدِيس والموافقة بَين الْعقل وَالنَّقْل ومنهاج الاسْتقَامَة والاعتدال فَإِنَّهُ وَالله يظفر بِالْحَقِّ وَالْبَيَان ويستمسك بأوضح برهَان ويزن حِينَئِذٍ فِي ذَلِك بأصح ميزَان وَلَقَد اكثر رَضِي الله عَنهُ التصنيف فِي الاصول فضلا عَن غَيره من بَقِيَّة الْعُلُوم فَسَأَلته عَن سَبَب ذَلِك والتمست مِنْهُ تأليف نَص فِي الْفِقْه يجمع اختياراته وترجيحاته ليَكُون عُمْدَة فِي الافتاء فَقَالَ لي مَا مَعْنَاهُ الْفُرُوع امرها قريب وَمن قلد الْمُسلم فِيهَا اُحْدُ الْعلمَاء المقلدين جَازَ لَهُ الْعَمَل بقوله مَا لم يتَيَقَّن خطأه واما الاصول فَإِنِّي رايت اهل الْبدع والضلالات والاهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة والقائلين بوحدة الْوُجُود والدهرية والقدرية والنصيرية والجهمية والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسليمية وَغَيرهم من اهل الْبدع قد تجاذبوا فِيهَا بأزمة الضلال وَبَان لي ان كثيرا مِنْهُم انما قصد ابطال الشَّرِيعَة المقدسة المحمدية الظَّاهِرَة الْعلية على كل دين وان جمهورهم اوقع النَّاس فِي التشكيك فِي اصول دينهم وَلِهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 قل ان سَمِعت اَوْ رَأَيْت معرضًا عَن الْكتاب وَالسّنة مُقبلا على مقالاتهم الا وَقد تزندق اَوْ صَار على غير يَقِين فِي دينه واعتقاده فَلَمَّا رَأَيْت الامر على ذَلِك بَان لي انه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم واباطيلهم وَقطع حجتهم واضاليلهم ان يبْذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائلهم ذبا عَن المللة الحنيفية وَالسّنة الصَّحِيحَة الجلية وَلَا وَالله مَا رَأَيْت فيهم احدا مِمَّن صنف فِي هَذَا الشَّأْن وَادّعى عُلُوم الْمقَام الا وَقد ساعد بمضمون كَلَامه فِي هدم قَوَاعِد دين الاسلام وَسبب ذَلِك اعراضه عَن الْحق الْوَاضِح الْمُبين وَعَن مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل الْكِرَام عَن رب الْعَالمين واتباعه طرق الفلسفة فِي الاصطلاحات الَّتِي سَموهَا بزعمهم حكميات وعقليات وانما هِيَ جهالات وضلالات وَكَونه التزمها معرضًا عَن غَيرهَا اصلا ورأسا فَغلبَتْ عَلَيْهِ حَتَّى غطت على عقله السَّلِيم فتخبط حَتَّى خبط فِيهَا عشوا وَلم يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل والا فَالله اعظم لطفا بعباده ان لَا يَجْعَل لَهُم عقلا يقبل الْحق ويثبته وَيبْطل الْبَاطِل وينفيه لَكِن عدم التَّوْفِيق وَغَلَبَة الْهوى اوقع من اوقع فِي الضلال وَقد جعل الله تَعَالَى الْعقل السَّلِيم من الشوائب ميزانا يزن بِهِ العَبْد الواردات فَيُفَرق بِهِ بَين مَا هُوَ من قبيل الْحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَمَا هُوَ من قبيل الْبَاطِل وَلم يبْعَث الله الرُّسُل الا الى ذَوي الْعقل وَلم يَقع التَّكْلِيف الا مَعَ وجوده فَكيف يُقَال انه مُخَالف لبَعض مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل الْكِرَام عَن الله تَعَالَى هَذَا بَاطِل قطعا يشْهد لَهُ كل عقل سليم لَكِن {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} قَالَ الشَّيْخ الامام قدس الله روحه فَهَذَا وَنَحْوه هُوَ الَّذِي اوجب اني صرفت جلّ همي الى الاصول والزمني ان اوردت مقالاتهم واجبت عَنْهَا بِمَا انْعمْ الله تَعَالَى بِهِ من الاجوبة النقلية والعقلية قلت وَقد ابان بِحَمْد الله تَعَالَى فِيمَا الف فِيهَا لكل بَصِير الْحق من الْبَاطِل واعانة بتوفيقه حَتَّى رد عَلَيْهِم بدعهم وآراءهم وخدعهم واهواءهم مَعَ الدَّلَائِل النقلية بالطريقة الْعَقْلِيَّة حَتَّى يُجيب عَن كل شُبْهَة من شبههم بعدة اجوبة جلية وَاضِحَة يَعْقِلهَا كل ذِي عقل صَحِيح وَيشْهد لصحتها كل عَاقل رجيح فَالْحَمْد لله الَّذِي من علينا بِرُؤْيَتِهِ وصحبته فَلَقَد جعله الله حجَّة على اهل هَذَا الْعَصْر المعرض غَالب اهله عَن قَلِيله وَكَثِيره لاشتغالهم بفاني الدُّنْيَا عَمَّا يحصل بِهِ بَاقِي الاخرة فَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه لَكِن الله ذُو الْقُوَّة المتين ضمن حفظ هَذَا الدّين الى يَوْم الدّين واظهره على كل دين فَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الْفَصْل الرَّابِع فِي ذكر تعبده اما تعبده رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قل ان سمع بِمثلِهِ لانه كَانَ قد قطع جلّ وقته وزمانه فِيهِ حَتَّى انه لم يَجْعَل لنَفسِهِ شاغلة تشغله عَن الله تَعَالَى مَا يُرَاد لَهُ لَا من اهل وَلَا من مَال وَكَانَ فِي لَيْلَة متفردا عَن النَّاس كلهم خَالِيا بربه عز وَجل ضارعا مواظبا على تِلَاوَة الْقُرْآن الْعَظِيم مكررا لانواع التعبدات الليلية والنهارية وَكَانَ اذا ذهب اللَّيْل وَحضر مَعَ النَّاس بَدَأَ بِصَلَاة الْفجْر يَأْتِي بسنتها قبل اتيانه اليهم وَكَانَ اذا احرم بِالصَّلَاةِ تكَاد تتخلع الْقُلُوب لهيبة اتيانه بتكبيرة الاحرام فَإِذا دخل فِي الصَّلَاة ترتعد اعضاؤه حَتَّى يميله يمنة ويسرة وَكَانَ اذا قَرَأَ يمد قِرَاءَته مدا كَمَا صَحَّ فِي قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ رُكُوعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَسُجُوده وانتصابه عَنْهُمَا من اكمل مَا ورد فِي صَلَاة الْفَرْض وَكَانَ يُخَفف جُلُوسه للتَّشَهُّد الاول خفَّة شَدِيدَة ويجهر بالتسليمة الاولي حَتَّى يسمع كل من حضر فَإِذا فرغ من الصَّلَاة اثنى على الله عز وَجل هُوَ وَمن حضر بِمَا ورد من قَوْله اللَّهُمَّ انت السَّلَام ومنك السَّلَام تَبَارَكت يَا ذَا الْجلَال والاكرام ثمَّ يقبل على الْجَمَاعَة ثمَّ يَأْتِي بالتهليلات الواردات حِينَئِذٍ ثمَّ يسبح الله وَيَحْمَدهُ ويكبره ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيخْتم الْمِائَة بالتهليل كَمَا ورد وَكَذَا الْجَمَاعَة ثمَّ يَدْعُو الله تَعَالَى لَهُ وَلَهُم وللمسلمين اجناس مَا ورد وَكَانَ غَالب دُعَائِهِ اللَّهُمَّ انصرنا وَلَا تنصر علينا وامكر لنا وَلَا تَمْكُر علينا واهدنا وَيسر الْهدى لنا اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَك شاكرين لَك ذاكرين لَك اواهين لَك مخبتين اليك راغبين اليك راهبين لَك مطاويع رَبنَا تقبل توباتنا واغسل حوباتنا وَثَبت حجَجنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 واهد قُلُوبنَا اسلل سخيمة صدورنا يفتتحه ويختمه بِالصَّلَاةِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يشرع فِي الذّكر وَكَانَ قد عرفت عَادَته لَا يكلمهُ اُحْدُ بِغَيْر ضَرُورَة بعد صَلَاة الْفجْر فَلَا يزَال فِي الذّكر يسمع نَفسه وَرُبمَا يسمع ذكره من الى جَانِبه مَعَ كَونه فِي خلال ذَلِك يكثر من تقليب بَصَره نَحْو السَّمَاء هَكَذَا دأبه حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس وَيَزُول وَقت النَّهْي عَن الصَّلَاة وَكنت مُدَّة اقامتي بِدِمَشْق ملازمه جلّ النَّهَار وَكَثِيرًا من اللَّيْل وَكَانَ يدنيني مِنْهُ حَتَّى يجلسني الى جَانِبه وَكنت اسْمَع مَا يَتْلُو وَمَا يذكر حِينَئِذٍ فرأيته يقْرَأ الْفَاتِحَة ويكررها وَيقطع ذَلِك الْوَقْت كُله اعني من الْفجْر الى ارْتِفَاع الشَّمْس فِي تَكْرِير تلاوتها ففكرت فِي ذَلِك لم قد لزم هَذِه السُّورَة دون غَيرهَا فَبَان لي وَالله اعْلَم ان قَصده بذلك ان يجمع بتلاوتها حِينَئِذٍ بَين مَا ورد فِي الاحاديث وَمَا ذكره الْعلمَاء هَل يسْتَحبّ حِينَئِذٍ تَقْدِيم الاذكار الْوَارِدَة على تِلَاوَة الْقُرْآن اَوْ الْعَكْس فراى رَضِي الله عَنهُ ان فِي الْفَاتِحَة وتكرارها حِينَئِذٍ جمعا بَين الْقَوْلَيْنِ وتحصيلا للفضيلتين وَهَذَا من قُوَّة فطنته وثاقب بصيرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ثمَّ انه كَانَ يرْكَع فَإِذا اراد سَماع حَدِيث فِي مَكَان اخر سارع اليه من فوره مَعَ من يَصْحَبهُ فَقل ان يرَاهُ اُحْدُ مِمَّن لَهُ بَصِيرَة الا وانكب على يَدَيْهِ يقبلهما حَتَّى انه كَانَ اذا رَاه ارباب المعايش يتخطون من حوانيتهم للسلام عَلَيْهِ والتبرك بِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُعْطي كلا مِنْهُم نَصِيبا وافرا من السَّلَام وَغَيره واذا رأى مُنْكرا فِي طَرِيقه ازاله اَوْ سمع بِجنَازَة سارع الى الصَّلَاة عَلَيْهَا اَوْ تأسف على فَوَاتهَا وَرُبمَا ذهب الى قبر صَاحبهَا بعد فَرَاغه من سَماع الحَدِيث فَصلي عَلَيْهِ ثمَّ يعود الى مَسْجده فَلَا يزَال تَارَة فِي افتاء النَّاس وَتارَة فِي قَضَاء حوائجهم حَتَّى يُصَلِّي الظّهْر مَعَ الْجَمَاعَة ثمَّ كَذَلِك بَقِيَّة يَوْمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَكَانَ مَجْلِسه عَاما للكبير وَالصَّغِير والجليل والحقير وَالْحر وَالْعَبْد وَالذكر والانثى قد وسع على كل من يرد عَلَيْهِ من النَّاس يرى كل مِنْهُم فِي نَفسه ان لم يكرم احدا بِقَدرِهِ ثمَّ يُصَلِّي الْمغرب ثمَّ يتَطَوَّع بِمَا يسره الله ثمَّ اقْرَأ عَلَيْهِ من مؤلفاته اَوْ غَيْرِي فيفيدنا بالطرائف ويمدنا باللطائف حَتَّى يُصَلِّي الْعشَاء ثمَّ بعْدهَا كَمَا كُنَّا وَكَانَ من الاقبال على الْعُلُوم الى ان يذهب هوي من اللَّيْل طَوِيل وَهُوَ فِي خلال ذَلِك كُله فِي النَّهَار وَاللَّيْل لَا يزَال يذكر الله تَعَالَى ويوحده ويستغفره وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ كثيرا مَا يرفع طرفه الى السَّمَاء لَا يكَاد يفتر من ذَلِك كَأَنَّهُ يرى شَيْئا يُثبتهُ بنظره فَكَانَ هَذَا دَابَّة مُدَّة إقامتي بِحَضْرَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فسبحان الله مَا اقصر مَا كَانَت يَا ليتها كَانَت طَالَتْ وَلَا وَالله مَا مر على عمري الى الان زمَان كَانَ احب الي من ذَلِك الْحِين وَلَا رَأَيْتنِي فِي وَقت احسن حَالا مني حِينَئِذٍ وَمَا كَانَ الا ببركة الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ فِي كل اسبوع يعود المرضى خُصُوصا الَّذين بالبمارستان واخبرني غير وَاحِد مِمَّن لَا يشك فِي عَدَالَته ان جَمِيع زمن الشَّيْخ يَنْقَضِي على مَا رَأَيْته فَأَي عبَادَة وَجِهَاد افضل من ذَلِك فسبحان الْمُوفق من يَشَاء لما يَشَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الْفَصْل الْخَامِس فِي ذكر بعض ورعه كَانَ رَضِي الله عَنهُ فِي الْغَايَة الَّتِي يَنْتَهِي اليها فِي الْوَرع لَان الله تَعَالَى اجراه مُدَّة عمره كلهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَا خالط النَّاس فِي بيع وَلَا شِرَاء وَلَا مُعَاملَة وَلَا تِجَارَة وَلَا مُشَاركَة وَلَا زراعة وَلَا عمَارَة وَلَا كَانَ نَاظرا مباشرا لمَال وقف وَلم يكن يقبل جراية وَلَا صلَة لنَفسِهِ من سُلْطَان وَلَا امير وَلَا تَاجر وَلَا كَانَ مدخرا دِينَارا وَلَا درهما وَلَا مَتَاعا وَلَا طَعَاما وَإِنَّمَا كَانَت بضاعته مُدَّة حَيَاته وميراثه بعد وَفَاته رضى الله عَنهُ الْعلم اقْتِدَاء بِسَيِّد الْمُرْسلين وَخَاتم النَّبِيين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُ قَالَ إِن الْعلمَاء وَرَثَة الانبياء وَإِن الانبياء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما إِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذ بِهِ فقد اخذ بحظ وافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وَكَانَ يُنَبه الْعَاقِل بِحسن الملاطفة ودقيق المخاطبة ليختار لنَفسِهِ طريقتهم ويسلك سبيلهم وَإِن كَانَ دونهَا من الطَّرِيق من اتِّخَاذ الْمُبَاحَات جَائِز لَكِن الْعَاقِل يدله عقله على طلب الاعلى فَأنْظر بِعَين الانصاف إِلَى مَا وفْق لَهُ هَذَا الإِمَام واجرى عَلَيْهِ مَا أقعد عَنهُ غَيره وخذل عَن طلبه لَكِن لكل شئ سَبَب وعلامة عدم التَّوْفِيق سلب الاسباب وَمن أعظم الاسباب لترك فضول الدُّنْيَا التخلي عَن غير الضَّرُورِيّ مِنْهَا فَلَمَّا وفْق الله هَذَا الامام لرفض غير الضَّرُورِيّ مِنْهَا انصبت عَلَيْهِ العواطف الالهية فَحصل بهَا كل فَضِيلَة جليلة بِخِلَاف غَيره من عُلَمَاء الدُّنْيَا مختاريها وطالبيها والساعين لتحصيلها فانهم لما اخْتَارُوا ملاذها وَزينتهَا ورئاستها انسدت عَلَيْهِم غَالِبا طرق الرشاد فوقعوا فِي شركها يخبطون خبط عشواء ويحطبونها كحاطب ليل لَا يبالون مَا يَأْكُلُون وَلَا مَا يلبسُونَ وَلَا مَا يتأولون مَا يحصل لَهُم أغراضهم الدنيئة ومقاصدهم الخبيثة الخسيسة فهم متعاضدون على طلبَهَا يتحاسدون بِسَبَبِهَا اجسامهم مليئة وَقُلُوبهمْ من غَيرهَا فارغة وظواهرهم مزخرفة معمورة وَقُلُوبهمْ خربة مأسورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَلم يَكفهمْ مَا هم عَلَيْهِ حَتَّى اصبحوا قالين رافضها معادين باغضها وَلما رَأَوْا هَذَا الإِمَام عَالم الْآخِرَة تَارِكًا لما هم عَلَيْهِ من تَحْصِيل الحطام من الشّبَه الْحَرَام رافضا الْفضل الْمُبَاح فضلا عَن الْحَرَام تحققوا ان احواله تفضح احوالهم وتوضح خفى أفعالهم وأخذتهم الْغيرَة النفسانية على صفاتهم الشيطانية المباينة لصفاته الروحانية فحرصوا على الفتك بِهِ أَيْن مَا وجدوه وأنسوا انهم ثعالب وَهُوَ أَسد فحماه الله تَعَالَى مِنْهُم بحراسته وصنع لَهُ غير مرّة كَمَا صنع لخاصته وَحفظه مُدَّة حياتة وحماه وَنشر لَهُ عِنْد وَفَاته علما فِي الاقطار بِمَا وَالَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الْفَصْل السَّادِس فِي ذكر بعض زهده وتجرده وتقاعده عَن الدُّنْيَا وتبعده أما زهده فِي الدُّنْيَا ومتاعها فَإِن الله تَعَالَى جعل ذَلِك لَهُ شعارا من صغره حَدثنِي من اثق بِهِ عَن شَيْخه الَّذِي علمه الْقُرْآن الْمجِيد قَالَ قَالَ لي أَبوهُ وَهُوَ صبي يَعْنِي الشَّيْخ احب اليك أَن توصيه وتعده بأنك إِن لم تَنْقَطِع عَن القرأءة والتلقين ادْفَعْ اليك كل شهر أَرْبَعِينَ درهما قَالَ وَدفع إِلَيّ أَرْبَعِينَ درهما وَقَالَ أعْطه إِيَّاهَا فَإِنَّهُ صَغِير وَرُبمَا يفرح بهَا فَيَزْدَاد حرصه فِي الِاشْتِغَال بِحِفْظ الْقُرْآن ودرسه وَقل لَهُ لَك فِي كل شهر مثلهَا فَامْتنعَ من قبُولهَا وَقَالَ يَا سَيِّدي إِنِّي عَاهَدت الله تَعَالَى ان لَا آخذ على الْقُرْآن اجرا وَلم يَأْخُذهَا فَرَأَيْت ان هَذَا لَا يَقع من صبي إِلَّا لما لله فِيهِ من الْعِنَايَة قلت وَصدق شَيْخه فَإِن عناية الله هِيَ الَّتِي أوصلته الى مَا وصل من كل خير من صغيره لَا من كبر وَلَقَد اتّفق كل من رَآهُ خُصُوصا من أَطَالَ ملازمته أَنه مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 رأى مثله فِي الزّهْد فِي الدُّنْيَا حَتَّى لقد صَار ذَلِك مَشْهُورا بِحَيْثُ قد اسْتَقر فِي قلب الْقَرِيب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وَجههَا بل لَو سُئِلَ عَامي من أهل بلد بعيد من الشَّيْخ من كَانَ أزهد أهل هَذَا الْعَصْر وأكملهم فِي رفض فضول الدُّنْيَا واحرصهم على طلب الاخرة لقَالَ مَا سَمِعت بِمثل ابْن تَيْمِية رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَمَا اشْتهر لَهُ ذَلِك إِلَّا لمبالغته فِيهِ مَعَ تَصْحِيح النِّيَّة وَإِلَّا فَمن رَأينَا من الْعلمَاء قنع من الدُّنْيَا بِمثل مَا قنع هُوَ مِنْهَا أَو رَضِي بِمثل حَالَته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لم يسمع انه رغب فِي زَوْجَة حسناء وَلَا سَرِيَّة حوراء وَلَا دَار قوراء وَلَا مماليك جوَار وَلَا بساتين وَلَا عقار وَلَا شدّ على دِينَار وَلَا دِرْهَم وَلَا رغب فِي دَوَاب وَلَا نعم وَلَا ثِيَاب ناعمة فاخرة وَلَا حشم وَلَا زاحم فِي طلب الرئاسات وَلَا رئي ساعيا فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَات مَعَ أَن الْمُلُوك والامراء والتجار والكبراء كَانُوا طوع أمره خاضعين لقَوْله وَفعله وادين ان يتقربوا الى قلبه مهما أمكنهم مظهرين لإجلاله أَو أَن يؤهل كلا مِنْهُم فِي بذل مَاله فَأَيْنَ حَاله هَذِه من أَحْوَال بعض المنتسبين إِلَى الْعلم وَلَيْسوا من أَهله مِمَّن قد أغراه الشَّيْطَان بالوقيعة فِيهِ بقوله وَفعله أَتَرَى مَا نظرُوا ببصائرهم إِلَى صفاتهم وَصِفَاته وسماتهم وسماته وتحاسدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فِي طلب الدُّنْيَا وفراغه عَنْهَا وتحاشدهم فِي الاستكثار مِنْهَا ومبالغته فِي الْهَرَب مِنْهَا وَخدمَتهمْ الامراء وَاخْتِلَافهمْ إِلَى أَبْوَابهم وذل الْأُمَرَاء بَين يَدَيْهِ وَعدم اكتراثه بكبرائهم وأترابهم ومداجاتهم وَإِظْهَار تعبداتهم وصدعه إيَّاهُم بِالْحَقِّ وَقُوَّة جأشه فِي محاورتهم بلَى وَالله وَلَكِن قَتلتهمْ الحالقة حالقة الدّين لَا حالقة الشّعْر وغطى على أحلامهم حب الدُّنْيَا السارقة سارقة الْعقل لَا سارقه الْبدن حَتَّى أَصْبحُوا قاطعين من يَأْتِيهم فِي طلبَهَا واصلين من واصلهم فِي جلبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الْفَصْل السَّابِع فِي إيثاره مَعَ فقره وتواضعه كَانَ رَضِي الله عَنهُ مَعَ شدَّة تَركه للدنيا ورفضه لَهَا وَفَقره فِيهَا وتقلله مِنْهَا مؤثرا بِمَا عساه يجده مِنْهَا قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا جَلِيلًا اَوْ حَقِيرًا لَا يحتقر الْقَلِيل فيمنعه ذَلِك عَن التَّصَدُّق بِهِ وَلَا الْكثير فيصرفه النّظر اليه عَن الاسعاف بِهِ فقد كَانَ يتَصَدَّق حَتَّى إِذا لم يجد شَيْئا نزع بعض ثِيَابه الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فيصل بِهِ الْفَقِير وَكَانَ يستفضل من قوته الْقَلِيل الرَّغِيف والرغيفين فيؤثر بذلك على نَفسه وَرُبمَا خبأهما فِي كمه ويمضي وَنحن مَعَه لسَمَاع الحَدِيث فيراه بَعْضنَا وَقد دَفعه الى الْفَقِير مستخفيا يحرص أَن لَا يرَاهُ أحد وَكَانَ إِذا ورد عَلَيْهِ فَقير وآثر الْمقَام عِنْده يؤثره عِنْد الْأكل بِأَكْثَرَ قوته الَّذِي جعل برسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 حَدثنِي الشَّيْخ الصَّالح الْعَارِف زين الدّين عَليّ الوَاسِطِيّ مَا مَعْنَاهُ انه أَقَامَ بِحَضْرَة الشَّيْخ مُدَّة طَوِيلَة قَالَ فَكَانَ قوتنا فِي غالبها انه كَانَ فِي بكرَة النَّهَار يأتيني وَمَعَهُ قرص قدره نصف رَطْل خبْزًا بالعراقي فيكسره بِيَدِهِ لقما وَنَأْكُل مِنْهُ أَنا وَهُوَ جَمِيعًا ثمَّ يرفع يَده قبلي وَلَا يرفع بَاقِي القرص من بَين يَدي حَتَّى اشبع بِحَيْثُ أَنِّي لَا أحتاج الى الطَّعَام إِلَى اللَّيْل وَكنت ارى ذَلِك من بركَة الشَّيْخ ثمَّ يبْقى الى بعد الْعشَاء الاخرة حَتَّى يفرغ من جَمِيع عوائده الَّتِي يُفِيد النَّاس بهَا فِي كل يَوْم من اصناف الْقرب فيؤتيى بعشائنا فيأكل هُوَ معي لقيمات ثمَّ يؤثرني بِالْبَاقِي وَكنت أسأله ان يزِيد على أكله فَلَا يفعل حَتَّى إِنِّي كنت فِي نَفسِي اتوجع لَهُ من قلَّة اكله وَكَانَ هَذَا دأبنا فِي غَالب مُدَّة إقامتي عِنْده وَمَا رَأَيْت نَفسِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أُغني مِنْهَا فِي تِلْكَ الْمدَّة وَلَا رَأَيْتنِي افقر هما مني فِيهَا وَحكى غير وَاحِد مَا اشْتهر عَنهُ من كَثْرَة الايثار وتفقد المحتاجين والغرباء ورقيقي الْحَال من الْفُقَهَاء والقراء واجتهاده فِي مصالحهم وصلاتهم ومساعدته لَهُم بل وَلكُل اُحْدُ من الْعَامَّة والخاصة مِمَّن يُمكنهُ فعل الْخَيْر مَعَه وإسداء الْمَعْرُوف اليه بقوله وَفعله وَوَجهه وجاهه وَأما تواضعه فَمَا رَأَيْت وَلَا سَمِعت بِأحد من أهل عصره مثله فِي ذَلِك كَانَ يتواضع للكبير وَالصَّغِير والجليل والحقير والغنى الصَّالح وَالْفَقِير وَكَانَ يدني الْفَقِير الصَّالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحَديثه المستحلى زِيَادَة على مثله من الاغنياء حَتَّى أَنه رُبمَا خدمه بِنَفسِهِ وأعانه بِحمْل حَاجته جبرا لِقَلْبِهِ وتقربا بذلك الى ربه وَكَانَ لَا يسأم مِمَّن يستفتيه أَو يسْأَله بل يقبل عَلَيْهِ ببشاشة وَجه ولين عَرِيكَة وَيقف مَعَه حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يُفَارِقهُ كَبِيرا كَانَ أَو صَغِيرا رجلا أَو امْرَأَة حرا أَو عبدا عَالما أَو عاميا حَاضرا أَو باديا وَلَا يجبهه وَلَا يحرجه وَلَا ينفره بِكَلَام يوحشه بل يجِيبه ويفهمه ويعرفه الْخَطَأ من الصَّوَاب بلطف وانبساط وَكَانَ يلْزم التَّوَاضُع فِي حُضُوره من النَّاس ومغيبه عَنْهُم فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قِيَامه وقعوده ومشيه ومجلسه ومجلس غَيره وَلَقَد بَالغ معي فِي حَال إقامتي بِحَضْرَتِهِ فِي التَّوَاضُع وَالْإِكْرَام حَتَّى إِنَّه لَا يذكرنِي باسمي بل يلقبني بِأَحْسَن الالقاب وَيظْهر لي خُصُوصا بَين أَصْحَابِي من الْإِكْرَام والتبجيل والإدناء مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يتركني اجْلِسْ الا الى جَانِبه قَصِيرا كَانَ مَجْلِسه أَو طَويلا خَاصّا أَو عَاما ولازمني فِي حَال قراءتي صَحِيح البُخَارِيّ وَكَانَ قصدي قِرَاءَته على رِوَايَة مُنْفَردا لاستصغاري نَفسِي عَن الْقِرَاءَة هُنَاكَ بِمحضر من النَّاس ولقصدي تَعْجِيل فراغي مِنْهُ انتهازا للفرصة وخوفا من فَوَات ذَلِك الشَّيْخ الرَّاوِي لكَونه تفرد بروايته سَمَاعا على اصحاب ابي الْوَقْت السجْزِي فَلَمَّا سمع الشَّيْخ بذلك ألزمني قِرَاءَته بمجمع كثير من النَّاس رجَالًا وَنسَاء وصبيانا وَقَالَ مَا يَنْبَغِي إِلَّا على صفة يكون نَفعهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مُتَعَدِّيا الى الْمُسلمين فتجرد لي بِحَيْثُ حصل لي مرادي وفوقه من تَحْصِيل قراءتي لَهُ فِي عشْرين مَجْلِسا متواليه لم يتخللها سوى الْجُمُعَة ولازمني فِيهَا وَحضر الْقِرَاءَة كلهَا يضبطها بنسخة كَانَت بِيَدِهِ هِيَ أصل ابْن نَاصِر الْحَافِظ يُعَارض بهَا نُسْخَة الْقِرَاءَة وَكَانَت اصل الشَّيْخ الْمُسَمّى وَأظْهر لي من حسن الْأَخْلَاق وَالْمُبَالغَة فِي التَّوَاضُع بِحَيْثُ أَنه كَانَ إِذا خرجنَا من منزله بِقصد الْقِرَاءَة يحمل هُوَ بِنَفسِهِ النُّسْخَة وَلَا يدع أحدا منا يحملهَا عَنهُ وَكنت أعْتَذر اليه من ذَلِك خوفًا من سوء الْأَدَب فَيَقُول لَو حَملته على رَأْسِي لَكَانَ يَنْبَغِي أَلا احْمِلْ مَا فِيهِ كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يجلس تَحت الْكُرْسِيّ ويدع صدر الْمجَالِس حَتَّى إِنِّي لأَسْتَحي من مَجْلِسه هُنَاكَ وأعجب من شدَّة تواضعه ومبالغته فِي إكرامي بِمَا لَا اسْتحق ورفعي عَلَيْهِ فِي الْمجْلس وَلَوْلَا قراءتي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعظم حرمتهَا لما كَانَ يَنْبَغِي لي ذَلِك وَكَانَ هَذَا حَاله فِي التَّوَاضُع والتنازل والاكرام لكل من يرد عَلَيْهِ اَوْ يَصْحَبهُ أَو يلقاه حَتَّى أَن كل من لقِيه يَحْكِي عَنهُ من الْمُبَالغَة فِي التَّوَاضُع نَحوا مِمَّا حكيته وَأكْثر من ذَلِك فسبحان من وَفقه وَأَعْطَاهُ وأجراه على خلال الْخَيْر وحباه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الْفَصْل الثَّامِن فِي هَيئته ولباسه كَانَ رَضِي الله عَنهُ متوسطا فِي لِبَاسه وهيئته لَا يلبس فاخر الثِّيَاب بِحَيْثُ يرمق ويمد النّظر إِلَيْهِ وَلَا أطمارا وَلَا غَلِيظَة تشهر حَال لَا بسها ويميز من عَامَّة النَّاس بِصفة خَاصَّة يرَاهُ النَّاس فِيهَا من عَالم وعابد بل كَانَ لِبَاسه وهيئته كغالب النَّاس ومتوسطهم وَلم يكن يلْزم نوعا وَاحِدًا من اللبَاس فَلَا يلبس غَيره بل كَانَ يلبس مَا اتّفق وَحصل وَيَأْكُل مَا حضر وَكَانَت بذاذة الايمان عَلَيْهِ ظَاهِرَة لَا يرى متصنعا فِي عِمَامَة وَلَا لِبَاس وَلَا مشْيَة وَلَا قيام وَلَا جُلُوس وَلَا يتهيأ لأحد يلقاه وَلَا لمن يرد عَلَيْهِ من بلد وَمن الْعجب اني كنت قد رايته قبل لقِيه بِمدَّة فِيمَا يرى النَّائِم وَنحن جُلُوس نَأْكُل طَعَاما على صفة مُعينَة فحال لقيتي لَهُ ودخولي عَلَيْهِ وجدته يَأْكُل مثل ذَلِك الطَّعَام على نَحْو من الصّفة الَّتِي رَأَيْت فأجلسني وأكلنا جَمِيعًا كَمَا رَأَيْت فِي الْمَنَام وَأَخْبرنِي غير وَاحِد أَنه مَا رَآهُ وَلَا سمع أَنه طلب طَعَاما قطّ وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 غداء وَلَا عشَاء وَلَو بَقِي مهما بَقِي لشدَّة اشْتِغَاله بِمَا هُوَ فِيهِ من الْعلم وَالْعَمَل بل كَانَ يُؤْتِي بِالطَّعَامِ وَرُبمَا يتْرك عِنْده زَمَانا حَتَّى يلْتَفت اليه وَإِذا أكل أكل شَيْئا يَسِيرا قَالَ وَمَا رَأَيْنَاهُ يذكر شَيْئا من ملاذ الدُّنْيَا وَنَعِيمهَا وَلَا كَانَ يَخُوض فِي شَيْء من حَدِيثهَا وَلَا يسْأَل عَن شَيْء من معيشتها بل جعل همته وَحَدِيثه فِي طلب الاخرة وَمَا يقرب الى الله تَعَالَى وَهَكَذَا كَانَ فِي لِبَاسه لم يسمع أَنه أَمر ان يتَّخذ لَهُ ثوب بِعَيْنِه بل كَانَ أَهله يأْتونَ بلباسه وَقت علمهمْ باحتياجه الى بدل ثِيَابه الَّتِي عَلَيْهِ وَرُبمَا بقيت عَلَيْهِ مُدَّة حَتَّى تتسخ وَلَا يَأْمر بغسلها حَتَّى يكون أَهله هم الَّذين يسألونه ذَلِك وَأخْبر أَخُوهُ الَّذِي كَانَ ينظر فِي مَصَالِحه الدُّنْيَوِيَّة أَن هَذَا حَاله فِي طَعَامه وَشَرَابه ولباسه وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ مِمَّا لَا بُد مِنْهُ من أُمُور الدُّنْيَا وَمَا رَأَيْت احدا كَانَ أَشد تَعْظِيمًا للشَّيْخ من أَخِيه هَذَا أَعنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الْقَائِم بأوده وَكَانَ يجلس بِحَضْرَتِهِ كَأَن على رَأسه الطير وَكَانَ يهابه كَمَا يهاب سُلْطَانا وَكُنَّا نعجب مِنْهُ فِي ذَلِك ونقول من الْعرف وَالْعَادَة أَن اهل الرجل لَا يحتشمونه كالاجانب بل يكون انبساطهم مَعَه فضلا عَن الاجنبي وَنحن نرَاك مَعَ الشَّيْخ كتلميذ مبالغ فِي احتشامه واحترامه فَيَقُول إِنِّي ارى مِنْهُ اشياء لَا يَرَاهَا غَيْرِي أوجبت عَليّ ان أكون مَعَه كَمَا ترَوْنَ وَكَانَ يسْأَل عَن ذَلِك فَلَا يذكر مِنْهُ شَيْئا لما يعلم من عدم إِيثَار الشَّيْخ لذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الْفَصْل التَّاسِع فِي ذكر بعض كراماته وفراسته أَخْبرنِي غير وَاحِد من الثِّقَات بِبَعْض مَا شَاهده من كراماته وَأَنا أذكر بَعْضهَا على سَبِيل الِاخْتِصَار وأبدأ من ذَلِك بِبَعْض مَا شاهدته فَمِنْهَا اثْنَيْنِ جرى بيني وَبَين بعض الْفُضَلَاء مُنَازعَة فِي عدَّة مسَائِل وَطَالَ كلامنا فِيهَا وَجَعَلنَا نقطع الْكَلَام فِي كل مَسْأَلَة بِأَن نرْجِع الى الشَّيْخ وَمَا يرجحه من القَوْل فِيهَا ثمَّ أَن الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ حضر فَلَمَّا هممنا بسؤاله عَن ذَلِك سبقنَا هُوَ وَشرع يذكر لنا مَسْأَلَة مَسْأَلَة كَمَا كُنَّا فِيهِ وَجعل يذكر غَالب مَا أوردناه فِي كل مسأله وَيذكر اقوال الْعلمَاء ثمَّ يرجح مِنْهَا مَا يرجحه الدَّلِيل حَتَّى أَتَى على آخر مَا أردنَا ان نَسْأَلهُ عَنهُ وَبَين لنا مَا قصدنا أَن نستعلمه مِنْهُ فَبَقيت أَنا وصاحبي وَمن حَضَرنَا أَولا مبهوتين متعجبين مِمَّا كاشفنا بِهِ وأظهره الله عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ فِي خواطرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَكنت فِي خلال الايام الَّتِي صحبته فِيهَا إِذا بحث مسأله يحضر لي إِيرَاد فَمَا يستتم خاطري بِهِ حَتَّى يشرع فيورده وَيذكر الْجَواب من عدَّة وُجُوه وحَدثني الشَّيْخ الصَّالح المقريء أَحْمد بن الحريمي أَنه سَافر الى دمشق قَالَ فاتفق اني لما قدمتها لم يكن معي شئ من النَّفَقَة الْبَتَّةَ وانا لَا اعرف احدا من أَهلهَا فَجعلت أَمْشِي فِي زقاق مِنْهَا كالحائر فَإِذا بشيخ قد أقبل نحوي مسرعا فَسلم وهش فِي وَجْهي وَوضع فِي يَدي صرة فِيهَا دَرَاهِم صَالِحَة وَقَالَ لي انفق هَذِه الْآن وخلي خاطرك مِمَّا انت فِيهِ فَإِن الله لَا يضيعك ثمَّ رد على أَثَره كَأَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَّا من أَجلي فدعوت لَهُ وفرحت بذلك وَقلت لبَعض من رَأَيْته من النَّاس من هَذَا الشَّيْخ فَقَالَ وكأنك لَا تعرفه هَذَا ابْن تَيْمِية لي مُدَّة طَوِيلَة لم أره اجتاز بِهَذَا الدَّرْب وَكَانَ جلّ قصدي من سَفَرِي الى دمشق لقاءه فتحققت أَن الله أظهره عَليّ وعَلى حَالي فَمَا احتجت بعْدهَا الى اُحْدُ مُدَّة إقامتي بِدِمَشْق بل فتح الله عَليّ من حَيْثُ لَا احتسب واستدللت فِيمَا بعد عَلَيْهِ وقصدت زيارته وَالسَّلَام عَلَيْهِ فَكَانَ يكرمني ويسألني عَن حَالي فاحمد الله تَعَالَى اليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وحَدثني الشَّيْخ الْعَالم المقريء تَقِيّ الدّين عبد الله ابْن الشَّيْخ الصَّالح المقريء احْمَد بن سعيد قَالَ سَافَرت إِلَى مصر حِين كَانَ الشَّيْخ مُقيما بهَا فاتفق أَنِّي قدمتها لَيْلًا وَأَنا مثقل مَرِيض فأنزلت فِي بعض الامكنة فَلم ألبث أَن سَمِعت من يُنَادي باسمي وكنيتي فاجبته وَأَنا ضَعِيف فَدخل إِلَيّ جمَاعَة من أَصْحَاب الشَّيْخ مِمَّن كنت قد اجْتمعت ببعضهم فِي دمشق فَقلت كَيفَ عَرَفْتُمْ بقدومي وَأَنا قدمت هَذِه السَّاعَة فَذكرُوا أَن الشَّيْخ أخبرنَا بأنك قدمت وَأَنت مَرِيض وأمرنا ان نسرع بنقلك وَمَا رَأينَا أحدا جَاءَ وَلَا أخبرنَا بِشَيْء فَعلمت أَن ذَلِك من كرامات الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ وحَدثني ايضا قَالَ مَرضت بِدِمَشْق اذ كنت فِيهَا مرضة شَدِيدَة منعتني حَتَّى من الْجُلُوس فَلم اشعر إِلَّا وَالشَّيْخ عِنْد رَأْسِي وَأَنا مثقل مشتد بالحمى وَالْمَرَض فَدَعَا لي وَقَالَ جَاءَت الْعَافِيَة فَمَا هُوَ إِلَّا أَن فارقني وَجَاءَت الْعَافِيَة وشفيت من وقتي وحَدثني قَالَ كنت قد استكبت شعرًا لبَعض من انحرف عَن الْحق فِي الشَّيْخ قد تنقصه فِيهِ وَكَانَ سَبَب قَول ذَلِك الشّعْر أَنه نسب إِلَيّ قائلة شعر وَكَلَام يدل على الرَّفْض فَأخذ الرجل وَأثبت ذَلِك عَلَيْهِ فِي وَجهه عِنْد حَاكم من حكام الشَّرْع المطهر فامر بِهِ فشهر حَاله بَين النَّاس فَتوهم ان الَّذِي كَانَ سَبَب ذَلِك الشَّيْخ فَحَمله ذَلِك على ان قَالَ فِيهِ ذَلِك الشّعْر وَبَقِي عِنْدِي وَكنت رُبمَا أورد بعضه فِي بعض الاحيان فَوَقَعت فِي عدَّة أَشْيَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 من الْمَكْرُوه وَالْخَوْف متواترة وَلَوْلَا لطف الله تَعَالَى بِي فِيهَا لأتت على نَفسِي فنطرت من ايْنَ دهيت فَلم أر لذَلِك سَببا إِلَّا إيرادي لبَعض ذَلِك الشّعْر فعاهدت الله ان لَا اتفوه بشئ مِنْهُ فَزَالَ عني أَكثر مَا كنت فِيهِ من المكاره وَبَقِي بعضه وَكَانَ ذَلِك الشّعْر عِنْدِي فاخذته وحرقته وغسلته حَتَّى لم يبْق لَهُ أثر واستغفرت الله تَعَالَى من ذَلِك فَأذْهب الله عني جَمِيع مَا كنت فِيهِ من الْمَكْرُوه وَالْخَوْف وابدلني الله بِهِ عَكسه وَلم أزل بعد ذَلِك فِي خير وعافية وَرَأَيْت ذَلِك حَالا من أَحْوَال الشَّيْخ وَمن كرامته على الله تَعَالَى وحَدثني أَيْضا قَالَ أَخْبرنِي الشَّيْخ ابْن عماد الدّين الْمُقْرِئ الْمُطَرز قَالَ قدمت على الشَّيْخ وَمَعِي حِينَئِذٍ نَفَقَة فَسلمت عَلَيْهِ فَرد عَليّ ورحب بِي وأدناني وَلم يسألني هَل مَعَك نَفَقَة ام لَا فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام ونفدت نفقتي أردْت أَن اخْرُج من مَجْلِسه بعد ان صليت مَعَ النَّاس وَرَاءه فَمَنَعَنِي وأجلسني دونهم فَلَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 خلا الْمجْلس دفع الي جملَة دَرَاهِم وَقَالَ انت الْآن بِغَيْر نَفَقَة فارتفق بِهَذِهِ فعجبت من ذَلِك وَعلمت ان الله كشفه على حَالي أَولا لما كَانَ معي نَفَقَة وآخرا لما نفدت واحتجت الى نَفَقَة وحَدثني من لَا أَتَّهِمهُ ان الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ حِين نزل الْمغل بِالشَّام لاخذ دمشق وَغَيرهَا رجف أَهلهَا وخافوا خوفًا شَدِيدا وَجَاء اليه جمَاعَة مِنْهُم وسألوه الدُّعَاء للْمُسلمين فَتوجه الى الله ثمَّ قَالَ أَبْشِرُوا فَإِن الله يأتيكم بالنصر فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ بعد ثَالِثَة حَتَّى ترَوْنَ الرؤوس معبأة بَعْضهَا فَوق بعض قَالَ الَّذِي حَدثنِي فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ اَوْ كَمَا حلف مَا مضى إِلَّا ثَلَاث مثل قَوْله حَتَّى راينا رؤوسهم كَمَا قَالَ الشَّيْخ على ظَاهر دمشق معبأة بَعْضهَا فَوق بعض وحَدثني الشَّيْخ الصَّالح الْوَرع عُثْمَان بن احْمَد بن عِيسَى النساج أَن الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ كَانَ يعود المرضى بالبيمارستان بِدِمَشْق فِي كل اسبوع فجَاء على عَادَته فعادهم فوصل الى شَاب مِنْهُم فَدَعَا لَهُ فشفي سَرِيعا وَجَاء الى الشَّيْخ يقْصد السَّلَام عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ هش لَهُ وَأَدْنَاهُ ثمَّ دفع اليه نَفَقَة وَقَالَ قد شفاك الله فعاهد الله أَن تعجل الرُّجُوع الى بلدك أَيجوزُ أَن تتْرك زَوجتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وبناتيك أَرْبعا ضَيْعَة وتقيم هَا هُنَا فَقبل يَده وَقَالَ يَا سَيِّدي أَنا تائب الى الله على يدك وَقَالَ الْفَتى وَعَجِبت مِمَّا كاشفني بِهِ وَكنت قد تَركتهم بِلَا نَفَقَة وَلم يكن قد عرف بحالي أحد من أهل دمشق وحَدثني من أَثِق بِهِ ان الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ أخبر عَن بعض الْقُضَاة انه قد مضى مُتَوَجها الى مصر المحروسة ليقلد الْقَضَاء وَأَنه سَمعه يَقُول حَال مَا اصل الى الْبَلَد قَاضِيا احكم بقتل فلَان رجل معِين من فضلاء اهل الْعلم وَالدّين قد أجمع النَّاس على علمه وزهده وورعه وَلَكِن حصل فِي قلب القَاضِي مِنْهُ من الشحناء والعداوة مَا صوب لَهُ الحكم بقتْله فَعظم ذَلِك على من سَمعه خوفًا من وُقُوع مَا عزم عَلَيْهِ من الْقَتْل لمثل هَذَا الرجل الصَّالح وحذرا على القَاضِي ان يوقعه الْهوى والشيطان فِي ذَلِك فَيلقى الله متلبسا بِدَم حرَام وفتك بِمُسلم مَعْصُوم الدَّم بِيَقِين وكرهوا وُقُوع مثل ذَلِك لما فِيهِ من عَظِيم الْمَفَاسِد فأبلغ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ هَذَا الْخَبَر بِصفتِهِ فَقَالَ إِن الله لَا يُمكنهُ مِمَّا قصد وَلَا يصل الى مصر حَيا فبقى بَين القَاضِي وَبَين مصر قدر يسير وأدركه الْمَوْت فَمَاتَ قبل وصولها كَمَا اجرى الله تَعَالَى على لِسَان الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قلت وكرامات الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ كَثِيرَة جدا لَا يَلِيق بِهَذَا الْمُخْتَصر اكثر من ذكر هَذَا الْقدر مِنْهَا وَمن اظهر كراماته أَنه مَا سمع بِأحد عَادَاهُ اَوْ غض مِنْهُ إِلَّا وابتلي بعدة بلايا غالبها فِي دينه وَهَذَا ظَاهر مَشْهُور لَا يحْتَاج فِيهِ الى شرح صفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الْفَصْل الْعَاشِر فِي ذكر كرمه رَضِي الله عَنهُ كَانَ رَضِي الله عَنهُ مجبولا على الْكَرم لَا يتطبعه وَلَا يتصنعه بل هُوَ لَهُ سجية وَقد ذكرت فِيمَا تقدم أَنه مَا شدّ على دِينَار وَلَا دِرْهَم قطّ بل كَانَ مهما قدر على شَيْء من ذَلِك يجود بِهِ كُله وَكَانَ لَا يرد من يسْأَله شَيْئا يقدر عَلَيْهِ من دَرَاهِم وَلَا دَنَانِير وَلَا ثِيَاب وَلَا كتب وَلَا غير ذَلِك بل رُبمَا كَانَ يسْأَله بعض الْفُقَرَاء شَيْئا من النَّفَقَة فَإِن كَانَ حِينَئِذٍ متعذرا لَا يَدعه يذهب بِلَا شئ بل كَانَ يعمد الى شئ من لِبَاسه فيدفعه اليه وَكَانَ ذَلِك الْمَشْهُور عِنْد النَّاس من حَاله حَدثنِي الشَّيْخ الْعَالم الْفَاضِل الْمُقْرِئ ابو مُحَمَّد عبد الله ابْن الشَّيْخ الصَّالح الْمُقْرِئ احْمَد بن سعيد قَالَ كنت يَوْمًا جَالِسا بِحَضْرَة شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية رَضِي الله عَنهُ فجَاء انسان فَسلم عَلَيْهِ فَرَآهُ الشَّيْخ مُحْتَاجا الى مَا يعتم بِهِ فَنزع الشَّيْخ عمَامَته من غير ان يسْأَله الرجل ذَلِك فقطعها نِصْفَيْنِ واعتم بِنِصْفِهَا وَدفع النّصْف الاخر الى ذَلِك الرجل وَلم يحتشم للحاضرين عِنْده قلت وَرُبمَا توهم بعض من يحْتَاج الى التفهيم ان هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الْفِعْل من الشَّيْخ فِيهِ إِضَاعَة المَال اَوْ نوع من التبذل الَّذِي يشين الْمُرُوءَة وَلَيْسَ الامر كَذَلِك فَإِنَّهُ لم يكن عِنْده حِينَئِذٍ مَعْلُوم غير ثِيَابه وَرَأى أَن قطع غير الْعِمَامَة من بَقِيَّة لِبَاسه مِمَّا يُفْسِدهُ وَلَا يحصل بِهِ الْمَقْصُود وَلم يكن عَلَيْهِ وَلَا عِنْده حِينَئِذٍ ثوب صَحِيح لَا يحْتَاج اليه حَتَّى يَدْفَعهُ اليه فسارع الى قطع مَا يسْتَغْنى بِبَعْضِه عَن كُله فِيمَا وضع لَهُ وَهُوَ الْعِمَامَة فنفع أَخَاهُ الْمُسلم وسد حَاجته حِينَئِذٍ بِبَعْضِهَا وَاسْتغْنى هُوَ بباقيها وَهَذَا هُوَ أكمل التَّصَرُّف الصَّالح والرشد التَّام والجود الْمَذْكُور الْمَشْهُور والايثار بالميسور وَأما التبذل الَّذِي فِيهِ نوع إِسْقَاط الْمُرُوءَة فَلَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل فِي شَيْء بل هَذَا من الْمُبَالغَة فِي التَّوَاضُع وَعدم رُؤْيَة النَّفس فِي مَحل الاحتشام ورفض أرادة الْمَرْء تَعْظِيم نَفسه بِحَضْرَة الْحَاضِرين وَهَذِه خِصَال محمودة مَطْلُوبَة شرعا وعقلا وَقد رُوِيَ مثل ذَلِك عَن سيد الانام وأكمل الْخلق مُرُوءَة وعقلا وعلما مُحَمَّد الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه لبس يَوْمًا شملة سَوْدَاء لَهَا حواش بيض وَخرج إِلَى الْمَسْجِد وَجَمَاعَة من الْمُسلمين حُضُور فَرَآهُ إِنْسَان فَقَالَ يَا رَسُول الله أَعْطِنِي هَذِه الشملة وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يمْنَع سَائِلًا يسْأَله فنزعها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كريمه المكرم وَدفعهَا الى ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الرجل وطفق النَّاس يلومون ذَلِك الرجل على مَا فعل وَكَونه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ مُحْتَاجا الى مَا لبسه وَقد علم انه لَا يمْنَع شَيْئا يسْأَله فَقَالَ الرجل معتذرا اليهم إِنِّي لم أطلبها لألبسها لَكِن لأجعلها لي كفنا عِنْد موتِي قَالَ الرَّاوِي فامسكها عِنْده حَتَّى كَانَت كَفنه وَهَذَا حَدِيث مَشْهُور قد رَوَاهُ غير وَاحِد من الْحفاظ النقلَة الثِّقَات وَهُوَ من اوضح الدَّلَائِل على مَا قُلْنَاهُ بل أبلغ فِي الْجُود والتواضع وَكسر النَّفس وكرم الاخلاق وحَدثني من اثق بِهِ ان الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ كَانَ مارا يَوْمًا فِي بعض الازقة فَدَعَا لَهُ بعض الْفُقَرَاء وَعرف الشَّيْخ حَاجته وَلم يكن مَعَ الشَّيْخ مَا يُعْطِيهِ فَنزع ثوبا على جلده وَدفعه اليه وَقَالَ بِعْهُ بِمَا تيَسّر وأنفقه وَاعْتذر اليه من كَونه لم يحضر عِنْده شئ من النَّفَقَة وَهَذَا ايضا من الْمُبَالغَة فِي عدم اكتراثه فِي غير مَا يقرب الى الله تَعَالَى وجوده بالميسور كَائِنا مَا كَانَ وَهَذَا من أبلغ إخلاص الْعَمَل لله عز وَجل فسبحان الْمُوفق من شَاءَ لما شَاءَ وحَدثني من اثق بِهِ أَن الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَا يرد أحدا يسْأَله شَيْئا كتبه بل يَأْمُرهُ أَن يَأْخُذ هُوَ بِنَفسِهِ مَا يَشَاء مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَأَخْبرنِي أَنه جَاءَهُ يَوْمًا إِنْسَان يسْأَله كتابا ينْتَفع بِهِ فَأمره ان يَأْخُذ كتابا يختاره فَرَأى ذَلِك الرجل بَين كتب الشَّيْخ مُصحفا قد اشْترى بِدَرَاهِم كَثِيرَة فَأَخذه وَمضى فلام بعض الْجَمَاعَة الشَّيْخ فِي ذَلِك فَقَالَ ايحسن بِي ان امنعه بعد مَا سَأَلَهُ دَعه فلينتفع بِهِ وَكَانَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ يُنكر إنكارا شَدِيدا على من يسْأَل شَيْئا من كتب الْعلم الَّتِي يمكلها ويمنعها من السَّائِل وَيَقُول مَا يَنْبَغِي ان يمْنَع الْعلم مِمَّن يَطْلُبهُ وَمن كرمه انه كَانَ لَا ينظر مَعَ ذَلِك الى جِهَة الْملك والتمول وَهَذَا الْقدر من كرمه يغنى الْمُقْتَدِي بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الْفَصْل الْحَادِي عشر فِي ذكر قُوَّة قلبه وشجاعته كَانَ رَضِي الله عَنهُ من أَشْجَع النَّاس وَأَقْوَاهُمْ قلبا مَا رَأَيْت أحدا أثبت جأشا مِنْهُ وَلَا أعظم عناء فِي جِهَاد الْعَدو مِنْهُ كَانَ يُجَاهد فِي سَبِيل الله بِقَلْبِه وَلسَانه وَيَده وَلَا يخَاف فِي الله لؤمة لائم وَأخْبر غير وَاحِد أَن الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ كَانَ إِذا حضر مَعَ عَسْكَر الْمُسلمين فِي جِهَاد يكون بَينهم واقيتهم وقطب ثباتهم إِن رأى من بَعضهم هلعا أَو رقة أَو جبانة شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر وَالظفر وَالْغنيمَة وَبَين لَهُ فضل الْجِهَاد والمجاهدين وإنزال الله عَلَيْهِم السكينَة وَكَانَ إِذا ركب الْخَيل يتحنك ويجول فِي الْعَدو كأعظم الشجعان وَيقوم كأثبت الفرسان وَيكبر تَكْبِيرا انكى فِي الْعَدو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 من كثير من الفتك بهم ويخوض فيهم خوض رجل لَا يخَاف الْمَوْت وَحَدثُوا انهم رَأَوْا مِنْهُ فِي فتح عكة امورا من الشجَاعَة يعجز الواصف عَن وصفهَا قَالُوا وَلَقَد كَانَ السَّبَب فِي تملك الْمُسلمين إِيَّاهَا بِفِعْلِهِ ومشورته وَحسن نظره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَلما ظهر السُّلْطَان غازان على دمشق المحروسة جَاءَهُ ملك الكرج وبذل لَهُ أَمْوَالًا كَثِيرَة جزيلة على ان يُمكنهُ من الفتك بِالْمُسْلِمين من اهل دمشق وَوصل الْخَبَر الى الشَّيْخ فَقَامَ من فوره وشجع الْمُسلمين ورغبهم فِي الشَّهَادَة وَوَعدهمْ على قيامهم بالنصر وَالظفر والامن وَزَوَال الْخَوْف فَانْتدبَ مِنْهُم رجال من وُجُوههم وكبرائهم وَذَوي الاحلام مِنْهُم فَخَرجُوا مَعَه الى حَضْرَة السُّلْطَان غازان فَلَمَّا رَآهُمْ السُّلْطَان قَالَ من هَؤُلَاءِ فَقيل هم رُؤَسَاء دمشق فَأذن لَهُم فَحَضَرُوا بَين يَدَيْهِ فَتقدم الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ أَولا فَلَمَّا أَن رَآهُ أوقع الله لَهُ فِي قلبه هَيْبَة عَظِيمَة حَتَّى أدناه وَأَجْلسهُ وَأخذ الشَّيْخ فِي الْكَلَام مَعَه أَولا فِي عكس رَأْيه عَن تسليط المخزول ملك الكرج على الْمُسلمين وَضمن لَهُ اموالا واخبره بحرمه دِمَاء الْمُسلمين وَذكره ووعظه فَأَجَابَهُ الى ذَلِك طَائِعا وحقنت بِسَبَبِهِ دِمَاء الْمُسلمين وحميت ذَرَارِيهمْ وصين حريمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وحَدثني من أَثِق بِهِ عَن الشَّيْخ وجيه الدّين ابْن المنجا قدس الله روحه قَالَ كنت حَاضرا مَعَ الشَّيْخ حِينَئِذٍ فَجعل يَعْنِي الشَّيْخ يحدث السُّلْطَان بقول الله وَرَسُوله فِي الْعدْل وَغَيره وَيرْفَع صَوته على السُّلْطَان فِي اثناء حَدِيثه حَتَّى جثا على رُكْبَتَيْهِ وَجعل يقرب مِنْهُ فِي أثْنَاء حَدِيثه حَتَّى لقد قرب ان تلاصق ركبته ركبة السُّلْطَان وَالسُّلْطَان مَعَ ذَلِك مقبل عَلَيْهِ بكليته مصغ لما يَقُول شاخص اليه لَا يعرض عَنهُ وَأَن السُّلْطَان من شدَّة مَا أوقع الله مَا فِي قلبه من الْمحبَّة والهيبة سَأَلَ من يَخُصُّهُ من أهل حَضرته من هَذَا الشَّيْخ وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ إِنِّي لم أر مثله وَلَا أثبت قلبا مِنْهُ وَلَا أوقع من حَدِيثه فِي قلبِي وَلَا رَأَيْتنِي أعظم انقيادا مني لَاحَدَّ مِنْهُ فَأخْبر بِحَالهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْعلم وَالْعَمَل فَقَالَ الشَّيْخ للترجمان قل لغازان انت تزْعم انك مُسلم ومعك قَاضِي وَإِمَام وَشَيخ ومأذنون على مَا بلغنَا فغزوتنا وَأَبُوك وَجدك كَانَا كَافِرين وَمَا عملا الَّذِي عملت عاهدا فوفيا وانت عَاهَدت فغدرت وَقلت فَمَا وفيت وَجَرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَسَأَلَهُ إِن أَحْبَبْت أَن اعمر لَك بلد آبَائِك حران وتنتقل اليه وَيكون برسمك فَقَالَ لَا وَالله لَا أَرغب عَن مهَاجر إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استبدل بِهِ غَيره فَخرج من بَين يَدَيْهِ مكرما معززا قد صنع لَهُ الله بِمَا طوى عَلَيْهِ نِيَّته الصَّالِحَة من بذله نَفسه فِي طلب حقن دِمَاء الْمُسلمين فَبَلغهُ مَا أَرَادَهُ وَكَانَ ذَلِك ايضا سَببا لتخليص غَالب أُسَارَى الْمُسلمين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أَيْديهم وردهم على أهلهم وَحفظ حريمهم وَهَذَا من أعظم الشجَاعَة والثبات وَقُوَّة الجأش وَكَانَ يَقُول لن يخَاف الرجل غير الله إِلَّا لمَرض فِي قلبه فان رجلا شكى إِلَى أَحْمد بن حَنْبَل خَوفه من بعض الْوُلَاة فَقَالَ لَو صححت لم تخف أحدا أَي خوفك من أجل زَوَال الصِّحَّة من قَلْبك وَأَخْبرنِي من لَا اتهمه أَن الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ حِين وشي بِهِ الى السُّلْطَان الْمُعظم الْملك النَّاصِر مُحَمَّد احضره بَين يَدَيْهِ قَالَ فَكَانَ من جملَة كَلَامه إِنَّنِي اخبرت انك قد أطاعك النَّاس وَأَن فِي نَفسك اخذ الْملك فَلم يكترث بِهِ بل قَالَ لَهُ بِنَفس مطمئنة وقلب ثَابت وَصَوت عَال سَمعه كثير مِمَّن حضر أَنا أفعل ذَلِك وَالله إِن ملكك وَملك الْمغل لَا يُسَاوِي عِنْدِي فلسين فَتَبَسَّمَ السُّلْطَان لذَلِك وأجابة فِي مُقَابلَته بِمَا اوقع الله لَهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قلبه من الهيبة الْعَظِيمَة إِنَّك وَالله لصَادِق وَإِن الَّذِي وَشَيْء بك إِلَيّ كَاذِب وَاسْتقر لَهُ فِي قلبه من الْمحبَّة الدِّينِيَّة مَا لولاه لَكَانَ قد فتك بِهِ مُنْذُ دهر طَوِيل من كَثْرَة مَا يلقى اليه فِي حَقه من الاقاويل الزُّور والبهتان مِمَّن ظَاهر حَاله للطغام الْعَدَالَة وباطنه مشحون بِالْفِسْقِ والجهالة وَلم يزل المبتدعون أهل الاهواء وآكلو الدُّنْيَا بِالدّينِ متعاضدين متناصرين فِي عدوانه باذلين وسعهم بالسعي فِي الفتك بِهِ متخرصين عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ الصراح مختلقين عَلَيْهِ وناسبين اليه مَا لم يقلهُ وَلم يَنْقُلهُ وَلم يُوجد لَهُ بِهِ خطّ وَلَا وجد لَهُ فِي تصنيف وَلَا فَتْوَى وَلَا سمع مِنْهُ فِي مجْلِس أَترَاهُم مَا علمُوا أَن الله سائلهم عَن ذَلِك ومحاسبهم عَلَيْهِ أَو مَا سمعُوا قَول الله تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان ونعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} بلَى وَالله وَلَكِن غلب عَلَيْهِم مَا هم فِيهِ من إِيثَار الدُّنْيَا على الاخرة وَالْعَمَل للعاجلة دون الاجلة فَلهَذَا حسدوه وابغضوه لكَونه مباينهم ومخالفهم لبغضه ورفضه مَا احبوا وطلبوا ومحبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 مَا باينوا ورفضوا وَلما علم الله نياته ونياتهم أَبى ان يظفرهم فِيهِ بِمَا راموا حَتَّى أَنه لم يحضر مَعَه مِنْهُم أحد فِي عقد مجْلِس إِلَّا وصنع الله لَهُ وَنَصره عَلَيْهِم بِمَا يظهره على لِسَانه من دحض حججهم الْوَاهِيَة وكشف مكيدتهم الداهية للخاصة والعامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الْفَصْل الثَّانِي عشر من ذكر قوته فِي مرضاة الله وَصَبره على الشدائد واحتماله إِيَّاهَا وثبوته على الْحق الى أَن توفاه الله تَعَالَى على ذَلِك صَابِرًا محتسبا رَاضِيا شاكرا كَانَ رَضِي الله عَنهُ من أعظم اهل عصره قُوَّة ومقاما وثبوتا على الْحق وتقريرا لتحقيق تَوْحِيد الْحق لَا يصده عَن ذَلِك لوم لائم وَلَا قَول قَائِل وَلَا يرجع عَنهُ لحجة مُحْتَج بل كَانَ إِذا وضح لَهُ الْحق يعَض عَلَيْهِ بالنواجذ وَلَا يلْتَفت الى مباين معاند فاتفق غَالب النَّاس على معاداته وَجعل من عَادَاهُ قد تستروا باسم الْعلمَاء والزمرة الفاخرة وهم أبلغ النَّاس فِي الاقبال على الدُّنْيَا والاعراض عَن الاخرة وَسبب عدواتهم لَهُ أَن مقصودهم الاكبر طلب الجاه والرئاسة وإقبال الْخلق ورأوه قد رقاه الله الى ذرْوَة السنام من ذَلِك بِمَا أوقع لَهُ فِي قُلُوب الْخَاصَّة والعامة من الْمَوَاهِب الَّتِي منحه بهَا وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عَنْهَا بمعزل فنصبوا عداوته وامتلأت قُلُوبهم بمحاسدته وَأَرَادُوا ستر ذَلِك عَن النَّاس حَتَّى لَا يفْطن بهم فعمدوا الى اخْتِلَاق الْبَاطِل والبهتان عَلَيْهِ والوقوع فِيهِ خُصُوصا عِنْد الامراء والحكام وإظهارهم الانكار عَلَيْهِ مَا يُفْتِي بِهِ من الْحَلَال وَالْحرَام فشققوا قُلُوب الطغام بِمَا إجترحوه من زور الْكَلَام ونسوا ان لكل قَول مقَاما أَي مقَام بَين يَدي أحكم الْحُكَّام يسْأَله هَل قلته بِحَق اَوْ بذام فيجازي المحق دَار السَّلَام والمبطل دَار الانتقام فبعضهم صبا الى اقولهم تقليدا وَصَارَ فِي حق هَذَا الامام جبارا عنيدا واحس بذلك من الْعَامَّة قوم قد أَصْبحُوا للحكام عبيدا وتصوروا أَن أَخذهم بزمام حُصُول المَال يكون شَدِيدا فَأَصْبحُوا وهم لَهُم مُصدقين وَفِي طاعتهم مستبقين فَاجْتمع من هَذَا التَّرْكِيب العتديد بِحَيْثُ عَادَاهُ اكثر السادات وَالْعَبِيد كل بِحَسب غَرَضه الْفَاسِد وَهُوَ مَعَ ذَلِك كلما رأى تحاشدهم فِي مباينته وتعاضدهم فِي مناقضته لَا يزْدَاد إِلَّا للحق انتصارا ولكثرة حججه وبراهينه إِلَّا إِظْهَارًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَلَقَد سجن أزمانا وأعصارا وسنين وشهورا وَلم يولهم دبره فِرَارًا وَلَقَد قصد أعداؤه الفتك بِهِ مرَارًا وأوسعوا حيلهم عَلَيْهِ إعلانا وإسرارا فَجعل الله حفظه مِنْهُم لَهُ شعارا ودثارا وَلَقَد ظنُّوا ان فِي حَبسه مشينة فَجعله الله لَهُ فَضِيلَة وزينة وَظهر لَهُ يَوْم مَوته مَا لَو رَآهُ واده أقرّ بِهِ عَيْنَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى لعلمه بِقرب اجله ألبسهُ الْفَرَاغ عَن الْخلق للقدوم على الْحق اجمل حلله كَونه حبس على غير جريره وَلَا جريمة بل على قُوَّة فِي الْحق وعزيمة هَذَا مَعَ مَا نشر الله لَهُ من علومه فِي الافاق وبهر بفنونه البصائر والاحداق وملأ بمحاسن مؤلفاته الصُّحُف والاوراق كبتا ورغما للاعداء أهل الْبدع المضلة والاهواء وصنعا عَظِيمَة من رب السَّمَاء لعوائده لخاصة الاولياء اهل الْمحبَّة وَالْوَلَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الْفَصْل الثَّالِث عشر فِي أَن الله جعله حجَّة فِي عصره ومعيارا للحق وَالْبَاطِل ومريد الاجل وَغير مُؤثر العاجل وَهَذَا امْر قد اشْتهر وَظهر فَإِنَّهُ رَضِي الله عَنهُ لَيْسَ لَهُ مُصَنف وَلَا نَص فِي مَسْأَلَة وَلَا فَتْوَى إِلَّا وَقد اخْتَار فِيهِ مَا رَجحه الدَّلِيل النقلي والعقلي على غَيره وتحرى قَول الْحق الْمَحْض فبرهن عَلَيْهِ بالبراهين القاطعة الْوَاضِحَة الظَّاهِرَة بِحَيْثُ إِذا سمع ذَلِك ذُو الْفطْرَة السليمة يثلج قلبه بهَا ويجزم بِأَنَّهَا الْحق الْمُبين وتراه فِي جَمِيع مؤلفاته إِذا صَحَّ الحَدِيث عِنْده يَأْخُذ بِهِ وَيعْمل بِمُقْتَضَاهُ ويقدمه على قَول كل قَائِل من عَالم ومجتهد وَإِذا نظر الْمنصف اليه بِعَين الْعدْل يرَاهُ وَاقِفًا مَعَ الْكتاب وَالسّنة لَا يميله عَنْهُمَا قَول أحد كَائِنا من كَانَ وَلَا يراقب فِي الاخذ بعلومهما أحدا وَلَا يخَاف فِي ذَلِك اميرا وَلَا سُلْطَانا وَلَا سَوْطًا وَلَا سَيْفا وَلَا يرجع عَنْهُمَا لقَوْل أحد وَهُوَ متمسك بالعروة الوثقى وَالْيَد الطُّولى وعامل بقوله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} وَمَا سمعنَا انه اشْتهر عَن اُحْدُ مُنْذُ دهر طَوِيل مَا أشتهر عَنهُ من كَثْرَة مُتَابَعَته للْكتاب وَالسّنة والامعان فِي تتبع معانيهما وَالْعَمَل بمقتضاهما وَلِهَذَا لَا يرى فِي مَسْأَلَة اقوالا للْعُلَمَاء إِلَّا وَقد أفتى بأبلغها مُوَافقَة للْكتاب وَالسّنة وتحرى الاخذ بأقومها من جِهَة الْمَنْقُول والمعقول وَلما من الله عَلَيْهِ بذلك جعله حجَّة فِي عصره لاهله حَتَّى ان اهل الْبَلَد الْبعيد عَنهُ كَانُوا يرسلون اليه بالاستفتاء عَن وقائعهم ويعولون عَلَيْهِ فِي كشف مَا الْتبس عَلَيْهِم حكمه فيشفى غلتهم بأجوبته المسددة ويبرهن على الْحق من اقوال الْعلمَاء الْمقيدَة حَتَّى إِذا وقف عَلَيْهَا كل محق ذُو بَصِيرَة وتقوى مِمَّن قد وفْق لترك الْهوى اذعن بقبولها وَبَان لَهُ حق مدلولها وَإِن سمع عَن أحد من أهل وقته مُخَالفَته فِي حَقه الْمَشْهُور يكون مِمَّن قد ظهر عَلَيْهِ للخاصة وللعامة فعل الشرور والاشتغال بترهات الْغرُور وَمن اراد تَحْقِيق مَا ذكرته فليمعن النّظر ببصيرته فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يرى عَالما من أَي أهل بلد شَاءَ مُوَافقا لهَذَا الامام معترفا بِمَا منحه الله تَعَالَى من صنوف الالهام مثنيا عَلَيْهِ فِي كل محفل ومقام إِلَّا وَرَاءه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 اتبع عُلَمَاء بَلَده للْكتاب وَالسّنة وأشغلهم بِطَلَب الاخرة وارغبهم فِيهَا وابلغهم فِي الاعراض عَنْهَا وأهملهم لَهَا وَلَا يرى عَالما مُخَالفا لَهُ منحرفا عَنهُ ملتبسا بالشحناء لَهُ إِلَّا وَهُوَ من أكبرهم نهمة فِي جمع الدُّنْيَا وأوسعهم حيلا فِي تَحْصِيلهَا وَأَكْثَرهم رِيَاء وأطلبهم سمعة واشهرهم عِنْد ذِي اللب أحوالا ردية وأشدهم على ذَوي الحكم وَالظُّلم دهاء ومكرا وابسطهم فِي الْكَذِب لِسَانا وَإِن نظ الى محبيه ومبغضيه من الْعَوام رَآهُمْ كَمَا وصفت من اخْتِلَاف القبيلين الاولين وَلَقَد امعنت فكري ونظري فِيمَا ذكرته فرأيته كَمَا وَصفته لَا وَالله مَا اتحرج فِي اُحْدُ مِنْهُمَا وَمن ارتاب فِي ذَلِك فليعتبر هُوَ بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ يرَاهُ كَذَلِك إِن أزاح عَنهُ غطاء الْهوى وَمَا كَانَ ذَلِك كَذَلِك إِلَّا لما علم الله سُبْحَانَهُ من حسن طوية هَذَا الامام وإخلاص قَصده وبذل وَسعه فِي طلب مرضاة ربه ومتابعة سنة نبيه صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الْفَصْل الرَّابِع عشر فِي ذكر وَفَاته وَكَثْرَة من صلى عَلَيْهِ وشيعه أَخْبرنِي غير وَاحِد مِمَّن كَانَ حَاضرا بِدِمَشْق حِين وَفَاته رَضِي الله عَنهُ قَالُوا إِن الشَّيْخ قدس الله روحه مرض أَيَّامًا يسيرَة وَكَانَ إِذْ ذَاك الْكَاتِب شمس الدّين الْوَزير بِدِمَشْق المحروسة فَلَمَّا علم بمرضه اسْتَأْذن فِي الدُّخُول عَلَيْهِ لعيادته فَأذن الشَّيْخ لَهُ فِي ذَلِك فَلَمَّا جلس عِنْده اخذ يعْتَذر لَهُ عَن نَفسه ويلتمس مِنْهُ أَن يحله مِمَّا عساه ان يكون قد وَقع مِنْهُ فِي حَقه من تَقْصِير أَو غَيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فَأَجَابَهُ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ بِأَنِّي قد احللتك وَجَمِيع من عاداني وَهُوَ لَا يعلم أَنِّي على الْحق وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ إِنِّي قد أحللت السُّلْطَان الْملك النَّاصِر من حَبسه إيَّايَ لكَونه فعل ذَلِك مُقَلدًا غَيره مَعْذُورًا وَلم يَفْعَله لحظ نَفسه بل لما بلغه مِمَّا ظَنّه حَقًا من مبلغة وَالله يعلم انه بِخِلَافِهِ وَقد احللت كل وَاحِد مِمَّا كَانَ بيني وَبَينه إِلَّا من كَانَ عدوا لله وَرَسُوله قَالُوا ثمَّ إِن الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ بَقِي الى لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْعشْرين من ذِي الْقعدَة الْحَرَام وَتُوفِّي الى رَحْمَة الله تَعَالَى ورضوانه فِي بكرَة ذَلِك الْيَوْم وَذَلِكَ من سنة ثَمَان وَعشْرين وَسبع مئة وَهُوَ على حَاله مُجَاهدًا فِي ذَات الله تَعَالَى صَابِرًا محتسبا لم يجبن وَلم يهلع وَلم يضعف وَلم يتتعتع بل كَانَ رَضِي الله عَنهُ الى حِين وَفَاته مشتغلا بِاللَّه عَن جَمِيع مَا سواهُ قَالُوا فَمَا هُوَ إِلَّا أَن سمع النَّاس بِمَوْتِهِ فَلم يبْق فِي دمشق من يَسْتَطِيع المجئ للصَّلَاة عله وارادة إِلَّا حضر لذَلِك وتفرغ لَهُ حَتَّى غلقت الاسواق بِدِمَشْق وعطلت معايشها حِينَئِذٍ وَحصل للنَّاس بمصابه امْر شغلهمْ عَن غَالب امورهم واسبابهم وَخرج الامراء والرؤساء وَالْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء والاتراك والاجناد وَالرِّجَال وَالنِّسَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَالصبيان من الْخَواص والعوام قَالُوا وَلم يتَخَلَّف أحد من غَالب النَّاس فِيمَا اعْلَم إِلَّا ثَلَاثَة انفس كَانُوا قد اشتهروا بمعاندته فاختفوا من النَّاس خوفًا على انفسهم بِحَيْثُ غلب على ظنهم انهم مَتى خَرجُوا رجمهم النَّاس فاهلكوهم فَغسل رَضِي الله عَنهُ وكفن قَالُوا وازدحم من حضر غسله من الْخَاصَّة والعامة على المَاء الْمُنْفَصِل عَن غسله حَتَّى حصل لكل وَاحِد مِنْهُم شَيْء قَلِيل ثمَّ أخرجت جنَازَته فَمَا هُوَ إِلَّا ان رَآهَا النَّاس فأكبوا عَلَيْهَا من كل جَانب كلا مِنْهُم يقْصد التَّبَرُّك بهَا حَتَّى خشِي على النعش ان يحطم قبل وُصُوله إِلَى الى الْقَبْر فاحدق بهَا الامراء والاجناد وَاجْتمعَ الاتراك فمنعوا النَّاس من الزحام عَلَيْهَا خشيَة من سُقُوطهَا وَعَلَيْهِم من اختناق بَعضهم وَجعلُوا يردونهم عَن الْجِنَازَة بِكُل مَا يُمكنهُم وهم لَا يزدادون إِلَّا إزدحاما وَكَثْرَة حَتَّى ادخلت جَامع بني أُميَّة المحروس ظنا مِنْهُم أَنه يسع النَّاس فَبَقيَ كثير من النَّاس خَارج الْجَامِع وَصلي عَلَيْهِ رَضِي الله عَنهُ فِي الْجَامِع ثمَّ حمل على ايدي الكبراء والاشراف وَمن حصل لَهُ ذَلِك من جَمِيع النَّاس الى ظَاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 دمشق وَوضع بِأَرْض فسحة متسعة الاطراف وَصلى عَلَيْهِ النَّاس قَالَ أحدهم وَكنت أَنا قد صليت عَلَيْهِ فِي الْجَامِع وَكَانَ لي مستشرف على الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ عَلَيْهِ بِظَاهِر دمشق فَأَحْبَبْت ان أنظر إِلَى النَّاس وكثرتهم فَأَشْرَفت عَلَيْهِم حَال الصَّلَاة وَجعلت انْظُر يَمِينا وَشمَالًا وَلَا ارى أواخرهم بل رَأَيْت النَّاس قد طبقوا تِلْكَ الارض كلهَا وَاتفقَ جمَاعَة من حضر حِينَئِذٍ وَشَاهد النَّاس والمصلين عَلَيْهِ على انهم يزِيدُونَ على خمسماية الف وَقَالَ العارفون بِالنَّقْلِ والتاريخ لم يسمع بِجنَازَة بِمثل هَذَا الْجمع إِلَّا جَنَازَة الامام احْمَد بن حنيل رَضِي الله عَنهُ ثمَّ حمل بعد ذَلِك الى قَبره فَوضع وَقد جَاءَ الْكَاتِب شمس الدّين الْوَزير وَلم يكن حَاضرا قبل ذَلِك فصلى عَلَيْهِ ايضا وَمن مَعَه من الامراء والكبراء وَمن شَاءَ الله من النَّاس وَلم ير لجنازة أحد مَا رئي لجنازته من الْوَقار والهيبة وَالْعَظَمَة وَالْجَلالَة وتعظيم النَّاس لَهَا وتوقيرهم إِيَّاهَا وتفخيمهم امْر صَاحبهَا وثنائهم عَلَيْهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ من الْعلم وَالْعَمَل والزهادة وَالْعِبَادَة والاعراض عَن الدُّنْيَا والاشتغال بالاخرة والفقر والايثار وَالْكَرم والمروءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَالصَّبْر والثبات والشجاعة والفراسة والاقدام والصدع بِالْحَقِّ والاغلاظ على اعداء الله واعداء رَسُوله والمنحرفين عَن دينه والنصر لله وَلِرَسُولِهِ ولدينه ولاهله والتواضع لاولياء الله والتذلل لَهُم والاكرام والاعزاز والاحترام لجنابهم وَعدم الاكتراث بالدنيا وزخرفها وَنَعِيمهَا ولذاتها وَشدَّة الرَّغْبَة فِي الاخر والمواظبة على طلبَهَا حَتَّى لتسمع ذَلِك وَنَحْوه من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان وكل مِنْهُم يثنى عَلَيْهِ بِمَا يُعلمهُ من ذَلِك وَدفن فِي ذَلِك الْيَوْم رَضِي الله عَنهُ واعاد علينا من بركاته ثمَّ جعل النَّاس يتناوبون قَبره للصَّلَاة عَلَيْهِ من الْقرى والاطراف والاماكن والبلاد مشَاة وركبانا وَمَا وصل خبر مَوته الى بلد فِيمَا نعلم الا وَصلي عَلَيْهِ فِي جَمِيع جوامعه ومجامعه خُصُوصا ارْض مصر وَالشَّام وَالْعراق وتبريز وَالْبَصْرَة وقراها وَغَيرهَا وختمت لَهُ الختمات الْكَثِيرَة فِي اللَّيَالِي والايام فِي اماكن كَثِيرَة لم يضْبط عَددهَا خُصُوصا بِدِمَشْق المحروسة ومصر وَالْعراق وتبريز وَالْبَصْرَة وَغَيرهَا حَتَّى جعل كثير من النَّاس الْقِرَاءَة لَهُ ديدنا لَهُم واديرت الربعة الشَّرِيفَة على النَّاس لقِرَاءَة الْقرَان الْمجِيد واهدائه لَهُ وَظِيفَة مُعْتَادَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَقد رثاه كثير من الْفُضَلَاء بقصائد مُتعَدِّدَة وَلَا يسع هَذَا الْمُخْتَصر ذكرهَا وَذَلِكَ لما وَجب للشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ عَلَيْهِم من الْحق فِي ارشادهم الى الْحق والمنهج الْمُسْتَقيم بالادلة الْوَاضِحَة الجلية النقلية والعقلية خُصُوصا فِي اصول الدّين فَإِن الله انْعمْ على النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان الَّذِي قد ظَهرت فِيهِ الْبدع واميتت السّنَن وَصَارَ اغلب اهله ممرجين فِي الْبدع وَالْحرَام من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَمن حَيْثُ لَا يعلمُونَ وَمن الله عَلَيْهِم بِمَا وَفقه لَهُ من ايضاح اصول الدّين وتبيين الْحق الْمَحْض والاعتقاد الْعدْل وافراده عَن غَيره من الْبدع والضلالات بِأُمُور لم يسْبق الى مثلهَا واظهارها على لِسَانه بِمَا اورده من ذَلِك فِي مؤلفاته ومصنفاته وقواعده الْمُطَابقَة للحق وتقريراته وَمَا ابرزه من الْحجَج والبراهين الظَّاهِرَة الْمُوَافقَة للمعقول وَالْمَنْقُول مِمَّا لم يتَمَكَّن اُحْدُ من الْمُتَكَلِّمين والمناظرين الاتيان بِمثلِهِ وَمَا اظهره واورده من كَثْرَة الدَّلَائِل الْعَقْلِيَّة بعد النقلية حَتَّى قطع بِهِ جَمِيع المبتدعين وكشف بِهِ عوار حجج الشاكين المشككين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فجزاه الله احسن الْجَزَاء عَن الاسلام وَالْمُسْلِمين وَسُبْحَان من اعطاه مَا اولاه ومده بِحسن التَّوْفِيق الى مَا هداه واعانه بِالصبرِ الْجَمِيل الى ان توفاه وَرَضي عَنهُ وارضاه ورزقنا وكافة الْمُسلمين الْحَيَاة وَالْمَوْت على الْكتاب وَالسّنة حَتَّى نَلْقَاهُ والاعتصام بهما فِي جَمِيع مَا نتلقاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87